أبي عمرو بن العلاء البصري - ت 154 هـ .
عالم من أشهر علماء القراءات، واللغة، والنحو، شيخ القراء، ومقرئ أهل البصرة، وزعيم المدرسة البصرية النحوية، من أعلم الناس بالقرآن والعربية، الحجة الثقة. هو زبان بن العلاء بن العريان المازني التميمي البصري. قال «أبي عمرو الداني»: ولد «أبي عمرو بن العلاء» بمكة المكرمة سنة ثمان وستين ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة، وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالبصرة اهـ.
ذكره «الذهبي» ت 748 هـ ضمن علماء الطبقة الرابعة من حفاظ القرآن.
كما ذكره «ابن الجزري» ت 833 هـ ضمن علماء القراءات.
قال «الذهبي»: أخذ «أبي عمرو بن العلاء» القراءة عن: أهل الحجاز، وأهل البصرة، فعرض بمكة على: «مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار، وعكرمة بن خالد، وابن كثير»، وعرض بالمدينة على «أبي جعفر يزيد بن القعقاع، ويزيد بن رومان، وشيبة بن نصاح» اهـ.
وروى «اليزيدي» عن «أبي عمرو» قال: سمع «سعيد بن جبير» قراءتي فقال: الزم قراءتك هذه.
وأقول: مما تقدم تبين أن «أبا عمرو بن العلاء» قرأ على خلق كثير: بمكة المكرمة، والمدينة المنورة، والكوفة، والبصرة، ويعتبر «أبي عمرو» أكثر القراء شيوخا، أذكر منهم:
أبا جعفر يزيد بن القعقاع ت 128 هـ.
ويزيد بن رومان ت 120 هـ.
وشيبة بن نصاح ت 130 هـ.
ونافع بن أبي نعيم ت 169 هـ.
وعبد الله بن كثير ت 120 هـ.
ومجاهد بن جبر ت 104 هـ.
وأبا العالية رفيع بن مهران.
وقرأ «أبي العالية» شيخ أبي عمرو على:
عمر بن الخطاب ت 23 هـ.
وأبيّ بن كعب ت 30 هـ.
وزيد بن ثابت ت 45 هـ.
وعبد الله بن عباس ت 68 هـ.
وقرأ كل من «زيد بن ثابت، وأبيّ بن كعب» على رسول الله ﷺ. من هذا يتبين أن قراءة «أبي عمرو بن العلاء» صحيحة، ومتواترة، ومتصلة السند بالنبي عليه الصلاة والسلام. ولا زال المسلمون حتى الآن يتلقون قراءة «أبي عمرو بن العلاء» بالرضا والقبول، وقد تلقيتها وقرأت بها والحمد لله رب العالمين.
قال «الذهبي»: قرأ على «أبي عمرو بن العلاء» خلق كثير منهم: «يحيى بن المبارك اليزيدي، وعبد الوارث التنوري، وشجاع البلخي، وعبد الله ابن المبارك».
ثم قال: وأخذ عنه القراءة، والحديث، والأدب: «أبي عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي، ويعلى بن عبيد، والعباس بن الفضل، ومعاذ بن مسلم النحوي، وهارون بن موسى، وعبيد بن عقيل» وآخرون.
وقال «الذهبي»: حدث «أبي عمرو بن العلاء» عن: «أنس بن مالك، وعطاء بن أبي رباح، وأبي صالح السمّان».
وقال «ابن مجاهد»: حدثني «جعفر بن محمد» عن «سفيان بن عيينة» قال: رأيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله قد اختلفت عليّ القراءات فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ فقال: اقرأ بقراءة «أبي عمرو بن العلاء».
وقال «وهب بن جرير»: قال لي «شعبة»: تمسك بقراءة «أبي عمرو» فإنها ستصير للناس إسنادا اهـ.
وقد احتل «أبي عمرو بن العلاء» المكانة السامية بين جميع العلماء منذ عصره حتى الآن، ولذلك استوجب الثناء عليه: فعن «أبي عبيدة معمر بن المثنى» قال: كان «أبي عمرو» أعلم الناس بالقرآن، والعربية، وأيام العرب، والشعر، وأيام الناس .
وقال «وكيع»: قدم «أبي عمرو بن العلاء» الكوفة، فاجتمعوا إليه كما اجتمعوا على هشام بن عروة ا.
وقال «ابن معين»: «أبي عمرو» ثقة. وقال «أبي عبيدة» كانت دفاتر «أبي عمرو» ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، وكان من أشراف العرب ووجوههم اهـ.
وقال «الأصمعي»: قال لي «أبي عمرو»: لو تهيأ لي أن أفرغ ما في صدري في صدرك لفعلت، لقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كتبت ما قدر «الأعمش» على حملها اهـ.
وقال «الأصمعي»: سمعت «أبا عمرو» يقول: ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني، ثم قال «الأصمعي»: أنا لم أر بعد «أبي عمرو» أعلم منه اهـ.
وروى «الأخفش» قال: مرّ «الحسن» بأبي عمرو، وحلقته متوافرة، والناس عكوف، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبي عمرو، فقال: لا إله إلا الله كادت العلماء أن تكون «أربابا» كل عزّ لم يؤكد بالعلم فإلى ذلّ يؤول اهـ.
وقال «الأصمعي»: قال لي «أبي عمرو»: كن على حذر من الكريم إذا أهنته ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا مازحته ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك اهـ.
توفي «أبي عمرو» بالكوفة سنة أربع وخمسين من الهجرة، بعد حياة كلها عمل في تعليم القرآن، ولغة العرب. رحم الله «أبا عمرو بن العلاء» وجزاه الله أفضل الجزاء.
معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ
أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء
اخْتلف فِي اسْمه، فَقَالَ قوم: عُرْيَان. وَقَالَ قوم: زبان.
وَقيل: إِنَّه لم يعرف لَهُ اسْم لجلالة قدره.
وَكَانَ يُقرئ النَّاس فِي مَسْجِد الْبَصْرَة، وَأَبُو سعيد الْحسن حَاضر، ويروى عَنهُ أَنه قَالَ: كَادَت الْعلمَاء أَن تكون أَرْبَابًا.
وحَدثني أبي مُحَمَّد بن مسعر، رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن ابْن خالويه، قَالَ: حَدثنَا ابْن دُرَيْد، عَن أبي حَاتِم، عَن الْأَصْمَعِي، قَالَ: غَابَ أَبُو عَمْرو عَن الْبَصْرَة عشْرين سنة، ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، ففقد إخوانه الَّذين كَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسه، فَأَنْشَأَ يَقُول:
يَا مَنْزِلَ الحيِّ الَّذِي ... ن تفرَّقتْ بهمُ المَنازِلْ
أصْبَحْتَ بَعْدَ عِمَارةٍ ... قَفْراً تَهُبُّ بك الشَّمائِلْ
فَلَئِنْ رأيتُك مُوحِشاً ... فَبِما رأيتُ وأنْتَ آهِلْ
كنت إِذا جِئْته يُوسع لي، وَرُبمَا حلف لَا يخبرن بِحرف حَتَّى آكُل، وتجيء ابْنَته وتجلس عندنَا، وَقد حجم ثديها.
كَانَ نقش خَاتم أبي عَمْرو:
إنَّ امْرَءاً دُنْياهُ أكثرُ هَمِّه ... لَمُسْتَمْسِكٌ مِنْهَا بحَبْلِ غُرورِ
وَلما نَاظر عَمْرو بن عبيد فِي الْوَعيد، قَالَ: إِن الْكَرِيم إِذا وعد وفى، وَإِذا تواعد عَفا، أما سَمِعت قَول الشَّاعِر:
وإنِّي إِذا أوْعَدْتُه أَو وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعادِي ومُنْجِزُ موْعِدِي
فَقَالَ لَهُ عَمْرو: شغلك يَا أَبَا عَمْرو الْإِعْرَاب عَن معرفَة الصَّوَاب.
وَيُقَال: إِنَّه انشد لبَعض الْعَرَب:
لَا يُخْلِفُ الوَعْدَ والوَعِيدَ وَلَا ... يَبِيتُ من ثَأْرِه عَلى فَوْتِ
قَالَ الْأَصْمَعِي: سَأَلت الْخَلِيل عَن قَول الراجز:
حَتَّى تَحاجِزْنَ عَن الذُّوَّادِ
تَحاجُزَ الرِّيِّ ولمْ تَكَادَ
فَقلت: لم قَالَ: وَلم تكَاد. وَلم يقل: تكد؟
فطحن فِيهَا يَوْمه أجمع، وَسَأَلت أَبَا عَمْرو، فَكَأَنَّمَا كَانَت على طرف لِسَانه، فَقَالَ: وَلم تكادي أيتها الْإِبِل.
وَفِي أَخْبَار النَّحْوِيين، أَنه كَانَ إِذا وضع جنبه على فرَاشه ينشد قَول عدي ابْن الرّقاع:
كلُّ امْرِئٍ سَوف يَسْتَقْرِي مَضَاجِعَهُ ... حتَّى يَبِيتَ بأَقْصاهُنَّ مُضْطَجَعَا
وَكَانَ يكتم سنَّه، فَقَالَ بَعضهم: فاعتل، فَأَتَيْته أعوده، فَسَأَلته حَاله، فَقلت: أبشر بالعافية.
فَقَالَ: أبعد الثَّمَانِينَ!! فأقرَّ، فبرأ من مَرضه، فَلَمَّا لَقيته، قَالَ: اكتم مَا سَمِعت.
فَقلت: أفعل إِن نفعك.
وقرأت فِي مَجْهُول الْعَهْد: ولد أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين، وَحج بِالنَّاسِ فِيهَا المصعب.
وتُوفي سنة أَربع وَخمسين وَمِائَة، فِي طَرِيق الشَّام.
وَله عقب بِالْبَصْرَةِ.
وَكَانَ لَهُ أَخ يُكنى أَبَا سُفْيَان، كَانَ من النَّحْوِيين أَيْضا وَلم يشْتَهر اشتهاره، وَقد روى الْأَخْبَار، تُوفي سنة خمس وَسِتِّينَ وَمِائَة.
وروى شُعْبَة، قَالَ: كنت أَنا وَأَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء نَخْتَلِف إِلَى ابْن أبي عَقْرب، فأسأله أَنا عَن الْفِقْه، ويسأله أَبُو عَمْرو عَن الْعَرَبيَّة، وَيقوم عَنهُ وَأَنا لَا أحفظ حرفا مِمَّا سَأَلَهُ عَنهُ أَبُو عَمْرو، وَهُوَ لَا يحفظ حرفا مِمَّا سَأَلت عَنهُ.
وَكَانَ فَقِيها نحويًّا.
تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم-لأبو المحاسن المفضل التنوخي المعري.
أبو عمرو بن العلاء
واسمه زبان؛ ويروى أن الفرزدق جاء معتذراً إليه من أجل هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان، لم تهجو ولم تدعْ
فهذا يدل على أن اسمه زبان؛ واختلفوا في اسمه اختلافاً كثيراً، ومنهم من قال: اسمه كنيته.
أخذ النحو عن نصر بن عاصم الليثي، وأخذ عنه يونس بن حبيب البصري، والخليل بن أحمد، وأبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي وكان يونس بن حبيب يقول: لو كان أحد ينبغي أو يؤخذ بقوله كله في شيء، كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء كله في العربية، ولكن ليس من أحد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك.
وروى الأصمعي عن الخليل بن أحمد، عن أبي عمرو بن العلاء، أنه قال: أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية.
وحكى الأصمعي قال: غدوت ذات يوم إلى زيارة صديق لي، فلقيني أبو عمرو بن العلاء، فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: إلى صديق لي، فقال: إن كان لفائدة، أو لمائدة، أو لعائدة، وإلا فلا.
وروي أنه سئل عن قوله تعالى:] فعززنا بثالث [، فقال: المعنى شددنا، وأنشد:
أجد إذا ضمرت تعزز لحمها ... وإذا تشد بنعسها لا تنبس
تعزز، أي اشتد، ولا تنبس؛ أي لا تصوت.
ويروى عن أبي عمرو، قال: كنت هارباً من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه على "فرجة" هل هي بالفتح أو بالضم؟ فسمعت قائلاً يقول:
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فَرجة كحل العقال
بفتح الفاء من "فَرجة"، ثم قال: ألا إنه قد مات الحجاج؛ قال: فما كنت أدري بأيهما كنت أشد فرحاً، بقوله: "َرجة"، أو بقوله مات الحجاج! ويروى أن أبا عمرو سأل أبا خيرة عن قولهم: "استأصل الله عرقاتهم"، فنصب أبو خيرة التاء من "عرقاتهم" فقال له أبو عمرو: هيهات يا أبا خيرة! لأن جلدك! وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب، لأنه كان قد سمعها [منه] بالجر، وكان أبو عمرو بعد ذلك يرويها بالنصب والجر.
وكان أبو عمرو يقول: إنما نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل في أصول رقل، أي نخل طوال؛ وهذا يدل على كماله في فضله، قال الشاعر:
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وإن أخس النقص أن يرمي الفتى ... قذى العين عنه بانتقاص الأفاضل
وحكى يونس بن حبيب البصري، عن أبي عمرو أنه قال: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير.
وقال إبراهيم الحربي: كان أهل العربية كلهم أصحاب أهواء؛ إلا أربعة فإنهم أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب البصري، والأصمعي.
ومما روي عن أبي عمرو لشيخ من نجد:
فاستقدرِ الله خيراً وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسر
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيِّ مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
وهذه الأبيات لعثمان بن لبيد العذري.
روى هشام بن الكلبي، قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلثمائة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بالشام وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع، فتمثلت بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير
قد بحت بالحب ما تخفيه من أحدٍ ... حتى جرت لك أطلاقاً محاضير
فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً به وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
الأبيات إلى قوله:
يبكي غريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
قال: فقال لي رجل: أتعرف من قال هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه ولست تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس رحماً به، وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجباً، فمن الميت؟ فقال: عثمان بن لبيد العذري.
وحكى الأصمعي قال: أنشدنا أبو عمرو:
فما جبنوا أنا نشد عليهم ... ولكن رأوا ناراً تحش وتسفعُ
قال: فذكرت ذلك لشعبة، فقال: ويلك! إنما هو "تحسَّ وتسفع" أي تحرق وتسوَّد.
قال الأصمعي: وقد أصاب أبو عمرو، لأن معنى "تحشُّ" توقد، وقد أصاب شعبة أيضاً، ولم أرَ أعلم بالشعر من شعبة.
وروى الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت أعرابياً يقول: فلان لغوب، جاءته كتابي فاختصرها، قال: فقلت له [أتقول] : جاءته كتابي! فقال: أليس بصحيفة! فحمله على المعنى.
وقد جاء ذلك كثيراً في كلامهم. واللغوب: الأحمق، وله أسماء كثيرة ذكرناها مستوفاة في كتابنا الموسوم في أسماء المائق.
وتوفي أبو عمرو بن العلاء سنة أربع وخمسين ومائة في خلافة المنصور.
(70 - 154 هـ = 690 - 771 م) زَبَّان بن عَمَّار التميمي المازني البصري، أبو عمرو، ويلقب أبوه بالعلاء: من أئمة اللغة والأدب، وأحد القراء السبعة. ولد بمكة، ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة. قال الفرزدق: (ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو ابن عمار) قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر، وكانت عامة أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية. له أخبار وكلمات مأثورة.
وللصولي كتاب (أخبار أبي عمرو ابن العلاء ) .
-الاعلام للزركلي-
زبان بن عمار بن عبد الله بن الحصين ، التميمي المازني البصري ، أبي عمرو ، ويلقب أبيه بالعلاء : من أئمة اللغة والأدب ، وأحد القراء السبعة . ولد سنة : 70 ه ، روى عن : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وغيرهما ، وروى عنه : يونس ابن حبيب البصري ، والخليل بن أحمد ، وغيرهما ، قال أبي عبيدة عنه : أبي عمرو أعلم الناس بالقراءات والعربية والشعر وأيام العرب ، وتوفي سنة : 154ه . ينظر : السبعة في القراءات للداني : 1/79 ، والإقناع في القراءات السبع ، لابن الباذش : 1/23 ، وغاية النهاية ، لابن الجزري : 1/288 .
أبو عمر وزيان بن العلاء البصري الخزاعي المازني رضي الله عنه: الإِمام العمدة الثقة الذكي المثبت العالم بالقراءة والحديث واللغة قرأ على جماعة من التابعين بالحجاز والعراق منهم ابن كثير ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعطاء. وهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم عن النبي - ﷺ -. وعليه قرأ الكثير من الأئمة منهم أبو زكريا يحيي بن المبارك اليزيدي ويونس والأصمعي وأبو عبيدة. ولد بمكة سنة 65 هـ وتوفي سنة 154هـ.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية
من أخبار أبي عمرو بن العلاء
قال المرزباني: لم يكن أصحابه يعرفون اسمه سنين إجلالاً له، قيل: اسمه كنيته. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: مااسمك؟ فقال: أبو عمرو. وقيل: إن أسمه زبان وهو أثبت، وقيل: ريان، وقيل: جزء، وقيل: عتيبة، وقيل: العريان وهو الأكثر عند العلماء، واسم أبي العلاء عمار، قال الفرزدق:
مازلت أفتح أبواباً وأغلقها … حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
حتى أتيت فتى ضخما دسيعته … مُرّض المريرة حراً وابن أحرار
وعمار هو ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهمة من بني مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم.
وكان لأبي عمرو ثلاثة إخوة: أبو سفيان - واسمه عيينة - وعمر ومعاذ، وأبو عمرو وأسنهم. وكان يقول: نحن من أهل كازون. - وقال أبو عمرو بن العلاء: إني دعي، فلو كنت مدعيا لادعيت الى من هو أشرف ممن أنا منه. - كان أسمر طوالا ضرب البدن حاد النظر فهما عالما مشدود الثنيتين بالذهب.
وقال: إن لأهل الكوفة حذلقة النبط وصلفها، ولأهل البصرة حدة الخوز ونزقها، ولنا دهاء فارس وأحلامها. - قيل: كانت دفاتر أبي عمرو ملأ بيت إلى السقف، ثم انتسك فأحرقها. وكان رأساً في القرآن والحسن حيُّ، وكان من التابعين، لقي أنس بن مالك. ومر الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو عمر. قالَ: لاإله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أرباباً! - كان يشتري كلَّ يوم كوزاً بفلس، فيشرب فيه يومه، ثم يتصدق به، ويشتري بفلس ريحاناً فيشمه، ثم يجففه ويخلطه بالأشنان.
نور القبس(ص: ١٠)
وقد قرأ العظيم على عبد الله بن كثير، وعبد الله على مجاهد، ومجاهد على ابنى عباس، وابن عباس على أبي، وقرأ أبي على النبي ﷺ. - قال أبو عمر: كان سعيد بن جبير إذا رآني بمكة قاعداً مع الشباب ناداني: ياأبا عمرو، قم عن هؤلاء وعليك بالشيوخ! وكان أبي قد هرب من الحجاج، فلحق بمكة، فلقيت بها عدة ممن قرأ على النبي ﷺ. - وقال: الرجز والرجس واحد كالأزد والأسد. وقال: الأسارى من شدَّ، والأسرى من كان في أيديهم غير مشدودين.
وسأل رجل أبا عمرو حاجة، فوعده بقضائها، فتعذرت عليه بعد أجتهاد، فلقيه الرجل فقال له: قد غمني أن وعدتني وعدا لم تنجزه! فقال له أبو عمر: فمن أحق بالغم أنا أو أنت؟ قال الرجل: أنا المدفوع عن حاجتي. قال أبو عمرو: بل أنا لأني وعدتك وعدا، فأنت بفرح الوعد، وأنا بهم الإنجاز، وبت ليلتك فرحا مسروراً، وبت ليلتي مفكراً مغموماً، ثم عاق القدر عن بلوغ الوطر، فلقيتني مدلا، ولقيتك محتشماً، فأنا أولى بالغم منك.
وقال: ماقالت الشعراء في شئ كما قالوا في المشيب، ومابلغوا كنهه. قال الاصمعي: ولقد أجاد النمري حيث يقول " من البسيط ":
ماكنت أوفي شبابي كنه غرته … حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
وقال أبو عمرو: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. - وكان يشبه شعر ثلاثة من شعراء الإسلام بشعر ثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير وجرير بالأعشى والأخطل بالنابغة. قيل: فهلا شبهوا جريراً بأمرئ القيس؟ قال: هو بالأعشى أشبه، كانا بازيين يصيدان مابين الكركي إلى العندليب. وشبه شعر زهير بشعر الفرزدق لمتانتهما واعتسارهما، والأخطل بالنابغة لقرب مأخذهما وسهولتهما، وهما مع ذلك لو ضربت بهما الحائط ثلمته! - النابغة وزهير من مضر وامرؤ القيس من اليمن والأعشى من ربيعة. - وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: النابغة إذا رهب، وامرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب! أو قال: غضب. - وقال أبو عمرو في ترتيبهم: امرؤ القيس ثم النابغة ثم زهير ثم الأعشى. قال: ثم بعدهم جرير والفرزدق والأخطل. وقال: افتتح الشعر بأمرئ القيس وخُتم بذي الرمة. - وقال: أقسام الشعر تؤول إلى أربعة أركان: فمنه افتخار ومنه مديح ومنه هجاء ومنه نسيب، فأما الافتخار فيسبق الناس إليه جرير في قوله " من الوافر ":
إذا غضبت عليك بنو تميم … حسبت الناس كلَّهم غضابا
وأما المديح فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ":
ألستم خير من ركب المطايا … وأندى العالمين بطون راح
وأما الهجاء فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر ":
فغض الطرف إنك من نمير … فلا كعبا بلغت ولاكلابا
وأما النسيب فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من البسيط ":
إن العيون التي في طرفها مرض … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وكان يفضل الأخطل ويقول: لو أدرك من الجاهلية يوماً واحداً ما قدّمت عليه جاهلياً ولاإسلامياً.
وقال: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمُهما. وقال: عاجلوا الأضياف بالحاضر فإن الضيف متعلق القلب بالسرعة. - وقال يونس: قدم إلينا أبو عمرو طبق رطب، فأكلنا، فرفعت يدي، فقال: كل! فقلت: قد أحسبني. فضحك أبو عمرو وأعجبه ذلك وقال: هذا من قول الله ﷻ: (جزاء من ربك عطاء حسابا) ! أي كافياً.
وقيل له: من أبدع الناس بيتا؟ فقال: الذي يقول " من الرمل ":
لم يطل ليلي ولكن لم أنم … ونفى عني الكرى طيف ألم
قيل: من أمدح الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل ":
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى … ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي
فلا أنا منه ماأفاد ذوو الغنى … أفدت وأعداني فبذرت ماعندي
قيل: فمن أغزل الناس بيتاً؟ قال: الذي يقول " من الرمل ":
ختم الحُبُّ لها في عنقي … موضع الخاتم من أهل الذمم
والكل لبشار بن برد. - وقال: أرثى بيت قيل قول عبدة في قيس بن عاصم " من الطويل ":
فما كان قيس هُلكه هلك واحدٍ … ولكنه بنيان قومٍ تهدما
وقال: أحسن المراثي ابتداء قول " أوس بن حجر في " فضالة بن كلدة العبسي " من المنسرح ":
أيتها النفس أجملي جزعا … إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمَّع السماحة … والنجدة والبرَّ والتُقى جُمعا
الألمعي الذي يظن لك … الظن كأن قد رأى وقد سمعا
قال الصولي: ولاأعرف ابتداء بعد هذه أحسن من أبتداء أبي تمام في مرثيته " من الطويل ":
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال: ماقالت العرب بيتاً أبرع من قول أبي ذؤيب " من الكامل ":
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها … وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال: ماقالت أمدح من قول الشاعر " من الطويل ":
تراه إذا ما جئته متهللاً … كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأنشد أبو عمرو لجابر بن رالان وهو أحسن ماوصف به الماء " من الطويل ":
أيا لهف نفسي كلما التحت لوحة … على شربة من ماءٍ أحواض مأرب
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها … مصقلة الأرجاء زرق المشارب
ترقرق ماء الحسن فيهن والتوت … عليهن أنفاس الرياح الغرائب
قال: ولم أسمع في وصف الماء أحسن من قول امرئ القيس " من الطويل ":
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه … وجئ بماءٍ غير طرقٍ ولاكدر
بماء سحاب زلَّ عن متن صخرة … إلى جوف أخرى طيب طعمه خصر
وكان يستحسن قول الشاعر " من الطويل ":
وتهجره إلا اختلاساً بلحظها … وكم من محب رهبة الناس هاجر
وقال الجرمي: كيف بأبي عمرو لو سمع قول ابن الدمينة " من الطويل ":
بنفسي من لابد أني هاجره … وأني في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد رماه الناس حتى أتقاهم … ببغضي إلا ما تجن ضمائره
وقال أبو عمرو: وأحسن ماقيل في الصبر " من الطويل ":
تقول: أراه بعد عُروة لاهياً … وذلك رزءٌ ماعلمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده … ولكنَّ صبري يا أميم جميلُ
قال الاصمعي: وأنا أقول: أحسن ماقيل في الصبر قول أبي ذؤيب " من الكامل ":
وتجلدي للشامتين أريهم … أني اريب الدهر لاأتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة … بلوى المشقر كل يومٍ تقرع
وسمع أبو عمرو رجلاً ينشد " من الخفيف ":
أصبر النفس عند كل مهم … إن في الصبر حيلة المحتال
لاتضيقن في الأمور فقد … يكشف غماؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر … له فرجة كحل العقال
وكان قد خرج يريد الانتقال وهو مختف من الحجاج فقال: ماالأمر؟ قال: مات الحجاج. قال: فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم بقوله فرجة؟ وكنا نقول: فرجة من الفرج وغيره. قال الأصمعي: بالفتح من الفرج وبالضم فُرجة الحائط.
دخل أبو عمرو على سليمان بن علي، فسأله عن شئ، فصدقه، فلم يعجب ذلك سليمان، فخرج أبو عمرو متعجباً من كساد الصدق عندهم ونفاق الكذب، فقال " من المتقارب ":
أنفت من الُّل عند الملوك … وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ما صدقتهم خفتهم … ويرضون مني بأن يكذبوا
قال أبو عبيدة: فكنا نرى أن الشعر له. - قال أبو عمرو: وسمعت هاتفاً يقول في بعض الأدوية " من الطويل ":
وإن أمرأ دنياه أكبر همه … لمستمسك منها بحبل غرور
وقال عبد الله بن عتمة الضبي يرثي بسطام بن قيس الشيباني لما قتلته ضبة، ويصف قسمته الغنائم في أصحابه إذا أصابها " من الطويل ":
لك المرباع منها والصفايا … وحكمك والنشيطة والفضول
قال أبو عمرو: المرباع أن يكون له ربع الغنيمة، والصفايا ما اصطفى لنفسه من الغنيمة، وحكمك يقول: لك أن تحكم في الغنيمة بما أحببت، والنشيطة ما انتشط دون الحي الذي يطلب فيه فهو له، إن شاء قسم لهم وإن شاء أخذ لنفسه، والفضول إذا قسم الغنائم على أصحابه ففضلت فضلة لا تنقسم مثل بعير وبعيرين وثلاثة لايقع فيها قسم فهي له. قال أبو عمرو: فجاء الله بالإسلام بالخمس فأبطل المغانم كلها.
وقال: كان لبيد مجبراً والأعشى عدلياً، وأنشد قول لبيد " من الرمل ":
من هداه سُبل الخير اهتدى … ناعم البال ومن شاء أضل
وأنشد للأعشى " من المنسرح ":
استأثر الله بالوفاء … وبالعدل وولَّى الملامة الرجلا
وقال أبو عمرو في قول جميل " من الطويل ":
رمى الله في عيني بثينة بالقذي … وفي الغر من انيابها بالقوادح
قال: عيناها رقباؤها، وأنيابها ساداتها لاأسنانها التي في فيها، والقوادح الحجارة.
وقال أبو عمرو: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه في سنة عشر ومائة، وقدم جرير من اليمامة، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولاوجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: أطفأ موت الفرزدق والله جمرتي وأسال عبرتي وقرب مني منيتي. ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في شهر رمضان من تلك السنة.
وسأل أبو عمرو رؤبة: مالسانح؟ قال: ماولاك ميامنه. قال: مالبارح؟ قال: مولاك مياسره، والذي يأتيك من أمامك النطيح، والذي يأتيك من خافك القعيد.
وقال أبو عمرو: خرجت مع جرير إلى الشام نريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا من بساطه طرب جرير، فقال: ياأبا عمرو، أنشدني للمليحي! - يعني كثيرا - فأنشدته " من الطويل ":
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني … بقول يحل العصم سهل الأباطح
توليت عني حين مالي حيلة … وخليت ما خليت بين الجوانح
فقال جرير: والله، لولا أني شيخ يقبح بمثلي النخير لنخرت نخرة يسمعها الإمام على سريره! وأتى أبو عمرو ذا الرمة فقال: أنشدني قصيدتك " من البسيط ":
مابال عينك منها الماء ينسكب
فأنشده إياها إلى قوله " من البسيط ":
تصغي إذا شدها بالكور جانحة … حتى إذا مااستوى في غرزها تثب
قال له أبو عمرو: قول عمك الراعي أحسن مما قلت وأثبت، وهي " من المتقارب ":
تراها إذا قام في غرزها … كمثل السفينة أو أوقر
ولا تعجل المرء قبل البرو … ك وهي بركبته أبصر
فقال ذو الرمة: الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. - قال الصولي: يروى أن أعرابياً سمع ذا الرمة ينشد بيته هذا، فقال: سقط والله الرجل. - وما أحسن ماأخذ هذا الإصغاء أبو نواس، فقال يصف الناقة في مدحه الخصيب بن عبد الحميد " من السريع ":
وكأنها مصغ لتسمعه … بعض الحديث بأذنه وقر
وقال أبو عمرو: قال رؤبة: ما سمعت بأفخر من قول امرئ القيس " من الطويل ":
فلو أ، ماأسعى لأدنى معيشة … كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ … وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ولاأنذل ولاأبعد من قوله " من الوافر ":
لنا غنم نسوقها غزار … كأن قرون جلتها عصي
فتملا بيتنا أقطا وسمنا … وحسبك من غني شبع وري
ومن شعر أبي عمرو " من البسيط ":
هبت تلوم وما أحدثت من حدث … إلا ولوعا تلافاه بتأنيب
أن تحمليني على مالست راكبه … فقد أردتن كيداً بابن يعقوب
وقال أبو عمرو: ماكذبت في شيء قط غير أني زدت في شعر الأعشى " من البسيط ":
واستنكرتني وما الذي نكرت … من الحوادث إلا الشيب والصلعل
وقال أبو عبيدة: قرأت شعر الأعشى على بشار، فقال: هذا البيت كأنه ليس من نفس الأعشى، ولايورد خاطره مثله لأنه أنكر إنكارها ما لا يحب أن ينكر مثله من قولها. فلما قال أبو عمرو هذا علمت أن بشارا أعلم بالشعر وأشد تمييزاً لألفاظه ومعانيه.
ومما يروى لأبي عمرو " من الطويل ":
ترى المرء يبكيه الذي عاش بعده … وموت الذي يبكي عليه قريب
يحب الفتى المال الكثير وإنما … لنفس الفتى مما يحب نصيب
وأنكر أبو عمرو الوقوف على هاء (ماأغنى عني ماليه) .
فقيل له: هي من لغة قربش، أما رأيت قول ابن قيس الرقيات " من الكامل ":
إن الحوادث بالمدينة قد … أوجعتني وقرعن مروتيه
وجببتني جب السنام فلم … يتركن ريشاً في مناكبيه
قال الأصمعي: يلحن ابن قيس الرقيات في بيت منها في الندبة حين قال " من الكامل ":
تبكيهم أسماء معولة … وتقول ليلي: وارزيتيه
كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه! كما تقول: واعماه! واأخاه! وكان أبو عمرو إذا استراب من شئ تمثل بهذين البيتين " من الوافر ":
كما قال الحمار ليهم رامٍ … به عقب البعير وريش نسر
حديدة صقيل في عود نبع … لقد جمعت من شتى الأمر
قال أبو عمرو: أصيب حجر مزبور بقنسرين بالعبرانية، فترجم فإذا فيه " من الوافر ":
إذا جار الأمير وصاحباه … وقاضي الأمريدهن في القضاء
فويل ثم ويلُ ثم ويل … لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وأصيب حجر مزبور بالطالقان، فترجم فإذا فيه " من البسيط ":
اليأس عما بأيدي الناس نافلة … والمال يعجز والأخلاق تتسع
لاتجزعن على ما فات مطلبه … هب قد جظعت فماذا ينفع الجزع
قال: وأصيب على باب مدينة من مدائن سليمان بن داود عليهما السلام حجر مزبور فإذا فيه " من الهزج ":
لاتصحب أخا الجهل … وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى … حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء … إذا ماهو ماشاه
وللشيء من الشيء … علامات وأشباه
وللقلب على القلب … دليل حين يلقاه
قال: ووجد في زمن سليمان بن عبد الملك بدمشق حجر مكتوب فيه بالأعجمية، فترجم فإذا فيه: ياابن آدم، لو رأيت يسير مابقي من أجلك، لزهدت في طويل ماترجو من أملك، ولقصر بك عن حرصك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، لو زلت بك قدمك، وفارقك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب، وودعك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد، ولا إلى أهلك عائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة! وقال: لقيت أعرابياً فقلت: من أين أنت؟ قال: من عمان. فقلت: صف لي أرضك! فقال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورجل أصبح. فقلت: فمالك؟ قال: النخل. قلت: فأين أنت عن الأبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء، وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقرؤها إناء. - وقال رجل لأبي عمرو لم سميت الخيل خيلا وإنما هي الدواب؟ فلم يكن عنده جواب. فقال أعرابي حضرهم: سميت خيلاً لاختيالها.
أبو عمرو عن أبيه عن أبن عباس أنه قال: إن لكل داخل دهشة فالقوه بالتحية. - وقال أبو عمرو: جنان الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة وغوطة دمشق وسغد سمرقند؛ وحشوش الدنيا ثلاثة: هيت وأردبيل وعمان.
قال محمد بن سلام: ذاكرت معاوية بن أبي عمرو ببيت جرير: من الوافر ":
ألستم خير من ركب المطايا … وأندى العالمين بطون راح
وقلت: أين هو من بيت الأخطل " من البسيط ":
شمس العداوة حتى يستقاد لهم … وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقال: بيت جرير أسهل وأيسر، وبيت الأخطل أجود وأحكم. - قال الصولي: بيت الأخطل عند من يفهم الشعر وينقده أحسن وأجود قسمة لأن قوله " شمس العداوة حتى يستقاد لهم " قسمة حسنة قائمة بنفسها، ثم قال " وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا " فقابل ورتب وقسَّم؛ وبيت جرير: " الستم خير من ركب المطايا " هو إلى ههنا كالكلام الفارغ، وإنما يستحسن " بطون راح ".
ولد أبو عمرو في أول خلافة عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعب بن الزبير. وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة. وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: اللهم إن أنزلت بلاءً فأنزل صبرا، وإن وهبت عافية فهب شكرا! - وشخص أبو عمرو من البصرة يريد بيت المقدس، فمات بالكوفة.
ودخل يونس بن حبيب على أولاد أبي عمرو معزياً لهم، فقال " من الوافر ":
نعزيكم وأنفسنا بمن لا … نرى شبها له أخرى الزمان
والله لو قسم علم أبي عمرو رحمه الله وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً، والله لو رآه رسول الله ﷺ لسره ماهو عليه. فأجابه معاوية بن أبي عمرو - فإنه كان يلزم مجلسه ويأخذ عنه كثيراً - فقال مرتجلاً " من الرجز ":
أنت أبونا بعده وعمنا … وأنت بعد الله مرجو لنا
قد كان قبل الموت وصاك بنا … فأقض بإقبال علينا حقنا
فليس نشكو ما بقيت فقدنا … عشت لنا كهفاً وعشت بعدنا
ولزموا مجلس يونس فما منهم إلا عالم. - وقال معاوية بن أبي عمرو: سألت بلال بن جرير عن لكع، فقال: هو الجحش الصغير في لغتنا، وإلى هذا كان يذهب الحسن البصري.
وقعد الناس يبكون على أبي عمرو عند موته، فقال: لاتبكوا عليَّ، أنا مامت لكني قد فنيت! وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما قال الربيع بن ضبع الفزاري " من المنسرح ":
أصبحت لاأحمل السلاح ولا … أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به … وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من كتاب نور القبس - أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (ت 673هـ)