طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري أبي الطيب

أبي الطيب الطبري

تاريخ الولادة348 هـ
تاريخ الوفاة450 هـ
العمر102 سنة
مكان الولادةآمل - إيران
مكان الوفاةبغداد - العراق
أماكن الإقامة
  • آمل - إيران
  • جرجان - إيران
  • نيسابور - إيران
  • الكرخ - العراق
  • بغداد - العراق

نبذة

القاضي الإمام أبي الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري : ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، ومات سنة خمسين وأربعمائة وهو ابن مائة وسنتين، لم يختل عقله ولا تغير فهمه، يفتي مع الفقهاء ويستدرك عليهم الخطأ ويقضي ويشهد ويحضر المواكب في دار الخلافة إلى أن مات.

الترجمة

القاضي الإمام أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري : ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، ومات سنة خمسين وأربعمائة وهو ابن مائة وسنتين، لم يختل عقله ولا تغير فهمه، يفتي مع الفقهاء ويستدرك عليهم الخطأ ويقضي ويشهد ويحضر المواكب في دار الخلافة إلى أن مات.
تفقه بآمل علي أبي علي الزجاجي صاحب ابن القاضي وقرأ على أبي سعد الإسماعيلي وعلى القاضي أبي القاسم ابن كج بجرجان ثم ارتحل إلى نيسابور وأدرك أبا الحسن الماسرجسي صاحب أبي إسحاق المروزي فصحبه أربع سنين وتفقه عليه ثم ارتحل إلى بغداد وعلق على أبي محمد البافي الخوارزمي صاحب الداركي وحضر مجلس الشيخ أبي حامد الإسفرايني.
ولم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه، وشرح المزني وصنف في الخلاف والمذهب والأصول والجدل كتباً كثيرة ليس لأحد مثلها؛ ولازمت مجلسه بضع عشرة سنة ودرست أصحابه في مسجده سنين  بإذنه، ورتبني في حلقته، وسألني أن أجلس في مسجد للتدريس ففعلت ذلك في سنة ثلاثين وأربعمائة، أحسن الله تعالى عني جزاءه ورضي عنه.

- طبقات الفقهاء / لأبو اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي -.

 

 

 

 

الإِمَامُ العَلاَّمَةُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ؛ طَاهِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن طاهر بن عُمَرَ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ فَقِيْهُ بَغْدَادَ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، بِآمُلَ.
وَسَمِعَ بِجُرْجَانَ مِنْ: أَبِي أَحْمَدَ بنِ الغِطْرِيْفِ جُزْءاً تَفَرَّدَ في الدنيا بِعُلُوِّهِ وَبِنَيْسَابُوْرَ مِنْ مُفقِّهِه أَبِي الحَسَنِ المَاسَرْجَسِيِّ وَبِبَغْدَادَ مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَمُوْسَى بنِ عَرَفَةَ وَعَلِيِّ بنِ عُمَرَ السُّكَّرِيِّ وَالمُعَافَى الجَرِيْرِيِّ.
واستَوطَنَ بَغْدَادَ، وَدرَّسَ، وَأَفتَى، وَأَفَادَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ رُبُعِ الكَرْخِ بَعْدَ القَاضِي الصَّيْمَرِيِّ.
وَقَالَ: سِرتُ إِلَى جُرْجَانَ لِلقَاءِ أَبِي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيْلِيِّ، فَقَدمْتُهَا يَوْمَ الخَمِيْسِ، فَدَخَلتُ الحَمَّامَ وَمِنَ الغَدِ لَقِيتُ وَلدَهُ أَبَا سَعْدٍ فَقَالَ لِي: الشَّيْخُ قَدْ شَرِبَ دَوَاءً لِمَرضٍ وَقَالَ لِي: تَجِيْءُ غَداً لِتَسمَعَ: مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَكرَةُ السَّبتِ غَدَوتُ فَإِذَا النَّاسُ يقولون: مات الإسماعيلي.
قَالَ الخَطِيْبُ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الطَّيِّبِ وَرِعاً عَاقِلاً عَارِفاً بِالأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ مُحَقِّقاً حَسَنَ الخُلُقِ صَحِيْحَ المَذْهَبِ اختَلَفتُ إِلَيْهِ وَعلَّقتُ عَنْهُ الفِقْهَ سِنِيْنَ.
قِيْلَ: إِنَّ أَبَا الطَّيِّبِ دَفَعَ خُفّاً لَهُ إِلَى مَنْ يُصْلِحُهُ فَمَطَلَه وَبَقِيَ كُلَّمَا جَاءَ نَقَعَهُ فِي المَاءِ وَقَالَ: الآنَ أُصلِحُهُ. فَلَمَّا طَال ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّمَا دَفَعتُهُ إِلَيْكَ لِتُصلِحَه لاَ لِتُعَلِّمَهُ السِّباحَةَ.
قَالَ الخَطِيْبُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ أَحْمَدَ المُؤَدِّبَ سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ البَافِيَّ يَقُوْلُ: أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ أَفقَهُ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفَرَايِيْنِيِّ. وَسَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ يَقُوْلُ: أَبُو الطَّيِّبِ أَفقَهُ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ البافي.
قَالَ القَاضِي ابْنُ بَكْرَانَ الشَّامِيُّ: قُلْتُ لِلْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ شَيْخِنَا وَقَدْ عُمِّر: لَقَدْ مُتِّعتَ بِجَوَارِحِكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ! قَالَ: وَلِمَ؟ وَمَا عَصَيتُ اللهَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا قَطُّ. أَوْ كَمَا قَالَ.
قال غير واحد: سمع: نا أَبَا الطَّيِّبِ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ: أَرَأَيْتَ مَنْ رَوَى أَنَّكَ قُلْت: نَضَّرَ اللهُ امْرَءاً سَمِعَ: مَقَالَتِي فَوَعَاهَا" أَحقٌّ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي "الطَّبَقَاتِ": وَمِنْهُم شَيْخُنَا وَأُسْتَاذُنَا القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ تُوُفِّيَ عَنْ، مائَةٍ وَسنتينَ لَمْ يَختَلَّ عَقلُهُ وَلاَ تَغيَّرَ فَهمُهُ يُفْتِي مَعَ الفُقَهَاءِ وَيَستدرِكُ عَلَيْهِمُ الخطأ،
وَيَقْضي وَيَشهَدُ وَيَحضُرُ المَوَاكِبَ إِلَى أَنْ مَاتَ. تَفَقَّهَ بِآمُلَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الزَّجَّاجِيّ صَاحِبِ أَبِي العَبَّاسِ بنِ القَاصِّ. وَقَرأَ عَلَى أَبِي سَعْدٍ بنِ الإِسْمَاعِيْلِيِّ وَأَبِي القَاسِمِ بنِ كَجَّ بِجُرْجَانَ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى أَبِي الحَسَنِ المَاسَرْجِسِيِّ وصحبه أربع سنين وَحَضَرَ مَجْلِسَ أَبِي حَامِدٍ وَلَمْ أَرَ فِيْمَنْ رَأَيْتُ أَكمَلَ اجْتِهَاداً وَأَشَدَّ تَحْقِيْقاً وَأَجوَدَ نَظراً مِنْهُ. شَرَحَ مُخْتَصَرَ المُزَنِيِّ وَصَنَّفَ فِي الخلاَفِ وَالمَذْهَبِ وَالأُصُوْلِ وَالجَدَلِ كُتُباً كَثِيْرَةً لَيْسَ لأَحَدٍ مِثْلَهَا لاَزمتُ مَجْلِسَه بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَدَرَّسْتُ أَصْحَابَهُ فِي مَسْجِدِه سِنِيْنَ بِإِذْنِهِ وَرَتَّبَنِي فِي حَلْقَتِهِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَجلِسَ لِلتَّدرِيسِ فِي سَنَةِ ثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ فَفَعلتُ.
قُلْتُ: مِنْ وُجُوهِ أَبِي الطَّيِّبِ فِي المَذْهَبِ أَنَّ خُرُوْجَ المَنِيِّ يَنْقُضُ الوُضُوْءَ. وَمِنْهَا أَنَّ الكَافِرَ إِذَا صَلَّى فِي دَارِ الحَرْبِ فَصَلاَتُه إِسْلاَمٌ.
قُلْتُ: حَدَّثَ عَنْهُ: الخَطِيْبُ وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ بَكْرَانَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ بنُ الآبَنُوْسِيّ، وَأَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ الشِّيْرَازِيُّ، وَأَبُو سَعْدٍ بنُ الطُّيُوْرِيِّ، وَأَبُو عَلِيٍّ بنُ المهدي، وَأَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ العُكْبَرِيُّ، وَأَبُو العِزِّ بنُ كَادِش وَأَبُو المَوَاهِبِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُلُوْكٍ وَهِبَةُ اللهِ بنُ الحُصَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقِي الأَنْصَارِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيْرٌ.
قَالَ الخَطِيْبُ: مَاتَ صَحِيْحَ العَقلِ ثَابِتَ الفَهْمِ، فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، وَلَهُ مائَةٌ وَسَنَتَانِ، رحمه الله.

سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.

 

 

 

 

 

طَاهِر بن عبد الله [348 - 450] 
ابْن طَاهِر، القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ.
بِخَط القَاضِي الدَّامغَانِي من شعر القَاضِي أبي الطّيب رحمهمَا الله تَعَالَى:
(ألابس علم الْفِقْه وَهُوَ مرامه ... شَدِيد وَفِي إِدْرَاكه الكز والكد)

(فَتَاوِيهِ مَا بَين المضيء طَرِيقه ... وَبَين خَفِي فِي طرائقه جهد)

(إِذا اجْتهد الْمفْتُون فِيهِ تباينوا ... فيدركه عَمْرو ويخطئه زيد)

(لقد كدني مأثوره وفروعه ... وتعليله والنقض وَالْعَكْس والطرد)

(لَهُ شعب من كل علم تحوطه ... وَمَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مستبعد رد)

(وعادته مذ لم يزل فقر أَهله ... وَمن كَانَ ذَا وجد فَمن غَيره الوجد)

(وأنى يكون الْيُسْر مِنْهُ وَإنَّهُ ... لداع إِلَى الإقلال غَايَته الزّهْد)

ذكر أَبُو الْفضل ابْن خيرون فِي " وفياته "، أَن القَاضِي أَبَا الطّيب الطَّبَرِيّ رَحمَه الله توفّي عصر يَوْم السبت، وَدفن يَوْم الْأَحَد عشْرين شهر ربيع الأول سنة خمسين وَأَرْبع مئة، وَدفن بِبَاب حَرْب إِلَى جنب أبي عبد الله ابْن الْبَيْضَاوِيّ.
قَالَ: وَحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة وَغَيره من أكَابِر الدولة، والأشراف، والقضاة، وَالشُّهُود، وَالْفُقَهَاء، وَكَانَ يَوْمًا كَبِيرا.
وَكَانَ مولده سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَثَلَاث مئة، فَكَانَ عمره مئة سنة وسنتين، رَحمَه الله، وَرَضي عَنهُ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين مُصَنف هَذَا الْكتاب رَحمَه الله: إِذا ذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَشبهه من الْعِرَاقِيّين القَاضِي مُطلقًا فِي فن الْفِقْه فَهُوَ أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ، وَكَثِيرًا مَا يَقع ذَلِك فِي " تَعْلِيق " أبي إِسْحَاق، وَإِذا جرى ذَلِك من أبي الْمَعَالِي ابْن الْجُوَيْنِيّ وَغَيره من الخراسانيين فَهُوَ القَاضِي حُسَيْن المروروذي، وَإِذا جرى مثل ذَلِك فِي الْأُصُول وَالْكَلَام من أشعري وَنَحْوه فَالْمُرَاد ابْن الطّيب أَبُو بكر الباقلاني، وَإِن كَانَ من معتزلي فالمعني بِهِ عبد الْجَبَّار الأسداباذي، وَالله أعلم.

-طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح-

 

 

 

 

طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، أبو الطيّب:
قاض، من أعيان الشافعية. ولد في آمل طبرستان، واستوطن بغداد، وولي القضاء بربع الكرخ، وتوفي ببغداد. له (شرح مختصر المزني - خ) أحد عشر جزءا في الفقه و (جواب في السماع والغناء - خ) في خزانة الرباط (د 1588) و (التعليقة الكبرى - خ) في فروع الشافعية، منه نسخة في استمبول وله نظم  .

-الاعلام للزركلي-

 

 

 

 

طاهر بن عبد الله الطبري

توفّي القَاضِي أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله الطَّبَرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي فِي شهور سنة خمسين وأربعمئة بِبَغْدَاد

وَقد أَتَى عَلَيْهِ مئة سنة وَأَرْبع أَو خمس وَكَانَ لَهُ خَمْسُونَ سنة يُفْتِي فِي الْحَلَال وَالْحرَام إِمَام بِرَأْسِهِ
حدث عَن أبي أَحْمد مُحَمَّد بن أَحْمد بن الغطريف الْعَبْدي عَن الإِمَام أَحْمد بن عمر بن سُرَيج الْفَقِيه وَحدث عَن عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ وَغَيره
وَكَانَ ثِقَة إِمَامًا حَافِظًا للْمَذْهَب وَالْخلاف

ذيل تاريخ مولد العلماء ووفياتهم – لأبي محمد الكتاني الدمشقي

 

 

 

 

 

 طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر بن عمر

الإِمَام الْجَلِيل القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ
أحد حَملَة الْمَذْهَب ورفعائه
كَانَ إِمَامًا جَلِيلًا بحرا غواصا متسع الدائرة عَظِيم الْعلم جليل الْقدر كَبِير الْمحل تفرد فِي زَمَانه وتوحد وَالزَّمَان مشحون بأخدانه واشتهر اسْمه فَمَلَأ الأقطار وشاع ذكره فَكَانَ أَكثر حَدِيث السمار وطاب ثَنَاؤُهُ فَكَانَ أحسن من مسك اللَّيْل وكافور النَّهَار
وَالْقَاضِي فَوق وصف الواصف ومدحه وَقدره رَبًّا على بسيط الْقَائِل وَشَرحه وَعنهُ أَخذ الْعِرَاقِيُّونَ الْعلم وحملوا الْمَذْهَب
ولد القَاضِي بآمل طبرستان سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَسمع بجرجان من أبي أَحْمد الغطريفي وَقد وَقع لنا جُزْء أبي أَحْمد من طَرِيقه

وبنيسابور من شَيْخه أبي الْحسن الماسرجسي وببغداد من الْحَافِظ أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ
وَأسْندَ عَنهُ كثيرا فِي كِتَابه الْمِنْهَاج وَمن مُوسَى بن عَرَفَة والمعافى ابْن زَكَرِيَّا وَعلي بن عمر الْحَرْبِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَهُوَ أخص تلامذته بِهِ وَأَبُو مُحَمَّد بن الآبنوسي وَأَبُو نصر أَحْمد بن الْحسن الشِّيرَازِيّ وَأحمد ابْن عبد الْجَبَّار الطيوري وَأَبُو الْمَوَاهِب أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُلُوك وَأَبُو نصر مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد العكبري وَأَبُو الْعِزّ أَحْمد بن عبيد الله بن كادش وَأَبُو الْقَاسِم بن الْحُسَيْن وَخلق آخِرهم موتا أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ
ذكره تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ فِيمَا أخبرناه أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا ابْن القواس أخبرنَا الْكِنْدِيّ إجَازَة أخبرنَا أَبُو الْحسن بن عبد السَّلَام أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الشِّيرَازِيّ قَالَ وَمِنْهُم شَيخنَا وأستاذنا أَبُو الطّيب توفّي عَن مائَة وسنتين لم يخْتل عقله وَلَا تغير فهمه يُفْتى مَعَ الْفُقَهَاء ويستدرك عَلَيْهِم الْخَطَأ وَيَقْضِي وَيشْهد ويحضر المواكب إِلَى أَن مَاتَ
تفقه بآمل على أبي عَليّ الزجاجي صَاحب ابْن الْقَاص وَقَرَأَ على أبي سعد الْإِسْمَاعِيلِيّ وعَلى القَاضِي أبي الْقَاسِم بن كج بجرجان ثمَّ ارتحل إِلَى نيسابور وَأدْركَ أَبَا الْحسن الماسرجسي وَتَبعهُ وَصَحبه أَربع سِنِين ثمَّ ارتحل إِلَى بَغْدَاد وعلق عَن أبي مُحَمَّد الْبَاقِي الْخَوَارِزْمِيّ صَاحب الداركي
وَحضر مجْلِس الشَّيْخ أبي حَامِد وَلم أر فِيمَن رَأَيْت أكمل اجْتِهَادًا وَأسد تَحْقِيقا وأجود نظرا مِنْهُ
شرح الْمُزنِيّ وصنف فِي الْخلاف وَالْمذهب وَالْأُصُول والجدل كتبا كَثِيرَة لَيْسَ لأحد مثلهَا ولازمت مَجْلِسه بضع عشرَة سنة ودرست أَصْحَابه فِي مَسْجده سِنِين بِإِذْنِهِ ورتبني فِي حلقته وسألني أَن أَجْلِس فِي مَسْجِد التدريس فَفعلت فِي سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة أحسن الله تَعَالَى عني جزاءه وَرَضي عَنهُ
وَقَالَ الْخَطِيب كَانَ أَبُو الطّيب ورعا عَارِفًا بالأصول وَالْفُرُوع محققا حسن الْخلق صَحِيح الْمَذْهَب
اخْتلفت إِلَيْهِ وعلقت الْفِقْه عَنهُ سِنِين
وَذكره أَبُو عَاصِم فِي آخر الطَّبَقَة السَّادِسَة وَهُوَ آخر مَذْكُور فِي كِتَابه وَقَالَ فِيهِ فَاتِحَة هَذِه الطَّبَقَة شيخ الْعرَاق أَبُو الطّيب طَاهِر بن عبد الله الطَّبَرِيّ
وَقَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله القَاضِي ابْتَدَأَ القَاضِي أَبُو الطّيب يدرس الْفِقْه ويتعلم الْعلم وَله أَربع عشرَة سنة فَلم يخل بِهِ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى أَن مَاتَ
وَعَن أبي مُحَمَّد البافي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ أفقه من أبي حَامِد الإسفرايني

وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر الشَّامي قلت للْقَاضِي أبي الطّيب شَيخنَا وَقد عمر لقد متعت بجوارحك فَقَالَ لم لَا وَمَا عصيت الله بِوَاحِدَة مِنْهَا قطّ
وَعَن القَاضِي أبي الطّيب أَنه رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَقَالَ لَهُ يَا فَقِيه وَأَنه كَانَ يفرح بذلك وَيَقُول سماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقِيها
وَعَن القَاضِي أبي الطّيب خرجت إِلَى جرجان للقاء أبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فقدمتها يَوْم الْخَمِيس فَدخلت الْحمام فَلَمَّا كَانَ من الْغَد لقِيت أَبَا سعد ابْن الشَّيْخ أبي بكر فَأَخْبرنِي أَن وَالِده قد شرب دَوَاء لمَرض كَانَ بِهِ وَقَالَ لي تَجِيء فِي صَبِيحَة غَد فَتسمع مِنْهُ
فَلَمَّا كَانَ فِي بكرَة السبت غَدَوْت للموعد فَسمِعت النَّاس يَقُولُونَ مَاتَ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ
وَعَن القَاضِي أبي الطّيب رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم فَقلت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت من روى عَنْك أَنَّك قلت (نضر الله امْرأ سمع مَقَالَتي فوعاها) الحَدِيث أَحَق هُوَ قَالَ نعم
وَكَانَ القَاضِي أَبُو الطّيب حسن الْخلق مليح المزاح والفكاهة حُلْو الشّعْر
قيل إِنَّه دفع خفه إِلَى من يصلحه فَأَبْطَأَ بِهِ عَلَيْهِ وَصَارَ القَاضِي كلما أَتَاهُ يتقاضاه فِيهِ يغمسه الصَّانِع فِي المَاء حِين يرى القَاضِي وَيَقُول السَّاعَة أصلحه فَلَمَّا طَال على القَاضِي ذَلِك قَالَ إِنَّمَا دَفعته إِلَيْهِ لتصلحه لَا لتعلمه السباحة
وَكَانَ القَاضِي أَبُو الطّيب قد ولي الْقَضَاء بِربع الكرخ بعد موت القَاضِي الصَّيْمَرِيّ
فَإِذا أطلق الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَشبهه من الْعِرَاقِيّين لفظ القَاضِي مُطلقًا فِي فن الْفِقْه فإياه يعنون كَمَا أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره من الخراسانيين يعنون بِالْقَاضِي القَاضِي الْحُسَيْن والأشعرية فِي الْأُصُول يعنون القَاضِي أَبَا بكر بن الطّيب الباقلاني والمعتزلة يعنون عبد الْجَبَّار الأسداباذي

توفّي القَاضِي يَوْم السبت وَدفن يَوْم الْأَحَد الْعشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن شعره رَحمَه الله تَعَالَى
(ألابس علم الْفِقْه وَهُوَ مرامه ... شَدِيد وَفِي إِدْرَاكه الكذ والكد)
(فَتَاوِيهِ مَا بَين المضيء طَرِيقه ... وَبَين خَفِي فِي طرائقه جهد)
(إِذا اجْتهد الْمفْتُون فِيهِ تباينوا ... فيدركه عَمْرو ويخطئه زيد)
(لقد كدني مأثوره وفروعه ... وتعليله والنقض وَالْعَكْس والطرد)
(لَهُ شعب من كل علم تحوطه ... وَمَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مستبعد رد)
(وعادته مذ لم يزل فقر أَهله ... وَمن كَانَ ذَا وجد فَمن غَيره الوجد)
(وأنى يكون الْيُسْر مِنْهُ وَإنَّهُ ... لداع إِلَى الإقلال غَايَته الزّهْد)
وَكتب إِلَيْهِ استفتاء صورته
(يأيها الْعَالم مَاذَا ترى ... فِي عاشق ذاب من الوجد)
(من حب ظَبْي أهيف أغيد ... سهل الْمحيا حسن الْقد)
(فَهَل ترى تقبيله جَائِزا ... فِي النَّحْر والعينين والخد)
(من غير مَا فحش وَلَا رِيبَة ... بل بعناق جَائِز الْحَد)

 (إِن أَنْت لم تفت فَإِنِّي إِذا ... أصيح من وجدي وأستعدي)
فَأجَاب
(يأيها السَّائِل إِنِّي أرى ... تقبيلك المعشوق فِي الخد)
(يُفْضِي إِلَى مَا بعده فاجتنب ... قبلته بالجد والجهد)
(فَإِن من يرتع حول الْحمى ... يُوشك أَن يجني من الْورْد)
(تغنيك عَنهُ كاعب ناهد ... تحضر بِالْملكِ أَو العقد)
(تنَال مِنْهَا كل مَا تشْتَهي ... من غير مَا فحش وَلَا صد)
(هَذَا جوابي لقتيل الْهوى ... فَلَا تكن فِي ذَاك تستعدي)
وَمن شعره
(لَا تحسبن سُرُورًا دَائِما أبدا ... من سره زمن ساءته أزمان)

 (لَا تغترر بشباب آنق خضل ... فكم تقدم قبل الشيب شُبَّان)
وَيَا أَخا الشيب لَو ناصحت نَفسك لم ... يكن لمثلك فِي اللَّذَّات إمعان) هَب الشبيبة تملى عذر صَاحبهَا ... مَا عذر شيب ليستهويه شَيْطَان)
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عبد الْوَاحِد بن البُخَارِيّ إجَازَة أخبرنَا الإِمَام أَبُو الْفرج عبد الرَّحْمَن بن الْجَوْزِيّ إجَازَة أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن نَاصِر إجَازَة أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار ابْن أَحْمد الصَّيْرَفِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ أخبرنَا القَاضِي الإِمَام أَبُو الطّيب طَاهِر ابْن عبد الله بن طَاهِر الطَّبَرِيّ كَانَ ابْن بابك الشَّاعِر دخل الدينور وَكَانَ يتفقه عِنْد أبي الْحُسَيْن الْقطَّان مَعَ القَاضِي أبي الْقَاسِم بن كج فِي مجْلِس أبي الْحُسَيْن الْقطَّان فَعَاتَبَهُ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن كج على ترك الْفِقْه واشتغاله بالأدب وَقَالَ لَهُ والدك يَحُثُّك على الْفِقْه وَيُحِبهُ فَتركت مَا كَانَ أَبوك يختاره واشتغلت بِغَيْرِهِ فَعمِلت قصيدة سَأَلَني إنشادها فِي مَجْلِسه عَلَيْهِ
(أناها أَيهَا القَاضِي الْجَلِيل ... فقد كشف التَّأَمُّل مَا أَقُول)
(رَأَيْت الشَّرْع مسموعا مؤدى ... تناقله البصائر والعقول)
(تحلى الشّرْب من سوم المبادي ... عَلَيْهِ لكل مُجْتَهد دَلِيل)
(ترَاض لَهُ القرائح وَهِي شوس ... وتدركه العرائد وَهِي ميل)
(إِذا استفتيت فِيهِ وَأَنت صدر ... يقلدك الورى فِيمَا تَقول)

 (أحلّت على نُصُوص واضحات ... أَتَاك بهَا كتاب أَو رَسُول)
(ونظم الشّعْر مُمْتَنع الدَّوَاعِي ... فَلَيْسَ إِلَى مضايقه وُصُول)
(إِذا التَّنْزِيل أشكل مِنْهُ لفظ ... فشاهد ذَلِك الشّعْر الْمَقُول)
(ينَال بِهِ الْغنى طورا وطورا ... ينَال بِهِ الطوائل وَالدُّخُول)
(تسالمه الْمُلُوك وتتقيه ... وَذَاكَ لعمرك الْخطب الْجَلِيل)
(فلولا الْحَمد مَا زكتْ الأيادي ... وَلَوْلَا الذَّم مَا عرف الْبَخِيل)
(وَقد ذكر امْرأ الْقَيْس بن حجر ... فأسهب فِي مناقبه الرَّسُول)
(وَحمله لِوَاء الشّعْر حَتَّى ... تجاذب عَن عقيرته الحمول
(وَأخْبر أَن فِي التِّبْيَان سحرًا ... وَتلك شَهَادَة لَا تستحيل)
(وَقد مدح النَّبِي بِهن حَتَّى ... جرى فِي مَاء بهجته الْقبُول)
(بِشعر يسترق بِهِ الغواني ... وتعبث فِي مناسبه الشُّمُول)
(وَمَا أسرى إِلَى الْأَعْدَاء إِلَّا ... تقدمه من الشُّعَرَاء جيل)
(فلولا الشّعْر مَا عز ابْن أُنْثَى ... إِلَى مجد وَلَا وسم الذَّلِيل)
(وَلَا انتمت الرِّيَاح إِلَى قراها ... وَلَا انتسبت إِلَى الْعتْق الْخُيُول)
(وَلَا وصف الكمي إِذا تَلَوت ... عجاجته وَلَا ندب الْقَتِيل)
(إِذا كرم الْفَتى أَو عز بَأْسا ... فبالتقريظ ينعم أَو يديل)
(وَمَا يعصون عَن ذل وَلَكِن ... جبال الثَّلج تجرفها السُّيُول)
(وَيملك أنفس العظماء قهرا ... ويملكنا الرَّحِيق السلسبيل)

 (يصانع بالصواهل والغواني ... ويبرز عِنْد ذِي الصل الجزيل)
(فَزَاد الشَّاعِر النعم الصوافي ... وَزَاد الْعَالم الصَّبْر الْجَمِيل)
(وَإِن تكن الْقِيَامَة وعد قوم ... فللعثرات يَوْمئِذٍ مقيل)
(فقصرك لَا تطل عيب ابْن ود ... رماك بِطيبَة الْبَرْق الْمُحِيل)
(إِذا فتشت عَنهُ رَأَيْت شخصا ... لَهُ فِي كل سارحة مثول)
(بِخَير عناية أجْرى إِلَيْهَا ... فأدركها وَلَيْسَ لَهُ رسيل)
(يكد بهَا غَنِي أمل قصير ... وذيل من مناصبة طَوِيل)
(وجدت أبي أَخا مَال صَحِيح ... يسف وَرَاءه وَهن عليل)
(لمعمعة على تَغْيِير سم ... كَمَا يتعظم الْفَحْل الصؤول)
(ينبهني وناظره سؤوب ... ويشحذني وخاطره كليل)
تهويني إِلَى العلياء نفس ... بهَا لَا بلات لذاتي أصُول)
(ظَفرت بمرمق عبقت شذاه ... إِلَيْهِ وأعين الرائين حول)
(وَلم أحرز عَلَيْهِ بِذَاكَ عارا ... بلَى عَار الغبينة لَا يَزُول)
(حميت مرابضي ونباح كَلْبِي ... فَمَا للركب عَن أرضي قفول)
(يجوز إِذا أردْت أسود برج ... وينفر عَن شقاشقتي الفحول)

 (إِذا الْملك اشرأب إِلَى ثنائي ... فعمت فرفضت مِنْهُ الشُّمُول)
(فدونك نفثة المصدور واسلم ... فَأَنت لكل مرتزق وَكيل)
(إِذا مَا الدَّهْر أيسر كل راج ... فَأَنت بنجعة الراجي كَفِيل)
(إِذا مَا عَم أهل الأَرْض طرا ... نداك فقد بدأت بِمن تعول)
(جعلت الْبشر وَالْإِحْسَان دينا ... فَمَا يَنْفَكّ ينفس أَو يسيل)
(فَأَنت لكل ذِي قُرَّة حميم ... وَأَنت لكل ذِي ود خَلِيل)
(كَأَن الأَرْض دَارك حِين تدني ... قرانا وَأَهْلهَا ركب نزُول)
(بنيت الْأَمر حَتَّى كل وَاد ... بمهبطه مبيت أَو مقيل)
(أعرت الأَرْض زينتها فجاست ... خلال رياضها الرّيح الْقبُول)
(ودان لَك الْمُلُوك فَكل دَان ... وَقاص صادر عَمَّا تَقول)
(فَأَنت الْحَاكِم الْعدْل التقي ... الْعَالم الْبر الْوُصُول)
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب فَقَالَ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم بن كج أجب عَنهُ ورد عَلَيْهِ فأجبت عَلَيْهِ بِهَذَا
(بإذنك أَيهَا القَاضِي الْجَلِيل ... أرد على ابْن بابك مَا يَقُول)
(وَلَوْلَا مدْخل الْمَأْثُور فِيهِ ... ورغبة شَاعِر فِيمَا تنيل)
(لما أطرقت سَمعك مِنْهُ حرفا ... رَأَيْت بِهِ إِلَيْهِ أستقيل)
(وصنتك عَن مقَالَة مستبد ... بِرَأْي لَا يساعده الْقبُول)

 (وَشعر أشعر الإنحاس مِنْهُ ... وخطب ضمه قَالَ وَقيل)
(فكم للقاك مِنْهُ كل يَوْم ... صداع من أَذَاهُ لَا يَزُول)
(وَكم فِيهِ قواف صادرات ... عَن الْفُقَهَاء أصدرها الذحول)
(وعذري فِي رِوَايَته جميل ... وَأَرْجُو أَن يكون لَهُ قبُول)
(ذممت طَرِيقه وَنَصَحْت فِيهِ ... فأحرج صَدره النصح الْجَمِيل)
(وشق عَلَيْهِ إِن الْحق مر ... على الْإِنْسَان مورده ثقيل)
(فطال لِسَانه فَأَفَاضَ فِيهِ ... لِأَن لِسَان مصدور طَوِيل)
(يعظم بَين أهل الشَّرْع شعرًا ... وَيَزْعُم أَنه علم جليل)
(ويمدحه ويغلو فِي هَوَاهُ ... وَيعلم أَنه فِيهِ محيل)
(لِأَن الله ذمهم جَمِيعًا ... وَأنزل فِيهِ مَا وضح الدَّلِيل)
(وَلَو كَانَ الْفَضِيلَة كَانَ مِنْهَا ... لأَفْضَل خلقه الْحَظ الجزيل)
(وَلما أَن نَهَاهُ الله عَنهُ ... علمت بِأَنَّهُ نزر قَلِيل)
(فَكيف تَسَاويا وَالْفِقْه أصل ... موثق من معاقده الْأُصُول)
(بِهِ عبد الْإِلَه وَكَانَ فِيهِ ... صَلَاح الْكل وَالدّين الْأَصِيل)
(إِذا عدل الْمُكَلف عَنهُ يَوْمًا ... أضلّ طَرِيقه ذَاك الْعُدُول)
(وَإِن لزم الْحفاظ عَلَيْهِ أولي ... نعيما مَا لآخره أفول)
(كفى الْفُقَهَاء أَنهم هداة ... وأعلام كَمَا كَانَ الرَّسُول)
(مدَار الدّين وَالدُّنْيَا عَلَيْهِم ... وَفرض النَّاس قَوْلهم الْمَقُول)
(وَأما الشّعْر مدح أَو هجاء ... وَأعظم مَا يُرَاد بِهِ الفضول)

 (لذَلِك مَوضِع الشُّعَرَاء أقْصَى ... مجالسنا وموقفهم ذليل)
(كَفاهُ أَنه يهجو أَبَاهُ ... وَقد رباه وَهُوَ لَهُ سليل)
(يصول بهجوه وَيَقُول فِيهِ ... مقَالا مَا لَهُ مِنْهُ مقيل)
(وجدت أَبى أَخا مَال صَحِيح ... يسف وَرَاءه وَهن عليل)
(ينبهني وناظره متور ... ويشحذني وخاطره كليل)
(وَلَو سَمِعت بِهِ أذنا أَبِيه ... نَفَاهُ وَهُوَ وَالِده الْوُصُول)
(على أَنِّي رَأَيْت الشّعْر سهلا ... مآخذه بِلَا تَعب يطول)
(يحس إِذا اجتباه الْمَرْء طبعا ... تساوى الحبر فِيهِ والجهول)
(وَعلم الْفِقْه معتاص الْمعَانِي ... يقصر دونهَا البطل الصؤول)
(وَمن هَذَا ابْن بابك فر مِنْهُ ... وَولى فهمه وَبِه فلول)
(رأى بحرا وَلم ير منتهاه ... بعيد الْغَوْر لَيْسَ لَهُ وُصُول)
(وَلَو عاناه كَانَ الله عونا ... وَعون الله فِي هَذَا كَفِيل)
(يقرب مَا تبَاعد مِنْهُ حدا ... ويسهل من بوارقه السقيل)
(فَهَذَا عينه فِيمَا حباه ... ومدحك بغيتي فِيمَا أَقُول)
(نوالك للورى غيث هطول ... وجاهك مِنْهُم ظلّ ظَلِيل)
(عممت الْكل بالنعما فأضحوا ... يؤمك مِنْهُم جيل فجيل)
(وَسَار بعلمك الركْبَان حَتَّى ... لَهُ فِي كل نَاحيَة نزُول)
(لسَانك فِي خصومك مستطيل ... ورأيك فيهم سيف صقيل)
(إِذا ناظرتهم كَانُوا جَمِيعًا ... ثعالب بَينهَا أَسد يصول)

أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرتنا سِتّ الْأَهْل بنت علوان بن سعيد وَأَبُو الْحسن النوسي قَالَا أخبرنَا أَبُو الْبَهَاء عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الْمَقْدِسِي أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّزَّاق بن نصر بن مُسلم النجار قِرَاءَة عَلَيْهِ غير مرّة أخبرنَا أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن الْحسن بن الحنيفر بن عَليّ السّلمِيّ أخبرنَا القَاضِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلامَة بن جَعْفَر الْقُضَاعِي إجَازَة أخبرنَا أَبُو مُسلم مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَليّ الْبَغْدَادِيّ أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن ابْن دُرَيْد حَدثنِي الْحسن بن خضر أَخْبرنِي رجل من أهل بَغْدَاد عَن أبي هَاشم الْمُذكر قَالَ أردْت الْبَصْرَة فَجئْت إِلَى سفينة أكتريها وفيهَا رجل وَمَعَهُ جَارِيَة فَقَالَ الرجل لَيْسَ هَا هُنَا مَوضِع فَسَأَلته أَن يحملني
مناظرة جرت بِبَغْدَاد فِي جَامع الْمَنْصُور نفعنا الله بِهِ
بَين شَيْخي الْفَرِيقَيْنِ القَاضِي أبي الطّيب وَأبي الْحسن الطَّالقَانِي قَاضِي بَلخ من أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة
سُئِلَ القَاضِي أَبُو الْحسن عَن تَقْدِيم الْكَفَّارَة على الْحِنْث فَأجَاب بِأَن ذَلِك لَا يجزىء وَهُوَ مَذْهَبهم فَسئلَ الدَّلِيل فاستدل بِأَنَّهُ أدّى الْكَفَّارَة قبل وُجُوبهَا وَقبل وجود سَبَب وُجُوبهَا فَوَجَبَ أَلا تُجزئه كَمَا لَو أخرج كَفَّارَة الْجِمَاع بعد الصَّوْم وَقبل الْجِمَاع وَأخرج كَفَّارَة الطّيب واللباس بعد الْإِحْرَام وَقبل ارْتِكَاب أَسبَابهَا
فَكَلمهُ القَاضِي أَبُو الطّيب ناصرا جَوَاز ذَلِك كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأورد عَلَيْهِ فصلين أَحدهمَا مانعه الْوَصْف فَقَالَ لَا أسلم أَنه لم يُوجد سَبَب وجوده الْكَفَّارَة فَإِن الْيَمين عِنْدِي سَبَب فاليمينية مثبتة فِي الْحَالين على هَذَا الأَصْل

وَالثَّانِي أَنه يبطل بِمَا إِذا أخرج كَفَّارَة الْقَتْل بعد الْجرْح وَقبل الْمَوْت فَإِنَّهُ أخرجهَا قبل وُجُوبهَا وَقبل وجود سَبَب وُجُوبهَا ثمَّ يُجزئهُ
أجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن بِأَن قَالَ أَنا أدل على الْوَصْف وَيدل عَلَيْهِ أَن الْيَمين يمْنَع الْحِنْث وَمَا منع من السَّبَب الَّذِي تجب بِهِ الْكَفَّارَة لم يجز أَن يكون سَببا لوُجُوبهَا كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَام لما منعا السَّبَب الَّذِي تجب عِنْده الْكَفَّارَة من الْوَطْء وَغَيره لم يجز أَن يُقَال إنَّهُمَا سببان فِي إِيجَابهَا كَذَلِك هَاهُنَا مثله
فَأجَاب القَاضِي أَبُو الطّيب عَن هَذَا الْفَصْل أَيْضا وَقَالَ لَا أسلم أَن الْيَمين يمْنَع الْحِنْث فَقَالَ أَنا أدل عَلَيْهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عز وَجل {واحفظوا أَيْمَانكُم} وَهَذَا أَمر بِحِفْظ الْيَمين وَترك الْحِنْث وعَلى أَن الْيَمين إِنَّمَا وضعت للْمَنْع لِأَن الْإِنْسَان إِنَّمَا يقْصد بِالْيَمِينِ منع نَفسه من الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا ذكرت من الصَّوْم وَالْإِحْرَام فِي منع الْجِمَاع وَغَيره وَيدل على ذَلِك أَن الْكَفَّارَة وضعت لتغطية المآثم وتكفير الذُّنُوب وَاسْمهَا يدل على ذَلِك وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحُدُود كَفَّارَات لأَهْلهَا) وَإِنَّمَا سَمَّاهَا كَفَّارَة لِأَنَّهَا تكفر الذُّنُوب وتغطيها وَمَعْلُوم أَنه لَا يَأْثَم فِي نفس الْأَمر أَي فِي الْيَمين فَيحْتَاج إِلَى تَغْطِيَة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه كَانُوا يحلفُونَ وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَالله لأغزون قُريْشًا) وأعادها ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ (إِن شَاءَ الله تَعَالَى) وَنحن نعلم أَنه لَا يجوز فِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصفَة أَصْحَابه أَن يقصدوا إِلَى مَا يتَعَلَّق الْإِثْم بِهِ إِلَى الْكَفَّارَة فَثَبت أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي الْيَمين وَإِذا لم يكن فِي الْيَمين إِثْم وَجب أَن يكون مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتكفير الْإِثْم الْمُتَعَلّق بِالْحِنْثِ وَهَذَا يدل على أَنه مَمْنُوع من الْحِنْث غير أَن من جملَة الْأَيْمَان مَا نقضهَا أولى من الْوَفَاء بهَا وَذَلِكَ إِذا حلف لَا يُصَلِّي فقد ابتلى ببلاءين بَين أَن يَفِي بِيَمِينِهِ فيأثم بترك الصَّلَاة وَبَين أَن ينْقض يَمِينه فَيحنث فيأثم بالمخالفة وللمخالفة بدل يرجع إِلَيْهِ وَلَيْسَ لترك الصَّلَاة بدل يرجع إِلَيْهِ وعَلى هَذَا يدل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه) فَشرط فِي الْحِنْث أَن يكون فعله خيرا من تَركه
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ النَّقْض فَلَا يلْزَمنِي لِأَنِّي قلت لم يُوجد سَببهَا وَهُنَاكَ قد وجد سَببهَا وَذَلِكَ أَن الْجرْح سَبَب فِي إِتْلَاف النَّفس وَهَذَا سَبَب الْإِثْم وَالْكَفَّارَة وَجَبت لتكفير الذَّنب وتغطية الْإِثْم وَالْجرْح سَبَب الْإِثْم فَإِذا وجد جَازَ إِخْرَاج الْكَفَّارَة
وَتكلم القَاضِي أَبُو الطّيب على الْفَصْل الأول فَقَالَ أما الْيَمين فَلَا يجوز أَن تكون مَانِعَة من الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَلَا يجوز أَن تكون مُغيرَة لحكمه بل إِذا كَانَ الشَّيْء مُبَاحا فَهُوَ بعد الْيَمين بَاقٍ على حكمه وَإِن كَانَ مَحْظُورًا فَهُوَ بعد الْيَمين بَاقٍ على حظره يبين صِحَة هَذَا أَنه لَو حلف أَنه لَا يشرب المَاء لم يحرم عَلَيْهِ شرب المَاء وَلم يتَغَيَّر عَن صفته فِي الْإِبَاحَة وَكَذَلِكَ لَو حلف ليقْتلن مُسلما لم يحل لَهُ قَتله وَلم يتَغَيَّر الْقَتْل عَن صفة التَّحْرِيم وَهَذَا لَا أجد فِيهِ خلافًا بَين الْمُسلمين وعَلى هَذَا يدل قَول الله عز وَجل {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك} ثمَّ قَالَ {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} فَعَاتَبَهُ الله على كل تَحْرِيم
وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه) وَهَذَا يدل على مَا ذَكرْنَاهُ من أَن الْيَمين لَا تغير الشَّيْء عَن صفته فِي الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم وَيبين صِحَة هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نزل قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك} كفر عَن يَمِينه وَرُوِيَ أَنه آلى من نسائة شهرا وَلم يَحْنَث فَدلَّ على أَن الْإِبَاحَة كَانَت بَاقِيَة على صفتهَا
وَأما قَوْله تَعَالَى {واحفظوا أَيْمَانكُم} فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَمر بتقليل الْيَمين حفظا كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت)
وَمَعْلُوم أَنه لم يرد حفظ الْيَمين من الْحِنْث والمخالفة لِأَن ذَلِك قد ذكره فِي المصراع الثَّانِي فَثَبت أَنه أَرَادَ بذلك التقليل
وَأما قَوْله إِن الْيَمين مَوْضُوعَة للْمَنْع فَلَا يجوز أَن تكون سَببا لما يتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة فَبَاطِل بِمَا لَو قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ قصد الْمَنْع بِهَذِهِ الْيَمين من الدُّخُول ثمَّ هِيَ سَبَب فِيمَا يتَعَلَّق بهَا من الطَّلَاق وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَو شهد شَاهِدَانِ على رجل أَنه قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار أَو كلمت زيدا فَأَنت طَالِق وَشهد آخرَانِ أَنَّهَا دخلت الدَّار ثمَّ رجعُوا عَن الشَّهَادَة إِن الضَّمَان يجب على شُهُود الْيَمين وَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن الْيَمين هُوَ السَّبَب لِأَنَّهَا لَو لم تكن سَببا فِي إِيقَاع الطَّلَاق لما تعلق الضَّمَان عَلَيْهِم فَلَمَّا أوجب الضَّمَان على شُهُود الْيَمين علم أَن الْيَمين كَانَت سَببا فِي إِتْلَاف الْبضْع وإيقاع الطَّلَاق فَانْتقضَ مَا ذكرت من الدَّلِيل
وَأما قَوْلك إِن الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتغطية المآثم وَرفع الْجنَاح فَلَا يَصح وَكَيف يُقَال إِنَّهَا تجب لهَذَا الْمَعْنى وَنحن نوجبها على قَاتل الْخَطَأ مَعَ علمنَا أَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ تجب على الْيَمين وَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَأما النَّقْض فلازم وَذَلِكَ أَن الْجرْح لَا يجوز أَن يكون سَببا لإِيجَاب الْكَفَّارَة وَإِنَّمَا السَّبَب فِي إِيجَابهَا فَوَات الرّوح وَالَّذِي يبين صِحَة هَذَا هُوَ أَنه لَو جرحه ألف جِرَاحَة فاندملت لم تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فَثَبت أَن الْكَفَّارَة تتَعَلَّق بِالْقَتْلِ وَأَن الْجرْح لَيْسَ بِسَبَب وَلَا جُزْء من السَّبَب ثمَّ جَوَّزنَا إِخْرَاج الْكَفَّارَة فَدلَّ على مَا قُلْنَاهُ
فَأجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن الطَّالقَانِي عَن الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ أما قَول القَاضِي الإِمَام أدام الله تأييده إِن الْيَمين لَا يُغير الشَّيْء عَن صفته فِي الْإِبَاحَة بل يبْقى الشَّيْء بعد الْيَمين على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل الْيَمين فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالْيَمِين لَا تثبت تَحْرِيمًا فِيمَا لَا يحرم وَلكنهَا لَا توجب منعا وَالشَّيْء تَارَة يكون الْمَنْع مِنْهُ لتَحْرِيم عينه كَمَا نقُول فِي الْخمر وَالْخِنْزِير إِنَّه يمْتَنع بيعهمَا لتَحْرِيم أعيانهما وَتارَة يمْتَنع مِنْهُ لِمَعْنى فِي غَيره كَمَا يمْنَع من أكل مَال الْغَيْر بِحَق مَاله لِأَن الشَّيْء فِي نَفسه غير محرم فَكَذَلِك هَاهُنَا
فداخله القَاضِي أَبُو الطّيب فِي هَذَا الْفَصْل فَقَالَ فَيجب أَن نقُول إِنَّه يَأْثَم بِشرب المَاء كَمَا يَأْثَم بتناول مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
فَقَالَ هَكَذَا أَقُول إِنَّه يَأْثَم بشربه كَمَا يَأْثَم بتناول الْغَيْر
وَأما قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم} فَهُوَ الْحجَّة عَلَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أخبر أَنه حرمهَا على نَفسه وَهَذَا يدل على إِثْبَات التَّحْرِيم وَمَا ذَكرْنَاهُ من تَأْوِيل الْآيَة وَحملهَا على تقليل الْيَمين وَتركهَا فَهُوَ خلاف الظَّاهِر وَذَلِكَ أَن الْآيَة تَقْتَضِي حفظ يَمِين مَوْجُودَة وَإِذا حملناها على مَا ذكر من ترك الْيَمين كَانَ ذَلِك حفظا لِمَعْنى غير مَوْجُود فَلَا يكون ذَلِك حملا للفظ على غير ظَاهره وَحَقِيقَته ومراعاة الظَّاهِر والحقيقة أولى وَأما الشّعْر فَلَا حجَّة فِيهِ لِأَن الْحِفْظ هُنَاكَ أَرَادَ بِهِ الْحِفْظ من الْحِنْث والمخالفة
وَقَوله إِن الْحِفْظ من الْمُخَالفَة والحنث قد علم من آخر الْبَيْت لَا يَصح لِأَنَّهُ إِذا حمله على تقليل الْيَمين حمل أَيْضا على مَا علم من أول الْبَيْت لِأَنَّهُ قَالَ قَلِيل الألايا فقد تساوينا فِي الِاحْتِجَاج بِالْبَيْتِ واشتركنا فِي الاستشهاد بِهِ على مَا يَدعِيهِ كل وَاحِد منا من المُرَاد بِهِ
وَأما الدَّلِيل الثَّانِي الَّذِي ذكرته فَهُوَ صَحِيح وَقَوله إِن هَذَا يبطل بِمَسْأَلَة الْيَمين فِي الطَّلَاق فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن السَّبَب هُنَاكَ هُوَ الْيَمين لِأَن الطَّلَاق بِهِ يَقع أَلا ترى أَنه يفصح فِي الْيَمين بإيقاع الطَّلَاق فَيَقُول إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق وَإِنَّمَا دخل الشَّرْط لتأخير الْإِيقَاع لَا لتغييره وَلذَلِك قَالُوا الشَّرْط يُؤَخر وَلَا يُغير فحين كَانَ الطَّلَاق وَاقعا بِالْيَمِينِ كَانَت هِيَ السَّبَب فَكَانَ الضَّمَان على شهودها لِأَن الْإِيقَاع حصل بِشَهَادَتِهِم وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فاليمين لَيْسَ فِي لَفظهَا مَا يُوجب الْكَفَّارَة فَلم يجز أَن تكون سَببا فِي إِيجَابهَا
وَأما الدَّلِيل الثَّالِث الذى ذكرته من كَون الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لتكفير الذَّنب فَصَحِيح
وَمَا ذكرته من أَن الْكَفَّارَة تجب مَعَ عدم المأثم وَهُوَ فِي قتل الْخَطَأ وَيجب فِي الْيَمين على الناسى وَالْمكْره وَعِنْدنَا لَا إِثْم على وَاحِد مِنْهُم فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَن فِي هَذِه الْمَوَاضِع مَا وَجَبت إِلَّا لضرب من التَّفْرِيط وَذَلِكَ أَن الخاطىء هُوَ الَّذِي يَرْمِي إِلَى غَرَض فَيُصِيب رجلا فيقتله أَو يَرْمِي رجلا مُشْركًا ثمَّ يتَبَيَّن أَنه كَانَ مُسلما فَتجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة

لِأَنَّهُ قد اجترأ عَلَيْهِ بظنه فِي هَذِه الْمَوَاضِع وَترك التَّحَرُّز فِي الرَّمْي وَإِذا أصَاب مُسلما فَقتله علمنَا أَنه فرط وَترك الِاسْتِظْهَار فِي الرَّمْي فَكَانَ إِيجَاب الْكَفَّارَة لما حصل من جِهَته من التَّفْرِيط وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَة قتل الْخَطَأ {فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله} وَهَذَا يدل على أَن كَفَّارَة قتل الْخَطَأ على وَجه التَّطْهِير وَالتَّوْبَة
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ النَّقْض فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن الْجرْح هُوَ السَّبَب فِي فَوَات الرّوح وَإِذا وجد الْجرْح وسرى إِلَى النَّفس اسْتندَ فَوَات الرّوح إِلَى ذَلِك الْجرْح فَصَارَ قَاتلا بِهِ فَيكون الْجرْح سَبَب إِيجَاب الْكَفَّارَة
وَتكلم القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ قد ثَبت أَن الْيَمين لَا يجوز أَن يُغير صفة الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
ودللت عَلَيْهِ بِمَا ذكرت
وَلنَا قَوْلك إِنَّمَا يُوجب الْمَنْع من فعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فَإِذا فعل فَكَأَنَّهُ أَثم فَكَأَنِّي أدلك فِي هَذَا الْإِجْمَاع وَذَلِكَ أَنِّي لَا أعلم خلافًا للأئمة أَنه إِذا حلف لَا يشرب المَاء أَو لَا يَأْكُل الْخبز أَنه يجوز الْإِقْدَام وَأَنه لَا إِثْم عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَهَذَا الْقدر مِنْهُ فِيهِ كِفَايَة وَالَّذِي يبين فَسَاد هَذَا وَأَنه لَا يجوز أَن يكون فِيهِ إِثْم هُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آلى من نِسَائِهِ وَكفر عَن يَمِينه وَلَا يجوز أَن ينْسب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فعل مَا أَثم عَلَيْهِ
وَأما الْآيَة الَّتِي اسْتدلَّ بهَا فقد ثَبت تَأْوِيلهَا وَأَن المُرَاد بهَا ترك الْيَمين
وَقَوله إِن هَذَا يَقْتَضِي حفظ يَمِين مَوْجُودَة فَلَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يسْتَعْمل ذَلِك فِيمَا لَيْسَ بموجود أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ احفظ لسَانك وَالْمرَاد بِهِ احفظ كلامك

وَالْكَلَام لَيْسَ مَوْجُودا وَالدَّلِيل على أَنهم يُرِيدُونَ بِهِ احفظ كلامك قَول الشَّاعِر
(احفظ لسَانك لَا تَقول فتبتلى ... إِن الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق)
وَالَّذِي يدل على صِحَّته مَا ذكرت من الشّعْر وَهُوَ قَوْله
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... )
وقولك فِي ذَلِك أَرَادَ بِهِ حفظ الْيَمين من الْحِنْث والمخالفة فقد ثَبت أَن ذَلِك قد بَينه فِي آخر الْبَيْت بقوله
(وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت ... )
فَلَا يجوز حمل اللَّفْظ على التّكْرَار إِذا أمكن حمله على غير التّكْرَار
وقولك إِن مثل هَذَا يلزمك فِي تأويلك فَلَا يَصح لِأَن قَوْله
(قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... )
جملَة وَاحِدَة وَالْمرَاد بِهِ معنى وَاحِد وَالثَّانِي مِنْهُمَا يُفَسر الأول وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه لم يعْطف أَحدهمَا على الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك مَا ذكرت من الدَّلِيل فِي المصراع الثَّانِي لِأَن هُنَاكَ اسْتَأْنف الْكَلَام وَعطف على مَا قبله بِالْوَاو فَدلَّ على أَن المُرَاد بِهِ معنى غير الأول وَهُوَ الْحِفْظ من الْحِنْث والمخالفة فَلَا يتساوى فِي الِاحْتِجَاج بِالْبَيْتِ
وَمَا ذكرت من الدَّلِيل الثَّانِي أَن الْيَمين قد يمْنَع الْحِنْث فقد نقضته بِالْيَمِينِ بِالطَّلَاق الْمُعَلق على دُخُول الدَّار وَهُوَ نقض لَازم وَذَلِكَ أَن وُقُوع الطَّلَاق يُوجب الْحِنْث كالكفارة من جِهَة الْحِنْث فَإِذا كَانَ الطَّلَاق الْوَاقِع بِالْحِنْثِ يسْتَند إِلَى الْيَمين فَيجب مَا يتَعَلَّق بِهِ من الضَّمَان على شُهُود الْيَمين بِحَيْثُ دلك أَن تكون الْكَفَّارَة الْوَاجِبَة بِالْحِنْثِ تستند إِلَى الْيَمين فَيتَعَلَّق وُجُوبهَا بهَا فَيكون الْيَمين والحنث بِمَنْزِلَة الْحول والنصاب حَيْثُ كَانَا سببين فِي إِيجَاب الزَّكَاة إِذا وجد أَحدهمَا حَال إِخْرَاج الزَّكَاة قبل وجود السَّبَب الآخر
وَأما انفصالك عَنهُ بِأَن الطَّلَاق مفصح بِهِ فِي لفظ الْيَمين فَكَانَ وَاقعا وَإِنَّمَا دخل الشَّرْط لتأخير مَا أوقعه بِالْيَمِينِ فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَ الطَّلَاق مفصحا بِهِ فِي لفظ الْحَالِف فالكفارة فِي مَسْأَلَتنَا مضمنة فِي الْيَمين بِالشَّرْعِ وَذَلِكَ أَن الشَّرْع علق الْكَفَّارَة على مَا علق الْحَالِف بِالطَّلَاق الطَّلَاق عَلَيْهِ فِيمَا علق بِهِ الطَّلَاق بالتزامه وعقده فَوَجَبَ أَن تتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة فِي الشَّرْع فِي الْيَمين بِاللَّه عز وَجل
فداخله القَاضِي أَبُو الْحسن بِأَن قَالَ من أَصْحَابنَا من قَالَ إِن الزَّكَاة تجب بالنصاب والحول تَأْجِيل والحقوق المؤجلة يجوز تَعْجِيلهَا كالديون المؤجلة
فَقَالَ لَهُ القَاضِي أَبُو الطّيب هَذَا لَا يَصح وَذَلِكَ أَن الزَّكَاة لَو كَانَت وَاجِبَة بالنصاب وَكَانَ الْحول تأجيلا لَهَا لوَجَبَ إِذا ملك أَرْبَعِينَ شَاة فَعجل مِنْهَا شَاة قبل الْحول وَبَقِي المَال نَاقِصا إِلَى آخر الْحول أَن يُجزئهُ لِأَن النّصاب كَانَ مَوْجُودا حَال الْوُجُوب وَلما قُلْتُمْ إِذا حَال الْحول وَالْمَال بَاقٍ على نقصانه عَن النّصاب أَنه لَا يُجزئهُ وجعلتم الْعلَّة فِيهِ أَنه إِذا جَاءَ وَقت الْوُجُوب وَلَيْسَ عِنْده نِصَاب دلّ على أَن الْوُجُوب عِنْد حُلُول الْحول لَا ملك النّصاب

وَأما دليلك الثَّالِث على هَذَا الْفَصْل فقد بَينا بُطْلَانه بِمَا ذَكرْنَاهُ من أَن الخاطىء وَالنَّاسِي
وقولك إِن الخاطىء أَيْضا مَا وَجب عَلَيْهِ إِلَّا لضرب من التَّفْرِيط حصل من جِهَته فَلَا يَصح لِأَنِّي ألزمك مَا لَا تَفْرِيط فِيهِ وَهُوَ الرجل إِذا رمى وسدد الرَّمْي وَرمى وَعرضت لَهُ ريح فعدلت بِالسَّهْمِ إِلَى رجل فَقتلته أَو رمى إِلَى دَار الْحَرْب فَأصَاب مُسلما فَإِن الرَّمْي مُبَاح مُطلق وَالدَّار دَار مُبَاحَة وَلِهَذَا يجوز مباغتتهم لَيْلًا وَنصب المنجنيق عَلَيْهِم وَلَا يلْزم التحفظ مَعَ إِبَاحَة الرَّمْي على الْإِطْلَاق ثمَّ أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فَدلَّ على أَنه لَيْسَ طَرِيق إيجابنا الْكَفَّارَة مَا ذَكرُوهُ من الْإِثْم
ويدلك على ذَلِك أَن النَّاسِي لَيْسَ من جِهَته تَفْرِيط وَلَا إِثْم وَكَذَلِكَ من استكره عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَفا الله لأمتي عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ) ثمَّ أوجب عَلَيْهِم الْكَفَّارَة
فَدلَّ هَذَا كُله على مَا ذكرت
على أَنه لَا اعْتِبَار فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة بالإثم والتفريط وَيبين صِحَة هَذَا لَو حلف لَا يُطِيع الله تَعَالَى أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْحِنْث والمخالفة وألزمناه الْكَفَّارَة وَمن الْمحَال أَن تكون الْكَفَّارَة وَاجِبَة للإثم وتغطية الذَّنب ثمَّ نوجبها فِي الْموضع الَّذِي نوجب عَلَيْهِ أَن يَحْنَث وَأما النَّقْض فَلم يجز فِيهِ أَكثر مِمَّا تقدم

فَأجَاب القَاضِي أَبُو الْحسن الطَّالقَانِي عَن الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ أما ادِّعَاء الْإِجْمَاع فَلَا يَصح لِأَن أَصْحَابنَا كلهم مخالفون وَلَا نَعْرِف إِجْمَاعًا دونهم
وَأما تَأْوِيل الْآيَة على ترك الْيَمين فَهُوَ مجَاز لِأَن حفظ الْيَمين يَقْتَضِي وجود الْيَمين وَقَوْلهمْ احفظ لسَانك إِنَّمَا قَالُوهُ لأَنهم أَمرُوهُ بِحِفْظ اللِّسَان وَاللِّسَان مَوْجُود وَهَاهُنَا الْيَمين الَّتِي تأولت الْآيَة عَلَيْهَا غير مَوْجُودَة
وَمَا ذَكرُوهُ من الشّعْر فقد ذكرت أَنه مُشْتَرك الِاحْتِجَاج
وَمَا ذَكرُوهُ من الْعَطف فَلَا يَصح لِأَنَّهُ يجوز الْجمع بِالْوَاو كَمَا يجوز بغَيْرهَا
وَأما الدَّلِيل الثَّانِي فَلَا يلْزم عَلَيْهِ مَا ذكرت من الْيَمين بِالطَّلَاق وَذَلِكَ أَن الْإِيقَاع هُنَاكَ بِالْيَمِينِ وَلِهَذَا أفْصح بِهِ فِي لفظ الْيَمين وأفصح بِهِ شُهُود الْيَمين وَأما الدُّخُول فَهُوَ شَرط يُوجب التَّأْخِير فَإِذا وجد الشَّرْط وَقع الطَّلَاق بِالْيَمِينِ وَيكون كالموجود حكما فِي حَال الْوُقُوع وَهُوَ عِنْد الشَّرْط وَلِهَذَا علقنا الضَّمَان عَلَيْهِ وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن لفظ الْيَمين لَا يُوجب الْكَفَّارَة أَلا ترى أَنه لَو قَالَ ألف سنة وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
لم يجب عَلَيْهِ كَفَّارَة وَإِذا لم يكن فِي لَفظه مَا يُوجب الْكَفَّارَة وَجب أَن نقف إيحابها على مَا تعلق الْمَنْع مِنْهُ وَهُوَ الْحِنْث والمخالفة
وَأما مَسْأَلَة الزَّكَاة فَلَا تصح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الْوُجُوب بِملك النّصاب ثمَّ يسْقط هَذَا الْوُجُوب بِنُقْصَان النّصاب فِي آخر الْحول وَمثل هَذَا لَا يمْتَنع على أصولنا أَلا ترى أَن من صلى الظّهْر فِي بَيته صحت صلَاته فَإِذا سعى إِلَى الْجُمُعَة ارْتَفَعت

وَورد عَلَيْهِ بعد الحكم بِصِحَّتِهَا مَا نقضهَا كَذَلِك فِي مَسْأَلَة الزَّكَاة لَا يمْتَنع أَن يكون مثله
وَأما الدَّلِيل الثَّالِث فَهُوَ صَحِيح وَمَا ذَكرُوهُ من تسديد الرَّمْي والرامي إِلَى دَار الْحَرْب فَلَا يلْزم وَذَلِكَ أَن القَاضِي أعزه الله إِن فرض الْكَلَام فِي هَذَا الْموضع فرضت الْكَلَام فِي الْغَالِب مِنْهَا وَالْعَام وَالْغَالِب أَن الْقَتْل الَّذِي يُوجب الْكَفَّارَة لَا يكون إِلَّا بِضَرْب من التَّفْرِيط فَإِن اتّفق فِي النَّادِر من يسدد الرَّمْي وَتحفظ ثمَّ يقتل من تجب الْكَفَّارَة بقتْله فَإِن ذَلِك نَادِر والنادر من الْجُمْلَة يلْحق بِالْجُمْلَةِ اعْتِبَارا بالغالب
وَأما النَّاسِي فَفِي حَقه ضرب من التَّفْرِيط وَهُوَ ترك الْحِفْظ لِأَنَّهُ كَانَ من سَبيله أَن يتحفظ فَلَا ينسى فَحَيْثُ لم يفعل ذَلِك حَتَّى نسي فَقتل أَوجَبْنَا عَلَيْهِ الْكَفَّارَة تَطْهِيرا لَهُ على أَنه قد قيل إِنَّه كَانَ فِي شرع من قبلنَا حكم النَّاسِي والعامد والنائم سَوَاء فرحم الله هَذِه الْأمة ببركة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرفع المأثم عَن النَّاسِي وَأوجب الْكَفَّارَة عَلَيْهِ بَدَلا عَن الْإِثْم فَلَا يجوز أَن تكون الْكَفَّارَة مَوْضُوعَة لرفع المأثم
وَأما قَوْله إِنَّه لَو حلف أَن لَا يُطِيع الله فَإنَّا نأمره بِالْحِنْثِ فَلَا يجوز أَن نأمره ثمَّ نوجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة على وَجه تَكْفِير الذَّنب فَلَا يَصح لِأَنِّي قد قدمت فِي صدر الْمَسْأَلَة من الْكَلَام مَا فِيهِ جَوَاب عَن هَذَا وَذَلِكَ أَن الْكَفَّارَة تجب لتكفير المأثم غير أَنه قد يكون من الْأَيْمَان مَا نقضهَا أولى من الْوَفَاء بهَا وَذَلِكَ أَن يحلف على مَا لَا يجوز من الْكفْر وَقتل الْوَالِدين وَغير ذَلِك من الْمعاصِي فَيكون الْأَفْضَل ارْتِكَاب أدنى الْأَمريْنِ وَهُوَ الْحِنْث والمخالفة لِأَنَّهُ يرجع من هَذَا الْإِثْم إِلَى مَا يكفره وَلَا يرجع فِي الآخر إِلَى مَا يكفره فَيجْعَل ارْتِكَاب الْحِنْث أولى لما فِي الارتكاب من الْإِثْم المغلظ وَالْعَذَاب الشَّديد وعَلى هَذَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليأت الَّذِي هُوَ خير وليكفر عَن يَمِينه)
مناظرة أُخْرَى بَين أبي الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة وَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ
اسْتدلَّ الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ الْحَنَفِيّ فِي المختلعة أَنه يلْحقهَا الطَّلَاق بِأَنَّهَا مُعْتَدَّة من طَلَاق فَجَاز أَن يلْحقهَا مَا بَقِي من عدد الطَّلَاق كالرجعية
فَكَلمهُ القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الشَّافِعِي وَأورد عَلَيْهِ فصلين أَحدهمَا أَنه قَالَ لَا تَأْثِير لِقَوْلِك مُعْتَدَّة من طَلَاق لِأَن الزَّوْجَة لَيست بمعتدة ويلحقها الطَّلَاق فَإِذا كَانَت الْمُعْتَدَّة وَالزَّوْجَة الَّتِي لَيست بمعتدة فِي لحاق الطَّلَاق سَوَاء ثَبت أَن قَوْلك الْمُعْتَدَّة
لَا تَأْثِير لَهُ وَلَا يتَعَلَّق الحكم بِهِ وَيكون تَعْلِيق الحكم على كَونهَا مُعْتَدَّة كتعليقه على كَونه متظاهرا مِنْهَا وموليا عَنْهَا وَلما لم يَصح تَعْلِيق طَلاقهَا على الْعدة كَانَ حَال الْعدة وَمَا قبلهَا سَوَاء وَمن زعم أَن الحكم يتَعَلَّق بذلك كَانَ مُحْتَاجا إِلَى دَلِيل يدل على تَعْلِيق الحكم بِهِ
وَأما الْفَصْل الثَّانِي فَإِن فِي الأَصْل أَنَّهَا زَوْجَة وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه يستبيح وَطأهَا من غير عقد جَدِيد فَجَاز أَن يلْحقهَا مَا بَقِي من عدد الطَّلَاق
وَفِي مَسْأَلَتنَا هَذِه لَيست بِزَوْجَة بِدَلِيل أَنه لَا يستبيح وَطأهَا من غير عقد جَدِيد فَهِيَ كالمطلقة قبل الدُّخُول
تكلم الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن على الْفَصْل الأول بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه قَالَ لَا يَخْلُو القَاضِي أيده الله تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْل من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون مطالبا بتصحيح الْعلَّة وَالدّلَالَة على صِحَّتهَا فَأَنا ألتزم بذلك وأدل لصِحَّته وَلكنه مُحْتَاج أَلا يخرج الْمُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة وَالدّلَالَة على صِحَّتهَا مخرج الْمُعْتَرض عَلَيْهَا بِعَدَمِ التَّأْثِير أَو يعْتَرض عَلَيْهَا بالإفساد من جِهَة عدم التَّأْثِير فَإِذا كَانَ الْإِلْزَام على هَذَا الْوَجْه لم يلْزم لِأَن أَكثر مَا فِي ذَلِك أَن هَذِه الْعلَّة لم تعم جَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي يثبت فِيهَا الطَّلَاق وَأَن الحكم يجوز أَن يثبت فِي مَوضِع مَعَ عدم هَذِه الْعلَّة وَهَذَا لَا يجوز أَن يكون قادحا فِي الْعلَّة مُفْسِدا لَهَا يبين صِحَة هَذَا أَن عِلّة الرِّبَا الَّتِي يضْرب بهَا الْأَمْثَال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع لَا تعم جَمِيع المعلولات لأَنا نجْعَل الْعلَّة فِي الْأَعْيَان الْأَرْبَعَة الْكَيْل مَعَ الْجِنْس ثمَّ نثبت الرِّبَا فِي الْأَثْمَان مَعَ عدم هَذِه الْعلَّة وَلم يقل أحد مِمَّن ذهب إِلَى أَن عِلّة الرِّبَا معنى وَاحِد إِن علتكم لَا تعم جَمِيع المعلولات وَلَا تتَنَاوَل جَمِيع الْأَعْيَان الَّتِي يتَعَلَّق بهَا تَحْرِيم التَّفَاضُل فَيجب أَن يكون ذَلِك مُوجبا لفسادها فَإِذا جَازَ لنا بالِاتِّفَاقِ منا ومنكم أَن نعلل الْأَعْيَان السِّتَّة بعلتين يُوجد الحكم مَعَ وجود كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمَعَ عدمهما وَلم يلْتَفت إِلَى قَول من قَالَ لنا إِن هَذِه الْعِلَل لَا تعم جَمِيع الْمَوَاضِع فَوَجَبَ أَن يكون قَاعِدَة وَجب أَن يكون فِي مَسْأَلَتنَا مثله
وَمَا أجَاب بِهِ القَاضِي الْجَلِيل عَن قَول هَذَا الْقَائِل فَهُوَ الَّذِي نجيب بِهِ عَن السُّؤَال الَّذِي ذكره وَأَيْضًا فَإِنِّي أدل على صِحَة الْعلَّة
وَالَّذِي يدل على صِحَّتهَا أننا أجمعنا على أَن الْأُصُول كلهَا معللة بعلل وَقد اتفقنا على أَن هَذَا الأَصْل الَّذِي هُوَ الرَّجْعِيَّة مُعَلل أَيْضا غير أننا اخْتَلَفْنَا فِي عينهَا فقلتم أَنْتُم إِن الْعلَّة فِيهَا بَقَاء الزَّوْجِيَّة
وَقُلْنَا الْعلَّة وجود الْعدة من طَلَاق وَمَعْلُوم أننا إِذا عللناه بِمَا ذكرْتُمْ من الزَّوْجِيَّة لم يَتَعَدَّ وَإِذا عللناه بِمَا ذكرته من الْعلَّة تعدت إِلَى المختلعة فَيجب أَن تكون الْعلَّة هِيَ المتعدية دون الْأُخْرَى
وَأما معارضتك فِي الأَصْل فَهِيَ عِلّة مدعاة وَيحْتَاج أَن يدل على صِحَّتهَا كَمَا طالبتني بِالدّلَالَةِ على صِحَة علتي

وَأما منع الْفَرْع فَلَا نسلم أَنَّهَا زَوْجَة فَإِن الطَّلَاق وضع لحل العقد وَمَا وضع للْحلّ إِذا وجد ارْتَفع العقد كَمَا قُلْنَا فِي فسخ سَائِر الْعُقُود
وَتكلم القَاضِي أَبُو الطّيب على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ قصدي بِمَا أوردتك من الْمُطَالبَة بتصحيح الْوَصْف والمطالبة فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ من جِهَة الشَّرْع وَأَن الحكم تَابع لَهُ غير أَنِّي كشفت عَن طَرِيق الشَّرْع لَهُ وَقلت لَهُ إِذا كَانَ الحكم يثبت مَعَ وجود هَذِه الْعلَّة وَيثبت مَعَ عدمهَا لم يكن ذَلِك عِلّة فِي الظَّاهِر إِلَّا أَن يدل الدَّلِيل على أَن هَذَا الْوَصْف مُؤثر فِي إِثْبَات هَذَا الحكم فِي الشَّرْع فَحِينَئِذٍ يجوز أَن يعلق الحكم عَلَيْهِ وَمَتى لم يدل الدَّلِيل على ذَلِك وَكَانَ الحكم ثَابتا مَعَ وجوده وَمَعَ علته وَلَيْسَ مَعَه مَا يدل على صِحَة اعْتِبَاره دلّ على أَنه لَيْسَ بعلة
وَأما مَا ذكره الشَّيْخ الْجَلِيل من عِلّة الرِّبَا وَقَوله إِنَّهَا أحد الْعِلَل فَلَيْسَ كَذَلِك بل هِيَ وَغَيرهَا من مَعَاني الْأُصُول سَوَاء فَلَا معنى لهَذَا الْكَلَام وَهُوَ حجَّة عَلَيْك وَذَلِكَ أَن النَّاس لما اخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَل وَادعت كل طَائِفَة معنى طلبُوا مَا يدل على صِحَة مَا ادعوهُ وَلم يقتصروا فِيهَا على مُجَرّد الدَّعْوَى فَكَانَ يجب أَن يعْمل فِي عِلّة الرَّجْعِيَّة مثل ذَلِك لِأَن هَذَا تَعْلِيل أصل مجمع عَلَيْهِ فَكَمَا وَجب الدّلَالَة على صِحَة عِلّة الرِّبَا وَلم يقتصروا فِيهَا على مُجَرّد الدَّعْوَى فَكَانَ يجب أَن يدل أَيْضا على صِحَة عِلّة الرَّجْعِيَّة
وَأما جَرَيَان الرِّبَا مَعَ الْأَثْمَان مَعَ عدم عِلّة الْأَرْبَعَة فعلة أُخْرَى تثبت بِالدَّلِيلِ وَهِي عِلّة الْأَثْمَان
وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فَلم يثبت كَون الْعدة عِلّة فِي فرع الطَّلَاق فَلم يَصح تَعْلِيق الحكم عَلَيْهَا

وَأما الْفَصْل الثَّانِي فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَنَّك ادعيت أَن الْأُصُول كلهَا معللة وَهِي دَعْوَى تحْتَاج أَن يدل عَلَيْهَا وَأَنا لَا أسلمه لِأَن الأَصْل الْمُعَلل عِنْدِي مَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل
وَأما كَلَام الشَّيْخ الْجَلِيل أيده الله تَعَالَى على الْفَصْل الثَّانِي فَإِن طالبتني بتصحيح الْعلَّة فَأَنا أدل على صِحَّتهَا وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه إِذا طلق امْرَأَة أَجْنَبِيَّة لم يتَعَلَّق بذلك حكم فَإِن عقد عَلَيْهَا وحصلت زَوْجَة لَهُ فَطلقهَا وَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق فَلَو طَلقهَا قبل الدُّخُول طَلْقَة ثمَّ طَلقهَا لم يلْحقهَا لِأَنَّهَا خرجت عَن الزَّوْجِيَّة فَلَو أَنه عَاد فَتَزَوجهَا ثمَّ طَلقهَا لحقه طَلْقَة فَدلَّ على الْعلَّة فَفِيهَا مَا ذكرت وَلَيْسَ فِي دَعْوَى علتك مثل هَذَا الدَّلِيل
وَأما إِنْكَاره لِمَعْنى الْفَرْع فَلَا يَصح لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن عِنْده أَن الطَّلَاق لَا يُفِيد أَكثر من نُقْصَان الْعدة وَلَا يزِيل الْملك فَهَذَا لَا يتَعَلَّق بِهِ تَحْرِيم الْوَطْء وَمن الْمحَال أَن يكون العقد مرتفعا وَيحل لَهُ وَطْؤُهَا
وَالثَّانِي أَنِّي أبطل هَذَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَو كَانَ قد ارْتَفع العقد لوَجَبَ أَن لَا يستبيح وَطأهَا إِلَّا بِعقد جَدِيد يُوجد بشرائطه من الشَّهَادَة وَالرِّضَا وَغير ذَلِك لِأَن الْحرَّة لَا تستباح إِلَّا بِنِكَاح وَلما أجمعنا على أَنه يستبيح وَطأهَا من غير عقد لأحد دلّ على أَن العقد بَاقٍ وَأَن الزَّوْجِيَّة ثَابِتَة
تكلم الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ أما قَوْلك إِنِّي مطَالب بِالدّلَالَةِ على صِحَة الْعلَّة فَلَا يَصح وَالْجمع بَين الْمُطَالبَة بِصِحَّة الْعلَّة وَعدم التَّأْثِير متناقض وَذَلِكَ أَن الْعلَّة إِمَّا أَن تكون مَقْطُوعًا بِكَوْنِهَا مُؤثرَة فَلَا يحْتَاج فِيهَا إِلَى الدّلَالَة على صِحَّتهَا لِأَن مَا يدل على صِحَّتهَا يدل على كَونهَا مُؤثرَة وَلَا يجوز أَن يرد الشَّرْع بتعليق حكم

على مَا لَا تَأْثِير لَهُ من الْمعَانِي وَإِنَّمَا ورد الشَّرْع بتعليق الحكم على الْمعَانِي المؤثرة فِي الحكم وَإِذا كَانَت الصُّورَة على هَذَا يجوز أَن يُقَال هَذَا لَا تَأْثِير لَهُ وَلَكِن دلّ على صِحَّته إِن كَانَت الْعلَّة مشكوكا فِي كَونهَا مُؤثرَة فِي الحكم لم يجز الْقطع على أَنَّهَا غير مُؤثرَة وَقد قطع القَاضِي أيده الله بِأَن هَذِه الْعلَّة غير مُؤثرَة فَبَان بِهَذِهِ الْجُمْلَة أَنه لَا يجوز أَن يعْتَرض عَلَيْهَا من جِهَة عدم التَّأْثِير وَيحكم بفسادها بِسَبَبِهِ ثمَّ تطالبني مَعَ هَذَا بتصحيحها لِأَن ذَلِك طلب محَال جدا
وَأما مَا ذكرت من عِلّة الرِّبَا فَهُوَ استشهاد صَحِيح
وَمَا ذكر من ذَلِك حجَّة عَليّ لِأَن كل من ادّعى عِلّة من الرِّبَا دلّ على صِحَّتهَا فَيجب أَن يكون هَاهُنَا مثله فَلَا يلْزم لِأَنِّي أمتنع من الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة بل أَقُول إِن كل عِلّة ادَّعَاهَا المسؤول فِي مَسْأَلَة من مسَائِل الْخلاف فطولب بِالدّلَالَةِ على صِحَّتهَا لزمَه إِقَامَة الدَّلِيل عَلَيْهَا وَإِنَّمَا امْتنع أَن يَجْعَل الطَّرِيق المسؤول لَهَا وجود الحكم مَعَ عدمهَا وَأَنَّهَا لَا تعم جَمِيع الْمَوَاضِع الَّتِي يثبت فِيهَا ذَلِك الحكم وَهُوَ أبقاه الله جعل الْمُفْسد لهَذِهِ الْعلَّة وجود نُفُوذ الطَّلَاق مَعَ عدم الْعلَّة وَذَلِكَ غير جَائِز كَمَا قُلْنَا فِي عِلّة الرِّبَا فِي الْأَعْيَان الْأَرْبَعَة إِنَّهَا تفقد وَيبقى الحكم
وَأما إِذا طالبتني بتصحيح الْعلَّة واقتصرت على ذَلِك فَإِنِّي أدل عَلَيْهَا كَمَا أدل على صِحَة الْعلَّة الَّتِي ادعيتها فِي مَسْأَلَة الرِّبَا
وَأما الْفضل الثَّانِي وَهُوَ الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة فَإِن القَاضِي أيده الله تعلق من كَلَامي بطرفه وَلم يتَعَرَّض لمقصوده وَذَلِكَ أَنِّي قلت إِن الْأُصُول كلهَا معللة وَإِن هَذَا الأَصْل مُعَلل بِالْإِجْمَاع بيني وَبَينه وَأما الِاخْتِلَاف فِي غير الْعلَّة فَيجب أَن يكون بِمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْعلَّة لِأَنَّهَا تتعدى فَترك الْكَلَام على هَذَا كُله وَأخذ يتَكَلَّم فِي أَن من الْأُصُول مَا لَا يُعلل وَأَنه لَا خلاف فِيهِ وَهَذَا لَا يَصح لِأَنَّهُ لَا خلاف أَن الْأُصُول كلهَا معللة وَإِن كَانَ فِي هَذَا خلاف فَأَنا أدل عَلَيْهِ
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هُوَ أَن الظَّوَاهِر الْوَارِدَة فِي جَوَاز الْقيَاس مُطلقَة وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَكَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ فَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر)
وعَلى أَنِّي قد خرجت من عَهده بِأَن قلت إِن الأَصْل الَّذِي تنازعنا عَلَيْهِ مُعَلل بِالْإِجْمَاع فَلَا يضرني مُخَالفَة من خَالفه فِي سَائِر الْأُصُول
وَأما الْمُعَارضَة فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يكون الْمَعْنى فِي الأَصْل مَا ذكرت من ملك النِّكَاح وَوُجُود الزَّوْجِيَّة يدل على ذَلِك أَن هَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا ينفذ طلاقهما فَثَبت أَن ذَلِك لَيْسَ بعلة وَإِنَّمَا الْعلَّة ملك إِيقَاع الطَّلَاق مَعَ وجود مَحل موقعه وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي المختلعة فَيجب أَن يلْحقهَا
وَأما معنى الْفَرْع فَلَا أسلمه
وَأما مَا ذكرت من إِبَاحَة الْوَطْء فَلَا يَصح لِأَنَّهُ يَطَؤُهَا وَهِي زَوْجَة لِأَنَّهُ يجوز لَهُ مراجعتها بِالْفِعْلِ فَإِذا ابْتَدَأَ الْمُبَاشرَة حصلت الرّجْعَة فصادفها الْوَطْء وَهِي زَوْجَة وَأما أَن يُبِيح وَطأهَا وَهِي خَارِجَة عَن الزَّوْجِيَّة فَلَا
وَأما قَوْله لَو كَانَ قد ارْتَفع العقد لوَجَبَ أَن لَا يستبيحها من غير عقد كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن بَاعَ عصيرا وَصَارَ فِي يَد البَائِع خمرًا ثمَّ تخَلّل إِن البيع يعود بَعْدَمَا ارْتَفع وعَلى أصلكم إِذا رهن عصيرا فَصَارَ خمرًا ارْتَفع الرَّهْن فَإِذا تخَلّل عَاد الرَّهْن وَكَذَلِكَ هَاهُنَا مثله
تكلم القَاضِي أَبُو الطّيب على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ لَيْسَ فِي الْجمع بَين الْمُطَالبَة بِالدَّلِيلِ على صِحَة الْعلَّة وَبَين عدم التَّأْثِير مناقضة وَذَلِكَ أَنى إِذا رَأَيْت الحكم ثَبت مَعَ وجود هَذِه الْعلَّة وَمَعَ عدمهَا على وَجه وَاحِد كَانَ الظَّاهِر أَن هَذَا لَيْسَ بعلة للْحكم إِلَّا أَن يظْهر دَلِيل على أَنه عِلّة فنصير إِلَيْهِ وَهَذَا كَمَا نقُول فِي الْقيَاس إِنَّه دَلِيل على الْأَحْكَام إِلَّا أَن يُعَارضهُ مَا هُوَ أقوى مِنْهُ فَيجب تَركه وَكَذَلِكَ خبر الْوَاحِد دَلِيل فِي الظَّاهِر يجب الْمصير إِلَيْهِ إِلَّا أَن يظْهر مَا هُوَ أقوى مِنْهُ من نَص قُرْآن أَو خبر متواتر فَيجب الْمصير إِلَيْهِ كَذَلِك هَاهُنَا الظَّاهِر بِمَا ذكرته أَنه دَلِيل على ذَلِك لَيْسَ بعلة إِلَّا أَن تقيم دَلِيلا على صِحَّته فنصير إِلَيْهِ
وَأما عِلّة الرِّبَا فقد عَاد الْكَلَام إِلَى هَذَا الْفَصْل الَّذِي ذكرت وَقد تَكَلَّمت عَلَيْهِ بِمَا يُغني عَن إِعَادَته
وَأما الْفَصْل الثَّانِي فقد تَكَلَّمت عَلَيْهِ بِمَا سَمِعت من كَلَام الشَّيْخ الْجَلِيل أيده الله وَهُوَ أَنه قَالَ الْأُصُول كلهَا معللة
وَأما هَذِه الزِّيَادَة فَالْآن سَمعتهَا وَأَنا أَتكَلّم على الْجَمِيع
وَأما دليلك على أَن الْأُصُول كلهَا معللة فَلَا يَصح لِأَن الظَّوَاهِر الَّتِي وَردت فِي جَوَاز الْقيَاس كلهَا حجَّة عَلَيْك لِأَنَّهَا وَردت بِالْأَمر بِالِاجْتِهَادِ فَمَا دلّ عَلَيْهِ الدَّلِيل فَهُوَ عِلّة يجب الحكم بهَا وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَن كل أصل مُعَلل
وَأما قَوْلك إِن هَذَا الأَصْل مجمع على تَعْلِيله وَقد اتفقنا على أَن الْعلَّة فِيهِ أحد الْمَعْنيين إِمَّا الْمَعْنى الَّذِي ذكرته وَإِمَّا الْمَعْنى الَّذِي ذكرته وَأَحَدهمَا يتَعَدَّى وَالْآخر لَا يتَعَدَّى فَيجب أَن تكون الْعلَّة فيهمَا مَا يتَعَدَّى فَلَا يَصح لِأَن اتفاقي مَعَك على أَن الْعلَّة أحد الْمَعْنيين لَا يَكْفِي فِي الدّلَالَة على صِحَة الْعلَّة وَأَن الحكم مُعَلّق بِهَذَا الْمَعْنى لِأَن إجماعنا لَيْسَ بِحجَّة لِأَنَّهُ يجوز الْخَطَأ علينا وَإِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِمَا يقطع عَلَيْهِ اتِّفَاق الْأمة الَّتِي أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعصمتها
وَأما قَوْلك إِن علتي متعدية فَلَا يَصح لِأَن التَّعَدِّي إِنَّمَا يذكر لترجيح إِحْدَى العلتين على الْأُخْرَى وَفِي ذَلِك نظر عِنْدِي أَيْضا وَأما أَن يسْتَدلّ بِالتَّعَدِّي على صِحَة الْعلَّة فَلَا وَلِهَذَا لم نحتج نَحن وَإِيَّاكُم على مَالك فِي عِلّة الرِّبَا علتنا تتعدى إِلَى مَا لَا تتعدى علته وَلَا ذكر أحد فِي تَصْحِيح عِلّة الرِّبَا ذَلِك فَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِهِ
وَأما فصل الْمُعَارضَة فَإِن الْعلَّة فِي الأَصْل مَا ذكرت
وَأما الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا يلزمان لِأَن التَّعْلِيل وَاقع لِكَوْنِهِمَا محلا لوُقُوع الطَّلَاق وَيجوز أَن يلحقهما الطَّلَاق وَلَيْسَ التَّعْلِيل للْوُجُوب فَيلْزم عَلَيْهِ الْمَجْنُون وَالصَّبِيّ وَهَذَا كَمَا نقُول إِن الْقَتْل عِلّة إِيجَاب الْقصاص ثمَّ نَحن نعلم أَن الصَّبِي لَا يسْتَوْفى مِنْهُ الْقصاص حَتَّى يبلغ وَامْتِنَاع اسْتِيفَائه من الصَّبِي وَالْمَجْنُون لَا يدل على أَن الْقَتْل لَيْسَ بعلة لإِيجَاب الْقصاص
كَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن تكون الْعلَّة فِي الرَّجْعِيَّة كَونهَا زَوْجَة فَإِن كَانَ لَا يلْحقهَا الطَّلَاق من جِهَة الصَّبِي لِأَن هَذَا إِن لزمني على اعْتِبَار الزَّوْجِيَّة لزمك على اعْتِبَار الِاعْتِدَاد لِأَنَّك جعلت الْعلَّة فِي وُقُوع الطَّلَاق كَونهَا مُعْتَدَّة وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي حق الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَلَا ينفذ طلاقهما ثمَّ لَا يدل ذَلِك على أَن ذَلِك لَيْسَ بعلة وكل جَوَاب لَهُ عَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون فِي اعْتِبَاره الْعدة فَهُوَ جَوَابنَا فِي اعْتِبَار الزَّوْجِيَّة

وَأما عِلّة الْفَرْع فصحيحة أَيْضا وإنكارك لَهَا لَا يَصح لما ثَبت أَن من أصلك أَن الطَّلَاق لَا يُفِيد أَكثر من نُقْصَان الْعدَد وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ جَوَاز وَطْء الرَّجْعِيَّة وَمَا زعمت من أَن الرّجْعَة تصح مِنْهُ بِالْمُبَاشرَةِ غلط لِأَنَّهُ يبتدىء بمباشرتها وَهِي أَجْنَبِيَّة فَكَانَ يجب أَن يكون ذَلِك محرما وَيكون تَحْرِيمه تَحْرِيم الزِّنَا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (العينان تزنيان وَالْيَدَانِ تزنيان وَيصدق ذَلِك الْفرج) وَلما قُلْتُمْ إِنَّه يجوز أَن يقدم على مباشرتها دلّ على أَنَّهَا بَاقِيَة على الزَّوْجِيَّة
وَأما مَا ذكرت من مَسْأَلَة الْعصير فَلَا يلْزم لِأَن الْعُقُود كلهَا لَا تعود معقودة إِلَّا بِعقد جَدِيد يبين صِحَة هَذَا البيع والإجارات وَالصُّلْح وَالشَّرِكَة والمضاربات وَسَائِر الْعُقُود فَإِذا كَانَت عَامَّة الْعُقُود على مَا ذَكرْنَاهُ من أَنَّهَا إِذا ارْتَفَعت لم تعد إِلَّا باستئناف أَمْثَالهَا لم يجز إبِْطَال هَذَا بِمَسْأَلَة شَاذَّة عَن الْأُصُول
وَهَذَا كَمَا قلت لأبي عبد الله الْجِرْجَانِيّ وَفرقت بَين إِزَالَة النَّجَاسَة وَالْوُضُوء بِأَن إِزَالَة النَّجَاسَة طريقها التروك والتروك مَوْضُوعَة على أَنَّهَا لَا تفْتَقر إِلَى النِّيَّة كَتَرْكِ الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر وَغير ذَلِك فألزمني على ذَلِك الصَّوْم فَقلت لَهُ غَالب التروك وعامتها مَوْضُوعَة على مَا ذكرت فَإِذا شَذَّ مِنْهَا وَاحِد لم ينْتَقض بِهِ غَالب الْأُصُول وَوَجَب رد الْمُخْتَلف فِيهِ إِلَى مَا شهد لَهُ عَامَّة الْأُصُول وغالبها لِأَنَّهُ أقوى فِي الظَّن
وعَلى أَن من أَصْحَابنَا من قَالَ إِن العقد لَا يَنْفَسِخ فِي الرَّهْن بل هُوَ مَوْقُوف مراعى فعلى هَذَا لَا أسلمه وَلِأَن أصل أبي حنيفَة أَن العقد لَا يَزُول وَالْملك لَا يرْتَفع
تكلم الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن على الْفَصْل الأول بِأَن قَالَ قد ثَبت أَن الْجمع بَين الْمُطَالبَة بتصحيح الْعلَّة وَعدم التَّأْثِير غير جَائِز
وَأما مَا ذكرت من أَن هَذَا دَلِيل مَا لم يظْهر مَا هُوَ أقوى مِنْهُ كَمَا نقُول فِي الْقيَاس وَخبر الْوَاحِد فَلَا يَصح وَذَلِكَ أَنا لَا نقُول إِن كل قِيَاس دَلِيل وَحجَّة فَإِذا حصل الْقيَاس فِي بعض الْمَوَاضِع فعارضه إِجْمَاع لم نقل إِن ذَلِك قِيَاس صَحِيح بل نقُول هُوَ قِيَاس بَاطِل وَكَذَلِكَ لَا نقُول إِن ذَلِك الْخَبَر حجَّة وَدَلِيل فَأَما القَاضِي أيده الله فقد قطع فِي هَذَا الْموضع بِأَن هَذَا لَا تَأْثِير لَهُ فَلَا يَصح مُطَالبَته بِالدَّلِيلِ على صِحَة الْعلَّة
وَأما الْفَصْل الآخر وَهُوَ الدّلَالَة على أَن الْأُصُول معللة فقد أعَاد فِيهِ مَا ذكره أَولا من وُرُود الظَّوَاهِر وَلم يزدْ عَلَيْهِ شَيْئا يحْكى
وَأما قَوْلك إِن إجماعي وَإِيَّاك لَيْسَ بِحجَّة فَإِنِّي لم أذكرهُ لِأَنِّي جعلته حجَّة وَإِنَّمَا ذكرت اتفاقنا لقطع الْمُنَازعَة
وَأما فصل التَّعَدِّي فَصَحِيح وَذَلِكَ أَنِّي ذكرت فِي الأَصْل عِلّة متعدية وَلَا خلاف أَن المتعدية يجوز أَن تكون عِلّة وعارضني أيده الله بعلة غير متعدية وَعِنْدِي أَن الواقفة لَيست بعلة وَعِنْده أَن المتعدية أولى من الواقفة فَلَا يجوز أَن يعارضني وَذَلِكَ يُوجب بَقَاء علتي على صِحَّتهَا
وَأما الْمُعَارضَة فَإِن قَوْلك إِن التَّعْلِيل للْجُوَاز كَمَا قُلْنَا فِي الْقصاص فَلَا يَصح لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عِلّة ملك إِيقَاع الطَّلَاق ملك النِّكَاح وَقد علمنَا أَن ملك الصَّبِي ثَابت وَجب إِيقَاع طَلَاقه فَإِذا لم يَقع دلّ على أَن ذَلِك الْعقل لَيْسَ بعلة وَأما الْقصاص فَلَا يلْزم لِأَن هُنَاكَ لما ثَبت لَهُ الْقصاص وَكَانَ الْقَتْل هُوَ الْعلَّة فِي وُجُوبه جَازَ أَن يسْتَوْفى لَهُ

لِأَن الْوَلِيّ يَسْتَوْفِي لَهُ الْقصاص وَكَانَ الْعقل هُوَ الْعلَّة
وَأما قَوْلك إِن مثل هَذَا يلْزم على علتي فَلَيْسَ كَذَلِك لِأَنِّي قلت مُعْتَدَّة من طَلَاق فَلَا يتَصَوَّر أَن يُطلق الصَّبِي فَتكون امْرَأَته مُعْتَدَّة من طَلَاق فألزمه القَاضِي الْمَجْنُون إِذا طلق امْرَأَته
وَمن الغرائب والفوائد عَن القَاضِي أبي الطّيب
حكى القَاضِي أَبُو الطّيب فِي التعليقة وَجها أَن الْقَضَاء سنة وَلَيْسَ بِفَرْض كِفَايَة
قَالَ ابْن الرّفْعَة لم أره لغيره
نقل النَّوَوِيّ رَحمَه الله فِي المنثورات أَن القَاضِي أَبَا الطّيب قَالَ فِي شرح الْفُرُوع إِن من صلى فَرِيضَة ثمَّ أدْركهَا فِي جمَاعَة فَصلاهَا ثمَّ تذكر أَنه نسي سَجْدَة من الصَّلَاة الأولى لزمَه أَن يُعِيدهَا لِأَن الأولى بترك السَّجْدَة قد بطلت وَلم يحْتَسب لَهُ بِمَا بعْدهَا لِأَن التَّرْتِيب مُسْتَحقّ فِي أَفعَال الصَّلَاة وَأَن ذَلِك لَا يتَخَرَّج على الْخلاف فِي أَن الأولى الْفَرْض أَو الثَّانِيَة
قلت وَهَذَا هُوَ الْفِقْه الَّذِي يَنْبَغِي غير أَنِّي لم أجد كَلَام القَاضِي أبي الطّيب فِي شرح الْفُرُوع صَرِيحًا فِي أَنه لَا يتَخَرَّج على الْخلاف بل قَالَ وَأما الثَّانِيَة فَلَا يحْتَسب بهَا لِأَنَّهُ فعلهَا بنية التَّطَوُّع ثمَّ قَالَ فَإِن قَالَ قَائِل أَلَيْسَ قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يحْتَسب الله بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَالْجَوَاب أَن أَبَا إِسْحَاق الْمروزِي قَالَ قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم لَا يُقَال إِن الله يحْتَسب مَا شَاءَ وَلم يقل إِن الثَّانِيَة يَفْعَلهَا بنية التَّطَوُّع وَرجع عَن هَذَا فِي الْجَدِيد وَقَالَ الأولى فَرْضه وَالثَّانيَِة سنة وَالْحَال فِيمَا يدل على أَن الثَّانِيَة سنة لَا فرض وَهَذَا الْكَلَام يدل على أَن من يمْنَع كَون الثَّانِيَة سنة يمْنَع لُزُوم الْإِعَادَة
وَفِي السُّؤَال الأول من فتاوي الْغَزالِيّ الْمَشْهُورَة مَا يَقْتَضِي النزاع من أَنه لَو صلى فِي بَيته ثمَّ أَتَى الْجَمَاعَة فَأَعَادَهَا ثمَّ بَان أَن الصَّلَاة الأولى كَانَت فَاسِدَة أَن الصَّلَاة الْمُعَادَة تُجزئه وَسكت عَلَيْهِ الْغَزالِيّ
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب فِي تعليقته فِي كتاب الشَّهَادَات فرع السَّائِل هَل تقبل شَهَادَته أَو لَا ينظر فَإِن كَانَ يسْأَل النَّاس من حَاجَة لم ترد شَهَادَته لِأَنَّهُ إِذا لم يكن لَهُ قُوَّة أَمر بالسؤال وَإِن كَانَ يسْأَل النَّاس من غير حَاجَة لم تقبل شَهَادَته لِأَنَّهُ يكذب فِي قَوْله إِنَّه مُحْتَاج لِأَنَّهُ لَو لم يقل ذَلِك لم يدْفع إِلَيْهِ شَيْء
وَأما إِذا كَانَ مِمَّن لَا يسْأَل وَلَكِن النَّاس يحملون إِلَيْهِ الصَّدقَات فَإِنَّهُ ينظر فَإِن كَانُوا يحملون إِلَيْهِ من الصَّدقَات النَّفْل والتطوع لم ترد شَهَادَته لِأَن ذَلِك يجْرِي مجْرى الهبات والهبات لَا تمنع من قبُول الشَّهَادَة
وَإِن كَانَت الصَّدقَات من الْفَرَائِض فَلَا يَخْلُو من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون غَنِيا أَو فَقِيرا فَإِن كَانَ فَقِيرا حل لَهُ ذَلِك وَقبلت شَهَادَته وَإِن كَانَ غَنِيا لم يخل من أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون جَاهِلا أَو عَالما فَإِن كَانَ جَاهِلا لَا يعلم أَنه لَا يجوز لَهُ أَخذ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة مَعَ الْغنى لم ترد شَهَادَته لِأَن ذَلِك خطأ وَالْخَطَأ لَا يُوجب رد الشَّهَادَة وَإِن كَانَ عَالما فَإِنَّهُ لَا تقبل شَهَادَته لِأَنَّهُ يَأْكُل مَالا حَرَامًا وَهُوَ مستغن عَنهُ وَله مستحقون غَيره
انْتهى بنصه وَلَفظه
وَهِي مسَائِل مُتَقَارِبَة شَهَادَة القانع وَقد قدمنَا الْكَلَام عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَة الْخطابِيّ وَهُوَ السَّائِل إِلَّا أَن الْكَلَام على شَهَادَته لأهل الْبَيْت الَّذين بيناهم لَا مُطلقًا وَشَهَادَة السَّائِل مُطلقًا وَشَهَادَة الطفيلي وَمن يختطف النثار فِي الأفراح

وَالْفرق بَين هَذِه الصُّور وَشَهَادَة القانع أَن المأخذ فِي منع شَهَادَة القانع عِنْد من منعهَا التُّهْمَة وجلب النَّفْع والمأخذ فِي هَذِه الْمسَائِل قلَّة الْمُرُوءَة أَو أكل مَا لَا يسْتَحق
وَقد جمع صَاحب الْبَحْر أَبُو المحاسن الرَّوْيَانِيّ هَذِه الْمسَائِل وَاقْتضى إِيرَاده أَنَّهَا منصوصات فَقَالَ فرع قَالَ فِي الْأُم وَمن ثَبت عَلَيْهِ أَنه يغشى الدعْوَة بِغَيْر دُعَاء من غير ضَرُورَة وَلَا يسْتَحل من صَاحب الطَّعَام وتتابع ذَلِك مِنْهُ ردَّتْ شَهَادَته لِأَنَّهُ يَأْكُل محرما إِذا كَانَت الدعْوَة دَعْوَة رجل بِعَيْنِه فَإِن كَانَ طَعَام سُلْطَان أَو رجل ينْسب للسُّلْطَان فَدَعَا النَّاس إِلَيْهِ فَهَذَا طَعَام عَام مُبَاح وَلَا بَأْس بِهِ
قَالَ أَصْحَابنَا إِنَّمَا اعْتبر تكَرر ذَلِك لِأَنَّهُ قد يكون لَهُ شُبْهَة حَيْثُ لم يمنعهُ صَاحب الطَّعَام وَإِذا تكَرر صَار دناءة وسفها
فرع قَالَ وَلَو ذهب مَال الرجل بجائحة حلت لَهُ الْمَسْأَلَة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي مصلحَة وَإِذا أَخذهَا لم أرد شَهَادَته لِأَنَّهُ يَأْخُذهَا بِحَق فَإِن كَانَ يسْأَل النَّاس طول عمره أَو بعضه وَهُوَ غَنِي لَا أقبل شَهَادَته لِأَنَّهُ يَأْخُذ الصَّدَقَة بِغَيْر حق ويكذب أبدا فَيَقُول إِنِّي مُحْتَاج
وَلَيْسَ بمحتاج فَإِن أعطي الصَّدَقَة من غير سُؤال ينظر فَإِن كَانَت صَدَقَة تطوع فَلَا بَأْس وَلَا ترد شَهَادَته وَإِن كَانَت صَدَقَة وَاجِبَة فَإِن لم يكن علم تَحْرِيمهَا فَلَا ترد وَإِن علم بتحريمها ردَّتْ شَهَادَته فرع وَإِذا نثر على النَّاس فِي الْفَرح فَأخذ من حضر لم يكن فِي هَذَا مَا يخرج عَن الشَّهَادَة لِأَن كثيرا يزْعم أَن هَذَا حَلَال مُبَاح لِأَن مَالِكه إِنَّمَا طَرحه لمن يَأْخُذهُ فَأَما أَنا فأكرهه لمن أَخذه من قبل أَنه يَأْخُذهُ من أَخذه وَلَا يَأْخُذهُ إِلَّا بِغَلَبَة لمن حَضَره إِمَّا بِفضل قُوَّة وَإِمَّا بِفضل قلَّة حَيَاء وَالْمَالِك لم يقْصد بِهِ قَصده وَإِنَّمَا قصد بِهِ الْجَمَاعَة فأكرهه
انْتهى لفظ الْبَحْر
والرافعي رَحمَه الله اقْتصر على مَسْأَلَة السَّائِل فَذكر أَن شَهَادَة الطّواف على الْأَبْوَاب وَسَائِر السُّؤَال تقبل شَهَادَتهم إِلَّا أَن يكثر الْكَذِب فِي دَعْوَى الْحَاجة وَهُوَ غير مُحْتَاج أَو يَأْخُذ مَا لَا يحل لَهُ أَخذه فيفسق قَالَ وَمُقْتَضى الْوَجْه الذَّاهِب إِلَى رد شَهَادَة أهل الْحَرْف رد شَهَادَته لدلالته على خسته
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب رَحمَه الله سَمِعت القَاضِي أَبَا الْفرج الْمعَافى بن زَكَرِيَّا رَحمَه الله يَقُول كنت أحضر مجْلِس أبي الْحسن بن أبي عمر يَوْم النّظر فَحَضَرت يَوْمًا أَنا وَجَمَاعَة بِالْبَابِ ننتظره ليخرج فَدخل أَعْرَابِي فَجَلَسَ بِالْقربِ منا وَإِذا بغراب سقط على نَخْلَة فِي الدَّار وَصَاح ثمَّ طَار فَقَالَ الْأَعرَابِي إِن هَذَا الْغُرَاب يَقُول إِن صَاحب هَذِه الدَّار يَمُوت بعد سَبْعَة أَيَّام قَالَ فصحنا عَلَيْهِ وزبرناه فَقَامَ وَانْصَرف ثمَّ دَخَلنَا إِلَى أبي الْحسن فَإِذا بِهِ متغير اللَّوْن فَقَالَ أحدثكُم بِأَمْر شغل بالي إِنِّي رَأَيْت البارحة فِي الْمَنَام شخصا وَهُوَ يَقُول
(منَازِل آل حَمَّاد بن زيد ... على أهليك وَالنعَم السَّلَام)

وَقد ضَاقَ صَدْرِي لذَلِك فدعونا لَهُ وانصرفنا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم السَّابِع توفّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى
وَالله أعلم

طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي