إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزاباذي جمال الدين

أبي إسحاق الشيرازي

تاريخ الولادة393 هـ
تاريخ الوفاة476 هـ
العمر83 سنة
مكان الولادةفيروز أباد - إيران
مكان الوفاةبغداد - العراق
أماكن الإقامة
  • خراسان - إيران
  • شيراز - إيران
  • فارس - إيران
  • فيروز أباد - إيران
  • نيسابور - إيران
  • البصرة - العراق
  • بغداد - العراق

نبذة

صَاحب التَّنْبِيه والمهذب فِي الْفِقْه والنكت فِي الْخلاف واللمع وَشَرحه والتبصرة فِي أصُول الْفِقْه والملخص والمعونة فِي الجدل وطبقات الْفُقَهَاء ونصح أهل الْعلم وَغير ذَلِك هُوَ الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ كمسير الشَّمْس ودارت الدُّنْيَا فَمَا جحد فَضلهَا إِلَّا الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بِلَا نحله وحلاوة تصانيف فَكَأَنَّمَا عناها البحتري بقوله (وَإِذا دجت أقلامه ثمَّ انتحت ... برقتْ مصابيح الدجى فِي كتبه)

الترجمة

إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن يُوسُف الفيروزاباذي بِكَسْر الْفَاء أَبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ

صَاحب التَّنْبِيه والمهذب فِي الْفِقْه والنكت فِي الْخلاف واللمع وَشَرحه والتبصرة فِي أصُول الْفِقْه والملخص والمعونة فِي الجدل وطبقات الْفُقَهَاء ونصح أهل الْعلم وَغير ذَلِك
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام صَاحب التصانيف الَّتِي سَارَتْ كمسير الشَّمْس ودارت الدُّنْيَا فَمَا جحد فَضلهَا إِلَّا الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس بعذوبة لفظ أحلى من الشهد بِلَا نحله وحلاوة تصانيف فَكَأَنَّمَا عناها البحتري بقوله
(وَإِذا دجت أقلامه ثمَّ انتحت ... برقتْ مصابيح الدجى فِي كتبه)
(بِاللَّفْظِ يقرب فهمه فِي بعده ... منا وَيبعد نيله فِي قربه)
(حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها فِي قلبه)
(فالروض مُخْتَلف بحمرة نوره ... وَبَيَاض زهرته وخضرة عشبه)
(وَكَأَنَّهَا والسمع مَعْقُود بهَا ... شخص الحبيب بدا لعين محبه)

وَقد كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفصاحة والمناظرة وَأقرب شَاهد على ذَلِك قَول سلار الْعقيلِيّ أوحد شعراء عصره
(كفاني إِذا عَن الْحَوَادِث صارم ... ينيلني المأمول بالإثر والأثر)
(يقد ويفرى فِي اللِّقَاء كَأَنَّهُ ... لِسَان أبي إِسْحَاق فِي مجْلِس النّظر)
وَكَانَت الطّلبَة ترحل من الْمشرق وَالْمغْرب إِلَيْهِ والفتاوي تحمل من الْبر وَالْبَحْر إِلَى بَين يَدَيْهِ وَالْفِقْه تتلاطم أمواج بحاره وَلَا يسْتَقرّ إِلَّا لَدَيْهِ ويتعاظم لابس شعاره إِلَّا عَلَيْهِ حَتَّى ذكرُوا أَنه كَانَ يجْرِي مجْرى ابْن سُرَيج فِي تأصيل الْفِقْه وتفريعه ويحاكيه فِي انتشار الطّلبَة فِي الرّبع العامر جَمِيعه
قَالَ حيدر بن مَحْمُود بن حيدر الشِّيرَازِيّ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يَقُول خرجت إِلَى خُرَاسَان فَمَا دخلت بَلْدَة وَلَا قَرْيَة إِلَّا وَكَانَ قاضيها أَو مفتيها أَو خطيبها تلميذي أَو من أَصْحَابِي
وَأما الجدل فَكَانَ ملكه الْآخِذ بزمامه وإمامه إِذا أَتَى كل وَاحِد بإمامه وَبدر سمائه الَّذِي لَا يغتاله النُّقْصَان عِنْد تَمَامه وَأما الْوَرع المتين وسلوك سَبِيل الْمُتَّقِينَ وَالْمَشْي على سنَن السَّادة السالفين فَذَلِك أشهر من أَن يذكرهُ الذاكر وَأكْثر من أَن يحاط لَهُ بِأول وَآخر لن يُنكر تقلب وَجهه فِي الساجدين وَلَا قِيَامه فِي جَوف الدجى وَكَيف والنجوم من جملَة الشَّاهِدين
(يهوى الدياجي إِذا الْمَغْرُور أغفلها ... كَأَن شهب الدياجي أعين نجل)
وَكَانَ يُقَال إِنَّه مستجاب الدعْوَة

وَقَالَ أَبُو بكر بن الخاضبة سَمِعت بعض أَصْحَاب أبي إِسْحَاق بِبَغْدَاد يَقُول كَانَ الشَّيْخ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْد فرَاغ كل فصل من الْمُهَذّب
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ إِنَّه سمع بَعضهم يَقُول دخل أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا مَسْجِدا ليتغدى فنسى دِينَارا ثمَّ ذكر فَرجع فَوَجَدَهُ ففكر ثمَّ قَالَ لَعَلَّه وَقع من غَيْرِي
فَتَركه
هَذَا هُوَ الزّهْد هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا وَهَذَا هُوَ الْوَرع وَليكن الْمَرْء هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا يؤمل من الْجنَّة آمالا وَهَذَا هُوَ خُلَاصَة النَّاس وَهَذَا هُوَ الْحلِيّ وَمَا يظنّ أَنه نَظِيره فَذَاك هُوَ الوسواس فَإِن كَانَ صَالح ترتجى بركاته فَهَذَا وَإِن كَانَ سيد يؤمل فِي الشدائد فحسبك هُوَ ملاذا وَإِن كَانَ تَقِيّ فَهَذَا الْعَمَل الأتقى وَإِن كَانَت مُوالَاة فلمثل هَذِه الشيم الَّتِي لَا يتجنبها إِلَّا الأشقى
ولد الشَّيْخ بفيروزاباذ وَهِي بليدَة بِفَارِس سنة ثَلَاث وَتِسْعين وثلاثمائة وَنَشَأ بهَا
ثمَّ دخل شيراز وَقَرَأَ الْفِقْه على أبي عبد الله الْبَيْضَاوِيّ وعَلى ابْن رامين صَاحِبي أبي الْقَاسِم الداركي تلميذ أبي إِسْحَاق الْمروزِي صَاحب ابْن سُرَيج
ثمَّ دخل الْبَصْرَة وَقَرَأَ الْفِقْه بهَا على الخرزي

ثمَّ دخل بَغْدَاد فِي سنة خمس عشرَة وَأَرْبَعمِائَة وَقَرَأَ على القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ ولازمه واشتهر بِهِ وَصَارَ أعظم أَصْحَابه ومعيد درسه

وَقَرَأَ الْأُصُول على أبي حَاتِم الْقزْوِينِي

وَقَرَأَ الْفِقْه أَيْضا على الزجاجي وَطَائِفَة آخَرين
وَمَا برح يدأب ويجهد حَتَّى صَار أنظر أهل زَمَانه وَفَارِس ميدانه والمقدم على أقرانه وامتدت إِلَيْهِ الْأَعْين وانتشر صيته فِي الْبلدَانِ ورحل إِلَيْهِ فِي كل مَكَان
وَلَقَد كَانَ اشْتِغَاله أول طلبه أمرا عجابا وَعَملا دَائِما يَقُول من شَاهده عجبا لهَذَا الْقلب والكبد كَيفَ مَا ذابا
يُقَال إِنَّه اشْتهى ثريدا بِمَاء الباقلاء قَالَ فَمَا صَحَّ لي أكله لاشتغالي بالدرس وأخذى النّوبَة
وَقَالَ لي كنت أُعِيد كل قِيَاس ألف مرّة فَإِذا فرغت مِنْهُ أخذت قِيَاسا آخر وَهَكَذَا وَكنت أُعِيد كل درس ألف مرّة فَإِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة بَيت يستشهد بِهِ حفظت القصيدة
وَسمع الشَّيْخ الحَدِيث بِبَغْدَاد من أبي بكر البرقاني وَأبي عَليّ بن شَاذان وَأبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَغَيرهم
روى عَنهُ الْخَطِيب وَأَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَبى نصر الْحميدِي وَأَبُو بكر بن الخاضبة وَأَبُو الْحسن بن عبد السَّلَام وَأَبُو الْقَاسِم بن السَّمرقَنْدِي وَأَبُو الْبَدْر بن الْكَرْخِي وَغَيرهم
وَكَانَ الشَّيْخ أَولا يدرس فِي مَسْجِد بِبَاب الْمَرَاتِب إِلَى أَن بنى لَهُ الْوَزير نظام الْمَالِك الْمدرسَة على شاطىء دجلة فانتقل إِلَيْهَا ودرس بهَا بعد تمنع شَدِيد فِي يَوْم السبت مستهل ذِي الْحجَّة سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة

قَالَ القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس الْجِرْجَانِيّ صَاحب المعاياة وَغَيرهَا كَانَ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ لَا يملك شَيْئا من الدُّنْيَا فَبلغ بِهِ الْفقر حَتَّى كَانَ لَا يجد قوتا وَلَا ملبسا
قَالَ وَلَقَد كُنَّا نأتيه وَهُوَ سَاكن فِي القطيعة فَيقوم لنا نصف قومة لَيْسَ يعتدل قَائِما من العرى كي لَا يظْهر مِنْهُ شَيْء
وَقيل كَانَ إِذا بَقِي مُدَّة لَا يَأْكُل شَيْئا جَاءَ إِلَى صديق لَهُ باقلاني فَكَانَ يثرد لَهُ رغيفا ويثريه بِمَاء الباقلاء فَرُبمَا أَتَاهُ وَكَانَ قد فرغ من بيع الباقلاء فيقف أَبُو إِسْحَاق وَيَقُول {تِلْكَ إِذا كرة خاسرة}
وَيرجع
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ البروجردي أخرج أَبُو إِسْحَاق يَوْمًا قرصين من بَيته فَقَالَ لبَعض أَصْحَابه وَكلتك فِي أَن تشتري لي الدبس والراشي بِهَذِهِ القرصة على وَجه هَذِه القرصة الْأُخْرَى
فَمضى الرجل وَشك بِأَيّ القرصين اشْترى فَمَا أكل الشَّيْخ ذَلِك وَقَالَ لَا أَدْرِي اشْترى الَّذِي وكلته أم بِالْأُخْرَى
وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْأنْصَارِيّ حملت يَوْمًا فتيا إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فرأيته وَهُوَ يمشي فَسلمت عَلَيْهِ فَمضى إِلَى دكان خباز وَأخذ قلمه ودواته مِنْهُ وَكتب الْجَواب فِي الْحَال وَمسح الْقَلَم فِي ثَوْبه وَأَعْطَانِي الْفَتْوَى
وَقد دخل الشَّيْخ خُرَاسَان وَعبر نيسابور وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتدى بِاللَّه تشوش من العميد أبي الْفَتْح بن أبي اللَّيْث فَدَعَا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق وشافهه بالشكوى مِنْهُ وَأَن أهل الْبَلَد حصل لَهُم الْأَذَى بِهِ وَأمره بِالْخرُوجِ إِلَى الْعَسْكَر وَشرح الْحَال بَين يَدي السُّلْطَان وَبَين يدى الْوَزير نظام الْملك فَتوجه الشَّيْخ وَمَعَهُ جمال الدولة عفيف وَهُوَ خَادِم من خدام الْخَلِيفَة

قَالَ أَبُو الْحسن الهمذاني وَكَانَ عِنْد وُصُوله إِلَى بِلَاد الْعَجم يخرج أَهلهَا بنسائهم وَأَوْلَادهمْ فيمسحون أَرْكَانه وَيَأْخُذُونَ تُرَاب نَعْلَيْه يستشفون بِهِ وَكَانَ يخرج من كل بلد أَصْحَاب الصَّنَائِع بصنائعهم وينثرونها مَا بَين حلوى وَفَاكِهَة وَثيَاب وفرا وَغير ذَلِك وَهُوَ ينهاهم حَتَّى انْتَهوا إِلَى الأساكفة فَجعلُوا ينثرون المتاعات وَهِي تقع على رُؤُوس النَّاس وَالشَّيْخ يتعجب
وَلما انْتَهوا جعل الشَّيْخ يداعب أَصْحَابه وَيَقُول رَأَيْتُمْ النثار مَا أحْسنه وأيش وصل إِلَيْكُم يَا أَوْلَادِي مِنْهُ قلت وَكَانَ مِمَّن صَحبه فِي هَذِه السفرة من أَصْحَابه فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي وَالْحُسَيْن بن عَليّ الطَّبَرِيّ صَاحب الْعدة وَابْن بَيَان والميانجي وَأَبُو معَاذ والبندليني وَأَبُو ثَعْلَب الوَاسِطِيّ وَعبد الْملك الشابرخواستي وَأَبُو الْحسن الْآمِدِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الزنجاني وَأَبُو عَليّ الفارقي وَأَبُو الْعَبَّاس بن الرطبي وَغَيرهم
قلت وَخرج إِلَيْهِ صوفيات الْبَلَد وَمَا فِيهِنَّ إِلَّا من مَعهَا سبْحَة وألقين الْجَمِيع إِلَى المحفة وَكَانَ قصدهن أَن يلمسها فَتحصل لَهُنَّ الْبركَة فَجعل يمرها على يَدَيْهِ وَجَسَده ويتبرك بِهن ويقصد فِي حقهن مَا قصدن فِي حَقه وَكَانَ هَذَا الْحَال بساوة من بِلَاد الْعَجم
وَلما بلغ بسطَام قيل للشَّيْخ قد أَتَى فلَان الصُّوفِي فَنَهَضَ الشَّيْخ من مَكَانَهُ وَعدا إِلَيْهِ وَإِذا بِهِ شيخ كَبِير هم وَهُوَ رَاكب بَهِيمَة وَخَلفه خلق من الصُّوفِيَّة بمرقعات جميلَة فَقيل لَهُ قد أَتَاك الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فَرمى نَفسه عَن الْبَهِيمَة وَقبل يَده وَقبل الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رجله وَقَالَ لَهُ الصُّوفِي قتلتني يَا سَيِّدي فَمَا يمكنني أَمْشِي مَعَك وَلَكِن تتقدم إِلَى مجلسك وَلما وصل جلس الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق بَين يَدَيْهِ وَأظْهر كل وَاحِد مِنْهُمَا من تَعْظِيم صَاحبه مَا جَاوز الْحَد ثمَّ أخرج الصُّوفِي خرقتين فِي إِحْدَاهمَا حِنْطَة وَقَالَ هَذِه حِنْطَة نتوارثها عَن أبي يزِيد البسطامي وَفِي الْأُخْرَى ملح فأعجب الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق ذَلِك وودعه وَانْصَرف
قَالَ ابْن الهمذاني وحَدثني الشَّيْخ أَبُو الْفَضَائِل أَن ابْن بَيَان مدرس الْبَصْرَة قَالَ هَذَا الشَّيْخ الصُّوفِي الَّذِي قصد الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يعرف بالسهلكي وَحكى فِي ذَلِك الْمجْلس أَن هَذِه الْبَلدة يَعْنِي بَلْدَة بسطَام لَا تَخْلُو من ولي لله فَكَانُوا يرَوْنَ أَن الْولَايَة انْتَهَت إِلَيْهِ ثمَّ إِن الشَّيْخ دخل نيسابور وتلقاه أَهلهَا على الْعَادة المألوفة مِمَّن وَرَاءَهُمْ من بِلَاد خُرَاسَان وَحمل شيخ الْبَلَد إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ غاشيته وَمَشى بَين يَدَيْهِ كالخديم وَقَالَ أفتخر بِهَذَا
وتناظر هُوَ وإياه فِي مسَائِل انْتهى إِلَيْنَا بَعْضهَا
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق غضنفرا فِي المناظرة لَا يصطلى لَهُ بِنَار
وَقد قيل إِنَّه كَانَ يحفظ مسَائِل الْخلاف كَمَا يحفظ أحدكُم الْفَاتِحَة
وَقيل إِن سَبَب تصنيفه الْمُهَذّب أَنه بلغه أَن ابْن الصّباغ قَالَ إِذا اصْطلحَ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة ذهب علم أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ يَعْنِي أَن علمه هُوَ مسَائِل الْخلاف بَينهمَا فَإِذا اتفقَا ارْتَفع فصنف الشَّيْخ حِينَئِذٍ الْمُهَذّب
حكى ذَلِك ابْن سَمُرَة فِي طَبَقَات اليمنيين وَذكر أَن الشَّيْخ صنف الْمُهَذّب مرَارًا فَلَمَّا لم يُوَافق مَقْصُوده رمى بِهِ فِي دجلة وَأجْمع رَأْيه على هَذِه النُّسْخَة الْمجمع عَلَيْهَا
ثمَّ عَاد الشَّيْخ إِلَى بَغْدَاد وصحبته كتب السُّلْطَان الْأَعْظَم ملكشاه بن السُّلْطَان ألب أرسلان السلجوقي والوزير نظام الْملك
قلت وأظن الشَّيْخ فِي هَذِه السفرة خطب للخليفة بنت السُّلْطَان وَكَانَ السفير فِي ذَلِك وَمَا أرَاهُ إِلَّا فِي هَذِه السفرة فَتزَوج بهَا الْخَلِيفَة وأولدها جعفرا وَكَانَ قَصده بِهَذَا التَّقَرُّب إِلَى خاطر ملكشاه فَلم يزده ذَلِك إِلَّا بعدا وَتغَير عَلَيْهِ خاطر السُّلْطَان ملكشاه بعد زمن قريب وَكَانَ قد جعل وَلَده المستظهر بِاللَّه ولي الْعَهْد فألزمه أَن يعزله وَيجْعَل ابْن بنته جعفرا ولي الْعَهْد وَأَن يسلم بَغْدَاد إِلَى السُّلْطَان وَيخرج إِلَى الْبَصْرَة فشق ذَلِك على الْخَلِيفَة وَبَالغ فِي استنزال السُّلْطَان ملكشاه عَن هَذَا الرَّأْي فَأبى فاستمهله عشرَة أَيَّام ليتجهز فَقيل أَنه جعل يَصُوم ويطوي وَإِذا أفطر جلس على الرماد وَيَدْعُو على ملكشاه فَلم يفلح ملكشاه بل مَاتَ بعد أَيَّام يسيرَة وَلم يتم لَهُ شَيْء مِمَّا أَرَادَهُ
وَكَانَ هَذَا الْخَلِيفَة الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله كَبِير الإجلال للشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق سَببا فِي جعله خَليفَة
قَالَ ابْن سَمُرَة قَالَ القَاضِي طَاهِر بن يحيى قلت هُوَ ابْن صَاحب الْبَيَان وَكَانَ مَعَ الزّهْد المتين والورع الشَّديد طلق الْوَجْه دَائِم الْبشر حسن المجالسة مليح المحاورة يحْكى الحكايات الْحَسَنَة والأشعار المليحة ويحفظ مِنْهَا كثيرا وَرُبمَا أنْشد على البديهة لنَفسِهِ مثل قَوْله مرّة لِخَادِمِهِ فِي الْمدرسَة النظامية أبي طَاهِر بن شَيبَان بن مُحَمَّد الدِّمَشْقِي
(وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو طَاهِر ... جمالنا فِي السِّرّ وَالظَّاهِر)
وَمِنْه قَوْله وَهُوَ ماش فِي الوحل يَوْمًا وَقد أَكثر الإنشاد من الْأَشْعَار فَقَالَ
(إنشادنا الْأَشْعَار فِي الوحل ... هَذَا لعمري غَايَة الْجَهْل)
قَالَ تِلْمِيذه عَليّ بن حسكويه وَكَانَ مَعَه يَا سَيِّدي بل هَذَا لعمري غَايَة الْفضل
وَقَالَ عَليّ بن حسكويه اجْتمع الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق والرئيس أَبُو الْخطاب عَليّ بن عبد الرَّحْمَن فَأتيَا بثلجية فِيهَا مَاء بَارِد فَأَنْشَأَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق قَوْله
(ممنع وَهُوَ فِي الثلاج ... فَكيف لَو كَانَ فِي الزّجاج)
فَأَجَابَهُ الرئيس أَبُو الْخطاب
(مَاء صفا رقة وطيبا ... لَيْسَ بملح وَلَا أجاج)

وَحكى أَبُو نصر أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد القاهر خطيب الْموصل قَالَ لما جِئْت إِلَى بَغْدَاد قَاصِدا الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق رحب بِي وَقَالَ من أَي الْبِلَاد أَنْت فَقلت من الْموصل
فَقَالَ مرْحَبًا بلديى
فَقلت يَا سيدنَا أَنا من الْموصل وَأَنت من فيروزاباذ
فَقَالَ يَا وَلَدي أما جمعتنَا سفينة نوح وَله أدب أعذب من الزلَال مازجته المدام وأزهر من الرَّوْض باكره مَاء الْغَمَام وأبهى من المنثور هَذَا مَعَ أَنه لَا يَتلون وأزهى من صفحات الخدود وَإِن كَانَ آس العذار على جَوَانِب ورده تكون لَو سَمعه ديك الْجِنّ لصاح كَأَنَّهُ مصروع وَلَو تَأمل مقاطيعة ابْن قلاقس لأصبح وَهُوَ ذُو قلب مَقْطُوع فَمِنْهُ
(سَأَلت النَّاس عَن خل وَفِي ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيل)
(تمسك إِن ظَفرت بود حر ... فَإِن الْحر فِي الدُّنْيَا قَلِيل)
وَمِنْه
(إِذا تخلفت عَن صديق ... وَلم يعاتبك فِي التَّخَلُّف)
(فَلَا تعد بعْدهَا إِلَيْهِ ... فَإِنَّمَا وده تكلّف)

وَمِنْه فِي غريق
(غريق كَأَن الْمَوْت رق لفقده ... فلَان لَهُ فِي صُورَة المَاء جَانِبه)
(أَبى الله أَن أنساه دهري لِأَنَّهُ ... توفاه فِي المَاء الَّذِي أَنا شَاربه)
وَمِنْه أَيْضا
(لبست ثوب الرجا وَالنَّاس قد رقدوا ... وَقمت أَشْكُو إِلَى مولَايَ مَا أجد)
(وَقلت يَا عدتي فِي كل نائبة ... وَمن عَلَيْهِ لكشف الضّر أعْتَمد)
(أَشْكُو إِلَيْك أمورا أَنْت تعلمهَا ... مَالِي على حملهَا صَبر وَلَا جلد)
(وَقد مددت يَدي بالضر مبتهلا ... إِلَيْك يَا خير من مدت إِلَيْهِ يَد)
(فَلَا تردنها يَا رب خائبة ... فبحر جودك يروي كل من يرد)
قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي كِتَابه فِي القَوْل فِي النُّجُوم أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الفيروزابادي لنَفسِهِ
(حَكِيم رأى أَن النُّجُوم حَقِيقَة ... وَيذْهب فِي أَحْكَامهَا كل مَذْهَب)
(يخبر عَن أفلاكها وبروجها ... وَمَا عِنْده علم بِمَا فِي المغيب)
وَحكي أَن الشَّيْخ قَالَ كنت نَائِما فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وَمَعَهُ صَاحِبَاه أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا فَقلت يَا رَسُول الله بَلغنِي عَنْك أَحَادِيث كَثِيرَة عَن ناقلي الْأَخْبَار فَأُرِيد أَن أسمع مِنْك خَبرا أتشرف بِهِ فِي الدُّنْيَا وأجعله ذخيرة فِي الْآخِرَة

فَقَالَ لي يَا شيخ وسماني شَيخا وخاطبني بِهِ وَكَانَ الشَّيْخ يفرح بِهَذَا وَيَقُول سماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيخا
قَالَ الشَّيْخ ثمَّ قَالَ لي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَرَادَ السَّلامَة فليطلبها فِي سَلامَة غَيره
قلت وَمثل هَذِه الْحِكَايَة حِكَايَة شَيْخه القَاضِي أبي الطّيب فِي رُؤْيَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام وتسميته إِيَّاه فَقِيها وَكَانَ القَاضِي أَيْضا يفتخر بذلك
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يَقُول من قَرَأَ عَليّ مَسْأَلَة فَهُوَ وَلَدي
وَيَقُول الْعَوام ينسبون بالأولاد والأغنياء بالأموال وَالْعُلَمَاء بِالْعلمِ
وَكَانَ يَقُول الْعلم الَّذِي لَا ينْتَفع بِهِ صَاحبه أَن يكون الرجل عَالما وَلَا يكون عَاملا
وينشد لنَفسِهِ
(علمت مَا حلل الْمولى وَحرمه ... فاعمل بعلمك إِن الْعلم بِالْعَمَلِ)
وَكَانَ يَقُول الْجَاهِل بالعالم يَقْتَدِي فَإِذا كَانَ الْعَالم لَا يعْمل بِعِلْمِهِ فالجاهل مَا يَرْجُو من نَفسه فَالله الله يَا أَوْلَادِي نَعُوذ بِاللَّه من علم يصير حجَّة علينا
وَكَانَ يمشي بعض أَصْحَابه مَعَه فِي طَرِيق فَعرض لَهما كلب فَقَالَ الْفَقِيه لذَلِك الْكَلْب اخْسَأْ وزجره فَنَهَاهُ الشَّيْخ وَقَالَ لم طردته عَن الطَّرِيق أما علمت أَن الطَّرِيق بيني وَبَينه مُشْتَرك
ومنام الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن نصر بن كاكا المؤيدي مَشْهُور وَهُوَ مَا ذكره فَقَالَ رَأَيْت فِي الْعشْر الْأَوْسَط من الْمحرم سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة لَيْلَة الْجُمُعَة الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق طول الله عمره فِي مَنَامِي يطير مَعَ أَصْحَابه فِي السَّمَاء الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة فتحيرت فِي نَفسِي وَقلت هَذَا هُوَ الشَّيْخ الإِمَام مَعَ أَصْحَابه يطير وَأَنا مَعَهم استعظاما لتِلْك الْحَال والرؤية فَكنت فِي هَذِه الفكرة إِذْ تلقى الشَّيْخ الإِمَام ملك وَسلم عَلَيْهِ عَن الله تبَارك وَتَعَالَى وَقَالَ لَهُ إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول مَاذَا تدرس لأصحابك فَقَالَ الشَّيْخ أدرس مَا نقل عَن صَاحب الشَّرْع
فَقَالَ لَهُ الْملك فاقرأ عَليّ شَيْئا من ذَلِك لأسمعه
فَقَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخ مَسْأَلَة لَا أذكرها
فاستمع لَهُ الْملك وَانْصَرف
وَأخذ الشَّيْخ يطير وَأَصْحَابه مَعَه فَرجع الْملك بعد سَاعَة وَقَالَ للشَّيْخ إِن الله تَعَالَى يَقُول الْحق مَا أَنْت عَلَيْهِ وَأَصْحَابك فَادْخُلْ الْجنَّة مَعَهم
وَكَانَ الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ بن حَامِد الشَّاشِي يَقُول الشَّيْخ الشِّيرَازِيّ حجَّة الله على أَئِمَّة الْعَصْر
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب الْحَاوِي وَقد اجْتمع بالشيخ وَسمع كَلَامه فِي مَسْأَلَة مَا رَأَيْت كَأبي إِسْحَاق لَو رَآهُ الشَّافِعِي لتجمل بِهِ
وَقَالَ الْمُوفق الْحَنَفِيّ إِمَام أَصْحَاب الرَّأْي أَبُو إِسْحَاق إِمَام الْمُؤمنِينَ فِي الْفُقَهَاء
وَكَانَ عميد الدولة بن جهير الْوَزير يَقُول هُوَ وحيد عصره وفريد دهره مستجاب الدعْوَة
وَقَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماهاني إمامان مَا اتّفق لَهما الْحَج الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وقاضي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مَا كَانَ لَهُ استطاعة الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَكِن لَو أَرَادَ الْحَج لحملوه على الأحداق إِلَى مَكَّة والدامغاني لَو أَرَادَ أَن يحجّ على السندس والإستبرق لأمكنه ذَلِك

وَكَانَ الشَّيْخ إِذا أَخطَأ بَين يَدَيْهِ المباحث فِي كلمة قَالَ أَي سكتة فاتتك وَرُبمَا تكلم فِي مَسْأَلَة فَسَأَلَهُ السَّائِل سؤالا غير مُتَوَجّه فَيَقُول
(سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا ... شتان بَين مشرق ومغرب)
قَالَ أَبُو البركات عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك الْأنمَاطِي كَانَ الشَّيْخ يتَوَضَّأ فِي الشط فَنزل المشرعة يَوْمًا وَكَانَ يشك فِي غسل وَجهه ويكرر حَتَّى غسل نوبا عدَّة فوصل إِلَيْهِ بعض الْعَوام وَقَالَ لَهُ يَا شيخ أما تَسْتَحي تغسل وَجهك كَذَا وَكَذَا نوبَة وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من زَاد على الثَّلَاث فقد أسرف) فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
فَمضى وخلاه فَقَالَ لَهُ وَاحِد أيش قلت لذَلِك الشَّيْخ الَّذِي كَانَ يتَوَضَّأ فَقَالَ الرجل ذَاك شيخ موسوس قلت لَهُ كَذَا على كَذَا
فَقَالَ لَهُ يَا رجل أما تعرفه فَقَالَ لَا
قَالَ ذَاك إِمَام الدُّنْيَا وَشَيخ الْمُسلمين ومفتي أَصْحَاب الشَّافِعِي
فَرجع ذَلِك الرجل خجلا إِلَى الشَّيْخ وَقَالَ يَا سَيِّدي تعذرني فَإِنِّي قد أَخْطَأت وَمَا عرفتك
فَقَالَ الشَّيْخ الَّذِي قلت صَحِيح فَإِنَّهُ لَا يجوز الزِّيَادَة على الثَّلَاث وَالَّذِي أَجَبْتُك بِهِ أَيْضا صَحِيح لَو صَحَّ لي الثَّلَاث مَا زِدْت عَلَيْهَا
كتب إِلَيّ أَحْمد بن أبي طَالب عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحَافِظ أَن عبد الْوَهَّاب بن عَليّ أنبأه عَن أبي صَالح عبد الصَّمد بن عَليّ الْفَقِيه أَن أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن الخاضبة قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق يَقُول لَو عرض هَذَا الْكتاب الَّذِي صنفته وَهُوَ الْمُهَذّب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَالَ هَذَا شريعتي الَّتِي أمرت بهَا أمتِي
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن الشّحْنَة إِذْنا أَن الْحَافِظ أَبَا عبد الله الْبَغْدَادِيّ قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ النَّسَائِيّ بأصبهان يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الرشيد بن مُحَمَّد يَقُول سَمِعت الْحسن بن الْعَبَّاس الرستمي يَقُول سَمِعت الْحسن الطَّبَرِيّ الإِمَام يَقُول سَمِعت صَوتا من الْكَعْبَة أَو من جَوف الْكَعْبَة من أَرَادَ أَن يتَنَبَّه فِي الدّين فَعَلَيهِ بالتنبيه
توفّي فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الْأَرْبَعَاء الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وغسله أَبُو الْوَفَاء بن عقيل الْحَنْبَلِيّ
وَدفن من الْغَد بمقبرة بَاب حَرْب
وَمن الرِّوَايَات والفوائد عَنهُ
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الْأَشْعَرِيّ الْحَافِظ قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا يُوسُف بن مُحَمَّد بن عبد الله بن المهتار سَمَاعا أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْمُبَارك بن ماسويه أخبرنَا أَبُو الْخَيْر مَسْعُود بن عَليّ بن صَدَقَة بن مطرز الخباز قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْكَرم خَمِيس بن عَليّ بن أَحْمد الْحَوْزِيِّ إملاء بواسط أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ ابْن يُوسُف شيخ الشافعيين بِبَغْدَاد حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب البرقاني حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان النَّيْسَابُورِي الْحَافِظ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجي حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الإسْكَنْدراني عَن مُوسَى بن عقبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر قَالَ كَانَ من دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من زَوَال نِعْمَتك وتحول عافيتك وَمن فَجْأَة نقمتك وَمن جَمِيع سخطك وغضبك)
صَحِيح انْفَرد مُسلم بِإِخْرَاجِهِ فِي صَحِيحه عَن أبي زرْعَة الرَّازِيّ الْحَافِظ عَن يحيى ابْن عبد الله بن بكير كَمَا أخرجناه وَلَيْسَ لمُسلم عَن أبي زرْعَة فِي صَحِيحه سوى هَذَا الحَدِيث والبوشنجي وَهُوَ الإِمَام أَبُو عبد الله تقدم فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة
أخبرنَا أَحْمد بن المظفر الْحَافِظ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ أخبرنَا القَاضِي أَبُو الْفضل سُلَيْمَان بن أَحْمد الْمَقْدِسِي بِقِرَاءَتِي أخبرنَا الْحَافِظ الضياء مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْفضل بن الْقَاسِم أَنبأَنَا الإِمَام أَبُو سعد إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ أبي صَالح أَحْمد بن عبد الْملك النَّيْسَابُورِي نزيل كرمان أخبرنَا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الشِّيرَازِيّ أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب الْحَافِظ أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد بن حمدَان حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا همام قَالَ سَمِعت إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة يَقُول سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول (إِن عبدا أذْنب ذَنبا فَقَالَ أَي رب أذنبت ذَنبا فَاغْفِر لي فَقَالَ الله تَعَالَى علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر ثمَّ قَالَ أَي رب أذنبت ذَنبا فَاغْفِر لي فَقَالَ ربه علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي
حَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا عَن أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر أَن أَبَا المظفر ابْن السَّمْعَانِيّ أنبأه قَالَ أخبرنَا أبي الْحَافِظ أَبُو سعد أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن عبد الرَّزَّاق الزَّعْفَرَانِي إجَازَة وأنشدنا عَنهُ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن الْإِصْطَخْرِي الْفَقِيه قَالَ أنشدنا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ بِبَغْدَاد وَلم يسم قَائِلا
(صبرت على بعض الْأَذَى خوف كُله ... وألزمت نَفسِي صبرها فاستقرت)
(وجرعتها الْمَكْرُوه حَتَّى تدربت ... وَلَو حَملته جملَة لاشمأزت)
(فيا رب عز جر للنَّفس ذلة ... وَيَا رب نفس بالتذلل عزت)
(وَمَا الْعِزّ إِلَّا خيفة الله وَحده ... وَمن خَافَ مِنْهُ خافه مَا أقلت)
(فيا صدق نَفسِي إِن فِي الصدْق حَاجَتي ... فأرضى بدنياي وَإِن هِيَ قلت)
(وأهجر أَبْوَاب الْمُلُوك فإنني ... أرى الْحِرْص جلابا لكل مذلة)

 (إِذا مَا مددت الْكَفّ ألتمس الْغنى ... إِلَى غير من قَالَ اسألوني فشلت)
(إِذا طرقتني الحادثات بنكبة ... تذكرت مَا عوقبت مِنْهُ فَقلت)
(وَمَا نكبة إِلَّا وَللَّه منَّة ... إِذا قابلتها أَدْبَرت واضمحلت)
(تبَارك رزاق الْبَريَّة كلهَا ... على مَا أَرَادَ لَا على مَا اسْتحقَّت)
(فكم عَاقل لَا يستبيت وجاهل ... ترقت بِهِ أَحْوَاله وتعلت)
(وَكم من جليل لَا يرام حجابه ... بدار غرور أَدْبَرت وتولت)
(تشوب القذى بالصفو والصفو بالقذى ... وَلَو أَحْسَنت فِي كل حَال لملت)
قلت قَوْله تبَارك رزاق الْبَريَّة الْبَيْتَيْنِ أصدق من قَول أبي الْعَلَاء المعري
(كم عَاقل عَاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جَاهِل تَلقاهُ مرزوقا)
(هَذَا الَّذِي ترك الأوهام حائرة ... وصير الْعَالم النحرير زنديقا)
فقبحه الله مَا أجرأه على الله عزوجل وَقد أحسن الَّذِي قَالَ نقصضا عَلَيْهِ
(كم عَاقل عَاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جَاهِل شعْبَان ريانا)
(هَذَا الَّذِي زَاد أهل الْكفْر لَا سلمُوا ... كفرا وَزَاد أولي الْإِيمَان إِيمَانًا)
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس النابلسي الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا عَن أَحْمد بن هبة الله عَن عبد الرَّحِيم وَعبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن مَنْصُور أَن أَبَاهُ أخبرهُ قَالَ أنشدنا أَبُو المظفر شبيب بن الْحُسَيْن القَاضِي إملاء ببروجرد أنشدنا الإِمَام الْكَبِير أَبُو إِسْحَاق الفيروزابادي أَنْشدني الْمُطَرز الْبَغْدَادِيّ لنَفسِهِ

 (وَلما وقفنا بالضراب عَشِيَّة ... حيارى لتوديع ورد سَلام)
(وقفنا على رغم الحسود وكلنَا ... نفض عَن الأثواب كل ختام)
(وسوغني عِنْد الْوَدَاع عناقه ... فَلَمَّا رأى وجدي بِهِ وغرامي)
(تلثم مُرْتَابا بِفضل رِدَائه ... فَقلت هِلَال بعد بدر تَمام)
(وقبلته فَوق اللثام فَقَالَ لي ... هِيَ الْخمر إِلَّا أَنَّهَا بفدام)
أخبرنَا أَبُو عبد الله وَأَبُو الْعَبَّاس الحافظان فِي كتابهما عَن أبي الْفضل العساكري أَن عبد الرَّحِيم بن أبي سعد أنبأه أَن وَالِده الْحَافِظ قَالَ لَهُ سَمِعت سيدنَا القَاضِي يَقُول عقب هَذَا ثمَّ قَالَ لي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق يَا بني قد رويت عَن هَذَا الرجل فِي النسيب شَيْئا فأودعني مَا يمحو ذَلِك وأنشدني لنَفسِهِ
(يَا عبد كم لَك من ذَنْب ومعصية ... إِن كنت ناسيها فَالله أحصاها)
(يَا عبد لَا بُد من ذَنْب تقوم لَهُ ... ووقفة مِنْك تدمي الْكَفّ ذكرَاهَا)
(إِذا عرضت على نَفسِي تذكرها ... وساء ظَنِّي قلت اسْتغْفر الله)
أخبرنَا أَحْمد بن المظفر الْحَافِظ رَحمَه الله إِذْنا خَاصّا عَن أَحْمد بن هبة الله عَن أبي المظفر السَّمْعَانِيّ أَن وَالِده الْحَافِظ أَبَا سعد أخبرهُ قَالَ أنشدنا شبيب بن الْحُسَيْن قَاض ببروجرد قَالَ أَنْشدني أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَأَظنهُ قَالَ هِيَ للمطرز
(وحديثها السحر الْحَلَال لَو أَنه ... لم يجن قتل الْمُسلم المتحرز)
(إِن طَال لم يملل وَإِن هِيَ أوجزت ... ود الْمُحدث أَنَّهَا لم توجز)
(شرف النُّفُوس ونزهة مَا مثلهَا ... للمطمئن وعقلة المستوفز)
ذكر الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي النكت احْتِمَالا لنَفسِهِ فِيمَا إِذا نذر صَلَاة مُؤَقَّتَة وأخرجها عَن وَقتهَا أَنه يقبل وَهُوَ وَجه مُصَرح بحكايته فِي بعض نسخ الذَّخَائِر عَن رَوْضَة المناظر
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق مجمعا عَلَيْهِ من أهل عصره علما ودينا رفيع الجاه بِسَبَب ذَلِك محببا إِلَى غَالب الْخلق لَا يقدر أحد أَن يرميه بِسوء لحسن سيرته وشهرتها عِنْد الْخلق
وَزَعَمت الْحَنَابِلَة فِي وَاقعَة ابْن الْقشيرِي أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق أَرَادَ أَن يبطل مَذْهَبهم لما وَقعت الْفِتْنَة بَين الْحَنَابِلَة والأشعرية وَقَامَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي نصر أبي نصر بن الْقشيرِي لنصره لمَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَكَاتب نظام الْملك فِي ذَلِك
وَكَانَ من ذَلِك أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق اشْتَدَّ غَضَبه على الْحَنَابِلَة وعزم على الرحلة من بَغْدَاد لما نَالَ الْأَشْعَرِيّ من سبّ الْحَنَابِلَة إِيَّاه وَمَا نَالَ أَبَا نصر بن الْقشيرِي من أذاهم فَأرْسل الْخَلِيفَة إِلَى الشَّيْخ أبي إِسْحَاق يسكنهُ ويخفف مَا عِنْده ثمَّ كتب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رِسَالَة إِلَى نظام الْملك يشكو الْحَنَابِلَة وَيذكر مَا فَعَلُوهُ من الْفِتَن وَأَن ذَلِك من عاداتهم ويسأله المعونة فَعَاد جَوَاب نظام الْملك إِلَى فَخر الدولة وَله بإنكار مَا وَقع وَالتَّشْدِيد على خصوم ابْن الْقشيرِي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة فسكن الْحَال قَلِيلا
ثمَّ أَخذ الشريف أَبُو جَعْفَر بن أبي مُوسَى وَهُوَ شيخ الْحَنَابِلَة إِذْ ذَاك وجماعته يَتَكَلَّمُونَ فِي الشَّيْخ أبي إِسْحَاق ويبلغونه الْأَذَى بألسنتهم فَأمر الْخَلِيفَة بِجَمْعِهِمْ وَالصُّلْح بَينهم بعد مَا ثارت بَينهم فِي ذَلِك فتْنَة هائلة قتل فِيهَا نَحْو من عشْرين قَتِيلا
فَلَمَّا وَقع الصُّلْح وَسكن الْأَمر أَخذ الْحَنَابِلَة يشيعون أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق تَبرأ من مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ فَغَضب الشَّيْخ لذَلِك غَضبا لم يصل أحد إِلَى تسكينه وَكَاتب نظام الْملك فَقَالَت الْحَنَابِلَة إِنَّه كتب يسْأَله فِي إبِْطَال مَذْهَبهم وَلم يكن الْأَمر على هَذِه الصُّورَة وَإِنَّمَا كتب يشكو أهل الْفِتَن فَعَاد جَوَاب نظام الْملك فِي سنة سبعين وَأَرْبَعمِائَة إِلَى الشَّيْخ باستجلاب خاطره وتعظيمه وَالْأَمر بالانتقام من الَّذين أثاروا الْفِتْنَة وَبِأَن يسجن الشريف أَبُو جَعْفَر وَكَانَ الْخَلِيفَة قد حَبسه بدار الْخلَافَة عِنْد مَا شكاه الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
قَالُوا وَمن كتاب نظام الْملك إِلَى الشَّيْخ وَأَنه لَا يُمكن تَغْيِير الْمذَاهب وَلَا نقل أَهلهَا عَنْهَا وَالْغَالِب على تِلْكَ النَّاحِيَة مَذْهَب أَحْمد وَمحله مَعْرُوف عِنْد الْأَئِمَّة وَقدره مَعْلُوم فِي السّنة فِي كَلَام طَوِيل سكن بِهِ جأش الشَّيْخ
وَأَنا لَا أعتقد أَن الشَّيْخ أَرَادَ إبِْطَال مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَلَيْسَ الشَّيْخ مِمَّن يُنكر مِقْدَار هَذَا الإِمَام الْجَلِيل الْمجمع على علو مَحَله من الْعلم وَالدّين وَلَا مِقْدَار الْأَئِمَّة من أَصْحَابه أهل السّنة والورع وَإِنَّمَا أنكر على قوم عزوا أنفسهم إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْهُم بَرِيء وأطالوا ألسنتهم فِي سبّ الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ
وَهُوَ كَبِير أهل السّنة بعده وعقيدته وعقيدة الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله وَاحِدَة لَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا ارتياب وَبِه صرح الْأَشْعَرِيّ فِي تصانيفه وَكرر غير مَا مرّة أَن عقيدتي هِيَ عقيدة الإِمَام المبجل أَحْمد بن حَنْبَل هَذِه عبارَة الشَّيْخ أبي الْحسن فِي غير مَوضِع من كَلَامه
قَالَ الْفَقِيه أَبُو يعلى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن صَالح العباسي الْمَعْرُوف بِابْن الهبارية فِي كِتَابه فلك الْمَعَالِي وَهُوَ كتاب عمله للوزير أبي نصر سعيد بن المؤمل رُتْبَة على اثنى عشر بَابا على تَرْتِيب البروج وَمن خطّ ابْن الصّلاح نقلت لما توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن جَعْفَر بن مَاكُولَا بِبَغْدَاد أكره الْقَائِم بِأَمْر الله الشَّيْخ الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الفيروزابادي على أَن يتقلد لَهُ النّظر فِي الإحكام والمظالم شرقا وغربا فَامْتنعَ فَوكل بِهِ فَكتب إِلَيْهِ ألم يكفك أَن هَلَكت حَتَّى تهلكني مَعَك
فَبكى الْقَائِم بِأَمْر الله وَقَالَ هَكَذَا فَلْيَكُن الْعلمَاء إِنَّمَا أردنَا أَن يُقَال إِنَّه كَانَ فِي عصرنا من وكل بِهِ وأكره على الْقَضَاء فَامْتنعَ وَقد أعفيناه
قَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر ...

مناظرة بَين الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَالشَّيْخ أبي عبد الله الدَّامغَانِي
وَكَانَا قد اجْتمعَا فِي عزاء بِبَغْدَاد
سُئِلَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الشَّافِعِي عَن الذِّمِّيّ إِذا أسلم هَل تسْقط عَنهُ الْجِزْيَة لما مضى فَمنع من ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي فَسئلَ الدَّلِيل فاستدل على ذَلِك بِأَنَّهُ أحد الخراجين فَإِذا وَجب فِي حَال الْكفْر لم يسْقط بِالْإِسْلَامِ أَصله خراج الأَرْض
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد الدَّامغَانِي لَا يمْتَنع أَن يكون نَوْعَانِ من الْخراج ثمَّ يشْتَرط فِي أَحدهمَا مَالا يشْتَرط فِي الآخر كَمَا أَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال نَوْعَانِ من الزَّكَاة ثمَّ يشْتَرط فِي أَحدهمَا النّصاب وَلَا يشْتَرط فِي الآخر
وَالسُّؤَال الثَّانِي لَا يمْنَع أَن يكون حقان متعلقان بالْكفْر ثمَّ أَحدهمَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَالْآخر لَا يسْقط أَلا ترى أَن الاسترقاق وَالْقَتْل حقان متعلقان بالْكفْر ثمَّ أَحدهمَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقَتْل وَالْآخر لَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ الاسترقاق
وَالسُّؤَال الثَّالِث الْمَعْنى فِي الأَصْل أَن الْخراج يجب بِسَبَب التَّمَكُّن من الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَيجوز أَن يجب بِمثل هَذَا السَّبَب حق عَلَيْهِ فِي حَال الْإِسْلَام وَهُوَ الْعشْر فَلهَذَا جَازَ أَن يبْقى مَا وَجب عَلَيْهِ مِنْهُ حَال الْكفْر وَلَيْسَ ذَلِك هَا هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ يجب بِمثل نسبته حق فِي حَال الْإِسْلَام فَلهَذَا سقط مَا وَجب فِي حَال الْكفْر
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْفَصْل الأول وَهُوَ اعْتِبَار نِصَاب فِي زَكَاة المَال
دون زَكَاة الْفطر ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهمَا أَن مَا ذكرت حجَّة لنا لِأَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال لما كَانَ سَبَب إيجابهما الْإِسْلَام وَالْكفْر ينافيهما كَانَ تَأْثِير الْكفْر فِي إسقاطهما مؤثرا وَاحِدًا حَتَّى إِنَّه إِذا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة الْفطر وارتد عِنْدهم سقط عَنهُ ذَلِك كَمَا إِذا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة المَال ثمَّ ارْتَدَّ سَقَطت عَنهُ الزَّكَاة فَكَانَ تَأْثِير الْبَاقِي فِي إسقاطهما على وَجه وَاحِد فَكَذَلِك هَهُنَا لما كَانَ سَبَب الخراجين هُوَ الْكفْر وَالْإِسْلَام ينافيهما فَيجب أَن يكون تَأْثِير الْإِسْلَام فِي إسقاطهما وَاحِدًا وَقد ثَبت أَن أَحدهمَا لَا يسْقط بِالْإِسْلَامِ فَكَذَلِك الآخر
جَوَاب ثَان أَن الزكاتين افترقتا لِأَن زَكَاة الْفطر فَارَقت سَائِر الزكوات فِي تعلقهَا بِالذِّمةِ ففارقها فِي اعْتِبَار النّصاب وَلَيْسَ كَذَلِك الخراجان فَإِنَّهُمَا سَوَاء فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي وجوبهما ومنافاة الْإِسْلَام لَهما فَلَو سقط أَحدهمَا بِالْإِسْلَامِ سقط الآخر
جَوَاب ثَالِث وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال فَلهَذَا لم يعْتَبر فِيهَا النّصاب وَلَيْسَ كَذَلِك سَائِر الزكوات فَإِنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف المَال وتزداد بِزِيَادَتِهِ فَلهَذَا اعْتبر فِيهَا النّصاب وَأما حَال الخراجين فَإِنَّهُمَا على مَا ذكرت سَوَاء فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِسْلَام
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الْقَتْل والاسترقاق فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن الْقَتْل والاسترقاق جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعَ اخْتِلَاف الْأَجْنَاس يجوز أَن تخْتَلف الْأَحْكَام فَأَما فِي مَسْأَلَتنَا فالخراجان من جنس وَاحِد يجبان بِسَبَب الْكفْر فَلَا يجوز أَن يخْتَلف حكمهمَا
وَالثَّانِي الاسترقاق إِذا حصل فِي حَال الْكفْر كَانَ مَا بعد الْإِسْلَام اسْتِدَامَة للرق وَبَقَاء عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِك الْقَتْل فَإِنَّهُ ابْتِدَاء عُقُوبَة فَجَاز أَن يختلفا وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فحال الخراجين وَاحِد من اسْتِيفَاء مَا تقدم وُجُوبه فَإِذا لم يسْقط أَحدهمَا لم يسْقط الآخر

وَأما الْفَصْل الثَّالِث وَهُوَ الْمُعَاوضَة فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن أَحدهمَا إِن قَالَ لَا أسلم أَن بِمثل سَبَب الْخراج يجب على الْمُسلم حق فَإِن الْخراج إِنَّمَا وَجب بِسَبَب التَّمَكُّن من الِانْتِفَاع مَعَ الْكفْر وَالْعشر إِنَّمَا لزم للْأَرْض بِحَق الله وَهُوَ الْإِسْلَام وَالثَّانِي أَنه إِن كَانَ هُنَاكَ حق يجب بِمثل سَبَب الْخراج فَيحسن أَن يجْرِي عَلَيْهِ الَّذِي فِي حَال الْإِسْلَام فَلهَذَا جَازَ أَن يبْقى مَا تقدم وُجُوبه فِي حَال الْكفْر فَكَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا يجب بِمثل سَبَب الْجِزْيَة حق حَتَّى يجْرِي عَلَيْهِ فِي حَال الْإِسْلَام وَهُوَ زَكَاة الْفطر فَإِن الزَّكَاة وَزَكَاة الْفطر تجب عَن الرَّقَبَة فَيجب أَن الْجِزْيَة تجب عَن الرَّقَبَة وَأَن يبْقى مَا وَجب من ذَلِك فِي حَال الْكفْر فَلَا فرق بَينهمَا
فَقَالَ أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي على فصل الزَّكَاة على الْجَواب الأول وَهُوَ قَالَ فِيهِ إِن ذَلِك حجَّة فَإِنَّهُمَا يستويان فِي اعْتِبَار الْإِسْلَام فِي حَال وَاحِد من الزكاتين فَقَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون الْكفْر يعْتَبر فِي كل وَاحِد من الخراجين ثمَّ يخْتَلف حكمهمَا بعد ذَلِك فِي الِاسْتِيفَاء كَمَا أَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال يستويان فِي أَن المَال مُعْتَبر فِي حَال وَاحِدَة فيهمَا ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي كَيْفيَّة الِاعْتِبَار فَالْمُعْتَبر فِي زَكَاة الْفطر أَن مَعَه مَا يُؤَدِّي فَاضلا عَن كِفَايَته عنْدكُمْ وَالْمُعْتَبر فِي سَائِر الزكوات أَن يكون مَالِكًا لنصاب فَكَذَلِك هَاهُنَا يجوز أَن يَسْتَوِي الخراجان فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ثمَّ يخْتَلف حكمهمَا عِنْد الِاسْتِيفَاء فَيعْتَبر الْبَقَاء على الْكفْر فِي أَحدهمَا دون الآخر
وَجَوَاب ثَان أَن الزكاتين إِنَّمَا أثر الْكفْر فيهمَا على وَجه وَاحِد لِأَنَّهُمَا يجبان على سَبِيل الْعِبَادَة فَلَا يجوز استيفاؤهما بعد الْكفْر لِأَن الْكَافِر لَا تثبت فِي حَقه الْعِبَادَات وَلَيْسَ كَذَلِك فِي مَسْأَلَتنَا فَإِن الْجِزْيَة تجب على سَبِيل الصغار لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} وَبعد الْإِسْلَام لم يُوجد الصغار فَلَا يَصح استيفاؤهما وَكَذَلِكَ الْخراج فِي الأَرْض لَا يجب على سَبِيل الصغار وَلِهَذَا يجوز أَن يُوجد باسمه من الْمُسلمين وَهُوَ الَّذِي ضربه عمر رَضِي الله عَنهُ على الأَرْض السوَاد
وَتكلم على الْجَواب الثَّانِي عَن هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالذِّمةِ فَقَالَ لَا يمْتَنع أَن يكون أَحدهمَا فِي الذِّمَّة وَالْآخر فِي المَال ثمَّ يستويان فِي النّصاب كَمَا أَن أرش الْجِنَايَة يتَعَلَّق بِعَين الْجَانِي وَزَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالذِّمةِ ثمَّ لَا يعْتَبر النّصاب فِي وَاحِد مِنْهُمَا وَأَيْضًا فقد اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي أَن الزَّكَاة تتَعَلَّق بِالْعينِ أَو الذِّمَّة فَدلَّ على أَنه لَيْسَ الْعلَّة فِيهِ مَا ذكرت
وَتكلم على الْجَواب الثَّالِث فِي هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال فَقَالَ لما جَازَ أَن لَا تزداد بِزِيَادَة المَال ثمَّ لَا يعْتَبر فِيهِ النّصاب ثمَّ هَذَا يبطل بِمَا زَاد على نِصَاب الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم عنْدك فَإِنَّهُ يزْدَاد بِزِيَادَة المَال ثمَّ لَا يعْتَبر فِيهَا النّصاب
وَتكلم على الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الاسترقاق وَالْقَتْل حَيْثُ قَالَ إنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفَانِ وَهَاهُنَا جنس وَاحِد فَقَالَ إنَّهُمَا وَإِن كَانَا جِنْسَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا يجبان بِسَبَب الْكفْر وَكَانَ يجب أَن يكون تَأْثِير الْإِسْلَام فيهمَا وَاحِدًا كَمَا قُلْنَا فِي الخراجين وَالثَّانِي أَن الخراجين وَإِن كَانَا جِنْسا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يجب أَن يستوفيا فِي حَال الْإِسْلَام كالخراج الَّذِي وَضعه عمر رَضِي الله عَنهُ مَعَ الْخراج فهما خراجان ثمَّ يجوز ابْتِدَاء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام فَلَا يجوز ابْتِدَاء الآخر فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأجَاب عَن الْجَواب الثَّانِي فِي هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن الاسترقاق اسْتِدَامَة وَالْقَتْل ابْتِدَاء فعل فَقَالَ الْقَتْل والجزية سَوَاء لِأَن الْقَتْل قد تقدم وُجُوبه وَلَكِن بَقِي بعد الْإِسْلَام الِاسْتِيفَاء كَمَا وَجَبت الْجِزْيَة وَتقدم وُجُوبهَا وَبَقِي الِاسْتِيفَاء وَإِن كَانَ الْقَتْل لَا يجوز بعد الْإِسْلَام لِأَنَّهُ ابْتِدَاء مَعَ مَا تقدم وُجُوبه فِي حَال الْكفْر فهما سَوَاء
وَتكلم على الْمُعَاوضَة على الْجَواب الأول أَن الْعشْر لَا يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي يجب بِهِ الْخراج فَقَالَ الْخراج يجب بِإِمْكَان الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَلذَلِك لَا يجب فِيمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ من الأَرْض كالمستغدر وَمَا يبطل مِنْهُ الِانْتِفَاع بِهِ كَمَا يجب الْعشْر بِإِمْكَان الِانْتِفَاع فهما يجبان بِسَبَب وَاحِد فَإِذا جَازَ ابْتِدَاء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام جَازَ الْبَقَاء على الآخر بعد الْإِسْلَام
وَتكلم على الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ زَكَاة الْفطر فَقَالَ الْجِزْيَة لَا تجب بِالْمَعْنَى الَّذِي تجب بِهِ زَكَاة الْفطر لِأَن زَكَاة الْفطر تجب على سَبِيل الْعِبَادَة والجزية تجب على وَجه الصغار فسببهما مُخْتَلف
فَتكلم الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْجَواب الأول بِأَن ذَلِك حجَّة لي فَقَالَ أما قَوْلك أَنه يجوز أَن يشْتَرك الحقان فِي اعْتِبَار الْإِسْلَام ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي الْكَيْفِيَّة وَالتَّفْصِيل كَمَا اسْتَوَى زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال فِي اعْتِبَار المَال وَاخْتلفَا فِي كَيْفيَّة الِاعْتِبَار فَهَذَا صَحِيح فِي اعْتِبَار المَال فَأَما فِي اعْتِبَار الدّين فَلَا يجوز أَن يخْتَلف جَازَ الِابْتِدَاء والاستيفاء أَلا ترى أَن زَكَاة الْفطر خَالَفت سَائِر الزكوات فِي التَّفْصِيل فِي اعْتِبَار المَال ثمَّ الْكفْر لما كَانَ مباينا لَهما وَالْإِسْلَام مُعْتَبر فيهمَا لم يخْتَلف اعْتِبَار ذَلِك فيهمَا لَا فِي الِابْتِدَاء وَلَا فِي الِاسْتِيفَاء بل إِذا زَالَ الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ شَرط فِي وجوبهما أثر الْكفْر فِي إِسْقَاط كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمنع من استيفائهما فَكَذَلِك هَاهُنَا لما كَانَ الْإِسْلَام منافيا للخراجين وَالْكفْر شَرط فِي وجوبهما وَجب أَن يكون حَالهمَا وَاحِدًا فِي اعْتِبَار الْكفْر فِي الِابْتِدَاء والاستيفاء كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال
وَأما الْكَلَام الثَّانِي الَّذِي ذكرت على هَذَا بِأَن زَكَاة الْفطر وَزَكَاة المَال يجبان على سَبِيل الْعِبَادَة فنافاهما الْكفْر وَأَن الْجِزْيَة على سَبِيل الصغار فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ كَمَا تجب الْجِزْيَة على سَبِيل الصغار فخراج الأَرْض كَذَلِك فَإِذا نافى الْإِسْلَام أَحدهمَا وَمنع من الِاسْتِيفَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَال صغَار وَجب أَن ينافى الآخر أَيْضا ووجوبه على سَبِيل الصغار
وَالثَّانِي أَنا لَا نعلم أَن الْجِزْيَة تجب على سَبِيل الصغار بل هِيَ مُعَاوضَة وَلِهَذَا الْمَعْنى تعْتَبر فِيهَا الْمدَّة كَمَا تعْتَبر فِي الْمُعَاوَضَات وَلَو كَانَ ذَلِك صغَارًا لم تعْتَبر فِيهَا الْمدَّة كَمَا تعْتَبر فِي الاسترقاق وَالْقَتْل وَيدل عَلَيْهِ أَنَّهَا تجب فِي مُقَابلَة معوض لَهُم وَهُوَ الحقن والمساكنة فِي دَار الْإِسْلَام وَمَا سلم لَهُم معوضه دلّ على أَنه يجب على سَبِيل الْعِوَض
وَأما قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} فقد قيل فِي التَّفْسِير إِن المُرَاد بِهِ أَنهم ملتزمون لأحكام الْإِسْلَام
وَالثَّالِث أَن الصغار إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْوُجُوب فَأَما فِي الِاسْتِيفَاء فَلَا يعْتَبر أَلا ترى أَنه لَو ضمن عَنهُ مُسلم جَازَ أَن يَسْتَوْفِي عَنهُ وَإِن لم يجب على الْمُسلم فِي ذَلِك صغَار فَدلَّ على بطلَان مَا قَالُوهُ وَأَيْضًا فَإِن الصغار قد يعْتَبر فِي إِيجَاب الشَّيْء وَلَا يعْتَبر فِي اسْتِيفَائه كَمَا أَن الْحُدُود تجب على سَبِيل التنكيل بِالْمَعَاصِي وَلِهَذَا قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} فَذكر النكال عقب ذكر الْحَد كَمَا ذكر الصغار عقيب ذكر النكال فقد رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ) فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأما الْكَلَام عَن الْجَواب الثَّانِي من هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن زَكَاة الْفطر تتَعَلَّق بِالْعينِ فَصَحِيح وَمَا ذكرت من التَّفْصِيل فَلَا يلْزم لِأَنِّي لم أقل إِن كل حق يتَعَلَّق بِالْعينِ يعْتَبر فِيهِ النّصاب وَإِنَّمَا قلت إِن الزَّكَاة إِذا تعلّقت بِالْعينِ اقْتَضَت النّصاب وَزَكَاة الْفطر تخَالف سَائِر الزكوات فِي تعلقهَا بِالْعينِ فخالفتها فِي اعْتِبَار النّصاب فَلَا يلْزم عَلَيْهِ سَائِر الْحُقُوق
وَأما قَوْلك إِن النّصاب مُعْتَبر فِي سَائِر الزكوات من غير اخْتِلَاف وَفِي تعلق الزَّكَاة بِالْعينِ قَولَانِ فَغير صَحِيح لِأَن القَوْل بِهِ فَاسد وَبِهَذَا يسْتَدلّ على فَسَاده لِأَنَّهُ لَو كَانَ تعلق بِالذِّمةِ لما اعْتبر فِيهِ النّصاب
وَأما الْجَواب الثَّالِث عَن هَذَا الْفَصْل أَن زَكَاة الْفطر لَا تزداد بِزِيَادَة المَال وَسَائِر الزكوات تزداد بِزِيَادَة المَال فَهُوَ صَحِيح وَمَا ذكرت من أَنه لَو كَانَ ذَلِك صَحِيحا لما اعْتبر فِيهِ وجود صَاع فَاضلا عَن الْكِفَايَة فَبَاطِل لِأَنَّهُ يعْتَبر فِيهَا النّصاب وَلَا يزْدَاد بِزِيَادَة المَال
وَأما قَوْلك إِنَّه يبطل هَذَا بِمَا زَاد على نِصَاب الْأَثْمَان وَالْعشر فَلَا يلْزم لِأَنِّي جعلت ذَلِك عِلّة فِي اعْتِبَار النّصاب الثَّانِي إِلَّا لدفع الضَّرَر فِيمَا يدْخل الضَّرَر فِيهِ وَهُوَ تبعيض الْحَيَوَان والمشاركة فِيهِ وَهَذَا لَا يُوجد فِي الْحُبُوب وَلَا فِي الْعين فَسقط اعْتِبَاره
وَأما الْكَلَام فِي الْفَصْل الثَّانِي وَهُوَ الاسترقاق فَمَا ذكرته من الْجَواب أَن الاسترقاق وَالْقَتْل جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَهَاهُنَا جنس وَاحِد فَصَحِيح وقولك إنَّهُمَا وَإِن كَانَا جِنْسَيْنِ إِلَّا أَنَّهُمَا يجبان بِسَبَب الْكفْر وَلَوْلَا الْكفْر لم يجبا فَكَانَ يجب أَن يُؤثر الْإِسْلَام فِي إسقاطهما فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ وَإِن كَانَ وجوبهما بِسَبَب وَاحِد إِلَّا أَنَّهُمَا حقان مُخْتَلِفَانِ وَإِذا اخْتلفت الْحُقُوق يجوز أَن تخْتَلف أَحْكَامهَا أَلا ترى أَن الْجُمُعَة وَالْخطْبَة تجبان لِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَنَّهُمَا لما اخْتلفَا فِي الجنسية اخْتلفَا فِي الْأَحْكَام فَكَذَا هُنَا الاسترقاق وَالْقَتْل وَإِن وجبا بِسَبَب الْكفْر إِلَّا أَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَيجوز أَن يخْتَلف حكمهمَا
وَأما قَوْلك إِن هَذَا يبطل بخراج السوَاد وجزية الرّقاب فَإِنَّهُمَا خراجان لم يبتدىء أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام وَلَا يبتدىء الآخر فخطأ لِأَنِّي لم أقل إنَّهُمَا جنس وَاحِد سَوَاء بل قلت إنَّهُمَا جنس وَاحِد وسببهما الْكفْر وَإِنَّمَا هُوَ البيع وَالْإِجَارَة على اخْتِلَاف الْمَذْهَب وَهَاهُنَا كل من الخراجين وَجب لحق الْكفْر فَلم يختلفا
وَأما الْجَواب الثَّانِي عَن هَذَا الْفَصْل وَهُوَ أَن الاسترقاق اسْتِدَامَة وَالْقَتْل ابْتِدَاء عُقُوبَة فَصَحِيح وقولك إِن الْقَتْل اسْتِيفَاء مَا تقدم فَغير صَحِيح لِأَنِّي قلت إِن الْقَتْل ابْتِدَاء عُقُوبَة والاسترقاق اسْتِدَامَة لِأَنَّهُ قد تقدم فعل الاسترقاق فِي حَال الْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا لِأَنَّهُ كالخراجين اسْتِيفَاء مَا تقدم وَإِن جَازَ أَحدهمَا جَازَ الآخر وَلَيْسَ فِي الْقَتْل مثل هَذَا أَلا ترى أَنه لَيْسَ فِي جنسه مَا يُسَاوِيه فِي الِاسْتِيفَاء بِحَق الْكفْر ثمَّ بعد الْإِسْلَام وَهَاهُنَا من جنسه مَا يسْتَوْفى بعد الْإِسْلَام وَهُوَ خراج الأَرْض فَلَو لم يجز اسْتِيفَاء الْجِزْيَة بعد الْإِسْلَام لوَجَبَ أَن يُقَال لَا يجوز اسْتِيفَاء الْخراج
وَأما الْفَصْل الثَّالِث وَهُوَ الْمُعَاوضَة فَمَا ذكرت من الْمَنْع صَحِيح لِأَن الْخراج يجب بِسَبَب الْكفْر وَيعْتَبر فِيهِ التَّمْكِين من الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ وَالْعشر يجب بِحَق الْإِسْلَام وَيعْتَبر فِيهِ الْخراج فأحدهما لَا يجب بِالسَّبَبِ الَّذِي يجب بِهِ الآخر وَيدل على أَنه لَا يَصح اجْتِمَاعهمَا فِي حَال الْكفْر وَلَا فِي حَال الْإِسْلَام لِأَنَّهُ فِي حَال الْكفْر يجب الْخراج وَلَا يجب الْعشْر وَفِي حَال الْإِسْلَام يجب وَلَا يجب الْخراج فَدلَّ على أَنَّهَا متنافيان وَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ من وجوب أَحدهمَا بعد الْإِسْلَام على بَقَاء الآخر بعد الْإِسْلَام
وَالثَّانِي مَا ذكرت من زَكَاة الْفطر فَهُوَ صَحِيح فِي الْفَرْع لِأَنَّهُ كَمَا يجب بِسَبَب مَنْفَعَة الأَرْض حق مُبْتَدأ على الْمُسلم فبسبب الرَّقَبَة يجب حق مُبْتَدأ على الْمُسلم وَهُوَ زَكَاة الْفطر وقولك إِن زَكَاة الْفطر على سَبِيل الْعِبَادَة والجزية وَالْخَرَاج على سَبِيل الْكفْر وَالصغَار فَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ بِأَحَدِهِمَا بعد الْإِسْلَام على بَقَاء الآخر كَذَلِك يجوز أَن يسْتَدلّ بِوُجُوب زَكَاة الْفطر حَال الْإِسْلَام على بَقَاء الْجِزْيَة
وَالله أعلم
مناظرة أَيْضا بِبَغْدَاد بَين أبي إِسْحَاق وَأبي عبد الله الدَّامغَانِي رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ الْمَالِكِي رَحمَه الله وَقد شَاهد هَذِه المناظرة وحضرها الْعَادة بِبَغْدَاد أَن من أُصِيب بوفاة أحد مِمَّن يكرم عَلَيْهِ قعد أَيَّامًا فِي مَسْجِد ربضه يجالسه فِيهَا جِيرَانه وإخوانه فَإِذا مَضَت أَيَّام عزوه وعزموا عَلَيْهِ فِي التسلي والعودة إِلَى عَادَته من تصرفه فَتلك الْأَيَّام الَّتِي يقْعد فِيهَا فِي مَسْجده للعزاء مَعَ إخوانه وجيرانه لَا تقطع فِي الْأَغْلَب إِلَّا بِقِرَاءَة الْقُرْآن أَو بمناظرة الْفُقَهَاء فِي الْمسَائِل فَتُوُفِّيَتْ زَوْجَة القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وَهُوَ شيخ الْفُقَهَاء ذَلِك الْوَقْت بِبَغْدَاد وَكَبِيرهمْ فاحتفل النَّاس بمجالسته وَلم يكد يبْقى أحد منتم إِلَى علم إِلَّا حضر ذَلِك الْمجْلس وَكَانَ مِمَّن حضر ذَلِك الْمجْلس القَاضِي أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ وَكَانَ زعيم الْحَنَفِيَّة وشيخهم وَهُوَ الَّذِي كَانَ يوازي أَبَا الطّيب فِي الْعلم والشيخوخة والتقدم فَرغب جمَاعَة من الطّلبَة إِلَى القاضيين أَن يتكلما فِي مَسْأَلَة من الْفِقْه يسْمعهَا الْجَمَاعَة مِنْهُمَا وتنقلها عَنْهُمَا وَقُلْنَا لَهما إِن أَكثر من فِي الْمجْلس غَرِيب قصد إِلَى التَّبَرُّك بهما وَالْأَخْذ عَنْهُمَا وَلم يتَّفق لمن ورد مُنْذُ أَعْوَام جمة أَن يسمع تناظرهما إِذْ كَانَا قد تركا ذَلِك مُنْذُ أَعْوَام وفوضا الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى تلاميذهما وَنحن نرغب أَن يتصدقا على الْجمع بكلامهما فِي مَسْأَلَة يتجمل بنقلها وحفظها وروايتها
فَأَما القَاضِي أَبُو الطّيب فأظهر الْإِسْعَاف بالإجابة وَأما القَاضِي أَبُو عبد الله فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ من كَانَ لَهُ تلميذ مثل أبي عبد الله يُرِيد الدَّامغَانِي لَا يخرج إِلَى الْكَلَام وَهَا هُوَ حَاضر من أَرَادَ أَن يكلمهُ فَلْيفْعَل فَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب عِنْد ذَلِك وَهَذَا أَبُو إِسْحَاق من تلامذتي يَنُوب عني فَلَمَّا تقرر الْأَمر على ذَلِك انتدب شَاب من أهل كازرون يدعى أَبَا الْوَزير يسْأَل أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ الْإِعْسَار بِالنَّفَقَةِ هَل يُوجب الْخِيَار للزَّوْجَة فَأَجَابَهُ الشَّيْخ أَنه يُوجب الْخِيَار وَهُوَ مَذْهَب مَالك خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله إِنَّه لَا يُوجِبهُ لَهَا فطالبه السَّائِل بِالدَّلِيلِ على صِحَة مَا ذهب إِلَيْهِ
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الدَّلِيل على صِحَة مَا ذهبت إِلَيْهِ أَن النِّكَاح نوع ملك يسْتَحق بِهِ الْإِنْفَاق فَوَجَبَ أَن يكون الْإِعْسَار بِالْإِنْفَاقِ يُؤثر فِي إِزَالَته كملك الْيَمين فاعترضه السَّائِل باعتراضات وَوَقع الِانْفِصَال عَنْهَا ثمَّ تنَاول الْكَلَام على وَجه النِّيَابَة عَنهُ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل النّظر المذنب الشَّيْخ أَبُو عبد الله الدامعاني فَقَالَ هَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يمْنَع أَن يستويا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ النَّفَقَة ثمَّ يَخْتَلِفَانِ فِي الْإِزَالَة أَلا ترى أَن البيع وَالنِّكَاح يستويان فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ الْملك ثمَّ فَوَات التَّسْلِيم بِالْهَلَاكِ فِي أَحدهمَا يُوجب بطلَان العقد وَهُوَ البيع لِأَنَّهُ إِذا هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم بَطل البيع وَفِي النِّكَاح لَا يبطل العقد وتنفذ أَحْكَام الزَّوْجِيَّة بعد الْمَوْت فَكَذَلِك فِي الْفَرْع يجب أَن يتساويا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ النَّفَقَة ثمَّ الْعَجز عَن الْإِنْفَاق فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ يُوجب الْإِزَالَة وَفِي الْفَرْع لَا يُمكن نقل الْملك عَنهُ إِلَى الْغَيْر فَوَجَبَ أَلا تجب الْإِزَالَة بالإعسار كَمَا يُقَال فِي أم الْوَلَد
فَأجَاب الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق عَن الْفَصْل الأول بفصلين
أَحدهمَا أَنه قَالَ إِن هَذَا الْمَعْنى لَيْسَ بإلزام صَحِيح لِأَنِّي لم أقل إِنَّه إِذا تساوى الْملكَانِ فِي معنى وَجب أَن يتساويا فِي جَمِيع الْأَحْكَام لِأَن الإملاك والعقود تخْتَلف أَحْكَامهَا وموجباتها وَإِنَّمَا جمعت بَينهمَا بِهَذَا الْمَعْنى الَّذِي هُوَ اسْتِحْقَاق النَّفَقَة ثمَّ الْعَجز عَن هَذِه النَّفَقَة الَّتِي لملك الْيَمين يُوجب إِزَالَة الْملك فَوَجَبَ أَن يكون الآخر مثله
وَالثَّانِي أَن النِّكَاح إِنَّمَا خَالف البيع فِيمَا ذكره لِأَن الْمَقْصُود بِهِ الوصلة والمصاهرة إِلَى الْمَوْت فَإِذا مَاتَ أَحدهمَا فقد تمت الوصلة وانْتهى العقد إِلَى منتهاه فَمن الْمحَال أَن يكون مَعَ تَمام العقد نحكم بِإِبْطَال العقد كَمَا نقُول فِي الْإِجَارَة إِذا عقدت إِلَى أمد ثمَّ انْقَضتْ الْمدَّة لم يجز أَن يُقَال إِن الْأَحْكَام قد بطلت بِانْقِضَاء الْمدَّة وتمامها فَكَذَلِك النِّكَاح وَلَيْسَ كَذَلِك البيع فَإِن الْمَقْصُود بِهِ التَّصَرُّف فِي الْمعَانِي الَّتِي تثبت الْملك من الاقتناء وَالتَّصَرُّف والاستخدام فَإِذا هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم فَإِن الْمَعْنى الْمَقْصُود قد فَاتَ فَلهَذَا تبطل وَأما فِي مَسْأَلَتنَا فالملكان على هَذَا وَاحِد فِي الِاسْتِحْقَاق للنَّفَقَة فَإِذا وَجَبت الْإِزَالَة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ بِالْعَجزِ عَن الْإِنْفَاق وَجب أَن يكون فِي الْموضع الآخر مثله

وَأما الْمُعَاوضَة الَّتِي ذكرتها فَلَا تصح لِأَنَّهُ إِن جَازَ أَن يُقَال فِي العَبْد إِنَّه يَزُول ملكه عَنهُ لِأَنَّهُ تمكن إِزَالَة الْملك فِيهِ بِالنَّقْلِ إِلَى غَيره فَفِي الزَّوْجَة أَيْضا يُمكن إِزَالَة الْملك إِلَى غَيره بِالطَّلَاق فَوَجَبَ أَن يزَال وعَلى هَذَا تبطل بِهِ إِذا عجز الزَّوْج عَن الْوَطْء فَإِنَّهُ يثبت لَهَا الْخِيَار فِي مُفَارقَة الزَّوْج وَإِن كَانَ لَا يَصح الْملك فِيهَا أَلا ترى أَنا نفرق بَينهمَا بالعنة فَكَذَلِك هَاهُنَا فَأَما الْكَلَام فِي أم الْوَلَد فَإنَّا لَا نسلمه فَإِن من أَصْحَابنَا من قَالَ إِنَّه يجب إعْتَاقهَا مَتى عجز عَن الْإِنْفَاق فعلى هَذَا لَا نسلمه وَإِن سلمت فَالْمَعْنى فِيهَا أَنه لَا يُمكنهَا أَن تتوصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة بِمثل ذَلِك السَّبَب إِذا أزيل ملكه عَنْهَا وهى هَا هُنَا يُمكنهَا التَّوَصُّل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة بِمثل ذَلِك السَّبَب إِذا أزيل ملكه عَنْهَا وَذَلِكَ بِأَن تتَزَوَّج آخر وَهُوَ بِمَنْزِلَة مَا ذكرت من العَبْد الْقِنّ
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي على الْفَصْل الأول إِذا كَانَ قد اسْتَويَا فِي مَسْأَلَتنَا فِي اسْتِحْقَاق النَّفَقَة بِالْملكِ فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا وَأوجب ذَلِك التَّسْوِيَة بَينهمَا فِي إِزَالَة الْملك فيهمَا لزمك أَنه قد اسْتَوَى البيع وَالنِّكَاح فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَحق بِهِ الْملك فَوَجَبَ أَن يستويا فِي إِبْطَاله بِفَوَات التَّسْلِيم
وَأما قَوْلك إِن الْمَقْصُود بِالنِّكَاحِ هُوَ الوصلة وَقد حصلت فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الْمَقْصُود فِي النِّكَاح هُوَ الْوَطْء لِأَن الزَّوْج إِنَّمَا يتَزَوَّج للاستمتاع لَا بِقصد الوصلة من غير استمتاع وعَلى أَنه إِن كَانَ الْمَقْصُود فِي النِّكَاح هُوَ الوصلة فَفِي البيع أَيْضا هُوَ الْملك دون الاقتناء والاستخدام بِدَلِيل أَنه إِذا اشْترى أَبَاهُ يحكم بِصِحَّة البيع وَإِن لم يحصل الِاسْتِخْدَام وَلَكِن لما حصل الْملك حكمنَا بِجَوَازِهِ وعَلى أَن فِي مَسْأَلَتنَا أَيْضا النِّكَاح مُخَالف لملك الْيَمين فِي بَاب النَّفَقَة أَلا ترى أَن كل نَفَقَة وَاجِبَة فِي ملك الْيَمين يسْتَحق بهَا الْإِزَالَة وَقد تجب فِي النِّكَاح نفقات وَاجِبَة يحبس عَلَيْهَا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهَا الْإِزَالَة وَهِي النَّفَقَة الْمَاضِيَة وَنَفَقَة الْخَادِم فَدلَّ ذَلِك على الْفرق بَينهمَا
وَأما الْفَصْل الثَّانِي وَهِي الْمُعَاوضَة فَهِيَ صَحِيحَة وَقَوله إِن هَاهُنَا أَيْضا يُمكن إِزَالَة الْملك بِالطَّلَاق فَغير صَحِيح لِأَن الطَّلَاق إِزَالَة ملك بِغَيْر عوض وَهَذَا لَا يُوجِبهُ الْعَجز عَن النَّفَقَة كَمَا لَا يجب إِعْتَاق عَبده للعجز عَن النَّفَقَة
وَأما مَا ألزمت من الْوَطْء إِذا عجز عَنهُ الزَّوْج فَلَيْسَ بِصَحِيح فَإِن فِي الْوَطْء لَا يُمكنهَا تَحْصِيله وَأما النَّفَقَة فيمكنها تَحْصِيلهَا بالاستقراض والاستخدام وَغير ذَلِك وتنفق على نَفسهَا
وَأما مَا قلت فِي أم الْوَلَد إِنِّي لَا أسلمه فَإِنَّهُ لَا خلاف أَنه لَا يجوز إعْتَاقهَا
وقولك إِنَّه لَا يتَوَصَّل إِلَى مثله بِمثل هَذَا السَّبَب وَهَاهُنَا يُمكنهُ التَّوَصُّل غير صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يُمكنهَا أَن تتوصل حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا وتتزوج زوجا آخر وَرُبمَا كَانَ الزَّوْج الثَّانِي مثل الزَّوْج الأول فِي الْفقر فَتَركهَا عِنْد الأول أولى
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على الْفَصْل الأول إِنَّمَا جمعت بَين الْملكَيْنِ وَجَعَلته مؤثرا فِي بَاب الْإِزَالَة وَهُوَ اسْتِحْقَاق النَّفَقَة فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِذا حصل الْعَجز وَوَجَبَت الْإِزَالَة فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وَجب فِي الْموضع الآخر مثله وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُسَاوَاة فِي البيع وَالنِّكَاح فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُوجب الْملك لِأَنَّهُمَا وَإِن تَسَاويا فِي الْملك إِلَّا أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي التَّسْلِيم أَلا ترى أَن التَّسْلِيم مُسْتَحقّ بعد البيع وَغير مُسْتَحقّ بعد النِّكَاح وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه إِذا بَاعَ عبدا آبقا لم يَصح العقد فَدلَّ على أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي وجوب التَّسْلِيم فَجَاز أَن يختلفا فِي جَوَاز التَّسْلِيم وَفِي مَسْأَلَتنَا اسْتَويَا فِي وجوب النَّفَقَة فَوَجَبَ أَن يتساويا فِي الْإِزَالَة عِنْد الْعَجز عَنْهَا

وَأما مَا ذكرت من الْفرق بَين البيع وَالنِّكَاح فِي الْمَقْصُود وَقلت إِن الْمَقْصُود من النِّكَاح هُوَ الوصلة والمصاهرة فَإِذا فرق الْمَوْت بَينهمَا فقد حصل الْمَقْصُود وتمت الوصلة فَلهَذَا قُلْنَا إِنَّه لَا يبطل وَفِي البيع الْمَقْصُود هُوَ التَّصَرُّف والاقتناء فَإِذا هلك التَّسْلِيم فَإِن الْمَقْصُود قد فَاتَ
وقولك إِن الرجل يقْصد بِالنِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاع فَهُوَ صَحِيح إِلَّا أَنه لَا يمْتَنع أَن يكون لَهُ مَقَاصِد أخر وَلَيْسَ كَذَلِك البيع فَإِن عَامَّة مقاصده قد فَاتَت بِفَوَات التَّسْلِيم فَافْتَرقَا
وَأما مَا ذكرت من أَن البيع الْمَقْصُود مِنْهُ أَيْضا هُوَ الْملك وَقد حصل بِدَلِيل أَنه يجوز لَهُ أَن يَشْتَرِي أَبَاهُ فَيعتق عَلَيْهِ فَهَذَا نَادِر وشاذ فِي بَاب البيع وَالْمَقْصُود من الْبياعَات والأشرية مَا ذكرت فَلَا يجوز إبِْطَال مَا وضع عَلَيْهِ الْبَاب بأشذ وأندر على أَن هُنَاكَ قد حصل الْمَقْصُود لِأَن الْمَقْصُود فِي شِرَاء الْوَالِد أَن يعْتق عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يَجْزِي ولد والدا إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه) وَلَيْسَ كَذَلِك هَاهُنَا إِذا مَاتَ قبل التَّسْلِيم فَإِنَّهُ لَا يحصل الْمَقْصُود فَافْتَرقَا
وَأما قَوْلك فِي ملك النِّكَاح أَيْضا إِنَّه مُخَالف للْملك فِي بَاب النَّفَقَة بِدَلِيل أَن كل نَفَقَة وَاجِبَة فِي ملك الْيَمين يزَال بِالْعَجزِ عَنْهَا الْملك وَلَا يزَال الْملك فِي النِّكَاح بِكُل نَفَقَة وَاجِبَة وَهِي النَّفَقَة الْمَاضِيَة وَنَفَقَة الْخَادِم فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ للبر فِي نَفَقَة الْخَادِم وَالنَّفقَة الْمَاضِيَة الْوَاجِبَة غير أَنه لَا ضَرَر فِي الِامْتِنَاع من ذَلِك فَلم يثبت لَهَا الْخِيَار وَعَلَيْهَا ضَرَر فِي الِامْتِنَاع من نَفَقَة الْحَال فَصَارَت هَذِه النَّفَقَة مثل نَفَقَة العَبْد سَوَاء

وَأما الْمُعَارضَة بِمَا ذكرت أَنه لَا يُمكن إِزَالَة الْملك هَاهُنَا بِالطَّلَاق وقولك إِن الطَّلَاق إِزَالَة ملك بِغَيْر الْعتْق وَهُوَ أَن يُبَاع
فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى إِزَالَة الْملك فِيهِ بِالْعِتْقِ وَلَيْسَ كَذَلِك فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهُ لَا يُمكن إِزَالَة الْملك فِيهَا بِالْبيعِ وَنقل الْملك فأزيل بِالطَّلَاق وَلِهَذَا قلت فِي أم الْوَلَد إِنَّه لما لم يُمكن إِزَالَة الْملك فِيهَا بِالْبيعِ أزلنا ذَلِك بِالْعِتْقِ على مَذْهَب بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ اخْتِيَار الشَّيْخ أبي يَعْقُوب وَأما مَا التزمت من الْوَطْء إِذا عجز فَهُوَ صَحِيح وَهُوَ فصل فِي الْمَسْأَلَة
قَالَ فَإِن الَّذِي يلْحق الْمَرْأَة فِي ترك النَّفَقَة أعظم من الضَّرَر فِي ترك الْجِمَاع فَإِن الْجِمَاع قد تصبر الْمَرْأَة لفقده وَالنَّفقَة لَا بُد مِنْهَا وَبهَا يقوم الْبدن وَالنَّفس ثمَّ قُلْنَا إِنَّه يثبت الْخِيَار وَإِن كَانَ لَا يُمكن نقل الْملك فِيهَا بعوض فَكَذَلِك هَاهُنَا
وَأما قَوْلكُم فِي الْجِمَاع لَا تتوصل إِلَيْهِ إِلَّا بِإِزَالَة الْملك وَهَاهُنَا تتوصل إِلَيْهِ بِأَن تستقرض فَغير صَحِيح فَإِنَّهُ يلْحقهُ الضَّرَر بالاستقراض وَيطْلب وَيحبس عَلَيْهِ وَإِن ألزمناها ذَلِك يجب أَن نلزمها أَن تكري لنَفسهَا وَفِي ذَلِك مشقة عَظِيمَة وَلَا يجب إلزامها
وَأما مَا ذكرت فِي أم الْوَلَد أَنى لَا أسلمه فَهُوَ صَحِيح وقولك إِنِّي أَقيس عَلَيْهِ إِذا كَانَ لَهَا كسب فَلَا يلْزم لِأَنَّهَا إِذا كَانَ لَهَا كسب فَلَيْسَ هُنَاكَ إعسار بِالنَّفَقَةِ فَإِن كسبها يكون لمولاها ويمكنه أَن ينْفق عَلَيْهَا وَفِي مَسْأَلَتنَا عجز عَن الْإِنْفَاق على مَا ذكرت
وَأما الْفرق الَّذِي ذكرت فَهُوَ صَحِيح وقولك إِنَّه لَا تتوصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة إِلَّا بِانْقِضَاء عدَّة فَتزَوج آخر فَغير صَحِيح لِأَنَّهُ لَو كَانَ لهَذَا الْمَعْنى لوَجَبَ أَن يفرق فِيهَا قبل الدُّخُول وَبعده وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ قبل الدُّخُول توصل إِلَى تَحْصِيل النَّفَقَة فِي الْحَال فَسقط مَا قلته وعَلى هَذَا إِن كَانَ لَا يُوجب إِزَالَة الْملك لهَذَا الْمَعْنى فَيجب أَن يكون فِي الْوَطْء لَا يثبت لَهَا الْخِيَار فَإِنَّهَا لَا تتوصل أَيْضا إِلَى تَحْصِيل الْجِمَاع حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا وتتزوج زوجا آخر وَرُبمَا كَانَ الثَّانِي مثل الأول فِي الْعَجز عَن الْجِمَاع وَلما ثَبت أَنه يَزُول الْملك للعجز عَن الْجِمَاع بَطل مَا قُلْتُمْ وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
مناظرة بَين إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَبَين الشَّيْخ أبي إِسْحَاق بنيسابور فِي اخْتِيَار الْبكر الْبَالِغ بِأَن قَالَ بَاقِيَة على بكارة الأَصْل فَجَاز للْأَب تَزْوِيجهَا بِغَيْر إِذْنهَا أَصله إِذا كَانَت صَغِيرَة فَقَالَ السَّائِل جعلت صُورَة هَذِه الْمَسْأَلَة عِلّة فِي الأَصْل وَذَلِكَ لَا يجوز
فَقَالَ لَا يَصح لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَنى مَا جعلت صُورَة الْمَسْأَلَة عِلّة فِي الأَصْل وَأَن صُورَة الْمَسْأَلَة تَزْوِيج الْبكر الْبَالِغَة من غير إِذن وعلتي أَنَّهَا بَاقِيَة على بكارة وَلَيْسَ هَذَا صُورَة الْمَسْأَلَة لِأَن هَذِه الْعلَّة غير مَقْصُورَة على الْبكر الْبَالِغَة بل هِيَ عَامَّة فِي كل بكر وَلِهَذَا قست على الصَّغِيرَة
الثَّانِي قَوْلك لَا يجوز أَن تجْعَل صُورَة الْمَسْأَلَة عِلّة دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَمَا الْمَانِع من ذَلِك الثَّالِث أَن الْعِلَل شَرْعِيَّة كَمَا أَن الْأَحْكَام شَرْعِيَّة وَلَا يُنكر فِي الشَّرْع أَن يعلق الشَّارِع الحكم على الصُّورَة مرّة كَمَا يعلق على سَائِر الصِّفَات فَلَا معنى للْمَنْع من ذَلِك فَإِن كَانَ عنْدك أَنه لَا دَلِيل على صِحَّتهَا فطالبني بِالدَّلِيلِ على صِحَّتهَا من جِهَة الشَّرْع
فَقَالَ السَّائِل مَا الدَّلِيل على صِحَّتهَا من الشَّرْع فَقَالَ الدَّلِيل على صِحَة هَذِه الْعلَّة الْخَبَر وَالنَّظَر
أما الْخَبَر فَمَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا) وَالْمرَاد بِهِ الثّيّب لِأَنَّهُ قابلها بالبكر فَقَالَ (وَالْبكْر تستأمر) فَدلَّ على أَن غير الثّيّب وَهِي الْبكر لَيست أَحَق بِنَفسِهَا وَأقوى طَرِيق تثبت بِهِ الْعلَّة مَا نطق بِهِ صَاحب الشَّرْع
وَأما النّظر فَلَا خلاف أَن الْبكر يجوز أَن تزَوجهَا من غير نطق لبكارتها وَلَو كَانَت ثَيِّبًا لم يجز تَزْوِيجهَا من غير نطق أَو مَا يقوم مقَام النُّطْق عِنْده وَهُوَ الْكِتَابَة وَلَو لم يكن تَزْوِيجهَا إِلَى الْوَلِيّ لما جَازَ تَزْوِيجهَا من غير نطق اعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي فَقَالَ الْمعول فِي الدَّلِيل على مَا ذكرت من الْخَبَر وَالنَّظَر فَأَما الْخَبَر فَإِنَّهُ يحْتَمل التَّأْوِيل فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون المُرَاد بِهِ أَن الثّيّب أَحَق بِنَفسِهَا لِأَنَّهُ لَا يملك تَزْوِيجهَا إِلَّا بالنطق وَالْبكْر بِخِلَافِهَا وَإِذا احْتمل التَّأْوِيل أولناه على مَا ذكرت بطرِيق يُوجب الْعلم وَهُوَ أَنه قد اجْتمع للبكر الْبَالِغَة الْأَسْبَاب الَّتِي يسْقط مَعهَا ولَايَة الْوَلِيّ وتستقل بِنَفسِهَا فِي التَّصَرُّف فِي حق نَفسهَا لِأَن الْمَرْأَة إِنَّمَا تفْتَقر إِلَى الْوَلِيّ لعدم استقلالها بِنَفسِهَا لصِغَر أَو جُنُون فَإِذا اجْتمع فِيهَا الْأَسْبَاب الَّتِي تَسْتَغْنِي بهَا عَن ولَايَة الْوَلِيّ لم يجز ثُبُوت الْولَايَة عَلَيْهَا فِي التَّزْوِيج بِغَيْر إِذْنهَا وَلِأَن فِي الْخَبَر مَا يدل على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَنه ذكر الْوَلِيّ وَأطلق وَلم يفصل بَين الْأَب وَالْجد وَغَيرهمَا من الْأَوْلِيَاء وَلَو كَانَ المُرَاد ولَايَة الْإِجْبَار لم يُطلق الْولَايَة لِأَن غير الْأَب وَالْجد لَا يملك الْإِجْبَار بِالْإِجْمَاع فَثَبت أَنه أَرَادَ بِهِ اعْتِبَار النُّطْق فِي حق الثّيّب وسقوطه فِي حق الْبكر وَلِأَنَّهُ قَالَ وَالْبكْر تستأمر وإذنها صماتها فَدلَّ أَنه أَرَادَ فِي الثّيّب اعْتِبَار النُّطْق
أجَاب الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ لَا يجوز حمله على مَا ذكرت من اعْتِبَار النُّطْق لِأَنَّهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَحَق بِنَفسِهَا) وَقد اقْتضى أَنَّهَا أَحَق بِنَفسِهَا فِي العقد وَالتَّصَرُّف دون النُّطْق
وقولك إِنَّه أطلق الْوَلِيّ فَإِنَّهُ عُمُوم مَا حمله على الْأَب وَالْجد بِدَلِيل التَّعْلِيل الَّذِي ذكره فِي الثّيّب فَإِنَّهُ قَالَ وَالثَّيِّب أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا) وَذكر الصّفة فِي الحكم تَعْلِيل وَالتَّعْلِيل بِمَنْزِلَة النَّص فيخص بِهِ الْعُمُوم كَمَا يخص بِالْقِيَاسِ
وقولك إِنَّه ذكر الصمات فِي حق الْبكر فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِهِ النُّطْق فِي حق الثّيّب لَا يَصح بل هُوَ الْحجَّة عَلَيْك لِأَنَّهُ لما ذكر الْبكر صفة إِذْنهَا وَأَنه الصمات وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ فِي الثّيّب النُّطْق لما احْتَاجَ إِلَى إِعَادَة الصمات فِي قَوْله (وَالْبكْر تستأمر) وَأما قَوْله إِن هَاهُنَا دَلِيلا يُوجب الْقطع غير صَحِيح وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس على سَائِر الولايات وَالْقِيَاس يتْرك بِالنَّصِّ
فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْمَعَالِي لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تَدعِي أَنه نَص ودعواه لَا تصح لِأَن النَّص مَا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل فَإِذا بَطل أَنه نَص جَازَ التَّأْوِيل بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذكرت
وَأما قَوْلك إِنِّي أحمل الْوَلِيّ على الْأَب وَالْجد بِدَلِيل التَّعْلِيل الَّذِي ذكره فِي الْخَبَر فَلَيْسَ بِصَحِيح لِأَن ذكر الصّفة فِي الحكم إِنَّمَا يكون تعليلا إِذا كَانَ مناسبا للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ كالسرقة فِي إِيجَاب الْقطع والثيوبة غير مُنَاسبَة للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهَا وَهِي أَنَّهَا أَحَق بِنَفسِهَا فَلَا يجوز أَن تكون عِلّة وَلِأَن مَا ذكرت لَيْسَ بِقِيَاس وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيق آخر فَجَاز أَن يتْرك لَهُ التَّعْلِيل

أجَاب الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق فَقَالَ أما التَّأْوِيل فَلَا يَصح دَعْوَاهُ لِأَن التَّأْوِيل صرف الْكَلَام عَن ظَاهره إِلَى وَجه يحْتَملهُ كَقَوْل الرجل رَأَيْت حمارا وَأَرَادَ بِهِ الرجل البليد فَإِن هَذَا مُسْتَعْمل فَصَارَ صرف الْكَلَام إِلَيْهِ فَأَما مَا لَا يسْتَعْمل اللَّفْظ فِيهِ فَلَا يَصح تَأْوِيل اللَّفْظ عَلَيْهِ كَمَا لَو قَالَ رَأَيْت بغلا ثمَّ قَالَ أردْت بِهِ رجلا بليدا لم يقبل لِأَن الْبَغْل لَا يسْتَعْمل فِي الرِّجَال بِحَال فَكَذَلِك هَاهُنَا قَوْله (الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا)
وقولك لَيْسَ بتعليل لِأَنَّهُ لَا يُنَاسب الحكم فَلَا يَصح لِأَن ذكر الصّفة فِي الحكم تَعْلِيل فِي كَلَام الْعَرَب أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ اقْطَعُوا السَّارِق كَانَ مَعْنَاهُ لسرقته وَإِذا قَالَ جَالس الْعلمَاء
مَعْنَاهُ لعلمهم
وقولك إِنَّه إِنَّمَا يجوز فِيمَا يصلح أَن يكون تعليلا للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ كالسرقة فِي إِيجَاب الْقطع
إِلَّا أَن التَّعْلِيل للْحكم الَّذِي علق عَلَيْهِ طَرِيقه الشَّرْع وَلَا يُنكر فِي الشَّرْع أَن تجْعَل الثيوبة عِلّة لإِسْقَاط الْولَايَة كَمَا لَا يُنكر أَن تجْعَل السّرقَة عِلّة لإِيجَاب الْقطع وَالزِّنَا للحد
وقولك هَذَا الَّذِي ذكرت لَيْسَ بِقِيَاس خطأ بل جعلت استقلالها بِهَذِهِ الصِّفَات معينا على الْولَايَة وَلَا يَصح بِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِالْإِسْنَادِ إِلَى الولايات الثَّابِتَة فِي الشَّرْع والولايات الثَّابِتَة فِي الشَّرْع إِنَّمَا زَالَت بِهَذِهِ الصِّفَات فِي الأَصْل فَحملت ولَايَة النِّكَاح عَلَيْهَا وَذَلِكَ يحصل بِالْقِيَاسِ وَلَو لم يكن هَذَا الأَصْل لما صَحَّ لَك دَعْوَى الِاسْتِقْلَال بِهَذِهِ الصِّفَات فَإِنَّهُ لَا يسلم أَن الْولَايَة تثبت فِي حق الْمَجْنُون وَالصَّغِير بِمُقْتَضى الْعقل وَإِنَّمَا يثبت ذَلِك بِالشَّرْعِ وَالشَّرْع مَا ورد إِلَّا فِي الْأَمْوَال فَكَانَ حمل النِّكَاح عَلَيْهِ قياسيا وَالْقِيَاس لَا يُعَارض النَّص وَقد ثَبت أَن الْخَبَر نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل فَلَا يجوز تَركه بِالْقِيَاسِ وَلِأَن هَذَا طَرِيق تعارضه مَسْأَلَة وَذَلِكَ أَنه إِذا كَانَت الْأُصُول مَوْضُوعَة على ثُبُوت الْولَايَة للْحَاجة وسقوطها بالاستقلال بِهَذِهِ الصِّفَات فالأصول مَوْضُوعَة على أَن النُّطْق لَا يعْتَبر إِلَّا فِي مَوضِع لَا يثبت فِيهِ الْولَايَة وَقد ثَبت أَن النُّطْق قد سقط فِي حق الْبكر فَوَجَبَ أَن تثبت الْولَايَة عَلَيْهَا
فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي رَحمَه الله النُّطْق سقط أَيْضا
فَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق هَذَا تَأْكِيد لِأَن سُقُوطه بِالنَّصِّ دَلِيل على مَا ذكرت
وَهَذَا آخر مَا جرى بَينهمَا
وَالله أعلم

طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي
 

 

 

 

إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي، أبي إسحاق: العلامة المناظر. ولد في فيروزاباد (بفارس) وانتقل إلى شيراز فقرأ على علمائها. وانصرف إلى البصرة ومنها إلى بغداد (سنة 415 هـ فأتم ما بدأ به من الدرس والبحث. وظهرنبوغه في علوم الشريعة الإسلامية، فكان مرجع الطلاب ومفتي الأمة في عصره، واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة. وبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية على شاطئ دجلة، فكان يدرّس فيها ويديرها.

عاش فقيرا صابرا. وكان حسن المجالسة، طلق الوجه، فصيحا مناظرا، ينظم الشعر. وله تصانيف كثيرة، منها (التنبيه - ط) و (المهذب - ط) في الفقه، و (التبصرة - خ) في أصول الشافعية، و (طبقات الفقهاء - ط) و (اللمع - ط) في أصول الفقه، وشرحه، و (الملخص) و (المعونة) في الجدل. مات ببغداد وصلى عليه المقتدى العباسي .

-الأعلام للزركلي-
 

 

 

 

أبو اسحاق الشيرازي
الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف، الشيرازي، الفيروزأبادي الملقب جمال الدين؛ سكن بغداد، وتفقه على جماعة من الأعيان منهم أبو أحمد عبد الوهاب بن محمد بن أمين وأبو عبد الله محمد بن عبد الله البيضاوي وأبو القاسم منصور بن عمر الكرخي وغيرهم وصحب القاضي أبا الطيب الطبري كثيراً، وانتفع به، وناب عنه في مجلسه، ورتبه معيداً في حلقته، وصار إمام وقته ببغداد، ولما بنى نظام الملك مدرسته ببغداد، ساله أن يتولاها، فلم يفعل، فولاها لأبي نصر ابن الصباغ صاحب الشامل مدة يسيرة، ثم أجاب إلى ذلك فتولاها، ولم يزل بها إلى أن مات، وقد بسطت القول في ذلك في ترجمة الشيخ أبي نصر عبد السيد بن الصباغ، صاحب الشامل، فليطلب منه. وسمع الحديث من أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني الحافظ وأبي علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزار وأبي الفرج محمد بن عبد الله الخرجوشي الشيرازى وغيرهم. وصنف التصانيف المباركة المفيدة، منها: المهذب في المذهب، والتنبيه في الفقه، واللمع وشرحها في أصول الفقه، والنكت في الخلاف، والتبصرة، والمعونة، والتلخيص ، في الجدل، وغير ذلك، وانتفع به خلق كثير.
وله الشعر الحسن، فمنه:
سألت الناس عن خلٍ وفيٍ ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بذيل حر ... فإن الحر في الدنيا قليل
وقال الشيخ أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى: كان ببغداد شاعراً مفلق، يقال له عاصم، فقال يمدح الشيخ أبا إسحاق قدس الله سره :
تراه من الذكاء نحيف جسمٍ ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسم النحيل وكان في غاية من الورع والتشدد في الدين، ومحاسنه أكثر من أن تحصر.
ولد في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة بفيروزاباذ، وتوفي ليلة الأحد، الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، قاله السمعاني في الذيل، وقيل: في جمادى الأولى، قاله السمعاني أيضا، سنة ست وسبعين وأربعمائة، ببغداد، ودفن من الغد بباب أبرز، رحمة الله.
ورثاه أبو القاسم ابن ناقياء، واسمه عبد الله، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، بقوله:
أجرى المدامع بالدم المهراق ... خطب أقام قيامة الآماق
ما لليالي لا تؤلف شملها ... بعد ابن بجدتها أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت من ذكره ... حي على مر الليالي باقي وذكره محب الدين النجار في تاريخ بغداد، فقال في حقه: إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار من تلامذته. ولد بفير وزاباذ، بلدة بفارس، ونشأ بها، ودخل شيراز، وقرأ بها الفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعلى أبي أحمد عبد الوهاب بن رامين، ثم دخل البصرة وقرأ على الحوزي، ودخل بغداد في شوال سنة خمس عشرة وأربعمائة وقرأ على أبي الطيب الطبري، ومولده في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة.
وقال أبو عبد الله الحميدي: سألته عن مولده، فذكر دلائل دلت علىسنة ست وتسعين، قال: ورحلت في طلب العلم إلى شيراز، في سنة عشر وأربعمائة، وقيل: إن مولده في سنة خمس وتسعين، والله أعلم.
وجلس أصحابه للعزاء بالمدرسة النظامية، ولما انقضى العزاء رتب مؤيد الملك بن نظام الملك أبا سعد المتولي مكانه، ولما بلغ الخبر نظام الملك كتب بإنكار ذلك، وقال: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله، وزرى على من تولى موضعه، وأمرأن يدرس الشيخ أبو نصر عبد السيد بن الصباغ في مكانه، رحمهم الله تعالى.
وفير وزاباذ - بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحت وضم الراء المهملة وبعد الواو الساكنة زاء مفتوحة معجمة وبعد الألف باء موحدة وبعدالألف ذال معجمه - بلدة بفارس، ويقال: هي مدينة جور، قاله الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتابه الأنساب، وقال غيره: هي بفتح الفاء، والله أعلم.

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبو العباس شمس الدين أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي.

 

 

 

 

الشيخ الإمام أبو إسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الشِّيرازي الفيروزابادي الفقيه الشافعي، المتوفى ببغداد في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة، عن ثلاث وثمانين سنة.
تفقه بشيراز على أبي عبد الله البَيْضَاوي وببغداد على أبي الطّيب الطّبَري وأبي حاتم القَزْويني والزَّجَّاجي وكان يعيد كل درسٍ ألف مرة وحفظ القصيدة لبيت يستشهد به.
وسمع الحديث من أبي بكر البرقاني وابن شادان وما برح يسعى حتى صار أنظر أهل زمانه والمقدم على أقرانه فانتشر صيته ورحلوا إليه، روى عنه الخطيب والحُمَيدي وخلق ودرًس بالنظامية أول ما بنيت بعد تَمَنُّع وذلك في مستهل ذي الحجة سنة 459 واستمر بها إلى أن مات.
وصنف كتباً، منها: "المهذَّب" و"التنبيه" و "اللُّمع" وشرحه و "التبصرة" و"النكت" و"الملخص" و"طبقات الشافعية" وغير ذلك. وكان زاهداً لا يملك شيئاً من الدنيا وربما بقي مدة لا يأكل شيئاً ودخل خراسان سفيراً من المقتدي فيخرج أهل كل بلد يتمسحون بركابه وحين دخل نيسابور حمل شيخ البلد إمام الحرمين غاشيته وقال: افتخر بهذا، ثم تناظرا في مسائل وكان الشيخ يحفظ مسائل الخلاف كما يحفظ الإنسان الفاتحة وكان في مناقبه تأليف مختصر. ذكره السبكي وابن خَلِّكان.
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.

 

 

 

الشَّيْخُ، الإِمَامُ، القُدْوَةُ، المُجْتَهِدُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو إسحاق، إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَلِيِّ بنِ يُوْسُفَ الفَيْروزآبَادِيُّ، الشيرَازِيُّ، الشَّافِعِيُّ، نَزِيْلُ بَغْدَادَ، قِيْلَ: لَقَبُه جَمَالُ الدِّيْنِ.
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَة.
تَفقه عَلَى: أَبِي عَبْدِ اللهِ البَيْضَاوِيّ، وَعَبْدِ الوَهَّابِ بن رَامِين بَشِيْرَاز، وَأَخَذَ بِالبَصْرَةِ عَنِ الخَرَزِي.
وَقَدِمَ بَغْدَاد سَنَة خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مائَة، فَلزمَ أَبَا الطَّيب، وَبَرَعَ، وَصَارَ مُعيده، وَكَانَ يُضرب المَثَل بفصَاحته وَقوَّةِ مُنَاظرته.
وَسَمِعَ من: أبي علي بن شاذان، وأبي بكر البَرْقَانِي، وَمُحَمَّدِ بنِ عُبَيْد اللهِ الخرجُوشي.
حَدَّثَ عَنْهُ: الخَطِيْبُ، وَأَبُو الوَلِيْدِ البَاجِي، والحُميدي، وَإِسْمَاعِيْلُ بن السَّمَرْقَنْدِيّ، وَأَبُو البَدر الكَرْخِيّ، وَالزَّاهِدُ يُوْسُفُ بنُ أَيُّوْبَ، وَأَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الطُّوْسِيّ، وَأَبُو الحَسَنِ بنُ عَبْدِ السَّلاَم، وَأَحْمَدُ بنُ نَصْرِ بن حِمَّان الهَمَذَانِيّ خَاتِمَةُ مِنْ رَوَى عَنْهُ.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: هُوَ إِمَامُ الشَّافِعِيَّة، وَمُدَرِّس النِّظَامِيَّة، وَشيخ العَصْر. رَحل النَّاسُ إِلَيْهِ مِنَ البِلاَد، وَقَصدُوْهُ، وَتَفَرَّد بِالعِلْمِ الوَافر مَعَ السيرَةِ الجمِيْلَة، وَالطّرِيقَةِ المَرْضِيَّة. جَاءته الدُّنْيَا صَاغرَةً، فَأَبَاهَا، وَاقتصر عَلَى خُشونَة الْعَيْش أَيَّامَ حيَاتِه. صَنَّف فِي الأُصُوْل وَالفروعِ وَالخلاَفِ وَالمَذْهَب، وَكَانَ زَاهِداً، وَرِعاً، مُتوَاضعاً، ظرِيفاً، كَرِيْماً، جَوَاداً، طَلْقَ الوَجْه، دَائِمَ البِشْر، مليحَ المُحاورَة. حَدَّثَنَا عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيْرَة.
حُكِي عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ نَائِماً بِبَغْدَادَ، فرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! بَلَغَنِي عَنْكَ أَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ عَنْ نَاقلِي الأَخْبَار، فَأُرِيْد أَنْ أَسْمَع مِنْكَ حَدِيْثاً أَتشرَّف بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَجعله ذُخراً لِلآخِرَة، فَقَالَ لِي: يَا شَيْخ! -وَسمَّانِي شَيْخاً وَخَاطبنِي بِهِ. وَكَانَ يَفرح بِهَذَا- قل عَنِّي: مَنْ أَرَادَ السَّلاَمَةَ، فَلْيَطْلُبهَا فِي سلاَمَةِ غَيْره. قَالَ السَّمْعَانِيّ: سَمِعْتُ هَذَا بِمَرْوَ مِنْ أَبِي القَاسِمِ حَيْدَر بن مَحْمُوْد الشيرَازِي، أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّ رَجُلاً أَخسَأَ كلبا، فقال: مه! الطريق بينك وبينه.
وَعَنْهُ: أَنَّهُ اشْتَهَى ثرِيْداً بِمَاء باقلاَّء، قَالَ: فَمَا صَحَّ لِي أَكلُه لاشتغَالِي بِالدَّرس وَأَخَذِي النّوبَة.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا بِبَغْدَادَ: كَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاقَ إِذَا بَقِيَ مُدَّةً لاَ يَأْكُل شَيْئاً، صَعد إِلَى النَّصرِيَّة وَلَهُ بِهَا صَدِيْق، فَكَانَ يَثْرِدُ لَهُ رَغِيْفاً، وَيَشرَبُه بِمَاء البَاقلاَّء، فَرُبَّمَا صعد إِلَيْهِ وَقَدْ فَرغ، فَيَقُوْلُ أَبُو إِسْحَاقَ: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النَّازعَات: 12] .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيّ: أَبُو إِسْحَاقَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى أَئِمَّة العَصْر.
وَقَالَ المُوفَّق الحَنَفِيّ: أَبُو إِسْحَاقَ أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ فِي الفُقَهَاء.
قَالَ القاضي ابن هانىء: إِمَامَانِ مَا اتَّفَقَ لَهُمَا الحَجّ، أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَاضِي القُضَاة أَبُو عَبْدِ اللهِ الدَّامغَانِيّ. أَمَا أَبُو إِسْحَاقَ فَكَانَ فَقيراً، وَلَوْ أَرَادَه لحملُوْهُ عَلَى الأَعْنَاق. وَالآخر لَوْ أَرَادَهُ لأَمكنه عَلَى السُّندس وَالاسْتَبْرق.
السَّمْعَانِيّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بنَ القَاسِمِ الشَّهْرُزُورِيّ بِالمَوْصِلِ يَقُوْلُ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: أَيُّ سكتَةٍ فَاتَتْكَ؟!. قَالَ: وَكَانَ يَتَوَسْوَسُ -يعني: في الماء-. وسمعت عبد الوهاب الأَنْمَاطِيّ يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَتوضَّأُ فِي الشطّ، وَيَشُكُّ فِي غَسْلِ وَجهه، حَتَّى يُغَسِّله مَرَّات، فَقَالَ لَهُ رَجُل: يَا شَيْخ! مَا هَذَا ? قَالَ: لَوْ صَحَّتْ لِيَ الثَّلاَثُ مَا زِدْت عَلَيْهَا.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: دَخَلَ أَبُو إِسْحَاقَ يَوْماً مَسْجِداً ليتغدَّى، فَنَسِيَ دِيْنَاراً، ثُمَّ ذَكَرَ، فَرَجَعَ، فَوَجَده، فَفَكَّر، وَقَالَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ مِنْ غَيْرِي، فَتركه.
قِيْلَ: إِنَّ ظَاهِراً النَّيْسَابُوْرِيّ خَرَّجَ لأَبِي إِسْحَاقَ جُزْءاً، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ بنُ شَاذَانَ. وَمرَّة: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ أَحْمَدَ البَزَّاز. وَمرَّة: أَخْبَرَنَا الحَسَنُ ابْن أَبِي بَكْرٍ الفَارِسِيّ، فَقَالَ: مَنْ ذَا ? قَالَ: هُوَ ابْنُ شَاذَانَ. فَقَالَ: مَا أُرِيْدُ هَذَا الْجُزْء، التَّدْليسُ أَخُو الْكَذِب.
قَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ الأَنْصَارِيّ: أَتيت أَبَا إِسْحَاقَ بفُتْيَا فِي الطَّرِيْق، فَأَخَذَ قلم خَبَّازٍ، وَكَتَبَ، ثُمَّ مسحَ الْقَلَم فِي ثَوْبه.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: سَمِعْتُ جَمَاعَة يَقُوْلُوْنَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو إِسْحَاقَ نَيْسَابُوْر رَسُوْلاً تَلَقَّوْهُ، وَحَمَلَ إِمَام الحَرَمَيْنِ غَاشِيَتَه، وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: أَفتخِرُ بِهَذَا. وَكَانَ عَامَّة المدرّسين بِالعِرَاقِ وَالجِبَال تلامذته وأتباعه وكفاهم بذلك فَخراً وَكَانَ يُنْشِدُ الأَشعَارَ المَلِيْحَة، وَيُوردُهَا، وَيَحفَظُ مِنْهَا الكَثِيْر.
وَعَنْهُ قَالَ: العِلْمُ الَّذِي لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُه أَنْ يَكُوْنَ الرَّجُل عَالِماً وَلاَ يَكُوْن عَامِلاً.

وَقَالَ: الجَاهِلُ بِالعالِمِ يَقتدي، فَإِذَا كَانَ العَالِم لاَ يَعملُ، فَالجَاهِلُ مَا يَرْجُو مِنْ نَفْسِهِ ? فَاللَّهَ اللَّهَ يَا أَوْلاَدِي! نَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ يَصِيْر حَجَّةً عَلَيْنَا.
قِيْلَ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحِيْم بنَ القُشَيْرِيّ جلس بِجَنْبِ الشَّيْخ أَبِي إِسْحَاقَ، فَأَحسَّ بثِقلٍ فِي كُمِّهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا سيدنَا ? قَالَ: قرصِي الملاَح، وَكَانَ يَحملهُمَا فِي كُمِّهِ لِلتَّكَلُّفِ.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: رَأَيْت بخطِّ أَبِي إِسْحَاقَ رُقعة فِيْهَا نُسخَةُ مَا رَآهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المزِيديّ: رَأَيْتُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّيْنَ لَيْلَة جُمُعَةٍ أَبَا إِسْحَاقَ الفِيروزآبَادِيّ فِي مَنَامِي يَطيرُ مَعَ أَصْحَابه فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَة أَوِ الرَّابِعَة، فَتحيَّرتُ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا هُوَ الشَّيْخُ الإِمَام مَعَ أَصْحَابه يَطيرُ وَأَنَا مَعَهُم، فَكُنْتُ فِي هَذِهِ الفكرَة إِذْ تلقَّى الشَّيْخَ مَلَكٌ، وَسلَّم عَلَيْهِ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقرَأُ عَلَيْك السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ: مَا تُدَرِّسُ لأَصْحَابك? قَالَ: أُدَرِّس مَا نُقِلَ عَنْ صَاحِب الشَّرع. قَالَ لَهُ الملكُ: فَاقرَأْ عليَّ شَيْئاً أَسْمَعه. فَقَرَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مَسْأَلَةً لاَ أَذْكُرُهَا. ثُمَّ رَجَعَ المَلَكُ بَعْد سَاعَةٍ إِلَى الشَّيْخ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُوْلُ: الحَقُّ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُك، فَادخُلِ الجَنَّةَ مَعَهُم.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: كُنْتُ أُعيدُ كُلَّ قِيَاسٍ أَلفَ مرَّة، فَإِذَا فَرغتُ، أَخذتُ قيَاساً آخر عَلَى هَذَا، وَكُنْتُ أُعيْدُ كُلّ دَرْسٍ أَلفَ مرَّة، فَإِذَا كَانَ فِي المَسْأَلَة بَيْتٌ يُسْتَشهدُ بِهِ حَفِظتُ القصيدَة الَّتِي فِيْهَا البَيْت.
كَانَ الوَزِيْرُ ابْنُ جَهِير كَثِيْراً مَا يَقُوْلُ: الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ وَحيدُ عصره، وَفرِيْدُ دَهْرِهِ، وَمُسْتجَابُ الدَّعوَة.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: لمَا خَرَجَ أَبُو إِسْحَاقَ إِلَى نَيْسَابُوْرَ، خَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ تَلاَمِذته كَأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيّ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ الطَّبرِيّ، وَأَبِي مُعَاذ الأَنْدَلُسِيّ، وَالقَاضِي عليّ المَيَانَجِيّ، وَقَاضِي البَصْرَةِ ابْنِ فِتيَان، وَأَبِي الحَسَنِ الآمِدِيّ، وَأَبِي القَاسِمِ الزَّنْجَانِيّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الفَارِقِيّ، وَأَبِي العَبَّاسِ بن الرُّطبِيّ.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: ولد أبو إسحاق بفيروزاباذ -بُليدَة بفَارِس- وَنَشَأَ بِهَا، وَقرَأَ الفِقْهَ بَشِيْرَاز عَلَى أَبِي القَاسِمِ الدَّارَكِيّ، وَعَلَى أَبِي الطَّيِّب الطَّبَرِيّ صَاحِب المَاسَرْجِسِيّ، وَعَلَى الزَّجَّاجِيّ صَاحِبِ ابْن القَاصّ، وَقرَأَ الكَلاَمَ عَلَى أَبِي حَاتِمٍ القَزْوِيْنِيّ صَاحِبِ ابْن البَاقِلاَّنِيّ، وَخَطُّه فِي غَايَة الرَّدَاءة.
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ الجُرْجَانِيّ القَاضِي: كَانَ أَبُو إِسْحَاقَ لاَ يَملك شَيْئاً، بلغَ بِهِ الفَقْر، حَتَّى كَانَ لاَ يَجدُ قُوتاً وَلاَ مَلْبَساً، كنا نأتيه وهو ساكن في القطيعة، فِيقوم لَنَا نِصْف قَوْمَةٍ، كِي لاَ يظْهر مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ العُرِي، وَكُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ، فَتعلَّقَ بِهِ باقلاَّنِيّ، وَقَالَ: يَا شَيْخُ! كَسَرْتَنِي وَأَفقرتَنِي! فَقُلْنَا: وَكم لَكَ عِنْدَهُ ? قَالَ: حَبَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حبتَان وَنِصْف.
وَقَالَ ابْنُ الخَاضبَة: كَانَ ابْنُ أَبِي عقيل يَبعث مِنْ صُوْر إِلَى الشَّيْخ أَبِي إِسْحَاقَ البَدْلَة وَالعِمَامَة المُثَمَّنَة، فَكَانَ لاَ يَلْبَس العِمَامَة حَتَّى يَغسلهَا فِي دِجْلَة، وَيَقْصِد طهَارتهَا.
وَقِيْلَ: إِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ نَزع عِمَامَته -وَكَانَتْ بِعِشْرِيْنَ دِيْنَاراً- وَتوضَأَ فِي دِجْلَة، فَجَاءَ لِصٌّ، فَأَخَذَهَا، وَتركَ عِمَامَةً رديئَةً بَدَلهَا، فَطَلَعَ الشَّيْخ، فَلبِسهَا، وَمَا شعر حَتَّى سَأَلُوْهُ وَهُوَ يدرّس، فَقَالَ: لَعَلَّ الَّذِي أَخَذَهَا مُحْتَاج.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ الخَاضبَة: سَمِعْتُ بَعْض أَصْحَاب أَبِي إِسْحَاقَ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ الشَّيْخ كَانَ يُصَلِّي عِنْد فَرَاغ كُلّ فَصلٍ مِنَ "المُهَذَّب".
قَالَ نِظَامُ -المُلك وَأَثْنَى عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ وَقَالَ: كَيْفَ حَالِي مَعَ رَجُل لاَ يُفَرِّقُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَهْروز الفَرَّاش فِي المُخَاطبَة? قَالَ لِي: بَارَكَ اللهُ فِيك. وَقَالَ لَهُ لَمَّا صبَّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ الهَمَذَانِيّ: حَكَى أَبِي قَالَ: حضَرتُ مَعَ قَاضِي القُضَاة أَبِي الحَسَنِ المَاورديّ عزَاءً، فَتكلّم الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَاجلاً، فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ المَاورديّ: مَا رَأَيْتُ كَأَبِي إسحاق! لو رآه الشافعي لتجمل به.
أَخْبَرَنِي الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ الهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ: سَأَلت شُجَاعاً الذُّهْلِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَ: إِمَامُ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَالمُقَدَّمُ عَلَيْهِم فِي وَقته بِبَغْدَادَ. كَانَ ثِقَةً، وَرِعاً، صَالِحاً، عَالِماً بِالخلاَف عِلْماً لاَ يُشَاركه فِيْهِ أَحَد.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ الهَمَذَانِيّ: نَدَبَ المُقتدي بِاللهِ أَبَا إِسْحَاقَ لِلرسليَة إِلَى المعَسْكَر، فَتوجَّه فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ، فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِ أَهْلُ البَلَد بِنسَائِهِم وَأَولأَدْهم يَمْسَحُوْنَ أَرْدَانه*، وَيَأْخذُوْنَ تُرَابَ نَعليه يَسْتَشفُوْنَ بِهِ، وَخَرَجَ الخَبَّازون، وَنثرُوا الْخبز، وَهُوَ يَنهَاهُم، وَلاَ يَنْتهون، وَخَرَجَ أَصْحَاب الفَاكِهَة وَالحلوَاء، وَنثرُوا عَلَى الأَسَاكفَة، وَعملُوا مدَاسَاتٍ صغَاراً، وَنَثَرُوهَا، وَهِيَ تَقَعُ عَلَى رُؤُوْس النَّاسِ، وَالشَّيْخُ يَعْجَبُ، وَقَالَ لَنَا: رَأَيتُم النثار، ما وَصلَ إِلَيْكُم مِنْهُ ? فَقَالُوا: يَا سيّدي! وَأَنْت أَيَّ شَيْءٍ كَانَ حظُّكَ مِنْهُ ? قَالَ: أَنَا غطيت نفسي بالمحفة.

قَالَ شِيْرَوَيْه الدَّيلمِيّ فِي "تَارِيخ هَمَذَان": أَبُو إِسْحَاقَ إِمَامُ عصره قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُوْلاً إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاه، سَمِعْتُ مِنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً فَقِيْهاً زَاهِداً فِي الدُّنْيَا عَلَى التّحقيق، أَوحدَ زَمَانه.
قال خطيب الموصل أبي الفَضْلِ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: تَوجهتُ مِنَ المَوْصِل سَنَة "459" إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا حضَرتُ عِنْدَهُ رحَّب بِي، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ ? فَقُلْتُ: مِنَ المَوْصِل، قَالَ: مَرْحَباً أَنْتَ بَلديِّي. قُلْتُ: يا سيدنا! أَنْتَ مِنْ فِيروزآبَاد. قَالَ: أَمَا جَمَعتنَا سَفِيْنَةُ نُوْح ? فَشَاهَدتُ مِنْ حُسن أَخلاَقه وَلطَافته وَزُهْده مَا حبَّبَ إِلَيَّ لُزومَه، فَصَحِبته إِلَى أَنْ مَاتَ.
تُوُفِّيَ لَيْلَة الحَادِي وَالعِشْرِيْنَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة بِبَغْدَادَ، وَأُحضر إِلَى دَار أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ المُقتدي بِاللهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَة بَاب أَبرز، وَعُمِلَ العزَاء بِالنّظَامِيَّة، وَصَلَّى عَلَيْهِ صَاحِبُه أَبُو عَبْدِ اللهِ الطَّبرِيّ، ثُمَّ رتَّب المُؤَيَّدُ بنُ نِظَام الْملك بَعْدَهُ فِي تَدْرِيس النّظَامِيَّة أَبَا سَعْد المُتولِّي، فَلَمَّا بلغَ ذَلِكَ النّظَامَ، كتبَ بِإِنْكَار ذَلِكَ، وَقَالَ: كَانَ مِنَ الوَاجِب أَنْ تُغلق المدرسَةُ سَنَةً مِنْ أَجْل الشَّيْخ. وَعَاب عَلَى مَنْ تَولَّى، وَأَمر أَنْ يُدَرِّس الإِمَامُ, أَبُو نَصْرٍ عبدُ السَّيِّد بنُ الصّبَّاغ بِهَا.
قُلْتُ: درَّس بِهَا الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ بَعْدَ تَمَنُّع، وَلَمْ يَتَنَاوَل جَامَكِيَّةً أَصلاً، وَكَانَ يَقتصِرُ عَلَى عِمَامَةٍ صغِيرَة وَثَوْبٍ قُطنِي، وَيَقْنَعُ بِالقُوْت، وَكَانَ الفَقِيْهُ رَافِعٌ الحَمَّال رفِيقَه فِي الاشتغَال، فِيحمل شطرَ نَهَاره بِالأُجرَة، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ إِنَّ رَافِعاً حَجَّ وَجَاور، وَصَارَ فَقِيْهَ الْحرم فِي حُدُوْدِ الأَرْبَعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة.
وَمَاتَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَلَمْ يُخَلِّف دِرْهَماً، ولا عليه درهم. وكذا فليكن الزهد، وما تزوج فيها أَعْلَم، وَبِحُسْن نِيتهِ فِي العِلْمِ اشتهرتْ تَصَانِيْفُه فِي الدُّنْيَا، "كَالمهذَّب"، وَ "التَّنْبِيه"، وَ "اللُّمَع في أصول الفقه"، و "شرح اللمع"، و "المعونة فِي الجَدَل"، وَ "الْمُلَخَّص فِي أُصُوْل الفِقْه"، وَغَيْر ذَلِكَ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
أُحبّ الكَأْسَ مِنْ غَيْرِ المُدَامِ ... وَأَلهُوَ بِالحسَابِ بِلاَ حَرَامِ
وَمَا حُبِّي لفاحشةٍ وَلَكِنْ ... رَأَيْتُ الحُبَّ أَخلاَقَ الكِرَامِ
وَقَالَ:
سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ خلٍّ وفيٍّ ... فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيْلُ
تَمَسَّكْ إِنْ ظَفِرْتَ بِوُدِّ حرٍّ ... فَإِنَّ الحُرَّ فِي الدُّنْيَا قَلِيْلُ
ولعاصم بن الحسن فيه:

تَرَاهُ مِنَ الذَّكَاءِ نَحِيْفَ جسمٍ ... عَلَيْهِ مِنْ تَوَقُّدِهِ دَلِيْلُ
إِذَا كَانَ الفَتَى ضَخْمَ المَعَانِي ... فَلَيْسَ يَضِيْرُهُ الجِسْمُ النَّحِيْلُ
وَلأَبِي القَاسِمِ بن نَاقيَاء يَرثيه:
أَجْرَى المَدَامِعَ بِالدَّمِ المُهْرَاقِ ... خطبٌ أَقَامَ قِيَامَةَ الآمَاقِ
خطبٌ شَجَا مِنَّا القُلُوبَ بلوعةٍ ... بَيْنَ التَّرَاقِي مَا لَهَا مِنْ رَاقِ
مَا لِلَّيَالِي لاَ تُؤَلِّفُ شَمْلَهَا ... بَعْد ابْن بجدبها أَبِي إِسْحَاقِ
إِن قِيْلَ مَاتَ فَلَمْ يَمُتْ مَنْ ذِكْرُهُ ... حيٌّ عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي باقِ
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَمَا دَخَلتُ بلدَة إلَّا كَانَ قَاضِيهَا أَوْ خطيبُهَا أَوْ مُفتيهَا مِنْ أَصْحَابِي. قَالَ أَنْوشتِكين الرضواني: أنشدني أبو إسحاق الشيرازي لنفسه:
وَلَوْ أَنِّي جُعِلْتُ أَمِيْرَ جيشٍ ... لَما قَاتَلْتُ إلَّا بِالسُّؤَال
لأَنَّ النَّاسَ يَنهزمُوْنَ مِنْهُ ... وَقَدْ ثبتوا لأطراف العوالي

سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.

 

 

 

إِبْرَاهِيم بن عَليّ [393 - 476]
ابْن يُوسُف بن عبد الله، أَبُو إِسْحَاق الفيروزابادي.
من أهل فيروزاباد: بِكَسْر الْفَاء من غير تصفية الْيَاء بعْدهَا كنحو الإمالة، وَضم الرَّاء من غير تصفية الْوَاو أَيْضا، وزاي، ثمَّ ألف، يُقَال كَذَا نظرا إِلَى فارسيتها، وَفتح الْفَاء من غير تحتيت فِي شَيْء من الْحُرُوف، وَهُوَ مُقْتَضى التعريب، كَمَا فِي فَيْرُوز اسْم رجل.
هُوَ الإِمَام السائر الثَّابِت ذكره، العالي فِي الدّين وَالدُّنْيَا قدره، قَالَ فِيهِ الإِمَام أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ: هُوَ إِمَام الشَّافِعِيَّة، الْمدرس بِبَغْدَاد فِي النظامية، شيخ الدَّهْر، وَإِمَام الْعَصْر، رَحل إِلَيْهِ النَّاس من الْأَمْصَار، وقصدوه من كل الجوانب والأقطار، وَكَانَ يجْرِي مجْرى أبي الْعَبَّاس ابْن سُرَيج، رحمهمَا الله
قَالَ الشَّيْخ: لَعَلَّه يَعْنِي فِي نشر الْعلم والرحلة إِلَيْهِ فِيهِ، وَشبهه.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: وَكَانَ زاهدا، ورعا، متواضعا، متخلقا، ظريفا، كَرِيمًا، سخيا، جوادا، طلق الْوَجْه، دَائِم الْبشر، حسن المجالسة، مليح المحاورة، وَكَانَ يَحْكِي الحكايات الْحَسَنَة، والأشعار المستبدعة المليحة، ويحفظ مِنْهَا شَيْئا كثيرا، قَالَ: وَكَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الفصاحة والجري.

وَقَالَ أَبُو سعد أَيْضا: تفرد الإِمَام أَبُو إِسْحَاق بِالْعلمِ الوافر، كالبحر الزاخر، مَعَ السِّيرَة الجميلة، والطريقة المرضية، جَاءَتْهُ الدُّنْيَا صاغرة فأباها، واطرحها وقلاها.
قَالَ: وَكَانَت عَامَّة المدرسين بالعراق وَالْجِبَال تلاميذه وأشياعه، صنف فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَالْخلاف وَالْمذهب كتبا، أضحت للدّين وَالْإِسْلَام أنجما وشهبا.
تفقه الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق - رَحمَه الله - بِفَارِس على أبي الْفرج ابْن الْبَيْضَاوِيّ، وبالبصرة على الخرزي، وَدخل بَغْدَاد سنة خمس عشرَة وَأَرْبع مئة، وتفقه على الإِمَام أبي الطّيب الطَّبَرِيّ ولازمه واشتهر بِهِ حَتَّى صَار أنظر أهل زَمَانه، وَسمع الحَدِيث من أبي بكر البرقاني الْحَافِظ، وَأبي عَليّ ابْن شَاذان، وَأبي عبد الله الصُّورِي الْحَافِظ، وَأبي الْفرج الخرجوشي الشِّيرَازِيّ وَغَيرهم.
روى عَنهُ خلق.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: سَمِعت بعض أهل الْعلم يَقُول: كَانَ أَبُو نصر الْقشيرِي جَالِسا بِجنب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق فِي الدِّيوَان بدار الْخلَافَة، وَكَانَا يتكلمان فِي مَسْأَلَة، فأحس أَبُو نصر الْقشيرِي بثقل فِي كم الشَّيْخ أبي إِسْحَاق، فَقَالَ لَهُ الْقشيرِي: مَا هَذَا يَا سيدنَا؟ فَقَالَ: قرصتا الملاح، وَكَانَ يحملهَا فِي كمه طرحا للتكلف، رَحمَه الله.
سَمِعت الرئيس أَبَا الْحسن عَليّ بن هبة الله بن عبد السَّلَام الْكَاتِب مذاكرة يَقُول: كَانَ عميد الدولة ابْن جهير الْوَزير كثيرا مَا يَقُول: الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق، وحيد عصره وفريد دهره، مستجاب الدعْوَة.
سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عَليّ الْخَطِيب يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الفاشاني يَقُول: سَمِعت القَاضِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد الماهاني يَقُول: إمامان مَا اتّفق لَهما الْحَج: الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وقاضي الْقُضَاة أَبُو عبد الله الدَّامغَانِي؛ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ مَا كَانَت لَهُ استطاعة الزَّاد وَالرَّاحِلَة، وَلَكِن لَو أَرَادَ الْحَج لحملوه على الأحداق إِلَى مَكَّة، والدامغاني لَو اراد أَن يحجّ على السندس والإستبرق أمكنه؛ وَمَعَ ذَلِك مَا حجا.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: الماهاني الحاكي، والدامغاني؛ حنفيان.
وَذكر أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ أَنه سمع بعض أهل الْعلم يَحْكِي أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق - رَحمَه الله - كَانَ يَشْتَرِي طَعَاما كثيرا، وَيدخل بعض الْمَسَاجِد، ويأكله مَعَ بعض أَصْحَابه، وَمَا يفضل مِنْهُم يَقُول لأَصْحَابه: لَا تمسوه، واتركوه لمن يدْخل ويرغب فِيهِ.
وَعَن بعض أهل الْعلم أَن الشَّيْخ أخرج يَوْمًا قرصتين، وَقَالَ لبَعض أَصْحَابه: وَكلتك أَن تشتري كَذَا وَكَذَا بِهَذِهِ القرصة على وَجه هَذِه القرصة الْأُخْرَى، فَفعل الرجل، وَشك فِي أَنه بِأَيّ القرصتين اشْترى، فَلم يَأْكُل الشَّيْخ مِنْهُ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي اشْتريت بِالَّتِي وَكلتك فِيهَا أَو بِالْأُخْرَى؟ !
وَعَن بَعضهم أَن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق دخل بعض الْمَسَاجِد ليَأْكُل طَعَاما على عَادَته، فنسي ثمَّ دِينَارا صَحِيحا كَانَ فِي يَده، وَخرج، فَذكره فِي الطَّرِيق، فَرجع إِلَى الْمَسْجِد فَوجدَ الدِّينَار فِيهِ، ففكر وَقَالَ: رُبمَا وَقع هَذَا الدِّينَار من غَيْرِي، وَمَا أعرف أَنه لي، فَترك الدِّينَار وَخرج وَمَا مَسّه.

قَالَ أَبُو سعد: قَرَأت بِخَط الْفَقِيه القَاضِي أبي الْقَاسِم يُوسُف ابْن أبي الْفضل بن جُمُعَة بن يحيى الأرموي صَاحب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق على وَجه كتاب " التَّنْبِيه " بِخَطِّهِ: أَنْشدني الرئيس أَبُو الْخطاب فِيهِ - يَعْنِي: فِي هَذَا الْكتاب، قَالَ أَبُو سعد: اسْم أبي الْخطاب عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن هَارُون بن الْجراح -:
(سقيا لمن صنف " التَّنْبِيه " مُخْتَصرا ... أَلْفَاظه الغر واستقصى مَعَانِيه)

(إِن الإِمَام أَبَا إِسْحَاق صنفه ... لله وَالدّين لَا للكبر والتيه ...
(رأى علوما عَن الأفهام شاردة ... فحازها ابْن عَليّ كلهَا فِيهِ)

(بقيت للشَّرْع إِبْرَاهِيم منتصرا ... تذود عَنهُ أعاديه وتحميه)

قَالَ السَّمْعَانِيّ: سَمِعت القَاضِي أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ يَقُول: حملت يَوْمًا فَتْوَى إِلَى ذَلِك الشط لأستفتي الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق، فرأيته فِي الطَّرِيق وَهُوَ يمشي، فَمضى إِلَى دكان خباز أَو بقال، وَأخذ قلمه ودواته، وَكتب جَوَابه، وَمسح الْقَلَم فِي ثَوْبه، وَأَعْطَانِي الْفَتْوَى.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: وقرأت بِخَط شُجَاع بن فَارس الذهلي: توفّي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق إِمَام أَصْحَاب الشَّافِعِي ومقدمهم فِي وقته، والمشار إِلَيْهِ من

بَينهم فِي علم الْخلاف، فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة، سنة سِتّ وَسبعين وَأَرْبع مئة، وَدفن من الْغَد فِي مقرة بَاب برز، وَصلى عَلَيْهِ فِي صحن بَاب الفردوس الْوَزير أَبُو الْفَتْح المظفر بن رَئِيس الرؤساء، وَحمل إِلَى جَامع الْقصر وَصلى عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو عبد الله الطَّبَرِيّ، وَكَانَ الْجمع وافرا جدا.
قَالَ السَّمْعَانِيّ: وَسمعت أَبَا الْحسن عَليّ بن أَحْمد اليزيدي الْفَقِيه يَقُول: سَمِعت القَاضِي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن سَلامَة يَقُول: توفّي شَيخنَا الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الفيروزابادي فِي دَار المظفر بن رَئِيس الرؤساء فِي دَار الْخلَافَة، قَالَ: وَأول من صلى عَلَيْهِ الإِمَام الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي دَاره بِبَاب الفردوس. وَقَالَ: فِي جُمَادَى الأولى.
قَالَ السَّمْعَانِيّ، وَسمعت أَبَا سعد عبد الصَّمد - أَو قَالَ: عبد الْعَزِيز - ابْن أَحْمد بن مُحَمَّد الحافظي مذاكرة يَقُول: سَمِعت بعض الأكابر - ذكره الحافظي ونسيت أَنا اسْمه - قَالَ: رَأَيْت الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ - رَحمَه الله - فِي النّوم وعَلى رَأسه تَاج، وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض، فَقلت للشَّيْخ وأشرت إِلَى الثِّيَاب الْبيض: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا عز الْعلم، رَضِي الله عَنهُ.

قَالَ الشَّيْخ: وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق كثيرا مَا يباسط بِمَا يسنح لَهُ من رجز الشّعْر؛ من ذَلِك مَا أنبؤونا عَن أبي سعد - يَعْنِي: السَّمْعَانِيّ - قَالَ: سَمِعت أَبَا طَاهِر الدِّمَشْقِي الْمُرَتّب يَقُول: قَالَ لي الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله:
(وَشَيخنَا الشَّيْخ أَبُو طَاهِر ... جمالنا فِي السِّرّ وَالظَّاهِر)

وَله من هَذَا غير شَيْء.
وَأَبُو طَاهِر هَذَا هُوَ: إِبْرَاهِيم بن شَيبَان النُّفَيْلِي مُرَتّب النظامية من زمَان الشَّيْخ أبي إِسْحَاق إِلَى مَا بعد الثَّلَاثِينَ وَخمْس مئة، خدم الشَّيْخ وَخرج مَعَه إِلَى خُرَاسَان، وخدم غَيره من الْأَئِمَّة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَحمَه الله: وَرَأَيْت فِي آخر نُسْخَة ب " الْمُهَذّب "، كتبت فِي حَيَاة الشَّيْخ بِخَط كاتبها وَأرَاهُ من أَصْحَابه:
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق: بدأت بتصنيف " الْمُهَذّب " سنة خمس وَخمسين وَأَرْبع مئة، وفرغت مِنْهُ آخر رَجَب يَوْم الْأَحَد من سنة تسع وَسِتِّينَ وَأَرْبع مئة.

ولد الشَّيْخ رَحمَه الله سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَثَلَاث مئة.
قَالَ رَحمَه الله: كنت أُعِيد كل درس مئة مرّة، وَإِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة بَيت شعر يستشهد بِهِ حفظت القصيدة من أَجله.
رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم فَقَالَ لَهُ: يَا شيخ.
قَالَ يحيى: وَمِنْهُم شَيخنَا ضِيَاء الدّين أَبُو إِسْحَاق.

-طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح-