أحمد بن علي بن محمد بن أحمد العسقلاني أبي الفضل

ابن حجر العسقلاني

تاريخ الولادة773 هـ
تاريخ الوفاة852 هـ
العمر79 سنة
مكان الولادةالقاهرة - مصر
مكان الوفاةالقاهرة - مصر
أماكن الإقامة
  • الحجاز - الحجاز
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • اليمن - اليمن
  • حلب - سوريا
  • القاهرة - مصر

نبذة

أحمد بن علي بن محمد بن أحمد أبي الفضل العسقلاني القاهري الشافعي، المعروف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه، الحافظ الكبير الإمام الشهير المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخّرة. ولد بمصر على ضفاف النيل في ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.

الترجمة

أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حَجَر: من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة. ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاويّ: (انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر) وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل. أما تصانيفه فكثيرة جليلة، منها (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة - ط) أربعة مجلدات، و (لسان الميزان - ط) ستة أجزاء، تراجم، و (الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام - خ) و (ديوان شعر - خ) رأيته في الاسكوريال (الرقم 444) وطبع في الهند، و (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف - ط) و (ذيل الدرر الكامنة - خ) و (ألقاب الرواة - خ) و (تقريب التهذيب - ط) في أسماء رجال الحديث، و (الإصابة في تمييز أسماء الصحابة - ط) و (تهذيب التهذيب - ط) في رجال الحديث، اثنا عشر مجلدا، و (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - ط) و (تعريف أهل التقديس - ط) ويعرف بطبقات المدلّسين، و (بلوغ المرام من أدلة الأحكام -) و (المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس - خ) جزآن، أسانيد وكتب، و (تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث - خ) ثلاث مجلدات، و (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر - ط) في اصطلاح الحديث، و (المجالس - خ) بخط البقاعي 193 مجلسا، قال الميمني (في مذكراته - خ) : نسخة جليلة مهمة نادرة، و (القول المسدَّد في الذب عن مسند الإمام أحمد - ط) و (ديوان خطب - ط) و (تسديد القوس في مختصر الفردوس للديلي - خ) ستة مجلدات، تنقص الثالث، و (تبصير المنتبه في تحرير المشتبه - ط) في أربعة أجزاء، و (رفع الإصر عن قضاة مصر - ط) و (إنباء الغمر بأنباء العمر - ط) في مجلدين ضخمين، و (إتحاف المَهرة بأطراف العشرة - خ) حديث و  (الإعلام في من ولي مصر في الإسلام - خ) و (نزهة الألباب في الألقاب - خ) منه نسخة نفيسة في جامعة الرياض (54 ورقة الرقم 52) كما في مذكرات الميمني - خ، و (الديباجة - ط) في الحديث، و (فتح الباري في شرح صحيح البخاري - ط) و (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - ط) و (بلوغ المرام من أدلة الأحكام - ط) مع شرحه (سبل السلام في شرح بلوغ المرام - ط) لمحمد بن إسماعيل الأمير، و (تغليق التعليق - خ) ستة أجزاء منه، في الحديث (1) . ولتلميذه السخاوي كتاب في ترجمته سماه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر) في مجلد ضخم .-الاعلام للزركلي-

 

أَحْمد بن علي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن علي بن أَحْمد الشهَاب أبو الْفضل الكنانى العسقلان
القاهرى الشافعى الْمَعْرُوف بِابْن حجر وَهُوَ لقب لبَعض آبَائِهِ الْحَافِظ الْكَبِير الشهير الإمام الْمُنْفَرد بِمَعْرِِفَة الحَدِيث وَعلله في الْأَزْمِنَة الْمُتَأَخِّرَة

ولد في ثاني عشر شعْبَان سنة 773 ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة بِمصْر وَنَشَأ بهَا يَتِيما في كنف أحد أوصيائه فحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن تسع ثمَّ حفظ الْعُمْدَة وألفية الحَدِيث للعراقي والحاوي الصَّغِير ومختصر ابْن الْحَاجِب فِي الْأُصُول والملحة وَبحث في ذَلِك على الشُّيُوخ وتفقه بالبلقيني والبرماوي وَابْن الملقن والعز بن جمَاعَة وَعَلِيهِ أَخذ غَالب الْعُلُوم الآلية والأصولية كالمنهاج وَجمع الْجَوَامِع وَشرح الْمُخْتَصر والمطول ثمَّ حبب الله إليه فن الحَدِيث فَأقبل عَلَيْهِ بكليته وَطَلَبه من سنة 793 وَمَا بعْدهَا فعكف على الزين العراقي وَحمل عَنهُ جملَة نافعة من علم الحَدِيث سنداً ومتناً وعللاً وَاصْطِلَاحا وارتحل إِلَى بِلَاد الشَّام والحجاز واليمن وَمَكَّة وَمَا بَين هَذِه النواحي وَأكْثر جداً من المسموع والشيوخ وَسمع العالي والنازل وَاجْتمعَ لَهُ من ذَلِك مالم يجْتَمع لغيره وَأدْركَ من الشُّيُوخ جمَاعَة كل وَاحِد رَأس فِي فنه الَّذِي اشْتهر بِهِ فالتنوخى فى معرفَة القرا آتٍ والعراقي في الحَدِيث والبلقيني فِي سَعَة الْحِفْظ وَكَثْرَة الِاطِّلَاع وَابْن الملقن فِي كَثْرَة التصانيف وَالْمجد صَاحب الْقَامُوس في حفظ اللُّغَة والعز بن جمَاعَة في تفننه فِي عُلُوم كَثِيرَة بِحَيْثُ كَانَ يَقُول أنا أقرأ في خَمْسَة عشر علماً لَا يعرف عُلَمَاء عصري أسمائها ثمَّ تصدى لنشر الحَدِيث وَقصر نَفسه عَلَيْهِ مطالعة واقراءً وتصنيفاً وإفتاءً وَتفرد بذلك وَشهد لَهُ بِالْحِفْظِ والإتقان الْقَرِيب والبعيد والعدو وَالصديق حَتَّى صَار إطلاق لفظ الْحَافِظ عَلَيْهِ كلمة إجماع ورحل الطّلبَة إليه من الأقطار وطارت مؤلفاته فِي حَيَاته وانتشرت في الْبِلَاد وتكاتبت الْمُلُوك من قطر إِلَى قطر في شَأْنهَا وهي كَثِيرَة جداً مِنْهَا مَا كمل وَمِنْهَا مَا لم يكمل وَقد عَددهَا السخاوي في الضَّوْء اللامع وَكَذَلِكَ عدد مصنفاته فى الأربعينيات والمعاجم وَتَخْرِيج الشُّيُوخ والأطراف والطرق والشروح وعلوم الحَدِيث وفنونه وَرِجَاله في أوراق من تَرْجَمته وَنقل عَنهُ أَنه قَالَ لست رَاضِيا عَن شئ من تصانيفي لأني عملتها في ابتداء الْأَمر ثمَّ لم يتهيأ لي من يحرّرها معي سوى شرح البخارى وقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الْمِيزَان وروى عَنهُ في مَوضِع آخر أَنه أثنى على شرح البخارى وَالتَّعْلِيق والنخبة ولاريب أَن أجلّ مصنفاته فتح الباري وَكَانَ شُرُوعه في تصنيفه سنة 817 على طَرِيق الإملاء ثمَّ صَار يكْتب من خطه يداوله بَين الطّلبَة شَيْئا فَشَيْئًا والاجتماع في يَوْم من الْأُسْبُوع للمقابلة والمباحثة إِلَى أَن انْتهى في أول يَوْم من رَجَب سنة 842 سوى مَا الْحق فِيهِ بعد ذَلِك وَجَاء بِخَطِّهِ في ثَلَاثَة عشرَة سفراً وبيض في عشرَة وَعشْرين وَثَلَاثِينَ وَأَقل وَأكْثر وَقد سبقه إِلَى هَذِه التَّسْمِيَة شَيْخه صَاحب الْقَامُوس فَأَنَّهُ وجد لَهُ فِي أَسمَاء مصنفاته أَن من جُمْلَتهَا فتح الباري في شرح صَحِيح البخاري وَأَنه كمل ربعه في عشْرين مجلداً وَله مؤلفات في الْفِقْه وأصوله وَالْعرُوض والآداب سردها السخاوي وَقَالَ بعد ذَلِك أنها تهادت تصانيفه الْمُلُوك بسؤال عُلَمَائهمْ لَهُم في ذَلِك حَتَّى ورد كتاب في سنة 833 من شاه رخ بن تيمور ملك الشرق يستدعي من السُّلْطَان الْأَشْرَف برسباي هَدَايَا من جُمْلَتهَا فتح الباري فَجهز لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة ثَلَاث مجلدات من أَوَائِله ثمَّ أعَاد الطلب في سنة 839 وَلم يتَّفق أَن الْكتاب قد كمل فَأرْسل إليه أَيْضا قِطْعَة أُخْرَى ثمَّ في زمن الطَّاهِر جقمق جهزت لَهُ نُسْخَة كَامِلَة وَكَذَا وَقع لسلطان الغرب أَبى فَارس عبد الْعَزِيز الحفصي فَأَنَّهُ أرسل يستدعيه فَجهز لَهُ مَا كمل من الْكتاب وَكَانَ يُجهز لكتبة الشَّرْح ولجماعة مجْلِس الإملاء ذَهَبا يفرق عَلَيْهِم هَذَا ومصنفه حي رَحمَه الله وَلما كمل شرح البخاري تصنيفاً وَقِرَاءَة عمل مُصَنفه رَحمَه الله وَلِيمَة عَظِيمَة بِالْمَكَانِ الَّذِي بناه الْمُؤَيد خَارج الْقَاهِرَة في يَوْم السبت ثامن شعْبَان سنة 842 وَقَرَأَ الْمجْلس الْأَخير هُنَالك وَجلسَ الْمنصف على الكرسي قَالَ تِلْمِيذه السخاوي وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً لم يعْهَد أهل الْعَصْر مثله بِمحضر من الْعلمَاء والقضاة والرؤساء والفضلاء وَقَالَ الشُّعَرَاء في ذَلِك فَأَكْثرُوا وَفرق عَلَيْهِم الذَّهَب وَكَانَ الْمُسْتَغْرق فِي الْوَلِيمَة الْمَذْكُورَة نَحْو خَمْسمِائَة دِينَار وَوَقعت في ذَلِك الْيَوْم مطارحة أدبية فَمِنْهَا أَن الْمقَام الناصرى قَالَ للْمُصَنف يامولانا شيخ الإسلام هَذَا يَوْم طيب فَلَعَلَّ أَن تنعشونا فِيهِ بِبَيْت من مفرداتكم لَعَلَّ أَن نمشي خلفكم فِيهِ فَقَالَ المترجم لَهُ أخْشَى ان إبتدأت أَن لَا يكون مُوَافقا لما وَقع فِي خاطرك وَالْأَحْسَن أَن تبتدأ أَنْت فَقَالَ الناصري
(هويتها بَيْضَاء رعبوبة ... قد شغفت قلبي خود رداح)
فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة
(سَأَلتهَا الْوَصْل فضنت بِهِ ... إنّ قَلِيلا فِي الملاح السماح)
فَقَالَ علي الدوساني

(قد جرحت قلبى لما رنت ... عيونها السودا لمراض الصِّحَاح)
فهمهم الشرف الطنوني وَلم يُمكنهُ أَن يَقُول شَيْئا فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة
(مَا للطنوني غَدا حائرا ... )
فَقَالَ الناصري لعلي الْمُتَقَدّم أجزه فَقَالَ وحياة أَبِيك السلاّري وَالْفرس فَقَالَ هما لَك من غير مُهْملَة وتراخ فَقَالَ
(وَخرب الْبَيْت وخلى وَرَاح)
وَكَانَ للمترجم لَهُ يَد طولى في الشّعْر قد أورد مِنْهُ جمَاعَة من الأدباء المصنفين أَشْيَاء حَسَنَة جداً كَابْن حجَّة في شرح البديعية وَغَيره وهم معترفون بعلو دَرَجَته فى ذَلِك وَمِمَّا أحفظه الان حَال تَحْرِير هَذِه الْكَلِمَات قَوْله
(بنده الْأَزْرَق لما ... شده من قد سباني)
(جدول فَوق كثيب ... دَار يسقي غُصْن بَان)
وَهَذَا غَايَة في الْحسن لَا يلْحق وَأورد لَهُ السخاوي في الضَّوْء اللامع قَوْله
(خليلي ولّى الْعُمر منا وَلم نتبْ ... وننوي فعال الصَّالِحَات وَلَكنَّا)
(فحتى مَتى نبنى الْبيُوت مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وَمَا تبنى
وَقد كَانَ رَحمَه الله مصمّماً على عدم الدُّخُول فِي الْقَضَاء ثمَّ قدّر أَن الْمُؤَيد ولاه الحكم في بعض القضايا ثمَّ عرض عَلَيْهِ الاستقلال بِهِ والزم من أحبائه بقبوله فَقبل وَاسْتقر في الْمحرم سنة 827 بعد أَن كَانَ عرض عَلَيْهِ قبل ذَلِك وَهُوَ يَأْبَى وتزايد ندمه على الْقبُول لعدم فرق أَرْبَاب الدولة بَين الْعلمَاء وَغَيرهم ومبالغتهم فِي اللوم لرد إشاداتهم وإن لم تكن على وفْق الْحق واحتياجه لمداراة كَبِيرهمْ وصغيرهم بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ مَعَ ذَلِك الْقيام بِمَا يرومونه وَصرح بِأَنَّهُ جنى على نَفسه بذلك وَلم يلبث أَن صرف ثمَّ أُعِيد وَلَا زَالَ كَذَلِك إِلَى أَن أخْلص فِي الإقلاع عَنهُ عقب صرفه فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة 852 وَجَمِيع مدد قَضَائِهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وزهد في الْقَضَاء زهداً كَبِيرا لِكَثْرَة مَا توالى عَلَيْهِ من المحن والأنكاد بِسَبَبِهِ وَصرح بِأَنَّهُ لم يبْق في بدنه شَعْرَة تقبل اسمه وَقد درّس بمواطن مُتعَدِّدَة واشتهر ذكره وَبعد صيته وارتحل اليه الْعلمَاء وتبجح الْأَعْيَان بلقائه وَأخذ عَنهُ وَأخذ النَّاس عَنهُ طبقَة بعد طبقَة وَألْحق الأصاغر بالأكابر وامتدحه الْكِبَار وتبجح فحول الشُّعَرَاء بمطارحته وَاسْتمرّ على طَرِيقَته حَتَّى مَاتَ في أَوَاخِر ذى الْحجَّة سنة 852 اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثمان مائَة وَكَانَ لَهُ مشْهد لم ير مثله من حَضَره من الشُّيُوخ فضلاً عَمَّن دونهم وشهده أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالسُّلْطَان فَمن دونهمَا وَقدم الْخَلِيفَة للصَّلَاة عَلَيْهِ وَدفن تجاه تربة الديلمي بالقرافة وتزاحم الْأُمَرَاء والكبراء على حمل نعشه

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني.

 

أحمد بن علي بن محمد بن محمد العسقلاني ، أبي الفضل ، شهاب الدين ، ابن حجر ، الإمام العلامة الحافظ فريد الوقت مفخر الزمان ، ولد سنه : 773ه ، روى عن : العفيف الشوري ، وشمس الدين بن القطان ، وغيرهما ، وروى عنه : السخاوي ، له من المصنفات : فتح الباري شرح صحيح البخاري ، والاصابة في تمييز الصحابة وغيرهما . توفي سنة : 852 ه, ينظر : والضوء اللامع : 2/36 ، وتذكرة الحفاظ ، للذهبي : 5/282 ، ورفع الإصر لابن حجر : 1/23 .

 

 

ابْن حجر
شيخ الْإِسْلَام وَإِمَام الْحفاظ فِي زَمَانه وحافظ الديار المصرية بل حَافظ الدُّنْيَا مُطلقًا قَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين أَبُو الْفضل أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَحْمُود بن أَحْمد الْكِنَانِي الْعَسْقَلَانِي ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي
ولد سنة ثَلَاث وَسبعين وَسَبْعمائة وعانى أَولا الْأَدَب وَالشعر فَبلغ فِيهِ الْغَايَة ثمَّ طلب الحَدِيث من سنة أَربع وَتِسْعين وَسَبْعمائة فَسمع الْكثير ورحل ولازم شَيْخه الْحَافِظ أَبَا الْفضل الْعِرَاقِيّ وبرع فِي الحَدِيث وَتقدم فِي جَمِيع فنونه
حكى أَنه شرب مَاء زَمْزَم ليصل إِلَى مرتبَة الذَّهَبِيّ فِي الْحِفْظ فبلغها وَزَاد عَلَيْهَا وَلما حضرت الْعِرَاقِيّ الْوَفَاة قيل لَهُ من تخلف بعْدك قَالَ ابْن حجر ثمَّ ابْني أَبُو زرْعَة ثمَّ الهيثمي
وصنف التصانيف الَّتِي عَم النَّفْع بهَا كشرح البُخَارِيّ الَّذِي لم يصنف أحد فِي الْأَوَّلين وَلَا فِي الآخرين مثله وَتَعْلِيق التَّعَلُّق والتشويق إِلَى وصل التَّعْلِيق والتوفيق فِيهِ أَيْضا وتهذيب التَّهْذِيب وتقريب التَّهْذِيب ولسان الْمِيزَان والاصابة فِي الصَّحَابَة ونكت ابْن الصّلاح وَأَسْبَاب النُّزُول وتعجيل الْمَنْفَعَة بِرِجَال الْأَرْبَعَة والمدرج والمقترب فِي المضطرب وَأَشْيَاء كَثِيرَة جدا تزيد على الْمِائَة
وأملى أَكثر من ألف مجْلِس وَولي الْقَضَاء بالديار المصرية والتدريس بعدة أَمَاكِن وَخرج أَحَادِيث الرَّافِعِيّ وَالْهِدَايَة والكشاف والفردوس وَعمل أَطْرَاف الْكتب الْعشْرَة والمسند الْحَنْبَلِيّ وزوائد المسانيد الثَّمَانِية وَله تعاليق وتخاريج مَا الْحفاظ والمحدثون لَهَا إِلَّا محاويج توفّي فِي ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَثَمَانمِائَة
ولي مِنْهُ إجَازَة عَامَّة وَلَا أستبعد أَن يكون لي مِنْهُ إجَازَة خَاصَّة فَإِن وَالِدي كَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ وينوب فِي الحكم عَنهُ وَإِن يكن فَاتَنِي حُضُور مجالسه والفوز بِسَمَاع كَلَامه وَالْأَخْذ عَنهُ فقد انتفعت فِي الْفَنّ بتصانيفه واستفدت مِنْهُ الْكثير وَقد غلق بعده الْبَاب وَختم بِهِ هَذَا الشَّأْن
وَأَخْبرنِي الشهَاب المنصوري أَنه شهد جنَازَته فَلَمَّا وصل إِلَى الْمصلى أمْطرت السَّمَاء على نعشه فَأَنْشد فِي ذَلِك الْوَقْت
قد بَكت السحب على  قَاضِي الْقُضَاة بالمطر ...
وانهدم الرُّكْن الَّذِي ... كَانَ مشيداً من حجر ...

طبقات الحفاظ - لجلال الدين السيوطي.

 

أحمد بن حجر العسقلانيّ - ت 852
هو: أحمد بن علي بن محمد بن أحمد أبي الفضل العسقلاني القاهري الشافعي، المعروف بابن حجر، وهو لقب لبعض آبائه، الحافظ الكبير الإمام الشهير المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخّرة.
ولد بمصر على ضفاف النيل في ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك، فنشأ يتيما محروما من حنان الأب، وعطف الأم، فربّي في كنف أحد أوصيائه «الزكيّ الخروبيّ» ودخل الكتّاب وله خمس سنين، وحفظ القرآن وله تسع سنين، وحباه الله بفضله، فكان له ذكاء نادر، وسرعة بديهة، فيحكى أنه حفظ «سورة مريم» في يوم واحد، وكان يحفظ الصحيفة من «كتاب الحاوي» من مرتين: الأولى تصحيحا، والثانية قراءة في نفسه، ثم يعرضها حفظا في المرّة الثالثة، كما حفظ ألفية الحديث للعراقي، ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه.
أخذ «أحمد بن حجر العسقلاني» سائر علومه عن مشاهير علماء عصره، إذ أدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنّه الذي اشتهر به. فالشيخ «التنوخي» في علم القراءات، و «العراقي» في الحديث، و «البلقيني» في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، و «ابن الملقّن» في كثرة التصانيف و «المجد» صاحب القاموس في حفظ اللغة، و «العزّ بن جماعة» في تفننه في علوم كثيرة، بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها.
وقد منّ الله تعالى على «ابن حجر» فحجّ في أواخر سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وجاور بمكة المكرمة في السنة التي بعدها، وكان وصيّه «الزكيّ
الخروبي» كبير تجار مصر قد جاور في تلك السنة، استصحبه معه، وسمع في تلك السنة «صحيح البخاري» على «مسند الحجار: الشيخ عفيف الدين عبد الله النشاوري» خاتمة أصحاب الإمام رضي الدين الطبري.
ثم حبّب الله «لابن حجر» فن الحديث فأقبل عليه بكليته، من سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، فما بعدها، فعكف على الشيخ «الزين العراقي» وحمل عنه جملة نافعة من علم الحديث سندا، ومتنا، وعللا، واصطلاحا، وارتحل إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، ومكة المكرمة، وما بين هذه النواحي، وأكثر جدّا من المسموع، فسمع العالي والنازل، واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره.
وكان «ابن حجر» رحمه الله تعالى تفقه على الشيخ «البلقيني، والبرماوي، وابن الملقّن، والعزّ بن جماعة» وعليه أخذ غالب العلوم الآلية، والأصولية مثل: «المنهاج، وجمع الجوامع، وشرح المختصر، والمطوّل». احتل «ابن حجر» مكانة سامية بين الجميع، وقد أثنى عليه الكثيرون. وفي هذا يقول «الإمام الشوكاني»:
درّس «ابن حجر» بمواطن متعددة، واشتهر ذكره، وبعد صيته، وارتحل إليه العلماء، وأخذ عنه الناس طبقة بعد طبقة، وألحق الأصاغر بالأكابر، وامتدحه الكبار، وتسابق فحول الشعراء بمطارحته، إذ كان له يد طولى في الشعر.
وقد أورد منه جماعة من الأدباء المصنفين أشياء حسنة جدّا، وكلهم بعلوّ درجته في ذلك، ومن شعره قوله:
خليليّ ولّى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحات ولكنّا
فحتى متى نبني البيوت مشيّدة ... وأعمارنا منا تهدّ وما تبنى

ومن شعره أيضا:
ثلاث من الدنيا إذا هي أقبلت ... لشخص فلا يخشى من الضرّ والضير
غنى عن بنيها والسلامة منهم ... وصحّة جسم ثم خاتمة الخير
وكان رحمه الله تعالى مصمما على عدم الدخول في القضاء، ثم شاء الله تعالى أن ولاه «المؤيّد بالله» الحكم في بعض القضايا، ثم عرض عليه الاستقلال به، وألزم من أحبائه بقبوله فقبل، واستقرّ في القضاء من شهر المحرّم سنة سبع وعشرين وثمان مائة، بعد أن كان يعرض عليه قبل ذلك وهو يأبى، ثم ندم على ذلك، وتزايد ندمه على القبول، وصرّح بأنه جنى على نفسه بذلك، ولم يلبث أن صرف عنه، ثم اعيد إليه، ولا يزال كذلك إلى أن أقلع عنه في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، ثم زهد في القضاء زهدا كبيرا من كثرة ما توالى عليه من المحن والإنكار بسببه، وصرح بأنه لم يبق في بدنه شعرة تقبل اسم القضاء.
قال تلميذه «الإمام السخاوي»: «وجميع مدد قضائه إحدى وعشرون سنة، ثم انقطع للعلم فبرز فيه، وبعد صيته، ورحل الأئمة إليه، ونزح إليه التلامذة من كل قطر للتزوّد منه. فكان رئيس العلماء من كل مذهب، وبكل قطر، وانتشرت جملة من تصانيفه في حياته، وأقرأ الكثير منها، وتهادتها الملوك، وكتبها الأكابر، وسارت في كل قطر مسير الشمس، ولو لم يكن له إلا شرح البخاري لكان كافيا في علوّ قدره»ا
ولما كمّل شرح البخاري تصنيفا، وقراءة، عمل رحمه الله تعالى وليمة عظيمة بالمكان الذي بناه «المؤيد بالله» خارج القاهرة في يوم السبت ثامن شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمان مائة.
وقرأ رحمه الله تعالى المجلس الأخير هنالك، وجلس «ابن حجر» على الكرسي.
قال تلميذه «السخاوي»: «وكان يوما مشهودا لم يعهد أهل العصر مثله بمحضر من العلماء، والقضاة، والرؤساء، والفضلاء، وقال الشعراء في ذلك فأكثروا، وفرّق عليهم الذهب».
وقد شهد له شيخه «العراقي» بأنه أعلم أصحابه بالحديث.
وقال كلّ من «التقيّ الفاسي والبرهان الحلبي»: ما رأينا مثله وفيه يقول «التقيّ بن فهد»: هو علامة حافظ محقق، متين الديانة، حسن الأخلاق، لطيف المحاضرة، جيّد التعبير، عديم النظير، لم تر العيون مثله.
وتجمع كتب التراجم على أن «ابن حجر» تصدى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة، وإقراء، وتصنيفا، وتفرد بذلك، وشهد له بالحفظ والاتقان القريب والبعيد، والعدوّ والصديق، حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه كلمة إجماع.
وزادت تصانيف «ابن حجر» على مائة وخمسين مصنفا، وفيها يقول «التقيّ بن فهد» إن أولاها في التقديم «فتح الباري شرح البخاري» في بضعة عشر مجلدا، ومقدمة في مجلّد ضخم يشتمل على جميع مقاصد الشرح سوى الأسئلة فإنها حذفت منها.
و «فتح الساري لمقدمة فتح الباري» و «تهذيب التهذيب» وهو اختصار «لتهذيب الكمال» للمزّي، مع زيادات كثيرة عليه تقرب من ثلث المختصر، ثم لخصه في مجلد سمّاه: «تقريب التهذيب» وكتاب «الإصابة في تمييز
الصحابة» و «مسند الشافعي» وأحمد والدارمي، وابن خزيمة» و «منتقى» ابن الجارود، وابن حبّان، و «المستخرج» لأبي عوانة، و «المستدرك» للحاكم، و «شرح معاني الآثار» للطحاوي، و «السنن» للدارقطني و «لسان الميزان»، و «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» و «الأحكام لبيان ما في القرآن» و «الاستدراك على تخريج أحاديث الإحياء»، و «تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث»، و «رفع الإصر عن قضاة مصر» وغير ذلك من الكتب النافعة، والرسائل المفيدة.
ولم يزل «ابن حجر» على جلالة قدره في العلم، ومداومته على أنواع الخيرات، حتى لفظ آخر أنفاسه بمنزله بعد العشاء من ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمان مائة. وكان من بين من حضر الصلاة عليه السلطان «الملك الظاهر جقمق» وأتباعه.
رحم الله «ابن حجر» رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء.

معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ

 

هو إمام الحفاظ أبو الفضل أحمد بن علىّ بن محمد بن محمد العسقلانى المصرى الشافعي وُلد سنة 773 وتعلم الشعر فبلغ الغاية ثم طلب الحديث فسمع الكثير ورحل وتخرج بالحافظ العراقي وبرع وانتهت إليه الرحلة والرياسة في الحديث في الدنيا بأسرها وتوفي في ذى الحجة سنة 852 كذا ذكره السيوطى فى حسن المحاضرة وقد طالعت من تصانيفه الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة والمجمع المؤسس ذكر فيه شيوخه ومن عاصره وتهذيب التهذيب وتقريب التهذيب ولسان الميزان كلها في أسماء الرجال والإصابة في أحوال الصحابة ونخبة الفكر في أصول الحديث وشرحه وتلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الوجيز الكبير وتخريج أحاديث الأذكار وتخريج أحاديث الكشاف اسمه الكاف الشاف وتخريج أحاديث الهداية اسمه الدراية وبذل الماعون في فضل الطاعون (قلت هو لابن حجر الهيتمي الفقيه وليس العسقلاني) والقول المسدد في الذب عن مسند أحمد وفتح الباري شرح صحيح البخاري ومقدمة الهدي الساري والخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة ورسالة في تعدد الجمعة ببلد واحد وله نكت على مقدمة ابن الصلاح ورجال الأربعة وتقريب المنهج بترتيب الدرج وغير ذلك وكل تصانيفه تشهد بأنه إمام الحفاظ محقق المحدثين زبدة الناقدين لم يخلف بعده مثله.

 الفوائد البهية في تراجم الحنفية - أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي.

 

خاتمة الحفاظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني الأصل الكناني الشافعي، المتوفى بالقاهرة في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة عن تسع وسبعين سنة.
ولد بمصر العتيقة ومات أبواه فنشأ يتيماً في كنف أحد أوصيائه في غاية العفَّة وحفظ القرآن ومختصرات وعرضها على جماعة من الأئمة وكان سريع الحفظ يحفظ الحزب في يوم وكان حفظه تأملاً. ولما بلغ سبع عشرة سنة جدَّ في السماع ودار على الشيوخ في الرواية والدراية ولازم [الحافظ] العراقي عشرة أعوام وتخرَّج به وقرأ عليه "ألفيته" وشرحها و"نكته"، فأذن له في التدريس وسمع أيضاً بالحجاز واليمن والشام من البرهان الأبناسي والبرهان التنوخي وخرَّج له "المائة العشاريات" ولازم البلقيني في الفقه إلى أن أذن له بالإفتاء وابن الملقن والشيخ نور الدين الأَدَمي وغيرهم. وابتدأ في التصانيف سنة 796 فألفَّ ما يزيد على مائة وخمسين تصنيفاً، منها ما كمل ومنها ما لم يتم.
قال السخاوي: سمعته يقول: لست راضياً عن تصانيفي لأني عملتها في الابتداء ثم لم يتيسر لي التحرير، سوى "شرح البخاري" و"مقدمته" و"المشتبه"، و"التهذيب" و"لسان الميزان"، ورأيته يثني على "شرح البخاري" و"التعليق" و"النخبة" وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العدد. وقد عدّ السخاوي تصانيفه في مقدار كراسة، ومما تم [منها] "تلخيص الجمع بين الصحيحين"، "المطالب العالية برواية المسانيد الثمانية"، "مختصر الترغيب [والترهيب] " للمنذري "بلوغ المرام بأدلة الأحكام" "الاعجاب عن بيان الأسباب" "إقامة الدلائل على معرفة الأوائل" "القول المسدّد في الذّبّ عن مسند أحمد" "بذل الماعون في فضل الطاعون" "تعليق التعليق" وهو أول تآليفه، "التشويق إلى المبهم من التعليق" "تخريج أحاديث شرح الذخيرة" لابن الملقن، "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة" لخصه من كتاب شيخه الصدر المناوي، "تسديد القوس مختصر مسند الفردوس" "تخريج أحاديث سيرة ابن هشام"، "تهذيب التهذيب"، "تقريب التهذيب"، "الإصابة في تمييز الصحابة"، "نكت ابن الصلاح"، "شرح النخبة"، "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" واختصر كتاب "الروض" وشَرَحَه شرحاً عظيماً جمع فيه ما لايوجد، حتى غار منه بعض الحسدة فسرقه ورماه في الماء فاستأنف ثانياً وشرح "الإرشاد" شرحين عظيمين. وانتفع به خلائق، فدرس وأفتى بجامع الأزهر والحجاز وأملا بخانقاه بيبرس نحواً من عشرين سنة أكثر من ألف مجلس، ثم انتقل إلى دار الحديث الكاملية وناب في الحكم في ابتدائه مدة طويلة، ثم تنزه وتولى قضاء القضاة الشافعية بمصر مراراً من سنة 827 إلى أن عزل نفسه سنة 852 ومرض أكثر من شهر وانتهت إليه الرحلة والرئاسة في الحديث بالدنيا بأسرها، فلم يكن في عصره حافظ سواه وختم به الفنّ ولما مات صلى عليه الخليفة بحضرة السلطان وحمل نعشه على رؤوس الأصابع يتزاحم الأكابر عليه وكان يوماً عظيماً لم ير في القاهرة مثيله ودفن بالقَرَافَة.
وابن حجر: نسبة إلى آل حجر تسكن الجنوب عن بلاد الجريد وأرضهم قابِس كما في "المنهل".
وقد جمع له تلميذه السخاوي ترجمة حافلة سمّاها "الجواهر والدرر" في مجلد. وصنّف العَلَم البلقيني أيضا "الفجر والبجر في ترجمة ابن حجر".
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.

 

أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني

ابن حجر العسقلاني

هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الكناني العسقلاني الشافعيّ المصري المولد والمنشأ والدّار والوفاة القاهري.
اختلفت المصادر في اسم جدّه الرابع، فتارة ذكر محمود، وتارة أحمد، والراجح أحمد كما في الترجمة التي كتبها هو لنفسه، كما أن السخاوي أثبت النسب المذكور وقال:
هذا هو المعتمد في نسبه، ثم إن السّخاوي أشار إلى الاختلاف في نسبه فقال «لا أذكر أدناه ... إلا ما قرأته بخط أصحابنا بل وبخط المقريزي، وكان عمدته بعد أحمد أحمديل فإنني لا أعلمه، ثم رأيته بخط صاحب الترجمة نفسه في أجزاء من نسخة من صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كما وجد نسبه بخط قريبة الزّين شعبان بإثبات أحمديل وإسقاط محمود.
وينسب إليه القول: «إن نسبه يقرأ طردا وعكسا ولا يتهيأ إلا بتأخير محمود عن أحمد وبإسقاطه» .
فإن كان قال ذلك فهو على سبيل التندر لما هو معلوم بأن مفهوم النسب لا يعني سبعة أسماء أو ثمانية لكي يقال: إنه يقرأ طردا وعكسا.
وفي «الدرر الكامنة» ذكر عم والده، فقال: عثمان بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن محمود، وكذلك في كتابه «رفع الإصر» وفي أول كتابه «إنباء الغمر» بزيادة أحمد بعد محمود بحيث صار محمود بين أحمدين، لكنه خالف ذلك في كتابه «تبصير المنتبه بتحرير المشتبه» وكذلك في ترجمة والده في القسم الثاني من معجم شيوخه، فإنه قال: عليّ بن محمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر العسقلاني.
كما ورد اسم أبيه عبد اللَّه في موضع واحد وهذا وهم وأوضح البقاعي وابن خليل أن الحافظ بن حجر ذكر طرفا من نسبه في استدعاء فقال:
من أحمد بن عليّ بن محمّد ... بن محمّد بن علي الكنانيّ المحتد
ولجدّ جدّ أبيه أحمد لقّبوا ... حجرا وقيل بل اسم والد أحمد
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسيّة قد بدي وكان يلقب «شهاب الدين» ويكنى «أبا الفضل» وكناه شيخه العراقي والعلاء بن المحلّى «أبا العباس» كما كني أبا جعفر، غير أن كنيته الأولى «أبو الفضل» - وهي التي كناه بها والده- هي التي ثبتت وصار معروفا بها.
نسبتاه:
1- الكناني- نقل السخاوي عن خط ابن حجر أنه كناني الأصل، نسبة إلى قبيلة «كنانة» .
وقال الحافظ ابن حجر عن والده: «رأيت بخطه أنه كناني النسب وكان أصلهم من عسقلان» .
2- العسقلاني: نسبة إلى «عسقلان» وهي مدينة بساحل الشام من فلسطين، والظاهر أن القبيلة التي ينتمي إليها الحافظ ابن حجر كانت قد استقرت في عسقلان، وما جاورها إلى أن نقلهم «صلاح الدين الأيّوبي» عند ما خربها ما بين (580- 583 هـ) على أثر الحروب الصّليبية.
وقال ابن حجر:
وبمصر مولده وأصل جدوده ... من عسقلان المقدسيّة قد بدي
لقد اشتهر ب «ابن حجر» واختلفت المصادر في اعتباره اسما أو لقبا، وإذا كان لقبا هل هو لقب أحد أجداده فطغى على العائلة كلها؟ أم أنه لقب لحرفة أو مهنة أو صناعة؟.
قال السخاوي: هو لقب لبعض آبائه، وفي موضع آخر قال: قيل: هو لقب لأحمد الأعلى في نسبه، وقيل: بل هو اسم لوالد أحمد المشار إليه. إن هذا الرأي يستند إلى الاستدعاء الّذي كتبه الحافظ ابن حجر بهيئة شعر السابق، وعلى الرغم من الغموض الّذي يكتنقه فهو الراجح.
وذهب بعضهم إلى القول بأنه نسبة إلى آل حجر وهم قوم يسكنون الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس وفي شرح ابن سلطان القاري على «توضيح النّخبة» أن ابن حجر هو لقب وإن كان بصيغة الكنية.
كان مولده في شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة على شاطئ النيل بمصر القديمة وقال:
شعبان عام ثلاثة من بعد سبع ... مائة وسبعين اتفاق المولد
وكان المنزل الّذي ولد فيه يقع بالقرب من دار النحاس ولبث فيه إلى أن تزوج بأم أولاده، فسكن بقاعة جدها منكوتمر المجاورة لمدرسته «المنكوتمرية» داخل باب القنطرة بالقرب من حارة بهاء الدين واستمر بها حتى مات.
وبينا نجده لا يشير إلى تاريخ يوم ولادته، نلاحظ اختلافا بين مترجميه في تحديدهم لتاريخ ذلك اليوم فذكره البقاعي والسيوطي في الثاني عشر من شعبان، وذكر ابن فهد وابن طولون: في الثالث عشر من شعبان كما ذكره ابن تغري بردي والسخاوي في الثاني والعشرين من شعبان على أن الشوكاني اعتبر مولده في الثاني من شعبان وهذا بعيد الاحتمال بسبب كونه متأخرا أخذ عن الّذين سبقوه وفي هذه الحالة لا يؤمن التحريف.
ويظهر مما فات أن يوم مولد ابن حجر ينحصر ما بين الثاني عشر والثاني والعشرين من شعبان سنة 773 هـ أي بين الثامن عشر من شباط والثامن والعشرين منه من سنة 1372 م.
نشأ الحافظ ابن حجر يتيما- كما عبر هو عن نفسه- إذ مات أبوه في رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك وهو طفل.
وقال: «تركني ولم أكمل أربع سنين وأنا الآن أعقله كالذي يتخيل الشيء ولا يتحققه، وأحفظ عنه أنه قال: كنية ولدي أحمد أبو الفضل» ولم يكن من يكفله، وكان والده قد أوصى قبل وفاته بولده اثنين من الّذين كانت بينه وبينهم مودّة ويبدو أن عليّا كان حفيّا بولده أحمد، فهو الّذي كناه واصطحبه عند ما حجّ وزار بيت المقدس وجاور، ويظن الحافظ ابن حجر أن أباه أحضره في مجاورته مجالس الحديث وسمع شيئا ما، غير أن المنية اخترمته ولم يسعد بولده الّذي صار له فيما بعد شأن عظيم.
وأصبح اليتيم في وصاية زكي الدين أبي بكر بن نور الدين علي الخروبيّ، وكان تاجرا كبيرا بمصر، وورث مالا كثيرا وأصبح رئيسا للتجار، كما أوصى به والده العلامة شمس الدين بن القطان الّذي كان له بوالده اختصاص لكنه لم ينصح له في تحفيظه الكتب وإرشاده إلى المشايخ والاشتغال حتى أنه كان يرسل بعض أولاده إلى كبار الشيوخ.. ولا يعلمه بشيء من ذلك.
وقال عنه ابن حجر: وكان له اختصاص بأبي فأسند إليه وصيته فلم يحمد تصرفه.
وتشير المصادر إلى أن نشأة الحافظ ابن حجر كانت برغم ذلك- في غاية العفّة والصيانة والرئاسة، وأن الخرّوبي المذكور لم يأل جهدا في رعايته والعناية بتعليمه، فكان يستصحبه معه عند مجاورته في مكّة، وظل يرعاه إلى أن مات سنة 787 هـ وكان الحافظ ابن حجر قد راهق ولم تعرف له صبوة ولم تضبط له زلّة.
ولم يدخل الكتّاب حتى أكمل خمس سنين فأكمل حفظ القرآن الكريم وله تسع سنين، ومن الذين قرأ عليهم في المكتب شمس الدين بن العلاف الّذي ولى حسبة مصر وقتا وغيره.
وأكمل حفظه للقرآن على صدر الدين محمد بن محمد بن عبد الرزاق السفطي، وكان الاتجاه الثقافي السائد آنذاك يقتضي من الّذي يستظهر القرآن أن يصلّي بالناس إماما في صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان، غير أن هذه الفرصة لم تتهيأ لابن حجر الصّبي النّابه الّذي حفظ القرآن ولم يزل في التاسعة من عمره، وهذه في الحقيقة مسألة شرعية حيث لا تجزئ صلاة المؤتمين إن لم يكن إمامهم بالغا، ومع الاختلاف النسبي في تحديد سنّ البلوغ، فإن السنة الثانية عشرة من عمر الصبي كانت تتيح له على ما يظهر أن يصلي إماما بالمسلمين إن هو حفظ القرآن الكريم، فكان عليه أن يتنظر بلوغ هذه السنّ.
وفي أوّل سنة 783 اشتغل بالإعادة، وفي سنة 785 أكمل الحافظ ابن حجر اثنتي عشرة سنة من عمره، ومن حسن حظه أن يكون متواجدا حينئذ مع وصيه الزكي الخرّوبي في مكّة في تلك السنة فصلّى التراويح هناك.
ويمكن تصور بوادر نبوغه وشجاعته، فبقدر ما كانت مفخرة له كصبي يتقدّم إماما بالمسلمين في بيت اللَّه الحرام فإنّها كانت لحظة حاسمة وحرجة اجتازها بثبات وحسن أداء، فكانت الخيرة له في ذلك كما قال، وكان الحج يومئذ يوم الجمعة فحج وجاور في الحرم الشّريف ثم صلّى بعد ذلك بالقدس.
ويظهر من استقراء تراجم الّذين عاشوا في عصر الحافظ ابن حجر أن تقليدا ثقافيا كان يسود بين أوساط التلاميذ الذين يدخلون الكتّاب وذلك بإلزام التلاميذ بالتدرج في حفظ بعض مختصرات العلوم والكتب وسماع بعضها الآخر، وهي التي اتفق العلماء آنذاك اعتبارها أساسا في بناء ثقافة طلاب العلم، وكان حفظها أو سماعها يتم بإشراف أساتذة كفاة بارزين في حقول اختصاصهم أو ما يقرب منها.
وإذا كانت ثقافة الحافظ ابن حجر تقليدية في أسلوبها فهي ليست كذلك في مكوّناتها، نظرا لقائمة الكتب المهمة التي كوّنت ثقافته بادئ ذي بدء.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم ظهرت مخايل الذكاء الفطري جليّة عليه ما لبث أن استكملها بالتتبع والتحصيل حتى صار حافظ عصره وشيخ الإسلام.
وحفظ بعد رجوعه مع الخرّوبي إلى مصر سنة 786 «عمدة الأحكام» للمقدسي، و «الحاوي الصّغير» للقزويني و «مختصر ابن الحاجب» الأصلي في الأصول، و «ملحة الإعراب» للهروي، و «منهج الأصول» للبيضاوي وألفيّة العراقي وألفيّة ابن مالك، والتنبيه في فروع الشافعيّة للشيرازي وتميز بين أقرانه بسرعة الحفظ فأشار مترجموه إلى أنه حفظ سورة مريم في يوم واحد، وكان يحفظ الصحيفة من الحاوي الصغير في ثلاث مرات يصححها ويقرؤها على نفسه ثم يقرؤها أخرى ثم يعرضها حفظا، وكانت له طريقته الخاصة في الحفظ، حدث عنها تلامذته فهو لم يكن يحفظ بالدرس، وإنما بالتأمّل، وصرف همته نحو ما يروم حفظه، وقد وصف السّخاوي هذه الطريقة بأنها طريقة الأذكياء.
وسمع صحيح البخاري سنة 785 على مسند الحجاز عفيف الدين عبد اللَّه النشاوري، وكأنه نسي تفاصيل سماعه منه، لكنه كان يتذكر أنه لم يسمع جميع الصحيح، وإنّما له فيه إجازة شاملة وقد بين ذلك ابن حجر بقوله: «والاعتماد في ذلك على الشيخ نجم الدين المرجاني فإنه أعلمني بعد دهر طويل بصورة الحال فاعتمدت عليه وثوقا به» .
وقرأ بحثا في عمدة الأحكام على الحافظ الجمال بين ظهيرة عالم الحجاز سنة 785 هـ، وكان عمره اثنتي عشرة سنة.
واجتهد في طلب العلم فاهتم بالأدب والتاريخ وهو ما يزال في المكتب فنظر في التواريخ وأيام الناس، واستقر في ذهنه شيء من أحوال الرواة، وكان ذلك بتوجيه رجل من أهل الخير سماه ابن حجر للسخاوي إلا أن السخاوي نسيه.
وسمع في فتوته من المسند نجم الدين أبي محمد عبد الرحيم بن رزين بن غالب صحيح البخاري بقراءة الجمال بن ظهيرة سنة ست وثمانين وسبعمائة بمصر، وفاته شيء يسير، كما سمع الصحيح أيضا من أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك الغزي وغيرهما.

وبلغ به الحرص على تحصيل العلم مبلغا جعله يستأجر أحيانا بعض الكتب، ويطلب إعارتها له، ويبرز في هذا المجال من بين شيوخه بدر الدين البشتكي الشّاعر المشهور الّذي أعاره جملة من الكتب منها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني وغيره.
ويبدو من خلال الاستقراء أن فتورا حصل في نشاطه الثقافي استمر إلى أول سنة تسعين وسبعمائة، اشتغل في هذه المدة بالتجارة فنشأ في وسط تجاري لأن جده وأعمامه كانوا تجارا، وكان وصيه الخرّوبي رئيسا للتجار في مصر.
ولعل لموت الخرّوبي سنة 787 هـ أثرا في فتور ابن حجر واشتغاله بالتجارة حيث فقد من كان يحثه على الاشتغال بالعلم، وهو في مرحلة يحتاج فيها إلى ذلك، كما ترتب عليه أن يكفل نفسه وينهض بأعباء الحياة، وقد يتضح ذلك من قول السخاوي، ولو وجد من يعتني به في صغره لأدرك خلقا ممن أخذ عن أصحابهم» .
في سنة 790 هـ أكمل السّابعة عشرة من عمره، وحفظ فيها القرآن الكريم وكتبا من مختصرات العلوم، وقرأ القراءات تجويدا على الشهاب أحمد الخيوطي، وسمع صحيح البخاري على بعض المشايخ كما سمع من علماء عصره البارزين واهتم بالأدب والتاريخ.
وقد لازم حينئذ أحد أوصيائه العلامة شمس الدين محمد بن القطان المصري، وحضر دروسه في الفقه والعربيّة والحساب وغيرها، وقرأ عليه شيئا من الحاوي الصغير فأجاز له ثم درس ما جرت العادة على دراسته من أصل وفرع ولغة ونحوها وطاف على شيوخ الدراية.
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره نظر في فنون الأدب، ففاق أقرانه فيها حتى لا يكاد يسمع شعرا إلا ويستحضر من أين أخذ ناظمه، وطارح الأدباء.
وقال الشعر الرّائق والنثر الفائق، ونظم المدائح النبويّة والمقاطيع.
وتمثل سنة 793 منعطفا ثقافيا في حياة ابن حجر، فمن هذه الثقافة العامة الواسعة، واجتهاده في الفنون التي بلغ فيها الغاية القصوى أحس بميل إلى التخصص فحبّب اللَّه إليه علم الحديث النبوي فأقبل عليه بكليته.
وأوضحت المصادر أن بداية طلبه الحديث كان في سنة 793 هـ وغير أنه لم يكثر إلا في سنة 796 هـ وكتب بخطه: «.... رفع الحجاب، وفتح الباب، وأقبل العزم المصمم على التحصيل، ووفق للهداية إلى سواء السّبيل» فكان أن تتلمذ على خيرة علماء عصره.
وكان شيخه في الحديث زين الدين العراقي الّذي لازمه عشر سنوات، وحمل عنه جملة نافعة من علم الحديث سندا ومتنا وعللا واصطلاحا، فقرأ عليه ألفيته وشرحها فنون الحديث وانتهى منهما في رمضان سنة 798 هـ بمنزل شيخه المذكور بجزيرة الفيل على شاطئ النيل، كما قرأ عليه نكتة على ابن الصلاح في مجالس آخرها سنة 799 هـ، وبعض الكتب الكبار والأجزاء القصار، وحمل جملة مستكثرة من أماليه واستملى عليه بعضها وهو أول من أذن له بالتدريس في علوم الحديث عام 797 هـ.
وقرأ على مسندي القاهرة ومصر الكثير في مدة قصيرة فوقع له سماع متصل عال لبعض الأحاديث.
كانت أسرة الحافظ ابن حجر تجمع بين الاشتغال بالتجارة والاهتمام بالعلم، فكان عم والده فخر الدين عثمان بن محمد بن علي الّذي عرف بابن البزاز وب (ابن حجر) قد سكن ثغر الإسكندرية وانتهت إليه رئاسة الإفتاء هناك على مذهب الإمام الشّافعيّ وتفقه به جماعة منهم الدّمنهوري، وابن الكويك، وكان له ولدان هما ناصر الدين أحمد، وزين الدين محمد، وكانا من الفقهاء.
أما جده قطب الدين محمد بن محمد بن علي فلقد كان بارعا رئيسا تاجرا، حصل على إجازات من العلماء، وأنجب أولادا منهم كمال الدين، ومجد الدين، وتقيّ الدين وأصغرهم وليّ الدين ثم نور الدين علي، وهو والد ابن حجر، الّذي انصرف من بينهم لطلب العلم أما إخوته فكانوا تجّارا.
ويبدو من خلال سيرة نور الدين علي أنه مع اشتغاله بالتجارة عكف على الدرس وتحصيل العلوم فتفقه على مذهب الإمام الشافعيّ وحفظ الحاوي الصغير، وأخذ الفقه عن محمد بن عقيل وأجازه، وسمع من أبي الفتح بن سيد الناس وطبقته وله استدراك على الأذكار للنووي فيه مباحث حسنة، وعدّة دواوين شعر منها ديوان الحرم فيها مدائح نبوية، وكان معنيّا بالنّظم ذا حظّ جيّد في الأدب.
وقال ابن حجر عن أبيه: «لم يكن له بالحديث إلمام ونظمه كثير سائر» ، ووصفته المصادر بالعقل والدّيانة والأمانة ومكارم الأخلاق، وصحبة الصّالحين، ونوّهت بثناء ابن القطان وابن عقيل والوليّ العراقي عليه، وناب في القضاء، وأكثر من الحج والمجاورة، وصنف، وأجيز بالإفتاء والتدريس والقراءات السبع وتطارح مع ابن نباتة المصري والقيراطي، وتبادل معهما المدائح.
كان مولده في حدود سنة 820 هـ ووفاته في رجب سنة 777 هـ.

أما والدته فهي تجار ابنة الفخر أبي بكر بن شمس محمد بن إبراهيم الزفتاوي، أخت صلاح الدّين أحمد الزفتاوي الكارمي صاحب القاعة الكائنة بمصر تجاه المقياس.
وكانت له أخت، ترجم لها في «إنباء الغمر» و «المجمع المؤسس» وهي ست الركب بنت علي بن محمد بن محمد بن حجر، وكانت قارئة كاتبة أعجوبة في الذّكاء، أثنى عليها وقال: «كانت أمي بعد أمي، أصبت بها في جمادى الآخرة من هذه السنة» أي سنة 798 هـ.
وذكر السّخاوي تحصيلها الثقافي وإجازاتها، وزواجها، وأولادها كما ذكر الحافظ ابن حجر شيوخها وإجازاتها من مكة ودمشق وبعلبكّ ومصر وقال: «وتعلّمت الخط وحفظت الكثير من القرآن، وأكثرت من مطالعة الكتب فمهرت في ذلك جدّا.. وكانت بي برة رفيقة محسنة، وقد رثاها أخوها الحافظ ابن حجر في قصيدة، وكان له أخ من أمّه اسمه عبد الرحمن بن الشهاب أحمد بن محمد البكري، ترجم له في إنبائه وقال: إنه مهر وحصّل مالا أصله من قبل أمه- وهي والدتي- فقدر اللَّه موته فورثه أبوه» .
تزوّج الحافظ ابن حجر عند ما بلغ عمره خمسا وعشرين سنة، وذلك في سنة 798 من أنس ابنة القاضي كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز ناظر الجيش، وتنتمي أنس إلى أسرة معروفة بالرئاسة والحشمة والعلم.
وكان ابن حجر حريصا على نشر الثقافة والعلم بين أهل بيته وأقاربه كحرصه على نشر العلم بين الناس، وسيتضح ذلك في دراسة جهوده في التدريس وعقده لمجالس الإملاء.
فأسمع زوجته من شيخه حافظ العصر عبد الرحيم العراقي الحديث المسلسل بالأوّلية، وكذا أسمعها إياه من لفظ العلامة الشرف ابن الكويك، وأجاز لها باستدعاء عدد من الحفاظ فيهم أبو الخير بن الحافظ العلائي، وأبو هريرة عبد الرّحمن بن الحافظ الذهبي، ولم تكن الاستدعاءات بالإجازة لها لتقتصر على المصريين فقط بل من الشاميين والمكيين واليمنيين، وكان الحافظ ابن حجر في حالة الاستدعاء لها يدون أسماء من ولدن من بناتها اللاتي ولدن تباعا.
وحجت صحبة زوجها في سنة 815 هـ كما حجت وجاورت بعد ذلك وحدثت بحضور زوجها، وقرأ عليها الفضلاء، وكانت تحتفل بذلك وتكرم الحاضرين، وقد خرج لها السخاوي أربعين حديثا عن أربعين شيخا، وقرأها عليها بحضور زوجها، وكان الحافظ ابن حجر قد أسلف لها بالإعلام بذلك على سبيل المداعبة بقوله: قد صرت شيخة إلى غير ذلك، وكانت كثيرة الإمداد للعلامة إبراهيم بن خضر بن أحمد العثماني العلامة المتفنن الّذي كان يقرأ لها صحيح البخاري في رجب وشعبان من كل سنة، وتحتفل يوم الختم بأنواع من الحلوى والفاكهة، ويهرع الكبار والصغار لحضور ذلك اليوم قبيل رمضان بين يدي زوجها الحافظ، ولما مات الحافظ ابن خضر قرأ لها سبطها يوسف بن شاهين، ولم تضبط لها هفوة ولا زلّة ... وكان زوجها يكن لها الاحترام الكبير كما كانت هي عظيمة الرعاية له. فولدت له عدة بنات: زين خاتون وفرحة، وعالية، ورابعة، وفاطمة، ولم تأت منه بذكر، وكانت كلّما حملت ذكرا ولد قبل أوانه ميتا.
وتمر السنوات ثقيلة متباطئة، وتتدافع في نفسه أمور متنافرة يحترم أم أولاده ويرعاها، غير أنه شاء اللَّه لها أن لا تلد إلا إناثا، أما الذكور فيموتون، بيد أنه أحب أن يكون له ولد، فاختار التسري، وكانت لزوجته جارية يقال إن اسمها خاص نزل، فأظهر غيظا بسبب تقصيرها، وأقسم بأن لا تقيم بمنزله فبادرت أنس لبيعها، فأرسل شمس الدين بن الضياء الحنبلي فاشتراها له بطريق الوكالة وتزوّجها في مكان بعيد عن منزله، فحملت بولده الوحيد بدر الدين بن المعالي محمد المولود في الثامن عشر من صفر سنة 815 هـ وكانت العقيقة في منزل أنس، ولم تشعر بذلك إلى قبل انفصال الولد عن الرضاع، فلما علمت أنس ذهبت هي وأمها إلى مكان وجود الولد وأمه وأحضرتها معها إلى منزلها وأخفت أمرهما.
ولما حضر الحافظ ابن حجر استجوبته زوجته أنس فما اعترف ولا أنكر بل وارى بما يفهم منه الإنكار، ثم قامت فأخرجت الولد وأمّه فأسقط في يده.
وعاتبته عتابا مرّا، فاعتذر بميله للأولاد الذكور، ودعت عليه أن لا يرزق ولدا عالما، فتألّم لذلك وخشي من دعائها، وقال لها: أحرقت قلبي أو شيئا من هذا القبيل، لأنها كانت مجابة الدّعاء.
وبعد وفاة الحافظ ابن حجر أرسل لها علم الدين البلقيني على يد ولده أبي البقاء يطلب الزواج منها، وقيل: إنها لم تكن تأبى ذلك لكن عصم اللَّه- كما قال السخاوي: ببركة شيخنا- فلم تتزوّجه.
كما تزوّج الحافظ ابن حجر أرملة الزين أبي بكر الأمشاطي بعد وفاته، وذلك عند مجاورة أم أولاده سنة 834 هـ ورزق منها في رجب سنة 835 ابنة سماها آمنة، لم تعش طويلا حيث ماتت في شوّال 836 هـ، وبموتها طلقت أمها لأنه علّق طلاقها عند سفره إلى آمد على موتها.
كما تزوج الحافظ ابن حجر من ليلى ابنة محمود بن طوغان الحلبية عند ما سافر مع الأشرف سنة 836 هـ. إلى آمد، وكان زواجه منها في حلب، واستمرت معه إلى أن سافر من حلب ففارقها دون أن يعلمها بالطلاق، لكن أسرّه إلى بعض خواصه، والتمس منه ألا يعلمها بذلك، وكان يريد أن يختبر ولاءها، ولأنها قد لا تطيق أن تترك حلب وتسافر معه إلى مصر، ثم راسل بعض أصدقائه الحلبيين في تجهيزها إن اختارت ويعلمها بأن الّذي يحمله على الطلاق هو الرفق بها لئلا تختار الإقامة بحلب أو يحصل لها نصيبها فلا تتضرّر، وجاء في الكتاب الّذي قرأه السخاوي بخطه وصفه لها بأنها نعم المرأة عقلا وحسن خلق وخلق ويعدها بكل جميل وأنها إن قدمت ينزلها أحسن المنازل.. فامتثلت إشارته وتجهزت حتى قدمت عليه إلى مصر.. واستمرت معه حتى مات، وكان قد أسكنها في بيت خاص..
ويأتي إليها في يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، ولم يرزق منها أولادا، وكان شديد الميل إليها حتى قال فيها شعرا.
أما أولاده فهم خمس بنات وولد واحد، وهم: زين خاتون وفرحة، وعالية، ورابعة، وفاطمة، وبدر الدين محمد.
فكانت «زين خاتون» هي البكر، ومولدها في ربيع الآخر سنة 802، فاعتنى بها واستجاز لها في سنة ولادتها وما بعدها خلقا وأسمعها على شيوخه كالعراقي والهيثمي وأحضرها على ابن خطيب داريا، ثم تزوّجها الأمير شاهي العلائي الكركي الّذي صار داودارا عند المؤيد مدة، فولدت له عدة أولاد ماتوا كلهم في حياة أمهم، ولم يتأخّر من أولادها إلّا أبو المحاسن يوسف بن شاهين المعروف بسبط ابن حجر، وكانت قد تعلمت القراءة والكتابة وماتت- وهي حامل- بالطّاعون سنة 833 هـ.
وأما «فرحة» فكان مولدها في رجب سنة 804، واستجيز لها مع أمها، وتزوّجها شيخ الشيوخ محب الدين بن الأشقر الّذي ولي نظر الجيش وكتابة السّر، وكان أحد الأعيان في الديار المصرية فولدت له ولدا مات صغيرا في حياة أمه التي كانت وفاتها سنة 828 هـ بعد أن رجعت من الحج مع زوجها موعوكة.
وأما «عالية» فكان مولدها سنة 807 هـ واستجيز لها جماعة وماتت هي وأختها فاطمة في الطّاعون سنة 819 مع من مات من أفراد أسرة أبويهما.
وأما «رابعة» فكان مولدها سنة 811 وأسمعها والدها على المراغي بمكّة سنة 815 هـ وأجاز لها جمع من الشاميين والمصريين وتزوجها الشّهاب أحمد بن محمد بن مكنون، واستولدها بنتا سماها «عالية» ماتت في حياتيهما، ومات عنها زوجها سنة 830 هـ فتزوّجها المحب بن الأشقر حتى ماتت عنه في سنة 832 هـ، وعمل صداقها في أرجوزة.

أما ولده الوحيد بدر الدين أبو المعالي محمد فكان والده حريصا على تعليمه وتهذيبه، فحفظ القرآن وصلّى بالنّاس كما كانت العادة جارية في سنة 826، وأسمعه الحديث على الواسطي وجماعة وأجاز له باستدعاء والده منذ مولده سنة 815 هـ فما بعد عدد من كبار المسندين ذكرهم والده في معجم شيوخه.
وبلغ من حرصه واهتمامه به بعد أن صنف كتابه:
«بلوغ المرام من أدلة الأحكام» لأجله، لكنه لم يحفظ إلا اليسير منه وكتب عن والده كثيرا من مجالس الإملاء وسمع عليه شيئا كثيرا واشتغل بأمر القضاء والأوقاف مساعدا لوالده، حتى صارت له خيره بالمباشرة والحساب.. واشتدت محبة والده له.
وولي في حياة أبيه عدة وظائف أجلها مشيخة البيبرسية وتدريس الحديث بالحسنية ناب عنه فيهما والده، والإمامة بجامع طولون وغير ذلك.
وقد وصفه ابن تغري بردي بالجهل، وسوء السيرة، ولم يرض ذلك السخاوي فرد عليه مفيدا بأنه كان حسن الشكالة متكرّما على عياله قل أن يكون في معناه، لكن السخاوي أشار في موضوع آخر إلى محنة الحافظ ابن حجر بسبب ولده وما نسب إليه من التصرف في أموال الجامع الطولوني بالاشتراك مع آخرين، واحتجز رهن التحقيق، وكان والده في ضيق صدر زائد وألم شديد بسببه وتأوّه كثيرا وكل يوم يسمع من الأخبار ما لم يسمعه بالأمس، وكان يتوجه إليه في يوم الجمعة يوما أو أكثر إلى المكان الّذي يكون فيه فيرجع.. وهو مسرور لما يرى من ثبات ولده وقوة قلبه وشجاعته وانتظام كلامه ومهارته، إلى أن تبين أن ما أشيع عنه مجرد اتهام، ولذلك عمل الحافظ ابن حجر جزءا سماه «ردع المجرم عن سب المسلم» ويبدو أن القاضي ولي الدين السفطي كان له دور مهم في محنة الحافظ ابن حجر بسبب ما كان بينهما من المنافسة على القضاء فكانت هذه الحادثة سببا في زهد الحافظ ابن حجر في القضاء.
تولى ابن حجر الخطابة في عدة مساجد من أكبر المساجد بالقاهرة مثل الجامع الأزهر وجامع عمرو وغيرهما من المساجد الكبرى بالقاهرة فقد كان متبحرا في العديد من العلوم، وكان يفد إليه طلاب العلم وأهل الفضل من سائر الأنحاء، وكان يتسم بالحلم والتواضع والصبر كثير الصيام والقيام.
وكان مرجعا في الحديث النبوي، حتى لقب بلقب «أمير المؤمنين» في الحديث وهذا اللقب لا يظفر به إلا أكبر المحدثين الأفذاذ وقد حبب إلى ابن حجر الحديث وأقبل عليه بكليته وطلبه من سنة ثلاث وتسعين ولكنه لم يلزم الطلب إلا من سنة ست وتسعين فعكف على الزين العراقي وتخرج به وانتفع بملازمته، وتحول إلى القاهرة فسكنها قبيل القرن وارتحل إلى البلاد الشامية والمصرية والحجازية وأخذ عن الشيوخ والأقران وأذن له جل هؤلاء في الإفتاء والتدريس.
وتصدر لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة وقراءة وإقراء وتصنيفا وإفتاء وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب والفقه- على مائة وخمسين تصنيفا وقد عرف ابن حجر بالحفظ وكثرة الاطلاع والسماع وبرع في الحديث وتقدم في جميع فنونه وأثنى عليه شيوخه في هذا الشأن وقد سبق أنه ولي تدريس الفقه بالمدرسة الشيخونية وتدريس الحديث بالمدرسة الجمالية الجديدة ثم تدريس الشافعية بالمؤيدة الجديدة ومشيخة البيبرسية في دولة المؤيد وتدريس الفقه بالمدرسة الصلاحية المجاورة للإمام الشافعيّ، كما تولى الخطابة بالجامع الأزهر وبين التدريس والإفتاء ولي منصب القضاء، وكانت أول ولايته القضاء في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وعشرين وثمانمائة بعد أن امتنع أولا لأنه كان لا يؤثر على الاشتغال بالتأليف والتصنيف شيئا غير أن ابن حجر كما يقول السخاوي قد ندم على قبوله وظيفة القضاء ويقول ابن حجر إن من آفة التلبس بالقضاء أن بعضهم ارتحل إلى لقائي وأنه بلغه تلبسي بوظيفة القضاء فرجع، وعزل عن القضاء وأعيد إليه مرات وكان أخر ولايته القضاء إذ عزل نفسه في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
بلغ عدد شيوخه بالسّماع وبالإجازة وبالإفادة على ما بين بخطه نحو أربعمائة وخمسين نفسا، وإذا استثنينا الشيوخ الذين أجازوا عموما فقد ترجم في «المجمع المؤسس» لأكثر من ستمائة شيخ، وذكر بعضهم أن عدد شيوخه بلغ ستمائة نفس سوى من سمع منه من الأقران.
واجتمع له من الشّيوخ الذين يشار إليهم ويعول في حل المشكلات عليهم ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأن كل واحد منهم كان متبحرا ورأسا في فنه الّذي اشتهر به «فالبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع وابن الملقن في كثرة التصانيف والعراقي في معرفة علوم الحديث ومتعلقاته، والهيثمي في حفظ المتون، واستحضارها والمجد الشيرازي في حفظ اللغة واطلاعه عليها، والغماري في معرفة العربية ومتعلقاتها، وكذا المحب ابن هشام كان حسن التصرف فيها لوفور ذكائه، وكان الغماري فائقا في حفظها، والإيناس في حسن تعليمه وجودة تفهيمه، والعز بن جماعة في تفننه في علوم كثيرة بحيث كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها، والتنوخي في معرفة القراءات وعلو سنده فيها.
شيوخ القراءات:
1- إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن التنوخي الشيخ برهان الدين الشّامي (709 هـ- 800 هـ) بلغ عدد شيوخه ستمائة شيخ بالسماع وبالإجازة يجمعهم معجمه الّذي خرّجه له الحافظ ابن حجر ونزل أهل مصر بموته درجة، قرأ عليه الحافظ ابن حجر من أول القرآن (الفاتحة) إلى قوله (المفلحون) من سورة البقرة جامعا للقراءات السبع ثم قرأ عليه الشاطبية تامة بسماعه لها على القاضي بدر الدين بن جماعة كما قرأ عليه الخلاصة للألفية من العربية نظم ابن عبد اللَّه، فضلا عن قراءته عليه صحيح البخاري، وبعض المسانيد، والكتب والأجزاء، وخرج له المائة العشرية، ثم الأربعين التالية لها، وأذن له بالإقراء سنة 796 هـ.
2- محمد بن محمد بن محمد الدمشقيّ الجزري (751- 833) شيخ القراءات وأجاز له ولولده محمد وحثه على الرّحلة إلى دمشق، حدث بكتابه (الحصن الحصين) في البلاد اليمنية، ومهر الجزري في الفقه إلا أن فنّه القراءات.

شيوخ الحديث:
1- عبد اللَّه بن محمد بن محمد بن سليمان النيسابورىّ المعروف بالنشاوري (705- 790 هـ) وهو أول شيخ سمع عليه الحديث المسند فيما اتصل بعلمه، سمع عليه صحيح البخاري مع فوت بقراءة شمس الدين السلاوي سنة 785 هـ بالمسجد الحرام بسماعه على الرضي الطبري على أنه شك في إجازته منه، وترك التخريج والرّواية بتلك الإجازة وقال: «وفي المصرح به غني عن المظنون واللَّه المستعان» .
2- محمد بن عبد اللَّه بن ظهيرة المخزوميّ المكيّ جمال الدين (751- 817 هـ) وهو أول من بحث عليه في فقه الحديث وذلك في مجاورته مع الخرّوبي بمكّة سنة 785 وهو ابن اثنتي عشرة سنة، حيث قرأ عليه بحثا في عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي، ثم كان أول من سمع بقراءته الحديث بمصر سنة 786، وسمع عليه كتبا أخرى.
3- عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي أبو الفضل زين الدين الحافظ الكبير (725- 806 هـ) وأول ما اجتمع به سنة 786 فقرأ عليه ثم فتر عزمه، كما وضح فيما فات، ثم لازمه عشر سنوات وتخرّج به وهو أوّل من أذن له بالتدريس في علوم الحديث في سنة 797 هـ، وحضر مجالس إملائه، وقرأ عليه كتابه «الأربعين العشارية» من جمعه واستملى عليه الحافظ ابن حجر في غياب ولده أبي زرعة، وحمل عنه جملة مستكثرة من أماليه، وأذن له في تدريس ألفيته من الحديث، وشرحها، والنكت على ابن الصلاح، وسائر كتب الحديث وعلومه، ولقبه بالحافظ وعظمه ونوّه بذكره.
 

وللحافظ ابن حجر مع شيخه مراجعات كثيرة.
4- علي بن أبي بكر بن سليمان أبو الحسن الهيثمي (735- 807) لازم العراقي أشد ملازمة وهو صهره، خرج زوائد مسند البزار ثم مسند أبي يعلى الموصلي، ثم الطبرانيات، وجمع الجميع في كتاب واحد محذوف الأسانيد، ورتب الثقات لابن حبان على حروف المعجم، وحلية الأولياء على الأبواب، اقتصر منها على الأحاديث المسندة، ومات وهو مسودة فكمل ابن حجر ربعه، وصار الهيثمي لشدة ممارسته أكثر استحضارا للمتون من شيخه العراقي حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك، لأن الحفظ المعرفة.
قال ابن حجر: كان يودني كثيرا وبلغه أنني تتبعت أوهامه في مجمع الزوائد فعاتبني فتركت ذلك» قرأ عليه قرينا لشيخه العراقي ومنفردا.

شيوخ الفقه
1- إبراهيم بن موسى بن أيوب برهان الدين الأنباسي الورع الزاهد (725- 802 هـ) سمع من الوادي آشي وأبي الفتح الميدومي ومسند عصره ابن أميلة وطبقتهم، قال عنه ابن حجر: «سمعت منه كثيرا وقرأت عليه الفقه» وقال «اجتمعت به قديما وكان صديق أبي ولازمته بعد التسعين وبحثت عليه في المنهاج وقرأت عليه قطعة كبيرة من أول الجامع للترمذي بسماعه على.. ابن أميلة» وله مصنفات، يألفه الصّالحون ويحبه الأكابر وفضله معروف.
2- عمر بن عليّ بن أحمد بن الملقن (723- 804 هـ) كان أكثر أهل عصره تصنيفا فشرح المنهاج عدة شروح، وخرّج أحاديث الرافعي في ست مجلّدات، وشرح صحيح البخاري في عشرين مجلدة انتقده ابن حجر عليه وعلى أشياء أخرى. قرأ عليه قطعة من شرحه الكبير على المنهاج.

3- عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني نزيل القاهرة أبو حفص، شيخ الإسلام علم الأعلام مفتي الأنام (724- 805 هـ) أقدمه أبوه القاهرة وله اثنتا عشرة سنة فبهرهم بذكائه وكثرة محفوظه وسرعة إدراكه وعرض عليه محافيظه ورجع، غير أنه لم يرزق ملكة في التصنيف، وقد لازمه الحافظ ابن حجر مدة، وقرأ عليه الكثير من الروضة، ومن كلامه على حواشيها، وسمع عليه بقراءة البرماوي مختصر المزني، وكتب له خطه بالإذن بالإعادة وهو أول من أذن له في التدريس والإفتاء، وتبعه غيره.
4- محمد بن علي بن عبد اللَّه القطان الفقيه (737- 813 هـ) مهر في فنون كثيرة، وتفقه عليه الحافظ ابن حجر، وقال عنه: قرأت عليه وأجاز لي وذكر لي أنه قرأ الأصول على الشيخ نور الدين الإسنائي وكان ماهرا في القراءات والعربية والحساب ولازمه في الفقه، وقرأ عليه قسما كبيرا من الحاوي وغيره.
5- عليّ بن أحمد بن أبي الآدمي الشيخ نور الدين، قال ابن حجر: قرأت عليه في الفقه والعربيّة، وكان على طريقة مثلي من الدين والعبادة والخير والانجماع ولازمه كثيرا.

شيوخ العربيّة:
1- محمد بن محمد بن علي بن عبد الرزاق الغماري المصري المالكي (720- 802) وكان كثير الاستحضار للشواهد واللغة مع مشاركة في الأصول والفروع، ودرس القراءات في الشيخونية وهو خاتمة من كان يشار إليه في القراءات العربية، سمع عليه الحافظ ابن حجر القصيدة المعروفة بالبردة بسماعه لها على أبي حيان بسماعه من ناظمها، وأجاز له غير مرّة كما أجازه مروياته عن غيره، وكان عارفا بالعربيّة كثير الحفظ للشعر لا سيما الشواهد قوي المشاركة في فنون الأدب.
2- محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقيّ الأصل بدر الدين البشتكي الأديب الفاضل المشهور (748- 830 هـ) .
حفظ كتابا في فقه الحنفية ثم تحوّل شافعيّا، ثم نظر في كتب ابن حزم، واشتغل في فنون كثيرة، وعني الأدبيات فمهر فيها، لازمه ابن حجر بضع سنين، وانتفع بفوائده وكتبه وأدبياته وطارحه بأبيات وسمع منه الكثير من نظمه وأجاز له ولأولاده، وسبقت الإشارة إلى أنه كان يعيره بعض الكتب الأدبية، وقرأ عليه مجلسا واحدا من مقدمة لطيفة في علم العروض استفاد منه لمعرفة الفن بكماله، كما قرأ عليه البشتكي بعد ذلك في الحديث فهو شيخه، وتلميذه في آن واحد.

3- محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشّيرازي الشيخ العلّامة مجد الدين أبو الطاهر الفيروزآباذي (729- 817 هـ) نظر في اللغة فكانت جل قصده في التحصيل فمهر فيها إلى أن فاق أقرانه، اجتمع به في زبيد، وفي وادي الخصيب وناوله جل القاموس المحيط وأذن له مع المناولة بروايته عنه وقرأ عليه من حديثه عدة أجزاء، وسمع منه المسلسل بالأولية بسماعه عن السبكي، وكتب له تقريضا على بعض تخريجاته أبلغ فيه شيخه في أغلب العلوم.
هو محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي الأصل ثم المصري الشيخ عز الدين ابن المسند شرف الدين (759- 819) .
أتقن فنون المعقول إلى أن صار هو المشار إليه في الدّيار المصرية في هذا الفن..
ولم يكن يقرأ عليه كتاب من الكتب المشهورة إلا ويكتب عليه نكتا وتعقيبات واعتراضات بحسب ما يفتح له أخذ عنه في شرح منهاج الأصول، وجمع الجوامع، ومختصر ابن الحاجب وفي المطوّل لسعد الدين وأجاز له غير مرة ولأولاده، وقال البقاعي: وأجل من أخذ عنه المعقول والأدبيات علامة الدّنيا الشيخ عز الدين بن جماعة، ولازمه طويلا، وأخذ عنه علما جزيلا.
وقال السخاوي: إن ابن جماعة كان يقول: أنا أقرأ في خمسة عشر علما لا يعرف علماء عصري أسماءها».
ولازمه الحافظ ابن حجر في غالب العلوم التي كان يقرؤها من سنة 790 هـ إلى أن مات سنة 819 هـ ولم يخلف بعده مثله كما قال في «إنباء الغمر» .

مصنّفاته:
قال الشّمس السّخاويّ تلميذ الحافظ ابن حجر:
«وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب والفقه، والأصلين وغير ذلك على مائة وخمسين تصنيفا رزق فيها من السّعد والقبول خصوصا «فتح الباري بشرح البخاري» الّذي لم يسبق نظيره أمرا عجبا».
بلغت مصنفاته أكثر من اثنين وثلاثين ومائة تصنيف، وها هي مرتبة على حروف المعجم.
1- الآيات النّيرات للخوارق المعجزات.
2- اتباع الأثر في رحلة ابن حجر.
3- إتحاف المهرة بأطراف العشرة.
4- الإتقان في فضائل القرآن.
5- الأجوبة المشرقة على الأسئلة المفرقة.
6- الإحكام لبيان ما في القرآن من إبهام.
7- أربعون حديثا متباينة الأسانيد بشرط السّماع.
8- أسباب النزول.
9- الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة.
10- الاستبصار على الطّاعن المعثار.
11- الاستدراك على الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.
12- الاستدراك على الكاف الشّاف.
13- الإصابة في تمييز الصّحابة.
14- أطراف المختارة.
15- أطراف الصّحيحين.
16- أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي.
17- الإعجاب ببيان الأسباب.
18- الإعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام.
19- الإعلام بمن ولي مصر في الإسلام.
20- الإفصاح بتكميل النّكت على ابن الصلاح.
21- الأفنان في رواية القرآن.
22- إقامة الدّلائل على معرفة الأوائل.
23- الألقاب.
24- أمالي ابن حجر.
25- الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع.
26- الإنارة في الزّيارة.
27- إنباء الغمر بأنباء العمر.
28- الانتفاع بترتيب الدار الدّارقطنيّ.
29- انتقاض الاعتراض.
30- الأنوار بخصائص المختار.

31- الإيناس بمناقب العبّاس.
32- البداية والنهاية.
33- بذل الماعون بفضل الطّاعون.
34- البسط المبثوث في خبر البرغوث.
35- بلوغ المرام بأدلّة الأحكام.
36- بيان الفصل بما رجح فيه الإرسال على الوصل.
37- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه.
38- تبيين العجب بما ورد في فضل رجب.
39- تجريد التّفسير.
40- تحرير الميزان.
41- تحفة أهل التّحديث عن شيوخ الحديث.
42- تحفة الظّراف بأوهام الأطراف.
43- تخريج أحاديث الأذكار للنّووي.
44- تخريج أحاديث الأربعين للنّووي.
45- تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب.
46- تخريج الأربعين النّووية بالأسانيد العليّة.
47- التّعريج على التّدريج.
48- ترجمة النّووي.
49- تسديد القوس في مختصر مسند الفردوس.
50- التّشويق إلى وصل المهم من التّعليق.
51- تصحيح الرّوضة.
52- تعجيل المنفعة برواية رجال الأئمة الأربعة.
53- التّعريف الأوحد بأوهام من جمع رجال المسند.
54- تعريف أولي التّقدير بمراتب الموصوفين بالتّدليس.
55- تعريف الفئة بمن عاش مائة.
56- تعقّبات على الموضوعات.
57- تعليق التّعليق.
58- تقريب التّقريب.
59- تقريب التّهذيب.

60- تقريب المنهج بترتيب المدرج.
61- تقويم السّناد بمدرج الإسناد.
62- التّمييز في تخريج أحاديث الوجيز.
63- تهذيب التّهذيب.
64- تهذيب المدرج.
65- توالي التّأسيس بمعالي ابن إدريس.
66- توضيح المشتبه للأزدي في الأنساب.
67- التّوفيق بتعليق التّعليق.
68- الجواب الجليل عن حكم بلد الخليل.
69- الجواب الشّافي عن السّؤال الخافي.
70- الخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة والمؤخّرة.
71- الخصال الواردة بحسن الاتّصال.
72- الدّراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية.
73- الدّرر.
74- الدّرر الكامنة في أعيان المائة الثّامنة.
75- ديوان شعر.
76- ديوان منظور الدّرر.
77- ذيل الدّرر الكامنة.
78- ردّ المحرم عن المسلم.
79- الرّسالة العزية في الحساب.
80- رفع الإصر عن قضاة مصر.
81- الزّهر المطلول في بيان الحديث المعلول.
82- الزهر النّضر في أنباء الخضر.
83- السّبعة النّيرات في سبعة أسئلة عن السّيد الشريف في مباحث الموضوع.
84- سلوت ثبت كلوت: التقطها من ثبت أبي الفتح القاهريّ.
85- شرح الأربعين النّوويّة.
86- شرح سنن التّرمذي.
87- شرح مناسك المنهاج.
88- شرح منهاج النّووي.

89- شفاء الغلل في بيان العلل.
90- الشّمس المثيرة في معرفة الكبيرة.
91- طبقات الحفّاظ.
92- عرائس الأساس في مختصر الأساس، للزمخشريّ.
93- عشاريات الأشياخ.
94- عشرة أحاديث عشاريّة الإسناد.
95- عشرة العاشر.
96- فتح الباري بشرح البخاري.
97- فضائل شهر رجب.
98- فهرست مرويّاته.
99- فوائد الاحتفال في بيان أحوال الرّجال، لرجال البخاري.
100- الفوائد الجمّة فيمن يجدد الدّين لهذه الأمّة.
101- قذى العين من نظم غريب البين.
102- القصارى في الحديث.
103- القول المسدّد في الذّبّ عن المسند.
104- الكاف الشّاف في تحرير أحاديث الكشّاف.
105- كشف السّحر عن حكم الصّلاة بعد الوتر.
106- لذّة العيش بجمع طرق حديث «الأئمّة من قريش» .
107- لسان الميزان.
108- المجمع المؤسّس في المعجم المفهرس.
109- مختصر البداية والنّهاية لابن كثير.
110- مختصر تهذيب الكمال.
111- الرحمة الغيثيّة عن التّرجمة اللّيثية.
112- مزيد النّفع بما رجح فيه الوقف على الرفع.
113- المسلسل بالأوليّة بطرق علية.
114- المسند المعتلي بأطراف الحنبلي.
115- المشتبه.
116- المطالب العالية من رواية المسانيد الثّمانية.
117- المطالب العالية في زوائد الثّمانية.

118- المقترب في بيان المضطرب.
119- المقصد الأحمد فيمن كنيته أبو الفضل واسمه أحمد.
120- الممتع في منسك المتمتع.
121- المنحة فيما علق به الشّافعي القول على الصحة.
122- منسك الحج.
123- النبأ الأنبه في بناء الكعبة.
124- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر.
125- نزهة الألباب في الأنساب.
126- نزهة القلوب في معرفة المبدل عن المقلوب.
127- نزهة النّظر بتوضيح نخبة الفكر.
128- النكت الحديثية على كتاب ابن الصّلاح.
129- نهاية التقريب وتكميل التّهذيب بالتذهيب.
130- النيرات السّبعة، ديوان ابن حجر.
131- هداية الرّواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة.
132- هدي السّاري لمقدمة فتح الباري.
 

من تلامذته:

شهاب الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن علي بن حسن، شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي الحنفي، أحمد بن محمد بن محمد بن الحسن أبي العباس تقى الدين الشمنى، محمد بن ناصر الدين محمد بن أبي بكر علي بن أبي شريف كمال الدين.


مرضه ووفاته
بدأ المرض بحافظ الدنيا ابن حجر طيب اللَّه مثواه في ذي الحجة سنة 852 هـ، وفي الحادي عشر منه حضر مجلس الإملاء كما أملى في يوم الثلاثاء الخامس عشر من الشهر المذكور مجلسا وهو متوعّك، ثم تغير مزاجه وأصبح ضعيف الحركة.
وخشي الأطباء أن يناولوه مسهلا لأجل سنه فأشير «بلبن الحليب» ، فتناوله فلانت الطبيعة قليلا وأدى ذلك إلى نشاط ... وصار مسرورا بذلك، ولكنه لم يشف من مرضه تماما ... ثم عاد إلى الكتمان وتزايد الألم بالمعدة وكان يقول هذا بقايا الغبن من سنة تسع وأربعين وتوابعها، ولم يستطع أن يؤدي صلاة عيد الأضحى الّذي صادف يوم الثّلاثاء، وهو الّذي لم يترك صلاة جمعة ولا جماعة، وصلى الجمعة التي تلي العيد، ثم توجه إلى زوجته الحلبية، وكأنه أحس بدنوّ أجله، فاعتذر عن انقطاعه عنها واسترضاها وكان ينشد:
ثاء الثّلاثين قد أوهت قوى بدني ... فكيف حالي وثاء الثّمانينا
وتردّد إليه الأطباء، وهرع النّاس من الأمراء والقضاة والمباشرين. لعيادته، وقبل منتصف شهر ذي الحجة من سنة 852 هـ أشيع أن شيخ الإسلام قد توعك فأنشأ يقول:
أشكو إلى اللَّه ما بي ... وما حوته ضلوعي
قد طال السّقم جسمي ... بنزلة وطلوعي.
وكان مرضه قد دام أكثر من شهر، حيث أصيب بإسهال ورمي دم (ديسانتري) ، غير أن السّخاوي يقول: «ولا استبعد أنه أكرم بالشهادة فقد كان طاعون قد ظهر» .
ثم أسلم الروح إلى بارئها في أواخر شهر ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
واختلف مترجموه في تحديد تاريخ يوم وفاته، كما اختلفوا في تحديد يوم ولادته، على أنهم يتفقون جميعا تقريبا على أنها- وفاته- كانت في ليلة السّبت من ذي الحجة، والاختلاف ينحصر في تحديدهم لأي سبت منه، وهذا يرجع إلى أن الأرقام عرضة للتحريف أكثر من غيرها فجعلها بعضهم في الثامن والعشرين من ذي الحجة، وجعلها آخرون في التاسع عشر منه، على حين ذكرها فريق ثالث في ثامن عشر من ذي الحجة سنة 852 هـ.
وترك وصيته التي نقل السّخاوي نصها، مستقاة من سبطه يوسف بن شاهين، ومما ورد فيها أنه أوصى لطلبة الحديث النبوي والمواظبين على حضور مجالس الإملاء بجزء من تركته.
وفي أواخر أيامه عاده قاضي القضاة سعد الدين بن الديري الحنفي فسأله عن حاله، فأنشده أربعة أبيات من قصيدة لأبي القاسم الزّمخشريّ هي:
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عصري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ولت ... بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
وصلي عليه بمصلاة بكتمر المؤمن، حيث أمر السّلطان جقمق بأن يحضر إلى هناك ليصلي عليه، وتقدم في الصلاة عليه الخليفة بإذن من السلطان.
وحضر الشيوخ وأرباب الدولة وجمع غفير من الناس، وازدحموا في الصلاة عليه حتى حزر أحد الأذكياء من مشى في جنازته بأنهم نحو الخمسين ألف إنسان.

ومن شدة حب الناس، وإكرامهم له تصور البعض أن الخضر صلى عليه كما ذكر ذلك صاحب مفتاح السعادة، فقال: ومن جملة من صلّى عليه «الخضر عليه السلام رآه عصابة من الأولياء» .
وكان يوم موته عظيما على المسلمين وحتى على أهل الذمة، وشيعته القاهرة إلى مدفنه في القرافة الصغرى، وتزاحم الأمراء والأكابر على حمل نعشه، ومشى إلى تربته من لم يمش نصف مسافتها قطّ، فدفن تجاه تربة الديلميّ بتربة بني الخروبي بين مقام الشّافعي ومقام سيدي مسلم السّلمي، وكانت وصيته خلاف ذلك، وقد سنحت لي الفرصة بزيارة قبر الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه، فتبين لي أنه يقع في مسافة تقدر بحوالي 1500 م من مقام الإمام الشافعيّ.
وقيل: إن السماء أمطرت على نعشه مطرا خفيفا فعد ذلك من النوادر.

ذكر من رثاه:
وما أحقه بقول ابن دريد في قصيدة طويلة:
إنّ المنيّة لم تتلف بها رجلا ... بل أبلغت علما للدّين منصوبا
كان الزّمان به تصفو مشاربه ... والآن أصبح بالتّكدير مقطوبا
كلّا وأيّامه الغرّ الّتي جعلت ... للعلم نورا وللتّقوى محاريبا
وبقول غيره:
ذهب العليم بعيب كلّ محدّث ... وبكلّ مختلف من الإسناد
وبكلّ وهم في الحديث ومشكل ... يعنى به علماء كلّ بلاد
وبقول غيره.
بكيت على فراقك كلّ يوم ... وأمليت الحوار من الجفون
ولو كان البكاء بقدر شوقي ... لملّته العيون من العيون
وبقول غيره:
رزء ألمّ فقلب الدّهر في وهج ... وأغفل النّاس منسوب إلى الهوج

وللقلوب وجيب في مراكزها ... مهول فهو بتشقيق الصّدور حجي
وللعيون انهمال كالغمام بكا ... فكلّ فجّ به عال من اللّجج
يا واحد العصر يا من لا نظير له ... إذ كلّ شخص من الأمثال في لجج
يا شيخ الإسلام يا مولى لقد خضعت ... غلب الرّجال لما تبدي من الحجج
يا برّ حلم بحور العلم قد تركت ... لمّا سمعنا بداع، مقبل سمج
أصمّ أسماعنا لمّا تلا سحرا ... قد مات من تهزم الأهوال حين نجي
قاضي القضاة المفدّى من بني حجر ... من خلقه ليس في شيء من الحرج
فلو رضي الدّهر منّا فدية عظمت ... إذا وحقّك جدنا فيك بالمهج
ولو حميت بضرب السّيف ما وجدت ... لها المنايا إليك الدّهر من ولج
في حقّ عهدك ما زلنا ذوي شغف ... بعهد ودّ لكم بالرّوح ممتزج
حفّت سجاياك والألباب قد رجحت ... بها نهاك من الإحصاء بالثّبج
ألفت يا حلو، مرّ الصّبر ترشفه ... فأنت للصّبر صبّ بالغرام شجي
من للقيام بجنح اللّيل مجتهدا ... تبيت ترفعه آيات ذي الدّرج
تعلي النّحيب خضوعا والأسى قلقا ... كأنّه في الدّياجي بالحراب وجي
قد كان مصرك ليلا كالنّهار به ... شهاب فضلك يغنيه عن السّرج
واليوم بعدك مثل اللّيل في سدف ... يا لهف قلبي فما صبح بمنبلج
لكأنّ فقدك فقد النّاس كلّهم ... وفقد غيرك قد يلفى من الفرج
من للأحاديث يحييها ويحفظها ... فوقته ليس حمّال إليه يجي
قد كنت للسّنّة الغرّا شهاب علا ... حميت آفاقها عن مارد علج
من كان في علمه في الشّكّ مرتبكا ... فأنت في علمك الأشيا على ثلج
وأنت أذكى الورى قلبا ورائحة ... كأنّما كنت مسكا طيّب الأرج
لهفي عليك شهاب الدّين من رجل ... لمّا ترحّلت صار النّاس في مرج
قد كنت حافظهم في كلّ معضلة ... فبعدك اليوم لا تسأل عن الهمج
كانوا إذا أوهموا معنى وأخر سهم ... فتحت كلّ عم منهم ومرتتج (الّذي استغلق عليه الكلام)
لمّا ركبت على الحدباء ما أحد ... إلّا انحنى منه ظهر غير ذي عوج
روحي فداء لبال قد ظفرت بها ... لديك يا حبر بالآمال بالحجج
أروق سمعي بدرّ النّطق منك وما ... طرفي بممتنع من وحيك البهج
كأنّه لم يكن يوما فيا أسفا ... ما كنت من بعد ما مرّت بمبتهج
كلّا لعمري وإنّي فالق كبدي ... حزني عليك وقلبي جدّ ملتعج
ولا أحبّ ديارا قد قبضت بها ... فنحوها بعد بعد منك لم أعج
نعم وأبغضت واللَّه الحياة بلا ... وجود أنسك فاعلم ذاك وابتهج
لهفي على مجلس الإملا وحاضره ... من كلّ حبر لسبل الخير منتهج
كم فيه من راس راس هزّ من عجب ... والجمع من شدّة الإصغاء لم يمج
كأنّنا لم نكن يوما لديك ولا ... بقولك العذب منّا قطّ سرّ نجي
فيا دوام افتكاري للسّرور بكم ... ويا بكائي طوال الدّهر والأبج
لأملأنّ بسيط الأرض من أدب ... ركّبت فيك معانيه من البرج
جمعت قلبا بحبّ فيك ممتلئا ... إلى لسان بأنواع الرّثا لهج
عليك منّي تحيّات أردّدها ... ما هيّج الورق قلبا فيك ذا وهج
وجاد مهدك في صوب الرّضا مزن ... يا بحر يحيي بقاع الأرض بالثّبج
ومنهم العلامة الشّهاب أبو الطّيّب أحمد بن محمد الحجازي فأنشدني لفظه لنفسه قوله:
كلّ البريّة للمنيّة صابره ... وقفولها شيئا فشيئا سائره
والنّفس إن رضيت بذا ربحت وإن ... لم ترض كانت عند ذلك خاسرة
وأنا الّذي راض بأحكام مضت ... عن ربّنا البرّ المهيمن صادره
لكن سئمت العيش من بعد الّذي ... قد خلّف الأفكار منّا حائرة
هو شيخ الإسلام المعظّم قدره ... من كان أوحد عصره والنّادره
قاضي القضاة العسقلانيّ الّذي ... لم ترفع الدّنيا خصيما ناظره
وشهاب دين اللَّه ذو الفضل الّذي ... أربى على عدد النّجوم مكاثره
لا تعجبوا لعلوّه فأبوه من ... قبل عليّ في الدّنا والآخرة
هو كيميا العلم وكم من طالب ... بالكسر جاء له فأضحى جابره
لا بدع أن عادت علوم الكيميا ... من بعد ذا الحجر المكرّم بائره
لهفي على من أورثتني حسرة ... درس الدّروس عليه إذ هي حاسره
لهفي على المدح استمالت للرّثا ... وقصور آياتي غدت متقاصره
لهفي عليه عالما، بوفاته ... درست دروس والمدارس بايره
لهفي على الإملاء عطّل بعده ... ومعاهد الأسماع إذ هي شاغرة
لهفي عليه حافظ العصر الّذي ... قد كان معدودا لكلّ مناظرة
لهفي على الفقه المهذّب والمحرر ... حاوي المقصود عند محاوره
لهفي على النّحو الّذي تسهيله ... مغني اللّبيب مساعد لمذاكره
لهفي على اللّغة الغريبة كم أرانا ... معربا بصحاحها المتظاهرة
لهفي على علم العروض تقطّعت ... أسبابه بفواصل متغايره
لهفي عليه خزانة العلم الّتي ... كانت بها كلّ الأفاضل ماهره
لهفي على شيخي الّذي سعدت به ... صحب وأوجه ناظريه ناضرة
لهفي على التّقصير منّي حيث كم ... أملا النّواحي بالنّواح مبادره
لهفي على عذري عن استيفاء ما ... تحوي وعجزي أن أعدّ مآثره
لهفي على لهفي وهل ذا مسعدي ... أو كان ينفعني شديد محاذره
لهفي على من كلّ عام للهنا ... تأتي الوفود إلى حماه مبادره
والآن في ذا العام جاءوا للعزا ... فهيه وعادوا بالدّموع لهامره
قد خلّف الدّنيا خرابا بعده ... لكنّما الأخرى لديه عامره
وبموته شقي الفؤاد وأعلم ... العين انثنت في حالتيها شاغرة
ولي المعاجر طابقت إذ للرّثا ... أنا ناظم وهي المدامع ناشره
فكأنّه في قبره سرّ غدا ... في الصّدر، والأفهام عنه قاصره
وكأنّه في اللّحد منه ذخيرة ... أعظم بها درر العلوم الفاخرة
وكأنّه في رمسه سيف ثوى ... في الغمد مخبوء ليوم الثّائره
وكأنّه كشف الغطاء له فإن ... قربت منيّته أفاض محاجره
وغدا بأبيات الرّثا متمثّلا ... وحبا بها بعض الصّحاب وسارره
ونعى بها من قبل ذلك نفسه ... أكرم بها يا صاح نفسا طاهره
ولصاحب الكشّاف يعزى نظمها ... والعدّ منها أربع متفاخره
وأنا الّذي ضمّنتها مرثيّتي ... جهرا وأوّلها بغير مناكره
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ... ولّت بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
هذا لعمري آخر الأبيات إذ ... هي أربع كملت تراها باهره
وأنا أعود إلى رثائي عودة ... تجلو لسامعها بغير منافره
قهرتني الأيّام فيه فليتني ... في مصر متّ وما رأيت القاهره
هجرتني الأحلام بعدك سيّدي ... واحرّ قلب قد رمي بالقاهرة
من شاء بعدك فليمت أنت الّذي ... كانت عليك النّفس قدما حاذره
وسهرت مذ صرخ النّعيّ بزجرة ... فإذا هم من مقلتي بالسّاهرة
ورزئت فيه فليت أنّي لم أكن ... أوليت أنّي قد سكنت مقابره
رزء، جميع النّاس فيه واحد ... طوبى لنفس عند ذلك صابره
يا نوم، عيني لا تلمّ بمقلتي ... فالنّوم لا يأوي لعين ساهره
يا دمع، واسقي تربه ولو أنّها ... بعلومه جرت البحار الزاخرة
يا حبر فارحل ليس قلبي فارغا ... سكنته أحزان غدت متكاثره
يا نار شوقي بالفراق تأجّجي ... يا أدمعي بالمزن كوني ساجره
يا قبر، طب قد صرت بيت العلم أو ... عينا به إنسان قطب الدائرة
يا موت، إنّك قد نزلت بذي النّدى ... ومذ استضفت حباك نفسا خاطره
يا ربّ فارحمه وسقّ ضريحه ... بسحائب من فيض فضلك غامره
يا نفس صبرا فالتّأسّي كائن ... بوفاة أعظم شافع في الآخرة
المصطفى زين النّبيّين الّذي ... حاز العلا والمعجزات الباهره
صلّى عليه اللَّه ما صال الرّدى ... فينا وجرّد للبريّة باتره
وعلى عشيرته الكرام وآله ... وعلى صحابته النّجوم الزّاهره
ومنهم الشّهاب أحمد بن محمد بن علي المنصوري صاحب القصيدة الماضية
ذكرها في المدائح، فقال يوم وفاة صاحب الترجمة:
قد بكت السّحب على ... قاضي القضاة بالمطر
وانهدم الرّكن الّذي ... كان مشيدا من حجر
ومنهم الفاضل أبو هريرة عبد الرحمن بن علي بن أحمد بن عثمان بن النقاش الأصم البسيط:
قفا نبك بالقاموس الغامض الزّجر ... والمرسلات بماء الغيث والمطر
مذكّرا لك بالأذكار ذا أسف ... على المعاهد والرّوضات والأثر
على ديار إذا صحّ الحديث ولي ... في الحسن معتقد والضعف للغير
على رباع خلا درس الحديث بها ... والرّبع عاف ومحتاج إلى الحجر
وقل لذي عذل في عبرة سمحت ... دعها سماويّة تجري على قدر
وقل لعيني الّتي بالدّمع قد نزحت ... يا عين، جودي ولا تبقي ولا تذري
وابكي بموج وما المقياس يحصره ... قاضي القضاة أمير المؤمنين في الأثر
قاضي القضاة أمير المؤمنين سمي ... بأحمد بين علي ذي الرّحلة الحجر
أكرم بها مدحة ما حازها أحد ... في عصرنا غير نزر قلّ في العصر
وع الكتابة واحفظها وسق سندا ... وخلّ عنك سواد الطّرس بالحبر
يا موت، ذكّرتني موت النّبيّ به ... الهاشمي المصطفى المبعوث من مضر
ذكّرتني العمرين الصّاحبين أبا ... بكر الصّدّيق مع الفاروق من عمر
يا خنس ها أدمعي مع دمعك ائتلفا ... ثمّ اختلفتا بكا في الصّخر والحجر
يا خنس، لو نظرت عيناك لمّته ... وما حوت من فخار العلم والخفر
يا خنس، لو سمعت أذناك منطقه ... من ثغر مبسمه المنظوم بالدّرر
يا خنس، إنّي عن عين له نظرت ... ليس العيان كما قد قيل كالخبر
يا خنس، قد قلت في صخر مراثيه ... فحوّل الحزن بالإسناد للحجر
مصيبة عمّت الدّنيا بأجمعها ... رمي بها زحل بالقوس والوتر
بالبحر والنّهر والبحرين إذ جمعا ... أبكيه من عبرة تجري بلا ضجر
إن ذكّرتني بوقت صخرها غسقا ... أو نكّرتني بوقت الصّيف في السّحر
فكلّ أوقاتي الغرّا مسبّلة ... جاها وعلما وما يزرى من البدر
شبّهته جالسا في الدّرس في فئة ... هم النّجوم ووجه الشيخ بالقمر
وهم طباق وهم يهدى السّبيل بهم ... من حوله أنجم كالأنجم الزّهر
هم الرّجال ولكن شيخهم رجل ... رجاله سند في مسند الخبر
ساد الرّجال وكم قد ساد من رجل ... يسوقه بعد تحويل من السّطر
يملي الحديث ببيبرس حوى سندا ... عال إلى سيّد الكونين والبشر
تاللَّه لو سمعت حذّاق شرعتنا ... سوق الأسانيد في إملائه الجهر
ولو رأوا يده في فرع روضته ... أو فسّرت آية في محكم السّور
أو ما يوصّله في الدّين معتقدا ... أو رتّبت سندا من نخبة الفكر
أو أظهرت حكمة للشّافعيّ خفت ... يستخرج الكلّ من خرم من الإبر
أثنوا عليه ومن أضحى يخالفه ... بمنزل دحص كقشعم الحجر
أبكي عليه وقد شالوا جنازته ... ونقّطت مزنة من نسمة السّحر
أنقى من الثّلج إشراقا وريحتها ... أذكى من المسك والنّدا الذكي العطر
وبشّرت برضا الرّحمن خالقه ... والحور قد زيّنت بالحلي في السّرر
وعدته قائلا للقلب منه عسى ... وهل يفيد عسى مع سابق القدر
يا قلب، قد كنت تخشى الموت ذا حذر ... وليس ذو حذر ينجو من القدر
وأنت للعالم النّقّاش منتسب ... وكم معان خفت تأتيك في الصّور
خفت المنون وما قد كنت تحسبه ... قد جاء منتقشا كالنّقش في الحجر
إن غاب شخصك يا مولاي عن نظري ... وغيّبوا وجهك المحبوب في القبر
في أساريرك الحسناء مشرقة ... سبط من الحسنيين الخلق والبشر
يا من مراحمه للخلق واسعة ... عمّت نجيّا ومن في دينه الخطر
اجعل على متن هذا القبر سابغة ... من لؤلؤ رطب عذب ذكي عطر
والسّامعين ومن يعزى لمذهبهم ... تحدو على سنّة الهادي النّبي المضري
وقل لمن سمع الأبيات يسترها ... فاللَّه يستره في الورد والصّدر
قدّمتها سلعة مزجا وناظمها ... يعدّها خجلا من أعظم الكبر
وأذن بسحب صلاة منك ثمّ رضا ... على نبيّ الهدى والبشر والبشر
وآله وجميع الصّحب قاطبة ... بهم هدي أمم في البدو والحضر
ما غرّدت ورقه في الأيك آصرة ... بزورة المصطفى والبيت والحجر

موت الإمام شهاب الدّين قد جزعت ... له العلوم وما يروى من الأثر
وقال ربع علوم الشّرع مكتئبا ... به درست فما تلقون من أثر
إنّ الحياة ذميمة من بعد ما ... قبض الإمام العسقلانيّ الشّافعي
يا نفس، طيبي بالممات وحافظي ... أن تلحقي هذا الإمام وتابعي
بكت سماء وأرض ... عليك يا عسقلاني
لكنّنا نتسلّى ... إذ ما سوى اللَّه فاني
الجفن قد حاكى السّحاب وناظره ... فأعذر إذا فقد المتيّم ناظره
لو أنّ عاذله رأى ما قد رأى ... لغدا له بعد الملامة عاذره
يا عاذلي، دعني فلي حزن على ... طول المدى لم يلق يوما آخره
ذاب الفؤاد وقد تقطّع حسرة ... أسفا على قاضي القضاة النّادره
أعني شهاب الدّين ذا الفضل الّذي ... عن وصفه أفهام مثلي قاصره
العسقلانيّ الّذي كانت إلى ... أبوابه تأتي الوفود مهاجره
يا عين، إنّي ناظم مرثيّة ... فيه فكوني للمدامع ناثره
للَّه أيّاما به ولياليا ... سلفت وكانت بالتّواصل زاهره
تاللَّه، لم يأت الزّمان بمثله ... أبدا ولم ير مثله من عاصره
شهدت له كلّ العقول بأنّه ... ما مثله هو درّة هي فاخره
دانت لفطنته العلوم فلم تزل ... أبدا إليه كلّ وقت سائره
يا أيّها الشعراء، هذا سوقكم ... كانت له تأتي التّجار مبادره
واليوم أغلق بابه فلأجل ذا ... أضحت تجارتكم لديكم بائره
كم من حديث قد رواه مسلسلا ... ومدبّجا وله معان ظاهره
وكذا غريبا مسندا ومصحّحا ... جملا وأخبارا غدت متواتره
إنّي لأعجز أن أعدّ فضائلا ... فيه وأعجز أن أعدّ مأثره
كم طالب أقلامه من بعده ... جفّت ولم تمسك يداه محابره
أسفا عليه نقول يا نفس اصبري ... فتقول: ما أنا عند هذا صابره
درست دروس العلم بعد وفاته ... ومعاهد الإملاء أضحت دائره
أسفي على قاضي القضاة مؤبّد ... زفرات قلبي كلّ وقت ثابره
أسفي على شيخ العلوم ومن غدت ... أفكار كلّ الخلق فيه حائرة
أسفي على من كان بين صحابه ... كالبدر في وسط النّجوم الزّاهره
ولقد نعى قبل المنية نفسه ... إذ كلّ نفس للمنيّة صائره
لا رأى أجل الحياة قد انقضى ... أضحى يشير إلى الصّحاب مبادره
ويقول أبياتا وليست نظمه ... لكن بلفظ منه أضحت فاخره
وزمخشريّ ناظم أبياتها ... هي أربع معدودة متواترة
كلّ الورى من بعده اشتغلوا بها ... فاسمع فأوّلها أقول مذاكرة
قرب الرّحيل إلى ديار الآخرة ... فاجعل إلهي خير عمري آخره
وارحم مبيتي في القبور ووحدتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخره
فأنا المسيكين الّذي أيّامه ... ولّت بأوزار غدت متواتره
فلئن رحمت فأنت أرحم راحم ... فبحار جودك يا إلهي زاخره
ها آخر الأبيات قد أوردتها ... فيما نظمت تبرّكا ومكاثره
وأعود أذكر بعد ذلك حالتي ... وأبثّ أحزانا بقلبي حاضره
وأقول: مات أبو المكارم والنّدى ... ملقي الدّروس وذو العلوم الباهره
ما كان أحسن لفظه وحديثه ... ما كان قطّ يملّه من عاشره
ولو انّه يفدى لكنت له الفدى ... وأودّ لو أنّي سددت مقاصره
لهب بقلبي بعده لا ينطفي ... ودموع عيني لم تزل متقاطره
فاللَّه يسقي قبره ماء الحيا ... أبدا ويورده سحابا ماطره
ثمّ الصّلاة على النّبيّ وصحبه ... وعلى جميع التّابعين أوامره
يا درّة فقدت وكانت فاخره ... في بدء خير حوّلت للآخرة
من كلّ علم حاز أكبره فره ... عزّ الفخار تصل بحارا زاخره
شطن الرّجا كانت لطالب برّه ... من بعد أشجان بفضل ماخره
تعنو الرّؤوس إلى وجوه بديعه ... وإذا عصته أتت إليه ذاخره
وهو المكرّم والكريم بناته ... مع علمه لو أمّ كعبا فاخره
ليلى بعاذرها فشاغل قلبها ... ولمن سواه بذي الدّعاوي شاجره
تجري عليه مودّعا روحي ولن ... تشغل ولو صارت عظاما ناخره

قد كان أوّل شاغل قلبي هوى ... وبهونه فالصّبر عدّى آخره
شهاب المعالي بينما هو طالع ... فعاجلنا فيه القضا والقوارع
إلى اللَّه إنّا راجعون وحسبنا ... ونعم الوكيل اللَّه فيما نواقع
فقد أورث الآفاق حزنا وذلّة ... وأظلمت الأكوان ثمّ المطالع
وأطلق دمع العين تجري سحائبا ... وأجرى عيون السّحب فهي هوامع
وصيّر طرفي لا يملّ من البكا ... وأحرق قلبا بالجوانح هالع
وفرّق جمع الشّمل من بعد إلفه ... وألّف درّ الدمع في الخدّ لامع
فوجدي وصبري في الرّثاء بيانيا ... فوجدي موجود وصبري ضائع
فصبرا لما قد كان في سابق القضا ... فليس لمقدور المنيّة دافع
وطلّقت نومي والتّلذّذ والهنا ... وألزمت نفسي أنّني لا أراجع
وصاحب سهدي والتّأسّف والأسى ... فواصلتها لمّا جفتني المضاجع
وإنّي غريب لو أقمت بمنزلي ... وإنّي وحيد لا معين أراجع
فلهفي على شيخ الحديث وعصره ... فمجلسه للعلم والفضل جامع
فلهفي على تلك المجالس بعده ... لفقد أولي التّحقيق قفر بلاقع
فلهفي على جدّي وشيخي وقدوتي ... وشيخ شيوخ العصر إذ لا منازع
فأوقاته مقسومة في عبادة ... وفضل لمحتاج ببرّ يتابع
فقد كان ظنّي أن تكون معاوني ... على كلّ خير مثل ما قيل مانع
فعند إلهي قد جعلت وديعتي ... كريم لديه لا يخيب الودائع
فرحب الفضا قد ضاق من بعد بعده ... عليّ وفيه بحر فكري واسع
فيا موت، زر إنّ الحياة ذميمة ... فمن بعد هذا الحبر إني راجع
إمام الهدى والعلم والحلم والتّقى ... وحافظ هذا الوقت للحقّ خاضع
ففي النّظم حسّان وفي الجود حاتم ... وفي العلم ليث وهو في الثّبت نافع
عفيف السّجايا باسط اليد بالنّدا ... جزيل العطايا ناسك متواضع
بزهد له قد كان يحكي ابن آدم ... له ورع بالصّبر للنّفس قانع
فأيّامه صوم وفي اللّيل هاجد ... مقيل خشوع ساجد الرّأس راكع
فمنهاجه حاو لتنبيه غافل ... وبهجته زانت كما الرّوض نافع
وفتح لباريه حواه فوائدا ... يزيل التباسا فهو للشّكل رافع

وتقريبه الأسما لتهذيب طالب ... وفي الجرح والتّعديل كالسّيف ساطع
فإن رمت إتقان الحديث فجمعه ... فعن حافظ الإسلام تروى الشّرائع
كأن لم يمت من سواه ولم تقم ... على أحد إلّا عليه النّوائح
إنّي معزّيك لا أنّي على طمع ... من الخلود ولكن سنّة الدّين
فما المعزّي بباق بعد صاحبه ... ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
تعزّ بحسن الصّبر عند كلّ فائت ... ففي الصّبر مسلاة الهموم واللّوازم
وليس يذود النّفس عن شهواتها ... لعمرك إلّا كلّ ماضي العزائم
لعمرك ما الرّزيّة هدم دار ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكنّ الرّزيّة موت شخص ... يموت بموته علم كبير

الإصابة في تمييز الصحابة - أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني.

 

- (شهاب الدين، ابن حجر)، من أئمة العلم و التاريخ. أصله من عسقلان بفلسطين، و مولده و وفاته بالقاهرة. ولع بالأدب و الشعر ثم أقبل على الحديث، و رحل إلى اليمن و الحجاز و غيرهما لسماع الشيوخ، و علت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه، و أصبح حافظ الإسلام فى عصره. ولى قضاء مصر مرات ثم اعتزل. و من تصانيفه: «الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة»، «لسان الميزان»، «تقريب التهذيب»، «ألقاب الرواة». ولد سنة ٧٧٣ ه، و توفى سنة ٨٥٢ ه. الأعلام: ١/ ١٧٨، طبقات الحفاظ: ٥٤٧.

الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء -  علي بن عبد القادر الطبري

 

أحمد بن على بن حجر العسقلانى.
الفقيه القاضى المحدّث الراوية، حافظ أهل زمانه، وواحد وقته وأوانه، له «فتح البارى، بشرح البخارى» فى ثمانية مجلدات، ومقدمة الكتاب فى مجلد آخر، وتأليف آخر سماه ب‍ «الإصابة، فى معرفة الصحابة». وله تاريخ حسن. وتآليفه كثيرة ومشهورة منها: تهذيب التهذيب فى رجال الكتب الستة، ورفع الاصر عن قضاة مصر، وتقريب التهذيب، ولسان الميزان، ونكت ابن الصلاح، والتلخيص الحبير، وتعجيل المنفعة برجال الأربعة، وتوالى التأسيس بمعالى ابن ادريس، ونخبة الفكر فى مصطلح أهل الاثر، وشرحها، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وتقريب المنهج بترتيب المدرج. . الخ. أخذ النحو عن ابن هشام، والحديث عن أبى العباس الغمارى وغيرهما، كما هو مذكور فى فهرسته، يطول ذكرهم، ومن نظمه فى وقاد:
أحببت وقّادا كبدر طالع … أسكنته برضى الغرام فؤادى
وأنا الشهاب فلا يعنّف عاذلى … إن مات نحو الكوكب الوقاد
وله، وقد سقطت صومعة المؤيدية، وبورى بالعينى:
لمسجد مولانا المؤيد رونق … وصومعة تزهو من الحسن والزين
تقول وقد مالت عليه تفرّقوا … فليس على جسمى أضرّ من العين
فأجابه العينى بقوله:
منارة كعروس الحسن قد جليت … وهدّها بقضاء الله والقدر
قالوا: أصيبت بعين قلت: ذا خطأ … ما أوجب الهدّ إلا خسة الحجر (2)

ولابن حجر:
مرضت جوى فواصلنى حبيبى … وعاد إلى الجفاء فعاد ما بى
فقلت: أعد وواصل قال: كلاّ … فهأنا متّ من ردّ الجواب (1)
وله فى اسم إصماعيل:
لى عام ساء قلبى … فيه بعدى عن حبيبى
أضمر الشوق اسمه … عن كل لاح ورقيب (2)]
وله [رحمه الله]:
قرب الرحيل إلى ديار الآخرة … فاجعل إلهى خير عمرى آخره
[آنس مبيتى فى القبور ووحدتى … وارحم عظامى حين تبقى ناخرة
فلئن رحمت فأنت أكرم راحم … فبحار جودك يا إلهى زاخرة (3)]
فأنا المفرّط والذى أيامه … ولّت بأوزار غدت متكاثرة (4)]
والطف به فى حاله ومآله … يا مالك الدنيا وربّ الآخرة
وله أيضا:
إن كنت تنكر حبا زادنى كلفا … حسبى الذى قد جرى من مدمعى وكفى
وإن شككت فسل يا عاذلى شجنى … هل بتّ أشكو الأسى والبثّ والأسفا
أحبابنا ويد الأسقام قد عبثت … بالجسم هل لىّ منكم بالوصال شفا؟
ذكرت عيشا تقضّى فى وصالكم … وراق منى نسيم فبكم وصفا (5)

سرتم وخلّفتم فى الحىّ ميت هوى … لولا رجاء تلاقيكم لقد تلفا
وكنت أكتم حبى فى الهوى زمنا … حتى تكلّم دمع العين فانكشفا
سألت قلبى عن صبرى فأخبرنى … بأنه حين صرتم عنّى انصرفا
وقلت للطرف أين النوم بعدهم؟ … فقال: نوم وبحر الدم قد نزقا؟ !
وقلت للجسم: أين القلب؟ قال: لقد … عليّ الحوادث عنه وابتغى السلفا
سرى هواهم فصار القلب يتبعه … حتى تعرّف آثارا له وقفا (1)
فيا خليلىّ هذا الربع لاح لنا … يدعو الوقوف عليه والبكاء قفا
ربع كربع اصطبارى بعد أن رحلوا … تجاوز الله عنهم قد خلا وعفا
ومنها:
وفتية لحمى المحبوب قد رحلوا … وخلّفتنى ذنوبى بعدهم خلفا
يطوون شقّه بيد كلما نشرت … غدوا وكلّ امرئ بالصبر ملتحفا
حتى رأوا حضرة الهادى الذى شرفت … قصاده وعلت فى قصده شرفا
محمد صفوة الهادى الذى انكسفت … إذ جاء بالحق شمس الكفر وانكشفا
الليث والغيث فى يومى نذى وردى … والصادق القول فى يومى وغىّ ووفا
الواهب الصارم الآلاف من كرم … وسطوة للعدا والصحب قد عرفا (2)
فالغيث من جوده فى البحر مغترف … كالليث من بأسه فى الحرب معترفا (3)
من قام فى كفّ كفّت الكفر حين سقطت … حقا وفى صرف صرف الدهر حين عفا (4)

كان الأنام جميعا قبل مبعثه … على شفا جرف هار فعاد شفا (1)
كم بين إيوان كسرى من مناسبة … وبين بدر السما والكفر قد خسفا
هما انشقاقان: هذا يوم مولده … وذا بمبعثه الزاكى هدى سلفا
له اللواءان: ذا فى الحرب منتشر … وظلّ ذلك فى يوم النشور ضفا
كماله فى الندى الحوضان: كوثره … وكفه فاز صبّ منهما اغترفا
ومنها:
المؤثرون وإن لاحت خصاصتهم … على نفوسهم العافين والضّعفا
لا يستوى منفق من قبل فتحهم … لمنفق بعد بالإنفاق قد خلفا
والكلّ قد وعد الله المهيمن بال‍ … حسنى وأولاهم من بره تحفا
من كلّ أروع حامى الدين ناصره … وكلّ أورع يدعى سيد الطرفا
لا تسألنّ القوافى عن مديحهم … إن شئت فاستنطق القرآن والصّحفا
يا سيدى يا رسول الله قد شرفت … قصائدى بمديح فيك قد رصفا
مدحتك اليوم أرجو الفضل منك غدا … من الشفاعة فالحظنى بها طرفا
أجزت كعبا فحاز الرفع من قدم … على الرءوس ونال البشر والتّحفا
بباب جودك عبد مدنف كلف … يا أحسن الناس وجها مشرقا وقفا (2)
فكم توسّل يرجو العفو عن زلل … من خوفه جفنه الهامى له ذرفا
والمدح فيكم قصور عنكم وعسى … فى الخلد يبدل فى أياته غرفا
وإن يكن نسبى يعزى إلى حجر … فطالما فاض عذبا طيبا وصفا

وقد ألفت قيامى فى مديحك حتى قال من لام: قد أبصرته ألفا
لا زال فيك مديحى ما حييت له … فما أرى بمديحى عنك منصرفا
وله، يمدح المستعين بالله: العباس بن محمد العباسى، لما ولى الخلافة سنة 815 بعد فرج بن برقوق:
الملك أصبح ثابت الأساس … بالمستعين العادل العبّاس
رجعت مكانة آل (1) … عمّ المصطفى
لمحلّها من بعد طول تناس
ثانى ربيع الآخر الميمون فى … يوم الثلاثاء حفّ بالأعراس
بقدوم مهدىّ الأنام أمينهم … مأمون غيب طاهر الأنفاس
ذو البيت طاف به الرجاء فهل ترى … من قاصد متردّد فى الياس
فرع نما (2) … من هاشم فى روضة
زاكى المنابت طيّب الأغراس
بالمرتضى والمجتبى والمشترى … للحمد والحالى به والكاسى
من أسرة أسروا الخطوب وطهّروا … مما بغيرهم من الأدناس (3)
أسد إذا حضروا الوغى وإذا خلوا … كانوا لمجلسهم ظباء كناس (كنس الظبى، يكنس: دخل فى كناسه، وهو مستتره فى الشجر، لأنه يكنس الرمل حتى يصل. والظباء: نوع من بقر الوحش. راجع القاموس: مادة كنس)
مثل الكواكب نوره ما بينهم … كالبدر أشرق فى دجى الإغلاس (الغلس: ظلمة آخر الليل، وأغلسوا: دخلوا فيها)
وبكفّه عند العلامة آية … قلم يضئ إضاءة المقباس

فلبشره للوافدين بباسم … يدعى وللإجلال بالعباس
فالحمد لله المعزّ لدينه … من بعد ما قد كان فى إفلاس
بالسادة الأمراء: أركان العلا … من بعد مدرك تاره ومواس
نهضوا بأعباء المناقب وارتقوا … فى المنصب العليا الأتمّ الراسى
تركوا العدا صرعى تقاسمها الرّدى … فالله يحرسهم من الوسواس (1)
وإمامهم بجلالة متقدّم … تقديم باسم الله فى القرطاس
لولا نظام الملك فى تدبيره … لم يستقم فى الملك حال الناس
حتى إذا جاء المعالى كفوها … خضعت له من بعد فرط شماس
طاعت له أيدى الملوك وأذعنت … من نيل مصر أصابع المقياس
وازداد ظلما عمّ كل معمّم … من سائر الأنواع والأجناس
فهو الذى قد ردّعنا البؤس فى … دهر به-لولاك-كلّ الباس (2)
كم نعمة الله كانت عنده … وكأنها فى غربة وتناص (والرمس: كتمان الخبر، والدفن، والقبر. وأرمسه: دفنه وقبره)
ما زال سرّ الشرّ بين ضلوعه … كالنار حتى صار للإرماس
كم سنّ سنّته عليه أثامها … حتى القيامة ماله من آس
[مكر بنى (4) … أركانه لكنها
للغدر قد بنيت بغير أساس (5)]
كل امرئ ينسى ويذكر تارة … لكنه للشرّ ليس بناس

أملى له ربّ الورى حتى إذا … أخذوه لم يفلته من أنكاس
وأدالنا منه المليك بمالك … أيامه صدرت بغير قياس (1)
فاستبشرت أم القرى والأرض من … شرق وغرب والمقيم بفاس (2)
آيات مجد لا يحاول جحدها … فى الناس غير الجاهل الخنّاس
ومناقب العباس لم تجمع سوى … لحفيده ملك الورى العباس
لا تنكروا للمستعين رياسة … فى الملك من بعد الجحود القاسى
فبنو أميّة قد أتى من بعدهم … فى سالف الدنيا بنو العباس
وأتى أشجّ بنى أميّة ناشرا … للعدل من بعد المبير الخاسى (يعنى بالمبير: الحجاج بن يوسف الثقفى، ولاه عبد الملك بن مروان الحجاز فقتل ابن الزبير، ثم عزله عنها وولاه العراق. قال ابن كثير: كان فيه شهامة وفى سيفه رهق، وكان كثير قتل النفوس التى حرمها الله بأدنى شبهة، وكان يغضب غضب الملوك، وكان فيما يزعم يتشبه بزياد ابن أبيه. وقد ولد سنة تسع وثلاثين-على خلاف-ونشأ شابا لبيبا، فصيحا بليغا، حافظا للقرآن، قيل: كان يقرأ القرآن كله ليلة. ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير سنة ثلاث وسبعين، بعث الحجاج الى أخيه عبد الله بمكة فحاصره بها، وأقام للناس الحج عامئذ ولم يتمكن هو ومن معه من الطواف بالبيت ولا تمكن ابن الزبير من الوقوف بعرفة ولم يزل محاصره حتى ظفر به، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن ثم نقله الى العراق بعد موت أخيه بشر، فدخل الكوفة، وقال لهم، وفعل بهم من الأفاعيل ما هو مشهور فى التاريخ وقد دخل على أسماء بنت أبى بكر بعد أن قتل ابنها عبد الله فقال: ان ابنك ألحد فى هذا البيت وان الله أذاقه من عذاب أليم؟ فقالت: كذبت؟ كان برا بوالديه، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه يخرج من ثقيف رجلان: مبير وكذاب: فأما الكذاب فابن أبى عبيد: تعنى المختار، وأما المبير فأنت». وكانت وفاة الحجاج سنة 95. راجع البداية والنهاية 9/ 117 وما بعدها وقد ذكر رواية أحمد وأبى يعلى ومسلم للحديث المذكور. وأما الأشج فهو الخليفة العادل: عمر بن عبد العزيز وسبب وصفه بهذا: أنه دخل الى اصطبل أبيه مرة فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: ان كنت أشج بنى أمية انك اذا لسعيد. وكان يقال: الناقص والأشج أعدلا بنى مروان. وكان الثورى يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبد العزيز، وهكذا روى عن أبى بكر ابن عياش والشافعى وغير واحد. قالت زوجته فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس فى مصلاه واضعا خده على يده، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة! قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت فى الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعارى المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذى العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم هى أقطار الأرض، وأطراف البلاد فعلمت أن ربى سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمد صلّى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لى حجة عند خصومته، فرحمت نفسى فبكيت. وقد قال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فى قوله صلّى الله عليه وسلم: «ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها»: ان عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى. توفى رحمه الله سنة احدى أو اثنتين ومائة، وعمره زهاء الأربعين. راجع ترجمته فى البداية والنهاية 9/ 192 وما بعدها)
مولاى عبدك قد أتى لك راجيا … منك القبول فلا يرى من باس
لولا المهابة طوّلت أمداحه … لكنّها جاءته بالقسطاس

ما دام رب الناس عزّك دائما … بالحقّ محروسا بربّ الناس
وبقيت تستمع المديح لخادم … لولاك كان من الهموم يقاسى
عبد صفا ودّا وزمزم حاديا … وسعى على العينين قبل الراس

أمداحه فى آل بيت المصطفى … بين الورى مسكيّة الأنفاس
ومن تآليفه «تغليق التعليق» على البخارى (كتاب «تغليق التعليق» وصل فيه: ما ذكره البخارى فى صحيحه معلقا، ولم يفته من ذلك الا القليل، ثم اختصره وسماه: «التشويق الى وصل المهم من التعليق» ثم اختصره واقتصر فيه على ذكر الأحاديث التى لم تقع فى الأصل الا معلقة، ثم توصل فى مكان آخر منه: وسماه: «التوفيق بتغليق التعليق». وله عدا ما تقدم: «اتحاف المهرة بأطراف العشرة» و «المسند المعتلى بأطراف المسند الحنبلى» و «المطالب العالية فى زوائد الثمانية» و «المعجم المؤسس بالمعجم المفهرس» وفهرست مروياته، و «لسان الميزان» وغير هذا كثير. وفيها جميعا جهد مشكور وعمل رائع ولكنه يقول فيما يروى عنه تلميذه السخاوى: لست راضيا عن شئ من تصانيفى، لأنى عملتها فى ابتداء الامر ثم لم يتهيأ لى من تحريرها سوى شرح البخارى ومقدمته والمشتبه والتهذيب ولسان الميزان بل كان يقول فيه: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أتقيد بالذهبى، ولجعلته كتابا مبتكرا. اه‍. كان رحمه الله حافظا محققا، متين الديانة، جد فى طلب العلوم، وبلغ غاية بعيدة فى الكتابة والقراءة، والكشف والتخريج، والنقد والتحقيق. قرأ البخارى فى عشرة مجالس. ومسلما فى خمسة، والنسائى الكبير فى عشرة، وفى مدة اقامته بدمشق-وكانت شهرين وثلثا-قرأ فيها قريبا من مائة مجلد)
توفى رحمة الله عليه سنة 852
ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال في أسماء الرّجال» المؤلف: أبو العبّاس أحمد بن محمّد المكناسى الشّهير بابن القاضى (960 - 1025 هـ‍)