الجنيد بن محمد بن الجنيد أبي القاسم النهاوندي البغدادي
أبي القاسم الجنيد الصوفي
تاريخ الولادة | 221 هـ |
تاريخ الوفاة | 297 هـ |
العمر | 76 سنة |
مكان الولادة | بغداد - العراق |
مكان الوفاة | بغداد - العراق |
أماكن الإقامة |
|
- أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم العنزي أبو سعيد "ابن الأعرابي"
- علي بن بندار بن الحسين الصيرفي "أبو الحسن الصيرفي"
- أحمد بن محمد بن القاسم أبي علي الروذباري "أبي علي الروذباري"
- أبي يعقوب إسحاق بن محمد النهرجوري
- محمد بن الفرخان بن روزبه أبي الطيب الدوري "الفرخان"
- أحمد بن إبراهيم أبي شيبة
- محمد بن علي بن جعفر الكتاني البغدادي أبي بكر
- محمد بن عبد الله أبي جعفر الفرغاني
- محمد بن عبد الله أبي بكر الشقاق الصوفي
- أبي الحسن بن عبد الله الفوطي الطرسوسي
- أحمد بن عبيد الله بن أشناس أبي الطيب
- أحمد بن الحسن الأحنف الصوفي أبي بكر
- أبي الحسن بنان بن محمد الحمال
- محمد بن إسماعيل أبي الحسن خير النساج "خير النساج"
- أبي القاسم الملطي الصوفي
- أحمد بن محمد بن أبي سعدان البغدادي أبي بكر الصوفي
- أبي عبد الله الحلبي الصوفي
- أحمد بن محمد بن الحسين أبي محمد الجريري
- دلف بن جحدر أبي بكر الشبلي جعفر بن يونس "أبي بكر الشبلي دلف"
- أبي عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد السلمي النيسابوري
- عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الرازي الشعراني "عبد الله الرازي"
- جعفر بن محمد بن نصير أبي محمد الخلدي
- أبي عمرو محمد بن إبراهيم الزجاجي النيسأبوري "محمد بن إبراهيم الزجاجي النيسأبوري"
- أحمد بن سعدان أبي بكر بن أبي سعدان "أحمد بن سعدان"
- أبي علي أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور
- أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أبي العباس الأدمي "أبي العباس الأدمي أحمد"
نبذة
الترجمة
أبي القاسم الجنيد بْن مُحَمَّد: سيد هذه الطائفة وإمامهم اصله من نهاوند ومنشؤه ومولده بالعراق وأبيه كَانَ يبيع الزجاج فلذلك يقال لَهُ القواريري، وَكَانَ فقيها عَلَى مذهب أَبِي ثور وَكَانَ يفتي فِي حلقته بحضرته وَهُوَ ابْن عشرين سنة، صحب خاله السرى والحارث المحاسبي ومحمد بْن عَلِيّ القصاب، مَات سنة سبع وتسعين ومائتين.
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن البغدادي يَقُول: سمعت الفراغاني يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول وَقَدْ سئل من العارف قَالَ من نطق عَن سرك وأنت ساكت.
سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول مَا أخذنا التصوف عَنِ القيل والقال لكن عَنِ الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات.
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت أبا بَكْر الرازي يَقُول: سمعت أبا مُحَمَّد الجريري يَقُول: سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول لرجل ذكر المعرفة، وَقَالَ: أهل المعرفة بالله يصلون عَلَى ترك الحركات من بَاب البر والتقرب إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ الجنيد: إِن هَذَا قَوْل قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وَهُوَ عندي عظيمة والذي يسرق ويزني أَحْسَن حالا من الَّذِي يَقُول هَذَا فَإِن العارفين بالله تَعَالَى أخذوا الأعمال عَنِ اللَّه تَعَالَى وإليه رجعوا فِيهَا ولو بقيت ألف عام لَمْ أنقص من أعمال البر ذرة إلا أَن يحال بي دونها.
وَقَالَ الجنيد: إِن أمكنك أَن لا تكون آلة بيتك إلا خزفا فافعل وَقَالَ الجنيد: الطرق كلها مسدودة عَلَى الخلق إلا عَلَى من اقتفى أثر الرسول عَلَيْهِ الصلاة والسلام.
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه يَقُول: سمعت مَنْصُور بْن عَبْد اللَّهِ يَقُول: سمعت أبا عُمَر الأنماطي يَقُول: سمعت الجنيد يَقُول: لو أقبل صادق عَلَى اللَّه ألف ألف سنة ثُمَّ أعرض عَنْهُ لحظة كَانَ مَا فاته أَكْثَر مِمَّا ناله.
وَقَالَ الجنيد: من لَمْ يحفظ الْقُرْآن وَلَمْ يكتب الْحَدِيث لا يقتدى بِهِ فِي هَذَا الأمر، لأن علمنا هَذَا مقيد بالكتاب والسنة.
سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا نصر الأَصْبَهَانِي يَقُول: سمعت أبا عَلِيّ الروذباري يَقُول عَنِ الجنيد: مذهبنا هَذَا مقيد بأصول الكتاب والسنة وَقَالَ الجنيد: علمنا هَذَا مشيد بحَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنبأنا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن رحمه اللَّه قَالَ: سمعت أبا الْحُسَيْن بْن فارس يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن عَلِي بْن إِبْرَاهِيم الحداد يَقُول حضرت مجلس الْقَاضِي أَبِي الْعَبَّاس بْن شريح فتكلم فِي الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه فلما رأى إعجابي قَالَ: أتدري من أين هَذَا؟ قُلْت يَقُول بِهِ الْقَاضِي فَقَالَ هَذَا ببركة مجالسة أَبِي القاسم الجنيد.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هَذَا العلم فَقَالَ: من جلوسي بَيْنَ يدي اللَّه ثلاثين سنة تَحْتَ تلك الدرجة، وأمأ إِلَى درجة فِي داره.
سمعت الأستاذ أبا عَلِي الدقاق رحمه اللَّه يحكي ذَلِكَ وسمعته يَقُول: رؤى فِي يده سبحة فقيل لَهُ أَنْتَ مَعَ شرفك تأخذ بيدك سبحة فَقَالَ: طريق بِهِ وصلت إِلَى ربي لا أفارقه.
وسمعت الأستاذ أبا عَلِيّ رحمه اللَّه يَقُول كَانَ الجنيد يدخل كُل يَوْم حانوته ويسبل الستر ويصلى أربع مائة ركعة ثُمَّ يعود إِلَى بيته.
وَقَالَ أبي بَكْر العطوي كنت عِنْدَ الجنيد حِينَ مَات ختم الْقُرْآن ثُمَّ ابتدأ من البقرة وقرأ سبعين آية ثُمَّ مَات رحمه اللَّه.
الرسالة القشيرية. لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري.
أبي القاسم الجنيد - 297 للهجرة
الجنيد بن محمد، الخراز القواريري أبي القاسم. شيخ وقته، ونسيج وحده. أصله نهاوند، ومولده ومنشؤه ببغداد.
صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري، والحارث المحاسبي. ودرس الفقه علي أبي ثور، وكان يفتي في حلقته - بحضرته - وهو ابن عشرين سنة.
قال: " كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: " يا غلام! ما الشكر؟ " قلت: " الشكر ألا تعصي الله بنعمه ". فقال لي: " أخشي أن يكون حظك من الله لسانك! " قال الجنيد: " فلا أزال أبكي علي هذه الكلمة التي قالها لي السري ".
وقال: " علامة لإعراض عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه ".
وقال: " من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا المر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة ".
وقال: " من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلا بحق ".
وقال: " من هم بذنب لم يفعله ابتلي بهم لم يعرفه ".
وقال: " الصوفية أهل بيت واحد، لا يدخل فيهم غيرهم ".
وقال: " الأدب أدبان: أدب السر، وأدب العلانية.
فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب ".
وقال له رجل: " علمني شيئاً يقربني إلي الله وإلي الناس "، فقال: " أما الذي يقربك إلي الله فمسألته، وأما الثاني فترك مسألتهم ".
وقال: " لكل أمة صفوة، وصفوة هذه الأمة الصوفية ".
وسئل: " من العرف؟ " فقال: " من نطق عن سرك وأنت ساكت ".
ورؤى في يده يوماً سبحة، فقيل له: " أنت، مع تمكنك وشرفك، تأخذ بيدك سبحة؟! " فقال: " نعم! سبب وصلنا به إلي ما وصلنا لا نتركه أبداً ".
وقال: " قال لي خالي سرى السقطى: " تكلم علي الناس! " وكان في قلبي حشمة من ذلك، فاني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة، في المنام، رسول الله صلي الله عليه وسلم - وكان ليلة جمعة - فقال لي: " تكلم علي الناس! ". فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: " لم تصدقنا حتى قيل لك! ". فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف علي غلام نصراني متنكر وقال: " أيها الشيخ! ما معني قوله عليه السلام:) اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله (فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: " أسلم! فقد حان وقت إسلامك! " فأسلم ".
وقال الجنيد: " معاشر الفقراء! إنما عرفتم بالله، وتكرمون له؛ فإذا خلوتم به فانظروا كيف تكونون معه " وقال رجل له: " علي ماذا يتأسف المحب من أوقاته؟ ". قال: " علي زمان بسط أورث قبضاً، أو زمان أنس أورث وحشة ". ثم أنشأ يقول:
قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم ... فكدرته يد الأيام حين صفا
وقال الخلدي: " دفع إلى الجنيد درهما، وقال: " اشتر به تيناً وزيرياً، فاشتريته، فلما أفطر أخذ واحدة، ووضعها في فيه، ثم ألقاها وبكي، وقال لي: " احمله! " فقلت له في ذلك، فقال: " هتف بي هاتف في قلبي: أما تستحي؟! تركت هذا من أجلي ثم تعود؟! ". ثم أنشد:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فصريع كل هوى صريع هوان
وقال أبي عمرو بن علوان: " خرجت يوماً إلي سوق الرحبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلي عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعت عيني علي امرأة مسفرة، من غير تعمد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلي منزلي. فقالت عجوز لي: " يا سيدي! مالي أري وجهك أسود؟!. فأخذت المرآة فنظرت، فإذا هو كما قالت، فرجعت إلي سري أنظر من أين ذهبت، فذكرت النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقامة، أربعين يوماً. فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد!. فانحدرت إلي بغداد، فلما جئت حجرته طرقت الباب، فقال لي: " ادخل يا أبا عمرو! تذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد ".
وقال علي بن ابرهيم الحداد: " حضرت مجلس ابن سريج الفقيه الشافعي، فكان يتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأي إعجابي قال: " أتدري من أين هذا؟ " قلت: " لا! " قال: " هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد ".
وقال خير: " كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر، أن الجنيد بالباب فاخرج إليه، فنقيته عن قلبي وقلت: " وسوسة! ". فوقع لي خاطر ثان بأنه علي الباب فاخرج اليه، فنقيته عن سري؛ فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحته، فإذا بالجنيد قائم، فسلم علي، وقال لي: " يا خير! لم لا تخرج مع الخاطر الأول؟! ".
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل: " كنت ببغداد، ووافي الحاج من خراسان، فلقيني بعض أصحابنا ممن له فضل وإفضال، فسألني أن أعرفه بجماعة ليصلهم بشيء، فقلت له: " ابدأ بالجنيد! " فحمل إليه دراهم وثياب كثيرة، فلما رآه أعجبه أدبه في رفقه، فقال: " اجعل بعضه لفقراء اذكرهم لك " فقال: " أنا أعرف الفقراء أيها الشيخ؟! " فقال له الجنيد: " وأنا! أؤمل أن أعيش حتى آكل هذا؟! "، فقال: " إني لم أقل لك: أنفقه في الخل والبقل، والكامخ والجبن والمالح!، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوات، فكل ما أسرع فهو أحب إلي ". فتبسم الجنيد وقال: " مثلك لا يجوز أن يرد عليه! " وقبل ذلك منه. فقال الخراساني: " ما أعلم أحداً ببغداد أعظم منة علي منك! "، فقال الجنيد: " ولا ينبغي لأحد أن يرتفق إلا ممن كان مثلك ".
وقال الجنيد: " رأيت إبليس في المنام كأنه عريان، فقلت له: " أما تستحي من الناس؟! " فقال: " يا لله! هؤلاء عندك من الناس؟!. لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم كما تتلاعب الصبيان بالكرة، ولكن الناس غير هؤلاء ". فقلت: " ومن هم؟ " قال: " قوم في مسجد الشونيزي، قد أضنوا قلبي، وأنحلوا جسمي؛ كلما هممت أشاروا بالله، فأكاد أحرق ". فانتبهت ولبست ثيابي، وأتيت مسجد الشونيزي وعلى ليل، فلما دخلت المسجد إذا أنا بثلاثة أنفس - قيل: هم أبي حمزة، وأبي الحسين النوري، وأبي بكر الزقاق - جلوس، ورءوسهم في مرقعاتهم؛ فلما أحسوا بي قد دخلت أخرج أحدهم رأسه وقال: " يا أبا القاسم! أنت كلما قيل لك شيء تقبله! ".
وبات الجنيد ليلة العيد في الموضع الذي كان يعتاده في البرية، فإذا هو وقت السحر بشاب ملتف في عباءته يبكي ويقول:
بحرمة ربتي! كم ذا الصدود؟! ... الا تعطف علي؟! ألا تجود؟!
سرور العيد قد عم النواحي ... وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت أفترفت خلال سوء ... فعذري في الهوى أفلا تعود؟
وقال أبي محمد الجريري: " كنت واقفاً علي رأس الجنيد وقت وفاته - وكان يوم جمعة - وهو يقرأ، فقلت: " ارفق بنفسك! " فقال: " ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوي صحيقتي ".
وقال أبي بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: " ما هذا يا أبا القاسم؟! "، قال: " هذه نعم!. الله أكبر ". فلما فرغ من صلاته قال له أبي محمد الجريري: " لو اضطجعت! "، قال: " يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر ". فلم يزل ذلك حاله حتى مات ".
وقال ابن عطاء: " دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: " اعذرني! فإني كنت في وردي "، ثم حول وجهه إلي القبلة ومات ".
وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية ".
وكانت وفاته في شوال، آخر ساعة من يوم الجمعة، سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد. وقيل: سنة ثمان.
وغسله أبي محمد الجريري، صلي عليه ولده، ودفن بالشونيزيه، بتربة مقبرة بغداد، عند خاله سري. وحزر الجمع الذين صلوا عليه، فكانوا ستين ألفاً.
قال أبي محمد الجريري: " كان في جوار الجنيد رجل مصاب في خربة، فلما مات الجنيد ودفناه، تقدمنا ذلك المصاب، وصعد موضعاً رفيعاً، وقال لي: " يا أبا محمد! تراني أرجع إلي تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! "، ثم أنشد:
واأسفي من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون!
والمدن والمزن والرواسي ... والخير والأمن والسكون
لم تتغير لنا الليالي ... حتي توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون
ثم غاب عنا فكان ذلك آخر العهد منه ".
وسئل الجنيد عن التوحيد، فأنشد قائلا:
وغني لي من قلبي ... وغنيت كم غني
وكنا حيثما كانوا ... وكانوا حيثما كنا
فقال السائل: " وأين القرآن والأخبار؟! " فقال: " الموحد يأخذ علي التوحيد من أدني الخطاب ".
وأنشد مرة:
وإن امرءاً لم يصف لله قلبه ... لفي وحشة من كل نظرة ناظر
وإن امرءاً لم يرتحل ببضاعة ... إلي داره الأخرى فليس بتاجر
وإن امرءاً باع دنيا بدينه ... لمنقلب منها بصفقة خاسر
وسئل عن الفقر فأنشأ يقول:
لا الفقر عار ولا الغنى شرف ... ولا شئ في طاعة سرف
قلت: وأستاذ الجنيد محمد بن علي القصاب، أبي جعفر البغدادي. وكان الجنيد يقول " الناس ينسبوني إلي سري، وإنما أستاذي هذا يعني القصاب.
سئل القصاب: " ما بال أصحابك محرومين من الناس؟ " قال: " لثلاث خصال: أحدها: أن الله لا يرضي لهم ما في أيديهم، ولو رضي لهم ما لهم لترك ما لأنفسهم عليه.
وثانيها: أن الله لا يرضي أن يجعل حسناتهم في صحائفهم، ولو رضي لهم لخلطهم بهم.
وثالثها: أنهم قوم لم يسيروا إلا إلي الله، فمنعهم كل شيء سواه وأفردهم به ".
أصحاب الجنيد
ومن أصحاب الجنيد أبي محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري، وأبن الأعرابي أبي العباس احمد بن محمد بن زياد، وقد سلفاً؛ وكذا اسماعيل بن نجيد؛ أما الشبلي فسيأتي.
وصحبه علي بن بندار أبي الحسن الصيرفي، من جلة مشايخ نيسأبير. صحب أيضاً الحيري، وكتب الحديث الكثير، وكان ثقة. رزق من رؤية المشايخ وصحبتهم ما لم يرزق غيره. مات سنة تسع وخمسين وثلثمائة.
قال: " دخلت دمشق علي أبي عبد الله بن الجلاء، فقال: " متي دخلت دمشق؟ " قلت: " منذ ثلاثة أيام " فقال: " ما لك لم تجئني؟! " قلت: " دخلت إلي أبي ابن جوصاء، وكتبت عنه الحديث ". فقال: " شغلتك السنة عن الفريضة ".
ومن كلامه: " فساد القلوب علي حسب فساد الزمان وأهله ".
وقال: " زمان يذكر فيه بالصلاح زمان لا يرجى منه الصلاح ".
وقال: " دار أسست على البلوي بلا بلوي محال ".
وقال: " إياك والخلاف على الخلق، فمن رضي الله به عبداً فارض به أخاً ".
وكان يقول: " إياك والاشتغال بالخلق فقد عدم الربح عليهم اليوم ".
وقال لبعض أصحابه: " إلى أين؟ " قال: " أخرج إلى النزهة ". فقال: " من عدم الأنس من حاله لم تزده النزهة إلا وحشة ".
وقال: " كنت أماشي يوماً أبا عبد الله بن خفيف، فقال لي: " تقدم يا أبا الحسن! " فقلت: " بأي عذر أتقدم؟! " قال: " بأنك لقيت الجنيد وما لقيته ".
ومنهم عبد الله بن محمد الشعراني أبي محمد الرازي الأصل، النيسأبيري المولد والمنشأ. وصحب أيضاً رويماً والحيري وسمنوناً وغيرهم. ومات سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة.
ومن كلامه: من أراد أن يعرف متابعة للحق فلينظر إلي من يخالفه في مراد له، كيف يجد نفسه عند ذلك، فإن لم يتغير فليعلم أن نفسه متابعة للحق ".
سئل: " ما بال الناس يعرفون عيوبهم ولا ينتقلون عنها، ولا يرجعون إلي الصواب؟! " فقال: " لأنهم اشتغلوا بالمباهاة بالعلم، ولم يشتغلوا باستعماله، واشتغلوا بآداب الظواهر وتركوا آداب البواطن، فأعمي الله قلوبهم، وقيد جوارحهم عن العبادات ".
ومن أصحابه أيضاً علي بن محمد المزين أبي الحسن البغدادي. وصحب أيضاً سهلا. ومات مجاوراً بمكة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
ومن كلامه: " من استغني بالله أحوج الله الخلق إليه، ومن افتقر إلى الله، وصح فقره أليه بملازمة آدابه، أغناه الله عن كل ما سواه ".
وقال: " الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب؛ والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة ".
وقال المزين: " لما مرض أبي يعقوب النهرجوري، قلت - وهو في النزع -: " قل: لا إله إلا الله! " فتبسم إلي وقال: " إياي تعني؟! وعزة من لا يذوق الموت! ما بيني وبينه إلا حجاب العزة " وانطفأ من ساعته. فكان المزين يأخذ بلحيته ويقول: " حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة؟! واخجلتاه منه! " ويبكي إذا ذكر ذلك.
وروي أنه رؤي يوماً متفكراً، ثم أنشد:
منازل كنت تهواها وتألفها ... أيام أنت علي الأيام منصور
وقد كان يوماً يبكي - وهو بالتنعيم يريد العمرة - وهو ينشد:
أنافعي دمعي فأبكيك؟! ... هيهات! مالي طمع فيك
فلم يزل كذلك حتي بلغ مكة.
وممن لقيه أبي محمد عبد الله بن محمد المرتعش النيسأبيري، أحد مشايخ العراق. كان يقيم في مسجد الشونيزية ببغداد، وصحب أبا حفص وأبا عثمان، وكان كبير الشأن.
قيل: " عجائب بغداد ثلاثة: نكت المرتعش؛ وإشارات الشبلي، وحكايات جعفر الخلدي ". مات ببغداد سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
من كلامه: " سكون القلب إلي غير المولي تعجيل عقوبة من الله في الدنيا ".
وقيل له: " بماذا ينال العبد حب الله تعالي؟ ". قال: " ببغض ما أبغضه وهي الدنيا والنفس ".
وقيل له: " إن فلاناً يمشي علي الماء! ". فقال: " عندي أن من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي علي الماء ".
وسئل عن التصوف فقال: " الأشكال والتلبيس والكتمان ". ثم أنشد يقول:
سري وسرك لا يعلم به أحد ... إلا الجليل ولا ينطق به نطق
وانشد أيضاً علي إثره:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ... لكيلا يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وسئل: " بماذا ينال العبد المحبة؟ ". فقال: " بمولاة أولياء الله تعالي ومعاداة أعدائه ".
ثم قال لبعض جلسائه: " أنشدني الأبيات التي كنت تنشد بالأمس " فأنشأ يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فلي ... س لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
وقال السلمي: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: " كنت عند المرتعش قاعداً، فقال رجل: " قد طال الليل وطال الهوى! " فنظر أليه المرتعش وسكت ساعة، ثم قال: " لا أدري ما تقول! غير أني سمعت بعض القوالين في هذه الليالي:
لست أدري أطال الليل أم لا ... كيف يدري بذاك من غفلا
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلي
ان للعاشقين عن قصر الليل وعن طوله من الوجد شغلا فبكي من حضره، واستدلوا علي عمارة أوقاته ".
وقال وقت وفاته: " سألت الله ثلاث حوائج فقضاها لي: سألته أن يكون موتي في مسجد الشونيزية، فأني قد صحبت فيه أقواماً، سادة كراماً، وهوذا أنا أموت فيها.
وألا يكون لي أمر الدنيا شيء وقت خروجي منها، وليس لي غير الخرقه التي تحتي؛ فإذا مت فأخرجوها من تحتي واشتروا بها شيئاً للفقراء، فإنهم لا يدفنونني بغير كفن.
وسألته ألا يحضرني في وقت وفاتي رجل أبغضه، وأنا أحبكم كلكم وليس فيكم من أبغضه ". ثم مات.
ومن أصحابه أيضاً محمد بن علي بن جعفر الكتاني - نسبة إلي الكتان، بفتح الكاف، وعمله - أبي بكر، ويقال: أبي بكر عبد الله، البغدادي، ثم المكي.
هاجر ال مكة وبها مات مجاوراً سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وصحب أيضاً النوري والخراز.
ومن كلامه: " التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف ".
وقال: " العاجز من عجز عن سياسة نفسه ".
وقال: " إذا صح الافتقار إلي الله صح الغني به، لأنهما حالان لا يصح أحدهما إلا بصاحبه ".
وقال: " رأيت النبي صلي الله عليه وسلم في النوم، فقلت: " يا رسول الله! ادع الله ألا يميت قلبي ". قال: " قل - كل يوم أربعين مرة -: " يا حي! يا قيوم! لا إله إلا أنت! " فإنه لا يموت فلبك، ويكون قلبك حياً ".
وقال: " من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء: نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة ".
وقال: " النقباء ثلثمائة، والنجباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعة، والعمداء أربعة، والغوث واحد ".
فمسكن النقباء المغرب، والنجباء مصر، والأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعمداء زوايا الأرض، والغوث بمكة.
فإن عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمداء؛ فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته ".
وقال: " صحبني رجل، وكان ثقيلا علي قلبي، فوهبت له شيئاً ليزول ما في قلبي، فلم يزل، فحملته إلي بيتي، وقلت: " ضع رجلك علي خدي " فأبي، فقلت: " لا بد تفعل! " واعتقدت أنه لا يرفع رجله علي خدي حتى يرفع الله من قلبي الذي كنت أجده. فلما زال عن قلبي ما كنت أجده قلت له: " ارفع رجلك الآن! ".
وسئل عن الفائدة في مذاكرة الحكايات، فقال: " الحكايات جند من جنود الله، تقوي بها أبدان المريدين ". فقيل له:
" هل لهذا شاهد؟ ". قال: " نعم! قال الله تعإلي:) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك (.
وروي عنه انه قال: " كنت وأبي سعيد الخراز، وعباس بن المهتدي، وآخر لم يذكره، نسير بالشام علي ساحل البحر وإذا شاب يمشي ومعه محبرة، فظننا أنه من أصحاب الحديث، فتثاقلنا به، فقال أبي سعيد: " يا فتي! علي أي طريق تسير؟ " فقال: " ليس أعرف إلا طريقتين: طريق الخاصة وطريق العامة؛ أما طريق العامة فهذا الذي أنتم عليه، وأما طريق الخاصة فباسم الله! " وتقدم إلي البحر ومشي حيالنا علي الماء، فلم نزل نراه حتي غاب عنا ".
ونظر الكتاني إلي شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل، فقال: " هذا رجل أضاع حق الله في صغره فضيعه الله في كبره ".
وكان كثيراً ما ينشد:
الشوق والوجد في مكاني ... قد منعاني من القرار
هما في لا يفارقاني ... فذا شعاري وذا دثاري
وخيم في الطواف اثنتي عشرة ألف ختمة.
وقال: " لولا أن ذكره فرض علي ما ذكرته إجلالا له، مثلي يذكره ولم يغسل فاه بألف توبة متقبلة عن ذكره؟! ".
وأنشد:
ما إن ذكرتك إلا هم يغلبني ... قلبي وسري وروحي عند ذكراكا
حتي كأن رقيباً منك يهتف بي: ... إياك! ويحك والتذكار! إياكا!
ومن أصحابه أيضاً محمد بن موسى الواسطي - نسبة إلي واسط العراق بلدة مشهورة - أبي بكر الخراساني، من فرغانة.
وصحب أيضاً النوري وكان عالماً كبير القدر.
مات بمرو بعد العشرين وثلثمائة.
ومن كلامه: " الخوف والرجاء زمامان يمنعان من سوء الأدب ".
وانقطع شسع نعله في غدوة إلي الجمعة، فأصلح له، فقال: " إنما انقطع لأني لم أغتسل للجمعة! ". واغتسل بعد ذلك.
ومن أصحابه أبي الحسين علي بن هند القرشي الفارسي، من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم.
وصحب أيضاً جعفر الحذاء، وعمراً المكي. له الأحوال العالية، والمقامات الزكية.
ومن كلامه: " اجتهد ألا تفارق باب سيدك بحال، فإنه ملجأ الكل، فمن فارقه لا يري لقدمه قراراً ولا مقاماً ".
وانشد:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي! فأين المفر؟!
ومن أصحابه أبي بكر أحمد بن محمد بن أبي سعدان البغدادي، وصحب النوري أيضاً. شافعي المذهب، إمام في المعارف.
ومن كلامه: الصابر علي رجائه لا يقنط من فضله ".
ومن أستاذيه محمد بن ابرهيم البغدادي البزاز أبي حمزة، من
أولاد عيسى بن أبان. وجالس بشر بن الحارث، وسافر مع أبي تراب، وصحب سرياً. وكان عالماً بالقراءات، فقيهاً زاهداً واعظاً.
وهو أول من تكلم ببغداد في المحبة والشوق، والقرب والأنس، على رءوس الناس. وهو أستاذ جميع البغاددة؛ وكان الإمام أحمد يقول له في المسائل: " ما تقول فيها يا صوفي؟! ".
مات سنة تسع وثمانين ومائتين.
وكان يتكلم في مجلسه يوم الجمعة، فتغير عليه الحال، وسقط عن كرسيه، ومات في الجمعة الثانية، ودفن بباب الكوفة.
ومن كلامه: من رزق ثلاثة أشياء مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات: بطن خال مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر؛ وصبر كامل مع ذكر دائم ".
وقال: " علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغني ويذل بعد العزة، وينحط بعد الشهرة. وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء ".
وروى أنه ولد له مولود في ليلة ممطرة، وما كان في منزله شئ، وأشتد المطر، وكانت داره علي الطريق، وأخذ السيل يدخل داره، وكان في الدار صبي يخدمه، فقام هو والصبي، وأخذ جرتين، فكانوا ينقلون الماء إلي الطريق حتى أصبحوا. فلما أصبحوا تحيلت المرأة في دراهم، وقالت له: " أشتر لنا بها شيئاً "، فخرج فإذا بجارية صغيرة تبكي، فقال: " ما بكاؤك؟ " قالت: " لي مولي شرير، وقد دفع إلي قارورة اشتري له فيها زيتاً، فوقعت وهلك الزيت، وأخاف أن يضربني! "، فأشتري لها بما معه ذلك، ومشي معها إلي مولاها، وشفع فيها ألا يضربها بتأخيرها عنه، ثم رجع إلي المسجد، فقال له الصبي: " ما العمل؟! " فقال: " اسكت! " فقعد إلى العصر، ثم قال الصبي: " قم بنا نعود إلى المنزل! " فجاءوا والزقاق كله حمالون، معهم ما يحتاج أليه لمثل هذا، وخمسمائة درهم، ورجل معه رقعة فيها مكتوب: " أخبرنا انك البارحة ولد لك مولود فتفضل بقبول ذلك " فقال الصبي: " إذا عاملت فعامل من هذه معاملته! ".
وروى أنه كان له مهراً قد رباه، وكان يحب الغزو، فيخرج عليه متوكلا، فقيل له: " ما تعمل في أمر الدابة؟ "، قال: " كان إذا رحل العسكر تبقي تلك الفضلات من الدواب ومن الناس، يدور فيأكل ".
وقيل له: " هل يفرغ المحب الى شئ سوى محبوبه؟ " فقال: " لا! لأنه بلاء دائم وسرور منقطع، وأوجاع متصلة؛ لا يعرفها إلا من باشرها ". وأنشد:
يقاسي المقاسي شجوه دون غيره ... وكل بلاء عند لاقيه أوجع
وقال الجنيد: " وافي أبي حمزة من مكة، وعليه وعناء السفر، فسلمت عليه وشهيته، فقال: " سكباج وعصيدة تخليني بهما "؛ فيأتيهما له، وأدخلته الدار، وأسبلت الستر، فدخل واكله أجمع؛ فلما فرغ قال: " يا أبا القاسم! لا تعجب! فهذا - من مكة - الأكلة الثالثة ".
وأما حكاية وقوعه في البئر، وإخراج السبع له فمشهورة. وهتف به هاتف: " يا أبا حمزة! نجيناك من التلف بالتلف! " فقال:
أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي ... وسري يبدي ما بقول له طرفي
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى ... فأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري وأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب حتي كأنما ... تبشرني بالغيب إنك في الكف
أراك وبي من هيبتي لك حشمة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
وقال الخطيب - فيما ذكر أبي نعيم -: " إنه أبي حمزة هذا " وقال غيره: " إنه أبي حمزة الخراساني ".
وأبي حمزة الخراساني أحد المشايخ، أصله من نيسأبير، صحب مشايخ بغداد، وهو من أقران الجنيد صحبه أيضاً وغيره، وكان ورعاً ديناً.
ومن كلامه: " من استشعر ذكر الموت حبب إليه كل باق وبغض إليه كل فان ".
وسئل عن الإخلاص، فقال: " الخالص من الأعمال ما لا يجب أن يجده عليه إلا الله تعالى ".
وقال له رجل: " أوصي! ". فقال: " هيء زادك للسفر الذي بين يديك، فكأني بك وأنت في جملة الراحلين عن منزلك؛ وهيء لنفسك منزلا إذا نزل أهل الصفة منازلهم، لئلا تبقى متحسراً ".
وخرج مرة يشيع بعض الغزاة، فسمع قائلا يقول: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول فسقط مغشياً عليه.
ومات سنة تسعين ومائتين.
ومن أصحابه محمد بن ابرهيم الزجاجي، أبي عمرو النيسأبيري. صحب أيضاً النوري وأبا عثمان، ورويما، والخواص.
وأقام بمكة، وصار شيخها، والمشار أليه فيها. حج قريباً من ستين حجة. قيل: إنه لم يبل ولم يتغوط في الحرم أربعين سنة، وهو بها مقيم.
مات سنة ست وأربعين وثلثمائة.
وروي أنه كان يجتمع بمكة الكتاني والنهرجوري والمرتعش وغيرهم. فكانوا يعقدون حلقة وصدرها للزجاجي، وإذا تكلموا في شيء رجع جميعهم إلى قوله.
وكان أول ما دخل مكة يطوف كل يوم سبعين مرة، ويعتمر عمرتين.
ومن كلامه: " المحبة ترك الشكوى من البلوى، بل استلذاذ البلوى، إذا الكل منه، فمن أسخطه وارد من محبوبه تبين عليه نقصان محبته ".
وقيل له: " كيف الطريق إلي الله؟ " فقال للسائل: " أبشر! أزعجك لطلب دليل يدلك عليه ".
وسئل عن حديث:) تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة (فقال: " ذاك التفكير هو نسيان النفس ".
ومن أقران الجنيد علي بن سهل الأصبهاني أبي الحسن. لقي أبا تراب وطبقته، وقصده عمرو بن عثمان المكي في دين كان عليه بمكة، ومبلغه ثلاثون ألف درهم، فكتب بديونه سفانج إلى مكة، ولم يعلمه بذلك.
ومن كلامه: " المبادرة إلى الطاعات من علامة التوفيق، والتقاعد عن المخالفات من علامة حسن الرعاية، ومراعاة الأسرار من علامة التيقظ، وإظهار الدعاوى من رعونات البشرية، ومن لم تصح مبادئ إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه ".
وقال: " من فقه قلبه أورثه ذلك الإعراض عن الدنيا
وأبنائها، فان من جهل القلب متابعة سرور لا يدوم ".
وأنشد لنفسه:
ليتني مت فاسترحت، فإني ... كلما قلت: قدقربت! بعدت
وسئل عن حقيقة التوحيد، فقال: " قريب من الظنون، بعيد من الحقائق ". وأنشد لبعضهم:
فقلت لأصحابي: هي الشمس ضوؤها ... قريب، ولكن في تناولها بعد
أما أبي الحسن علي بن سهل الصائغ الدينوري، أحد السادات، فأقام بمصر، ومات سنة ثلاثين وثلثمائة.
قيل له: " بماذا يبتلي المحب؟ وبماذا يروح فؤاده عند هيجانه؟ " فأنشأ يقول:
لو شربت السلو ما سليت ... ما بي غني عنك وإن غنيت
وأما خاله وأستاذه سري، فهو أبي الحسن سري بن المغلس السقطي، أحد الأوتاد. كان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد، ملازماً بيته لا يخرج منه ولا يراه إلا من يقصده. وكان تلميذ معروف الكرخي.
قيل: كان يوماً في دكانه، فجاء معروف ومعه صبي يتيم، فقال لي: " اكسه! ". قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، فقال: بغض الله إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه! ". قال: " فقمت من الدكان وليس شئ أبغض إلي من الدنيا وما فيها، وكل ما أنا فيه من بركاته ".
مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، علي الأصح. ودفن بالشونيزية.
ومن كلامه: " ثلاث من كن فيه استكمل الإمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا رضي لم يخرجه رضاه إلي الباطل؛ وإذا قدر لم يتناول ما ليس له ".
وقال: " الشكر ثلاثة أوجه: للسان، وللبدن، وللقلب. فالثالث أن يعلم أن النعم كلها من الله، والثاني ألا يستعمل جوارحه إلا في طاعته بعد أن عافاه الله، والأول دوام الحمد عليه ".
قال الجنيد: " أرسلني خاليي، فأبطأت عليه، فقال لي: " إذا أرسلك من يتكلمون في موارد القلوب في حاجة فلا تبطئ عليهم، فإن قلوبهم لا يتحمل الانتظار ".
ومكث سري عشرين سنة، يطوف بالساحل، يطلب صادقاً، فدخل يوماً إلى مغارة، فإذا زمني قعود وعميان ومجذمين، قال: فقلت: " ما تصنعون ها هنا؟! " قالوا: " ننتظر شخصاً يخرج علينا فنعافى! ". فقلت: " إن كان صادقاً فاليوم! ". فقعدت فخرج كهل معليه مدرعة من شعر، فسلم وجلس، ثم أمر يده علي عمي هذا فأبصر، وأمر يده علي زمانة هذا فصح، وأمر يده علي جذام هذا فبرئ. ثم قام مولياً، فضربت بيدي اليه، فقال لي: سري؟!. خل عني، فانه غيور. لا يطلع علي سرك فيراك وقد سكنت إلي غيره، فتسقط من عينه ".
وقال الجنيد: " ما رأيت أعبد من خالي!. أني عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤى مضطجعاً إلا في علة الموت ".
قال: وسمعته يقول: " أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد! " فقيل له: " ولم؟! ". قال: " أخاف ألا يقبلني قبري فأفتضح ".
قال: وسمعته يقول: " من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، ويقل غمه، فليعتزل الناس، لأن هذا زمان عزلة ووحدة ".
قال: وكان يقول: " لولا الجمعة والجماعة لسددت علي نفسي الباب ولم أخرج ".
قلت: " كيف في زمننا هذا - في القرن الثامن - وما أهله إلا كما قيل:
لم يبق في الناس موثوق بصحبته ... ولا أمر لك مرضي إذا اختبرا
ولا أخ لك تدعوه لنائبة ... ولا لسر إذا استودعته سرا
ما إن تري غير ذي الوجهين قد طويت ... منه الضلوع علي غير الذي ظهرا
يلقاك يظهر وداً زائداً فإذا ... ما غبت عاد عدواً مبغضاً اشرا
له لسانان في فيه يديرهما ... يهدي لمن يشاء شهداً منه أو صبرا
مواصل لك ما دامت تواصله ... منك الأيادي وإن أمسكتها هجرا
وإن بدت منك يوماً زلة خطأ ... عن غير عمد تراه حية ذكرا
يسعي إلى كل من يلقاه عنك بما ... يراه، مفترياً ما لا يكون يري
فكن علي حذر من مثلهم أبداً ... فالمرء من كان من أمثالهم حذرا
وقال الجنيد: دفع السري إلي رقعة، وقال: " هذا خير لك من سبعمائة فضة! ". فإذا فيها:
ولما ادعيت الحب، قالت: كذبتني ... ألست أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتي لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبق لك الهوى ... سوي مقلة تبكي بها وتناجيا
وروي أنه أنشد يوماً:
لا في النهار ولا في الليل لي فرح ... فلا أبالي أطال الليل أو قصرا
لأني طول ليلي هائم دنف ... وبالنهار أقاسي الهم والفكرا
وقال الجنيد، قال لي خالي: " اعتللت بطرطوس علة القيام، فعادني ناس من القراء، فأطالوا الجلوس، فقلت: " ابسطوا أيديكم حتى ندعو! " فقلت: " اللهم علمنا كيف نعود المرضى! " قال: فعلموا أنهم قد أطالوا فقاموا ".
وقال علي بن عبد الحميد الغضائري: " دققت علي سري بابه فسمعته يقول: " اللهم من شغلني عنك فاشغله بك عني! " فكان من بركة دعائه أني حججت من حلب ماشياً أربعين حجة ".
وقال الجنيد: " دخلت عليه، وهو في النزع، فجلست عند رأسه، ووضعت خدي علي خده، فدمعت عيناي، فوقع دمعي علي خده، ففتح عينيه، وقال لي: " من أنت؟ " قلت: " خادمك الجنيد! " فقال: " مرحباً ". فقلت: " أوصني بوصية أنتفع بها بعدك! " قال: " إياك ومصاحبة الأشرار، وأن تنقطع عن الله بصحبة الأخيار ".
ولما حضرته الوفاة، قلت له: " يا سيدي! لا يرون بعدك مثلك! " قال: " ولا أخلف عليهم - بعدي - مثلك ".
قال أبي عبيد بن حربوية: " حضرت جنازته، فلما كان في بعض الليالي رأيته في النوم، قلت: " ما فعل الله بك؟ " قال: " غفر لي ولمن حضر جنازتي وصلي علي! ". فقلت: " فأني ممن حضر جنازتك وصلي عليك! " قال: " فاخرج درجاً فنظر فيه، فلم ير لي اسماً، فقلت: بلي! حضرت، فنظر فاذا اسمي في الحاشية ".
وولد سري، ابرهيم أبي اسحاق، زاهد تقي، وله أحوال في المعاملات سنية، قريب في السيرة من أبيه.
حكي عن أبيه. روي عنه أبي العباس السراج، قال: سمعته يقول، سمعت أبي يقول: " عجيب لمن غدا وراح، في طلب الأرباح، وهو مثل نفسه لا يربح أبداً ".
ومن أصحاب سري، إبرهيم النصراباذي، وأحمد النوري، وقد سلفاً. وكذا أحمد بن مسروق.
ومن أصحابه سمنون - بضم السين علي المشهور - ابن حمزة أبي الحسن. أصله من البصرة، سكن بغداد.
وصحب - مع السري - أبا أحمد القلانسي وغيرهما. ومات قبل الجنيد، فيما قيل. وقال ابن الجوزي: " بعده سنة ثمان وتسعين ومائتين ". وهذا غلط، فان وفاة الجنيد في هذه السنة، أو سنة تسع، كما سلف.
ومن كلامه: إذا بسط الجليل غداً بساط المجد دخل ذنوب الأولين والآخرين في حاشية من حواشي كرمه. وإذا أبدي عيناً من عيون الجود ألحق المسئ بالمحسن ".
وقال: " لا يعبر عن شئ إلا بما هو أدق منه، ولا شئ أدق من المحبة، فبم يعبر عنها؟! ".
وأنشد:
أنت الحبيب الذي لا شك في خلدي ... منه، فان فقدتك النفس لم تعش
يا معطشي بوصال كنت واهبه ... هل فيك لي راحة إن صحت: واعطشي
وجاءه رجل فقال: " لي أربعون شاة، كم أخرج عنها؟ " قال: " علي مذهبي: الكل؛ وعلي مذهب القوم: واحدة ".
وكان ورده كل يوم وليلة خمسمائة ركعة.
قيل أنه أنشد:
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
إن كان يرجو سواك قلبي ... لا نلت سؤلي، ولا التمني!
فأخذه الأسر من ساعته، فكان يدور علي المكاتب، ويقول للصبيان: " ادعوا لعمكم الكذاب! ".
وقيل: إنه شاع عنه الدعاء بذلك، ولم يكن وقع منه، فعلم أن القصد منه إظهار الجزع، تأدباً بالعبودية، وستراً لحاله، فأخذ يفعل ذلك.
وروي أنه لما أخذه السر، احتبس بوله أربعة عشر يوماً، فكان يلتوي كما تلتوي الحية علي الرمل، يميناً يتقلب وشمالا؛ أطلق بوله قال: " يا رب! قد تبت إليك! ".
وأنشد:
أنا راض بطول صدك عني ... ليس إلا لأن ذاك هواكا
فامتحن بالجفاء ضميري ... علي الود، ودعني معلقاً برجاكا
وقيل إنه كان جالساً علي شاطئ دجلة، وبيده قضيب يضرب به فخذه، ويقول:
كان لي قلب أعيش به ... ضاع مني في قلبه
رب! فاردده علي فقد ... عيا صبري في تطلبه
وأغث، ما دام في رمق ... يا غياث المستغيث به!
وقال: " كنت ببيت المقدس، وكان البرد شديداً، وعلي جبة كساء، وأنا أجد البرد، والثلج يسقط، وإذا بشاب مار في الصحن، وعليه خلقان، فقلت: " يا حبيبي! لو استترت ببعض هذه الأردية، فتكنك من البرد! " فقال: " يا أخي سمنون:
وحسن ظني فيه أنني في فنائه ... وهل أحد في كنه يجد القرا؟!
ولكن من أعري من الحب قلبه ... وأفرد من أحبابه تجد الحرا
وسئل عن الفقير الصادق، فقال: " الذي يأنس بالعدم كما يأنس بالغني، ويستوحش من الغني كما يستوحش الجاهل من الفقر ".
وانشد:
وكان فؤادي خالياً قبل حبكم ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن فنائك يبرح
رميت بببن منك إن كنت كاذباً ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شئ في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني، لعيني يملح
فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل ... فلست أري قلبي لغيرك يصلح
وسئل عن قوله تعالى:) ومكروا مكراً ومكرنا مكراً (: " هل ينسب المكر إلي الله؟ " فأنشد:
وقبح من سوك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
فمهما كان من خير وجود ... فما يرجي له أحد سواكا
وله أيضاً:
يعاتبني فينبسط انقباضي ... وتسكن روعتي عند العتاب
جري في الهوى مذ كنت طفلا ... فمإلي قد كبرت عن التصابي
وله أيضاً: أحن بأطراف النهار صبابة ... وفي الليل يدعوني الهوى فأجيب
وأيامنا تفني، وشوقي زائد ... كأن زمان الشوق ليس يغيب
وله أيضاً:
بكيت ودمع الشوق للنفس راحة ... ولكن دمع العين يبكي به القلب
وذكري بما ألقاه ليس بنافع ... ولكنه شئ يهيج به الكرب
ولو قيل لي: ما أنت؟ قلت: معذب ... بنار مواجيد يضرمها الغيب
بليت بمن لا أطيق عذابه ... ويعتبني حتى يقال له الذنب
ومن أصحابه أيضاً أبي محمد، جعفر بن محمد بن نصير الخلدي البغدادي؛ وصحب النوري، ورويماً، وسمنون وغيرهم. وحج قريباً من ستشن حجة.
مات سنة ثمان وأربعين وثلثمائة، ودفن عند قبر سري والجنيد. سمي الخلدي لأنه كان يوماً عند الجنيد، فسئل الجنيد عن مسألة، فقال له: " أجبهم! " فأجابهم، فقال: " يا خلدي! من أين لك هذه الأجوبة؟! " فبقي عليه هذا الاسم.
والمسألة التي أجاب فيها، هي أنهم قالوا: " أنطلب الرزق. " فقال الخلدي: " إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه! " فقالوا: " نسأل الله ذلك! "، فقال: " إن علمتم أنه نسيكم فذكروه! " فقالوا: " ندخل البيت، ونتوكل علي الله؟ ". فقال: " تجربون الله في التوكل؟! فهذا شك! " قالوا: " فكيف الحيلة؟! " قال: " ترك الحيلة ".
ومن كلامه: " لا يجد العبد لذة المعاملة مع لذة النفس؛ لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق، التي تقطعهم عن الحق، قبل أن تقطعهم العلائق ".
وقال: " إنما بين العبد وبين الوجود أن تسكن التقوى قلبه، فهذا سكن نزلت عليه بركات العلم، وزال عنه رغبة الدنيا ".
وقال: " إني أخاف أن يوقفني المشايخ بين يدي الله، ويقولون: لم أخرجت أسرارنا إلى الناس ".
وروي أنه مر بمقبرة الشونيزية، وامرأة علي قبر تندب؛ وتبكي بكاء بحرقة، فقال لها: " ما لك؟! " فقالت: " ثكلي بولدي! " فأنشأ يقول:
يقولون: ثكلي! ومن لك يذق ... فراق الأحبة لم يثكل
لقد جرعتني ليإلي الفرا ... ق شراباً أمر من الحنظل
كما جرعتني ليالي الوصا ... ل شراباً ألذ من السلسل
وقال: " المحب يجتهد في كتمان محبته، وتأبي المحبة إلا اشتهاراً، وكل شئ ينم علي المحب حتى يظهره ".
وأنشد:
زائر نم عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا؟!
راقب الغفلة حتى أمكنت ... ورعي الحارس حتى هجعا
ركب الأهوال في رؤيته ... ثم ما سلم حتى ودا
وروي أنه كان له فص، فوقع منه يوماً في دجلة، وكان عنده دعاء مجرب للضالة، إذا دعا به عادت. فدعا به، فوجد الفص في وسط أوراق كان يتصفحها.
وصورة الدعاء أن يقول: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه!
اجمع علي ضالتي! ". وقد روي أنه يقرأ قبله " سورة الضحى ثلاثاً. وهذا الدعاء والنص لهما سبب ذكره الخطيب في " تاريخه ".
قال: " ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت: " زودني شيئاً " فقال: " إن ضاع منك شئ، أو أردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان، فقل: " يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع بيني وبين كذا وكذا. فان الله يجمعه ".
قال: " فجئت إلي الكتاني الكبير، فودعته، فقلت: " زودني شيئاً " فأعطاني فصاً عليه نقش كأنه طلسم، وقال: " إن اغتممت فانظر إلي هذا، فانه يزول غمك " قال: " فانصرفت، فما دعوت الله بتلك الدعوة إلا استجيب لي، ولا رأيت الفص، وقد اغتممت إلا زال غمي "، وهو هذا الفص الذي ذهب منه ثم وجده.
وروي عنه أنه قال: " خرجت سنة من السنين إلي البادية، فبقيت أربعاً وعشرين يوماً لم أطعم بطعام، فلما كان بعد ذلك رأيت كوخاً فيه غلام، فقصدت الكوخ، فرأيت الغلام قائماً يصلي، فقلت
في نفسي: " بالعشي يجئ إلي هذا طعام فآكل معه! " فبقيت تلك الليلة، والغد وبعد غد، ثلاثة أيام لم يجءه أحد بطعام، ول رأيت أحداً، فقلت: " هذا شيطان! ليس هذا من الناس! " فتركته وانصرفت. فلما كان بعد عدة أشهر، وأنا جالس في منزلي، لاذا بداق يدق الباب، فقلت: " من؟ ادخل! " فدخل علي ذلك الغلام، وقال: " يا جعفر! أنت كما سميت! " جاع فر ".
ومن أصحاب الخلدي أبي الحسن محمد بن علي العلوي.
طبقات الأولياء - لابن الملقن سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري.
الْجُنَيْد بن مُحَمَّد أبي الْقَاسِم الخزاز
وَكَانَ أبيهُ يَبِيع الزّجاج فَلذَلِك كَانَ يُقَال لَهُ القواريري أَصله من نهاوند ومولده ومنشؤه بالعراق كَذَلِك سَمِعت أَبَا الْقَاسِم النصراباذي يَقُول وَكَانَ فَقِيها تفقه على أبي ثَوْر وَكَانَ يُفْتِي فِي حلقته وَصَحب السّري السَّقطِي والْحَارث المحاسبي وَمُحَمّد بن القصاب الْبَغْدَادِيّ وَغَيرهم وَهُوَ من أَئِمَّة الْقَوْم وسادتهم مَقْبُول على جَمِيع الْأَلْسِنَة
توفّي سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ يَوْم نيروز الْخَلِيفَة يَوْم السبت وَقيل توفّي فِي آخر سَاعَة من يَوْم الْجُمُعَة وَدفن يَوْم السبت سَمِعت أَبَا الْحسن بن مقسم يذكر ذَلِك وَأسْندَ الحَدِيث
حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْحَافِظ قَالَ حَدثنَا بكير بن أَحْمد الْحداد الصُّوفِي بِمَكَّة حَدثنَا الْجُنَيْد بن مُحَمَّد أبي الْقَاسِم الصُّوفِي حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير الْكُوفِي عَن عَمْرو بن قيس الْملَائي عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (احْذَرُوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله تَعَالَى وَقَرَأَ {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} قَالَ للمتفرسين) (الْحجر 75)
سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله بن شَاذان يَقُول قَالَ الْجُنَيْد الْقرب بالوجد جمع والغيبة بالبشرية تَفْرِقَة
سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر يَقُول سَمِعت همام بن الْحَارِث يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول بَاب كل علم نَفِيس جليل بذل المجهود وَلَيْسَ من طلب الله ببذل المجهود كمن طلبه من طَرِيق الْجُود
سَمِعت أَبَا الْفَتْح يُوسُف بن عمر الزَّاهِد بِبَغْدَاد يَقُول سَمِعت جَعْفَر بن مُحَمَّد بن نصير يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِن الله تَعَالَى يخلص إِلَى الْقُلُوب من بره حسب مَا خلصت الْقُلُوب بِهِ إِلَيْهِ من ذكره فَانْظُر مَاذَا خالط قَلْبك
سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الله شَاذان يَقُول سَمِعت جعفرا الْخُلْدِيِّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول يَا ذَاكر الذَّاكِرِينَ بِمَا بِهِ ذَكرُوهُ وَيَا بادئ العارفين بِمَا بِهِ عرفوه وَيَا موفق العابدين لصالح مَا عملوه من ذَا الَّذِي يشفع عنْدك إِلَّا بإذنك وَمن ذَا الَّذِي يذكرك إِلَّا بِفَضْلِك
سَمِعت مُحَمَّد بن الْحسن الْبَغْدَادِيّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد وَسُئِلَ من الْعَارِف يَقُول من نطق عَن سرك وَأَنت سَاكِت
سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا مُحَمَّد الْجريرِي يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول مَا أَخذنَا التصوف عَن القيل والقال لَكِن عَن الْجُوع وَترك الدُّنْيَا وَقطع المألوفات والمستحسنات لِأَن التصوف هُوَ صفاء الْمُعَامَلَة مَعَ الله تَعَالَى وَأَصله التعزف عَن الدُّنْيَا كَمَا قَالَ حَارِث عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا فأسهرت ليلِي وَأَظْمَأت نهاري
سَمِعت نصر بن أبي نصر الْعَطَّار يَقُول سَمِعت أَحْمد بن الْعَلَاء يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الملاعقي يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِنَّمَا هَذَا الِاسْم يَعْنِي التصوف نعت أقيم العَبْد فِيهِ فَقلت يَا سَيِّدي نعت للْعَبد أم نعت للحق فَقَالَ نعت للحق حَقِيقَة ونعت للْعَبد رسما
سَمِعت أَبَا بكر الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِنَّك لن تكون لَهُ على الْحَقِيقَة عبدا وَشَيْء مِمَّا دونه لَك مسترق وَإنَّك لن تصل إِلَى صَرِيح الْحُرِّيَّة وَعَلَيْك من حَقِيقَة عبوديته بَقِيَّة فَإِذا كنت لَهُ وَحده عبدا كنت مِمَّا دونه حرا
سَمِعت أَبَا بكر يَقُول سَمِعت أَبَا مُحَمَّد الْجريرِي يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول لرجل ذكر الْمعرفَة فَقَالَ أهل الْمعرفَة بِاللَّه يصلونَ إِلَى ترك الحركات من بَاب الْبر والتقرب إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ الْجُنَيْد إِن هَذَا قَول قوم تكلمُوا بِإِسْقَاط الْأَعْمَال وَهَذِه عِنْدِي عَظِيمَة وَالَّذِي يسرق ويزني أحسن حَالا من الَّذِي يَقُول هَذَا وَإِن العارفين بِاللَّه أخذُوا الْأَعْمَال عَن الله وَإِلَيْهِ رجعُوا فِيهَا وَلَو بقيت ألف عَام لم أنقص من أَعمال الْبر ذرة إِلَّا أَن يُحَال بِي دونهَا وَإنَّهُ لأوكد فِي معرفتي وَأقوى فِي حَالي
سَمِعت أَبَا الْحسن الْفَارِسِي يَقُول سَمِعت أَبَا إِسْحَاق الدينَوَرِي يَقُول سُئِلَ الْجُنَيْد من الْعَارِف فَقَالَ من لم يأسره لحظه وَلَا لَفظه
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الْغَفْلَة عَن الله تَعَالَى أَشد من دُخُول النَّار
سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بن الْحسن الخشاب يَقُول سَمِعت جَعْفَر بن مُحَمَّد يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِن أمكنك أَلا تكون آلَة بَيْتك إِلَى خزفا فافعل وَكَذَلِكَ كَانَت آلَة بَيته
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاتبع سنته وَلزِمَ طَرِيقَته فَإِن طرق الْخيرَات كلهَا مَفْتُوحَة عَلَيْهِ
سَمِعت الْحُسَيْن بن يحيى يَقُول سَمِعت جعفرا يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول حَاجَة العارفين إِلَى كلائته ورعايته قَالَ تَعَالَى {قل من يكلؤكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار من الرَّحْمَن} (الْأَنْبِيَاء 42)
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد نجح قَضَاء كل حَاجَة من الدُّنْيَا تَركهَا
وَبِهَذَا الْإِسْنَاد قَالَ الْجُنَيْد إِذا لقِيت الْفَقِير فَلَا تبدأه بِالْعلمِ وابدأه بالرفق فَإِن الْعلم يوحشه والرفق يؤنسه
سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس الْبَغْدَادِيّ يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله الفرغاني يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول للشبلي يَا ابا بكر إِذا وجدت من يوافقك على كلمة مِمَّا تَقول فتمسك بِهِ
سَمِعت أَبَا نصر الطوسي يَقُول سَمِعت أَحْمد بن عَطاء يذكر عَن خَاله
أبي عَليّ عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ لَا تقوم بِمَا عَلَيْك حَتَّى تتْرك مَا لَك وَلَا يقوى على ذَلِك إِلَّا نَبِي أَو صديق
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الْأنس بالمواعيد والتعويل عَلَيْهَا خلل فِي الشجَاعَة
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الْوَقْت إِذا فَاتَ لَا يسْتَدرك وَلَيْسَ شَيْء أعز من الْوَقْت
سَمِعت أَبَا الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْقزْوِينِي يَقُول سَمِعت أَبَا الطّيب العكي يَقُول سَمِعت جعفرا الْخُلْدِيِّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول فتح كل بَاب شرِيف بذل المجهود
سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول لَو أقبل صَادِق على الله ألف ألف سنة ثمَّ أعرض عَنهُ لَحْظَة كَانَ مَا فَاتَهُ أَكثر مِمَّا ناله
سَمِعت أَحْمد بن عَليّ بن جَعْفَر يَقُول سَمِعت الْخُلْدِيِّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول أَكثر النَّاس علما بالأوقات أَكْثَرهم آفَات
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد لرجل سَأَلَهُ من أصحب فَقَالَ من تقدر أَن تطلعه على مَا يُعلمهُ الله مِنْك
قَالَ وَقيل لَهُ مرّة أُخْرَى من أصحب فَقَالَ من يقدر أَن ينسى مَا لَهُ وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الْحيَاء من الله عز وَجل أَزَال عَن قُلُوب أوليائه سرُور الْمِنَّة
سَمِعت أَحْمد بن نصر بن عبد الله بن الْفَتْح الذِّرَاع بالنهروان قَالَ سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول مقَام الْغَرِيب بِبَغْدَاد بعد خَمْسَة أَيَّام فضول
وَسمعت أَحْمد يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول من نظر إِلَى ولي من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى فَقبله وأكرمه أكْرمه الله على رُءُوس الأشهاد
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد الرِّضَا ثَانِي دَرَجَات الْمعرفَة فَمن رَضِي صحت مَعْرفَته بِاللَّه بدوام رِضَاهُ عَنهُ
سَمِعت جعفرا الْخُلْدِيِّ يَقُول رَأَيْت الْجُنَيْد فِي الْمَنَام فَقلت لَهُ أَلَيْسَ كَلَام الْأَنْبِيَاء إشارات عَن مشاهدات فَتَبَسَّمَ وَقَالَ كَلَام الْأَنْبِيَاء نبأ عَن حُضُور وَكَلَام الصديقين إشارات عَن مشاهدات
سَمِعت أَبَا الْحسن يَقُول سَمِعت جعفرا يَقُول كتب الْجُنَيْد إِلَى بعض إخوانه يَقُول من أَشَارَ إِلَى الله وَسكن إِلَى غَيره ابتلاه الله تَعَالَى وحجب ذكره عَن قلبه وأجراه على لِسَانه فَإِن انتبه وَانْقطع مِمَّن سكن إِلَيْهِ كشف الله مَا بِهِ من المحن والبلوى وَإِن دَامَ على سكونه نزع الله تَعَالَى من قُلُوب الْخلق الرَّحْمَة عَلَيْهِ وألبس لِبَاس الطمع فتزداد مُطَالبَته مِنْهُم مَعَ فقدان الرَّحْمَة من قُلُوبهم فَتَصِير حَيَاته عَجزا وَمَوته كمدا ومعاده أسفا وَنحن نَعُوذ بِاللَّه من السّكُون إِلَى غير الله
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد قد مَشى رجال بِالْيَقِينِ على المَاء وَمن مَاتَ على الْعَطش أفضل مِنْهُم يَقِينا
قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد من عرف الله لَا يسر إِلَّا بِهِ
سَمِعت أَبَا عَليّ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْبَزَّاز يَقُول سَمِعت أَبَا عَمْرو الزجاجي يَقُول سَأَلت الْجُنَيْد عَن الْمحبَّة فَقَالَ تُرِيدُ الْإِشَارَة قلت لَا قَالَ تُرِيدُ الدَّعْوَى قلت لَا قَالَ فأيش تُرِيدُ قلت عين الْمحبَّة فَقَالَ أَن تحب مَا يحب الله تَعَالَى فِي عباده وَتكره مَا يكره الله تَعَالَى فِي عباده
سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي يَقُول وَقَالَ رجل للجنيد على مَاذَا يتأسف الْمُحب من أوقاته قَالَ على زمَان بسط أورث قبضا أَو زمَان أنس أورث وَحْشَة ثمَّ أنشأ يَقُول
(قد كَانَ لي مشرب يصفو برؤيتكم ... فكدرته يَد الْأَيَّام حِين صفا).
طبقات الصوفية - لأبي عبد الرحمن السلمي.
سيدي الشيخ أبو القاسم الجنيد محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القوايري رحمه الله تعالى
سيد هذه الطائفة وإمامهم. أصله من نهاوند. ومنشؤه بالعراق. وأبوه كان يبيع الزجاج؛ فلذلك يقال له: القواريري. وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة. صحب خاله السري، والحارث المحاسبي ومحمد بن علي القصاب.
صحب جماعة من المشايخ، وأشتهر بصحبة خاله سري السقطي، والحارث المحاسبي. ودرس الفقه على أبي ثور، وكان يفتي في حلقته وهو ابن عشرين سنة , تأثر به أبو محمد الجريري أبو العباس بن عطاء ابن الفرغاني أبو يعقوب النهرجوري علي بن محمد المزين أبو محمد المرتعش أبو بكر بن أبي سعدان
اشتهر بـلقب "إمام الطائفتين" (الصوفية والفقهاء) , . توفي يوم السبت سنة 297 هـ.
قال: "كنت بين يدي سري ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: "يا غلام! ما الشكر" قلت: "الشكر ألا تعصي الله بنعمه". فقال لي: "أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!" قال الجنيد: "فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري". و استصحبه معه للحج وهو ابن سبع سنين .
وقال: "قال لي خالي سري السقطي: "تكلم على الناس!" وكان في قلبي حشمة من ذلك، فاني كنت أتهم نفسي في أستحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام، رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - وكانت ليلة جمعة -فقال لي: "تكلم على الناس!". فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: "لم تصدقنا حتى قيل لك!". فقعدت في غد للناس بالجامع، وأنتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف علي غلام نصراني متنكر وقال: "أيها الشيخ! ما معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أتقوا فراسة المؤمن. فإنه ينظر بنور الله) فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: "أسلم! فقد حان وقت إسلامك!" فأسلم".
كان مذهب الجنيد، أن يعرض أمره على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبله، وما خالفهما رفضه. وكان له في بغداد مدرسة، تتجه اتجاهه وتسمع لرأيه. والحق أن هذا الاتجاه قد صادف قبولاً عند المسلمين، عامتهم وخاصتهم، فأحبوا الجنيد وعظموه.
وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن.. ثم ابتدأ من البقرة. وقرأ سبعين
آية ثم مات رحمه الله.
أصحاب الجنيد
أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري
وأبن الأعرابي أبو العباس أحمد بن محمد بن زياد
إسماعيل بن نجيد
علي بن بندار أبو الحسن الصيرفي
عبد الله بن محمد الشعراني أبو محمد الرازي الأصل
أبو الحسن علي بن هند القرشي الفارسي، من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم
أساتذته
محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز أبو حمزة
بشر بن الحارث
سري السقطي
سئل سيدي الجنيد: من العارف؟ قال: من نطق عن سرك وأنت ساكت.
كان الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات.
قال الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال: أهل المعرفة بالله: يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب
إلى االله عز وجلَّ. فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها. (وذلك لأن الزاني والسارق يعرفان معصيتهما فيرجوان التوبة بخلاف هذا لأنه يعتقد أنه في أرفع المقامات وأحسن الأحوال فلا يرجع عنه ) .
وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من أقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام.
كان الجنيد يقول: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله.
وقال الجنيد: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.
قال الجنيد: مذهبنا هذا: مقيد بأصول الكتاب والسنة.
وقال الجنيد: علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أبا الحسين علي بن إبراهيم الحداد يقول: حضرت مجلس القاضي أبي العباس بن شريح، فتكلَّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأي إعجابي قال: أتدري من أين هذا؟ قلت: يقول به القاضي.فقال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة.
وأومأ إلى درجة في داره.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يحكي ذلك، وسمعته يقول: رؤى في يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه.
سمعت الآستاذ أبا علي، رحمه االله يقول: كان الجنيد يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته.
وكان الكتبة يحفظون مجلسه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه. وكان قدس الله سره من صغره ناطقا بالمعارف والحِكم حتى إن خاله السري سأل عن الشكر والجنيد يلعب مع الصغار فقال له: ما تقول يا غلام؟ قال: الشكر أن لا تستعين بنعمه على معاصيه .
من مواعظ الجنيد البغدادي يقول : "إنما اليوم إن عقلتَ ضيفٌ نزل بك وهو مرتحل عنك، فان أحسنت نزله وقِراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه شهد عليك فلا تبع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه. واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت ءاتٍ وقد مات قبلك من مات".
"اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شىء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك". "اعلم يا ابن آدم أنّ طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فل تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلِص عملك، واذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة الا بالله، وإنّ أنجى الناسِ من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء".
"يا ابن آدم دينك دينك، نعوذ بالله من النار فإنها نار لا تنطفىء, وعذاب لا ينفد أبداً، ونفس لا تموت، يا ابنَ آدم إنك موقوف بين يدي الله ربك ومرتهن لعملك فخذ مم في يديكَ لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسئول ولا تجد جوابا، إنك ما تزال بخير ما دمت واعظاً لنفسك محاسباً لها وإلا فلا تلومن إلا نفسك".
ويروى أنه دخل عليه ابليس في صورة نقيب .
وقال : اريد أخدمك بلا أجرة . فقال له : افعل فأقام يخدمه عشر سنين فلم يجد قلبه غافلاً عن ربه لحظة واحدة فطلب الانصراف . وقال له : انا ابليس . فقال : عرفتك من أول مادخلت وإنما استخدمتك عقوبة لك فأنه لاثواب لاعمالك في الآخرة . فقال : مارأيت قوتك ياجنيد . فقال له : اذهب ياملعون أتريد ان تدخل عليّ الاعجاب بنفسي ، ثم خرج خاسئاً .
ومن أقواله أيضا :
- "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم)". وقال: " من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ".
- "إنما اليوم إن عقلتَ ضيفٌ نزل بك وهو مرتحل عنك، فان أحسنت نزله وقِراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه شهد عليك فلا تبع اليوم ولا تعد له بغير ثمنه. واحذر الحسرة عند نزول السكرة فإن الموت ءاتٍ وقد مات قبلك من مات".
- "اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شئ، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك".
- "اعلم يا ابن آدم أنّ طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلِص عملك، واذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة الا بالله، وإنّ أنجى الناسِ من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء".
- "يا ابن آدم دينك دينك، نعوذ بالله من النار فإنها نار لا تنطفئ, وعذاب لا ينفد أبداً، ونفس لا تموت، يا ابنَ آدم إنك موقوف بين يدي الله ربك ومرتهن لعملك فخذ مم في يديكَ لما بين يديك، عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسئول ولا تجد جوابا، إنك ما تزال بخير ما دمت واعظاً لنفسك محاسباً لها وإلا فلا تلومن إلا نفسك".
مؤلفاته
صدر كتاب "رسائل الجنيد ((اول عمل يجمع كلا رسائل الامام الجنيد واقواله الماثورة))" عن دار اقرا، بتحقيق الدكتور جمال رجب سيدبي وتصدير الدكتور عاطف العراقي، الطبعة الأولى، 2005.
قال المحقق الدكتور جمال رجب سيدبي في مقدمة الكتاب بعد حديثه عن أسباب عدم نشر وتحقيق رساتل الجنيد "لمثل هذين السببين اللذين اشرت اليهما آنفا ما دفعني إلى محاولة تحقيق المخطوطات، والبحث عن النسخ للمقابلة، واصبح مجمل هذه المخطوطات بعد التحقيق حوالي ستة عشر مخطوطا، ولم اكتف بهذا وحسب، بل اضفت إلى هذا العمل كل ما تركه الامام من رسائل واقوال متناثرة من مصادر التصوف الاصلية والقريبة العهد نسبيا بحياة الإمام الجنيد"
وصل بذلك عدد رسائل الجنيد إلى واحد وثلاثين رسالة وهي:
1. كتاب القصد إلى الله.
2. كتاب السر في انفاس الصوفية.
3. كتاب دواء الأرواح.
4. كتاب دواء التفريط.
5. كتاب ادب المفتقر إلى الله.
6. الفرق بين الإخلاص والصدق.
7. كتاب الفناء.
8. كتاب الميثاق.
9. في الالوهية.
10. كتاب الجنيد إلى عمرو بن عثمان المكي تعالى.
11. نسخة من كتاب الجنيد إلى ابي يعقوب يوسف بن الحسين الرازي رحمة الله عليهما.
12. رسالة ابي القاسم الجنيد إلى يوسف بن يحيى رحمة الله عليهما.
13. رسالة ابي القاسم الجنيد بن محمد إلى يحيى بن معاذ رحمة الله عليهما.
14. رسالة ابي القاسم الجنيد إلى بعض اخوانه.
15. رسالة ابي القاسم الجنيد إلى بعض اخوانه.
16. رسالة إلى بعض اخوانه.
17. رسالة إلى جعفر الخالدي.
18. رسالة في المعرفة.
19. رسالة الجنيد إلى ابي اسحاق المرستاني.
20. رسالة إلى بعض اخوانه.
21. رسالة إلى بعض اخوانه.
22. رسالة إلى بعض اخوانه.
23. النظر الصحيح إلى الدنيا.
24. رأي الجنيد في الذكر الخفي.
25. كتابه إلى ابي العباس الدينوري.
26. عقبات الوصال.
27. رسالة في الايمان.
28. صفة العاقل.
29. رسالة في التوحيد.
30. رسالة الجنيد إلى ابي بكر الكسائي.
31. رسالة الجنيد إلى علي بن سهل الأصبهاني.
وقال أبو محمد الجريري: "كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: "أرفق بنفسك!" فقال: "ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هو ذا تطوى صحيفتي".
وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: "ما هذا يا أبا القاسم!"، قال: "هذه نعم!. الله أكبر". فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: "لو اضطجعت!"، قال: "يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر". فلم يزل ذلك حاله حتى مات".
وقال ابن عطاء: "دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم رد بعد ساعة، وقال: "اعذرني! فإني كنت في وردي"، ثم حول وجهه إلي القبلة ومات".
وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، ودفن بالشونيزيه، بتربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، عند خاله سري السقطي. وصلى عليه جمع كثير من الناس قدر عددهم بالآلاف.
وقد انتقل إلى علم الشهود والحق سنة 297 هـ.
الْجُنَيْد بن مُحَمَّد بن الْجُنَيْد أَبِي الْقَاسِم النهاوندي الأَصْل البغدادي القواريري الخزاز
سيد الطَّائِفَة ومقدم الْجَمَاعَة وَإِمَام أهل الْخِرْقَة وَشَيخ طَريقَة التصوف وَعلم الْأَوْلِيَاء فى زَمَانه وبهلوان العارفين
تفقه على أَبى ثَوْر وَكَانَ يُفْتى بحلقته وَله من الْعُمر عشرُون سنة
وَسمع الحَدِيث من الْحسن بن عَرَفَة وَغَيره
واختص بِصُحْبَة السرى السقطى والْحَارث بن أَسد المحاسبى وأبى حَمْزَة البغدادى
قَالَ جَعْفَر الخلدى لم نر فى شُيُوخنَا من اجْتمع لَهُ علم وَحَال غير الْجُنَيْد إِذا رَأَيْت علمه رجحته على حَاله وَإِذا رَأَيْت حَاله رجحته على علمه
وَعَن أَبى الْعَبَّاس بن سُرَيج أَنه تكلم يَوْمًا فأعجب بِهِ بعض الْحَاضِرين فَقَالَ ابْن سُرَيج هَذَا ببركة مجالستى لأبى الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الكعبى الْمُتَكَلّم المعتزلى مَا رَأَتْ عيناى مثله كَانَ الكتبة يحضرونه لألفاظه والفلاسفة لدقة مَعَانِيه والمتكلمون لعلمه
قَالَ الخلدى قَالَ الْجُنَيْد ذَات يَوْم مَا أخرج الله إِلَى الأَرْض علما وَجعل لِلْخلقِ إِلَيْهِ سَبِيلا إِلَّا وَقد جعل لى فِيهِ حظا ونصيبا
قَالَ الخلدى وبلغنى أَن الْجُنَيْد كَانَ فى سوقه وَكَانَ ورده فى كل يَوْم ثَلَاثمِائَة رَكْعَة وَثَلَاثِينَ ألف تَسْبِيحَة
قَالَ وسمعته يَقُول مَا نزعت ثوبى للْفراش مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة
قَالَ وَكَانَ الْجُنَيْد عشْرين سنة لَا يَأْكُل إِلَّا من الْأُسْبُوع إِلَى الْأُسْبُوع وَيصلى كل لَيْلَة أَرْبَعمِائَة رَكْعَة
قَالَ أَبُو الْحسن المحلبى قلت للجنيد مِمَّن اسْتَفَدْت هَذَا الْعلم قَالَ من جلوسى بَين يدى الله تَعَالَى ثَلَاثِينَ سنة تَحت تِلْكَ الدرجَة وَأَوْمَأَ إِلَى دَرَجَة فى دَاره
قَالَ إِسْمَاعِيل بن نجيد كَانَ الْجُنَيْد يجىء كل يَوْم إِلَى السُّوق فَيفتح حانوته فيدخله ويسبل السّتْر وَيصلى أَرْبَعمِائَة رَكْعَة ثمَّ يرجع إِلَى بَيته
قَالَ على بن مُحَمَّد الحلوانى حَدَّثَنى خير قَالَ كنت جَالِسا يَوْمًا فى بيتى فخطر لى خاطر أَن أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد بِالْبَابِ اخْرُج إِلَيْهِ فنفيت ذَلِك عَن قلبى وَقلت وَسْوَسَة فَوَقع لى خاطر ثَان فنفيته فَوَقع خاطر ثَالِث فَعلمت أَنه حق وَلَيْسَ بوسوسة ففتحت الْبَاب فَإِذا أَنا بالجنيد قَائِم فَسلم على وَقَالَ يَا خير أَلا خرجت مَعَ الخاطر الأول
قَالَ أَبُو عَمْرو بن علوان خرجت يَوْمًا إِلَى سوق الرحبة فى حَاجَة فَوَقَعت عينى على امْرَأَة مسفرة من غير تعمد فألححت بِالنّظرِ فاسترجعت واستغفرت الله وعدت إِلَى منزلى فَقَالَت لى عَجُوز يَا سيدى مالى أرى وَجهك أسود
فَأخذت الْمرْآة فَنَظَرت فَإِذا وجهى أسود فَرَجَعت إِلَى سرى أنظر من أَيْن دهيت فَذكرت النظرة فانفردت فى مَوضِع أسْتَغْفر الله وأسأله الْإِقَالَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا فخطر فى قلبى أَن زر شيخك الْجُنَيْد فانحدرت إِلَى بَغْدَاد فَلَمَّا جِئْت الْحُجْرَة الَّتِى هُوَ فِيهَا طرقت الْبَاب فَقَالَ لى ادخل يَا أَبَا عَمْرو وتذنب فى الرحبة ونستغفر لَك بِبَغْدَاد
قَالَ أَبُو بكر الْعَطَّار حضرت الْجُنَيْد عِنْد الْمَوْت فى جمَاعَة من أَصْحَابنَا فَكَانَ قَاعِدا يصلى ويثنى رجله كلما أَرَادَ أَن يسْجد فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى خرجت الرّوح من رجله فَثقلَتْ عَلَيْهِ حركتها فَمد رجلَيْهِ وَقد تورمتا فَرَآهُ بعض أصدقائه فَقَالَ مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِم قَالَ هَذِه نعم الله أكبر فَلَمَّا فرغ من صلَاته قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّد الجريرى لَو اضطجعت قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد هَذَا وَقت يُؤْخَذ مِنْهُ الله أكبر فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى مَاتَ
وَعَن الْجُنَيْد أرقت لَيْلَة فَقُمْت إِلَى وردى فَلم أجد مَا كنت أجد من الْحَلَاوَة فَأَرَدْت النّوم فَلم أقدر فَأَرَدْت الْقعُود فَلم أطق ففتحت الْبَاب وَخرجت فَإِذا رجل ملتف فى عباءة مطروح على الطَّرِيق فَلَمَّا أحس بى رفع رَأسه وَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم إِلَى السَّاعَة
فَقلت يَا سيدى من غير موعد
فَقَالَ بلَى سَأَلت محرك الْقُلُوب أَن يُحَرك لى قَلْبك
فَقلت مَا حَاجَتك
فَقَالَ مَتى يصير دَاء النَّفس دواها
فَقلت إِذا خَالَفت هَواهَا صَار داؤها دواها
فَأقبل على نَفسه فَقَالَ اسمعى قد أَجَبْتُك بِهَذَا الْجَواب سبع مَرَّات فأبيت إِلَّا أَن تسمعيه من الْجُنَيْد فقد سَمِعت وَانْصَرف عَنى وَلم أعرفهُ وَلَا وقفت عَلَيْهِ
وَقَالَ كنت جَالِسا فى مَسْجِد الشونيزية أنْتَظر جَنَازَة أصلى عَلَيْهَا وَأهل بَغْدَاد على طبقاتهم جُلُوس ينتظرون الْجِنَازَة فَرَأَيْت فَقِيرا عَلَيْهِ أثر النّسك يسْأَل النَّاس فَقلت فى نفسى لَو عمل هَذَا عملا يصون بِهِ نَفسه كَانَ أجمل بِهِ فَلَمَّا انصرفت إِلَى منزلى وَكَانَ لى شئ من الْورْد بِاللَّيْلِ من الصَّلَاة وَالْقِرَاءَة والبكاء فَثقلَتْ على جَمِيع أورادى فسهرت وَأَنا قَاعد فغلبتنى عيناى فَرَأَيْت ذَلِك الْفَقِير وَقد جَاءُوا بِهِ ممدودا على خوان وَقَالُوا لى كل لَحْمه فقد اغْتَبْته
فكشف لى عَن الْحَال وَقلت مَا اغْتَبْته إِنَّمَا قلت شَيْئا فى نفسى
فَقيل لى مَا أَنْت مِمَّن يرضى مِنْك بِمثل هَذَا اذْهَبْ إِلَيْهِ واستحله
فَأَصْبَحت وَلم أزل أتردد حَتَّى رَأَيْته فى مَوضِع يلتقط من أوراق البقل فَسلمت عَلَيْهِ فَقَالَ تعود يَا أَبَا الْقَاسِم فَقلت لَا
فَقَالَ غفر الله لنا وَلَك
وَمن كَلَام الْجُنَيْد رَحمَه الله
الطَّرِيق إِلَى الله عز وَجل مسدود على خلقه إِلَّا على المقتفين آثَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ الله عز وَجل {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَقَالَ لَوْلَا أَنه يرْوى أَنه يكون فى آخر الزَّمَان زعيم الْقَوْم أرذلهم مَا تَكَلَّمت عَلَيْكُم
وَقَالَ أضرّ مَا على أهل الديانَات الدَّعَاوَى
وَقَالَ الْمُرُوءَة احْتِمَال زلل الإخوان
وَقيل لَهُ كَيفَ الطَّرِيق إِلَى الله فَقَالَ تَوْبَة تحل الْإِصْرَار وَخَوف يزِيل الْغرَّة ورجاء مزعج إِلَى طَرِيق الْخيرَات ومراقبة الله فى خواطر الْقُلُوب
وَقَالَ لَيْسَ بشنيع مَا يرد على من الْعَالم لأنى قد أصلت أصلا وَهُوَ أَن الدَّار دَار غم وهم وبلاء وفتنة وَأَن الْعَالم كُله شَرّ وَمن حكمه أَن يتلقانى بِكُل مَا أكره وَإِن تلقانى بِمَا أحب فَهُوَ فضل وَإِلَّا فَالْأَصْل الأول
وَقَالَ الزّهْد خلو الْقلب عَمَّا خلت مِنْهُ الْيَد واستصغار الدُّنْيَا ومحو آثارها من الْقلب
وَقَالَ الْخَوْف توقع الْعقُوبَة مَعَ مجارى الأنفاس
وَقَالَ الْخُشُوع تذلل الْقُلُوب لعلام الغيوب
وَقَالَ التَّوَاضُع خفض الْجنَاح ولين الْجَانِب
وَقَالَ وَسَأَلَهُ جمَاعَة أنطلب الرزق فَقَالَ إِن علمْتُم أى مَوضِع هُوَ فاطلبوه
قَالُوا نسْأَل الله فِيهِ قَالَ إِن علمْتُم أَنه ينساكم فذكروه فَقَالُوا أندخل الْبَيْت ونتوكل فَقَالَ التجربة شكّ فَقَالُوا فَمَا الْحِيلَة قَالَ ترك الْحِيلَة
وفى بعض الْكتب نِسْبَة هَذِه الْحِكَايَة إِلَى الْخَواص
وَقَالَ الْيَقِين اسْتِقْرَار الْعلم الذى لَا يتقلب وَلَا يحول وَلَا يتَغَيَّر فى الْقلب
وَقَالَ أَيْضا الْيَقِين ارْتِفَاع الريب فى مشْهد الْغَيْب فَعرف الْيَقِين بتعريفين وسيأتى عَنهُ أَيْضا للشكر تعريفان وَالْكل حق صَحِيح
وَقَالَ الْمسير من الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة سهل هَين على الْمُؤمن وهجران الْخلق فى جنب الْحق شَدِيد والمسير من النَّفس إِلَى الله صَعب شَدِيد وَالصَّبْر مَعَ الله تَعَالَى أَشد
وَقَالَ الصَّبْر تجرع المرارة من غير تعبيس
وَقَالَ من تحقق فى المراقبة خَافَ على فَوت حَظه من الله تَعَالَى
وَقَالَ وَقد قَالَ الشبلى يَوْمًا بَين يَدَيْهِ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قَوْلك ذَا ضيق صدر وَهُوَ ترك للرضا بِالْقضَاءِ وَالرِّضَا رفع الِاخْتِيَار
وَقيل لَهُ مَا للمريد فى مجاراة الحكايات فَقَالَ الحكايات جند من جنود الله يقوى بهَا قُلُوب المريدين فَسئلَ على ذَلِك شَاهدا فَقَالَ قَوْله تَعَالَى {وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك}
وَقيل لَهُ مَا الْفرق بَين المريد وَالْمرَاد فَقَالَ المريد تتولاه سياسة الْعلم وَالْمرَاد تتولاه رِعَايَة الْحق لِأَن المريد يسير وَالْمرَاد يطير وَأَيْنَ السائر من الطَّائِر
وَقَالَ الْإِخْلَاص سر بَين الله وَعَبده وَلَا يُعلمهُ ملك فيكتبه وَلَا شَيْطَان فيفسده وَلَا هوى فيميله
وَقَالَ الصَّادِق يتقلب فى الْيَوْم أَرْبَعِينَ مرّة والمرائى يثبت على حَالَة وَاحِدَة أَرْبَعِينَ سنة
وَسُئِلَ عَن الْحيَاء فَقَالَ رُؤْيَة الآلاء ورؤية التَّقْصِير يتَوَلَّد مِنْهُمَا حَالَة تسمى الْحيَاء
وَقَالَ الفتوة كف الْأَذَى وبذل الندى
وَقَالَ لَو أقبل صَادِق على الله ألف ألف سنة ثمَّ أعرض عَنهُ لَحْظَة كَانَ مَا فَاتَهُ أَكثر مِمَّا ناله
قلت وَالنَّاس يستشكلون هَذِه الْكَلِمَة ويتطلبون تقريرها وَسَأَلت عَنْهَا بعض العارفين بالتصوف فَقَالَ مَعْنَاهَا يظْهر بِضَرْب مثل وَهُوَ أَن الغواص إِذا غاص فى الْبَحْر منقبا على نَفِيس الْجَوَاهِر إِلَى أَن قَارب قراره وَكَاد يحظى بمراده أعرض وَترك كَانَ مَا فَاتَهُ أَكثر مِمَّا ناله وَكَذَلِكَ من أقبل على الْحق ألف ألف سنة ثمَّ أعرض فَتلك اللحظة الَّتِى أعرض فِيهَا لَو لم يعرض نتيجة عمل ألف ألف سنة فَلَمَّا أعرض فَاتَتْهُ تِلْكَ النتيجة الَّتِى هى غَايَة عمل ألف ألف سنة فَظهر أَن مَا فَاتَهُ أَكثر مِمَّا ناله
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت جدى إِسْمَاعِيل بن نجيد يَقُول دخل أَبُو الْعَبَّاس بن عَطاء على الْجُنَيْد وَهُوَ فى النزع فَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ ثمَّ رد عَلَيْهِ بعد سَاعَة وَقَالَ اعذرنى فإنى كنت فى وردى ثمَّ حول وَجهه إِلَى الْقبْلَة وَكبر وَمَات
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الجريرى كنت وَاقِفًا على رَأس الْجُنَيْد فى وَقت وَفَاته وَكَانَ يَوْم جُمُعَة وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن فَقلت يَا أَبَا الْقَاسِم ارْفُقْ بِنَفْسِك فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّد مَا رَأَيْت أحدا أحْوج إِلَيْهِ منى فى هَذَا الْوَقْت وَهُوَ ذَا تطوى صحيفتى
وَيُقَال كَانَ نقش خَاتم الْجُنَيْد إِذا كنت تَأمله فَلَا تأمنه
وَكَانَ يَقُول مَا أَخذنَا التصوف من القال والقيل وَلَكِن عَن الْجُوع وَترك الدُّنْيَا وَقطع المألوفات
قَالَ أَبُو سهل الصعلوكى سَمِعت أَبَا مُحَمَّد المرتعش يَقُول قَالَ الْجُنَيْد كنت بَين يدى السرى السقطى أَلعَب وَأَنا ابْن سبع سِنِين وَبَين يَدَيْهِ جمَاعَة يَتَكَلَّمُونَ فى الشُّكْر فَقَالَ يَا غُلَام مَا الشُّكْر
فَقلت أَن لَا تعصى الله بنعمه
فَقَالَ أخْشَى أَن يكون حظك من الله لسَانك
قَالَ الْجُنَيْد فَلَا أَزَال أبكى على هَذِه الْكَلِمَة الَّتِى قَالَهَا لى
وَعَن الْجُنَيْد الشُّكْر أَن لَا ترى نَفسك أَهلا للنعمة
وَعَن الْجُنَيْد أَعلَى دَرَجَة الْكبر أَن ترى نَفسك وَأَدْنَاهَا أَن تخطر ببالك يعْنى نَفسك
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر الورثانى قَالَ سَمِعت مُحَمَّد ابْن عبد الْعَزِيز يَقُول سُئِلَ الْجُنَيْد عَمَّن لم يبْق عَلَيْهِ من الدُّنْيَا إِلَّا مِقْدَار مص نواة فَقَالَ الْمكَاتب عبد مَا بقى عَلَيْهِ دِرْهَم
وَمن كَلَام الْجُنَيْد بَاب كل علم نَفِيس جليل بذل المجهود وَلَيْسَ من عبد الله ببذل المجهود كمن طلبه من طَرِيق الْجُود
وَقَالَ إِن الله يخلص إِلَى الْقُلُوب من بره حسب مَا خلصت الْقُلُوب بِهِ إِلَيْهِ من ذكره فَانْظُر مَاذَا خالط قَلْبك
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الزجاجى سَأَلت الْجُنَيْد عَن الْمحبَّة فَقَالَ تُرِيدُ الْإِشَارَة فَقلت لَا قَالَ تُرِيدُ الدَّعْوَى قلت لَا قَالَ فأيش تُرِيدُ قلت عين الْمحبَّة فَقَالَ أَن تحب مَا يحب الله فى عباده وَتكره مَا يكره فى عباده
وَسُئِلَ عَن قرب الله تَعَالَى فَقَالَ قريب لَا بالتلاق بعيد لَا بافتراق
وَقَالَ مكابدة الْعُزْلَة أيسر من مداراة الْخلطَة
توفى الْجُنَيْد يَوْم السبت فى شَوَّال سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ وَقيل سنة سبع وَتِسْعين
قَالَ الخلدى رَأَيْته فِي النّوم فَقلت مَا فعل الله بك فَقَالَ طاحت تِلْكَ الإشارات وَغَابَتْ تِلْكَ الْعبارَات وفنيت تِلْكَ الْعُلُوم ونفدت تِلْكَ الرسوم وَمَا نفعنا إِلَّا ركيعات كُنَّا نركعها فى السحر
ذكر شئ من الرِّوَايَة عَنهُ
وَقد ذكر أَنه لم يحدث إِلَّا بِحَدِيث وَاحِد حدّثنَاهُ الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر إملاء قَالَ أخبرنَا أَبُو الْفَتْح يُوسُف بن يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن المجاور إِذْنا أخبرنَا الإِمَام أَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الكندى أخبرنَا أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْقَزاز الْمَعْرُوف بِابْن زُرَيْق أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن على بن ثَابت الْخَطِيب
أخبرنَا أَبُو سعيد المالينى أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عمر بن مُحَمَّد بن مقبل أخبرنَا جَعْفَر الخلدى حَدثنَا جُنَيْد بن مُحَمَّد
ح وَأخْبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا القاضى مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن سَالم بن يُوسُف بن صاعد بن السّلم سَمَاعا أخبرنَا الْحسن بن أَحْمد بن يُوسُف الأوقى أخبرنَا أَبُو طَاهِر السلفى أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن على بن الْحسن ابْن زَكَرِيَّا الصوفى فِيمَا قَرَأت عَلَيْهِ أخبرنَا والدى أَبُو الْحسن على بن الْحسن الطريثيثى حَدثنَا أَبُو سعيد أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَفْص بن الْخَلِيل الهروى لفظا أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عمر بن مُحَمَّد بن مقبل حَدثنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد ابْن نصير أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة
ح وبإسنادنا الْمَشْهُور إِلَى ابْن عَرَفَة حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير الكوفى عَن عَمْرو ابْن قيس الملائى عَن عَطِيَّة عَن أَبى سعيد الخدرى قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله) ثمَّ قَرَأَ {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين}
قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب لَا يعرف للجنيد غير هَذَا الحَدِيث
قَالَ أَبُو الْفرج ابْن الجوزى وَقد رَأَيْت لَهُ حَدِيثا آخر
قلت أخبرناه أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر الْحَافِظ بقراءتى عَلَيْهِ عَن أَبى الْحسن ابْن البخارى عَن أَبى الْفرج عبد الرَّحْمَن بن على بن مُحَمَّد بن الجوزى أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الباقى أخبرنَا رزق الله بن عبد الْوَهَّاب أخبرنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى حَدثنَا أَحْمد بن عَطاء الصوفى حَدثنَا مُحَمَّد بن على بن الْحُسَيْن قَالَ سُئِلَ الْجُنَيْد عَن الفراسة فَقَالَ حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن عَاصِم عَن زر عَن عبد الله قَالَ كنت أرعى غنما لعقبة بن أَبى معيط وَذكر الحَدِيث وَقَالَ فى آخِره قَالَ لى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنَّك غليم معلم)
أخبرنَا الْمسند أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا أَبُو الْغَنَائِم الْمُسلم بن مُحَمَّد بن عَلان القيسى سَمَاعا عَلَيْهِ حَدثنَا أَبُو الْيمن زيد بن الْحسن الكندى أخبرنَا الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن زُرَيْق الشيبانى أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن على البغدادى حَدثنَا مُحَمَّد بن المظفر بن السراج من حفظه قَالَ سَمِعت جَعْفَر بن مُحَمَّد الخلدى يَقُول قَالَ لى أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله اطراح هَذِه الْأمة من الْمُرُوءَة والاستئناس بهم حجاب عَن الله تَعَالَى والطمع فيهم فقر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن المظفر بن أَبى مُحَمَّد النابلسى الْحَافِظ بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا أقضى الْقُضَاة جمال الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نجم الدّين مُحَمَّد بن سَالم بن يُوسُف بن صاعد بن السّلم النابلسى قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا الشَّيْخ تقى الدّين أَبُو على الْحسن بن أَحْمد بن يُوسُف الأوقى سَمَاعا أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلفى سَمَاعا
ح وَكتب إِلَى أَحْمد بن على الجزرى وَفَاطِمَة بنت إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا عَن مُحَمَّد بن عبد الهادى عَن السلفى إجازات أخبرنى أَبُو بكر أَحْمد بن على بن الْحُسَيْن أخبرنَا والدى حَدثنَا أَبُو سعد أَحْمد بن مُحَمَّد المالينى سمعتت أَبَا الْوَزير على بن إِسْمَاعِيل الصوفى يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن المنصورى يَقُول سَأَلت الْجُنَيْد مَتى يسْتَوْجب العَبْد أَن يُقَال لَهُ عَاقل قَالَ سَمِعت سريا يَقُول هُوَ أَن لَا يظْهر فى جوارحه شئ قد ذمه مَوْلَاهُ وَبِه إِلَى المالينى سَمِعت أَبَا الْقَاسِم يُوسُف بن يحيى سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد يَدْعُو بموضعك فى قُلُوب العارفين دلنى على رضاك وَأخرج من قلبى مَالا ترضاه وأسكن فى قلبى رضاك وَبِه قَالَ سَمِعت عُثْمَان بن عبد الله الزنجى يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد بن مُحَمَّد يَقُول وَقد سُئِلَ عَن الْيَقِين مَا هُوَ فَقَالَ ترك مَا ترى لما لَا ترى
وَبِه قَالَ سمع أَبَا الْحُسَيْن أَحْمد بن زيزى يَقُول قلت للجنيد من أصحب بعْدك قَالَ اصحب بعدى من تأمنه سر الله فِيك
وَبِه قَالَ سَمِعت أَبَا الْحسن على بن أَحْمد بن قرقر يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن على بن مُحَمَّد السيروانى يَقُول سَمِعت أَبَا عَمْرو ابْن علوان يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد يَقُول حضرت إملاك بعض الأبدال من النِّسَاء بِبَعْض الأبدال من الرِّجَال فَمَا كَانَ فى جمَاعَة من حضر إِلَّا من ضرب بِيَدِهِ إِلَى الْهَوَاء فَأخذ شَيْئا وَطَرحه من در وَيَاقُوت وَمَا أشبهه قَالَ أَبُو الْقَاسِم فَضربت بيدى فَأخذت زعفرانا وطرحته فَقَالَ لى الْحَضَر مَا كَانَ فى الْجَمَاعَة من أهْدى مَا يصلح للعرس غَيْرك
وَبِه قَالَ حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد سَمِعت إِبْرَاهِيم بن دَاوُد البردعى يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول نِهَايَة الصابر فى حَال الصَّبْر حمل الْمُؤَن لله حَتَّى تنقضى أَوْقَات الْمَكْرُوه
وَبِه قَالَ سَمِعت أَبَا الْقَاسِم يُوسُف بن يحيى يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَدْعُو إِذا سَأَلَهُ إِنْسَان أَن يَدْعُو لَهُ جمع الله همك وَلَا شتت سرك وقطعك عَن كل قَاطع يقطعك عَنهُ ووصلك إِلَى كل وَاصل يوصلك إِلَيْهِ وَجعل غناهُ فى قَلْبك وشغلك بِهِ عَمَّن سواهُ ورزقك أدبا يصلح لمجالسته وَأخرج من قَلْبك مَالا يرضى وأسكن فى قَلْبك رِضَاهُ ودلك عَلَيْهِ من أقرب الطّرق
أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا الشَّيْخَانِ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن أَبى عبد الله بن حَمَّاد بن العسقلانى وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن حمد بن كَامِل ابْن عمر المقدسى سَمَاعا قَالَا أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن منينا وَعبد الْوَهَّاب بن سكينَة إجَازَة قَالَا أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الباقى الأنصارى القاضى أخبرنَا الْخَطِيب أَبُو بكر أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن الأهوازى قَالَ سَمِعت أَبَا حَاتِم الطبرى يَقُول سُئِلَ الْجُنَيْد رَحمَه الله تَعَالَى عَن التصوف فَقَالَ اسْتِعْمَال كل خلق سنى وَترك كل خلق دنى وَبِه إِلَى الْخَطِيب أخبرنَا بكران بن الطّيب الجرجرائى حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد قَالَ سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول لَا تكون من الصَّادِقين أَو تصدق مَكَانا لَا ينجيك إِلَّا الْكَذِب فِيهِ
أخبرنَا الْمسند عز الدّين أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن ضِيَاء الدّين أَبى الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن عمر بن الحموى قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا أَبُو الْحسن ابْن البخارى أخبرنَا أَبُو حَفْص بن طبرزد أخبرنَا القاضى أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الباقى الأنصارى أخبرنَا أَبُو حَفْص هناد بن إِبْرَاهِيم أَبُو المظفر القاضى النسفى قَالَ سَمِعت أَبَا الْحسن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الفارسى يَقُول كَانَ الْجُنَيْد بَات لَيْلَة الْعِيد فى مَوضِع غير الْموضع الذى كَانَ يعتاده فى الْبَريَّة فَلَمَّا أَن صَار وَقت السحر إِذا بشاب ملتف فى عباءة وَهُوَ يبكى وَيَقُول
(بِحرْمَة غربتى كم ذَا الصدود ... أَلا تعطف على أَلا تجود)
(سرُور الْعِيد قد عَم النواحى ... وضرى فى ازدياد لَا يبيد)
(فَإِن كنت اقترفت خلال سوء ... فعذرى فى الْهوى أَن لَا أَعُود)
أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا الْمَشَايِخ أَبُو بكر إِسْمَاعِيل بن الأنماطى وَأُخْته رقية وَغَيرهمَا حضورا عَن أَبى بكر بن أَبى سعد الصفار أخبرنَا أَبُو مَنْصُور عبد الْخَالِق بن زَاهِر الشحامى أخبرنَا الإِمَام أَبُو الْحسن على بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُؤَذّن أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله ابْن باكويه أخبرنَا نصر بن أَبى نصر أخبرنَا جَعْفَر بن نصير قَالَ سَمِعت الْجُنَيْد قَالَ حججْت على الْوحدَة فجاورت بِمَكَّة فَكنت إِذا جن اللَّيْل دخلت الطّواف فَإِذا بِجَارِيَة تَطوف وَتقول
(أَبى الْحبّ أَن يخفى وَكم قد كتمته ... فَأصْبح عندى قد أَنَاخَ وطنبا)
(إِذا اشْتَدَّ شوقى هام قلبى بِذكرِهِ ... فَإِن رمت قربا من حبيبى تقربا)
(ويبدو فأفنى ثمَّ أحيى بِهِ لَهُ ... ويسعدنى حَتَّى ألذ وأطربا)
قَالَ فَقلت لَهَا يَا جَارِيَة أما تتقين الله فى مثل هَذَا الْمَكَان تتكلمين بِمثل هَذَا الْكَلَام فالتفتت إِلَى وَقَالَت يَا جُنَيْد
(لَوْلَا التقى لم ترنى ... أَهجر طيب الوسن)
(إِن التقى شردنى ... كَمَا ترى عَن وطنى)
(أفر من وجدى بِهِ ... فحبه هيمنى)
ثمَّ قَالَت يَا جُنَيْد تَطوف بِالْبَيْتِ أم بِرَبّ الْبَيْت فَقلت أَطُوف بِالْبَيْتِ فَرفعت طرفها إِلَى السَّمَاء وَقَالَت سحانك مَا أعظم مشيئتك فى خلقك خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ثمَّ أنشأت تَقول
(يطوفون بالأحجار يَبْغُونَ قربَة ... إِلَيْك وهم أقسى قلوبا من الصخر)
(وتاهوا فَلم يدروا من التيه من هم ... وحلوا مَحل الْقرب فى بَاطِن الْفِكر)
(فَلَو أَخْلصُوا فى الود غَابَتْ صفاتهم ... وَقَامَت صِفَات الود للحق بِالذكر)
أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو الْعَبَّاس بن المظفر بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا أَحْمد بن هبة الله بن عَسَاكِر بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عُثْمَان بن إِسْمَاعِيل القارى إجَازَة أخبرنَا هبة الرَّحْمَن بن عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم القشيرى سَمَاعا عَلَيْهِ إملاء قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا سعيد مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الصفار قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى قَالَ سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله قَالَ سَمِعت أَبَا عمر الأنماطى قَالَ قَالَ رجل للجنيد على مَاذَا يتأسف الْمُحب من أوقاته فَقَالَ على زمَان بسط أورث قبضا أَو زمَان أنس أورث وَحْشَة ثمَّ أنشأ يَقُول
(قد كَانَ لى مشرب يصفو بقربكم ... فكدرته يَد الْأَيَّام حِين صفا)
وَبِه إِلَى هبة الرَّحْمَن القشيرى أخبرنَا أَبُو صَالح أَحْمد بن عبد الْملك الْمُؤَذّن أخبرنَا أَبُو نعيم أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد الأصبهانى قَالَ سَمِعت أَبَا الْحسن على بن هَارُون بن مُحَمَّد وَأَبا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد يَقُولَانِ سمعنَا أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد ابْن مُحَمَّد غير مرّة يَقُول طريقنا مضبوط بِالْكتاب وَالسّنة من لم يحفظ الْقُرْآن وَلم يكْتب الحَدِيث وَلم يتفقه لَا يقْتَدى بِهِ
وأخبرناه أَيْضا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف بن أَحْمد الخلاطى قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع بِالْقَاهِرَةِ أخبرنَا نَفِيس الدّين عبد الرَّحْمَن بن عبد الْكَرِيم بن أَبى الْقَاسِم أخبرنَا والدى أخبرنَا أَبُو الْفضل عبد الله بن أَحْمد الطوسى أخبرنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن عبد الرَّزَّاق الزعفرانى البغدادى قِرَاءَة عَلَيْهِ فى الْمحرم سنة سبع وَخَمْسمِائة قيل لَهُ أخْبركُم أَبُو الْحسن على بن أَحْمد بن على بن عبد الله الْحَافِظ الصقلى أخبرنَا أَبُو الْحسن على بن هَارُون بن مُحَمَّد وَأَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد قَالَا سمعنَا أَبَا الْقَاسِم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد رَحمَه الله يَقُول تفقهت على مَذْهَب أَصْحَاب الحَدِيث كأبى عبيد وأبى ثَوْر وصحبت الْحَارِث المحاسبى وسرى بن الْمُغلس رَحْمَة الله عَلَيْهِم وَذَلِكَ كَانَ سَبَب فلاحى إِذْ علمنَا هَذَا مضبوط بِالْكتاب وَالسّنة وَمن لم يحفظ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث ويتفقه قبل سلوكه فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاقْتِدَاء بِهِ
أخبرنَا الشَّيْخ الْوَالِد رَحمَه الله قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مخلوف بن جمَاعَة
ح وَأخْبرنَا يحيى بن يُوسُف المصرى قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع قَالَا أخبرنَا عبد الْوَهَّاب بن ظافر بن رواج قَالَ ابْن جمَاعَة سَمَاعا وَقَالَ شَيخنَا إجَازَة قَالَ أخبرنَا الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلفى أخبرنَا أَبُو الْحسن العلاف أخبرنَا أَبُو الْحسن الحمامى حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن جَعْفَر الختلى سَمِعت أَبَا الْقَاسِم بن بكير قَالَ سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول بنى أمرنَا هَذَا على أَربع لَا نتكلم إِلَّا عَن وجود وَلَا نَأْكُل إِلَّا عَن فاقة وَلَا ننام إِلَّا عَن غَلَبَة وَلَا نسكت إِلَّا عَن خشيَة
ذكر نخب وفوائد عَن أَبى الْقَاسِم رَحمَه الله)
هَل الْأَفْضَل للمحتاج أَن يَأْخُذ من الزَّكَاة أَو صَدَقَة التَّطَوُّع قَالَ الغزالى فى الْإِحْيَاء اخْتلف فِيهِ السّلف وَكَانَ الْجُنَيْد والخواص وَجَمَاعَة يَقُولُونَ الْأَخْذ من الصَّدَقَة أفضل لِئَلَّا يضيق على الْأَصْنَاف وَلِئَلَّا يخل بِشَرْط من شُرُوطهَا وَقَالَ آخَرُونَ الزَّكَاة أفضل لِأَنَّهَا إِعَانَة على وَاجِب وَلَو ترك أهل الزَّكَاة أَخذهَا أثموا وَلِأَن الزَّكَاة لَا منَّة فِيهَا
قَالَ الغزالى وَالصَّوَاب أَنه يخْتَلف بالأشخاص فَإِن عرض لَهُ شُبْهَة فى اسْتِحْقَاقه لم يَأْخُذ الزَّكَاة وَإِن قطع باستحقاقه ينظر إِن كَانَ الْمُتَصَدّق إِن لم يَأْخُذهَا هَذَا لم يتَصَدَّق فليأخذ الصَّدَقَة فَإِن إِخْرَاج الزَّكَاة لابد مِنْهُ وَإِن كَانَ لابد من إِخْرَاج تِلْكَ الصَّدَقَة يُخَيّر قَالَ وَأخذ الزَّكَاة أَشد فى كسر النَّفس
طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي
الجنيد الصوفي
أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري، الزاهد المشهور؛ أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه العراق، وكان شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مدون، وتفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي رضي اله عنهما، وقيل: بل كان فقيها على مذهب سفيان الثوري رضي الله عنه. وصحب خاله السري السقطي والحارث المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ رضي الله عنهم. وصحبه أبو العباس ابن سريج الفقيه الشافعي، وكان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام أعجب الحاضرين فيقول لهم: أتدرون من أين لي هذا هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد، وسئل الجنيد عن العارف فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة . وحضر الجنيد موضعا فيه قوم يتواجدون على سماع يسمعونه وهو مطرق، فقيل له: أبا القاسم، ما نراك تتحرك! فقال (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، صنع الله) .
ورئي يوماً وفي يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة فقال: طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه.
وقال الجنيد: قال لي خالي سري السقطي: تكلم على الناس، وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتهم نفسي في استحقاقي ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة جمعة، فقال لي: تكلم على الناس، فانتبهت، وأتيت باب السري قبل أن أصبح، فدققت الباب فقال لي: لم تصدقنا حتى قيل لك، فقعدت في غد الناس بالجامع وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس، فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه بنور الله فأطرقت ثم رفعت رأسي وقلت: أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام.
وقال الشيخ الجنيد: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وما هي قال: مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها فسمعتها تقول:
إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي بنيران الهوى شرف القلب
وإن قلت ما أذنبت قلت مجبية ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب فصعقت وصحت، فبينما أنا كذلك إذا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي فقلت له: مما سمعت، فقال: أشهدك أنها هبة من يلك، فقلت: قد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى، ثم زوجتها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة.
وآثاره كثيرة مشهورة.
وتوفي يوم السبت - وكان نيروز الخليفة - سنة سبع وتسعين ومائتين، وقيل: سنة ثمان وتسعين آخر ساعة من نهار الجمعة ببغداد، ودفن يوم السبت بالشونيزية عند خاله سري السقطي، رضي الله عنهما. وكان عند موته - رحمه الله تعالى - قد ختم القرآن الكريم ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية، ثم مات. [قال محمد بن إبراهيم: رأيت الجنيد في المنام فقلت له: ما فعل الله بك قال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار] .
وإنما قيل له " الخزار " لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري لأن أباه كان قواريرياً.
والخزار: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف زاي ثانية.
والقواريري: بفتح القاف والواو وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء ثانية.
ونهاوند - بفتح النون وقال السمعاني: بضم النون وفتح الهاء وبعد الألف واو مفتوحة ثم نون ساكنة وبعدها دال مهملة - وهي مدينة من بلاد الجبل، قيل: إن نوحا عليه السلام بناها، وكان اسمها نوح أوند، ومعنى أوند بنى فعربوها فقالوا: نهاوند.
والشونيزية - بضم الشين المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وفي آخرها زاي - وهي مقبرة مشهورة ببغداد بها قبور جماعة من المشايخ ، رضي الله عنهم، بالجانب الغربي.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبو العباس شمس الدين أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي
وسئل عن قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى) قال: سنقرئك التلاوة فلا تنسى العمل؛ وعن قوله تعالى (ودرسوا ما فيه) قال: تركوا العمل بما فيه؛ قيل للجنيد: ما القناعة قال: أن لا تجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك وسأله الجريري يوماً عن قول عيسى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) ، قال: هو والله أعلم تعلم ما أنا لك عليه وما لك عندي ولا أعلم ما لي عندك إلا ما أخبرتني به وأطلعتني، فهذا معناه، والله أعلم.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبو العباس شمس الدين أحمد ابن خلكان البرمكي الإربلي
الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم:
صوفي، من العلماء بالدين. مولده ومنشأه ووفاته ببغداد. أصل أبيه من نهاوند، وكان يعرف بالقواريري نسبة لعمل القوارير. وعرف الجنيد بالخزاز لأنه كان يعمل الخز. قال أحد معاصريه: ما رأت عيناي مثله، الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه والشعراء لفصاحته والمتكلمون لمعانيه. وهو أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد. وقال ابن الأثير في وصفه: إمام الدنيا في زمانه. وعده العلماء شيخ مذهب التصوف، لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصونا من العقائد الذميمة، محميّ الأساس من شُبه الغلاة، سالما من كل ما يوجب اعتراض الشرع. من كلامه: طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به. له (رسائل - ط) منها ما كتبه إلى بعض إخوانه، ومنها ما هو في التوحيد والألوهية، والغناء، ومسائل أخرى. وله (دواء الأرواح - خ) رسالة صغيرة ضمن مجموع في الأزهرية (الرقم 33590) ووقفت في الرباط على (جزء - خ) يشتمل على نبذ من الوعظ من كلام أبي القاسم الجنيد، رأيته عند حماد بو عياد الموظف في الخزانة العامة بالرباط .
-الاعلام للزركلي-
سيد الطائفة وشيخ التصوف أبو القاسم جنيد بن محمد بن الجنيد الَخزَّاز النَّهَاوَنْدي القَوَاريري البغدادي الشافعي، المتوفى ببغداد يوم السبت في شوال سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين وقيل: سنة سبع وتسعين وعمره ....
وهو إمام أهل الخرقة، الجامع بين العلم والعمل. تفقه على أبي ثور وكان يفتي بحلقة أستاذه وهو ابن عشرين سنة، وسمع الحديث من الحسن بن عرفة. وغيره، ثم لازم أهل الطريق واختص بصحبة خاله السري السقطي والحارث بن أسد المحاسبي وأبي حمزة البغدادي. قال جعفر الخُلدي: لم نر في شيوخنا من اجتمع له علم وحال غيره، إذا رأيت علمه رجحته على حاله وإذا رأيت حاله رجحته على علمه. ومن كلام الجنيد: الطريق إلى الله -عز وجل- مسدود على خلقه إلا على المقتفين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، وكان يقول: ما أخذنا التصوف من القال والقيل لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات. ويقول أيضاً: طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن ولم يتقن الحديث ولم يتفقه لا نقتدي به. وسئل عن التصوف فقال: استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دني. قال ابن خلكان: أصله من نهاوند ومولده ومنشأه [في] العراق. وكان شيخ وقته وفريد عصره، وكلامه في الحقيقة مشهور مدوَّن، ورؤي في يده سبحة، قيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة، فقال: طريق وصلت به إلى ربي، لا أفارقه. ولما مات دفن بالشونيزية عند خاله السري، وإنما قيل له الخزاز لأنه كان يعمل الخز وكان أبوه قواريرياً. ونهاوند بفتح النون. والشونيزية بضم الشين، مقبرة مشهورة بالجانب الغربي من بغداد. انتهى.
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.
الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز ، أبي القاسم : صوفي ، من العلماء بالدين . وعرف الجنيد بالخزاز لأنه كان يعمل الخز ، سمع من : السري السقطي ، وأبي ثور الكلبي ، وغيرهما ، وروى عنه : وأبي بكر الشبلي ، ومحمد بن الحسن البغدادي ، وغيرهما ، له من المصنفات : دواء الأرواح ، ورسائل ، وغيرهما ، قال أبي القاسم الكعبي عنه : ما رأت عيناي مثله ، الكتبة يحضرونه لألفاظه ، والفلاسفة لدقة معانيه . وقال ابن الاثير عنه : إمام الدنيا في زمانه ، وعده العلماء شيخ مذهب التصوف ، لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة . توفي سنة : 298 هـ . ينظر : طبقات الصوفية للسلمي : 1/129 ، سير السلف لابي القاسم : 1096 ، و طبقات الشافعيين ، لابن كثير : 1/169 ، وطبقات الشافعية ، للسبكي : 2/260 .
الجنيد بن مُحَمَّدِ بنِ الجُنَيْدِ النَّهَاوَنْدِيُّ ثُمَّ البَغْدَادِيُّ القَوَارِيْرِيُّ، وَالِدُه الخَزَّازُ.
هُوَ شَيْخُ الصُّوْفِيَّةِ. وُلِدَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَعِشْرِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ. وَسَمِعَ مِنَ: السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ، وَصَحِبَهُ، وَمِنَ الحَسَنِ بنِ عَرَفَةَ. وَصَحِبَ أَيْضاً: الحَارِثَ المُحَاسِبِيَّ، وَأَبَا حَمْزَةَ البَغْدَادِيَّ. وَأَتْقَنَ العِلْمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَتَأَلَّهَ، وَتَعَبَّدَ، وَنَطَقَ بِالحِكْمَةِ، وَقَلَّ مَا روى.
حَدَّثَ عَنْهُ: جَعْفَرٌ الخُلْدِيُّ، وَأبي مُحَمَّدٍ الجَرِيْرِيُّ، وَأبي بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حُبَيْشٍ، وَعَبْدُ الوَاحِدِ بنُ عِلْوَانَ، وَعِدَّةٌ.
قَالَ ابْنُ المُنَادِي: سَمِعَ الكَثِيْرَ، وَشَاهَدَ الصَّالِحِيْنَ وَأَهْلَ المَعْرِفَةِ، وَرُزِقَ الذَّكَاءَ وَصَوَابَ الجَوَابِ. لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ فِي عِفَّةٍ وَعُزُوفٍ عَنِ الدُّنْيَا.
قِيلَ لِي: إِنَّهُ قَالَ مَرَّةً: كُنْتُ أُفْتِي فِي حَلْقَةِ أَبِي ثَوْرٍ الكَلْبِيِّ وَلِي عشرون سنة.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ عَطَاءٍ: كَانَ الجُنَيْدُ يُفْتِي فِي حَلْقَةِ أَبِي ثَوْرٍ.
عَنِ الجُنَيْدِ، قَالَ: مَا أَخْرَجَ اللهُ إِلَى الأَرْضِ عِلْماً وَجَعَلَ لِلْخَلْقِ إِلَيْهِ سَبِيْلاً، إلَّا وَقَدْ جَعَلَ لِي فِيْهِ حَظّاً.
وَقِيْلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي سُوقِهِ وَوِرْدِهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثُ مائَةِ رَكْعَةٍ، وَكَذَا كَذَا أَلفَ تَسْبِيحَةٍ.
أبي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ هَارُوْنَ، وَآخَرُ، قَالاَ: سَمِعْنَا الجُنَيْدَ غَيْرَ مَرَّةٍ يَقُوْلُ: عِلْمُنَا مَضْبُوطٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الكِتَابَ وَيَكْتُبِ الحَدِيْثَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ، لاَ يُقْتَدَى بِهِ.
قَالَ عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ عُلْوَانِ: سَمِعْتُ الجُنَيْدَ يَقُوْلُ: عِلْمُنَا -يَعْنِي: التَّصَوُّفَ- مُشَبَّكٌ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ.
وَعَنْ أَبِي العَبَّاسِ بنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ تَكَلَّمَ يَوْماً، فَعَجِبُوا! فَقَالَ: بِبَرَكَةِ مُجَالَسَتِي لأَبِي القَاسِمِ الجُنَيْدِ.
وَعَنْ أَبِي القَاسِمِ الكَعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ مرَّةً: رَأَيْتُ لَكُمْ شَيْخاً بِبَغْدَادَ، يُقَالُ لَهُ: الجُنَيْدُ، مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ! كَانَ الكَتَبَةُ -يَعْنِي: البُلَغَاءَ- يَحْضُرُونَهُ لأَلفَاظِهِ، وَالفَلاسِفَةُ يَحْضُرُونَهُ لِدِقَّةِ مَعَانِيْهِ، وَالمُتَكَلِّمُوْنَ يَحْضُرُونَهُ لِزِمَامِ عِلْمِهِ، وَكَلاَمُهُ بَائِنٌ عَنْ فَهْمِهِم وَعِلْمِهِم.
قَالَ الخُلْدِيُّ: لَمْ نَرَ فِي شُيُوخِنَا مَنِ اجْتَمَعَ لَهُ عِلْمٌ وَحَالٌ غَيْرَ الجُنَيْدِ. كَانَتْ لَهُ حَالٌ خَطِيرَةٌ، وَعِلْمٌ غَزِيْرٌ، إِذَا رَأَيْتَ حَالَهُ، رَجَّحْتَهُ عَلَى عِلْمِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ، رَجَّحْتَ عِلْمَهِ عَلَى حَالِهِ.
أبي سَهْلٍ الصُّعْلُوْكِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ المُرْتَعِشَ يَقُوْلُ: قَالَ الجُنَيْدُ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السِّرِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِيْنَ، فَتَكَلَّمُوا فِي الشُّكْرِ؟ فَقَالَ: يَا غُلاَمُ! مَا الشُّكْرُ؟ قُلْتُ: أَنْ لاَ يُعْصَى اللهُ بِنِعَمِهِ. فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُوْنَ حَظَّكَ مِنَ اللهِ لِسَانُكَ. قَالَ الجُنَيْدُ: فَلاَ أَزَالُ أَبْكِي عَلَى قَوْلِهِ.
السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا جَدِّي؛ ابْنُ نُجَيْدٍ، قَالَ: كَانَ الجُنَيْدُ يَفْتَحُ حَانُوتَهُ وَيَدْخُلُ، فَيُسْبِلُ السِّتْرَ، وَيُصَلِّي أَرْبَعَ مائَةِ رَكْعَةٍ.
وَعَنْهُ، قَالَ: أَعْلَى الكِبْرِ أَنْ تَرَى نَفْسَكَ، وَأَدنَاهُ أَنْ تَخْطُرَ بِبَالِكَ -يَعْنِي: نَفْسَكَ.
أبي جَعْفَرٍ الفَرْغَانِيُّ: سَمِعْتُ الجُنَيْدَ يَقُوْلُ: أَقَلُّ مَا فِي الكَلاَمِ سُقُوْطُ هَيْبَةِ الرَّبِّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- مِنَ القَلْبِ، وَالقَلْبُ إِذَا عَرِيَ مِنَ الهَيْبَةِ، عَرِيَ مِنَ الإِيْمَانِ.
قِيْلَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ الجُنَيْدِ: إِنْ كُنْتَ تَأْمَلُهُ، فَلاَ تَأْمَنْهُ.
وَعَنْهُ: مَنْ خَالَفَتْ إِشَارتُهُ مُعَامَلَتَهُ، فَهُوَ مُدَّعٍ كذاب.
وَعَنْهُ: سَأَلْتُ اللهَ أَنْ لاَ يُعَذِّبَنِي بِكَلاَمِي؟ وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي: أَنَّ زَعِيْمَ القَوْمِ أَرْذَلُهُم.
وَعَنْهُ: أُعْطِيَ أَهْلُ بَغْدَادَ الشَّطْحَ وَالعِبَارَةَ، وَأَهْلُ خُرَاسَانَ القَلْبَ وَالسَّخَاءَ، وَأَهْلُ البَصْرَةِ الزُّهْدَ وَالقَنَاعَةَ، وَأَهْلُ الشَّامِ الحِلْمَ وَالسَّلاَمَةَ، وَأَهْلُ الحِجَازِ الصَّبْرَ وَالإِنَابَةَ.
وَقِيْلَ لِبَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ -وَيُقَالُ: هُوَ ابْنُ كُلاَّبٍ، وَلَمْ يَصِحَّ: قَدْ ذَكَرْتَ الطَّوَائِفَ، وَعَارَضْتَهُم، وَلَمْ تَذْكُرِ الصُّوْفِيَّةَ. فَقَالَ: لَمْ أَعْرِفْ لَهُم عِلْماً وَلاَ قَوْلاً، وَلاَ مَا رَامُوهُ. قِيْلَ: بَلْ هُمُ السَّادَةُ. وَذَكَرُوا لَهُ الجُنَيْدَ، ثُمَّ أَتَوُا الجُنَيْدَ، فَسَأَلُوهُ عَنِ التَّصَوُّفِ، فَقَالَ: هُوَ إِفرَادُ القَدِيْمِ عَنِ الحَدَثِ، وَالخُرُوجُ عَنِ الوَطَنِ، وَقَطْعُ المَحَابِّ، وَتَرْكُ مَا عَلِمَ أَوْ جَهِلَ، وَأَنْ يَكُوْنَ المَرْءُ زَاهِداً فِيْمَا عِنْدَ اللهِ، رَاغِباً فِيْمَا للهِ عِنْدَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، حَظَاهُ إِلَى كَشْفِ العُلُوْمِ، وَالعِبَارَةِ عَنِ الوُجُوهِ، وَعَلِمِ السَّرَائِرِ، وَفِقْهِ الأَرْوَاحِ. فَقَالَ المُتَكَلِّمُ: هَذَا -وَاللهِ- عِلْمٌ حَسَنٌ، فَلَو أَعَدْتَهُ حَتَّى نَكْتُبَهُ. قَالَ: كَلاَّ، مُرَّ إِلَى المَكَانِ الَّذِي مِنْهُ بَدَأَ النِّسْيَانُ ... ، وَذَكَرَ فَصْلاً طَوِيْلاً. فَقَالَ المُتَكَلِّمُ: إِنْ كَانَ رَجُلٌ يَهْدِمُ مَا يَثْبُتُ بِالعَقْلِ بِكَلِمَةٍ مِنْ كَلاَمِهِ، فَهَذَا، فَإِنَّ كَلاَمَهُ لاَ يَحْتَمِلُ المُعَارَضَةَ.
قَالَ أبي مُحَمَّدٍ الجَرِيْرِيُّ: سَمِعْتُ الجُنَيْدَ يَقُوْلُ: مَا أَخَذْنَا التَّصَوُّفَ عَنِ القَالِ وَالقِيْلِ، بَلْ عَنِ الجُوْعِ، وَتَركِ الدُّنْيَا، وَقَطْعِ المَأْلُوفَاتِ.
قُلْتُ: هَذَا حَسَنٌ، وَمُرَادُهُ: قَطْعُ أَكْثَرِ المَأْلُوْفَاتِ، وَتَرْكُ فُضُوْلِ الدُّنْيَا، وَجُوْعٌ بِلاَ إِفرَاطٍ.
أَمَّا مَنْ بَالَغَ فِي الجُوعِ -كَمَا يفعله الرهبان- ورفض سَائِرَ الدُّنْيَا وَمَأْلُوْفَاتِ النَّفْسِ مِنَ الغِذَاءِ وَالنَّومِ وَالأَهْلِ، فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِبَلاَءٍ عَرِيْضٍ، وَرُبَّمَا خُولِطَ فِي عَقْلِهِ، وَفَاتَهُ بِذَلِكَ كَثِيْرٌ مِنَ الحَنِيْفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. وَالسَّعَادَةُ فِي مُتَابَعَةِ السُّنَنِ، فَزِنِ الأُمُورَ بِالعَدْلِ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وألزم الوَرَعَ فِي القُوْتِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ، وَاصْمُتْ إلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَرَحْمَةُ اللهِ عَلَى الجُنَيْدِ، وَأَيْنَ مِثْلُ الجُنَيْدِ فِي عِلْمِهِ وَحَالِهِ؟
قَالَ ابْنُ نُجَيْدٍ: ثَلاَثَةٌ لاَ رَابِعَ لَهُمْ: الجُنَيْدُ بِبَغْدَادَ، وَأبي عُثْمَانَ بِنَيْسَأبيرَ، وَأبي عَبْدِ اللهِ بنُ الجَلاَّءِ بِالشَّامِ.
وَقَدْ كَانَ الجُنَيْدُ يأنس بصديقه الأستاذ أبي الحسين.
سير أعلام النبلاء: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايمازالذهبي
الْجُنَيْد بن مُحَمَّد بن الْجُنَيْد أبي الْقَاسِم الخراز وَيُقَال القواريرى أَصله من نهاوند ومولده ومنشؤه بِبَغْدَاد
وَسمع الحَدِيث وَصَحب جمَاعَة من الصَّالِحين واشتهر بِصُحْبَة الْحَارِث المحاسبى وسرى السقطى ثمَّ اشْتغل بِالْعبَادَة وَأسْندَ الحَدِيث عَن الْحسن بن عَرَفَة وَنقل عَن إمامنا أَشْيَاء مِنْهَا قَالَ الْجُنَيْد جَاءَ رجل إِلَى أَحْمد بن حَنْبَل وَمَعَهُ غُلَام حسن الْوَجْه
فَقَالَ لَهُ من هَذَا قَالَ ابنى
فَقَالَ أَحْمد لَا تجىء بِهِ مَعَك مرّة أُخْرَى فَلَمَّا قَامَ قيل أيد الله الشَّيْخ إِنَّه رجل مَسْتُور وَابْنه أفضل مِنْهُ فَقَالَ أَحْمد الذى قصدنا إِلَيْهِ من هَذَا لَيْسَ يمْنَع سترهما على هَذَا رَأينَا أشياخنا وَبِه خبرونا عَن أسلافهم
وَقَالَ جَعْفَر الخلدى قَالَ الْجُنَيْد ذَات يَوْم مَا أخرج الله إِلَى الأَرْض عَالما وَجعل لِلْخلقِ إِلَيْهِ سَبِيلا إِلَّا وَقد جعل الله فِيهِ حظا ونصيبا كَانَ ورده فى كل يَوْم ثَلَاثمِائَة رَكْعَة وَثَلَاثِينَ ألف تَسْبِيحَة
وَقَالَ سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول مَا نزعت ثوبى للْفراش مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة
وَقَالَ الْجُنَيْد سألنى سرى السقطى مَا الشُّكْر فَقلت أَن لَا يستعان بِنِعْمَة على مَعَاصيه
فَقَالَ هُوَ ذَاك
وَقَالَ الخلدى رَأَيْت الْجُنَيْد فى النّوم فَقلت مَا فعل الله بك قَالَ طلعت تِلْكَ الإشارات وَغَابَتْ تِلْكَ الْعبارَات وفنيت تِلْكَ الْعُلُوم ونفذت تِلْكَ الرسوم وَمَا نفعنا إِلَّا ركيعات كُنَّا نركعها فى الأسحار
مَاتَ لَيْلَة النيروز وَدفن من الْغَد فى سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين.