محمد عبده
1266 - 1323ه.
كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مقدمة العلماء الذين اصطفاهم المغفور له أحمد تيمور باشا لتلقي العلم والمعرفة عنهم، وقد سجل التاريخ أن الإمام محمد عبده كان يتخذ من دار تیمور «باشا» في درب سعادة ندوة يلقي فيها دروسه على صفوة من العلماء والأدباء النابهين وغيرهم.
وقد عثرت لجنة نشر المؤلفات التيمورية بين مخلفات المغفور له أحمد تيمور «باشا» على جذاذات عدة تضمنت الكثير من سيرة الإمام وأعماله، رأت نشر موجزها التالي في هذا الكتاب.
ولد الإمام محمد عبده ونشأ في قرية صغيرة بعيدة عن المدائن، وهي قرية محلة نصر بمركز شبراخيت بالبحيرة.
وكان والده من أهل الطبائع السليمة والأخلاق القويمة، أما أمه فكانت من قرية حصة شبشير» بمركز طنطا، تنتمي إلى بيت من بيوتها المعروفة يعرف ببيت آل عثمان.
وفي سنة 1279ه/1862م ذهب إلى الجامع الأحمدي بطنطا ليجود القرآن، وكان هناك أخوه لأمه الشيخ مجاهد الذي يقال إنه كان قارئا مجيدا وصل إلى أن صار شيخا للمقارئ بطنطا.
أتم الشيخ فنون التجويد في نحو سنتين على الوجه الأكمل، ولم تنفر فطرته السليمة من أساليب هذا التعليم في الجامع الأحمدي المشهور بتعليم القرآن وفنون القراءات منذ زمان، وكان رحمه الله من أحفظ الناس للقرآن، وأجودهم في تلاوته نغمة، وأحسنهم ترتيلا.
وفي سنة 1281ه / 1864م جلس في دروس العلم في المسجد الأحمدي. قال الأستاذ في الترجمة التي كتبها لنفسه: «وقضيت سنة ونصفا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فأدركني اليأس من النجاح، وهربت من الدرس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر علي أخي وأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيت وقلت له: قد أيقنت ألا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق علي إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدل بتغلبي عليه، وأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع ورجعت إلى محلة نصر على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة 1282ه/ 1865م على هذه النية.»
إذ اتصل بالشيخ درويش خضر أحد أخوال أبيه، وهو رجل سبقت له أسفار إلى صحراء ليبيا، ووصل إلى طرابلس الغرب، وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ ظافر، وتعلم عنه شيئا من العلم، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ بعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته واشتغل بالزراعة.
ووصف الأستاذ الأثر الذي وجده في نفسه من صحبة الشيخ درويش خضر، فقال:
«رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير العالم الذي كنت أعهده، واتسع لي ما كان ضيقا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا، وتفرقت عني هموم النفس، إلا ها واحدا، هو أن أكون كامل المعرفة، كامل أدب النفس»
ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصرفه إلى الأزهر في شوال سنة 1282ه فبراير سنة 1866م قبل ست سنوات من وضع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أول قانون للتدريس فيه، وأراد الجيل العلمي الجديد في ذلك العهد أن يعرب كتبا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان فرنسي، ولم يجد من المصطلحات القديمة متسعا، فوضع عبارات محدثة، وأوجد أسلوبا جديدا لم يرض عنه الأزهريون، ومنذ يومئذ دخل إلى الأزهر التنازع بين القديم والجديد.
كان الأستاذ متصوفا مدة الدراسة مع شيوخه وزملائه، متصوفا في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيره بنوع من الخيال الصوفي الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانا.
ولما حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني في سنة 1288ه/ 1871م صاحبه الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ يحضر دروسه، ويلازم مجالسه التي كانت مجالس حكمة وعلم، وكان يومئذ فتى متأثرة عواطف قلبه الفتي بمنازع التصوف، ورياضاته ومواجده، وكان يتلقى علوم الأزهر على أنماطها المعروفة، شاعرا بأن وراءها كمالا علميا لا يجده فيما حوله. وكان السيد الأفغاني وحده قادرا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي؛
وفي سنة 1292ه/ 1875م ألف الشيخ محمد عبده حاشيته على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية، ولم يكن يومئذ قد جاوز السادسة والعشرين من عمره.
وفي سنة 1294ه/1877م نال الشيخ محمد عبده الشهادة العالمية الأزهرية من الدرجة الثانية وهو ابن ثمان وعشرين سنة.
وأخذ يدرس كتب المنطق والكلام المشوب بالفلسفة في الجامع الأزهر.
ثم تعرض الأستاذ النوع من الإصلاح الديني، شغف به في أدوار حياته الإصلاحية كلها ذلك هو تطهير الإسلام من البدع التي شوهت شعائره وجنت عليه، وهذه المقالات تجمع مبادئه الوطنية، ومذاهبه في الحرية، وطريقه في الإصلاح.
ولست بقين من المحرم سنة 1317ه/3 يونيه 1899م عين مفتيا للديار المصرية، وفي هذه السنة عينها جعلته الحكومة عضوا في مجلس شورى القوانين.
كان عند الأستاذ ميل إلى تعلم لغة أجنبية، فلم تدع له الحوادث متسعا، لكن تعلم لغة أجنبية كان أمنية من أمانيه لم تزل تعالجها همه الكبيرة حتى بلغتها، تعلم اللغة الفرنسية بعد أن عاد إلى مصر واشتغل بالقضاء، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وأحكمها قراءة وكتابة وحديثا، كما ذكره أكثر من ترجموا له، وكان رحمه الله يقول: «من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوروبية فلا يعد عالما في هذا العصر.»
مقتطفات من كتاب: أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، تأليف: أحمد تيمور باشا.
مفتي الديار المصرية: الفيلسوف الكبير الأستاذ الإمام الشيخ محمد بن عبده الغرابلي ابن المرحوم خير الله أفندي الكردي الحنفي، من آل التركماني
ولد في محلة نصر، التابعة لمركز شبراخيت، بمحافظة البحيرة، سنة 1266ه، الموافق سنة 1849م، وأحب في صباه الفروسية والرماية والسباحة، وتعلم بالجامع الأحمدي بطنطا، ثم التحق بالجامع الأزهر الشريف، ودرس على شيوخه، ومن شيوخه العلامة الشيخ إسماعيل الحامدي، حضر عليه مذهب الإمام مالك كاملا، والمطول للعلامة السعد، وجمع الجوامع
وحصل على العالمية سنة 1294ه.، الموافق سنة 1877م، وكان قبل حصوله على شهادة التدريس يدرس الطائفة من الطلبة كتاب إيساغوجي وشرح العقائد النسفية ومقولات السجاعي بحاشية العطار، فسعى بعض الطلاب بالوقيعة بينه وبين الإمام الشيخ عليش.
ثم استقرت دروسه في الأزهر وكان من تلامذته فيها، حفني ناصف، ثم عين أواخر سنة 1295ه مدرسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم ومدرسا للعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيها مع الاستمرار على التدريس في الأزهر.
ثم اشتغل سنة 1303 ه- بالتدريس في مدارس جمعية المقاصد الخيرية، وكان يشتغل هناك بتدریس التوحيد والمنطق والمعاني والفقه الحنفي من مجلة الأحكام العدلية، ثم صار يدرس لهم قسما من إشارات ابن سينا، وتهذیب المنطق، ونهج البلاغة وديوان الحماسة.
ثم عين مفتيا للديار المصرية سنة 1317ه، الموافق سنة 1899م، واستمر إلى أن توفي بالاسكندرية، إلا أنه استقال من الإفتاء قبل وفاته بأيام، ودفن في القاهرة.
وله من المؤلفات: (تفسير القرآن الكريم) لم يتمه، و( الرد على هانونو)، و(رسالة الواردات) صغيرة، في الفلسفة والتصوف، و(حاشية على شرح الدواني للعقائد العضدية)، و(شرح نهج البلاغة)،و(شرح مقامات البديع الهمذاني) و(الإسلام والرد على منتقديه) من مقالاته، و(الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) كالسابق، و (الثورة العرابية) لم يتمه، وترجم رسالة (الرد على الدهریین).
أنظر كامل الترجمة في كتاب : جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين للشيخ أسامة الأزهري.
الشيخ محمد عبده
(1266 - 1323 هـ = 1849 - 1905 م)
محمد عبده بن حسن خير الله، من آل التركماني:
مفتي الديار المصرية، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد في الإسلام. قال أحد من كتبوا عنه: (تتلخص رسالة حياته في أمرين: الدعوة إلى تحرير الفكر من قيد التقليد، ثم التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة) . ولد في شنرا (من قرى الغربية بمصر) ونشأ في محلة نصر (بالبحيرة) وأحب في صباه الفروسية والرماية والسباحة. وتعلم بالجامع الأحمدي. بطنطا، ثم بالأزهر. وتصوف وتفلسف. وعمل في التعليم، وكتب في الصحف ولا سيما جريدة (الوقائع المصرية) وقد تولى تحريرها. وأجاد اللغة الفرنسية بعد الأربعين. ولما احتل الإنكليز مصر ناوأهم. وشارك في مناصرة الثورة العرابية، فسجن 3 أشهر للتحقيق، ونفي إلى بلاد الشام، سنة 1299 هـ (1881) وسافر إلى باريس فأصدر مع صديقه وأستاذه جمال الدين الأفغاني جريدة (العروة الوثقى) وعاد إلى بيروت فاشتغل بالتدريس والتأليف. وسمح له بدخول مصر، فعاد سنة 1306 هـ (1888) وتولى منصب القضاء، ثم جعل مستشارا في محكمة الاستئناف، فمفتيا للديار المصرية (سنة 1317 هـ واستمر إلى أن توفي بالإسكندرية، ودفن في القاهرة.
له (تفسير القرآن الكريم - ط) لم يتمه، و (رسالة التوحيد - ط) و (الرد على هانوتو - ط) و (رسالة الواردات - ط) صغيرة، في الفلسفة والتصوف، و (حاشية على شرح الدواني للعقائد العضدية - ط) و (شرح نهج البلاغة - ط) و (شرح مقامات البديع الهمذاني - ط) و (الإسلام والرد على منتقديه - ط) من مقالاته، و (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية - ط) كالسابق، و (الثورة العرابية) لم يتمه. وترجم رسالة (الرد على الدهريين - ط) وللسيد محمد رشيد رضا كتاب جمع فيه آثاره وأخباره وما قيل في رثائه سماه (تاريخ الأستاذ الإمام - ط) في ثلاثة أجزاء كبيرة. ولعثمان أمين، كتاب (محمد عبده - ط) ومثله لأحمد الشايب، وللشيخ مصطفى عبد الرازق (سيرة الإمام الشيخ محمد عبده - ط) ولعبد المنعم حمادة (الأستاذ الإمام محمد عبده- ط) .
-الاعلام للزركلي-
الشيخ محمد عبده
(١) ترجمة حياته
(١-١) نشأته الأولى
نشأ الفقيد في قرية صغيرة (محلة نصر) من أبوين فقيرين، فلم يمنعه ذلك من الارتقاء بجدِّه واستعداده حتى بلغ منصب الإفتاء وأصبح علمًا في الشرق وقطبًا من أقطاب الدهر سينقش اسمه على صفحات الأيام، ويبقى ذكره ما بقي الإسلام.
شكل ٣٧-١: الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية (وُلد سنة ١٢٥٨ وتُوفِّي سنة ١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م).
وُلد عام ١٢٥٨ﻫ وأبوه يتعاطى الفلاحة، وقد أدخل فيها أولاده إلَّا محمدًا؛ لأنه توسم فيه الذكاء فأراد أن يجعله من الفقهاء، فأدخله كُتَّاب القرية تردد إليه حينًا، ثم أرسله إلى الجامع الأحمدي في طنطا أقام فيه ثلاث سنوات، ثم نقله إلى الجامع الأزهر فقضى فيه عامين لم يستفد فيهما شيئًا، وهو ينسب ذلك بالأكثر إلى فساد طريقة التعليم.
ثم انتبه لنفسه ولم يرَ بُدًّا من تلقي العلم، فاستنبط لنفسه أسلوبًا في المطالعة، وأعمل فكرته في تفهم ما يقرؤه، فاستلذَّ العلم واستغرق في طلبه فأحرز منه جانبًا كبيرًا على ما يستطاع إدراكه بتلك الطريقة.
واتفق أن ورد على مصر سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م السيد جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام، وصاحب الترجمة لا يزال في الأزهر وقد أدرك الثلاثين من عمره، وتولى جمال الدين تعليم المنطق والفلسفة فانخرط الفقيد في سلك تلامذته مع جماعة من نوابغ المصريين تخرجوا على جمال الدين، فخرجوا لا يُشقُّ لهم غبار كأنَّ الرجل نفخ فيهم من روحه، ففتحوا أعينهم وإذا هم في ظلمة وقد جاءهم النور، فاقتبسوا منه — فضلًا عن العلم والفلسفة — روحًا حيةً أرَتهم حالهم كما هي؛ إذ تمزقت عن عقولهم حُجب الأوهام فنشطوا للعمل في الكتابة، فأنشئوا الفصول الأدبية والحكمية والدينية، وكان صاحب الترجمة ألصق الجميع به، وأقربهم إلى طبعه، وأقدرهم على مباراته، فلما قضي على جمال الدين بالإبعاد من هذه الديار، قال يوم وداعه لبعض خاصته: «قد تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفي به لمصر عالمًا.»
وتقلب الفقيد في بعض المناصب العلمية بين تدريس في المدارس الأميرية، وتحرير في الوقائع المصرية، وكتابة في الدوائر الرسمية. حتى كانت الحوادث العرابية فحمله أصحابها على السير معهم وهو ينصح لهم أن لا يفعلوا وينذرهم بسوء العاقبة. ولما استفحل أمر العرابيين اختلط الحابل بالنابل، وسيق الناس بتيار الثورة وهم لا يعلمون مصيرهم، فدخل الإنكليز مصر والشيخ محمد عبده في جملة الذين قُبض عليهم وحوكموا، فحُكم عليه بالنفي؛ لأنه أفتى بعزل توفيق باشا الخديوي السابق، فاختار الإقامة في سوريا فرحب به السوريون، وأُعجبوا بعلمه وفضله، فأقام هناك ست سنوات، فاغتنموا إقامته بينهم، وعهدوا إليه بالتدريس في بعض مدارسهم.
وانتقل من سوريا إلى باريس فالتقى فيها بأستاذه وصديقه جمال الدين، وكانا قد تواعدا على اللقاء هناك، فأنشآ جريدة العروة الوثقى وكتابتها منوطة بالشيخ، فكانت لها رنة شديدة في العالم الإسلامي، ولكنها لم تعش طويلًا، وتمكَّن الشيخ في أثناء إقامته بباريس من الاطلاع على أحوال التمدن الحديث، وقرأ اللغة الفرنساوية على نفسه حتى أصبح قادرًا على المطالعة فيها، ثم سعى بعضهم في إصدار العفو عنه فعاد إلى مصر، فولَّاه الخديوي السابق القضاء، وظهرت مناقبه ومواهبه فعُيِّن مستشارًا في محكمة الاستئناف، وسمِّي عضوًا في مجلس إدارة الأزهر، وعُيِّن أخيرًا مفتيًا للديار المصرية سنة ١٣١٧ﻫ وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في ١١ يوليو ١٩٠٥ ولم يعقب ذكرًا يبقي به اسمه، ولكنه خلف آثارًا يخلد بها ذكره.
(٢) مناقبه وأعماله
كان ربع القامة، أسمر اللون، قوي البنية، حاد النظر، فصيح اللسان، قوي العارضة، متوقد الفؤاد، بليغ العبارة، حاضر الذهن، سريع الخاطر، قوي الحافظة، وقد ساعده على إحراز ما أحرزه من العلوم الكثيرة الدينية والعقلية والفلسفية والمنطقية والطبيعية، وتلقى اللغة الفرنساوية وهو في حدود الكهولة في بضعة أشهر، وكان شديد الغيرة على وطنه حريصًا على رفع شأن ملَّته، وذاع ذلك عنه في العالم الإسلامي، فكاتبه المسلمون من أربعة أقطار المسكونة يستفتونه ويستفيدون من علمه، وهو لا يردُّ طالبًا ولا يقصِّر في واجب.
ناهيك بما عهد إليه من المشروعات الوطنية، فقد كان القوم لا يُقْدِمون على عمل كبير إلا رأَّسوه عليه أو استشاروه فيه، فرأس الجمعية الخيرية الإسلامية، وألَّف شركة طبع الكتب العربية، وشارك مجلس شورى القوانين في مباحثه، وآخر ما عُهد إليه تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، فضلًا عما اشتغل فيه من التأليف والتصنيف، وما كان يُستشار فيه من الأمور الهامة في القضاء أو الإدارة بالمصالح العامة والخاصة، وبالجملة فقد كان كنز فوائد للقريب والبعيد بين إفتاء ومشورة، وإحسان وكتابة، ومداولة ووعظ، وخطابة ومباحثة، ومناظرة واستنهاض، وتحريض وتنشيط، وغير ذلك.
(٣) إصلاح الإسلام
على أن عظمته الحقيقية لا تتوقف على ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية، وإنما هي تقوم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدى لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعة قليلة، وهذا ما أردنا بسطه على الخصوص في هذه العجالة.
(٣-١) العظمة الحقيقية
تختلف العظمة شكلًا وأثرًا باختلاف السبيل الذي يسعى صاحبها فيه أو الغرض الذي يرمي إليه، فمنهم العظيم في السياسة أو الحرب أو العلم أو الدين، ومن العظماء من يوفق إلى إتمام عمله، ومنهم من يرجع بصفقة الخاسر من نصف الطريق أو ربعه أو عشره، على أن أكثر العظماء إنما يأتون العظائم لمجرد الرغبة في الشهرة الواسعة، ويغلب أن يكون ذلك في رجال الحرب، وهؤلاء تنحصر ثمار أعمالهم في أنفسهم أو أهلهم أو أمتهم، على أنهم لا يستطيعون نفعًا لأنفسهم إلا بضر الآخرين، اعتبر ذلك في سِير كبار الفاتحين كالإسكندر وبونابرت وغيرهما، فكم سفكوا في سبيل عظمتهم من الدماء أو ارتكبوا من المحرمات، وكان النفع عائدًا على أنفسهم أو أمتهم ولم يطل مكثه فيهم إلا قليلًا.
وأما رجال العلم فعظمتهم تقوم بما ينيرون به الأذهان من الأصول العلمية، أو يكتشفونه من أسباب الأمراض والوقاية منها، أو يضعونه من النظامات والقوانين أو غير ذلك، ونفعهم يشمل القريب والبعيد، الرفيع والوضيع، ولا يسفكون في سبيل نشره دمًا ولا يرتكبون محرمًا، وهو باقٍ ما بقي الإنسان وينمو بنموِّ المدنية.
وأما رجال الدين ومن جرى مجراهم من واضعي الشرائع والأحكام فتأثيرهم أوسع دائرة وأعمُّ شمولًا؛ لأنه يتناول البشر على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، وعليهم يتوقف نظام الاجتماع وآدابه وأخلاق الناس وعاداتهم وعلائقهم بعضهم ببعض، وعلماء الدين فئتان:
الفئة الأولى: واضعوا الشرائع كالأنبياء أو من في معناهم ممن ينسبون أعمالهم إلى ما وراء الطبيعة.
والفئة الثانية: المصلحون الذين يُصلحون الدين بعد فساده؛ لأن الدين إذا مرَّ عليه بضعة قرون فسد وتغيَّر شكله وانقلب وضعه تبعًا لمطامع الذين يتولون شئونه، فتفسد الأمة وينحط شأنها حتى يقوم من يصلحه ويعيده إلى رونقه.
ووضع الأديان عمل شاقٌّ قلَّ من يفوز به، والإصلاح الديني لا يقلُّ مشقة عنه، وربما كان إدخال دين جديد أيسر من إصلاح دين قديم؛ فالديانة المسيحية لم تكلف البشر في قيامها من الدماء أكثر مما كلفتهم في إصلاحها، على أن ما يضيعه رجال الدين في نشره من الدماء، يعوضونه بسرعة انتشاره؛ اعتبر ذلك في الفرق بين النصرانية والإسلام في قيامهما، ويقال نحو ذلك في الإصلاح؛ فقد طلبه وسعى فيه غير واحد من رجال النصرانية، فلم يتفق منهم إلى إصلاح كبير غير لوثير؛ لأن أهل السياسة نصروه، ولا بد من استعداد الأذهان لقبول الإصلاح وتهيئة الأسباب الأخرى، فكم نهض من المصلحين بالسيف فغلبوا على أمورهم وذهب سعيهم عبثًا، وأقربهم عهدًا منَّا صاحب مذهب الوهابية في نجد؛ فقد استفحل أمره في أوائل القرن الماضي، وأراد في الإسلام نحو ما أراده لوثير في النصرانية فلم يوفَّق إلى غرضه؛ لأن الجنود المصرية غلبته وفلَّت عزيمته. أما المصلحون بالموعظة الحسنة والتعليم فعملهم بطيءٌ، ولكنه أرسخ في الأذهان، وأصبر على كوارث الحدثان، والشيخ محمد عبده واحد منهم.
(٣-٢) هو وجمال الدين
نشأ الشيخ المفتي نيِّر البصيرة، حرَّ الضمير، ورُبِّي في الإسلام وتعلم علومه، فشبَّ غيورًا عليه، ثم اطلع على علوم الأمم الراقية من أهل هذا التمدن، ودرس تاريخ الاجتماع ونواميس العمران، فرأى الإسلام في حاجة إلى نهضة ترفع شأنه وتجمع كلمته، واتفق اجتماعه بالسيد جمال الدين الأفغاني، فأخذ عنه الفلسفة والمنطق والحكمة المشرقية، وكان جمال الدين غيورًا على الإسلام راغبًا في جمع كلمته ورفع شأنه، فتوافقا في الغاية، ولكنهما اختلفا في الوسيلة؛ لأن جمال الدين سعى في ذلك من طريق السياسة، فأراد جمع شتات المسلمين في أربعة أقطار العالم تحت ظل دولة إسلامية واحدة، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبًا، وإنما جعل همَّه السعي إلى تلك الغاية فلم يوفَّق إلى غرضه لأسباب عمرانية طبيعية لا محل لذكرها. وكان الشيخ محمد عبده رفيقه في كثير من مساعيه، واطَّلع على دخائل أموره، وعرف أسباب حبوطه، فعلم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة لا يتيسر الوصول إليه، فسعى فيه من طريق العلم، فجعل همَّه رفع منار الإسلام، وجمع كلمة المسلمين بالتعليم والتهذيب وتقريبهم من أسباب المدنية الحديثة؛ ليستطيعوا مجاراة الأمم الراقية في هذا العصر، ورأى ذلك لا يتأتَّى إلا بتنقية الدين مما اعتوره من الشوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغلُّب الدول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتها، كما أصاب النصرانية في القرون المتوسطة؛ إذ تمسك الناس بالعرض وتركوا الجوهر، واستغرقوا في الأوهام ونبذوا الحقائق، والسبيل الوحيد لمغالبة الأوهام والخرافات إنما هو العلم الصحيح على ما بلغ إليه في هذا العهد، وعلم الفقيد رحمه الله أن محور العلوم الإسلامية اليوم مصر، ومركز العلم بمصر أو في العالم الإسلامي كافة «الجامع الأزهر» فرأى أنه إذا أصلح الأزهر فقد أصلح الإسلام، فسعى جهده في ذلك فاعترضه أناسٌ من أهل المراتب يفضلون بقاء القديم على قدمه، واستنصروا العامة عليه، وغرسوا في أذهانهم أن المفتي ذاهب بالمسلمين إلى مهاوي الضلال والبدع، فلم يهمه قولهم؛ لعلمه أن ذلك نصيب أمثاله من قديم الزمان، على أنه لم ينجح في إصلاح الأزهر إلَّا قليلًا، ولكنه وضع الأساس، ولا بدَّ من رجوع الأمة إلى تأييد هذه النهضة ولو بعد حين، فيكون الفضل له في تأسيسها.
على أن الجانب الأعظم من علماء المسلمين وخاصتهم يرون رأيه في إصلاح الدين ورجاله، وبما سبقه كثيرون منهم إلى الشعور بحاجة الإسلام إلى ذلك، ولا سيما المتخرجين بالعلوم العصرية من الناشئة المصرية، ولكنهم لم يجسروا على التصريح بأفكارهم في غير المجتمعات الخصوصية؛ لئلَّا ينسبهم الناس إلى المروق من الدين، فلما جاهر محمد عبده برأيه، وافقوه وصاروا من مريديه، ونصروه بألسنتهم وأقلامهم؛ فحاجة الإسلام إلى الإصلاح ليس هو أول من انتبه إليها، ولكنه أول من جاهر بها، كما أن لوثير المصلح المسيحي ليس أول من انتبه لحاجة النصرانية إلى الإصلاح، ولكنه أول من جاهد في سبيلها، وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته. وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده، وإنما حمله على تلك المجاهرة حرية ضميره، وجسارته الأدبية، ومنصبه الرفيع في الإفتاء.
(٣-٣) الإسلام والمدنية
فلما صرح الشيخ محمد عبده بحاجة الإسلام إلى الإصلاح، انقسم المسلمون إلى فئتين: فئة ترى بقاء القديم على قدمه، وهم حزب المحافظين، وفئة ترى حلَّ القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر، والرجوع إلى الصحيح من قواعد الدين، ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الدخيلة، وكان رحمه الله زعيم هذه الفئة يناضل عن مبادئها بلسانه وقلمه وبكل جارحة من جوارحه، وكانت مساعيه من هذا القبيل ترمي إلى غرضين رئيسيين: الأول تنقية الدين الإسلامي من الشوائب التي طرأت عليه، والثاني تقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميًّا وصناعيًّا وتجاريًّا وسياسيًّا، فأهل العصبية الإسلامية يرون هذا التقريب مغايرًا لما يرجونه من استقلال المسلمين بالجامعة السياسية؛ لأن مجاراة أهل التمدن الحديث بأسباب مدنيتهم وتسهيل الاختلاط بهم يُضعف عصبية الإسلام على زعمهم، ويبعث على تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولة واحدة. ولكن الشيخ المفتي كان يرى ذلك الاجتماع السياسي مستحيلًا في هذه الحال، فلم يشأ أن يضيع وقته سدًى كما أضاعه أستاذه وصديقه جمال الدين، وأن يخسر فائدة تقرُّب المسلمين من أسباب هذا التمدن، فسعى في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا، والموقوذة، ولبس القبعة، ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة.
(٣-٤) تنقية الدين
وأما تنقية الدين الإسلامي من الشوائب الطارئة عليه فأساس سعيه فيها أنه أطلق فكرة الحرية في تفسير القرآن، ولم يتقيد بما قاله القدماء أو وضعوه من القواعد التي يحرم الأئمة تبديل شيء منها، فرأى أن يحلَّ نفسه من هذه القيود، ويفسر القرآن على ما يوافق روح هذا العصر، فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني على المشاهدة والاختبار، ولنواميس العمران على ما بلغ إليه هذا العلم إلى الآن مع مطابقته لأحكام العقل وأصول الدين، كما فعل النصارى في تفسير الكتاب المقدس بعد ثبوت مذاهب العلم الجديد، وهو أوعر مسلكًا في الإسلام لارتباط الدين بالسياسة فيه، والقرآن أساس الدين والدنيا عندهم فيعلقون على تفسيره أهمية كبرى؛ لأنه مرجع الفقه وغيره من الأحكام الشرعية والسياسية؛ ولذلك رأى أهل السنة تقييده بأقوال الأئمة الأربعة، وخالفهم الشيعة باستبقاء باب الاجتهاد مفتوحًا، فلا يرون بأسًا في العدول عن تفسير إلى آخر بشروط يشترطونها في مفسريهم، وهم يعرفون عندهم بالأئمة المجتهدين.
(٣-٥) التفسير
وقد توالى على تفسير القرآن أحوال تختلف باختلاف العصور من الإسلام إلى الآن ترجع إلى أربعة أعصر:
الأول العصر الشفاهي: وهو ينحصر في أيام النبي وأصحابه، فقد كانوا عند ظهور الدعوة كلما تُليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت القرائن تسهِّل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي فيفسره لهم، وكان التفسير مختصرًا بسيطًا لسذاجة الدولة الإسلامية يومئذٍ.
ثانيًا العصر التقليدي: ونريد به عصر التابعين أو حواليه، وكانت الدولة الإسلامية قد أخذت في النمو والارتقاء فاحتاجوا إلى التوسع في التفسير، وكان أكثرهم أميين فإذا أعجزهم تفسير بعض الآيات سألوا عنها من أسلم من أهل الكتاب، ولا سيما اليهود المقيمين في اليمن، وكانوا قد أسلموا وظلوا على ما كان عندهم من التقاليد المتناقلة شفاهًا أو كتابة مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية.
ثالثًا العصر الفلسفي المنطقي: ونريد به تدوين التفسير وضبطه بالقياس الفلسفي والحكم المنطقي بعد أن اختلط المسلمون بأهل العلم القديم في الشام والعراق وفارس واطلعوا على علوم القدماء وفلسفة اليونان والهند، ونقلوا ذلك إلى لسانهم واستخرجوا منه علم الكلام، وكان العرب قد وضعوا العلوم اللسانية، وضبطوا معاني الألفاظ، وأساليب التعبير، فنظروا في التفاسير السابقة نظر الناقد ومحَّصوها وضبطوها بالقياس العقلي بالاعتماد على قواعد المنطق بما تقتضيه الفلسفة اليونانية القديمة على نحو ما فعله لاهوتيُّو النصارى قبل ذلك.
رابعًا العصر العلمي: الذي نحن فيه، وهو عصر الفلسفة الجديدة المبنية على العلم الطبيعي الثابت بالمشاهدة والاختبار، ويمتاز عن العصر السابق بإطلاق حرية الفكر من قيود التقليد القديمة التي أغلَّت ألسنة أسلافنا وأقلامهم، وأوقفت مجاري التمدن أجيالًا متطاولة. فالشيخ المفتي رحمه الله أراد أن ينقل التفسير إلى روح هذا العصر فيفسر القرآن بما يطابق أحكام العقل، ويحل الإسلام من قيود التقليد، فسار في هذا الطريق شوطًا بعيدًا فألقى على طلبة الأزهر خطبًا كثيرة في التفسير، نشرت في مجلة المنار وطُبع بعضها على حدة، وكان لها تأثير حسن في نفوس العقلاء، ولو مدَّ الله في أجله لأتم هذا العمل، ولكنه قضى آسفًا خائفًا ولسان حاله يردد هذين البيتين — وقد قيل إنهما من قصيدة نظمها في أثناء مرضه — وهما:
ولست أبالي أن يقال محمدٌ أبلَّ أو اكتظَّت عليه المآتم
ولكن دينًا قد أردت صلاحه أحاذر أن تقضي عليه العمائم
على أنه خلف جماعة من تلامذته ومريديه أكثرهم من أهل العلم وأرباب الأقلام، وفيهم نخبة كتَّاب المسلمين وشعرائهم في هذا العصر، وأكثرهم مجاهرة بنصرته وإذاعة لآرائه رصيفنا السيد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي.
والشيخ محمد عبده زعيم نهضةٍ إصلاحية لا خوف منها على الدماء أو الأرواح، وأكثر نهضات الأمم في سبيل إصلاحها لا تخلو من إهراق الدماء، فهو رجل عظيم يجدر بالمسلمين أن يبكوه، وأن يقتفوا آثاره في التوفيق بين الإسلام والمدنية الحاضرة، وتنقيته مما ألمَّ به بتوالي الأزمان، وذلك ميسور لمن أطلق فكره من قيود التقليد، واسترشد بما يهديه إليه العقل الصحيح بالإسناد إلى العلم الصحيح. على أننا نرجو أن لا تعدم هذه النهضة من يخلف الإمام الفقيد في الانتصار لها والعمل بها، والله على كل شيء قدير.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/1 – ص: 321 – 329.
الإمام محمد عبده
(1849 ـ 1905م)
مولده ونشأته: هو محمد بن عبده خير الله، ولد في سنة 1266ﻫ و1849م في قرية محلة نصر بمركز شبرا خيت من أعمال البحيرة في مصر، وأمه هي السيدة جنينة، تعلم القراءة والكتابة في منزل والده، وحفظ القرآن الكريم في عامين ولما يتجاوز العاشرة من عمره، وتلقى علم النحو في مسجد طنطا، ثم عزم على العودة إلى قريته، وترك طلب العلم والعمل في الزراعة، إلا أن والده ألح عليه فأضمر الهرب واختفى عند أخواله، وتولاه الشيخ درويش أحد أخواله وكان على شيء من العلم، فما زال بالفتى حتى آنس به وانشرح صدره إلى العلم، وانقلبت في عشرته قيم الأشياء، فأصبح اللهو والزهو أبغض شيء إليه.
قرانه: اقترن وهو في السادسة عشرة من عمره، وبعد أربعين يوماً انقضت على زواجه أرسله أبوه إلى القاهرة ليأخذ العلم في الأزهر، فقرأ جميع الكتب المقررة في ثلاث سنين، ومضت سبع سنين، فأخذ الشيخ درويش يحثه على لقاء الناس ووعظهم بعد أن اكتمل علمه، وكان في نفسه أشياء من طريقة شيوخ الأزهر وشروحهم ومتونهم وحواشيهم رآها مما تضيع فيه الأعمار ولا ينتج عن تعليمها فائدة.
عاش الشيخ محمد عبده في بيئة علمية ضيق الصدر، مرير العيش، واصطدم بعاملين، هما عامل الحسد وعامل البيئة، ومن المحال أن يوجد رجل كالشيخ في صفاته وعلمه لا يحسد، ولولا المقاومة والحسد لما كان شيئاً يتحدث عنه، ولما كان رجلاً مخلداً في التاريخ.
حلقته الدراسية: كان يدرس التفسير في ليلتين من كل أسبوع، والبلاغة في الليالي الأخرى، وكان درس التفسير يزدحم بكل طبقات المثقفين، ويحضره جميع رجال النهضة وأركان البحث والتجديد في مصر، وكان يكره أن يقاطع بسؤال في أثناء انهماكه في الإلقاء؛ لأنه كان يرتب أفكاره بطريقته الخاصة.
وكان الأزهر يقوم على معسكرين ويضم طائفتين: طائفة المجددين، وهؤلاء كانوا يرحبون بكل ما يقوله الإمام، وطائفة المحافظين، وهؤلاء كانوا يحاربون له كل فكرة ويتقولون عليه الأقاويل.
كان الإمام يرفض أكثر الأسئلة، ويزجر أصحابها، فإذا تمادى طالب في الإلحاح بالسؤال؛ نادى بتابعه (غراب) فأمره بإخراجه من الحلقة، فانقض عليه هذا الغراب الأسحم فجرَّه جرًّا وعتله إلى الباب.
وكان يحيط بحلقته العلمية الشعراء أمثال حافظ إبراهيم، وإمام العبد، وعلي الجارم، والمنفلوطي، وغيرهم.
جمال الدين الأفغاني: بقي المترجم في هذه البيئة العلمية المنحطة مضطرب البال حتى وافى مصر الإمام جمال الدين الأفغاني سنة 1869م، فلازمه وتتلمذ له وهو في العشرين من عمره، وقرأ مختلف فروع الفلسفة والتصوف والتاريخ والسياسة والاجتماع.
وفي أواخر سنة 1878م عين مدرساً للتاريخ في دار العلوم، ومدرساً للغة العربية في مدرسة الألسن، وبعد قليل عزل عن التدريس في هاتين المدرستين، على أن يقيم في قرية لا يبرحها إلى الحواضر المصرية، وذلك لغضب الخديوي عليه.
في الصحافة: وفي سنة 1880م عفا عنه أمير البلاد، وعين محرراً لجريدة (الوقائع المصرية) الرسمية، وكان تلميذه الشاب سعد باشا زغلول يساعده فيها، وقد بلغت جهود الإمام وقتئذ ذروتها في نهضة الشعور الوطني العربي.
الثورة العرابية: وقد انتهى عهد تحريره لـ(لوقائع المصرية) بقيام الثورة العرابية، فقبض عليه، وصدر الأمر بنفيه من البلاد ثلاثة أعوام، فحضر إلى الشام، ثم غادرها إلى باريس، وأصدر مجلة (العروة الوثقى) مع أستاذه الإمام جمال الدين الأفغاني، وكانت مواضيع المجلة في محاربة الاستعمار والمستعمرين حتى ضاق صدرهم، فمنع الإنكليز دخولها إلى الهند ومصر والسودان، فلم تعش أكثر من ثمانية أشهر، وكانت مقالاتها أشبه بدساتير للأمة، ثم ذهب متنكراً من باريس إلى تونس فمصر، ثم عاد إلى بيروت سنة 1885م للتدريس في المدرسة السلطانية، ووضع برنامجاً لتعليم علوم التوحيد والمنطق والمعاني والإنشاء والتاريخ الإسلامي، وزار خلال ذلك بعض مدن الشام، وأفاض على كل من لقيه غرفة من علمه وبيانه، وزار إنكلترا حيث اجتمع بالفيلسوف الإنكليزي (هربرت سبنسر) وكان من المعجبين به، وقد ساعدته هذه الأسفار على توسيع دائرة تجاربه وألهمته حمية وطنية إصلاحية جديدة، حتى تحول من زعيم لقادة الفكر إلى رجل سياسي مفكر بثورة سياسية.
عودته إلى مصر: وعفى عنه أمير البلاد، فعاد إلى مصر، وعين قاضياً ثم مستشاراً، وقد دعا الأزهريين لتعلم اللغات الأجنبية وبدأ بنفسه، فتعلم اللغة الفرنسية وهو في الرابعة والأربعين من عمره، وتعلم الهجاء الفرنسي أثناء الثورة العرابية.
وقـد أقـام فـي فرنسـا عشـرة أشـهر لم يتعلم خلالها اللغة الفرنسية؛ لأنه كان لا يختلط بالفرنسيين ولا يجتمع بهم، ويقضي الوقت كله بين عمله في تحرير مجلة (العروة الوثقى) وبين السيد جمال الدين الأفغاني وزملائه من العرب.
ولما عاد من النفي إلى مصر عين قاضياً بالمحاكم الأهلية، وكانت الأحكام تصـدر بالاسـتناد للقانون الفرنسي، فرأى أن يعود إلى تعلم اللغة الفرنسية حتى لا يكون أضعف من زملائه القضاة في العلم بهذا القانون، فبحث عن مدرس للفرنسية، فلما أقبل الأستاذ في اليوم الأول وجده حاملاً كتاباً في الآجرومية الفرنسية، فقال له الإمام: (لا وقت عندي لأن ابتدئ، وإنما عندي زمن لأن أنتهي)، ثم قدم له قصة من تأليف الكسندر دوماس وقال له: (أنا أقرأ وأنت تصلح لي النطق وتفسر لي الكلام، وما عدا ذلك فهو علي، والنحو يأتي في أثناء العمل)، واستمر في هذه القصة حتى انتهى منها، فتناول كتاباً ثانياً وثالثاً على هذه الوتيرة، ثم سافر بعد ذلك إلى فرنسا وسويسرا عدة مرات أيام العطلة الصيفية، وكان يحضر دروس العطلة الصيفية في كلية جنيف، وبهذه الطريقة تعلم اللغة الفرنسية في أوقات الفراغ، مع اشتغاله بالقضاء في المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، ومع إجادته اللغة الفرنسية واستفادته منها كان يرى أنه لا غنى للسائح في البلدان الأوروبية عن تعلم غير لغة واحدة.
وكان يود ألا يدخل في سلك القضاء لرغبته في التعليم، وطلب أن يعود إلى التدريس في العلوم، فأبى الخديوي أن يجيبه إلى طلبه مخافة أن يلقن تلاميذه من أفكاره السياسية.
منصب الإفتاء: وفي سنة 1899م أسند إليه منصب الإفتاء في الديار المصرية، فأصبح بحكم منصبه الجديد عضواً في مجلس الأوقاف الأعلى الذي أنشأه عميد الاحتلال للحد من تصرفات الخديوي في أموال الأوقاف، وعين في الشهر الذي تولى فيه الإفتاء عضواً في مجلس الشورى، ولم يلبث أن ظهرت المشادة بين الإمام والخديوي.
كلمة أليمة: لقد طلب الخديوي توفيق استبدال مزرعته بأطيان من أملاك الأوقاف، فلم يوافق الأستاذ الإمام على الاستبدال، فكان ذلك من دواعي زيادة حنق الخديوي عليه، وفي هذه الأثناء أقبل أحد الأعياد القومية، وذهب الشيخ محمد عبده فيمن ذهب من الكبراء لتهنئة خديوي البلاد، فلما كان في المجلس قال الخديوي: (في البلاد أناس ليسوا راضين عن أعمالنا، فخير لهؤلاء أن يعودوا إلى بلادهم ليشتغلو فلاحين)، قال ذلك على مسمع محمد عبده، فأيقن أنه يعنيه على أثر هذه الحادثة، فخرج من القصر وذهب إلى منزله، وقد اشتد عليه المرض واعتكف فيه، ولكنه لم يألف الراحة، فأخذ يغالب الآلام ويعمل لوظيفته وللناس في فترات سكون الألم وهو على فراشه.
إصلاحاته العلمية: لم يكتف بحكم منصبه الديني بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية، بل توفر مع أصحابه على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وأصبح رئيسها من سنة 1900م إلى وفاته، فجمع لها من كرام المصريين أموالاً كثيرة، ووقف عليها مزارع وأراضي، وأنتجت ما كان يعقد عليها أمله من الخير في تربية أبناء الفقراء تربية حرة طاهرة.
مؤلفاته: أول تآليفه هو:
1 ـ الواردات.
2 ـ رسالة في وحدة الوجود.
3 ـ تاريخ إسماعيل (لم يطبع).
4 ـ فلسفة الاجتماع والتاريخ.
5 ـحاشية على عقائد الجلال الدواني.
6 ـ شرح نهج البلاغة.
7 ـ شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني.
8 ـ شرح البصائر النصيرية.
9 ـ نظام التربية والتعليم.
10 ـ رسالة التوحيد.
11 ـ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية.
12 ـ تفسير سورة العصر.
13 ـ تفسير جزء عم.
وأمتع تآليفه التي تجلى فيها علمه وبيانه هي (رسالة التوحيد)، هذا إلى تقريره في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية ودفاعه عن الإسلام.
ومن الغريب أن هذه الآثار التي أفادت المسلمين في الآفاق كانت سبباً في وفاته، فقد عظمت آثاره وأعماله الإصلاحية التي كان يتفانى فيها لخدمة دينه ووطنه، فزاد ذلك في حسد الحساد وغيظ الخصوم، فجعلوا يحاربونه في إصلاحاته بالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وزادهم تشجيعاً على محاربته أن أمير البلاد الخديوي توفيق في عهده كان ينتقم منه لعدم تمشيه مع أهوائه، فكان الإمام يحمل هذا بصبر وجلد، حتى إذا كان قبل وفاته بعام سافر إلى السودان، ثم عاد يشكو ألماً في جسمه لم يعرف كنهه، فأشير عليه بالراحة، ولم يكن من طبعه أن يركن للراحة ولو كان في مرضه، وكانت محاربة حساده وخصومه مازالت على أشدها، فأضعف ذلك من صحته وضاعف من آلامه.
أمراضه: كان يشكو من الآلام في المعدة والأمعاء، ثم انتقلت هذه الآلام إلى الكبد، واختلف الأطباء في مرضه، وأشاروا عليه بترك العمل والسفر إلى أوروبا، فتهيأ للسفر في شهر حزيران سنة 1905م، ولكن السفن الدورية كانت قد امتلأت بالمصطافين، فاضطر الى الانتظار إلى ما بعد الرابع عشر من الشهر المذكور، ومع اشتداد مرضه كان يذهب إلى دار الإفتاء ويزاول العمل ويقضي حاجات الناس، وينظر في أعمال الجمعية الخيرية ومجلس الشورى ومجلس الأوقاف الأعلى، ولما أعجزه المرض عن السير اضطر إلى الاعتكاف في سريره، ولم ينقطع عن الدرس والنظر في قضاء حاجات الناس، ودنا موعد الدور الثاني لسفر السفن إلى أوروبا، وكان قد استخرج جوازاً، ورأى الأطباء حالته وقد أنذرت بالخطر، فنصحوا أهله ومريديه بمنعه عن السفر، فمنعوه بحجة أن جسمه لا يقوى على مشقة السفر في البحر، وحببوا إليه الرياضة في الإسكندرية لتغيير الهواء، فوافق على ذلك وأعدت له داراً في رمل الإسكندرية.
دنو الخاتمة: واشتد عليه المرض وأخذ الكبراء والأمراء يترددون عليه واستسلم الإمام للقدر، وقال هذه الأبيات التي أملاها على الشيخ رشيد رضا قبل وفاته بأيام:
ولست أبالي أن يقال محمد | أبل أم اكتظت عليه المآتم |
ولكنه دين أردت صلاحه | أُحاذر أن تقضي عليه العمائم |
وللناس آمال يرجون نيلها | إذا مت ماتت واضمحلت عزائم |
فيارب إن قدرت رجعي قريبة | إلى عالم الأرواح وانقض خاتم |
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا | رشيداً يضيء النهج والليل قاتم |
يماثلني نطقاً وعلماً وحكمة | ويشبه مني السيف والسيف صارم |
أملى هذه الأبيات وقال: كأن الشعر لا يأتيني إلا في (السجن) و(المرض)، وهو يعني عن قصيدته التي قالها في السجن عقب الثورة العرابية، ومطلعها:
مجدي بمجد بلادي كنت أطلبه | وشيمة الحر تأبى خفض أهليه |
وكان خلال المرض واشتداد آلامه يردد كلمة (الله أكبر)، وهذه الكلمة هي آخر كلماته، وكأنه وقد تغلب على كثير من العقبات واجتاز كثيراً من الصعوبات، ورأى الغلبة على الموت أكبر من أن تزيل بعزيمته التي ذللت عظائم الأمور، ورأى للموت في تلك الساعة من جبروت وسلطان تصغر أمامه قوة الإنسان، فردد كلمة (الله أكبر).
وفي الساعة الخامسة من يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر تموز سنة 1905م، و8 جمادى الأولى سنة 1323هجرية انتقل إلى عالم الخلود في القاهرة، وشيع جثمانه في اليوم الثاني، ونقل على قطار خاص من الإسكندرية الى القاهرة باحتفال عزَّ نظيره، ودفن بمقبرة (العفيفي) وهي بين تلول المقطم، وكتب على رخامة قبره (هو الحي الباقي):
قد حططنا للمعالي مضجعا | ودفنّا الدين والدنيا معا |
كانت مدة حياته (57) عاماً، قضى أولها في التعليم، ووسطها في التعليم، وآخرها في إعلاء الدين ونفع المسلمين، وكان قصير القامة، أسمر اللون، ذا عينين شديدتي السواد.
وهكذا كانت حياة أعظم عبقري موهوب، سيبقى حيًّا خالداً بآثاره ومآثره، وبفضله وفضائله التي أغرت الناس بحبه، وأجبرت حساده على الاعتراف بمكانته، وقد تبارى الشعراء برثائه وتأبينه، وهذه مرثية الشاعر حافظ إبراهيم نقتطف منها بعض أبياتها:
سلام على الإسلام بعد محمد | سلام على أيامه النضرات |
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله | فأصبحت أخشى أن تطول حياتي |
فوالهفي والقبر بيني وبينه | على نظرة من تلكم النظرات |
أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الثاني – ص 443 -446.