محمد بن صفدر الحسيني جمال الدين
جمال الدين الأفغاني
تاريخ الولادة | 1254 هـ |
تاريخ الوفاة | 1314 هـ |
العمر | 60 سنة |
مكان الولادة | أفغانستان - أفغانستان |
مكان الوفاة | استانبول - تركيا |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
السيد جمال الدين بن السيد صفتر الأفغاني
قال تلميذه الشيخ محمد عبده المصري في ترجمة هذا الرجل الفاضل: الذي حملنا على ذكر شيء من سيرته ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله، والرجل في صفاء جوهره، وزكاء مخبره، لم يصبه وهم الواهمين، ولم يمسسه حزر الخراصين. وإنا نذكر مجملاً من خبره، نرويه عن كمال الخبرة، وطول العشرة.
هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان ينمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد، وتقيم في خطة كنر من أعمال كابل، تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام، ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين، يجلونها رعاية لحرمة نسبها الشريف، وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيه، وإنما سلب الإمارة من أيديها دوست محمد خان جد الأمير الحالي، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل.
ولد المترجم المذكور السيد جمال الدين في قرية أسعد آباد من قرى كنرسنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس للتعلم، وعني والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم، ولم يقف دون نهاياتها، تلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف، ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية رياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ومنها نظريات الطب والتشريح، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطريقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج وطالت مدة سفره إليها نحو سنة، وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة في سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، واكتنه أخلاقهم، وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء الفريضة إلى بلاده، ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان، ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه، سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة بعد معاناة الحصر زمناً طويلاً، وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة ثمانين ومائتين وألف، وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته خصوصاً من هو أكبر سناً منه ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة وألبوهم للفساد، طلباً للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من أخوة الأمير ثلاثة محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين، وهوى الشيخ جمال الدين كان مع محمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير، ومشورة الوزير، أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا إلى الولايات كل منهم ذهب إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه ليعتصم بمنعته فيها، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحروب الداخلية، وبعد مجالدات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن الأمير الحالي، وتغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسمياه أميراً على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، وارتفعت منزلة الشيخ جمال الدين عنده، فأحله محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به، فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، على خلاف ما تعوده أمراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين، لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته حمله على تفويض مهمات من الأعمال إلى أبنائه الأحداث، وهم خلو من التجربة عراة من الحنكة، فساق الطيش أحدهم وكان حاكماً في قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، ولم يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوانه، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجراءة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي، واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم، وكادوا ينهزمون لولا ما االتفت يعقوب خان قائد شير علي، فوجد ذلك الغر المتهور منقطعاً عن جيشه، فكر عليه وأخذه أسيراً، فتشتت جند قندهار، وقوي الأمل عند شير علي، فحمل على قندهار واستولى عليها، وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي، وبذلوا لها قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود، وجددت خيانات.
وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم، وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وعاد اليوم إلى بلاده وهو أميرها، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسأبير، وبقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسه الأمير بسوء، احتراماً لعشيرته وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدي خيراً له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران، كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم، وكان لم يمت، فارتحل على طريق الهند سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، ولما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في إجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء إلى مصر وأقام بها نحو أربعين يوماً، تردد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضاً منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة، فبعد أيام من وصولها أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي، لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه، فأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، فرغب إليه مدير دار الفنون تحسين أفندي أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوت باشا، وعلي شرواني زاده، وكان مشير الضابطية، وعلي دولتلو منيف باشا ناظر المعارف، وكان عضواً في مجلس المعارف، فاستحسنه كل مهم، وأطنب في مدحه، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب، تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جم غفير من رجال أهل الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب المعارف، وحضر في الجمع معظم الوزراء، وصعد الشيخ جمال الدين على منبر الخطابة، وألقى ما كان أعده، وأرسل حسن أفندي فهمي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به، وما كان يجدها لو طلب حقاً، ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، تؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن، فشبه الملك مثلاً بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة، والحدادة بالعضد، والزراعة بالكبد، والملاحة بالرجلين، ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضاف واف، ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة، ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب، يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطأ، والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه، وأن أحكام النبوات آتية على ما في علم الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فالأخذ بها من فروض الإيمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل، على شريطة أن لا تخالف الشرع الإلهي، هذا ما ذكره متعلقاً بالنبوة وهو منطبق على ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية، إلا أن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة، وهكذا تكون حجج طلاب العنت، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه وإثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الإسلام، وكيف يكون ذلك، واشتد في طلب المحاكمة وأخذت منه الحدة مبلغها، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه أن يلزم السكون ويغضي على الكريهة، وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف أثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة، فعظم الأمر، وآل إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، هذا مجمل أمره في الآستانة، وما ذكره سليم العنجوري في شرح شعره المسمى سحر هاروت مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. ثم مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها، حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة وظيفة ألف قرش مصري كل شهر نزلاً أكرمته به لا في مقابلة عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض دراً، وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم، ولم يذهب إلى الأزهر مدرساً ولا يوماً واحداً، نعم كان يذهب إليه زائراً، وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. فعظم أمر الرجل في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه، وأعجبوا بدينه وأدبه، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول، فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري وخيري باشا، ومحمد بك سد حمد علي ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية والفقهية، وما شاكل ذلك. ومن عشر سنوات نرى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر، وللحق مدابر، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلاً للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، أخذاً بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، على أن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، أما الثابتون في إيمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين، من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك إلا بصيرة في دينهم، وقوة في يقينهم. ولنا في أئمة الملة الإسلامية ألف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها الحالي توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم مستر قيفيان قنصل انكلتزا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه بريء منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبي تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبياب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان. مصري هو وتابعه أبي تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبياب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان.
أما مذهبه فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلداً لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله. أما مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره، وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله، فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعتها، وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها. وأما منزلته من العلم وغزارة المعارف، فليس يسهل على القلم حدها إلا بنوع من الإشارة إليها، وله سلطة قوية على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له. وله قوة في حل المعضلات كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها، ومهما ألقي إليه من موضوع، يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد، إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه، وكفاك شاهداً على ذلك أنه ما خاصم أحداً إلا خصمه، ولا جادله عالم إلا ألزمه، وقد اعترف له الأروبيون بذلك، بعد ما أقر له الشرقيون. وبالجملة فإني لو قلت ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة، هو من أقصى ما قدر لغير الأنبياء والمرسلين لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه، وكثيراً ما كان التعجل علة الحرمان، وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور عزيف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة، إلا أنه صار اليوم في رسوخ الأطواد، وثبات الأفناد، فخور بنسبه إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، لا يعد لنفسه مزية أرفع ولا عزاً أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر، وبالجملة ففضله كعلمه، والكمال لله وحده.
وأما خلقه فهو يمثل لناظره عربياً محضاً من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته، قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه، بقي علينا أن نذكر وصفاً لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله، وهو أنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات كالجلوس في المنتزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار، وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيداً من اللغو منزهاً من اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم، وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له.
هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني أتينا به دفعاً لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل، لأدى بنا إلى التطويل، والله عنده حسن الصواب، وإليه المرجع والمآب. ولم يزل يتقلب على فرش النعم إلى أن نشبت به أظفار النقم، فقاسى من الأمراض شدة، ومضى عليه وهو على حالته مدة، إلى أن استوفى منيته في خامس شوال عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر من هجرة سيد أهل الكمال، ودفن في الآستانة العلية في المقبرة المعروفة بمقبرة المشايخ، أسكنه الله الجنة، وأوسع له في دار الكرامة المنة.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
محمد بن صفدر الحسيني، جمال الدين:
فيلسوف الإسلام في عصره، وأحد الرجال الأفذاذ الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة. ولد في أسعد آباد (بأفغانستان) ونشأ بكابل. وتلقى العلوم العقلية والنقلية، وبرع في الرياضيات، وسافر إلى الهند، وحج (سنة 1273 هـ وعاد إلى وطنه، فأقام بكابل. وانتظم في سلك رجال الحكومة في عهد (دوست محمد خان) ثم رحل مارا بالهند ومصر، إلى الآستانة (سنة 1285) فجعل فيها من أعضاء مجلس المعارف. ونفي منها (سنة 1288) فقصد مصر، فنفخ فيها روح النهضة الإصلاحية، في الدين والسياسة، وتتلمذ له نابغة مصر الشيخ محمد عبده، وكثيرون. وأصدر أديب إسحاق، وهو من مريديه، جريدة (مصر) فكان جمال الدين يكتب فيها بتوقيع (مظهر بن وضاح) أما منشوراته بعد ذلك فكان توقيعه على بعضها (السيد الحسيني) أو (السيد) .
ونفته الحكومة المصرية (سنة 1296) فرحل إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس. وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) ورحل رحلات طويلة، فأقام في العاصمة الروسية (بطرسبرج) كما كانت تسمى، أربع سنوات، ومكث قليلا في ميونيخ (بألمانيا) حيث التقى بشاه إيران (ناصر الدين) ودعاه هذا إلى بلاده، فسافر إلى إيران. ثم ضيق عليه، فاعتكف في أحد المساجد سبعة أشهر، كان في خلالها يكتب إلى الصحف مبينا مساوئ الشاه، محرضا على خلعه. وخرج إلى أوربا، ونزل بلندن، فدعاه (السلطان عبد الحميد) إلى الآستانة، فذهب وقابله، وطلب منه السلطان أن يكف عن التعرض للشاه، فأطاع. وعلم السلطان بعد ذلك أنه قابل (عباس حلمي) الخديوي، فعاتبه قائلا: أتريد أن تجعلها عباسية؟ ومرض بعد هذا بالسرطان، في فكه، ويقال: دس له السم. وتوفي بالآستانة. ونقل رفاته إلى بلاد الأفغان سنة 1363 وكان عارفا باللغات العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكلم بالعربية فلغته الفصحى، واسع الاطلاع على العلوم القديمة والحديثة، كريم الأخلاق كبير العقل، لم يكثر من التصنيف اعتمادا على ما كان يبثه في نفوس العاملين وانصرافا إلى الدعوة بالسر والعلن.
له (تاريخ الأفغان - ط) و (رسالة الرد على الدهريين - ط) ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده. وجمع محمد باشا المخزومي كثيرا من آرائه في كتاب (خاطرات جمال الدين الأفغاني - ط) ولمحمد سلّام مدكور كتاب (جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق - ط) في سيرته .
-الاعلام للزركلي-