السيد جمال الدين بن السيد صفتر الأفغاني
قال تلميذه الشيخ محمد عبده المصري في ترجمة هذا الرجل الفاضل: الذي حملنا على ذكر شيء من سيرته ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله وتباين صوره في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله، والرجل في صفاء جوهره، وزكاء مخبره، لم يصبه وهم الواهمين، ولم يمسسه حزر الخراصين. وإنا نذكر مجملاً من خبره، نرويه عن كمال الخبرة، وطول العشرة.
هو من بيت عظيم في بلاد الأفغان ينمي نسبه إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وآل هذا البيت عشيرة وافرة العدد، وتقيم في خطة كنر من أعمال كابل، تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام، ولهذه العشيرة منزلة علية في قلوب الأفغانيين، يجلونها رعاية لحرمة نسبها الشريف، وكانت لها سيادة على جزء من الأراضي الأفغانية تستقل بالحكم فيه، وإنما سلب الإمارة من أيديها دوست محمد خان جد الأمير الحالي، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل.
ولد المترجم المذكور السيد جمال الدين في قرية أسعد آباد من قرى كنرسنة أربع وخمسين ومائتين وألف، وانتقل بانتقال أبيه إلى مدينة كابل، وفي السنة الثامنة من عمره أجلس للتعلم، وعني والده بتربيته فأيد العناية به قوة في فطرته، وإشراق في قريحته، وذكاء في مدركته، فأخذ من بدايات العلوم، ولم يقف دون نهاياتها، تلقى علوماً جمة برع في جميعها فمنها العلوم العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف، ومنها علوم عقلية من منطق وحكمة عملية رياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك، ومنها نظريات الطب والتشريح، أخذ جميع تلك الفنون عن أساتذة ماهرين، على الطريقة المعروفة في تلك البلاد، وعلى ما في الكتب الإسلامية المشهورة، واستكمل الغاية من دروسه في الثامنة عشرة من سنه، ثم عرض له سفر إلى البلاد الهندية، فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية الجديدة، وأتى بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج وطالت مدة سفره إليها نحو سنة، وهو ينتقل من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر حتى وافى مكة المكرمة في سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، واكتنه أخلاقهم، وأصاب من ذلك فوائد غزيرة، ثم رجع بعد أداء الفريضة إلى بلاده، ودخل في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان، ولما زحف الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه، سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة بعد معاناة الحصر زمناً طويلاً، وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة ثمانين ومائتين وألف، وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته خصوصاً من هو أكبر سناً منه ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة وألبوهم للفساد، طلباً للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من أخوة الأمير ثلاثة محمد أعظم ومحمد أسلم ومحمد أمين، وهوى الشيخ جمال الدين كان مع محمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير، ومشورة الوزير، أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا إلى الولايات كل منهم ذهب إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه ليعتصم بمنعته فيها، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحروب الداخلية، وبعد مجالدات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن الأمير الحالي، وتغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسمياه أميراً على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، وارتفعت منزلة الشيخ جمال الدين عنده، فأحله محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به، فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، على خلاف ما تعوده أمراء تلك البلاد من الاستبداد المطلق وعدم التعويل على رجال حكومتهم، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين، لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته حمله على تفويض مهمات من الأعمال إلى أبنائه الأحداث، وهم خلو من التجربة عراة من الحنكة، فساق الطيش أحدهم وكان حاكماً في قندهار على منازلة عمه شير علي في هراة، ولم يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوانه، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجراءة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي، واخترق بها صفوف أعدائه فأوقع الرعب في قلوبهم، وكادوا ينهزمون لولا ما االتفت يعقوب خان قائد شير علي، فوجد ذلك الغر المتهور منقطعاً عن جيشه، فكر عليه وأخذه أسيراً، فتشتت جند قندهار، وقوي الأمل عند شير علي، فحمل على قندهار واستولى عليها، وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي، وبذلوا لها قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود، وجددت خيانات.
وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم، وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وعاد اليوم إلى بلاده وهو أميرها، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسأبير، وبقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسه الأمير بسوء، احتراماً لعشيرته وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدي خيراً له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران، كيلا يلتقي فيها بمحمد أعظم، وكان لم يمت، فارتحل على طريق الهند سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، ولما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في إجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء إلى مصر وأقام بها نحو أربعين يوماً، تردد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضاً منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة، فبعد أيام من وصولها أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيه الأفغاني قباء وكساء وعمامة عجراء، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، وأشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه على الذهاب إليها رفقاؤه، ومن تلك الطرق ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام لتلك الأوقات حسن فهمي أفندي، لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه، فأرصد له العنت، حتى كان رمضان سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، فرغب إليه مدير دار الفنون تحسين أفندي أن يلقي فيها خطاباً للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه تحسين أفندي، فأنشأ خطاباً طويلاً كتبه قبل إلقائه وعرضه على وزير المعارف، وكان صفوت باشا، وعلي شرواني زاده، وكان مشير الضابطية، وعلي دولتلو منيف باشا ناظر المعارف، وكان عضواً في مجلس المعارف، فاستحسنه كل مهم، وأطنب في مدحه، فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب، تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جم غفير من رجال أهل الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب المعارف، وحضر في الجمع معظم الوزراء، وصعد الشيخ جمال الدين على منبر الخطابة، وألقى ما كان أعده، وأرسل حسن أفندي فهمي أشعة نظره في تضاعيف الكلام ليصيب منه حجة للتمثيل به، وما كان يجدها لو طلب حقاً، ولكن كان الخطاب في تشبيه المعيشة الإنسانية ببدن حي، وأن كل صناعة بمنزلة عضو من ذلك البدن، تؤدي من المنفعة في المعيشة ما يؤديه العضو في البدن، فشبه الملك مثلاً بالمخ الذي هو مركز التدبير والإرادة، والحدادة بالعضد، والزراعة بالكبد، والملاحة بالرجلين، ومضى في سائر الصناعات والأعضاء حتى أتى على جميعها ببيان ضاف واف، ثم قال هذا ما يتألف منه جسم السعادة الإنسانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، وروح هذا الجسم إما النبوة وإما الحكمة، ولكن يفرق بينهما بأن النبوة منحة إلهية لا تنالها يد الكاسب، يختص الله بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
أما الحكمة فمما يكتسب بالفكر والنظر في المعلومات وبأن النبي معصوم من الخطأ، والحكيم يجوز عليه الخطأ بل يقع فيه، وأن أحكام النبوات آتية على ما في علم الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فالأخذ بها من فروض الإيمان، أما آراء الحكماء فليس على الذمم فرض اتباعها إلا من باب ما هو الأولى والأفضل، على شريطة أن لا تخالف الشرع الإلهي، هذا ما ذكره متعلقاً بالنبوة وهو منطبق على ما أجمع عليه علماء الشريعة الإسلامية، إلا أن حسن فهمي أفندي أقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة، وهكذا تكون حجج طلاب العنت، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه وإثبات براءته مما رمي به، ورأى أن ذلك لا يكون إلا بمحاكمة شيخ الإسلام، وكيف يكون ذلك، واشتد في طلب المحاكمة وأخذت منه الحدة مبلغها، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، فأشار بعض أصحاب السيد عليه أن يلزم السكون ويغضي على الكريهة، وطول الزمان يتكفل باضمحلال الإشاعات وضعف أثرها، فلم يقبل ولج في طلب المخاصمة، فعظم الأمر، وآل إلى صدور أمر الصدارة إليه بالجلاء عن الآستانة بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إن شاء، ففارق الآستانة مظلوماً في حقه مغلوباً لحدته، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف، هذا مجمل أمره في الآستانة، وما ذكره سليم العنجوري في شرح شعره المسمى سحر هاروت مما يخالف ذلك خلط من الباطل لا شائبة للحق فيه. ثم مال السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها، حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة وظيفة ألف قرش مصري كل شهر نزلاً أكرمته به لا في مقابلة عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض دراً، وحملوه على تدريس الكتب فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية طبيعية وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم، ولم يذهب إلى الأزهر مدرساً ولا يوماً واحداً، نعم كان يذهب إليه زائراً، وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة. فعظم أمر الرجل في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه، وأعجبوا بدينه وأدبه، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيته في الديار المصرية ثم وجه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول، فنشطت لذلك ألباب، واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري وخيري باشا، ومحمد بك سد حمد علي ضعف فيه، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية والفقهية، وما شاكل ذلك. ومن عشر سنوات نرى كتبة في القطر المصري لا يشق غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر، وللحق مدابر، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلاً للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية، أخذاً بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، على أن القائلين بهذا القول لم يطلقوه، بل قيدوه بضعفاء العقول قصار النظر خشية على عقائدهم من الزيغ، أما الثابتون في إيمانهم فلهم النظر في علوم الأولين والآخرين، من موافقين لمذاهبهم أو مخالفين، فلا يزيدهم ذلك إلا بصيرة في دينهم، وقوة في يقينهم. ولنا في أئمة الملة الإسلامية ألف حجة تقوم على ما نقول، ولكن تمكن الحاسدون من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، كانوا يطرقون مجلسه فيسمعون ما لا يفهمون، ثم يحرفون في النقل عنه ولا يشعرون، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها الحالي توفيق باشا، وكان السيد من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم مستر قيفيان قنصل انكلتزا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه بريء منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبي تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبياب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان. مصري هو وتابعه أبي تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، حتى انقضى أمر مصر وانتهت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة صعد إليها مدينة لوندرا، أقام بها أياماً قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات. قال الشيخ محمد عبده: وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشىء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبياب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه، ثم بقي بعد ذلك مقيماً بأوربا أشهراً في باريز وأخرى في لندرا، إلى أوائل شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، وفيه رجع إلى البلاد الإيرانية، وسيذهب منها إلى أفغانستان.
أما مذهبه فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلداً لكنه لم يفارق السنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله. أما مقصده السياسي الذي وجه إليه أفكاره، وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله، فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعتها، وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها. وأما منزلته من العلم وغزارة المعارف، فليس يسهل على القلم حدها إلا بنوع من الإشارة إليها، وله سلطة قوية على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له. وله قوة في حل المعضلات كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها، ومهما ألقي إليه من موضوع، يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه فيظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد، إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه، وكفاك شاهداً على ذلك أنه ما خاصم أحداً إلا خصمه، ولا جادله عالم إلا ألزمه، وقد اعترف له الأروبيون بذلك، بعد ما أقر له الشرقيون. وبالجملة فإني لو قلت ما آتاه الله من قوة الذهن وسعة العقل ونفوذ البصيرة، هو من أقصى ما قدر لغير الأنبياء والمرسلين لكنت غير مبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وأما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده السياسي الذي قدمناه، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه، وكثيراً ما كان التعجل علة الحرمان، وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور عزيف عن صغارها، شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج وكثيراً ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة، إلا أنه صار اليوم في رسوخ الأطواد، وثبات الأفناد، فخور بنسبه إلى سيد المرسلين ﷺ، لا يعد لنفسه مزية أرفع ولا عزاً أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر، وبالجملة ففضله كعلمه، والكمال لله وحده.
وأما خلقه فهو يمثل لناظره عربياً محضاً من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز حماه الله. ربعة في طوله وسط في بنيته، قمحي في لونه عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه، بقي علينا أن نذكر وصفاً لو سكتنا عنه سئلنا عن إغفاله، وهو أنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات كالجلوس في المنتزهات العامة، والأماكن المعدة لراحة المسافرين، وتفرج المحزونين، لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار، وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيداً من اللغو منزهاً من اللهو، وكان يوافيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم، وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يفرج بعض همه بما أباح الله له.
هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني أتينا به دفعاً لما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل، لأدى بنا إلى التطويل، والله عنده حسن الصواب، وإليه المرجع والمآب. ولم يزل يتقلب على فرش النعم إلى أن نشبت به أظفار النقم، فقاسى من الأمراض شدة، ومضى عليه وهو على حالته مدة، إلى أن استوفى منيته في خامس شوال عام ألف وثلاثمائة وأربعة عشر من هجرة سيد أهل الكمال، ودفن في الآستانة العلية في المقبرة المعروفة بمقبرة المشايخ، أسكنه الله الجنة، وأوسع له في دار الكرامة المنة.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
محمد بن صفدر الحسيني، جمال الدين:
فيلسوف الإسلام في عصره، وأحد الرجال الأفذاذ الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة. ولد في أسعد آباد (بأفغانستان) ونشأ بكابل. وتلقى العلوم العقلية والنقلية، وبرع في الرياضيات، وسافر إلى الهند، وحج (سنة 1273 هـ وعاد إلى وطنه، فأقام بكابل. وانتظم في سلك رجال الحكومة في عهد (دوست محمد خان) ثم رحل مارا بالهند ومصر، إلى الآستانة (سنة 1285) فجعل فيها من أعضاء مجلس المعارف. ونفي منها (سنة 1288) فقصد مصر، فنفخ فيها روح النهضة الإصلاحية، في الدين والسياسة، وتتلمذ له نابغة مصر الشيخ محمد عبده، وكثيرون. وأصدر أديب إسحاق، وهو من مريديه، جريدة (مصر) فكان جمال الدين يكتب فيها بتوقيع (مظهر بن وضاح) أما منشوراته بعد ذلك فكان توقيعه على بعضها (السيد الحسيني) أو (السيد) .
ونفته الحكومة المصرية (سنة 1296) فرحل إلى حيدر آباد، ثم إلى باريس. وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى) ورحل رحلات طويلة، فأقام في العاصمة الروسية (بطرسبرج) كما كانت تسمى، أربع سنوات، ومكث قليلا في ميونيخ (بألمانيا) حيث التقى بشاه إيران (ناصر الدين) ودعاه هذا إلى بلاده، فسافر إلى إيران. ثم ضيق عليه، فاعتكف في أحد المساجد سبعة أشهر، كان في خلالها يكتب إلى الصحف مبينا مساوئ الشاه، محرضا على خلعه. وخرج إلى أوربا، ونزل بلندن، فدعاه (السلطان عبد الحميد) إلى الآستانة، فذهب وقابله، وطلب منه السلطان أن يكف عن التعرض للشاه، فأطاع. وعلم السلطان بعد ذلك أنه قابل (عباس حلمي) الخديوي، فعاتبه قائلا: أتريد أن تجعلها عباسية؟ ومرض بعد هذا بالسرطان، في فكه، ويقال: دس له السم. وتوفي بالآستانة. ونقل رفاته إلى بلاد الأفغان سنة 1363 وكان عارفا باللغات العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكلم بالعربية فلغته الفصحى، واسع الاطلاع على العلوم القديمة والحديثة، كريم الأخلاق كبير العقل، لم يكثر من التصنيف اعتمادا على ما كان يبثه في نفوس العاملين وانصرافا إلى الدعوة بالسر والعلن.
له (تاريخ الأفغان - ط) و (رسالة الرد على الدهريين - ط) ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده. وجمع محمد باشا المخزومي كثيرا من آرائه في كتاب (خاطرات جمال الدين الأفغاني - ط) ولمحمد سلّام مدكور كتاب (جمال الدين الأفغاني باعث النهضة الفكرية في الشرق - ط) في سيرته .
-الاعلام للزركلي-
السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني
قد تمر القرون وتتوالى الأجيال والناس على ما ساقتهم إليه الحاجة من شئون معائشهم لا يفقهون غثَّها من ثمينها ولا يدركون مبدأها ولا مصيرها، حتى تتمخض الطبيعة فتلد من أبنائها أفرادا يميطون عن أسرارها اللثام فيرى الناس من ورائه شرائع ونواميس كانوا عنها غافلين؛ أولئك هم أقطاب العلم وأنوار العالم، ومنهم الفلاسفة الطبيعيون الذين مزقوا أستار الجهل وكشفوا غوامض الطبيعة، فمهدوا سبُل الاختراع والاكتشاف، ومنهم الفلاسفة العقليون الذين استطلعوا أسرار الحكمة المستترة وراء تلك النواميس، وبيَّنوا ما أودعه الخالق في خليقته من القواعد العقلية والروابط الأدبية.
ولكن الطبيعة لا تجود بواحد من أولئك الأفراد إلا كل بضعة قُرون، فيسير الناسُ على خطواته أجيالا، حتى إذا كادوا يرجعون إلى غيِّهم جادت عليهم بآخر ينفُث فيهم روحا حية فيهبُّون من رقادهم، ويعودون إلى رشدهم ريثما يأتيهم ثالث.
هكذا كان شأن العالم من بدء عمرانه، ومن أولئك الفلاسفة سقراط وأفلاطون ومن تقدمهم، وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفُرس والعرب وغريهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا نزال نستضيءُ بنبراسهم.
ولكن الله في خلقِه حكمة لا تدركها العقول؛ فقد ينبغ في بعض الأجيال أفراد توافرت فيهم قُوى الفلاسفة ومواهب رجال الأعمال، فتُحيط بهم بيئات لا تصلح لنماء ما يغرسون، فيذهب سعيُهم هباءً منثورا.
ولما كان الإنسان لا يقدر العمل إلا بنسبة ما يترتب عليه من الفائدة، كان نصيب كثريين من عظماء الأرض جهل الناس حق قدرهم، وأغفل التاريخ ذكرهم كما هو شأننا بفقيد الشرق الفيلسوف الخطيب السيد جمال الدين الأفغاني (رحمه الله)؛ فقد نشأ قطبًا من أقطاب الفلسفة، وعاش ركنًا من أركان السياسة، ولكنه مات ولم يُتِّم عملا ولا ألف كتابا على أن ذلك لا يحط من مقامه، وقد رأينا أعظم فلاسفة اليونان (سقراط) مات ولم يدوِّن شيئًا من كلامه، ولكن تلامذته حفظوا فلسفتَه ودونوها فتوارثتْها الأجيال خلفًا عن سلف، فعسى أن لا نحرم من مريدي الأستاذ وتلامذته من يفعل مثل ذلك.
ترجمة حاله:
هو السيد محمد جمال الدين بن السيد صفتر، ولد في بيت شرف وعلم بقرية أسعد أباد من قُرى كنز من أعمال كابل ببلاد الأفغان سنة 1254هـ / 1839م، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب.
وآل هذا البيت عشيرة كبيرة تُقيم في خطة كنر، ولها منزلة عليا في قلوب الأفغانين لحرمة نسبها، وكانت تملك جزءًا من أرض الأفغان حتى سلب الملك منها دوست محمد خان، جد الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل، وجمال الدين لا يزال في الثامنة من عمره، فعني والده في تربيته وتثقيفه، فتلقى مبادئ العلوم العربية والتاريخ وعلوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام وتصوف والعلوم العقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية وإلهية والعلوم الرياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك ونظريات الطب والتشريح، وكانت ملامح النجابة والذكاء ظاهرة فيه منذ نعومة أظفاره، فأتم هذا كله وهو في الثامنة عشرة من عمره.
ثم عرض له سفر إلى بلاد الهند فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الإفرنجية الحديثة، وقدم بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية؛ لأداء فريضة الحج، فقضى سنةً ينتقل من بلد إلى آخر حتى وافى مكة المكرمة في سنة 1273هـ / 1857م، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، ثم رجع إلى بلاده وانتظم في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان المتقدم ذكرُه، ولما زحف هذا الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه؛ سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن تُوفي الأمير وفُتحت المدينةُ بعد معاناة الحصار زمنا طويلا.
وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة 128هـ / 1864م، وأشار عليه وزيرُه محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة
وَألَّبوهم للفساد طلبًا للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من إخوة الأمير ثلاثة محمد أعظم، ومحمد أسلم، ومحمد أمين؛ فانتصر السيد جمال الدين لمحمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير ومشورة الوزير أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا في الولايات، فذهب كل منهم إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحُروب الداخلية.
وبعد مجادلات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن، وتَغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسَّميَاه أميرا على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، فارتفعت منزلةُ جمال الدين عنده فأحلَّه محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته، مما حمله على تفويض مهمات الأعمال إلى أبنائه الأحداث وهم خلو من التجربة عراةٌ من الحنكة، فساق الطيش أحدهم - وكان حاكما في قندهار - على منازلة شير علي في هراة، ولم َ يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوته، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعتْه الجرأةُ على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي اخترق بها صفوف أعدائه، فأوقع الرعب في قلوبهم وكادوا ينهزمون لولا ما التفت يعقوب خان قائد شير علي فوجد ذلك الغلام منقطعا عن جيشه، فكرَّ عليه وأخذه أسيرا، فتشتت جند قندهار وقوي الأمل عند شير علي فحمل على قندهار واستولى عليها.
وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي وبذلوا له قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم فبيعت أمانات ونُقضت عهود وجددتِ خيانات، وبعد حُروب هائلة تغلَّب شير علي وانهزم محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسابور.
أما السيد جمال الدين فبقي في كابل لم يمسسه الأمير بسوء؛ احتراما لعشريته، وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدين خيرا له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران كي لا يلتقي فيها بمحمد أعظم وكان لم يمت بعد - فارتحل على طريق الهند سنة 1285هـ / 1869م بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومةُ الهند بحفاوة وإجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولا أذنت للعلماء في الاجتماع عليه إلا تحت مراقَبة رجالها، فلم يُقم هناك إلا شهرا، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها إلى السويس، فجاء مصر وأقام بها نحو أربعين يوما تَرَّدَد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضا منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمُه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة.
وبعد أيام من وصوله الآستانة قابل الصدر الأعظم عالي باشا، فنزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضلَه، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيِّه الأفغاني من القباء والكساء والعمامة العجراء، وحوَّمت عليه – لفضله - قلوب الأمراء والوزراء، وعَلا ُ ذكرُه بينهم، وتناقلوا الثناء على علْمه وأدبه وهو غريب عن أزيائهمِ ولغتهم وعاداتهم ولم تمض ستة أشهر حتى سُمي عضوا في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، ولكنه أشار إلى طُرق لتعميم المعارف لم يوافقه عليها رفقاؤه، وبينها ما ساء شيخ الإسلام إذ ذاك؛ لأنها كانت تمس شيئًا من رزقه، فأرصد له العنت حتى كان رمضان سنة 1287هـ / 1871م، فرغب إليه مدير دار الفنون أن يلقي فيها خطابًا للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فأنشأ خطابًا طويلا كتبه قبل إلقائه وعرضه على نُخبة من أصحاب المناصب العالية، فاستحسنوه.
فلما كان اليوم المعيَّن لاستماع الخطاب تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جمٌ غفير من رجال الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب الجرائد، وحضر في الجمع معظم الوزراء، فصعد السيد جمال الدين على منبر الخطابة وألقى ما كان أعده ببلاغة سحرت عقول السامعين، فأنكر مشائخ العلم شيئًا من آرائه، واتصل الأمر بشيخ الإسلام وكان متغيرا عليه - كما علمت - فالتمس من الدولة إبعاده عن الآستانة، فصدر له الأمر بالجلاء عنها بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إن شاء، ففارقها وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة 1288هـ / 22 مارس 1871م.
قدم السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراهُ من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة راتبًا مقداره ألف قرش مصري كل شهر نزلا أكرمته به لا في مقابل عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض درًّا، وحملوه على التدريس فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى، والحكمة النظرية من طبيعة وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية، وعلم التصوف، وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته فعظم أمرُه في نُفُوس طلاب العلوم، واستجزلُوا فوائد الأخذ عنه وأعجبوا بعلمه وأدبه وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيتُه في الدار المصرية.
ثم وجه عنايته لتمزيق حجب الأوهام عن أنوار العقول، فنشطت لذلك ألبابٌ واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة قليلين.
فنبغ من تلامذته في القُطر المصري كتبة لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم،وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته، أو قلد المتصلين به، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلا للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية؛ أخذًا بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، فتمكنوا من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، غري أن هذا كله لم يؤثر في مقامه من نفوس العارفين بحاله.
وكان (رحمه الله) - على علمه وفضله - ميالا إلى السياسة، فنظر في حال مصر وما آلت إليه من التداخل الأجنبي، فعلم أن لا بد من تغير أحوالها، وكان قد انتظم َّ في سلك الجمعية الماسونية، وتقدم فيها حتى صار من الرؤساء، فأنشأ محفلا وطنيٍّا تابعا للشرق الفرنساوي، دعا إليه مريديه من العلماء والوجهاء، فصار أعضاؤُه نحواً من ثلاث مائة عدًّا.
وكان شديد الكره للدولة الإنكليزية - كما تقدم من حاله معها في الهند - وما كان من اعتدائهم على أبناء أبيه، فجهر بذلك غير مرة، ونشر فصولا ناطقة به ترجموها إلى جرائد إنكلترا، واهتموا بها كثيرا حتى تَوَّلى المستر غلادستون نفسه أمر الجدال في موضوعها، فلما عظم أمر محفله داخل الخوف قنصل إنكلترا فوشى به إلى الحكومة، وبث الرقباء في المحفل، فسعوا فيه فسادا، وفي خلال ذلك بلغت أحوال مصر نهاية الارتباك فصرح بأمور قوَّت حجة الساعين، وكان تولى مصر المرحوم الخديوي السابق توفيق باشا، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة 1296هـ / 1879، وأقام بحيدر آباد الدكن، وفيها كتب رسالته في (نفي مذهب الدهريين).
ولما كانت الحوادث العرابية بمصر دعي من حيدر آباد إلى كلكتة، وألزمتْه حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر مصر وفثأت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهابُ إلى أي بلد، فاختار الشخوص إلى أوروبا، وأول مدينة نزلها مدينة لوندرا، أقام بها أياما قلائل ثم انتقل إلى باريس، فوافاه إليها صديقُه الشيخ محمد عبده المصري، وكانت في مصر جمعية وطنية اسمها جمعية العروة الوثقى، فكلَّفته - على بُعد الدار - أن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة الإسلامية، فأنشأ «العروة الوثقى»، وكلف صديقه المشار إليه بتحريرها، وكان لها وقع حسن في العالم الإسلامي، فنشر منها 18 عددا، ثم قامت الموانع دون استمرارها؛ حيث أقفلت أبواب الهند عنها، وشددت الحكومة الإنكليزية في إساءة من يقرؤها.
وقضى جمال الدين في باريس ثلاث سنوات، نشر في أثنائها مقالات في جرائدها تبحث في سياسة روسيا وإنكلترا والدولة العلية ومصر، ترجمت جرائد إنكلترا كثيرا منها، وجرت له أبحاث فلسفية مع الفيلسوف الفرنساوي رينان في «العلم والإسلام»، فشهد له هذا بسعة العلم وقوة الحجة، ثم شخص إلى لندرا بإيعاز اللورد شرشل واللورد سالسبري؛ ليسألاه عن رأيه في المهدي وظهوره إذ ذاك، ثم عاد إلى فرنسا وتعرف بكثيرين من علمائها وفلاسفتها، فأحلُّوه مكانًا عليا.
ثم عزم على نجد، فاستقدمه شاه الفُرس إذ ذاك المرحوم ناصر الدين شاه على لسان البرق ليراه، فسار قاصدا طهران، فالتقى في أصفهان بالأمير ظل السلطان فلاقى منه إكراما، حتى إذا وصل طهران استقبله الشاه أحسن استقبال، وأكثر من الثناء عليه حيثما ذكره، حتى في بلاطه وبني أهله وأولاده، وولاه نَظارة الحربية على أن يرقيه بعد قليل إلى منصب الصدارة.
وكان جمال الدين قد درس أخلاق الأمم، وعرف تواريخ الدول، وتَدبر أحوال السياسة على اختلاف الأمكنة والأزمنة، مع بلاغته وقوة برهانه، فنال لدى أمراء الفُرس وعلمائها منزلة قلَّ أن ينالها غيره في مثل حاله، فأصبح منزله حلقة علم يؤمها سراة البلاد ووجهاؤها، يتسابقون إلى سماع حديثه، فخامر الشاه ريب من أمره؛ مخافة أن يكون وراء ذلك ما يخشى منه على سلطانه، فأبدى تغيره عليه، فأدرك جمال الدين ما في نفسه فاستأذنه في السفر لتبديل الهواء، فأذن له فسار إلى موسكو في روسيا، فلاقاه أهلها بالتجلة والإكرام لما سبق إلى مسامعهم من شهرته، ثم شخص إلى بطرسبورج وتعرف بأعظم رجالها من العلماء والسياسيين، ونشر في جرائدها مقالات ضافية في سياسة الأفغان والفرس والدولة العلية والروسية والإنكليزية، كان لها دوي شديد في جو السياسة.
واتفق إذ ذاك فتح معرض باريس لسنة 1889م، فشخص جمال الدين إليها، فالتقى بالشاه في مونيخ عاصمة بافاريا عائدا من باريس، فدعاه الشاه إلى مرافقته، فأجاب الدعوة وسار في معيته إلى فارس، فلم يكد يصل طهران حتى عاد الناس إلى الاجتماع به والانتفاع بعلمه، والشاه لا يرتاب من أمره، كأن سياحته في أوروبا محت كثيرا من شُكوكه، فكان يقربه منه ويوسطه في قضاء كثير من مهام حكومته، ويستشريه في سن القوانين ونحوها، فشق ذلك على أصحاب النفوذ؛ وخصوصا الصدر الأعظم، فأسر إلى الشاه أن هذه القوانين وإن تكن لا تخلو من النفع فهي لا توافق حال البلاد، فضلا عما ستئول إليه من تحويل نفوذ الشاه إلى سواه، فأثر ذلك في الشاه حتى ظهر على وجهه، فأحس جمال الدين بالأمر فاستأذنه في المسير إلى بلدة شاه عبد العظيم على 32 كيلومترا من طهران، فأذن له فتبعه جمٌّ غفير من العلماء والوجهاء، وكان يخطب فيهم ويستحثهم على إصلاح حكومتهم، فلم تمض ثمانية أشهر حتى ذاعت شهرتُه في أقاصي بلاد الفرس، وشاع عزمُه على إصلاح إيران، فخاف ناصر الدين عاقبةَ ذلك فأنفذ إلى شاه عبد العظيم خمسمائة فارس قبضوا على جمال الدين، وكان مريضا، فحملوه من فراشه وساقوه يخفره خمسون فارسا إلى حدود المملكة العثمانية، فعظم ذلك على مريديه في إيران فثاروا حتى خاف الشاه على حياته.
أما جمال الدين فمكث في البصرة ريثما عادت إليه صحتُه فشخص إلى لندرا وقد عرفه الإنكليز من قبل، فتلقوه بالإكرام، ودعوه إلى مجتمعاتهم السياسية وأنديتهم العلمية لريوه ويسمعوا حديثه، وكان أكثر كلامِهِ معهم في بيان حال الشاه وتصرُّفه في المملكة، وما آلت إليه حالها في عهده، مع حث الحكومة الإنكليزية على السعي في خلعه.
وفيما هو في ذلك ورد عليه كتاب من المابين الهمايوني بواسطة المرحوم رستم باشا سفير الدولة العلية في لندرا إذ ذاك، أن يقدم إلى الآستانة، فاعتذر؛ لأنه في شاغل وقتي لإصلاح بلاده، فورد عليه كتاب آخر وفيه ثناء وتحريض، فأجاب الدعوة تلغرافيا على أن يتشرف بمقابلة جلالة السلطان ثم يعود، فقدم الآستانة سنة 1892م فطابت له فيها الإقامة لما لاقاه من التفات الحضرة السلطانية وإكرام العلماء ورجال السياسة، وما زال فيها معززا مكرما وجيها محترما حتى داهمه السرطان في فكه أواخر سنة 1896م، وامتد إلى عنقه، فتوفاه الله في 9 مارس سنة 1897م، واحتفل بجنازه ودفْنه في مدفن «شيخلر مزار لفي» قرب نشان طاش.
صفاته الشخصية:
كان أسمر اللون بما يشبه أهل الحجاز، ربعة ممتلئ البنية، أسود العينين نافذ اللحظ، جذاب النظر مع قصر فيه، فإذا قرأ أدنى الكتاب من عينيه، ولكنه لم يستخدم النظارات، وكان خفيف العارضين مسترسل الشعر، بجبة وسراويلات سوداء تنطبق على الكاحلين، وعمامة صغرية بيضاء على زي علماء الآستانة.
طعامه
كان قانتا قليل الطعام، لا يتناولُه إلا مرة في النهار، ويعتاض عما يفوتُه من ذلك بما يشربُه من منقوع الشاي مرارا في اليوم، والعفة في الطعام لازمة لمن يعمل أعمالا عقلية؛ لأن البطنة تُذهب الفطنة، وكان يدخن نوعا من السيكار الإفرنجي الجيد، ولشدة ولعه بالتدخين وعنايته في انتقاء السيكار لم يكن يركن إلى أحد من خدمه في ابتياعه فيبتاعُه هو بنفسه.
مسكنه:
كان يقيم في أواخر أيامه بقصر في نشان طاش بالآستانة، أنعم عليه به جلالة مولانا السلطان، وفيه الأثاث والرياش وعربة من الإسطبل العامر يجرها جوادان، وأجرى عليه رزقًا مقداره خمس وسبعون لرية عثمانية في الشهر، فكان قبل مرضه الأخير يُقيم معظم النهار في منزله، فإذا كان الأصيل ركب العربة لترويح النفس في منتزه كاغدخانه بضواحي الآستانة، وكان كثير القيام لا ينام إلا الغلس إلى الضحى.
مجلسه وخطابه
كان أديب المجلس، كثير الاحتفاء بزائريه على اختلاف طبقاتهم، ينهض لاستقبالهم ويخرج لوداعهم، ولا يستنكف من زيارة أصغرهم على امتناعه من زيارة أكبرهم إذا ظن في زيارته تزلفا، وكان ذا عارضة وبلاغة، لا يتكلم إلا اللغة الفُصحى بعبارات واضحة جلية، وإذا آنس من سامعه التباسا بسَّط مراده بعبارة أوضح، فإذا كان السامع عاميا تنازل إلى مخاطبته بلغة العامة.
وكان خطيبًا مصقعا لم يقم في الشرق أخطب منه، وكان قليل المزاح رزينًا كتوما قد يخاطب عشرات من الناس في اليوم فيبحث مع كل منهم في موضوع يهمه، فإذا خرج جليسه كان خروجه آخر عهده بذلك الموضوع حتى يعود هو إليه بشأنه.
أخلاقُه
كان حر الضمير، صادق اللهجة، عفيف النفس، رقيق الجانب، وديعا مع أنفة وعظمة، ثابت الجأش، قد يُساق إلى القتل فيسري إليه سير الشجاع إلى الظفر، وكان راغبًا عن حطام الدنيا، لا يدخر مالا ولا يخاف عوزا، ومما رواه المرحوم أديب إسحاق أن جمال لما أبعد عن مصر أنزل في السويس خالي الجيب، فأتاه السيد النقادي قنصل إيران في ذلك الثغر ومعه نفر من العجم، قدموا له مقدارا من المال على سبيل الهدية أو القرض الحسن، فرده وقال لهم: احفظوا المال، فأنتم إليه أحوج، إن الليث لا يعدم فريسة حيثما ذهب.
وكان مقداما حاثا على الإقدام، فلا يخرج جليسُه من بني يديه إلا وقد قام في نفسه محرض على العلى، منشط على السعي في سبيلها، ولكنه كان - على فضله - لا يخلو من حدة المزاج، ولعلها كانت من أكبر الأسباب لما لاقاه من عواقب الوشاية
عقله
كان ذكيا فطنا، حاد الذهن سريع الملاحظة، يكاد يكشف حجب الضمائر ويهتك أسرار السرائر، دقيق النظر في المسائل العقلية، قوي الحجة ذا نفوذ عجيب على جلسائه، فلا يباحثه أحد في موضوع إلا شعر بانقياد إلى برهانه، وربما لا يكون البرهان بحد ذاته مقنعا، وكان مع ذلك قوي الذاكرة، حتى قيل إنه تعلَّم اللغة الفرنساوية أو بعضها، وصار يقدر على الترجمة منها ويحفظ من مفرداتها شيئًا كثيرا في أقل من ثلاثة أشهر بلا أستاذ، إلا من علمه حروف هجائها يومين.
علومه
كان واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية؛ وخصوصا الفلسفة القديمة وفلسفة تاريخ الإسلام والتمدن الإسلامي وسائر أحوال الإسلام، وكان يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنساوية جيدا، مع إلمام باللغتين الإنكليزية والروسية، وكان كثير المطالعة، لم يفتْه كتاب في آداب الأُمم وفلسفة أخلاقهم إلا طالعه، وأكثر مطالعته في اللغتين العربية والفارسية.
آماله وأعماله
يؤخذ من مجمل أحواله أن الغرض الذي كان يصوب نحوه أعماله، والمحور الذي كانت تدور عليه آمالُه، توحيد كلمة الإسلام، وجمع شتات المسلمين في سائر أقطار العالم في حوزة دولة واحدة إسلامية، تحت ظل الخلافة العظمى، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله، فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبًا، ولكنه مع ذلك لم يتوفق إلى ما أراده، فقضى ولم يدون من بنات أفكاره إلا رسالةً في نفي مذهب الدهريين، ورسائل متفرقة في مواضيع مختلفة قد تقدم ذكرها، ولكنه بث في نفوس أصدقائه ومريديه روحا حية، حركت هممهم وحددت أقلامهم، فانتفع الشرق، وسوف ينتفع بأعمالهم.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 67 – 77.