أبي الأسود الدؤلي
علامة العصر والاوان في اللغة، والنحو، والقراءات، أول من وضع علم النحو، وأول من ابتكر نقط المصاحف، قاضي البصرة، الثقة.
ذكره «الذهبي» ت 748 هـ ضمن علماء الطبقة الثانية من حفاظ القرآن.كما ذكره «ابن الجزري» ت 833 هـ ضمن علماء القراءات.
قال «ابن فارس»: «الدؤل» بضم الدال، وفتح الهمزة: قبيل من كنانة اهـ. وقال «أبي اليقظان» «الدّول» بضم الدال، وسكون الواو، من «بكر بن وائل» وعددهم كثير اهـ. وقد أسلم «أبي الأسود» في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم، ولكنه لم ير الرسول عليه الصلاة والسلام، لهذا اعتبره المؤرخون من المخضرمين.قال «أبي عمرو الداني» ت 444 هـ: قرأ «أبي الأسود» القرآن على
«عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب» رضي الله عنهما، كما قرأ على «أبي الأسود» عدد كثير، منهم: «ولده حرب، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وحمران بن أعين». وأخذ «أبي الأسود» الحديث عن «عمر، وعلي، وأبي بن كعب، وأبي ذر والزبير بن العوام» وآخرين.كما حدث عنه: ابنه حرب، ويحيى بن يعمر، وابن بريدة، وآخرون.
وأخذ عن «أبي الأسود» النحو: «عنبسة ميمون الأقرن» ثم أخذه عن «ميمون» «عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي» وأخذ عنه «عيسى بن عمر» وأخذه عنه «الخليل بن أحمد» وأخذه عنه «سيبويه» وأخذه عنه «سعيد الأخفش» (2) وذكر المؤرخون أن «أبا الأسود» أول من نقط المصاحف، وسبب ذلك أنه سمع قارئا يقرأ قول الله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بخفض لام «ورسوله» فقال: ما ظننت أن أمر الناس قد صار الى هذا، فذهب الى «زياد» وقال له: أريد كاتبا فطنا، فأتى به فقال له «أبي الأسود» خذ «المصحف» ومدادا يخالف لونه لون المصحف، وانظر إليّ وأنا أقرأ القرآن، فإذا فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة أعلاه، وإذا رأيتني قد ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فانقط نقطة تحت الحرف، فإذا أتبعت شيئا من ذلك غنة أي تنوينا، فاجعل مكان النقطة نقطتين، وهكذا حتى أتى على القرآن كله، ولهذا اعتبر «أبي الأسود» أول من ابتكر نقط المصاحف. وقال «محمد بن سلام الجمحي»: أبي الأسود هو أول من وضع باب الفاعل
والمفعول، والمضاف، وحرف النصب، والرفع، والجرّ، والجزم، الخ، ثم أخذ ذلك عنه «يحيى بن يعمر».
وقال «المبرّد»: حدثنا «المازني»: قال: السبب الذي جعل «أبا الأسود» يضع أبياب النحو، أن بنت أبي الأسود قالت له: «ما أشدّ الحر»؟
برفع الدال، فقال: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنما تعجبت من شدته فقال: أو قد لحن الناس؟ فأخبر بذلك «عليا» رضي الله عنه فأعطاه أصولا بنى عليها، فقال «علي» رضي الله
عنه: «ما أحسن هذا النحو الذي نحوت» فمن ثم سمّى النحو نحوا.
ولقد بلغ «أبي الأسود» القمة في المجد، وكانت له المكانة المرموقة بين العلماء، يقول عنه «الجاحظ»: أبي الأسود مقدم في طبقات الناس، كان معدودا في: الفقهاء، والشعراء، والمحدثين، والفرسان، والنحاة، والحاضري الجواب ... الخ توفي «أبي الأسود» سنة تسع وستين من الهجرة، بعد حياة حافلة في نشر العلم، والقرآن، وتعليمهما. رحم الله «أبا الأسود» رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء.
معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ
ظَالِم بن عَمْرو بن سُفْيَان أَبُو الْأسود الدؤلي وَيُقَال عَمْرو بن ظَالِم وَقيل ظَالِم بن عَمْرو بن جندل بن سُفْيَان شهد مَعَ عَليّ صفّين وَولي الْبَصْرَة لِابْنِ عَبَّاس وَمَات بهَا وَقد آمن وَهُوَ أول من تكلم عَن النَّحْو
روى عَن أبي ذَر فِي الْإِيمَان وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي الزَّكَاة وَعمْرَان بن حُصَيْن فِي الْقدر
روى عَنهُ يحيى بن يعمر وَابْنه أَبُو حَرْب.
رجال صحيح مسلم - لأحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم، أبو بكر ابن مَنْجُويَه.
أَخْبَار أبي الْأسود الدؤَلِي:
ظَالِم بن عَمْرو بن سُفْيَان وَيُقَال ابْن عمر
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ لَا يخرج شَيْئا مِمَّا أَخذه عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، انَا من أَصْحَابه، ثمَّ انْتقل رَأْي زِيَاد فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلم ينْتَقل رَأْي أبي الْأسود، وَبَقِي مَا بَينه وَبَين زِيَاد على حَاله.
فَلَمَّا ولي زِيَاد الْعرَاق بعث إِلَيْهِ، يَقُول لَهُ: اعْمَلْ شَيْئا تكون فِيهِ إِمَامًا، تُعرب بِهِ كتاب الله تَعَالَى، وَينْتَفع النَّاس بِهِ.
فاستعفاه من ذَلِك، حَتَّى سمع قَارِئًا يقْرَأ: (إنَّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولِه) . فَقَالَ: مَا ظَنَنْت أَمر النَّاس صَار إِلَى هَذَا.
فَرجع إِلَى زِيَاد، فَقَالَ: أَنا أفعل مَا أَمر بِهِ الْأَمِير، فليتبعني كَاتبا لقناً يفعل مَا أَقُول.
فأُتي بكاتب من عبد الْقَيْس، فَلم يرضه، فأُتي بآخر - قَالَ الْمبرد: أَحْسبهُ مِنْهُم - فَقَالَ لَهُ أَبُو الْأسود: إِذا رَأَيْتنِي قد فتحت فمي بالحرف فانقط فَوْقه نقطة، وَإِذا رَأَيْتنِي قد ضممت فمي فانقط نقطة بَين يَدي الْحَرْف، وَإِن كسرت فَاجْعَلْ النقطة تَحت الْحَرْف، فَإِن اتبعت شَيْئا من ذَلِك غُنَّةً فَاجْعَلْ مَكَان النقطة نقطتين.
فَهَذِهِ نقطة أبي الْأسود.
وَيُقَال: إنَّ ابْنَته قَالَت لَهُ يَوْمًا: يَا أَبَت، مَا أشدُّ الحرَّ. وَكَانَ يَوْمًا حاراً.
فَقَالَ: مَا نَحن فِيهِ.
فَقَالَت: إِنَّمَا أردْت أَن الْحر شَدِيد.
فَقَالَ: قولي مَا أشدَّ الحرَّ.
ويروى أَنه قَالَ لَهَا مَكَان قَوْله: " مَا نَحن فِيهِ ": إِذا كَانَت الصقعاء من فَوْقك والرمضاء من تَحْتك.
وَرُوِيَ أَيْضا أَن ابْنَته قَالَت لَهُ: مَا أحسنُ السَّمَاء.
فَقَالَ: أَي بنية، المجرة. وَيُقَال: نجومها.
فَقَالَت: لم أرد أَي شَيْء مِنْهَا أحسنُ، إِنَّمَا تعجبت.
فَقَالَ: قولي إِذا: مَا أحسنَ السَّمَاء.
وَكَانَ ينزل فِي الْبَصْرَة، فِي بني قُشَيْر، فَكَانَ يُرجم بِاللَّيْلِ، لرأيه فِي عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام، فيُصبح فيشتكي، فَيَقُولُونَ لَهُ: الله يرجمك.
فَيَقُول: لَو رجمني الله لأصابني، وَأَنْتُم ترجمونني وَلَا تصيبون.
وَقَالَ:
أَلا منْ يشْترِي دَارا بِرُخْصٍ ... كَرَاهَةَ بَعْضِ جِيرَتِها تُباعُ
وَفِيهِمْ يَقُول:
يقولُ الأرْذلُونَ بَنو قُشيْرٍ ... طوال الدَهْرِ لَا يُنسى
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيداً ... وعبَّاساً وحَمْزة والْوصِيَّا
فإِنْ يَكُ حُبُّهُم رُشْداً أُصِبْهُ ... وَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ إنْ كَانَ غَياً
وَكَانَت مَعَه امْرَأَة مِنْهُم، فَأصْبح، فَقَالَ لَهُم:
أرَيْتَ امْرَءاً كُنْتُ لَمْ أَبْلُهُ ... أتانِي فَقَالَ اتَّخِذْنِي خلِيلا
فَصَاحَبْتُهُ ثمَّ صافَيْتُهُ ... فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ نَدَاهُ فَتِيلاَ
وأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلاَ ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قليلاَ
أَلَسْتُ خَلِيقاً بإِبْعَادِهِ ... وأُتْبِعُ ذَلِكَ هَجْراً طَوِيلاَ
فَقَالُوا: بلَى.
فَقَالَ: اشْهَدُوا أَن فُلَانَة - يَعْنِي الْمَرْأَة - طَالِق.
قَالَ الْهَيْثَم بن عدي: أول بَاب أَلفه أَبُو الْأسود فِي النَّحْو بَاب التَّعجُّب.
عمره خمس وَثَمَانُونَ سنة.
وتُوفي فِي طاعون الجارف بِالْبَصْرَةِ، سنة تسع وَسِتِّينَ.
وَفِي بعض الْكتب أَنه تُوفي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، هُوَ وَأَبُو طفيل عَامر بن وَاثِلَة.
قَالَ: وهما آخر من بَقِي من شيعَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام.
وَمن شعره:
أَمِنْتُ علَى السِّرِّ امْرَءاً غيرَ حَازِمٍ ... وَلَكِنَّهُ فِي النُّصْحِ غيرُ مُرِيبِ
أَذاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ ... لعلياءِ نارٍ أُوقِدَتْ بثقوبِ
وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بِمُعْطِيك نُصْحهُ ... ولاَ كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحهُ بِلِبيبِ
ولكنْ إذَا مَا استجمعا عِنْد واحِدٍ ... فَحَقَّ لَهُ من طَاعَة بنصيبِ
وَله أَيْضا:
زَعَمَ الأمِيرُ أَبُو المُغِيرَةِ أنَّنِي ... شيخٌ كَبِيرٌ قَدْ دَنَوْتُ مِن الْبِلَى
أأَبَا المُغِيرَةِ رُبَّ أَمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُهُ بالنُّكْرِ مِنِّي والدَّهَا
وأنشده ابْن جني " أَبَا الْمُغيرَة " بطرح الْهمزَة.
وَهُوَ الْقَائِل وَقد أدام لبس جُبَّة، لمن قَالَ لَهُ: أما تملها: " رُبَّ مملول لَا يُسْتَطَاع فِرَاقه ".
فَبعث إِلَيْهِ بجباب، فَقَالَ:
كساكَ وَلم تَسْتَكْسِهِ فشكَرْتَهُ ... أَخٌ لَكَ يُعْطِيكَ الجَزِيلَ وَنَاصِرُ
وإِنَّ أَحَقَّ الناسِ إنْ كنتَ شاكِراً ... بِشُكْرِكَ مَن آساكَ والعِرْضُ وافِرُ
وَقيل لَهُ: لَو علقت عَلَيْك تَمِيمَة، فَقَالَ:
أَفْنَى الشَّباب الَّذِي أفْنَيْت جِدَّتَه ... كَرُّ الجدِيديْن مِنْ آتِ ومُنْطلِقِ
لَمْ يتْرُكَا لِيَ فِي طُولِ اخْتِلافِهِمَا ... شَيْئاً أخَافُ عَلْيهِ لَذْعَةَ الْحَدَقِ
وقرأت عَن ابْن الْأَنْبَارِي: دخل أَبُو الْأسود على زِيَاد، فَقَالَ لَهُ: كَيفَ حبك لعَلي عَلَيْهِ السَّلَام؟ فَقَالَ: يزْدَاد شدَّة كَمَا يزْدَاد بغضك لَهُ وحبك لمعاوية شدَّة، وَالله مَا أردْت بحبي لعَلي إِلَّا الله وَمَا عِنْده، وَمَا أردْت بحبك لمعاوية إِلَّا الدُّنْيَا وزخرفها، وَهِي زائلة عَنْك عَن قَلِيل، وَمثلك ومثلي فِي هَذَا قَول الْجعْفِيّ:
خلِيلانِ مُخْتَلِفٌ شأْنُنا ... أُرِيدُ العَلاَءَ وَيَبْغِي السِّمنْ
إذَا مَا رأى وَضَحاً فِي الإنَاءِ ... سَمِعْتَ لَهُ زَهْزَماً كالمُغْنّ
وَقَالَ:
غَضِب الأمِيرُ لِأَن صَدقْتُ وَرُبَّما ... غَضِب الأميرُ على الْكَرِيم المُسْلِم
أأَبَا المُغِيرةِ رُبَّ يَوْم لم يكُنْ ... أهْلُ الْبراءةِ عِنْدكُمْ كالْمُجْرِمِ
اللهُ يعلمُ أنَّ حُبَي صادِقٌ ... لِبنِي النَّبِيِّ ولِلْقَتِيلِ المُحْرِمِ
قَالَ: زهزم صَوت فِيهِ تطريب، يُقَال: بعير مزهزم وناقة مزهزمة، إِذا صوَّتا تصويتاً فِيهِ تطريب.
وَقَالَ بعض المُحْدَثين، يذمُّ رجلا:
لَوْ تَلَبَّسْتَ مِن سَوَادِ أَبِي الأَسْ ... وَدِ لَوْنًا يُكْنَى أَبَا السَّوْدَاءِ
وَتَخَلَّلْتَ بِالْخَلِيلِ وَأَضْحَى ... سِيبَوَيْه لَدَيْكَ عَبْدَ سِبَاءِ
وَتَلَفَّفْتَ فِي كِسَاءِ الْكِسَائِي ... وَتَفَرَّيْتَ فَرْوَةَ الْفَرَّاءِ
لأَبَى اللهُ أَنْ يَرَاكَ ذَوُو الأَلْ ... بَابِ إِلاَّ فِي صُورَةِ الأَغْبِيَاءِ
* * *
أَخْبَار نَحْويي الْكُوفَة:
كَانَ آخر من قَامَ بمذهبهم:
تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم-لأبو المحاسن المفضل التنوخي المعري
أبو الأسود الدؤلي
وكان أبو الأسود فيمن صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وكان من المشهورين بصحبته ومحبته ومحبة أهل بيته، وفي ذلك يقول:
يقول الأرذلون بنو قُشيْرٍ ... طوال الدهر لا تنسى عليا!
فقلت لهم: فكيف يكون تركي ... من الأعمال ما يحصى عليا
أحب محمدا حُبّاً شديداً ... وعباسا وحمزة والوصيَّا
فإن يك حبهم رشداً أصبه ... وفيهم أسوة إن كان غيّا
فكم رشداً أصبت وحزت مجداً ... تقاصر دونه هام الثريا
وكان ينزل البصرة في بني قشير، وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته عليّاً رضي الله عنه وأهل بيته؛ فإذا ذكر رجمهم له، قالوا: إن الله يرجمك؛ فيقول لهم: تكذبون، ولو رجمني الله أصابني، ولكنكم ترجمون فلا تصيبون.
وروى أن سبب وضع علي رضي الله عنه لهذا العلم أنه سمع أعرابياً يقرأ: "لا يأكُلُه إلا الخاطئين" فوضع النحو.
ويروى أيضاً أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: من يقرئني شيئاً مما أنزل الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقرأه رجل سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا
سورة براءة، فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولِه [، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال:] أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُهُ [فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله عنه ألا يقرئ القرآن إلا عالمٌ باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى وغيره: أخذ أبو الأسود النحو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى أيضاً أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم، ويعرب كتاب الله تعالى! فأبى أبا الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود؛ فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ:] أن الله بريء من المشركين ورسوله [بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله، إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلاً؛ فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الخرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنَّةً فانقط نقطتين.
فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك.
وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد وهو أمير بالبصرة؛ فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير! "تُوفِّي أبانا وترك بنوناً"، فقال له زياد: "تُوُفِّيَ أبانا وترك بنونا! "، ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه؛ ففعل.
ويروى أيضاً، أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ! فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا، وإنما تعجبت من حسنها؛ فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ! فحينئذ وضع النحو؛ وأول ما رسم منه باب التعجب.
وحكى أبو حاتم السجستاني، قال: ولد أبو الأسود في الجاهلية، وأخذ النحو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل، عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة.
وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج.
وزعم آخرون أو أول من وضع النحو نصر بن عاصم.
فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح؛ لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن.
والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن رويَ عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ويحكى عن يحيى بن معين رضي الله عنه أنه قال: مات أبو الأسود الدؤلي رضي الله عنه في الطاعون الجارف سنة تسع وستين. قال يحيى: ويقال: إنه مات قبل الطاعون؛ وذلك في خلافة أبي خبيب عبد الله بن الزبير.
وأخذ عن أبي الأسود الدؤلي عنبسة الفيل، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحية بن يعمر.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء - لأبو البركات، كمال الدين الأنباري.
ظالم بن عمرو
ظالم بْن عمرو بْن سفيان بْن جندل بن يعمر بْن حلبس بْن نفاثة بْن عدي بْن الديل بْن بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، الكناني الديلي أَبُو الأسود، وهو مشهور بكنيته.
ذكره ابن شاهين في الصحابة.
وروى بِإِسْنَادِهِ عن الْقَاسِم بْن يَزِيدَ، عن سفيان، عن بكير بْن عطاء الليثي، عن أَبِي الأسود الديلي، قال: أتيت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف بعرفة، فأتاه نفر من أهل نجد، فقالوا: يا رَسُول اللَّهِ، كيف الحج، فأمر رجلًا فنادى: الحج يَوْم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح ليلة جمع، فقد تم حجه.
هكذا أورده، وهو خطأ، رواه شعبة، عن بكير، عن عبد الرحمن بْن يعمر الديلي، ورواه غير واحد عن سفيان، كذلك، وهو الصواب، ولا مدخل لأبي الأسود فيه.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عَبْد اللَّهِ بْن عثمان بْن خثيم: أن مُحَمَّد بْن خلف، أخبره: أن أبا الأسود أتى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبايع الناس يَوْم الفتح، وهذا أيضًا خطأ، رواه أَبُو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن خثيم، عن مُحَمَّدِ بْنِ الأسود بْن خلف، أن أباه الأسود حضر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبايع، فسقط عَلَى الراوي الهاء في الكتابة من أباه، فجعله أبا الأسود.
وليس لأبي الأسود الديلي صحبة، وهو تابعي مشهور، وكان من أصحاب علي، فاستعمله عَلَى البصرة، وهو أول من وضع النحو، وله شعر حسن، وجواب حاضر، وأخباره مشهورة، وكلامه كثير الحكم والأمثال.
أخرجه أَبُو موسى.
أسد الغابة في معرفة الصحابة - عز الدين ابن الأثير.
عمرو بن ظالم بن سفيان: يقال هو اسم أبي الأسود الدئلي، والمشهور ظالم بن عمرو، وقد تقدم.
الإصابة في تمييز الصحابة - أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني.
ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني: واضع علم النحو. كان معدودا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب، من التابعين. رسم له علي بن أبي طالب شيئا من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود. وأخذه عنه جماعة. وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير. سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في أيام علي، استخلفه عليها عبد الله بن عباس لما شخص إلى الحجاز. ولم يزل في الإمارة إلى أن قتل عليّ. وكان قد شهد معه (صفين) . ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه. وهو - في أكثر الأقوال - أول من نقط المصحف. وله شعر جيد، في (ديوان - ط) صغير، أشهره أبيات يقول فيها: (لاتنه عن خلق وتأتي مثله) مات بالبصرة. ول أبي أَحمد عَبْد العَزِيز بن يحيى الجلودي، كتاب (أخبار أبي الأسود) وللدكتور فتحي عبد الفتاح الدجني (أَبو الأَسْود الدُّؤَلي ونشأة النحو العربيّ - ط) في الكويت .
-الاعلام للزركلي-
ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدُؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنُتهم، فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به بعد علي رضي الله عنه. فلما كان زياد وجه إليه أن اعملشيئاً تكون فيه إماما وينتفع به الناسُ، فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس! فدافع بذلك حتى مر يوما بكلاء البصرة، وإذا قارى يقرأ (أَنَّ ألله بَرِيء مِنَ المشرِكِينَ وَرَسُوِله) وفي آخرين، حتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي. فقال: لا يحل لي بهد هذا أن أترك الناس. فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير، فلبغ لي كاتباً حصيفا ذكيا يعقل ما أقول. فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يَرضه، فأتي بآخر من ثقيف، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بحرف فانقط نقطة على ألاه، إذا ضَممتُ فمي فانقُط نُقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فاضجَعلِ النُقطة تحت الحرف، فإذا أتبعتُ ذلك عُنَّةً، فاجعل النقطة نقطتين. ففعل. فهذا نقطُ أبي الأسود، وعمل الرفع والنصب والجر. واختلف الناي إليه يتعلمون العربية.
وكان ابرع أصحابه واحفظهم عنه عنبسة، فلما مات وكان ألقنهم عنه ميمُون الأقْرَنُ أخذ الناس عنه، فلما مات وكن اكثر الناس أخذا عنه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مولى الحضارمة أخذوا عنه، وهو أول من بعج النحو ومد القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو العلآء. قال سماك بن حرب: لا أظنُ فيهم أحدا أتم فهما ولا أحسن عقلا من أبي إسحاق؛ فنجم من اصحابه عيسى بن عمر الثقفي، ونجم من أصحاب عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال شعبة: ولا أظن أنه كان فيهم مثله ولا أكمل منه. وأخذ عن الخليل عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب وهو سيبويه؛ وأخذ عن سيبويه أبو الحسن الأخفش أبو عثمان المازني، ولا أعلم أن أحد ضبط عنه ظبطه. فأما خلف الأحمر فأخد النحو عن عيسى بن عُمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو.
وجمع بلال بن أبي بردة بين ابن أبي إسحاق وابي عمرو بالبصرة، وهو يومئذ والٍ عليها، ولاه خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك. قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغتُ فيه. وأخذ يونس حبيب عن أبي عمرو، وكان مع ابن أبي إسحاق وأبي عمرو مَسْلَمَةُ بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري وهو مسلمة النحو، كان ابن أبي إسحاق خاله؛ وكان معهم حماد بن الزبرقان، وكان يونس يُفضله في النحو. ومدح الفرزدق يزيد بن عبد الملك بأبيات فيها:
مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا … بحاصب كنديف القطن منْثُور
على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا … على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها رير
قال ابن أبي إسحاق: أخطأت، أنما هي ريرُ، وكذلك قياس النحو في هذا الوضع. قال يونس: والذي قال جائز حسنٌ. فلما ألُّحو على الفرزدق قال: " زواحف نُزجيها محاسير ". قال التوزي: يقال: رير ورار وهو المخ الرقيق، وكيح الجبل أسفله، وقيدٌ رُمح وقاد رمُح.
من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة
من أخبار أبي الأسْوَد
هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس - ويقال حُلَيس - بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
قال يونس: الدُول في بني حنيفة ساكنة الواو، والديل في عبد القيس ساكنة الياء، والدُؤل مهموز في بني كنانة رهط أبي الأسود. وقال عيسى بن عمر: الدُئلي بكسر الهمز والقياسُ الفتح. - أدرك أبو الأسود حياة رسول الله ﷺ، قال: وُلدتُ عام الفتح. وهاجر الى البصرة على عهد عمر بن الخطاب، واستعمله عليٌّ على البصرة خلافة لعبد الله بن العباس، وكان شيعةً له، وهو شاعر مجيد مكثر، وعنه أخذ يحيى بن يعمر.
قال أبو الأسود: دخلت يوماً على علي بن أبي طالب، فرأيته مطرقاً يُفكر، فقلت: مالي أراك ياأمير المؤمنين مفكراً؟ فقال: قد سمعت من بعض مَنْ معي لحناً، وقد هممت أن أصنع كتاباً أجمع فيه كلام العرب. فقلتُ: إن فعلت ذلك أحييت قوماً وأبقيت العربية في الناس. فألقى إليَّ صحيفة فيها الكلامُ كلُّه: اسم وفعل وحرف، فالاسم مادلَّ على المسمى، والفعل مادلَّ على الحركة، والحرف ماجاء لمعنى ليس باسم ولافعلٍ. فاستأذنته في أن أضع في نحو ماصنع شيئاً أعرضه عليه، فأذن لي؛ فألفت كلاماً وأتيته به، فزاد فيه ونقص، وكان هذا اصل النحو.
قال ابن الأعرابي: الفصحاء في الإسلام أربعة: أبان بن عثمان والحسن بن يسار البصري وأبو الأسود الدُؤْلي وقبيصة بن جابر الأسدي. - وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة: أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتفهموا العربية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب، وعلموا أولادكم العوم الدرية، وألقوا الرُكب، وأنزوا على الخيل نزوا! - الرُكب جمع ركاب - وقيل: إن أبا الأسود أتى ابن عباس فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع لهم شيئاً يقيمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، وأستعين بسورة يوسف عليه السلام. - وقال الشعبي: قاتل الله أبا الأسود! ماكان أعف أطرافه وأحضر جوابه! كان استعمل عليّ أبا الأسود على البصرة وزياداً على الديوان والخراج، فبلغ أن زياداً يطعن عليه عند علي، فقال:
رأيت زياداً ينتحيني بشره … وأعرضُ عنه بادٍ مقاتله
وكلٌّ امرئٍ، والله بالناس عالمٌ … له عادةٌ قامت عليه شمائله
تعوَّدها فيما مضى من شبابه … كذلك يدعو كُلَّ أمرٍ أوائله
ويُعجبه صّفحي له وتحملي … وذو الجهل يجزي الفحش من لايعادله
ولما هلك عليّ عليه السلام قال أبو الأسود:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ … فلا قرَّت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا … بخير الناس طُراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا … وخيَّسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها … ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حُسين … رأيت البدر راق الناظرينا
لقد علمت معد حيث كانت … بأنك خيرها حسباً ودينا
ولما حمل عبيد الله بن زياد ولد الحسين بن علي رضي الله عنه وحرمه إلى يزيد بن معاوية شيَّعهم جمعٌ من أهل الكوفة، فلما بلغوا النجف وقفوا لتوديعهم، فأنشأت أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب:
ماذا تقولون، إنْ قال النبي لكم: … ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأنصاري ومحرمتي … منهم أسارى وقتلى ضُرجوا بدمِ
ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم … أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
والشعر لأبي الأسود. - قال: (رَبَّنا ظَلْمنا أنْفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . وقال أبو الأسود:
أترجو أمَّةٌ قتلت حُسيناً … شفاعة جده يوم الحساب
وأرسل معاوية إلى زياد رسولاً فهما في أمر أراده فقال: سترى عنده أبا الأسود الدؤلي شيخاً عليه عمامة سوداء، يجلس عن يمينه، لايتقدمه عنده أحدٌ في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني عن قولك:
يقول الأرذلون بنو قُشير: … طوال الدهر لاتنسى عليا
أحِبُّ محمداً حُباً شديداً … وعبَّاساً وحمزة والوصيا
أُحبهم لحُب الله حتى … أجيءَ إذا بُعثت على هويّا
هوىً أعطيته منذ استدارت … رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسينُ … ولاحسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه … أحب الناس كلهم إليا
فن يك حبهم رشدنا … ولست بمخطيءٍ إن كان غيا
أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم أنه رشد، فإن الله ﷻ قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين) ، أفيرى الله ﷻ شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا المعنى:
إذا اشتبه الأمران يوماً وأشكلا … عليَّ ولم أعرف صواباً ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمداً … فقلت له: ماتستحب من الأمر
فإن قال قولاً قلت خلافه … لأن خلاف الحق قول أبي بكر
وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني. فقال أبو الأسود:
غضب الأمير بأن صدقت وربما … غضب الأمير على البري المسلم
ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلاً ياأبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به:
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته … كر الجديدين من آت ومنطلق
لم يتركا لي في طول اختلافهما … شيئاً أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها … في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فاقني … ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي
وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان. وأنشأ يقول:
زعم الأمير بأن كبرت وربما … نال المكارم من يدبُّ على العصا
أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ … فرَّجته بالمكر مني والدَّها
مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال: إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة -، فقال أبو الأسود:
كساك ولم تستكسه فاشكرن له … أخُ لك يعطيك الجميل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت شاكراً … بشكرك من أعطاك والوجه وافر
وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر! وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله ﷻ، فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً وقبل أن تولدوا! قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب كيلا تعيروا.
وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان. وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال:
العلم زين وتشريف لصاحبه … فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لاخير فيمن له أصل بلا أدب … حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة … فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا
في بيت مكرمة أباؤه نجب … كانوا رؤوساً فأمسى بعدهم ذنبا
وخامل مقرف الأباء ذي أدب … نال المعالي بالآداب والرتبا
أضحى عزيزاً عظيم الشأن مشتهراً … في خده صعر قد ضل محتجبا
العلم كنز وذخر لانفاد له … نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثم يسلبه … عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا … ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه … لاتعدلن به درّا ولاذهبا
وقال:
وإذا وعدت الوعد كنت كغارم … ديناً أقرّ به وأحضر كاتبا
حتى أنفذه كما وجهته … وكفى عليَّ له بنفسي طالبا
وإذا منعت منعت منعاً بيتنا … وأرحت من طول العناء الراغبا
لاأشتري الحمد القليل بقاؤه … يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه … وإن كان ذا مال على الناس هين
وإن كان ذا عقل أجل لعقله … وأفضل عقل عقل من يتدين
وقال:
وعدد من الرحمان فضلا ونعمة … عليك إذا ماجاء للخير طالب
وأن أمرا لايرتجى الخير عنده … يكن هيناً ثقلاً على من يصاحب
أرى دولاً هذا الزمان بأهله … وبينهم فيه تكون النوائب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالباً … فإنك لاتدري متى أنت راغب
وإن قلت في شيء نعم فأتمه … فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها … لكيلا يقول الناس: إنك كاذب
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة … جبلت عليها لم تطعك الضرائب
تخلق أحيانا إذا ما أردتها … وخلقك من دون التخلق غالب
وقال:
ضاق صدر المرء عن سر نفسه … ففاض ففي صدري لسري متسع
إذا فات شيء فاصطبر لذهابه … ولاتتبعن الشيء إن فاتك الجزع
ففي اليأس عما فات عزٌ وراحة … وفيه الغنى والفقر ياضافي الطمع
إذا صاحبا وصل بحبل تجاذبا … فمل قواه أوهن الحبل فانقطع
ولاتحفرن بئراً تريد أخا بها … فإنك فيها أنت من دونه تقع
وكلُّ امرئ يبغي على الناس ظالماً … تصبه على رغم عواقب ما صنع
وذكرت العمائم عنده، فقال: العمامة خير ملبوس: جنة في الحروب وواقية في الأحداث، مسكنة من الحر ومدفئة من البرد، وقار في الندي وزيادة في القامة، وهي تعد من تيجان العرب.
وقال لابن قيس الرقيات:
وما خصلة قد تذل الرجال … بأسوأ وأخزى من المسأله
فإن مت ضراً فلا تسألن … أخا الجهل من ماله خردله
فترجع من عنده نادماً … وتقطع من كفك الأنمله
وإن هو أعطاك مجهوده … فليس بأعطى من المكحله
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمني … ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يوماً ويوما … تجئ بحماة وقليل ماء
ولاتقعد على كسل التمني … تحيل على المقادر في القضاء
فإن مقادر الرحمان تجري … بأرزاق العباد من السماء
مقدرة بقبض أو ببسط … وعجز المرء من سبب البلاء
وبعض الرزق في دعة وخفض … وبعض الرزق يكسب بالعناء
بينا أبو الأسود يوماً في طريق إذ لقيته امرأة لها رواء، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك فيّ؟ قال: ومن أنت؟ قالت: فلانة ابنة فلان. فعرفها فتزوجها؛ فلما مضت عليه أيام استكتمها سرا، فأفشته، فنهاها، ثم عادت لمثل مانهاها، فقال لها: أصنعي طعاما وابعثي إلي إخوتك حتى يأتوك! فلما جاؤوا وأكلوا وقف أبو الأسود عليهم وقال:
أرأيت امرأ كنت لم أبله … أتاني فقال: اتخذني خليلا
فخاللته ثم صافيته … فلم أستفد منه يوماً فتيلا
فعاتبته ثم ناقرته … عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا
فألفيته حين خاللته … خؤون الأمانة خبا بخيلا
ألست حقيقاً بهجرانه … وإسماع أذنيه هجراً طويلا
قالوا: بلى والله، من كان كذلك فهو محقوق بهذا. فقال: هي أختكم، خذوا بيدها! وطلقها.
وخاصمت أمرأة أبي الأسود أبا الأسود في ولدها إلى معاوية - وكان معاوية قد حج المدينة، وكان أبو الأسود كبيراً عنده يقرب مجلسه ويسأله عن أشياء، فيقول فيها بعلم - فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين، أمتع به! إن الله جل وعز جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت بك الشجر، ويؤمن بك الخائف، ويردع بك الحائف، فأنت الخليفة المصطفى، والأمير المرتضى، فأسأل الله ﷻ النعمة من تغيير، والبركة من غير تقتير، فقد ألجأني إليك - ياأمير المؤمنين - أمر، ضاق به عني الهم، ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، وأنا أعوذ بعد لك من العار الوبيل، والأمر الجليل، الذي يستتر على الحرائز ذوات البعول. فقال لها معاوية: من هذا الذي شعرك بشناره؟ فقالت: أمر طلاق كان من بعل غادر، لاتأخذه من الله مخافة، ولايجد بأحد رأفة. قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو الأسود. فالتفت معاوية إليه وقال: أجق ماتقول هذه المرأة؟ قال: إنها لتقولن من الحق بعضا، وليس يطيق أحدُ عليها تقضا، أما ما ذكرت من طلاقها فهو حق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أما والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولامن هفوة حضرت، كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: وأي شمائلها كرهت؟ قال: إنك مهيجها علي بلسان شديد، وجواب عتيد. قال: لابد لك من مجاوبتها، فأردد عليها قولها عند محاورتها. قال: هي ياأمير المؤمنين كثيرة الصخب، دائمة الذرب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته، تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، ولاتنكل من صخب، ولايزال منها زوجها في تعب. فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضره من المسلمين، أرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كل سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما أجبته! فقالت: ياأمير المؤمنين، هو والله سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن قالفشر قائل، وإن سكت فذو ضغائن، ليث خبيث مأمن ثعلب حين يخاف، شحيح حين يضاف، إن ألتمس الجود عنده انقطع، لما يعلم من لؤم أبائه، وقصور بنائه، ضيفه جائع، وجاره ضائع، لايحمي ذمارا، ولايضرم نارا، ولايرى جوارا، أهون الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه. فقال معاوية: ما ر أيت أعجب من هذه المراة! أنصرفي إليَّ رواحا! فلما كان العبثي جاءت، ومعاوية يخطب. فقال أبو الأسود: اللهم أكفني شرها! قالت: قد كفاك الله شري، وأرجو أن يعيذك من شر نفسك! فقال معاوية: مارأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو الأسود: ياأمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا، فتجيدها. قال: فتكلف أنت لها أبياتا، لعلك أن تقهرها بالشعر. فقال أبو الأسود:
مرحبا بالتي تجور علينا … ثم أهلا بحامل محمول
أغلقت بابها علي وقالت: … إن خير النساء ذات البعول
شغلت قلبها عليَّ فراغا … هل سمعتم بفارغ مشغول
فقالت تجيبه:
ليس من قال بالصواب وبالحق … كمن جار عن منار السبيل
كان حجري فناءه حين يضجي … ثم ثديي سقاءه بالأصيل
لست أبغي بواحدي ياابن حرب … بدلا ما رأيته والجليل
وفي رواية أنها قالت: إن هذا يريد أن يغلبني على ابني، وقد كان بطني له رعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء. فقال أبو الأسود: أبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولاسواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال معاوية:
ليس من غذاه طفلا صغيرا … وسقاه من ثديه بالخذول
هي أولى به وأقرب رحما … من أبيه، وفي قضاء الرسول
أنه ما حنث عليه ورقت … هي أولى بذا الغلام الجميل
فدفعه معاوية إليها.
اشترى أبو الأسود جارية - يقال لها صلاح - لتخدمه، فطمعت فيه وأقبلت تتطيب وتتعرض لفراشه، فأنشأ يقول:
أصلاح إني لاأريدك للصبا … فذري التشكل حولنا وتبدَّلي
إني أريدك للعجين وللرحا … ولحمل قربتنا وغلي المرجل
إذا تروح ضيف أهلك أو غدا … فخذي التأهب نحو آخر مقبل
وقال له رجل: إنك والله ظريف لفظ، وظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: وما خير ظرف لايمسك مافيه؟! - وسلّم أعرابي عليه فقال: كلمة مقولة. قال: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع عليك! قال: هل عندك شئٌ يؤكل؟ قال: نعم. قال: أطعمني! قال: عيالي أحق به! قال: مارأيت ألأم منك! قال: نسيت نفسك! - وكان يقول: ليس السائل الملحف مثل الردّ الجامسّ أي الجامد.
وكان أبو الأسود قد أتخذ دكاناً على باب داره بقدر مجلسه، لايسع غيره وغير طبق يكون بين يديه يأكل منه، فإذا مرّ به مار فسلم عليه عرض عليه طعامه، فينظر فلايرى لنفسه موضعاً، فيدعو له وينصرف. فمر به أعرابي وهو يأكل، فدعاه، فأجابه وأقبل يأكل معه وهو قائم؛ فلما اشتد عليه القيام أخذ الطبق فوضعه في الأرض وقال له: إن كان لك في الطعام حاجة فانزل وكل! وأقبل الأعرابي يأكل، وأبو الأسود ينظر إليه ويتغيظ، ثم قال: ماأسمك، يأعرابي؟ قال: لقمان. فقال: لقد أصاب أصلك اسمك! ثم أنشأ يقول:
أنظر الى جلسته ومطه … ولقمه مبادراً وغطه
ولفه رقاقه ببطه … كأن جالينوس تحت ابطه
وسأله رجل فمنعه، فقال: ماأصبحت حاتمياً! قال: بلى أصبحت حاتمياً من حيث لاتدري! أليس حاتم الذي يقول:
أماويَّ إما مانعٌ فمبين … وأما عطاءٌ لاينهنهه الزجر
وكانت له ناحية من عبد الله بن عامر، فأنكر بعض شأنه ورأى منه جفوة، فقال أبو الأسود:
ألم تر مابيني وبين ابن عامر … من الود قد بالت عليه الثعالب
وأصبح ماقد كان بيني وبينه … كأن لم يكن، والدهرُ فيه العجائب
فقلت: تعلم أن صرمك جاهرا … ووصلك عنه شقةٌ متقارب
فما أنا بالباكي عليك صبابة … ولا بالذي تأتيك مني المثالب
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها … فذلك من أخلاقه ما يغالب
فللنأي خير من دنو على أذى … ولاخير فيمن خالفته الضرائب
كان أبو الأسود صديقا لحوثرة بن مسلم عامل إصبهان، فخرج إليه، فلم يحفل به حوثرة، فكتب إليه:
إنك اليوم امرؤ محتقرٌ … خصَّه الله بلؤم وضعه
يسأل الناس ولا يعطيهم … هبلته أمه ما أخضعه
لاتؤاخ الدهر خبا راضعاً … ملهب الشد سريع المنزعه
خفق النعل إذا ماقلته … واحذرن مخزاته في المجمعه
لايكن برقك برقا خلباً … إن خير البرق ما الغيث معه
لاتشوبن بحق باطلا … إن في الحق لذي الدين سعه
أولها:
سل خليلي ماالذي غيَّر لي … وده والنصح حتى ودعه
لاتهني بعد إذ أكرمتني … فشديد عادةٌ منتزعه
فلما قرأها أعياه جوابه. فعرضه على جماعة شعراء، فلم يجترؤا على أبي الأسود، فأجابه عنه عطية بن حمزة بأبيات لم يلتفت إليها، فأجابه أبو الأسود:
ألم تر أني والتكرم شيمتي … وكلُّ أمرىٍ جارٍ على ماتعودا
أطهر أثوابي من الغدر والخنا … وأنجو إذا ماكان خيرا وأنجدا
أعود على المولى إذا زال حلمه … بحلمي وكان الحلم أبقى وأحمدا
وكنت إذا المولى بدا لي غشه … تجاوزت عنه وانتظرت به غدا
لتحكمه الأيام أو غيره … عليَّ ولم أبسط لساناً ولايدا
فحمل إليه حوثرة مائة درهم.
ولما كبر أبو الأسود كان يكثر الركوب، فقيل له: قد كبرت، فلو تودعت ولزمت منزلك! فقال: صدقتم! ولكن الركوب يشد بضبعي، وأسمع من الخير مالا أسمع في بيتي، وأستنشق الريح وألقى الإخوان، ولو جلست في منزلي اغتم أهلي واستأنس بي الصبي واجترأت عليَّ الخادم، وكلمني من أهلي من كان يهاب كلامي، لإلفهم إياي وجلوسي عندهم.
وله:
أظل كئيباً لو تشوكك شوكة … وتفرح لو دهدهت من رأس حالق
لشتان مابيني وبينك في الإخا … صدقتك في نفسي ولست بصادق
أفق عنك لايذهب بك التيه سالماً … فإنك مخلوق ولست بخالق
وكل أخٍ عند الهوينا ملاطف … ولكنما الإخوان عند الحقائق
وقال له رجل وكان حسن المتجرد: أشتهي أن يكون متاعي في سرَّتك! فقال: ياأحمق، إذا يصير جرداني في سبتك! - وقال له رجل: لايبقى إلا الله والعمل الصالح! إن العمل السوء يبقى حتى يخزي صاحبه.
ولما ولي حارثة بن بدر الغداني سرق كتب إليه أبو الأسود:
أحار بن بدر قد وليت ولاية … فكن جرذا فيها يخون ويسرق
ولاتحقرن ياحار شيئاً فإنما … يصيبك من مال العراقين سُرقُ
وإنك تلقى الناس إما مكذب … يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولايبرمونها … فإن قيل: هاتوا حققوا! لم يحققوا
وباه تميما بالغنى إن للغنى … لساناً به العي الهيوبة ينطق
وكن حازما في اليوم إن الذي به … يجئ غد يومٌ على الناس مطبق
ولاتعجزن فالعجز أوطأ مركب … وماكل من يدعى إلى الخير يرزق
إذا مادعاك القوم عدوك آكلا … فكل حار أوجع لست ممن يحمق
وشيع أبو الأسود حارثة بن بدر لما ولاه عبيد الله بن زياد سرق، فلما أراد فراقه قال حارثة:
جزاك إله العرش خير جزائه … فقد قلت معروفاً وأوصيت كافياً
أشرت بأمر لو أشرت بغيره … لألفيتني فيه لرأيك عاصياً
ستلقى أخا يصفيك بالود حازما … ويوليك حفظ العهد إن كان نائياً
وأيسر ماعندي المؤاساة مسمحا … إذا لم تجد يوماً صديقاً مؤاسياً
فقال أبو الأسود:
إذا نلت الإمارة فاسم فيها … إلى العلياء بالأمر الوثيق
ولاتك عندها حلواً فتحسى … ولا مراً فتنشب في الحلوق
فكل إمارة إلا قليلا … مغيرة الصديق على الصديق
وما استخبأت في رجل خبيئاً … كدين الصدق أو حسب عتيق
ذوو الأحساب أكرم مخبرات … وأصبر عند نائبة الحقوق
مرض أبو الأسود فقيل له: اصبر، فهذا أسر الله! قال: هو، أشد له!
مات رحمه الله في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، وسنة خمس وثمانون سنة.
من كتاب نور القبس - أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (ت 673هـ)