عسكر بن حصين النخشبي

أبي تراب النخشبي

تاريخ الولادةغير معروف
تاريخ الوفاة245 هـ
مكان الولادةغير معروف
مكان الوفاةغير معروف
أماكن الإقامة
  • بلخ - أفغانستان
  • ماوراء النهر - أفغانستان
  • خراسان - إيران
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • البصرة - العراق
  • بغداد - العراق
  • بلاد الشام - بلاد الشام

نبذة

أبي تراب عسكر بْن حصين النخشبي صحب حاتم الأصم وأبا حاتم العطار الْمِصْرِي، مَات سنة خمس وأربعين ومائتين قيل مَات بالبادية نهشته السباع. وَقَالَ ابْن الجلاء: صحبت ست مائة شيخ مَا لقيت فيهم مثل أربعة أولهم أبي تراب النخشبي قَالَ أبي تراب الفقير قوته مَا وجده ولباسه مَا ستره ومسكنه حيث نزل.

الترجمة

أبي تراب عسكر بْن حصين النخشبي صحب حاتم الأصم وأبا حاتم العطار الْمِصْرِي، مَات سنة خمس وأربعين ومائتين قيل مَات بالبادية نهشته السباع.
وَقَالَ ابْن الجلاء: صحبت ست مائة شيخ مَا لقيت فيهم مثل أربعة أولهم أبي تراب النخشبي قَالَ أبي تراب الفقير قوته مَا وجده ولباسه مَا ستره ومسكنه حيث نزل.
وَقَالَ أبي تراب: إِذَا صدق العبد فِي العمل وجد حلاوته قبل أَن يعمله فاذا أخلص فِيهِ وجد حلاوته ولذته وقت مباشرة الفعل.
سمعت الشيخ أبا عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي رحمه اللَّه يَقُول: سمعت جدى إِسْمَاعِيل بْن نجيد يَقُول: كَانَ أبي تراب النخشبي إِذَا رأى من أَصْحَابه مَا يكره زاد فِي اجتهاد وجدد توبته وَيَقُول: بشؤمي دفعوا إِلَى مَا دفعوا إِلَيْهِ، لأن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] قَالَ: وسمعته يَقُول أيضا لأَصْحَابه: من لبس منكم مرقعة فَقَدْ سأل، ومن قعد فِي خانقاه أَوْ مَسْجِد فَقَدْ سأل، ومن قرأ الْقُرْآن من مصحف أَوْ كيما يسمع النَّاس فَقَدْ سأل، قَالَ: وسمعته يَقُول: كَانَ أبي تراب يَقُول: بيني وبين اللَّه عهد أَن لا أمد يدي إِلَى حرام إلا قصرت يدي عَنْهُ.
ونظر أبي تراب يوما إِلَى صوفي من تلامذته قَدْ مد يده عَلَى قشر بطيخ وَقَدْ طوى ثلاثة أَيَّام فَقَالَ لَهُ أبي تراب: تمد يدك عَلَى قشر البطيخ أَنْتَ لا يصلح لَك التصوف الزم السوق.

سمعت مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا الْعَبَّاس البغدادي يَقُول: سمعت أبا عَبْد اللَّهِ الفارسي يَقُول: سمعت أبا الْحُسَيْن الرازي يَقُول: سمعت يُوسُف بْن الْحُسَيْن يَقُول: سمعت أبا تراب النخشبي يَقُول: مَا تمنت نفسي عَلَى شَيْئًا قط إلا مرة واحدة تمنت عَلَى خبزا وبيضا وأنا فِي سفرى فعدلت عَنِ الطريق إِلَى قرية فوثب رجل وتعلق بي وَقَالَ: كَانَ هَذَا مَعَ اللصوص فبطحوني وضربوني سبعين خشبة قَالَ: فوفق عَلَيْنَا رجل صوفي فصرخ وَقَالَ: ويحكم هَذَا أبي تراب النخشبي فخلوني واعتذروا إِلَي وأدخلني الرجل منزله وقدم إِلَى خبزا وبيضا فَقُلْتُ: كلها بَعْد سبعين جلدة.
وحكى ابْن الجلاء قَالَ دَخَلَ أبي تراب مَكَّة طيب النفس فَقُلْتُ: أين أكلت أيها الأستاذ؟ فَقَالَ: أكلة بالبصرة وأكلة بالنباج وأكلة ههنا.

الرسالة القشيرية.   لعبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري.

 

أبي تراب النخشبي - 245 للهجرة
أبي تراب عسكر بن حصين النخشبى، نسبة إلى نخشب، بلدة بما وراء النهر.
من جلة مشايخ خراسان وأكابرهم. وصحب الأصم وغيره.
وأستاذه على الرازي المذبوح، من قدماء المشايخ. سمى المذبوح لأنه غزا في البحر، فأخذه العدو، فأرادوا ذبحه، فدعا بدعاء، ثم رمى نفسه في البحر، فجعل يمشى على الماء حتى خرج.
وقيل: ارادوا ذبحه، فكانوا كلما وضعوا الشفرة على حلقه انقلبت، فضجروا وتركوه.

وسئل عن التوكل فقال:) الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يحييكم ثم يميتكم (.
ومن كلامه أبى تراب: " الفقير قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث نزل ".
وقال: " الصوفي لا يكدره شئ، ويصفو به كل شئ ".
وقال: " إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته وقت مباشرته ".
وقال: " إذا تواترت على أحدكم النعم فليبك على نفسه، فقد سلك به غير طريق الصالحين ".
وقال: " إذا ألف القلب الأعراض عن الله صحبته الوقيعة في أعراض أولياء الله ".

وقال لأصحابه: " من لبس منكم مرقعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن من مصحف كيما يسمع الناس فقد سأل ".
ونظر يوماً إلى صوفي من تلامذته، مد يده إلى قشر بطيخ، وكان قد طوى ثلاثة أيام، فقال: " تفعل ذلك؟!. أنت لا يصلح لك التصوف، فالزم السوق! ".
قال يوسف بن الحسين: " صحبت أبا تراب خمس سنين، وحججت معه على غير طريق الجادة. ورأيت منه في السفر عجائب، يقصر لساني عن وصف جميع ما شاهدته، غير أننا كنا مارين، فنظر إلى يوماً وانا جائع، وقد تورمت قدماى؛ وأنا امشى بجهد، فقال لى: " كالك؟ لعلك جعت؟ " قلت: " نعم " قال: " ولعلك أسأت الظن؟ " قلت: " بلى! " قال: " ارجع أليه! " قلت: " وأين هو؟ " قال: " حيث خلفته! " قلت: " هو معي! " قال: " فان كنت صادقاً فما هذا الهم الذي أراه عليك؟! " قال: فرأيت الورم قد سكن، والجوع قد ذهب، ونشطت حتى كدت أتقدمه. فقال أبي تراب: " اللهم إن عبدك قد اقر لك، فأطعمه! " ونحن بين جبال ليس فيها مخلوق، ثم انتهينا إلى رابية، وإذا كوز ورغيف موضوع، فقال لى أبي تراب: " دونك! دونك! " فجلست فأكلت، وقلت: " أليس تأكل منه، أنت؟ " فقال: " لا! بل من اشتهاه! ".
وروى أنه قال: " وقفت بعرفات خمساً وعشرين وقفة. فلما كان من قابل رأيت الناس بعرفات، ما رأيت أكثر منهم عدداً، ولا أكثر خشوعاً وتضرعاً ودعاء، فاعجبنى ذلك، فقلت: " اللهم، من لم تقبل حجته من هذا الخلق فأجعل ثواب حجتي له! ". وأفضنا من عرفات وبتنا بجمع، فرأيت في المنام هاتفاً يهتف بى: " تتسخى على، وأنا أسخى الأسخياء؟!. وعزتي وجلالي! ما وقف أحد هذا الموقف إلا غفرت له " فانتبهت فرحاً بهبة الرؤيا، فرأيت يحيى بن معاذ الرازى، فقصصت عليه الرؤيا، فقال: " إن صدقت رؤياك فإنك تعيش أربعين يوماً. فلما كان يوم إحدى وأربعين جاءوا إلى يحيى وقالوا: إن أبا تراب مات، فغسله ودفنه.
وقيل: مات بالبادية. نهشته السباع، في سنة خمس وأربعين ومائتين.

ومن أصحابه حمدون بن أحمد القصار، أبي صالح النيسأبيرى. ملت سنة إحدى وسبعين ومائتين.
ومن كلامه: " من رأيت فيه خصلة من الخير فلا تفارقه فانه يصيبك من بركاته ".
وقال: " إذا رأيت سكران يتمايل فلا تنع عليه، فتبتلى بمثل ذلك ".
وسئل: " متى يجوز للرجل أن يتكلم؟ " فقال: " إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في علمه، أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها ".
وقال عبد الله بن منازل، قلت لأبى صالح: " أوصني! " فقال: " أن استطعت إلا تغضب لشيء من الدنيا فافعل ".

ومات صديق له وهو عند رأسه، فلما مات أطفأ حمدون السراج فقيل: " في مثل هذا الوقت يزاد في السراج! " فقال: إلى هذا الوقت كان الدهن له، فصار لورثته ".
ومن أصحابه أيضاً شاه بن شجاع الكرماني أبي الفوارس. من أولاد الملوك، وكان كبير الشأن، حاد الفراسة، قل أن يخطئ. مات قبل الثلثمائة. وكرمان عدة بلاد. ومن كلامه: " علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات ".

وكان يقول لأصحابه: " اجتنبوا الكذب والخيانة والغيبة، ثم افعلوا ما بدا لكم ".
وقال: " من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات؛ وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهرة باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة ".
وروى أنه كان بينه وبين يحيى بن معاذ صداقة. فجمعهما بلد واحد، فكان شاه لا يحضر مجلسه، فقيل له في ذلك، فقال: " الصواب هذا! " فما زالوا به حتى حضر مجلسه، وقعد ناحية وهم لا يشعرون. فلما أخذ يحيى بالكلام ارتج عليه وسكت، ثم قال: " هنا من هو أحق بالكلام منى! "، فقال لهم شاه: " قلت لكم: الصواب ألا أحضر مجلسه! ".
وروى انه كان قد تعود السهر، فغلبه النوم مرة واحدة، فرأى الحق تعالى في المنام، فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك، فأنشد:
رأيت سرور قلبي في منامي ... فأحببت التنعس والمناما

ومن أصحابه أيضاً محمد بن على الترمذي أبي عبد الله، من كبار الشيوخ. وله تصانيف في علوم القوم. وصحب أيضاً ابن الجلاء وغيره.
سئل عن صفة الخلق، فقال: " ضعف ظاهر ودعوى عريضة ".
وقال: " ما صنعت حرفاً عن تدبير، ولا لينسب إلى شئ منه ولكن إذا اشتد على وقتي أنسلي به ".
ومن أصحابه أيضاً محمد بن حسان البسرى أبي عبيد. من قدماء المشايخ، صاحب كرامات.

قال ابن الجلاء: " لقيت ستمائة شيخ، ما رأيت مثل أربعة: ذي النون، وأبى تراب، وأبى عبيد البسرى، وأبى ".
مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
ومن كلامه: " النعم طرد، فمن أحب النعم فقد رضى بالطرد والبلاء قربة، فمن ساءه البلاء فقد أحب ترك القربة "؛ أي التقرب إلى الله تعالى.
ويروى عنه أنه قال: " سألت الله عز وجل ثلاث حوائج، فقضى لي اثنتين، ومنعني الثالثة: سألته أن يذهب عنى شهوة الطعام، فما ابالي أكلت أم لا. وسألته أن يذهب عنى شهوة النوم، فما أبالي نمت أم لا. وسألته أن يذهب عنى شهوة النساء فما قبل ".
قيل: فما معنى ذلك؟. قال: " أن الله تعالى قد قضى في مبدأ خلقه أن يكون شئ قدره وقضاه، فلا راد لقضائه ".
وروى أنه كان في أول ليلة من رمضان يدخل بيتاً، ويقول لامرأته: " طيني الباب، وألق إلى من الكوة رغيفاً " فإذا كان يوم العيد فتحته، ودخلت امرأته البيت، فإذا فيه ثلاثين رغيفاً في زاوية البيت، فلا أكل ولا شرب ولا نام، ولا فاتته ركعة من الصلاة.
وجاء ولده أليه فقال: " إني أخرجت جرة فيها سمن، فوقعت فانكسرت، فذهب رأس مالي! "، فقال: " يا بنى! اجعل رأس مالك رأس مال أبيك، فوالله ما لأبيك رأس مال في الدنيا والآخرة إلا الله تعالى! ".
وقال أبي عبيد البسرى، قال لي الخضر: " يا أبا عبيد!، أنا أجئ إلى العارفين في اليقظة، وأجئ إلى المريدين في المنام أودهم ". فرأيت مناماً، وكان فيما بيني وبينه يحضر، وكان قبل ذلك يجيئني في اليقظة، فقلت له: " اعبر لي " فقال: " أنا أزور من يدخر شيئاً لغد مناماً " فلما استيقظت جعلت أنظر وأفكر، فلم أر شيئاً أعرفه، فجاءت المرأة، فرأت على اثر الندم، فأخبرتها، فقالت: نعم! قد كان جاءنا أمس نصف درهم فرفعته، وقلت: " يكون لنا غداً ".
ويروى عن نجيب بن أبى عبيد البسرى قال: " كان والدي

في المحرس الغربي بعكا، في ليلة النصف من شعبان، وأنا في الرواق السادس، انظر إلى البحر؛ فبينا أنا أنظر إذا شخص يمشى على الماء، ثم بعد الماء مشى على الهواء، وجاء إلى والدى، فدخل من طاقته التي هو فيها ينظر إلى البحر، فجلس معه ملياً يتحادثان، ثم قام والدى فودعه، ورجع الرجل من حيث جاء. يمشى في الهواء، فقمت إلى والدي، قلت له: " يا أبت!، من هذا الذي كان عندك، يمشى على الماء، ثم الهواء؟ "، فقال: " يا بنى! رأيته؟ "، قلت: " نعم "، قال: " الحمد لله رب العالمين، الذى سوى بك وبنظرك له، يا بنى!، هذا الخضر. نحن اليوم في الدنيا سبعة، ستة يجيئون إلى أبيك، وأبيك لا يروح إلى واحد منهم ".

طبقات الأولياء - لابن الملقن سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري.

 

أبي تُرَاب النخشبي واسْمه عَسْكَر بن حُصَيْن وَيُقَال عَسْكَر بن مُحَمَّد بن حُصَيْن
صحب أَبَا حَاتِم الْعَطَّار الْبَصْرِيّ وحاتما الْأَصَم الْبَلْخِي وَهُوَ من جلة مَشَايِخ خُرَاسَان والمذكورين بِالْعلمِ والفتوة والتوكل والزهد والورع
سَمِعت أَبَا الْحسن الْقزْوِينِي يَقُول سَمِعت عَليّ بن عَبدك يَقُول سَمِعت ابا عمرَان الطبرستاني يَقُول سَمِعت ابْن الْفَرَجِيِّ يَقُول رَأَيْت حول أبي

تُرَاب من أَصْحَابه عشْرين وَمِائَة صَاحب ركوة قعُود حول الأساطين مَا مَاتَ مِنْهُم على الْفقر إِلَّا أبي عبيد البسري وَابْن الْجلاء
سَمِعت عبد الله بن عَليّ الطوسي يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن دَاوُد الدقي الدينَوَرِي يَقُول سَمِعت أَبَا عبد الله بن الْجلاء يَقُول لقِيت سِتّمائَة شيخ مَا لقِيت فيهم مثل أَرْبَعَة أَوَّلهمْ أبي تُرَاب النخشبي
توفّي فِي الْبَادِيَة قيل نهشته السبَاع سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَأسْندَ الحَدِيث
أخبرنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن فَارس الْحَافِظ الْبَغْدَادِيّ بهَا قَالَ حَدثنَا عبد الله ابْن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن مُصعب حَدثنَا أبي تُرَاب عَسْكَر بن حُصَيْن حَدثنَا مُحَمَّد بن نمير حَدثنَا مُحَمَّد بن ثَابت حَدثنَا شريك عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تكْرهُوا مرضاكم على الطَّعَام وَالشرَاب فَإِن رَبهم يُطعمهُمْ ويسقيهم)

أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْأَصْبَهَانِيّ إجَازَة بذلك قَالَ سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا جَعْفَر بن ترْكَان يَقُول سَمِعت يَعْقُوب بن الْوَلِيد يَقُول سَمِعت أَبَا تُرَاب يَقُول يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم تحبون ثَلَاثَة وَلَيْسَت هِيَ لكم تحبون النَّفس وَهِي لله وتحبون الرّوح وَالروح لله وتحبون المَال وَالْمَال للْوَرَثَة وتطلبون اثْنَيْنِ وَلَا تجدونهما الْفرج والراحة وهما فِي الْجنَّة
سَمِعت أَبَا نصر عبد الله بن عَليّ يَقُول سَمِعت عَليّ بن الْحُسَيْن يَقُول قلت لأبي تُرَاب وَقد أَخذ طَرِيق الْبَادِيَة لَا بُد من قوت فَقَالَ لَا بُد مِمَّن لَا بُد مِنْهُ
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب اشرف الْقُلُوب قلب حَيّ بِنور الْفَهم عَن الله تَعَالَى
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب سَبَب الْوُصُول إِلَى الله سبع عشرَة دَرَجَة أدناها الْإِجَابَة وأعلاها التَّوَكُّل على الله بحقيقته
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب لَيْسَ من الْعِبَادَات شَيْء أَنْفَع من إصْلَاح خواطر الْقُلُوب
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب الْفَقِير قوته مَا وجد ولباسه مَا ستر ومسكنه حَيْثُ نزل
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب إِذا صدق العَبْد فِي الْعَمَل وجد حلاوته قبل مُبَاشرَة الْعَمَل

قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب من شغل مَشْغُولًا بِاللَّه عَن الله أدْركهُ المقت من سَاعَته
سَمِعت عَليّ بن سعيد الثغري يَقُول سَمِعت عبد السَّلَام بن مُحَمَّد المخرمي يَقُول سَمِعت ابْن أبي شيخ يَقُول سَمِعت عَليّ بن الْحُسَيْن التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت أَبَا تُرَاب يَقُول التَّوَكُّل طمأنينة الْقلب إِلَى الله عز وَجل
قَالَ وَقَالَ رجل لأبي تُرَاب أَلَك حَاجَة فَقَالَ لَهُ يَوْم يكون لي إِلَيْك وَإِلَى أمثالك حَاجَة لَا يكون لي إِلَى الله حَاجَة
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب حَقِيقَة الْغنى أَن تَسْتَغْنِي عَمَّن هُوَ مثلك وَحَقِيقَة الْفقر أَن تفْتَقر إِلَى من هُوَ مثلك
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب الَّذِي منع الصَّادِقين الشكوى إِلَى غير الله الْخَوْف من الله عز وَجل
سَمِعت أَحْمد بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا النسوي يَقُول سَمِعت عَليّ بن إِبْرَاهِيم الشقيقي يَقُول سَمِعت إِبْرَاهِيم بن المولد يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد

الرَّافِعِيّ يَقُول سَمِعت عَليّ بن الْحُسَيْن التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت أَبَا تُرَاب النخشبي يَقُول الْكيس من عُمَّال الله من حفظ حَده مَعَ الله تَعَالَى وَترك الْعلم يجْرِي مجاريه
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب إِن الله عز وَجل ينْطق الْعلمَاء فِي كل زمَان بِمَا يشاكل أَعمال أهل ذَلِك الزَّمَان
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب احفظ همك فَإِنَّهُ مُقَدّمَة الاشياء فَمن صَحَّ لَهُ همه صَحَّ لَهُ مَا بعد ذَلِك من أَفعاله وأحواله
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب القناعة أَخذ الْقُوت من الله عز وَجل
قَالَ وَقَالَ أبي تُرَاب من استفتح أبياب المعاش بِغَيْر مَفَاتِيح الأقدار وكل إِلَى حوله وقوته فَسئلَ مَا مَفَاتِيح الأقدار فَقَالَ الرِّضَا بِمَا يرد عَلَيْهِ فِي كل وَقت من أَسبَاب الْغَيْب.

طبقات الصوفية - لأبي عبد الرحمن السلمي.

 

 

عَسْكَر بن الْحصين وَقيل عَسْكَر بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الشَّيْخ أَبِي تُرَاب النخشبي
بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْخَاء وَفتح الشين المعجمتين وفى آخرهَا الْبَاء الْمُوَحدَة نسية إِلَى نخشب بَلْدَة من بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر عربت فَقيل لَهَا نسف
كَانَ شيخ عصره بِلَا مدافعة جمع بَين الْعلم وَالدّين زاهدا ورعا متقشفا متقللا متوكلا متبتلا

صحب حاتما الْأَصَم إِلَى أَن مَاتَ وَخرج إِلَى الشَّام وَكتب الْكثير من الحَدِيث وَنظر فى كتب الشافعى وتفقه على مذْهبه
وَحدث عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير ونعيم بن حَمَّاد وَأحمد بن نصر النيسابورى وَغَيرهم
روى عَنهُ أَحْمد بن الْجلاء وَأَبُو بكر بن أَبى عَاصِم وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل وَآخَرُونَ
قَالَ الدقى فِيمَا رَوَاهُ الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ سَمِعت أَبَا عبد الله بن الْجلاء يَقُول لقِيت سِتّمائَة شيخ مَا رَأَيْت فيهم مثل أَرْبَعَة أَوَّلهمْ أَبُو تُرَاب
قَالَ ابْن الصّلاح وَالثَّلَاثَة الْآخرُونَ أَبوهُ يحيى الْجلاء وَأَبُو عبيد البسرى وَذُو النُّون المصرى رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وروى الْخَطِيب أَن أَبَا تُرَاب قَالَ مَا تمنت على نفسى قطّ إِلَّا مرّة تمنت على خبْزًا وبيضا وَأَنا فى سفرة فعدلت من الطَّرِيق إِلَى قَرْيَة فَلَمَّا دخلت وثب إِلَى رجل فَتعلق بى وَقَالَ إِن هَذَا كَانَ مَعَ اللُّصُوص قَالَ فبطحونى فضربونى سبعين جلدَة فَوقف علينا رجل فَصَرَخَ هَذَا أَبُو تُرَاب فأقامونى وَاعْتَذَرُوا إِلَى وأدخلنى الرجل منزله وَقدم إِلَى خبْزًا وبيضا فَقلت كلهما بعد سبعين جلدَة
وروى بِسَنَدِهِ إِلَى أَبى عبد الله ابْن الْجلاء قَالَ قدم أَبُو تُرَاب مرّة مَكَّة فَقلت لَهُ يَا أستاذ أَيْن أكلت فَقَالَ جِئْت بفضولك أكلت أَكلَة بِالْبَصْرَةِ وأكلة بالنباج وأكلة عنْدكُمْ

وروى بِسَنَدِهِ أَيْضا إِلَى أَبى تُرَاب قَالَ وقفت خمْسا وَخمسين وَقْفَة فَلَمَّا كَانَ من قَابل رَأَيْت النَّاس بِعَرَفَات مَا رَأَيْت قطّ أَكثر مِنْهُم وَلَا أَكثر خشوعا وتضرعا فأعجبنى ذَلِك فَقلت اللَّهُمَّ من لم تتقبل حجَّته من هَذَا الْخلق فَاجْعَلْ ثَوَاب حجتى لَهُ وأفضنا من عَرَفَات وبتنا بِجمع فَرَأَيْت فى الْمَنَام هاتفا يَهْتِف بى تتسخى علينا وَأَنا أسخى الأسخياء وعزتى وجلالى مَا وقف هَذَا الْموقف أحد قطّ إِلَّا غفرت لَهُ فانتبهت فَرحا بِهَذِهِ الرُّؤْيَا فَرَأَيْت يحيى بن معَاذ الرازى وقصصت عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَقَالَ إِن صدقت رُؤْيَاك فَإنَّك تعيش أَرْبَعِينَ يَوْمًا
قَالَ الراوى فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد وَأَرْبَعين جَاءُوا إِلَى يحيى بن معَاذ الرازى فَقَالُوا إِن أَبَا تُرَاب مَاتَ فَغسله وكفنه
وَعَن يُوسُف بن الْحُسَيْن كنت مَعَ أَبى تُرَاب بِمَكَّة فَقَالَ أحتاج إِلَى كيس دَرَاهِم فَإِذا رجل قد صب فى حجره كيس دَرَاهِم فَجعل يفرقها على من حوله وَكَانَ فيهم فَقير يتَرَاءَى لَهُ أَن يُعْطِيهِ شَيْئا فَمَا أعطَاهُ شَيْئا فنفدت الدَّرَاهِم وَبقيت أَنا وَأَبُو تُرَاب وَالْفَقِير فَقَالَ لَهُ تراءيت لَك غير مرّة فَلم تعطنى شَيْئا فَقَالَ لَهُ أَنْت لَا تعرف الْمُعْطى
وَعَن يُوسُف بن الْحُسَيْن صَحِبت أَبَا تُرَاب النخشبى خمس سِنِين وَحَجَجْت مَعَه على غيرطريق الجادة وَرَأَيْت مِنْهُ فى السّفر عجائب يقصرلسانى عَن شرح جَمِيعهَا غير أَنا كُنَّا مارين فَنظر إِلَى يَوْمًا وَأَنا جَائِع وَقد تورمت رجلاى وَأَنا أمشى بِجهْد فَقَالَ لى مَالك لَعَلَّك جعت قلت نعم قَالَ ولعلك أَسَأْت الظَّن بِرَبِّك قلت نعم قَالَ ارْجع إِلَى رَبك قلت وَأَيْنَ هُوَ قَالَ حَيْثُ خلفته فَقلت هُوَ معى فَقَالَ إِن كنت صَادِقا فَمَا هَذَا الْهم الذى أرى عَلَيْك قَالَ فَرَأَيْت الورم قد سكن والجوع قد ذهب ونشطت حَتَّى كدت أسبقه قَالَ أَبُو تُرَاب اللَّهُمَّ إِن عَبدك قد أقرّ لَك بالآفة فأطعمه وَنحن بَين جبال لَيْسَ فِيهَا مَخْلُوق فَانْتَهَيْنَا إِلَى رابية فَإِذا كوز مَاء ورغيف

مَوْضُوع فَقَالَ لى أَبُو تُرَاب دُونك دُونك فَجَلَست وأكلت وَقلت لَهُ ليش مَا تَأْكُل أَنْت قَالَ يَأْكُل من اشتهاه
أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الخباز بقراءتى عَلَيْهِ أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن حَمَّاد العسقلانى وَإِبْرَاهِيم بن حمد بن كَامِل المقدسى سَمَاعا قَالَا أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن منينا وَابْن سكينَة إجَازَة قَالَا أخبرنَا مُحَمَّد ابْن عبد الباقى الأنصارى القاضى أخبرنَا الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ أخبرنى عبيد الله ابْن أَحْمد الصيرفى حَدثنَا أَبُو الْفضل الزهرى حَدَّثَنى أَبُو الطّيب أَحْمد بن جَعْفَر الْحذاء قَالَ سَمِعت أَبَا على الْحُسَيْن بن خيران الْفَقِيه قَالَ مر أَبُو تُرَاب النخشبى بمزين فَقَالَ لَهُ تحلق رأسى لله عز وَجل فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَبينا هُوَ يحلق رَأسه مر بِهِ أَمِير من أهل بَلَده فَسَأَلَ حَاشِيَته فَقَالَ لَهُم أَلَيْسَ هَذَا أَبَا تُرَاب فَقَالُوا نعم فَقَالَ أيش مَعكُمْ من الدَّنَانِير فَقَالَ لَهُ رجل من خاصته معى خريطة فِيهَا ألف دِينَار فَقَالَ إِذا قَامَ فأعطه إِيَّاهَا وَاعْتذر إِلَيْهِ وَقل لَهُ لم يكن مَعنا غير هَذِه فجَاء الْغُلَام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ إِن الْأَمِير يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَقَالَ لَك مَا حضر مَعنا غير هَذِه فَقَالَ لَهُ ادفعها إِلَى المزين فَقَالَ المزين أيش أعمل بهَا فَقَالَ خُذْهَا فَقَالَ وَالله وَلَو أَنَّهَا ألفا دِينَار مَا أَخَذتهَا فَقَالَ لَهُ أَبُو تُرَاب مر إِلَيْهِ فَقل لَهُ إِن المزين مَا أَخذهَا فَخذهَا أَنْت فاصرفها فى مهماتك
قلت سقنا هَذِه الْحِكَايَة بالسند لما فِيهَا من جليل الْفَوَائِد فَمِنْهَا حَال هَذَا المزين وَعدم أَخذه الْعِوَض على عمل عمله لله تَعَالَى فَأرى الله أَبَا تُرَاب خلقا من خلقه مزينا بِهَذِهِ الصّفة
وَمِنْهَا رد أَبى تُرَاب هَذَا الذَّهَب على هَذَا الْوَجْه فَإِن أَبَا تُرَاب إِن كَانَ عرف أَن هَذَا المزين لَا يَأْخُذهَا فَلَعَلَّهُ دَفعهَا إِلَيْهِ ليردها فيراه غُلَام ذَلِك الْأَمِير وَيعرف ويحكى لأستاذه أَن مزين أَبى تُرَاب لَا يرضى أَن يَأْخُذ ألف دِينَار على هَذَا الْعَمَل الْيَسِير فَمَا الظَّن بأبى تُرَاب وإعراضه عَن الدُّنْيَا وَإِن كَانَ أَبُو تُرَاب لم يعرف حَال المزين وَذَلِكَ بعيد عندنَا فَيكون رد المزين لَهَا تعريفا من الله لأبى تُرَاب بِمِقْدَار هَذَا المزين وتربية أَيْضا لهَذَا الْأَمِير وسلوكا لأحسن طَرِيق فى رد ذهبه عَلَيْهِ وَأَنه أحْوج من أَبى تُرَاب إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يبْذل مثله لمزين ومزين أَبى تُرَاب لَا يرضى بمثليه وَلَا بأمثاله
توفى أَبُو تُرَاب بالبادية قيل نهشته السبَاع وَقد قدمنَا أَن يحيى بن معَاذ تولى غسله فَلَعَلَّهُ اطلع على مَكَانَهُ
وَكَانَت وَفَاة أَبى تُرَاب سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ قَالَ أَبُو عمرَان الإصطخرى رَأَيْته فى الْبَادِيَة قَائِما مَيتا لَا يمسِكهُ شىء
وَمن الْفَوَائِد عَن أَبى تُرَاب رَحمَه الله تَعَالَى
سُئِلَ أَبُو تُرَاب عَن صفة الْعَارِف فَقَالَ الذى لَا يكدره شىء ويصفو بِهِ كل شىء
وَقَالَ أَبُو تُرَاب الْفَقِير قوته مَا وجد ولباسه مَا ستر ومسكنه حَيْثُ نزل
وَقَالَ إِن الله ينْطق الْعلمَاء فى كل زمَان بِمَا يشاكل أَعمال أهل ذَلِك الزَّمَان
وَقَالَ من شغل مَشْغُولًا بِاللَّه عَن الله أدْركهُ المقت من سَاعَته
وَقَالَ شَرط التَّوَكُّل طرح الْبدن فى الْعُبُودِيَّة وَتعلق الْقلب بالربوبية والطمأنينة إِلَى الْكِفَايَة فَإِن أعْطى شكر وَإِن منع صَبر وَلَيْسَ ينَال الرِّضَا من للدنيا فى قلبه مِقْدَار
وَقَالَ صَحِبت مائَة شيخ مَا نفعنى مثل شدّ رَأس الجراب يعْنى القناعة والتقلل من الدُّنْيَا
وَقَالَ إِذا رَأَيْت الصوفى سَافر بِلَا ركوة فَاعْلَم أَنه عزم على ترك الصَّلَاة

حِكَايَة تشْتَمل على تَحْقِيق التجلى
قَالَ القاضى نَاصِر الدّين بن الْمُنِير المالكى فى كِتَابه المقتفى وفى الْحِكَايَة الْمُدَوَّنَة فى كتب أهل الطَّرِيق أَن أَبَا تُرَاب النخشبى كَانَ لَهُ تلميذ وَكَانَ الشَّيْخ يرفق بِهِ ويتفرس فِيهِ الْخَيْر وَكَانَ أَبُو تُرَاب كثيرا مَا يذكر أَبَا يزِيد البسطامى فَقَالَ لَهُ الْفَتى يَوْمًا لقد أكثرت من ذكر أَبى يزِيد من يتجلى لَهُ الْحق فى كل يَوْم مَرَّات مَاذَا يصنع بأبى يزِيد فَقَالَ لَهُ أَبُو تُرَاب وَيحك يَا فَتى لَو رَأَيْت أَبَا يزِيد لرأيت مرأى عَظِيما فَلم يزل يشوقه إِلَى لِقَائِه حَتَّى عزم على ذَلِك فى صُحْبَة الشَّيْخ أَبى تُرَاب فارتحلا إِلَى أَبى يزِيد فَقيل لَهما إِنَّه فى الغيضة وَكَانَت لَهُ غيضة يأوى إِلَيْهَا مَعَ السبَاع فقصدا الغيضة وجلسا على ربوة على ممر أَبى يزِيد فَلَمَّا خرج أَبُو يزِيد من الغيضة قَالَ أَبُو تُرَاب للفتى هَذَا أَبُو يزِيد فعندما وَقع بصر الْفَتى على أَبى يزِيد خر مَيتا فَحدث أَبُو تُرَاب أَبَا يزِيد بِقِصَّتِهِ وَعجب من ثُبُوته لتجلى الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعدم تماسكه لرؤية أَبى يزِيد فَقَالَ أَبُو يزِيد لأبى تُرَاب كَانَ هَذَا الْفَتى صَادِقا وَكَانَ الْحق يتجلى لَهُ على قدر مَا عِنْده فَلَمَّا رآنى تجلى لَهُ الْحق على قدرى فَلم يطق
قَالَ الْفَقِيه نَاصِر الدّين واصطلاح أهل الطَّرِيق مَعْرُوف وَحَاصِله رُتْبَة من الْمعرفَة جلية وَحَالَة من الْيَقَظَة والحضرة سَرِيَّة سنية وَالْإِيمَان يزِيد وَينْقص على الصَّحِيح وَلَا تظنهم يعنون بالتجلى رُؤْيَة الْبَصَر الَّتِى قيل فِيهَا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على خصوصيته لن ترانى والتى قيل فِيهَا على الْعُمُوم {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} فَإِذا فهمت أَن مُرَادهم الذى أثبتوه غير الْمَعْنى الذى حصل النَّاس مِنْهُ على النَّاس فى الدُّنْيَا ووعد بِهِ الْخَواص فى الْأُخْرَى فَلَا ضير بعد ذَلِك عَلَيْك وَلَا طَرِيق لسبق الظَّن إِلَيْك وَالله يتَوَلَّى السرائر

قلت وَكَلَام ابْن الْمُنِير هَذَا فى تَفْسِير التجلى يقرب من قَول شيخ الْإِسْلَام وسلطان الْعلمَاء أَبى مُحَمَّد بن عبد السَّلَام رَحمَه الله فى كتاب الْقَوَاعِد إِن التجلى والمشاهدة عبارَة عَن الْعلم والعرفان
وَاعْلَم أَن الْقَوْم لَا يقتصرون فى تَفْسِير التجلى على الْعلم وَلَا يعنون بِهِ إِيَّاه ثمَّ لَا يفصحون بِمَا يعنون إفصاحا وَإِنَّمَا يلوحون تَلْوِيحًا ثمَّ يصرحون بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا يُوجب سوء الظَّن تَصْرِيحًا وَقد ذكر سيد الطَّائِفَة أَبُو الْقَاسِم القشيرى رَحمَه الله فى الرسَالَة بَاب السّتْر والتجلى ثمَّ بَاب الْمُشَاهدَة وَلم يفصح بتفسير التجلى كَأَنَّهُ خشى على فهم من لَيْسَ من أهل الطَّرِيق وَعرف أَن السالك يفهمهُ فَلم يحْتَج إِلَى كشفه لَهُ
وَحَاصِل مَا يَقُوله متأخرو الْقَوْم أَن التجلى ضَرْبَان
ضرب للعوام وَهُوَ أَن يكْشف صُورَة كَمَا جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فى صُورَة دحْيَة وكما فى الحَدِيث (رَأَيْت ربى فى صُورَة شَاب) قَالُوا وَهَذَا تجلى الصّفة ويضربون لذَلِك الْمرْآة مثلا فَيَقُولُونَ أَنْت تنظر وَجهك فى الْمرْآة وَلَيْسَت الْمرْآة محلا لوجهك وَلَا وَجهك حَالا فِيهَا وَإِنَّمَا هُنَاكَ مثالها تَعَالَى الله عَن أَن يكون لَهُ مِثَال وَإِنَّمَا يذكرُونَ هَذَا تَقْرِيبًا للأفهام
وَحَدِيث فى صُورَة شَاب أَمْرَد مَوْضُوع مَكْذُوب على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَضرب للخواص وَهُوَ تجلى الذَّات نَفسهَا ويذكرون هُنَا لتقريب الْفَهم الشَّمْس قَالُوا فَإنَّك ترى ضوء النَّهَار فتحكم بِوُجُود الشَّمْس وحضورها برؤيتك الضَّوْء
قَالُوا وَهَذَا تقريب أَيْضا وَإِلَّا فنور البارى لَو سَطَعَ لأحرق الْوُجُود بأسره إِلَّا من ثبته الله
وَقد يعتضدون بِحَدِيث أَبى ذَر رضى الله عَنهُ سَأَلت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل رَأَيْت رَبك قَالَ نور أَنى أرَاهُ وفى لفظ قَالَ رَأَيْت نورا

أخرجه مُسلم والترمذى وَلكنه حَدِيث مؤول بِاتِّفَاق الْمُسلمين
هَذَا حَاصِل كَلَام الْقَوْم وَأَنا معترف بالقصور عَن فهمه وضيق الْمحل عَن بسط الْعبارَة فِيهِ
وَقد جالست فى هَذِه الْمَسْأَلَة الشَّيْخ الإِمَام الصَّالح الْعَارِف قطب الدّين بركَة الْمُسلمين مُحَمَّد بن اسفهبدا الأردبيلى أعَاد الله من بركته وَقلت لَهُ أتقولون بِأَن الذى يرَاهُ الْعَارِف فى الدُّنْيَا هُوَ الذى وعده الله فى الْآخِرَة
قَالَ نعم
قلت فَبِمَ تتَمَيَّز رُؤْيَة يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ بالبصر فَإِن الرُّؤْيَة فى الدُّنْيَا فى هذَيْن الضربين إِنَّمَا هى بالبصيرة دون الْبَصَر
قلت فقد اخْتلف فى جَوَاز رُؤْيَة الله تَعَالَى فى الدُّنْيَا
قَالَ الْحق الْجَوَاز
قلت فَلَا فَارق حِينَئِذٍ وَتجوز الرُّؤْيَة بالبصر فى الدُّنْيَا
قَالَ الْفَارِق أَنه فى الْآخِرَة مَعْلُوم الْوُقُوع للْمُؤْمِنين كلهم وفى الدُّنْيَا لم يثبت وُقُوعه إِلَّا للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفى بعض ذوى المقامات الْعلية
هَكَذَا قَالَ
وَمِمَّا قلت لَهُ وَقد ضرب الْمرْآة مثلا قد يُقَال إِن هَذَا نوع من الْحُلُول والحلول كفر
قَالَ لَا فَإِن الْحُلُول مَعْنَاهُ أَن الذَّات تحل فى ذَات أُخْرَى والمرآة لَا تحل الصُّورَة فِيهَا
هَذَا كَلَامه
قلت لَهُ فَمَا الْمُشَاهدَة عَن التجلى

قَالَ الْمُشَاهدَة دوَام تجلى الذَّات والتجلى قد يكون مَعَه مُشَاهدَة وَهُوَ مَا إِذا دَامَ وَقد لَا يكون انْتهى
وَأَقُول إِذا تَبرأ الْقَوْم من تَفْسِير التجلى بِمَا لَا يُمكن وَلَا يجوز وصف الرب تَعَالَى بِهِ فَلَا لوم عَلَيْهِم بعد ذَلِك غير أَنهم مصرحون بِأَنَّهُ غير الْعلم والعرفان
حِكَايَة ثَانِيَة يبْحَث فِيهَا عَن الكرامات
قَالَ أَبُو على الروذبارى سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس الرقى يَقُول كُنَّا مَعَ أَبى تُرَاب النخشبى فى طَرِيق مَكَّة فَعدل عَن الطَّرِيق إِلَى نَاحيَة فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه أَنا عطشان فَضرب بِرجلِهِ فَإِذا عين من مَاء زلال فَقَالَ الْفَتى أحب أَن أشربه فى قدح فَضرب بِيَدِهِ الأَرْض فَنَاوَلَهُ قدحا من زجاج أَبيض كأحسن مَا رَأَيْت فَشرب وسقانى وَمَا زَالَ الْقدح مَعنا إِلَى مَكَّة
فَقَالَ لى أَبُو تُرَاب يَوْمًا مَا يَقُول أَصْحَابك فى هَذِه الْأُمُور الَّتِى يكرم الله بهَا عباده فَقلت مَا رَأَيْت أحدا إِلَّا وَهُوَ مُؤمن بهَا فَقَالَ من لايؤمن بهَا فَلَقَد كفر إِنَّمَا سَأَلتك من طَرِيق الْأَحْوَال فَقلت مَا أعرف لَهُم قولا فِيهِ فَقَالَ بلَى قد زعم أَصْحَابك أَنَّهَا خدع من الْحق وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك إِنَّمَا الخدع فى حَال السّكُون إِلَيْهَا فَأَما من لم يقترح ذَلِك فَتلك مرتبَة الربانيين
قلت قد اشْتَمَل كَلَام أَبى تُرَاب هَذَا على فصلين مهمين
أَحدهمَا أَن الكرامات والمكاشفات لسيت خدعا إِلَّا لمن يقف عِنْدهَا ويجعلها شوقه ومقصوده وَلَا شكّ فى هَذَا وَقد بَالغ قوم فى تعظيمها بِحَيْثُ سلبوا بهَا الْمَوَاهِب وَبَالغ آخَرُونَ فى امتهانها بِحَيْثُ لم يعدوها شَيْئا وَالْحق مَا ذكره تُرَاب أَبُو أَيُّوب من أَن السّكُون إِلَيْهَا نقص فَمن الْوَاضِح الجلى الذى لَا يُنكره عَارِف أَن الْعَارِف لَا يقف عِنْدهَا وَإِنَّمَا مَطْلُوبه وَرَاءَهَا وهى تقع فى طَرِيقه وَلَيْسَ للْوَاقِع فِي الطَّرِيق من الطَّرِيق

صفة وَمن وقف عِنْدهَا سقط فى مهاوى الهلكات وَمن كَانَت هى مَطْلُوبه فَهُوَ مغرور وَيبعد وُصُوله إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يصل إِلَيْهَا من لَا يَرَاهَا فَافْهَم مَا يلقى إِلَيْك
فَإِن قلت فلأى معنى يظهرها مظهروها وهى على مَا تزْعم أَشْيَاء لَا يلقون إِلَيْهَا بَالا
قلت ظُهُورهَا يَقع على أنحاء رُبمَا لم يكن بِاخْتِيَار صَاحبهَا وَهُوَ كثير بل صَار بعض الْأَئِمَّة كَمَا نقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فى الشَّامِل إِلَى أَن الكرامات لَا تكون أبدا إِلَّا على هَذَا الْوَجْه فعلى هَذَا الْوَجْه لَا سُؤال وَلَكِن هَذَا مَذْهَب ضَعِيف غير مرضى عِنْد المحصلين وَلَا سُؤال عَلَيْهِ وَرُبمَا كَانَ هُوَ الْمظهر بهَا وَإِنَّمَا يكون ذَلِك لفائدة دينية من تربية أَو بِشَارَة أَو نذارة أَو غير ذَلِك حَيْثُ يُؤذن فِيهِ وَلَا يجوز إظهارها حَيْثُ لَا فَائِدَة فَذَلِك عِنْد الْقَوْم غير جَائِز لَهُ
والفصل الثانى أَن الكرامات حق وَقَول أَبى تُرَاب من لَا يُؤمن بهَا فقد كفر بَالغ فى الْحَط من منكريها وَقد تؤول لَفْظَة الْكفْر فى كَلَامه وَتحمل على أَنه لم يعن الْكفْر الْمخْرج من الْملَّة وَلكنه كفر دون كفر
وإنى لأعجب أَشد الْعجب من منكرها وأخشى عَلَيْهِ مقت الله ويزداد تعجبى عِنْد نِسْبَة إنكارها إِلَى الْأُسْتَاذ أَبى إِسْحَاق الإسفراينى وَهُوَ من أساطين أهل السّنة وَالْجَمَاعَة على أَن نِسْبَة إنكارها إِلَيْهِ على الْإِطْلَاق كذب عَلَيْهِ والذى ذكره الرجل فى مصنفاته أَن الكرامات لَا تبلغ مبلغ خرق الْعَادة
قَالَ وكل مَا جَازَ تَقْدِيره معْجزَة لنبى لَا يجوز ظُهُور مثله كَرَامَة لولى
قَالَ وَإِنَّمَا بَالغ الكرامات إِجَابَة دَعْوَة أَو موافاة مَاء فى بادية فى غير موقع الْمِيَاه أَو مضاهى ذَلِك مِمَّا ينحط عَن خرق الْعَادة ثمَّ مَعَ هَذَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره من أَئِمَّتنَا هَذَا الْمَذْهَب مَتْرُوك
قلت وَلَيْسَ بَالغا فى البشاعة مبلغ مَذْهَب المنكرين للكرامات مُطلقًا بل هُوَ مَذْهَب مفصل بَين كَرَامَة وكرامة رأى أَن ذَلِك التَّفْصِيل هُوَ الْمُمَيز لَهَا من المعجزات

وَقد قَالَ الْأُسْتَاذ الْكَبِير أَبُو الْقَاسِم القشيرى فى الرسَالَة إِن كثيرا من المقدورات يعلم الْيَوْم قطعا أَنه لَا يجوز أَن يظْهر كَرَامَة للأولياء لضَرُورَة أَو شبه ضَرُورَة يعلم ذَلِك فَمِنْهَا حُصُول إِنْسَان لَا من أبوين وقلب جماد بَهِيمَة أَو حَيَوَانا وأمثال هَذَا يكثر انْتهى
وَهُوَ حق لَا ريب فِيهِ وَبِه يَتَّضِح أَن قَول من قَالَ مَا جَازَ أَن يكون معْجزَة لنبى جَازَ أَن يكون كَرَامَة لولى لَيْسَ على عُمُومه وَأَن قَول من قَالَ لَا فَارق بَين المعجزة والكرامة إِلَّا التحدى لَيْسَ على وَجهه ولعلنا نبحث عَن هَذَا فى آخر الْفَصْل وسبيلنا حَيْثُ انتهينا إِلَى هَذَا الْفَصْل أَن نستقصى شبه المنكرين للكرامات ونستأصل شأفتهم بتقرير الرَّد عَلَيْهِم ثمَّ نذْكر الْبَرَاهِين الدَّالَّة على الْإِثْبَات ونختمها بتتمات
شُبْهَة للقدرية فى منع الكرامات وَذكر فَسَادهَا
قَالُوا تَجْوِيز الْكَرَامَة يفضى إِلَى السفسطة لِأَنَّهُ يقتضى تَجْوِيز انقلاب الْجَبَل ذَهَبا إبريزا أَو الْبَحْر دَمًا عبيطا وانقلاب أَوَان يَتْرُكهَا الْإِنْسَان فى بَيته أَئِمَّة فضلاء مدققين
وَالْجَوَاب عَن هَذِه الشُّبْهَة من وُجُوه
أَحدهَا أَنا لَا نسلم بُلُوغ الْكَرَامَة إِلَى هَذَا الْمبلغ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام القشيرى
والثانى وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَام أَئِمَّتنَا أَنا نجوز بُلُوغهَا هَذَا الْمبلغ وَلَكِن لَا يقتضى ذَلِك سفسطة لِأَن مَا ذكرْتُمْ بِعَيْنِه وَارِد عَلَيْكُم فى زمَان النُّبُوَّة فَإِنَّهُ يجوز ظُهُور المعجزة بذلك وَلَا يُؤدى إِلَى سفسطة
وَالثَّالِث أَن التجويزات الْعَقْلِيَّة لَا تقدح فى الْعُلُوم العادية وَجَوَاز تغيرها بِسَبَب الْكَرَامَة تَجْوِيز عقلى فَلَا يقْدَح فِيهَا

شُبْهَة ثَانِيَة لَهُم وتبيين الِانْفِصَال عَنْهَا
قَالُوا لَو جَازَت الْكَرَامَة لاشتبهت بالمعجزة فَلَا تبقى للمعجزة دلَالَة على ثُبُوت النُّبُوَّة
وَالْجَوَاب منع الِاشْتِبَاه وَهَذَا لِأَن المعجزة مقرونة بِدَعْوَى النُّبُوَّة وَلَا كَذَلِك الْكَرَامَة بل الْكَرَامَة مقرونة بالانقياد للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديقه وَالسير على طَرِيقه
وَقَوْلهمْ إِنَّمَا دلّت المعجزة على تَصْدِيق النبى من حَيْثُ انخراق الْعَادة فَكَذَلِك الْكَرَامَة كَلَام سَاقِط فَإِن مُجَرّد خرق الْعَادة لَيْسَ الْمُقْتَضى للنبوة وَلَو دلّ خرق الْعَادة على النُّبُوَّة بِمُجَرَّدِهِ لوَجَبَ أَن تدل أَشْرَاط السَّاعَة وَمَا سَيظْهر مِنْهَا على ثُبُوت نبوة إِذْ العوائد تنخرق بهَا وَمن أعظم الْبَدَائِع فطْرَة السَّمَوَات والنشأة الأولى ثمَّ لم تقتض بَدَائِع الْفطْرَة فى نشأة الْخلق ثُبُوت نبى فاستبان أَن مُجَرّد خرق الْعَادة لَا يدل إِذْ لَو دلّ لاطرد بل لابد مَعَه من التحدى فَلَا اشْتِبَاه للكرامة بالمعجزة وَأَيْضًا فالمعجزة يجب على صَاحبهَا الإشهار بِخِلَاف الْكَرَامَة فَإِن مبناها على الْإخْفَاء وَلَا تظهر إِلَّا على الندرة وَالْخُصُوص لَا على الْكَثْرَة والعموم وَأَيْضًا فالمعجزة تجوز أَن تقع بِجَمِيعِ خوارق الْعَادَات والكرامات تخْتَص بِبَعْضِهَا كَمَا بَيناهُ من كَلَام القشيرى وَهُوَ الصَّحِيح ولسنا نجوز ولدا إِلَّا من أبوين وَلَا نَحْو ذَلِك كَمَا سنستقصى القَوْل فِيهِ
شُبْهَة ثَالِثَة لَهُم وَوجه الِانْفِصَال عَنْهَا
قَالُوا لَو ظَهرت لولى كَرَامَة لجَاز الحكم لَهُ بِمُجَرَّد دَعْوَاهُ أَنه يملك حَبَّة من الْحِنْطَة أَو فلسًا وَاحِدًا من الْفُلُوس من غير بَيِّنَة لظُهُور دَرَجَته عِنْد الله تَعَالَى الْمَانِعَة من كذبه لَا سِيمَا فى هَذَا النزر الْيَسِير لكنه بَاطِل لإِجْمَاع الْمُسلمين الْمُؤَيد بقول رَسُول رب الْعَالمين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ الْبَيِّنَة على الْمُدعى وَالْيَمِين على من أنكر

وَالْجَوَاب أَن الْكَرَامَة لَا توجب عصمَة الولى وَلَا صدقه فى كل الْأُمُور وَقد سُئِلَ شيخ الطَّرِيقَة ومقتدى الْحَقِيقَة أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد رَحمَه الله أيزنى الولى فَقَالَ {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وهب أَن الظَّن حَاصِل بصدقه فِيمَا ادَّعَاهُ إِلَّا أَن الشَّارِع جعل لثُبُوت الدَّعْوَى طَرِيقا مَخْصُوصًا ورابطا مَعْرُوفا لَا يجوز تعديه وَلَا الْعُدُول عَنهُ أَلا ترى أَن كثيرا من الظنون لَا يجوز الحكم بهَا لخروجها عَن الضوابط الشَّرْعِيَّة
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم وكشف عوارها
قَالُوا لَو جَازَ ظُهُور خوارق الْعَادَات على أيدى الصَّالِحين لجَاز سرا كَمَا يجوز جَهرا وَلَو جَازَ سرا لما أمكننا أَن نستدل على نبوة الْأَنْبِيَاء بظهورها على أَيْديهم فَثَبت أَن ظُهُورهَا على الصَّالِحين سرا مُمْتَنع وَإِذا لم يجز ظُهُورهَا عَلَيْهِم سرا فَأولى أَن لَا تجوز جَهرا لِأَن كل من جوز ظُهُورهَا عَلَيْهِم لم يشْتَرط أَن تظهر عَلَانيَة بل من أصُول مُعظم جماعتكم أَن الْأَوْلِيَاء لَا يظهرون الكرامات وَلَا يدعونَ بهَا وَإِنَّمَا تظهر سرا وَرَاء ستور ويتخصص بالاطلاع عَلَيْهَا آحَاد النَّاس فَثَبت أَنَّهَا لَو جَازَت لجازت سرا إِذْ لَا قَائِل بِالْفَصْلِ وَلِأَنَّهُ أولى بِالْجَوَازِ من الْعَلَانِيَة لَكِن جَوَازهَا سرا يفضى إِلَى أَن لَا يسْتَدلّ بهَا على النُّبُوَّة لِأَنَّهُ يجوز ظُهُورهَا مُتَوَالِيَة على اسْتِمْرَار وَإِن كَانَ ذَلِك مخفيا مستترا وَتَكون مَوْجُودَة مستمرة بِحَيْثُ تلتحق بِحكم الْمُعْتَاد فَإِذا ظهر نبى وتحدى بمعجزة جَازَ أَن تكون هى بعض مَا اعتاده أَوْلِيَاء عصره من الكرامات وَلَا يتَحَقَّق فى هَذَا النبى خرق العوائد فَكيف السَّبِيل إِلَى تَصْدِيقه هَذَا حَاصِل شبهتهم هَذِه ثمَّ حرروا عَنْهَا عبارَة فَقَالُوا إِذا تكَرر مَا يخرق العوائد على الْأَوْلِيَاء أفْضى ذَلِك إِلَى التحاق خوارق الْعَادَات فى حُقُوقهم بالمعتادات وَصَارَت

عاداتهم خلاف الْعَادَات فَلَو ظهر نبى فى زمنهم كَانَت عوائدهم فى انخراق العوائد فى أَحْوَالهم تصدهم عَن تَصْحِيح النّظر فى المعجزة
ثمَّ أخرجُوا الشُّبْهَة على وَجه آخر فَقَالُوا لَو جَازَ إظهارها على صَالح لجَاز إظهارها على صَالح آخر إِكْرَاما لَهُ وَهَكَذَا إِلَى عدد كثير إِذْ لَيْسَ اخْتِصَاص عدد مِنْهُم بذلك أولى من عدد آخر وَحِينَئِذٍ يصير عَادَة فَلَا يبْقى ظُهُورهَا دَلِيلا على النُّبُوَّة ويطوى بِسَاط النُّبُوَّة رَأْسا
وَجَمِيع مَا ذَكرُوهُ فى هَذِه الشُّبْهَة تمويه لَا حَاصِل تَحْتَهُ وَقَعْقَعَة لَا طائل فِيهَا ولأئمتنا فى ردهَا وَجْهَان
فَمن أَئِمَّتنَا من منع توالى الكرامات واستمرارها حَتَّى تصير فى حكم العوائد وخلص بِهَذَا الْمَنْع عَن إلزامهم بل امْتنع بعض الْمُحَقِّقين من تصور توالى المعجزات على الرُّسُل المتعاقبين إِذْ كَانَ يُؤدى إِلَى أَن تصير المعجزات مُعْتَادَة فَهَذِهِ طَريقَة فى الرَّد على هَذِه الشُّبْهَة حاصلها أَنا إِنَّمَا نجوز ظُهُور الكرامات على وَجه لَا يصير عَادَة فاستبان أَنه خَاص بشبهتهم هَذِه وَأَنَّهَا لم تقدح فى أصل الكرامات وَإِنَّمَا تَضَمَّنت منع كرورها والتحاقها بالمعتاد
وَمن أَئِمَّتنَا وهم الْمُعظم من جوز توالى الكرامات على وَجه الاختفاء بِحَيْثُ لَا تظهر وَلَا تشيع وَلَا تلتحق بالمعتاد لِئَلَّا تخرج الْكَرَامَة عَن كَونهَا كَرَامَة عِنْد عَامَّة الْخلق ثمَّ قَالُوا الْكَرَامَة وَإِن توالت على الولى حَتَّى ألفها واعتادها فَلَا يُخرجهُ ذَلِك عَن طَرِيق الرشاد وَوجه السداد فى النّظر إِذا لاحت المعجزة إِن وَافقه التَّوْفِيق وَإِن تعداه التَّوْفِيق سلب الطَّرِيق وَلم يكن بولى على التَّحْقِيق والمعجزة تتَمَيَّز عَمَّن تَكَرَّرت عَلَيْهِ الْكَرَامَة بالإظهار والإشاعة والتحدى وَدَعوى النُّبُوَّة فَإِذا تميزت الْكَرَامَة عَن المعجزة لم ينسد بَاب الطَّرِيق إِلَى معرفَة النبى

وَمن تَمام الْكَلَام فى ذَلِك أَن أهل الْقبْلَة متفقون على أَن الكرامات لَا تظهر على الفسقة الفجرة وَإِنَّمَا تظهر على المتمسكين بِطَاعَة الله عز وَجل
وَبِهَذَا لَاحَ أَن الطَّرِيق إِلَى معرفَة الْأَنْبِيَاء لَا ينسد فَإِن الولى بِتَوْفِيق الله تَعَالَى ينقاد للنبى إِذا ظَهرت المعجزة على يَدَيْهِ وَيَقُول معاشر النَّاس هَذَا نبى الله فأطيعوه
وَيكون أول منقاد لَهُ وَمُؤمن بِهِ
والقاضى أَبُو بكر وَإِن شَبَّبَ بِمَنْع هَذَا الْإِجْمَاع وَقَالَ لَو جوز مجوز ظُهُور بعض خوارق الْعَادَات على بعض الفسقة استدراجا لَكَانَ مذهبا كَمَا أَنه لَا يبعد ظُهُورهَا على الرهبان المتبتلين وَأَصْحَاب الصوامع على كفرهم فَهَذَا كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِيهِ نظر ولسنا نثبت لراهب كَرَامَة وَلَا كيد وَلَا كَرَامَة وَمحل اسْتِيفَاء القَوْل على ذَلِك لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان
وَالْحَاصِل أَن مَا يظْهر على يَد الرهبان لَيْسَ من الكرامات وَأما توقف القاضى فى الفسقة والفجرة فَأَنا مَعَه لَكِن لَا على الْإِطْلَاق بل أفصل فَأَقُول لَو ذهب ذَاهِب إِلَى تَجْوِيز ظُهُور الْكَرَامَة على يَد الْفَاسِق إنقاذا لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ ثمَّ يَتُوب بعْدهَا وَيثبت لَا محَالة وينتقل إِلَى الْهدى بعد الضَّلَالَة لَكَانَ مذهبا وَيقرب مِنْهُ قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف الَّتِى سنحكيها فقد كَانُوا عَبدة أصنام ثمَّ حصل لَهُم مَا حصل إرشادا وتبصرة ثمَّ مَا ذكره الْخُصُوم من حَدِيث اشْتِبَاه النبى بِغَيْرِهِ إِذا وَافَقت المعجزة الْكَرَامَة قد تبين الِانْفِصَال عَنهُ
وَأَنا أَقُول معَاذ الله أَن يتحدى نبى بكرامة تَكَرَّرت على يَد ولى بل لَا بُد أَن يأتى النبى بِمَا لَا يوقعه الله على يَد الولى وَإِن جَازَ وُقُوعه فَلَيْسَ كل جَائِز فى قضايا الْعُقُول وَاقعا وَلما كَانَت مرتبَة النبى أعلا وَأَرْفَع من مرتبَة الولى كَانَ الولى مَمْنُوعًا مِمَّا يأتى بِهِ النبى على وَجه الإعجاز والتحدى أدبا مَعَ النبى
ثمَّ أَقُول حَدِيث الِاشْتِبَاه والانسداد على بُطْلَانه إِنَّمَا يَقع الْبَحْث فِيهِ حَيْثُ لم تختم النُّبُوَّة

أما مَعَ مجئ خَاتم النَّبِيين الذى ثبتَتْ نبوته بأوضح الْبَرَاهِين وإخباره بِأَنَّهُ لَا نبى بعده فقد أمنا الِاشْتِبَاه فَلَو صَحَّ مَا ذكر من الِاشْتِبَاه والانسداد لَكَانَ فى حكم الْأَوْلِيَاء من الْأُمَم السالفة لَا فى حكم الْأَوْلِيَاء من هَذِه الْأمة لأمنهم من أَنه لَا نبى بعد نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا لَو صَحَّ وَلنْ يَصح أبدا
شُبْهَة خَامِسَة لَهُم وَتَقْرِير بُطْلَانهَا
قَالُوا لَو كَانَ للكرامات أصل لَكَانَ أولى النَّاس بهَا أهل الصَّدْر الأول وهم صفوة الْإِسْلَام وقادة الْأَنَام والمفضلون على الخليقة بعد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَلم يُؤثر عَنْهُم أَمر مستقصى
وَهَذَا الذى ذَكرُوهُ تعلل بالأمانى وَهُوَ قَول مرذول مَرْدُود فَلَو حاول مستقص استقصاء كرامات الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لأجهد نَفسه وَلم يصل إِلَى عشر الْعشْر وَلَا بَأْس هُنَا بِذكر يسير من كرامات الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَالْكَلَام على السِّرّ فى ظُهُورهَا وإظهارها على وَجه الِاخْتِصَار ليستفاد بكلامنا على مَا نورده من الْقَلِيل مَا يستعان بِهِ على مَا نغفله من الْكثير
فَنَقُول اعْلَم أَولا أَن كل كَرَامَة ظَهرت على يَد صحابى أَو ولى أَو تظهر إِلَى يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين فَإِنَّهَا معْجزَة للنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن صَاحبهَا إِنَّمَا نالها بالاقتداء بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ معترف لَهُ بِأَنَّهُ مقدم خَلِيقَة الله وصفوتهم وَسيد الْبشر الذى من بحره تستخرج الدُّرَر وَمن غيثه يسْتَنْزل الْمَطَر وَهَذَا الْمَعْنى يصلح أَن يكون سَببا إجماعيا عَاما فى الْإِظْهَار لَا سِيمَا فى عصر الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَإِن الْكفَّار إِذا رَأَوْا مَا يظْهر على يديهم من الخوارق آمنُوا بِنَبِيِّهِمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلمُوا أَنهم على الْحق فَرُبمَا كَانَ هَذَا سَببا فى الْإِظْهَار إِذا علمت ذَلِك
فَمن الكرامات على يَد أَبى بكر الصّديق رضى الله عَنهُ
مَا صَحَّ من حَدِيث عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا أَن أَبَا بكر الصّديق رضى الله عَنهُ كَانَ نحلهَا جاد عشْرين وسْقا فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ وَالله يَا بنية مَا من النَّاس أحد أحب إِلَى غنى بعدى مِنْك وَلَا أعز عَليّ فقرا بعدِي مِنْك وإنى كنت نحلتك جاد عشْرين وسْقا فَلَو كنت جددته وخزنته كَانَ لَك وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال وَارِث وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك فَاقْتَسمُوهُ على كتاب الله
قَالَت عَائِشَة يَا أَبَت وَالله لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته إِنَّمَا هى أَسمَاء فَمن الْأُخْرَى فَقَالَ أَبُو بكر ذُو بطن بنت أَرَاهَا جَارِيَة فَكَانَ ذَلِك
قلت فِيهِ كرامتان لأبى بكر
إِحْدَاهمَا إخْبَاره بِأَنَّهُ يَمُوت فى ذَلِك الْمَرَض حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال وَارِث
وَالثَّانيَِة إخْبَاره بمولود يُولد لَهُ وَهُوَ جَارِيَة
والسر فى إِظْهَار ذَلِك استطابة قلب عَائِشَة رضى الله عَنْهَا فى استرجاع مَا وهبه لَهَا وَلم تقبضه وإعلامها بِمِقْدَار مَا يَخُصهَا لتَكون على ثِقَة مِنْهُ فَأَخْبرهَا بِأَنَّهُ مَال وَارِث وَأَن مَعهَا أَخَوَيْنِ وأختين لهَذَا وَيدل على أَنه قصد استطابة قَلبهَا مَا مهده أَولا من أَنه لَا أحد أحب إِلَيْهِ غنى بعده مِنْهَا وَقَوله إِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك أى لَيْسَ ثمَّ غَرِيب وَلَا ذُو قرَابَة نائية وفى هَذَا من الترفق مَا لَيْسَ يخفى فرضى الله عَنهُ وأرضاه

وَمِنْهَا مَا فى البخارى من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبى بكر وَقَول النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى أهل الصّفة مرّة (من كَانَ عِنْده طَعَام اثْنَيْنِ فليذهب بثالث وَمن كَانَ عِنْده طَعَام أَرْبَعَة فليذهب بخامس) الحَدِيث
وَفِيه أَن أَبَا بكر انْطلق بِثَلَاثَة وغادرهم فى بَيته وتعشى عِنْد النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولبث حَتَّى صلى الْعشَاء مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء بعد مَا مضى من اللَّيْل مَا شَاءَ الله فَقَالَت لَهُ امْرَأَته مَا حَبسك عَن أضيافك قَالَ أَو مَا عشيتهم قَالَت أَبَوا حَتَّى تجىء ثمَّ قَالَ كلوا فَقَالَ قَائِلهمْ وَايْم الله مَا كُنَّا نَأْخُذ من لقْمَة إِلَّا رَبًّا من أَسْفَلهَا أَكثر مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَت أَكثر مِمَّا كَانَت قبل فَنظر أَبُو بكر فَإِذا شىء أَو أَكثر فَقَالَ لامْرَأَته يَا أُخْت بنى فراس مَا هَذَا قَالَت لَا وقرة عينى لهى الْآن أَكثر مِمَّا كَانَت قبل بِثَلَاث مَرَّات فاكل مِنْهَا أَبُو بكر ... الحَدِيث
فَنَقُول السِّرّ فِيهِ وَالْعلم عِنْد الله إِن كَانَ أَبُو بكر قصد تَكْثِير الطَّعَام احْتِيَاجه إِلَى إشباع الأضياف الَّذين أمره النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهم وَإِن لم يكن قصد ذَلِك بل كثره الله ببركته فهى كَرَامَة أظهرها الله على يَدَيْهِ من غير قصد مِنْهُ فَلَا يبْحَث عَنْهَا
وَمِنْهَا على يَد أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر الْفَارُوق رضى الله عَنهُ
الذى قَالَ فِيهِ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ نَاس محدثون فَإِن يَك فى أمتى أحد فَإِنَّهُ عمر)
قصَّة سَارِيَة بن زنيم الخلجى
كَانَ عمر قد أَمر سَارِيَة على جَيش من جيوش الْمُسلمين وجهزه إِلَى بِلَاد فَارس فَاشْتَدَّ على عسكره الْحَال على بَاب نهاوند وَهُوَ يحاصرها وَكَثُرت جموع الْأَعْدَاء وَكَاد الْمُسلمُونَ ينهزمون وَعمر رضى الله عَنهُ بِالْمَدِينَةِ فَصَعدَ الْمِنْبَر وخطب ثمَّ اسْتَغَاثَ فى أثْنَاء خطبَته بأعلا صَوته يَا سَارِيَة الْجَبَل يَا سَارِيَة الْجَبَل من استرعى الذِّئْب الْغنم فقد ظلم فَأَسْمع الله عز وَجل سَارِيَة وجيوشه أَجْمَعِينَ وهم على بَاب نهاوند صَوت عمر فلجأوا إِلَى الْجَبَل وَقَالُوا هَذَا صَوت أَمِير الْمُؤمنِينَ فنجوا وانتصروا
هَذَا ملخصها وَسمعت الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله يزِيد فِيهَا أَن عليا رضى الله عَنهُ كَانَ حَاضرا فَقيل لَهُ مَا هَذَا الذى يَقُوله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَيْنَ سَارِيَة منا الْآن فَقَالَ كرم الله وَجهه دَعوه فَمَا دخل فى أَمر إِلَّا وَخرج مِنْهُ ثمَّ تبين الْحَال بِالآخِرَة
قلت عمر رضى الله عَنهُ لم يقْصد إِظْهَار هَذِه الْكَرَامَة وَإِنَّمَا كشف لَهُ وَرَأى الْقَوْم عيَانًا وَكَانَ كمن هُوَ بَين أظهرهم أَو طويت الأَرْض وَصَارَ بَين أظهرهم حَقِيقَة وَغَابَ عَن مَجْلِسه بِالْمَدِينَةِ واشتغلت حواسه بِمَا دهم الْمُسلمين بنهاوند فخاطب أَمِيرهمْ خطاب من هُوَ مَعَه إِذْ هُوَ حَقِيقَة أَو كمن هُوَ مَعَه
وَاعْلَم أَن مَا يجربه الله على لِسَان أوليائه من هَذِه الْأُمُور يحْتَمل أَن يعرفوا بهَا وَيحْتَمل أَن لَا يعرفوا بهَا وهى كَرَامَة على كلا الْحَالين
وَمِنْهَا قصَّة الزلزلة
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحمَه الله فى كتاب الشَّامِل إِن الأَرْض زلزلت فى زمن عمر رضى الله عَنهُ فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَالْأَرْض ترجف وترتج ثمَّ ضربهَا بِالدرةِ وَقَالَ أقرى ألم أعدل عَلَيْك فاستقرت من وَقتهَا
قلت كَانَ عمر رضى الله عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ على الْحَقِيقَة فى الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَخَلِيفَة الله فى أرضه وفى ساكنى أرضه فَهُوَ يُعَزّر الأَرْض ويؤدبها بِمَا يصدر مِنْهَا كَمَا يُعَزّر ساكنيها على خطيئاتهم
فَإِن قلت أيجب على الأَرْض تَعْزِير وهى غير مكلفة
قلت هَذَا الْآن جهل وقصور على ظواهر الْفِقْه اعْلَم أَن أَمر الله وقضاءه متصرف فى جَمِيع مخلوقاته ثمَّ مِنْهُ ظَاهر وباطن فَالظَّاهِر مَا يبْحَث عَنهُ الْفُقَهَاء من أَحْكَام الْمُكَلّفين وَالْبَاطِن مَا اسْتَأْثر الله بِعِلْمِهِ وَقد يطلع عَلَيْهِ بعض أصفيائه وَمِنْهُم الْفَارُوق سقى الله عَهده فَإِذا ارتجت الأَرْض بَين يدى من اسْتَوَى عِنْده الظَّاهِر وَالْبَاطِن عزرها كَمَا إِذا زل الْمَرْء بَين يدى الْحَاكِم وَانْظُر خطابه لَهَا وَقَوله (ألم أعدل عَلَيْك) وَالْمعْنَى وَالله أعلم أَنَّهَا إِذا وَقع عَلَيْهَا جور الْوُلَاة جديرة بِأَن ترتج غير ملومة على التزلزل بِمَا على ظهرهَا وَأما إِذا لم يكن جور بل كَانَ الحكم بِالْقِسْطِ قَائِما فَفِيمَ الارتجاج وعَلى م القلق وَلم يَأْتِ الْوَقْت الْمَعْلُوم فَمَا لَهَا أَن ترتج إِلَّا فى وَقْتَيْنِ أَحدهمَا الْوَقْت الْمَعْلُوم الْمشَار إِلَيْهِ فى قَوْله تَعَالَى {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} فَإِن ذَلِك إِلَيْهَا وَذَلِكَ إِذا قَالَ الْإِنْسَان مَالهَا حدثت هى بأخبارها وَذكرت أَن الله أوحى لَهَا على مَا قَالَ تَعَالَى {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا وأخرجت الأَرْض أثقالها وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا بِأَن رَبك أوحى لَهَا} والثانى وَقت وُقُوع الْجور عَلَيْهَا من الْوُلَاة فَإِنَّهَا تعذر إِذْ ذَاك فَإِن قلت من أَيْن لَك هَذَا
قلت من قَول عمر الذى أَشَرنَا إِلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا {تكَاد السَّمَاوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا} لِأَنَّهُ دلّت على الأَرْض تكَاد تَنْشَق بِالْفُجُورِ الْوَاقِع عَلَيْهَا فلولا يمْسِكهَا الله لَكَانَ
وَاعْلَم أَن هَذَا الذى خضناه بَحر لَا سَاحل لَهُ والرأى أَن نمسك عنان الْكَلَام والموفق يُؤمن بِمَا نُرِيد والشقى يجهل وَلَا يجدى فِيهِ الْبَيَان وَلَا يُفِيد وَمِنْهُم شقى وَمِنْهُم سعيد
وَيقرب من قصَّة الزلزلة

قصَّة النّيل
وَذَلِكَ أَن النّيل كَانَ فى الْجَاهِلِيَّة لَا يجرى حَتَّى تلقى فِيهِ جَارِيَة عذراء فى كل عَام فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَجَاء وَقت جَرَيَان النّيل فَلم يجر أَتَى أهل مصر عَمْرو بن الْعَاصِ فأخبروه أَن لنيلهم سنة وَهُوَ أَنه لَا يجرى حَتَّى تلقى فِيهِ جَارِيَة بكر بَين أَبَوَيْهَا وَيجْعَل عَلَيْهَا من الحلى وَالثيَاب أفضل مَا يكون فَقَالَ لَهُم عَمْرو بن الْعَاصِ إِن هَذَا لَا يكون وَإِن الْإِسْلَام يهدم مَا قبله فأقاموا ثَلَاثَة أشهر لَا يجرى قَلِيلا وَلَا كثيرا حَتَّى هموا بالجلاء فَكتب عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى عمر بن الْخطاب بذلك فَكتب إِلَيْهِ عمر قد أصبت إِن الْإِسْلَام يهدم مَا قبله وَقد بعثت إِلَيْك بطاقة فَأَلْقِهَا فى النّيل فَفتح عَمْرو البطاقة قبل إلقائها فَإِذا فِيهَا من عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى نيل مصر أما بعد فَإِن كنت تجرى من قبلك فَلَا تجر وَإِن كَانَ الله الْوَاحِد القهار هُوَ الذى يجريك فنسأل الله الْوَاحِد القهار أَن يجريك فَألْقى عَمْرو البطاقة فى النّيل قبل يَوْم الصَّلِيب وَقد تهَيَّأ أهل مصر للجلاء وَالْخُرُوج مِنْهَا فَأَصْبحُوا وَقد أجراه الله سِتَّة عشر ذِرَاعا فى لَيْلَة
فَانْظُر إِلَى عمر كَيفَ يُخَاطب المَاء ويكاتبه ويكلم الأَرْض ويؤدبها وَإِذا قَالَ لَك الْمَغْرُور أَيْن أصل ذَلِك فى السّنة قل أَيهَا المتعثر فى أذيال الجهالات أيطالب الْفَارُوق بِأَصْل وَإِن شِئْت أصلا فهاك أصولا لَا أصلا وَاحِدًا أَلَيْسَ قد حن الْجذع إِلَى الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى ضمه إِلَيْهِ أَلَيْسَ شكى إِلَيْهِ الْبَعِير مَا بِهِ أَلَيْسَ فى قصَّة الظبية حجَّة وَالْأُصُول فى هَذَا النَّوْع لَا تَنْحَصِر وَسَنذكر مَالك أَن تضمه إِلَى هَذَا فى تَرْجَمَة الإِمَام فَخر الدّين فى مَسْأَلَة تَسْبِيح الجمادات حَيْثُ نرد عَلَيْهِ ثمَّ إِنْكَاره لذَلِك
وَمِنْهَا قصَّة النَّار الْخَارِجَة من الْجَبَل
كَانَت تخرج من كَهْف فى جبل فتحرق مَا أَصَابَت فَخرجت فى زمن عمر فَأمر أَبَا مُوسَى الأشعرى أَو تميما الدارى أَن يدخلهَا الْكَهْف فَجعل يحبسها بردائه حَتَّى أدخلها الْكَهْف فَلم تخرج بعد
قلت وَلَعَلَّه قصد بذلك منع أذاها

وَمِنْهَا أَنه عرض جَيْشًا يَبْعَثهُ إِلَى الشَّام فعرضت لَهُ طَائِفَة فَأَعْرض عَنْهُم ثمَّ عرضت عَلَيْهِ ثَانِيًا فَأَعْرض عَنْهُم ثمَّ عرضت ثَالِثا فَأَعْرض فَتبين بِالآخِرَة أَنه كَانَ فيهم قَاتل عُثْمَان وَقَاتل على
وَمِنْهَا على يَد عُثْمَان ذى النورين رضى الله عَنهُ
دخل إِلَيْهِ رجل كَانَ قد لقى امْرَأَة فى الطَّرِيق فتأملها فَقَالَ لَهُ عُثْمَان رضى الله عَنهُ يدْخل أحدكُم وفى عَيْنَيْهِ أثر الزِّنَا فَقَالَ الرجل أوحى بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا وَلكنهَا فراسة
قلت إِنَّمَا أظهر عُثْمَان هَذَا تأديبا لهَذَا الرجل وزجرا لَهُ عَن سوء صَنِيعه
وَاعْلَم أَن الْمَرْء إِذا صفا قلبه صَار ينظر بِنور الله فَلَا يَقع بَصَره على كدر أَوْصَاف إِلَّا عرفه ثمَّ تخْتَلف المقامات فَمنهمْ من يعرف أَن هُنَاكَ كدرا وَلَا يدرى مَا أَصله وَمِنْهُم من يكون أعلا من هَذَا الْمقَام فيدرى أَصله كَمَا اتّفق لعُثْمَان رضى الله عَنهُ فَإِن تَأمل الرجل للْمَرْأَة أورثه كدرا فَأَبْصَرَهُ عُثْمَان وَفهم سَببه
وَهنا دقيقة وَهُوَ أَن كل مَعْصِيّة لَهَا كدر وتورث نُكْتَة سَوْدَاء فى الْقلب بِقَدرِهَا فَتكون رينا على مَا قَالَ تَعَالَى {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إِلَى أَن يستحكم وَالْعِيَاذ بِاللَّه فيظلم الْقلب وتغلق أَبْوَاب النُّور فيطبع عَلَيْهِ فَلَا يبْقى سَبِيل إِلَى تَوْبَته على مَا قَالَ تَعَالَى {وطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ} وَقد أوضحنا هَذَا فى كتاب رفع الحوبة بِوَضْع التَّوْبَة فى بَاب أَن المطبوع لَا تَوْبَة لَهُ إِذا عرفت هَذَا فالصغيرة من المعاصى تورث كدرا صَغِيرا بِقَدرِهَا قريب المحو بالاستغفار وَغَيره من المكفرات وَلَا يُدْرِكهُ إِلَّا ذُو بصر حاد كعثمان رضى الله عَنهُ حَيْثُ أدْرك هَذَا الكدر الْيَسِير فَإِن تَأمل الْمَرْأَة من أيسر الذُّنُوب وأدركه عُثْمَان وَعرف أَصله وَهَذَا مقَام عَال يخضع لَهُ كثير من المقامات وَإِذا انْضَمَّ إِلَى الصَّغِيرَة صَغِيرَة أُخْرَى ازْدَادَ الكدر وَإِذا تكاثرت الذُّنُوب بِحَيْثُ وصلت وَالْعِيَاذ بِاللَّه إِلَى مَا وصفناه من ظلام الْقُلُوب صَار بِحَيْثُ يُشَاهِدهُ كل ذى بصر فَمن رأى متضمخا بالمعاصى قد أظلم قلبه وَلم يتفرس فِيهِ ذَلِك فَليعلم أَنه إِنَّمَا لم يبصره لما عِنْده أَيْضا من الْعَمى الْمَانِع للإبصار وَإِلَّا فَلَو كَانَ بَصيرًا لَأبْصر هَذَا الظلام الداجى فبقدر بَصَره يبصر فَافْهَم مَا نتحفك بِهِ
وَمِنْهَا على يَد على المرتضى أَمِير الْمُؤمنِينَ رضى الله عَنهُ
روى أَن عليا وولديه الْحسن وَالْحُسَيْن رضى الله عَنْهُم سمعُوا قَائِلا يَقُول فى جَوف اللَّيْل
(يَا من يُجيب دَعَا الْمُضْطَر فى الظُّلم ... يَا كاشف الضّر والبلوى مَعَ السقم)
(قد نَام وفدك حول الْبَيْت وانتبهوا ... وَعين جودك يَا قيوم لم تنم)
(هَب لى بجودك فضل الْعَفو عَن زللى ... يَا من إِلَيْهِ رَجَاء الْخلق فى الْحرم)
(إِن كَانَ عفوك لَا يرجوه ذُو خطأ ... فَمن يجود على العاصين بِالنعَم)
فَقَالَ على رضى الله عَنهُ لوَلَده اطلب لى هَذَا الْقَائِل فَأَتَاهُ فَقَالَ أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأقبل يجر شقَّه حَتَّى وقف بَين يَدَيْهِ فَقَالَ قد سَمِعت خطابك فَمَا قصتك فَقَالَ إنى كنت رجلا مَشْغُولًا بالطرب والعصيان وَكَانَ والدى يعظنى وَيَقُول إِن لله سطوات ونقمات وَمَا هى من الظَّالِمين بِبَعِيد فَلَمَّا ألح فى الموعظة ضَربته فَحلف ليدعون على ويأتى مَكَّة مستغيثا إِلَى الله فَفعل ودعا فَلم يتم دعاؤه حَتَّى جف شقى الْأَيْمن فندمت على مَا كَانَ منى وداريته وأرضيته إِلَى أَن ضمن لى أَنه يَدْعُو لى حَيْثُ دَعَا على فَقدمت إِلَيْهِ نَاقَة فأركبته فنفرت النَّاقة ورمت بِهِ بَين صخرتين فَمَاتَ هُنَاكَ فَقَالَ لَهُ على رضى الله عَنهُ رضى الله عَنْك إِن كَانَ أَبوك رضى عَنْك فَقَالَ الله كَذَلِك فَقَامَ على كرم الله وَجهه وَصلى رَكْعَات ودعا بدعوات أسرها إِلَى الله عز وَجل ثمَّ قَالَ يَا مبارك

قُم فَقَامَ وَمَشى وَعَاد إِلَى الصِّحَّة كَمَا كَانَ ثمَّ قَالَ لَوْلَا أَنَّك حَلَفت أَن أَبَاك رضى عَنْك مَا دَعَوْت لَك
قلت أما الدُّعَاء فَلَا إِشْكَال فِيهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِظْهَار كَرَامَة وَلَكنَّا نبحث فى هَذَا الْأَمر فى موضِعين أَحدهمَا فِيمَا نَحن بصدده من السِّرّ فى إِظْهَاره كرم الله وَجهه الْكَرَامَة فى قَوْله قُم
فَنَقُول لَعَلَّه لما دَعَا أذن لَهُ أَن يَقُول ذَلِك أَو رأى أَن قِيَامه مَوْقُوف بِإِذن الله تَعَالَى على هَذَا الْمقَال فَلم يكن من ذكره بُد
والثانى كَونه صلى رَكْعَات وَلم يقْتَصر على رَكْعَتَيْنِ
فَنَقُول ينبغى للداعى أَن يبْدَأ بِعَمَل صَالح يتنور بِهِ قلبه ليعقبه الدُّعَاء وَلذَلِك كَانَ الدُّعَاء عقيب المكتوبات أقرب إِلَى الإجابات وَمن أفضل الْأَعْمَال الصَّلَاة وَقد جَاءَ فى أَحَادِيث كَثِيرَة الْأَمر بتقديمها على الدُّعَاء عِنْد الْحَاجَات وَأَقل الصَّلَاة رَكْعَتَانِ فَإِن حصل نور بهَا وأشرقت علائم الْقبُول فَالْأولى الدُّعَاء عقيبها وَإِلَّا فَليصل الْمَرْء إِلَى أَن تلوح أَمَارَات الْقبُول فَيعرض إِذْ ذَاك عَن الصَّلَاة ويفتتح الدُّعَاء فَإِنَّهُ أقرب إِلَى الْإِجَابَة وللكلام فى هَذَا الْمقَام سبح طَوِيل لسنا لَهُ الْآن
وَمِنْهَا على يَد الْعَبَّاس عَم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فى استسقائه عَام الرَّمَادَة وَذَلِكَ أَن الأَرْض أجدبت فى زمَان عمر رضى الله عَنهُ وَكَانَت الرّيح تذرى تُرَابا كالرماد لشدَّة الجدب فَسمى عَام الرَّمَادَة لذَلِك وَقيل إِنَّمَا سمى بذلك لِكَثْرَة من هلك فِيهِ والرمد الْهَلَاك فَخرج عمر بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب رضى الله عَنْهُمَا يستسقى فَأخذ بضبعيه وأشخصه قَائِما ثمَّ أشخص إِلَى السَّمَاء وَقَالَ اللَّهُمَّ

إِنَّا نتقرب إِلَيْك بعم نبيك وقفية آبَائِهِ وَكبر رِجَاله فَإنَّك تَقول وقولك الْحق {وَأما الْجِدَار فَكَانَ لغلامين يتيمين فِي الْمَدِينَة وَكَانَ تَحْتَهُ كنز لَهما وَكَانَ أَبوهُمَا صَالحا} فحفظتهما لصلاح أَبِيهِمَا فاحفظ اللَّهُمَّ نبيك فى عَمه فقد دلونا بِهِ إِلَيْك مستشفعين ومستغفرين ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} إِلَى قَوْله {أَنهَارًا} وَالْعَبَّاس قد طَال عمر وَعَيناهُ تَنْضَحَانِ وسبابته تجول على صَدره وَهُوَ يَقُول اللَّهُمَّ أَنْت الراعى لَا تهمل الضَّالة وَلَا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصَّغِير ورق الْكَبِير وَارْتَفَعت الشكوى وَأَنت تعلم السِّرّ وأخفى اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك قبل أَن يقنطوا فيهلكوا فَإِنَّهُ لَا ييأس من روحك إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ اللَّهُمَّ فأغثهم بغياثك فقد تقرب إِلَى الْقَوْم لمكانى من نبيك عَلَيْهِ السَّلَام فَنَشَأَتْ طريرة من سَحَاب وَقَالَ النَّاس ترَوْنَ ترَوْنَ ثمَّ تلامت واستتمت ومشت فِيهَا ريح ثمَّ هدت وَدرت فَمَا برح الْقَوْم حَتَّى اعتلقوا الْحذاء وقلصوا المآزر وخاضوا المَاء إِلَى الركب ولاذ النَّاس بِالْعَبَّاسِ يمسحون أردانه وَيَقُولُونَ هَنِيئًا لَك ساقى الْحَرَمَيْنِ فأمرع الله الْحباب وأخصب الْبِلَاد ورحم الْعباد
قلت فَهَذِهِ دَعْوَة مستجابة ببركة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِيهَا قصد إِلَى إِظْهَار كَرَامَة بل استسقاء عِنْد احْتِيَاج الْخلق
وهى مثل مَا ظهر على يَد سعد بن أَبى وَقاص رضى الله عَنهُ
وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَوْم الْقَادِسِيَّة متألما من دمل لم يسْتَطع الرّكُوب لأَجله فَجَلَسَ فى قصر يشرف على النَّاس فَقَالَ فى ذَلِك بعض الشُّعَرَاء مقَالا بلغه رضى الله عَنهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنَا لِسَانه وَيَده فخرس لِسَانه وشلت يَده وَكَانَ سعد رضى الله عَنهُ مجاب الدعْوَة لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لَهُ بذلك فَقَالَ (اللَّهُمَّ سدد سَهْمه وأجب دَعوته) فَكَانَ لَا يَدْعُو بشئ إِلَّا أجَاب الله عز وَجل دعاءه فِيهِ وَكَانَ الصَّحَابَة يعْرفُونَ ذَلِك مِنْهُ وَلما عَزله عمر رضى الله عَنهُ من الْكُوفَة بشكوى أَهلهَا وَكَانَ عمر رضى الله عَنهُ قد قَالَ لَا يشكو إِلَى أهل مَوضِع عاملهم إِلَّا عزلته وَذَلِكَ وَالله أعلم لمعنيين
أَحدهمَا لِأَنَّهُ رأى أَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم كلهم عدُول والاستبدال مُمكن والثانى أَنه لم يكن للأولين رَغْبَة فى الْولَايَة وَإِنَّمَا كَانُوا يفعلونها امتثالا لأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ وانقيادا لطاعة الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجاء ثَوَاب الله فى إِقَامَة الْحق فَإِذا عزل أحدهم كَانَ الْعَزْل أحب إِلَيْهِ من الْولَايَة فَلَا يؤلم ذَلِك قلبه فَلذَلِك كَانَ عمر رضى الله عَنهُ وَالله أعلم يخْتَار عزل المشكو على الْإِطْلَاق بِمُجَرَّد الشكوى وَإِن كَانَ عِنْده عدلا ورعا منزها عَمَّا قيل فِيهِ لِأَنَّهُ يجمع بعزله بَين إِدْخَال السرُور على قلبه بالإقالة وعَلى الشاكين بِقطع النزاع وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا يغْفل الْبَحْث عَن أَحْوَال الراعى والرعية حَتَّى يطلع على صدق الشاكى من غَيره فَلَمَّا عزل سَعْدا وَولى مَكَانَهُ عمار بن يَاسر رضى الله عَنْهُمَا بعث مَعَ سعد من يسْأَل عَنهُ أهل الْكُوفَة فَلم يدع مَسْجِدا حَتَّى سَأَلَ عَنهُ فيثنون خيرا حَتَّى دخل مَسْجِدا لبنى عبس فَقَامَ رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ أُسَامَة بن قَتَادَة ويكنى أَبَا سعدة فَقَالَ أما إِذْ نَشَدتنَا فَإِن سَعْدا كَانَ لَا يسير بالسرية وَلَا يقسم بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يعدل فى الْقَضِيَّة فَقَالَ سعد أما وَالله لأدعون بِثَلَاث اللَّهُمَّ إِن كَانَ عَبدك هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاء وَسُمْعَة فأطل عمره وأطل فقره وَعرضه للفتن قَالَ عبد الْملك بن عُمَيْر من رُوَاة الحَدِيث فَأَنا رَأَيْته قد سقط حاجباه على عَيْنَيْهِ من الْكبر وَإنَّهُ ليتعرض للجوارى فى الطَّرِيق يغمزهن وَكَانَ بعد إِذا سُئِلَ يَقُول شيخ كَبِير مفتون أصابتنى دَعْوَة سعد
وَأَرَادَ عمر رضى الله عَنهُ أَن يرد سَعْدا بعد ذَلِك إِلَى الْكُوفَة فَامْتنعَ
وَأَقْبل سعد يَوْمًا بِرَجُل يسب عليا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر رضى الله عَنْهُم فَنَهَاهُ فَكَأَنَّمَا زَاده إغراء فَقَالَ لَهُ وَيلك مَا تُرِيدُ إِلَى أَقوام خير مِنْك لتنتهين أَو لأدعون عَلَيْك فَقَالَ هاه فَكَأَنَّمَا تخوفنى يعْنى نَبيا من الْأَنْبِيَاء فَدخل سعد دَارا فَتَوَضَّأ وَدخل مَسْجِدا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن كَانَ عَبدك هَذَا يسب أَقْوَامًا قد سبقت لَهُم مِنْك الْحسنى حَتَّى أسخطك بسبه إيَّاهُم فأرنى فِيهِ الْيَوْم آيَة تكون آيَة للْمُؤْمِنين فَخرجت بُخْتِيَّة من دَار قوم وَأَقْبَلت لَا يصد صدرها شئ حَتَّى انْتَهَت إِلَيْهِ وتفرق النَّاس فَجَعَلته بَين قَوَائِمهَا ووطئته حَتَّى طفئ
وَمِنْهَا على يَد ابْن عمر رضى الله عَنْهُمَا
حَيْثُ قَالَ للأسد الذى منع النَّاس الطَّرِيق تَنَح فبصبص بِذَنبِهِ وَذهب وعَلى يَد الْعَلَاء بن الحضرمى رضى الله عَنهُ
وَقد بَعثه النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى غزَاة بِجَيْش فحال بَينهم وَبَين الْموضع الْبَحْر فَدَعَا الله وَمَشوا على المَاء
وَمَا جَاءَ أَنه كَانَ بَين يدى سلمَان وأبى الدَّرْدَاء رضى الله عَنْهُمَا قَصْعَة فسبحت حَتَّى سمعا التَّسْبِيح
وَمَا اشْتهر أَن عمرَان بن حُصَيْن رضى الله عَنهُ كَانَ يسمع تَسْبِيح الْمَلَائِكَة حَتَّى اكتوى فانحبس ذَلِك عَنهُ ثمَّ أَعَادَهُ الله عَلَيْهِ
وَمَا اشْتهر من قصَّة خَالِد بن الْوَلِيد رضى الله عَنهُ وهى أَنه شرب السم وَلم يضرّهُ
فَإِن قلت مَا بَال الكرامات فى زمن الصَّحَابَة وَإِن كثرت فى نَفسهَا قَليلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يرْوى من الكرامات الكائنة بعدهمْ على يَد الْأَوْلِيَاء
فَالْجَوَاب أَولا مَا أجَاب بِهِ الإِمَام الْجَلِيل أَحْمد ابْن حَنْبَل رضى الله عَنهُ حَيْثُ سُئِلَ عَن ذَلِك فَقَالَ أُولَئِكَ كَانَ إِيمَانهم قَوِيا فَمَا احتاجوا إِلَى زِيَادَة يقوى بهَا إِيمَانهم وَغَيرهم ضَعِيف الْإِيمَان فى عصره فاحتيج إِلَى تقويته بِإِظْهَار الْكَرَامَة
وَنَظِيره قَول الشَّيْخ السهروردى رَحمَه الله حَيْثُ قَالَ وخرق الْعَادة إِنَّمَا يكاشف بِهِ لموْضِع ضعف يَقِين المكاشف رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْعباد ثَوابًا معجلا
وَفَوق هَؤُلَاءِ قوم ارْتَفَعت الْحجب عَن قُلُوبهم فَمَا احتاجوا إِلَى ذَلِك

وَثَانِيا أَن يُقَال مَا يظْهر على يدهم رُبمَا اسْتغنى عَنهُ اكْتِفَاء بعظيم مقدارهم ورؤيتهم طلعة الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولزومهم طَرِيق الاسْتقَامَة الذى هُوَ أعظم الْكَرَامَة مَعَ مَا فتح على يديهم من الدُّنْيَا وَلَا اشرأبوا لَهَا وَلَا جنحوا نَحْوهَا وَلَا استزلت وَاحِدًا فرضى الله عَنْهُم كَانَت الدُّنْيَا فى أَيْديهم أَضْعَاف مَا هى فى أيدى أهل دُنْيَانَا وَكَانَ إعراضهم عَنْهَا أَشد إِعْرَاض وَهَذَا من أعظم الكرامات وَلم يكن شوقهم إِلَّا إعلاء كلمة الله تَعَالَى وَالدُّعَاء إِلَى جنابه جلّ وَعلا
فَإِن قلت هَب أَنكُمْ دفعتم شبه المنكرين للكرامات فَمَا دليلكم أَنْتُم على إِثْبَاتهَا فَإِن القَوْل فى الدّين نفيا وإثباتا مُحْتَاج إِلَى الدَّلِيل
قلت إِذا انْدفع مَا اسْتدلَّ بِهِ الْخُصُوم على الْمَنْع وَبَطلَت الاستحالة لم يبْق بعْدهَا إِلَّا الْجَوَاز إِذْ لَا وَاسِطَة بَين الْمَنْع والاستحالة ثمَّ فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْوَاقِعَات على يَد الصَّحَابَة مقنع لمن لَهُ أدنى بَصِيرَة ثمَّ إِن أَبيت إِلَّا دَلِيلا خَاصّا ليَكُون أقطع للشغب وأنفى للشبه
فَنَقُول الدَّلِيل على ثُبُوت الكرامات وُجُوه
أَحدهَا وَهُوَ أوحدها مَا شاع وذاع بِحَيْثُ لَا يُنكره إِلَّا جَاهِل معاند من أَنْوَاع الكرامات للْعُلَمَاء وَالصَّالِحِينَ الجارى مجْرى شجاعة على وسخاء حَاتِم بل إِنْكَار الكرامات أعظم مباهتة فَإِنَّهُ أشهر وَأظْهر وَلَا يعاند فِيهِ إِلَّا من طمس قلبه وَالْعِيَاذ بِاللَّه
والثانى قصَّة مَرْيَم من جِهَة حبلها من غير ذكر وَحُصُول الرطب الطرى من الْجذع الْيَابِس وَحُصُول الرزق عِنْدهَا فى غَيره أَوَانه وَمن غير حُضُور أَسبَابه على مَا أخبر الله تَعَالَى بقوله {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله} وهى لم تكن نبية لَا عندنَا وَلَا عِنْد الْخُصُوم
أما عندنَا فلأدلة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة} وَمِنْهَا الْإِجْمَاع على مَا نقل بَعضهم

وَأما عِنْد الْخصم فَلِأَنَّهُ يشْتَرط أَن يكون النبى ذكرا وَنحن لَا نخالفه فى ذَلِك بل نشترط الذُّكُورَة فى الْإِمَامَة وَالْقَضَاء فضلا عَن النُّبُوَّة هَكَذَا ذكر بعض أَئِمَّتنَا فَقَالَ القاضى لم يقم عندى من أَدِلَّة السّمع فى أَمر مَرْيَم وَجه قَاطع فى نفى نبوتها أَو إِثْبَاتهَا
فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن تكون معْجزَة لزكريا أَو يكون إرهاصا لولدها عِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام
قلت لِأَن المعجزة تجب أَن تكون بمشهد من الرَّسُول وَالْقَوْم حَتَّى يُقيم الدّلَالَة عَلَيْهِم وَمَا حكيناه من كراماتها نَحْو قَول جِبْرِيل لَهَا {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا} لم يكن بِحُضُور أحد بِدَلِيل قَوْله {فإمَّا تَرين من الْبشر أحدا فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} وَأَيْضًا فالمعجزة تكون بالتماس الرَّسُول وزَكَرِيا مَا كَانَ يعلم بِحُصُول ذَلِك لقَوْله {أَنى لَك هَذَا}
وَأَيْضًا فَهَذِهِ الخوارق إِنَّمَا ذكرت لتعظيم شَأْن مَرْيَم فَيمْتَنع وُقُوعهَا كَرَامَة لغَيْرهَا
وَلَا يجوز أَن تكون إرهاصا لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الإرهاص أَن يخْتَص الرَّسُول قبل رسَالَته بالكرامات فَأَما مَا يحصل بِهِ كَرَامَة الْغَيْر لأجل أَنه سيجىء بعد ذَلِك فَذَلِك هُوَ الْكَرَامَة الَّتِى يدعيها وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك لجَاز فى كل معْجزَة ظَهرت على يَد مدعى الرسَالَة أَن تكون إرهاصا لنبى آخر يجىء بعد ذَلِك وتجويز هَذَا يُؤدى إِلَى سد بَاب الِاسْتِدْلَال بالمعجزة على النُّبُوَّة
وَقَرِيب من قصَّة مَرْيَم قصَّة أم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ من إلهام الله تَعَالَى إِيَّاهَا حَتَّى طابت نَفسهَا بإلقاء وَلَدهَا فى اليم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا خصت بِهِ أفترى ذَلِك سدى
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إِلَى أَنَّهَا كَانَت نبية صَاحِبَة معْجزَة

وَالثَّالِث التَّمَسُّك بِقصَّة أَصْحَاب الْكَهْف فَإِن لبثهم ثَلَاث مائَة سِنِين وأزيد نياما أَحيَاء من غير آفَة مَعَ بَقَاء الْقُوَّة العادية بِلَا غذَاء وَلَا شراب من جملَة الخوارق وَلم يَكُونُوا أَنْبيَاء فَلم تكن معْجزَة فَتعين كَونهَا كَرَامَة
وَادّعى إِمَام الْحَرَمَيْنِ اتِّفَاق الْمُسلمين على أَنهم لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وَإِنَّمَا كَانُوا على دين ملك فى زمانهم يعبد الْأَوْثَان فَأَرَادَ الله أَن يهْدِيهم فشرح صُدُورهمْ لِلْإِسْلَامِ وَلم يكن ذَلِك عَن دَعْوَة دَاع دعاهم وَلَكنهُمْ لما وقفُوا تَفَكَّرُوا وتدبروا ونظروا فاستبان لَهُم ضلال صَاحبهمْ وَرَأَوا أَن يُؤمنُوا بفاطر السَّمَوَات وَالْأَرضين ومبدع الْخَلَائق أَجْمَعِينَ
وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل ذَلِك معْجزَة لنبى آخر
أما أَولا فلأنهم أخفوه حَيْثُ قَالُوا {وَلَا يشعرن بكم أحدا} والمعجزة لَا يُمكن إِخْفَاؤُهَا
وَأما ثَانِيًا فَلِأَن المعجزة يجب الْعلم بهَا وبقاءهم هَذِه الْمدَّة لَا يُمكن علم الْخلق بِهِ لِأَن الْخلق لم يشاهدوه فَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بإخبارهم لَو صَحَّ أَنهم يعلمُونَ ذَلِك وإخبارهم بذلك إِنَّمَا يُفِيد إِذا ثَبت صدقهم بِدَلِيل آخر وَهُوَ غير حَاصِل وَأما إِثْبَات صدقهم بِهَذَا الْأَمر فدور مُمْتَنع لِأَنَّهُ إِنَّمَا يثبت هَذَا الْأَمر إِذا ثَبت صدقهم فَلَو توقف صدقهم عَلَيْهِ لدار
وَأما ثَالِثا فَإِنَّهُ لَيْسَ لذَلِك النبى ذكر وَلَا دَلِيل يدل عَلَيْهِ فإثبات المعجزة لَهُ لَا فَائِدَة فِيهِ لِأَن فَائِدَة المعجزة التَّصْدِيق وتصديق وَاحِد غير معِين محَال
الرَّابِع التَّمَسُّك بقصص شَتَّى مثل قصَّة آصف بن برخيا مَعَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فى حمل عرش بلقيس إِلَيْهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْهِ طرفه على قَول أَكثر الْمُفَسّرين بِأَنَّهُ المُرَاد بالذى عِنْده علم من الْكتاب وَمَا قدمْنَاهُ عَن الصَّحَابَة وَمَا تَوَاتر عَمَّن بعدهمْ من الصَّالِحين وَخرج عَن حد الْحصْر وَلَو أَرَادَ الْمَرْء استيعابه لما كفته أوساق أحمال وَلَا أوقار جمال ومازال النَّاس فى الْأَعْصَار السَّابِقَة وهم بِحَمْد الله إِلَى الْآن فى الْأَزْمَان اللاحقة وَلَكنَّا نستدل بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فقد كَانُوا من قبل مَا نبغ النابغون وَنَشَأ الزائغون يتفاوضون فى كرامات الصَّالِحين وينقلون مَا جرى من ذَلِك لعباد بنى إِسْرَائِيل فَمن بعدهمْ وَكَانَت الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم من أَكثر النَّاس خوضا فى ذَلِك
الْخَامِس مَا أعطَاهُ الله تَعَالَى لعلماء هَذِه الْأمة وأوليائها من الْعُلُوم حَتَّى صنفوا كتبا كَثِيرَة لَا يُمكن غَيرهم نسخهَا فى مُدَّة عمر مصنفها مَعَ التَّوْفِيق لدقائق تخرج عَن حد الْحصْر واستنباطات تطرب ذوى النهى واستخراجات لمعان شَتَّى من الْكتاب وَالسّنة تطبق طبق الأَرْض وَتَحْقِيق للحق وَإِبْطَال للباطل وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ من المجاهدات والرياضات وَالدَّعْوَى إِلَى الْحق وَالصَّبْر على أَنْوَاع الْأَذَى وعزوف أنفسهم عَن لذات الدُّنْيَا مَعَ نِهَايَة عُقُولهمْ وذكائهم وفطنتهم وَمَا حبب إِلَيْهِم من الدأب فى الْعُلُوم وكد النَّفس فى تَحْصِيلهَا بِحَيْثُ إِذا تَأمل المتأمل مَا أَعْطَاهُم الله مِنْهُ عرف أَنه أعظم من إِعْطَائِهِ بعض عبيده كسرة خبز فى أَرض مُنْقَطِعَة وشربة مَاء فى مفازة وَنَحْوهمَا مِمَّا يعد كَرَامَة
فَإِن قلت قد أَكثرْتُم القَوْل فى الكرامات وَمَا أفصحتم بالمختار عنْدكُمْ من الْأَقْوَال المنقولات
قلت هَذَا مقَام معضل خطر والاحتجار على مواهب الله لأوليائه عَظِيم عسر والاتساع فِي التجويز آيل إِلَى فتح بَاب على المعجزات مسدود
وَالَّذِي يتَرَجَّح عِنْدِي القَوْل بتجويز الكرامات على الْإِطْلَاق إِذا لم تخرق عَادَة وبتجويز بعض خوارق العوائد دون بعض فَلَا أمنع كثيرا من الخوارق وَأَمْنَع كثيرا ولي فِي ذَلِك قدوة وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي رَحمَه الله تَعَالَى
فَإِن قلت عرفني مَا تَمنعهُ ومالا تَمنعهُ ليتبين مذهبك
قلت أمنع ولدا من غير أبوين وقلب جماد بَهِيمَة وَنَحْو ذَلِك وسيتضح لَك ذَلِك عِنْد ذكر الْأَنْوَاع الَّتِي أبديها على الْأَثر إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما جُمْهُور أَئِمَّتنَا فعمموا التجويز وأطلقوا القَوْل إطلاقا وَأخذ بعض الْمُتَأَخِّرين يعدد أَنْوَاع الْوَاقِعَات من الكرامات فَجَعلهَا عشرَة وَهِي أَكثر من ذَلِك وَأَنا أذكر مَا عِنْدِي فِيهَا
النَّوْع الأول إحْيَاء الْمَوْتَى وَاسْتشْهدَ لذَلِك بِقصَّة أبي عبيد البسري فقد صَحَّ أَنه غزا وَمَعَهُ دَابَّة فَمَاتَتْ فَسَأَلَ الله أَن يُحْيِيهَا حَتَّى يرجع إِلَى بسر فَقَامَتْ الدَّابَّة تنفض أذنيها فَلَمَّا فرغ من الْغَزْوَة وَوصل إِلَى بسر أَمر خادمه أَن يَأْخُذ السرج عَن الدَّابَّة فَلَمَّا أَخذه سَقَطت ميتَة
والحكايات فى هَذَا الْبَاب كَثِيرَة وَمن أواخرها أَن مفرجا الدمامينى وَكَانَ من أَوْلِيَاء الله من أهل الصَّعِيد ذكر أَنه أحضرت عِنْده فراخ مشوية فَقَالَ لَهَا طيرى فطارت أَحيَاء بِإِذن الله تَعَالَى
وَأَن الشَّيْخ الأهدل كَانَت لَهُ هرة ضربهَا خادمه فَمَاتَتْ فَرمى بهَا فى خرابة فَسَأَلَ عَنْهَا الشَّيْخ بعد لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاث فَقَالَ الْخَادِم لَا أدرى فَقَالَ الشَّيْخ أما تدرى ثمَّ ناداها فَجَاءَت إِلَيْهِ تجرى
وحكاية الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلانى رضى الله عَنهُ وَوَضعه يَده على عِظَام دجَاجَة كَانَ قد أكلهَا وَقَوله لَهَا قومى بِإِذن الله الذى يحيى الْعِظَام وهى رَمِيم فَقَامَتْ دجَاجَة سوية حِكَايَة مَشْهُورَة
وَذكروا أَن الشَّيْخ أَبَا يُوسُف الدهمانى مَاتَ لَهُ صَاحب فجزع عَلَيْهِ أَهله فَلَمَّا رأى الشَّيْخ شدَّة جزعهم جَاءَ إِلَى الْمَيِّت وَقَالَ لَهُ قُم بِإِذن الله فَقَامَ وعاش بعد ذَلِك زَمنا طَويلا
وحكاية زين الدّين الفارقى الشافعى مدرس الشامية شهيرة وَقد سَمعتهَا من لفظ وَلَده ولى الله الشَّيْخ فتح الدّين يحيى فَحكى لنا مَا سنحكيه فى تَرْجَمَة وَالِده مِمَّا حَاصله أَنه وَقع فى دَاره طِفْل صَغِير من سطح فَمَاتَ فدعى الله فأحياه وَلَا سَبِيل إِلَى استقصاء مَا يحْكى من هَذَا النَّوْع لكثرته وَأَنا أومن بِهِ غير أَنى أَقُول
لم يثبت عندى أَن وليا حيى لَهُ ميت مَاتَ من أزمان كَثِيرَة بَعْدَمَا صَار عظما رميما ثمَّ عَاشَ بعد مَا حيى لَهُ زَمَانا كثيرا هَذَا الْقدر لم يبلغنَا وَلَا أعتقده وَقع لأحد من الْأَوْلِيَاء وَلَا شكّ فى وُقُوع مثله للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام مثل هَذَا يكون معْجزَة وَلَا تنتهى إِلَيْهِ الْكَرَامَة فَيجوز أَن يجىء نبى قبل اختتام النُّبُوَّة بإحياء أُمَم انْقَضتْ قبله بدهور ثمَّ إِذا عاشوا استمروا فى قيد الْحَيَاة أزمانا وَلَا أعتقد الْآن أَن وليا يحيى لنا الشافعى وَأَبا حنيفَة حَيَاة يبقيان مَعهَا زَمَانا طَويلا كَمَا عمرا قبل الْوَفَاة بل وَلَا زَمَانا قَصِيرا يخالطان فِيهِ الْأَحْيَاء كَمَا خالطاهما قبل الْوَفَاة
النَّوْع الثانى كَلَام الْمَوْتَى وَهُوَ أَكثر من النَّوْع قبله وروى مثله عَن أَبى سعيد الخراز رضى الله عَنهُ ثمَّ عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر رضى الله عَنهُ وَعَن جمَاعَة من آخِرهم بعض مَشَايِخ الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله وَلست أُسَمِّيهِ
النَّوْع الثَّالِث انفلاق الْبَحْر وجفافه والمشى على المَاء وكل ذَلِك كثير وَقد اتّفق مثله لشيخ الْإِسْلَام وَسيد الْمُتَأَخِّرين تقى الدّين بن دَقِيق العَبْد
الرَّابِع انقلاب الْأَعْيَان كَمَا حكى أَن الشَّيْخ عِيسَى الهتار الْيُمْنَى أرسل إِلَيْهِ شخص مستهزئا بِهِ إناءين ممتلئين خمرًا فصب أَحدهمَا فى الآخر وَقَالَ بِسم الله كلوا فَأَكَلُوا فَإِذا هُوَ سمن لم ير مثل لَونه وريحه وَقد أَكْثرُوا فى ذكر نَظِير هَذِه الْحِكَايَة
الْخَامِس انزواء الأَرْض لَهُم بِحَيْثُ حكوا أَن بعض الْأَوْلِيَاء كَانَ فى جَامع طرسوس فاشتاق إِلَى زِيَارَة الْحرم فَأدْخل رَأسه فى جبته ثمَّ أخرجه وَهُوَ فى الْحرم
وَالْقدر الْمُشْتَرك من الحكايات فى هَذَا النَّوْع بَالغ مبلغ التَّوَاتُر وَلَا يُنكره إِلَّا مباهت
السَّادِس كَلَام الجمادات والحيوانات وَلَا شكّ فِيهِ وفى كثرته وَمِنْه مَا حكى أَن إِبْرَاهِيم بن أدهم جلس فى طَرِيق بَيت الْمُقَدّس تَحت شَجَرَة رمان فَقَالَت لَهُ يَا أَبَا إِسْحَاق أكرمنى بِأَن تَأْكُل منى شَيْئا قَالَت ذَلِك ثَلَاثًا وَكَانَت شَجَرَة قَصِيرَة ورمانها حامضا فَأكل مِنْهَا رمانة فطالت وحلا رمانها وحملت فى الْعَام مرَّتَيْنِ وَسميت رمانة العابدين
وَقَالَ الشبلى عقدت أَنى لَا آكل إِلَّا من حَلَال فَكنت أدور فى البرارى فَرَأَيْت شَجَرَة تين فمددت يدى لآكل مِنْهَا فنادتنى الشَّجَرَة احفظ عَلَيْك عقدك وَلَا تَأْكُل منى فإنى ليهودى فكففت يدى
السَّابِع إِبْرَاء العليل كَمَا روى عَن السرى فى حِكَايَة الرجل الذى لقِيه بِبَعْض الْجبَال يبرىء الزمنى والعميان والمرضى
وكما حكى عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه قَالَ لصبى مقْعد مفلوج أعمى مجذوم قُم بِإِذن الله فَقَامَ لَا عاهة بِهِ
االثامن طَاعَة الْحَيَوَانَات لَهُم كَمَا فى حِكَايَة الْأسد مَعَ أَبى سعيد بن أَبى الْخَيْر الميهنى وَقَبله إِبْرَاهِيم الْخَواص بل وَطَاعَة الجمادات كَمَا فى حِكَايَة سُلْطَان الْعلمَاء شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام وَقَوله فى وَاقعَة الفرنج يَا ريح خُذِيهِمْ فَأَخَذتهم
التَّاسِع طى الزَّمَان
الْعَاشِر نشر الزَّمَان وفى تَقْرِير هذَيْن الْقسمَيْنِ عسر على الأفهام وتسليمه لأَهله أولى بذى الْإِيمَان والحكايات فيهمَا كَثِيرَة
الحادى عشر استجابة الدُّعَاء وَهُوَ كثير جدا وشاهدناه من جمَاعَة
الثانى عشر إمْسَاك اللِّسَان عَن الْكَلَام وانطلاقه
الثَّالِث عشر جذب بعض الْقُلُوب فى مجْلِس كَانَت فِيهِ فى غَايَة النفرة
الرَّابِع عشر الْإِخْبَار بِبَعْض المغيبات والكشف وَهُوَ دَرَجَات تخرج عَن حد الْحصْر

الْخَامِس عشر الصَّبْر على عدم الطَّعَام وَالشرَاب الْمدَّة الطَّوِيلَة
السَّادِس عشر مقَام التصريف فقد حكى عَن جمَاعَة مِنْهُ الشئ الْكثير
وَذكر أَن بَعضهم كَانَ يَبِيع الْمَطَر وَكَانَ من الْمُتَأَخِّرين الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس الشاطر يَبِيع الأشغال بِالدَّرَاهِمِ وَكَثُرت الحكايات عَنهُ فى هَذَا الْبَاب بِحَيْثُ لم يبْق للذهن مساع فى إنكارها
السَّابِع عشر الْقُدْرَة على تنَاول الْكثير من الْغذَاء
الثَّامِن عشر الْحِفْظ عَن أكل الْحَرَام كَمَا حكى عَن الْحَارِث المحاسبى أَنه كَانَ يرْتَفع إِلَى أَنفه زفورة من المأكل الْحَرَام فَلَا يَأْكُلهُ وَقيل كَانَ يَتَحَرَّك لَهُ عرق وَحكى نَظِيره عَن الشَّيْخ أَبى الْعَبَّاس المرسى وَقيل إِن بعض النَّاس امتحنه وأحضر لَهُ مأكلا حَرَامًا فبمجرد مَا وَضعه بَين يَدَيْهِ قَالَ إِن كَانَ المحاسبى يَتَحَرَّك مِنْهُ عرق فَأَنا يَتَحَرَّك منى عِنْد حُضُور الْحَرَام سَبْعُونَ عرقا ونهض من سَاعَته وَانْصَرف
التَّاسِع عشر رُؤْيَة الْمَكَان الْبعيد من وَرَاء الْحجب كَمَا قيل إِن الشَّيْخ أَبَا إِسْحَاق الشيرازى كَانَ يُشَاهد الْكَعْبَة وَهُوَ بِبَغْدَاد
الْعشْرُونَ الهيبة الَّتِى لبَعْضهِم بِحَيْثُ مَاتَ من شَاهده بِمُجَرَّد رُؤْيَته كصاحب أَبى يزِيد البسطامى الذى قدمنَا حكايته أَو بِحَيْثُ أفحم بَين يَدَيْهِ أَو اعْترف بِمَا لَعَلَّه كتمه عَنهُ أَو غير ذَلِك وَهُوَ كثير
الحادى وَالْعشْرُونَ كِفَايَة الله إيَّاهُم شَرّ من يُرِيد بهم سوءا وانقلابه خيرا كَمَا اتّفق للشافعى رضى الله عَنهُ مَعَ هَارُون الرشيد رَحمَه الله
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ التطور بأطوار مُخْتَلفَة وَهَذَا الذى تسميه الصُّوفِيَّة بعالم الْمثل ويثبتون عَالما متوسطا بَين عالمى الْأَجْسَام والأرواح سموهُ عَالم الْمِثَال وَقَالُوا هُوَ ألطف من عَالم الْأَجْسَام وأكثف من عَالم الْأَرْوَاح وبنوا عَلَيْهِ تجسد الْأَرْوَاح وظهورها فى صور مُخْتَلفَة من عَالم الْمِثَال واستأنسوا لَهُ بقوله تَعَالَى {فتمثل لَهَا بشرا سويا} وَمِنْه مَا حكى عَن قضيب البان الموصلى وَكَانَ من الأبدال أَنه اتهمه بعض من لم يره يصلى بترك الصَّلَاة وشدد النكير عَلَيْهِ فتمثل لَهُ على الْفَوْر فى صور مُخْتَلفَة وَقَالَ فى أى هَذِه الصُّور رأيتنى مَا أصلى وَلَهُم من هَذَا النَّوْع حكايات كَثِيرَة
وَمِمَّا // اتّفق // لبَعض الْمُتَأَخِّرين أَنه وجد فَقِيرا شَيخا كَبِيرا يتَوَضَّأ بِالْقَاهِرَةِ فى الْمدرسَة الشرفية من غير تَرْتِيب فَقَالَ لَهُ يَا شيخ تتوضأ بِلَا تَرْتِيب فَقَالَ لَهُ مَا تَوَضَّأت إِلَّا مُرَتبا وَلَكِن أَنْت مَا تبصر لَو أَبْصرت لأبصرت هَكَذَا وَأخذ بِيَدِهِ وَأرَاهُ الْكَعْبَة ثمَّ مر بِهِ إِلَى مَكَّة فَوجدَ نَفسه فى مَكَّة وَأقَام بهَا سِنِين فى حِكَايَة يطول شرحها
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ إطلاع الله إيَّاهُم على ذخائر الأَرْض كَمَا قدمْنَاهُ فى حِكَايَة أَبى تُرَاب لما ضرب بِرجلِهِ الأَرْض فَإِذا عين مَاء زلال
وَعَن بَعضهم أَنه عَطش أَيْضا فى طَرِيق الْحَج فَلم يجد مَاء عِنْد أحد فَوجدَ فَقِيرا قد ركز عكازه فى مَوضِع وَالْمَاء يَنْبع من تَحت عكازه فَمَلَأ قربته وَدلّ الحجيج عَلَيْهِ فَجَاءُوا فملأوا أوانيهم من ذَلِك المَاء
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ مَا سهل لكثير من الْعلمَاء من التصانيف فى الزَّمن الْيَسِير بِحَيْثُ وزع زمَان تصنيفهم على زمَان اشتغالهم بِالْعلمِ إِلَى أَن مَاتُوا فَوجدَ لَا يفى بِهِ نسخا فضلا عَن التصنيف وَهَذَا قسم من نشر الزَّمَان الذى قدمْنَاهُ فقد اتّفق النقلَة على أَن عمر الشافعى رَحمَه الله لَا يفى بِعشر مَا أبرزه من التصانيف مَعَ مَا يثبت عَنهُ من تِلَاوَة الْقُرْآن كل يَوْم ختمة بالتدبر وفى رَمَضَان كل يَوْم ختمتين كَذَلِك واشتغاله بالدرس والفتاوى وَالذكر والفكر والأمراض الَّتِى كَانَت تعتوره بِحَيْثُ لم يخل رضى الله عَنهُ من عِلّة أَو علتين أَو أَكثر وَرُبمَا اجْتمع فِيهِ ثَلَاثُونَ مَرضا
وَكَذَلِكَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبُو المعالى الجوينى رَحمَه الله حسب عمره وَمَا صنفه مَعَ مَا كَانَ يلقيه على الطّلبَة وَيذكر بِهِ فى مجَالِس التَّذْكِير فَوجدَ لَا يفى بِهِ
وَقَرَأَ بَعضهم ثمانى ختمات فى الْيَوْم الْوَاحِد وأمثال هَذَا كثير
وَهَذَا الإِمَام الربانى الشَّيْخ محيى الدّين النووى رَحمَه الله وزع عمره على تصانيفه فَوجدَ أَنه لَو كَانَ ينسخها فَقَط لما كفاها ذَلِك الْعُمر فضلا عَن كَونه يصنفها فضلا عَمَّا كَانَ يضمه إِلَيْهَا من أَنْوَاع الْعِبَادَات وَغَيرهَا
وَهَذَا الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله إِذا حسب مَا كتبه من التصانيف مَعَ مَا كَانَ يواظبه من الْعِبَادَات ويمليه من الْفَوَائِد ويذكره فى الدُّرُوس من الْعُلُوم ويكتبه على الْفَتَاوَى ويتلوه من الْقُرْآن ويشتغل بِهِ من المحاكمات عرف أَن عمره قطعا لَا يفى بِثلث ذَلِك فسبحان من يُبَارك لَهُم ويطوى لَهُم وينشر
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ عدم تَأْثِير السمومات وأنواع الْمُتْلفَات فيهم كَمَا اتّفق ذَلِك للشَّيْخ الذى قَالَ لَهُ بعض الْمُلُوك إِمَّا أَن تظهر لى آيَة وَإِلَّا قتلت الْفُقَرَاء وَكَانَ بِقُرْبِهِ بعر جمال فَقَالَ انْظُر فَإِذا هى ذهب وَعِنْده كوز لَيْسَ فِيهِ مَاء فَأَخذه وَرمى بِهِ فى الْهَوَاء فَأَخذه ورده ممتلئا مَاء وَهُوَ منكس لم يخرج مِنْهُ قَطْرَة فَقَالَ الْملك هَذَا سحر وأوقد نَارا عَظِيمَة ثمَّ أَمرهم بِالسَّمَاعِ فَلَمَّا دَار فيهم الوجد دخل الشَّيْخ والفقراء فى النَّار ثمَّ خرج فخطف ابْنا صَغِيرا للْملك فَدخل بِهِ وَغَابَ سَاعَة بِحَيْثُ كَاد الْملك يَحْتَرِق على وَلَده ثمَّ خرج بِهِ وفى إِحْدَى يدى الصبى تفاحة وفى الْأُخْرَى رمانة فَقَالَ لَهُ أَبوهُ أَيْن كنت قَالَ فى بُسْتَان فَقَالَ جلساء الْملك هَذَا صَنْعَة لَا حَقِيقَة لَهُ فَقَالَ لَهُ الْملك إِن شربت هَذَا الْقدح من السم صدقتك فشربه وتمزقت ثِيَابه عَلَيْهِ ثمَّ ألقوا عَلَيْهِ غَيرهَا فتمزقت ثمَّ هَكَذَا مرَارًا إِلَى أَن ثبتَتْ عَلَيْهِ الثِّيَاب وَانْقطع عَنهُ عرق كَانَ أَصَابَهُ وَلم يُؤثر فِيهِ السم ضَرَرا
وأظن أَنْوَاع كراماتهم تربو على الْمِائَة وَفِيمَا أوردته دلَالَة على مَا أهملته ومقنع وبلاغ لمن زَالَت عَنهُ غفلته وَمَا من نوع من هَذِه الْأَنْوَاع إِلَّا وَقد كثرت فِيهِ الأقاصيص وَالرِّوَايَات وشاعت فِيهِ الْأَخْبَار والحكايات وماذا بعد الْحق إِلَّا الضلال وَلَا بعد بَيَان الْهدى إِلَّا الْمحَال وَلَيْسَ للموفق غير التَّسْلِيم وسؤال ربه أَن يلْحقهُ بهؤلاء الصَّالِحين فَإِنَّهُم على صِرَاط مُسْتَقِيم وَلَو حاولنا حصر مَا جراياتهم لضيقنا الأنفاس وضيعنا القرطاس

 

طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي

 

النَّخْشَبِيُّ: الإِمَامُ القُدْوَةُ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ, أبي تُرَابٍ عَسْكَرُ بنُ الحُصَيْنِ النَّخْشَبِيُّ، وَمَدِيْنَةُ نَخْشَب مِنْ نَوَاحِي بَلخ تُسَمَّى أَيْضاً نَسَف.
صَحِبَ حَاتِماً الأَصَمَّ. وَحَدَّثَ عَنْ نُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ، وَغَيْرِهِمَا.
حَدَّثَ عَنْهُ: الفَتْحُ بنُ شَخْرَف، وَرَفِيْقُهُ؛ أبي بَكْرٍ بنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَيُوْسُفُ بنُ الحُسَيْنِ الرَّازِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ الجَلاَّءِ، وَطَائِفَةٌ.
وَكَتَبَ العِلْمَ، وَتَفَقَّهَ, ثُمَّ تَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ، وَسَاحَ وَتَجَرَّدَ.
وَسُئِلَ عَنْ صِفَةِ العَارِفِ, قَالَ: الَّذِي لاَ يُكَدِّرهُ شَيْءٌ، وَيَصْفُو بِهِ كُلُّ شَيْء.
وَعَنْهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الصُّوْفِيَّ قَدْ سَافر بِلاَ رَكْوَةٍ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ.
وَعَنْهُ: ثَلاَثٌ مِنْ مَنَاقِبِ الإِيْمَانِ الاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، وَالرِّضَى بِالكَفَافِ، وَالتَّفْوِيْضُ إِلَى اللهِ.
وَثَلاَثٌ مِنْ مَنَاقِبِ الكُفْرِ: طُوْلُ الغَفْلَةِ عَنِ اللهِ، وَالطِّيَرَةُ، وَالحَسَدُ.
وَعَنْ يُوْسُفَ بنِ الحُسَيْنِ، قَالَ: كُنَّا بِمَكَّةَ، فَقَالَ أبي تراب: أحتاج إِلَى دَرَاهِمَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ صَبَّ فِي حَجْرِهِ كِيْسَ دَرَاهِم، فَجَعَلَ يُفَرِّقُهَا عَلَى مَنْ حَوْلَهُ، وَكَانَ فِيْهِم فَقِيْرٌ يَتَرَاءى لَهُ ليُعْطِيَهُ، فَنَفِذَتْ، وَلَمْ يُعْطِهِ وَبَقِيْتُ أَنَا وَهُوَ وَالشَّيْخُ، فَقَالَ لَهُ: تَرَاءيتُ لَكَ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنْتَ لاَ تَعْرِفُ المُعْطِي.
قَالَ ابْنُ الجَلاَّء: لَقِيْتُ أَلْفَي شَيْخٍ، مَا لَقِيْتُ مِثْلَ أَبِي تُرَابٍ، وَآخَر.
مَاتَ أبي تُرَابٍ: بِطَرِيْقِ الحَجِّ, انقَطَعَ، فَنَهَشَتْهُ السِّبَاعُ، فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِيْنَ ومائتين.
سير أعلام النبلاء: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن  قايماز الذهبي

 

 

عَسْكَر بن حُصَيْن أَبُو تُرَاب النخشبي.
أحد عُلَمَاء الطَّرِيقَة الْمَذْكُورين بالأحوال الرفيعة.
قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: قَالَ يُوسُف بن الْحُسَيْن: كَانَ أَبُو تُرَاب من أهل نخشب، وَكَانَ صحب حاتماً الْأَصَم إِلَى أَن مَاتَ، ثمَّ خرج إِلَى الشَّام، وَكتب الحَدِيث الْكثير، وَنظر فِي كتب الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ.
وَقَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَليّ قَالَ: سَمِعت الدقي قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد الله ابْن الْجلاء يَقُول: لقِيت سِتّ مئة شيخ، مَا رَأَيْت فيهم مثل أَرْبَعَة، أَوَّلهمْ أَبُو تُرَاب.

قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَالثَّلَاثَة الْآخرُونَ: أَبوهُ يحيى الْجلاء، وَأَبُو عبيد البسري، وَذُو النُّون الْمصْرِيّ، (رَضِي الله عَنْهُم) أَجْمَعِينَ.

-طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح-

 

عسكر بن الحصين (أو ابن محمد بن الحسين) النخشبي، أبو تراب:
شيخ عصره في الزهد والتصوف. اشتهر بكنيته حتى لا يكاد يعرف إلا بها. وهو من أهل " نخشب " من بلاد ما وراء النهر، قال المناوي: عربت فقيل لها نسف.
كتب كثيرا من الحديث. وأخذ عنه الإمام أحمد بن حنبل آخرون.
قال ابن الجلاء: لقيت سمائة شيخ، ما رأيت فيهم مثل أربعة أولهم أبو تراب.
وقف 55 وقفة بعرفة. ومات بالبادية، قيل: نهشته السباع .

-الاعلام للزركلي-


 

عَسْكَر بن الْحصين أبي تراث النخشبي الصُّوفِي قدم بَغْدَاد مَرَّات وَكَانَ يحضر مجْلِس أَحْمد قَالَ عبد الله بن الإِمَام أَحْمد جَاءَ أبي تُرَاب النخشبي إِلَى أبي فَجعل أبي يَقُول فلَان ضَعِيف فلَان ثِقَة فَقَالَ أبي تُرَاب لَا تغتاب الْعلمَاء فَالْتَفت أبي إِلَيْهِ فَقَالَ وَيحك هَذِه نصيحة لَيْسَ هَذَا غيبَة مَاتَ بالبادية سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ وَيُقَال إِنَّه نهشته السبَاع

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين.