محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر القرشي المقري أبي عبد الله

تاريخ الولادةغير معروف
تاريخ الوفاة759 هـ
مكان الولادةتلمسان - الجزائر
مكان الوفاةفاس - المغرب
أماكن الإقامة
  • تلمسان - الجزائر
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • فاس - المغرب
  • بيت المقدس - فلسطين
  • مصر - مصر

نبذة

محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقري. يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة بفاس وتلمسان. وفاته: توفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين وسبعمائة، وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله.

الترجمة

محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقري
يكنى أبا عبد الله، قاضي الجماعة بفاس وتلمسان.
أوّليّته: نقلت من خطّه، قال : وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مرارا ، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري، صاحب أبي مدين ، الذي دعا له ولذرّيته، بما ظهر فيهم من قبول وتبيّن. وهو أبي الخامس؛ فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ عروي الصلاة، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه شعور، ويقال: إن هذا الحضور، ممّا أدركه من مقامات شيخه أبي مدين. ثم اشتهرت ذريّته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهّدوا طريق الصحراء بحفر الآبار، وتأمين التّجار، واتخذوا طبل الرّحيل ، وراية التّقدم عند المسير.
وكان ولد يحيى، الذي كان أحدهم أبو بكر، خمسة رجال، فعقدوا الشّركة بينهم فيما ملكوه وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال، وكان أبو بكر ومحمد، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب بتلمسان، وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي، وهما شقيقاهم الصغيران، بأي والأتن فاتخذوا هذه الأقطار والحوايط والدّيار، فتزوجوا النساء، واستولدوا الإماء. وكان التلمساني يبعث إلى الصّحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتّبر، والسّجلماسي كلسان الميزان يعرّفهما بقدر الرّجحان والخسران ، ويكاتبهما بأحوال التّجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم، وارتفعت في الفخامة أحوالهم. ولما افتتح التّكرور كورة أي والأتن وأعمالها، أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرّجال، ونصب دون ماله القتال. ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه، ومكّنه من التجارة بجميع بلاده، وخاطبه بالصديق الأحبّ، والخلاصة الأقرب. ثم صار يكاتب من بتلمسان، يستقضي منهم مآربه، فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب، ما ينبئ عن ذلك، فلما استوثقوا من الملوك، تذلّلت لهم الأرض للسّلوك، فخرجت أموالهم عن الحدّ، وكادت تفوق الحصر والعدّ؛ لأن بلاد الصحراء، قبل أن يدخلها أهل مصر، كانت تجلب لها من المغرب ما لا بال له من السّلع، فيعاوض عنه بماله بال من الثمن . ثم قال أبو مدين:
الدنيا ضمّ جنب أبو حمو ، وشمل ثوباه. كان يقول: لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السّلع، ويأتون بالتّبر الذي كلّ أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذّهب، ويأتي إليها بما يضمحلّ عن قريب ويذهب، إلى ما يغيّر من العوائد، ويجرّ السفهاء إلى المفاسد.
ولما هلك هؤلاء الأشياخ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور السلطان ، فلم تزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمان ، فها أنا ذا لم أدرك في ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشا، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب، وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرّغت بحول الله، عزّ وجلّ، للقراءة، فاستوعبت أهل البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء، سواء المقيم القاطن، والوارد والظاعن.
حاله: هذا الرجل مشار إليه بالعدوة المغربية اجتهادا، ودؤوبا، وحفظا وعناية، واطلاعا، ونقلا ونزاهة، سليم الصدر، قريب الغور، صادق القول، مسلوب التّصنّع، كثير الهشّة، مفرط الخفّة، ظاهر السذاجة، ذاهب أقصى مذاهب التخلّق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة، مضايق في العقد والتوجّه، يكابد من تحصيل النيّة بالوجه واليدين مشقّة، ثم يغافض الوقت فيها، ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير، برجفة ينبو عنها سمع من لم يكن تأنّس بها عادة، بما هو دليل على حسن المعاملة، وإرسال السّجية، قديم النّعمة، متصل الخيريّة، مكبّ على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصّيانة والعدالة، منصف في المذاكرة، حاسر الذراع عند المباحثة، راحب عن الصّدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن، ولا ضانّ بالفائدة، كثير الالتفاف، متقلّب الحدقة، جهير بالحجّة، بعيد عن المراء والمباهتة، قائل بفضل أولي الفضل من الطّلبة، يقوم أتمّ القيام على العربيّة والفقه والتفسير، ويحفظ الحديث، ويتهجّر بحفظ الأخبار والتاريخ والآداب، ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر مصيبا في ذلك غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة الصّوفية كلام أرباب المقال، ويعتني بالتّدوين فيها. شرّق وحجّ، ولقي جلّة، واضطبن رحلة مفيدة، ثم آب إلى بلده، فأقرأ به، وانقطع إلى خدمة العلم. فلما ولي ملك المغرب السلطان، محالف الصّنع ونشيدة الملك، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير المسلمين أبو عنان فارس ، اجتذبه وخلطه بنفسه، واشتمل عليه، وولّاه قضاء الجماعة بمدينة فاس، فاستقلّ بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحكم ، وألان الكلمة، وآثر التّسديد، وحمل الكلّ ، وخفض الجناح، فحسنت عنه القالة ، وأحبّته الخاصّة والعامة.
حضرت بعض مجالسه للحكم، فرأيت من صبره على اللّدد ، وتأتّيه للحجج ورفقه بالخصوم، ما قضيت منه العجب.
دخوله غرناطة: ثم لمّا أخّر عن القضاء، استعمل بعد لأي في الرّسالة، فوصل الأندلس، أوائل جمادى الثانية من عام ستة وخمسين وسبعمائة. فلما قضى غرض الرسالة ، وأبرم عقد وجهته، واحتلّ مالقة في منصرفه، بدا له في نبذ الكلفة، واطّراح وظيفة الخدمة، وحلّ التّقيّد، إلى ملازمة الإمرة، فتقاعد، وشهر غرضه، وبتّ في الانتقال، طمع من كان صحبته، وأقبل على شأنه، فخلّي بينه وبين همّه. وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربّه. وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة، والعدول عنها، بقصد التّخلّي والعبادة، وأنكر ما نحله غاية الإنكار، من إبطال عمل الرسالة، والانقباض قبل الخروج عن العهدة، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد حمله على الظّنّة والمواطأة على النّفرة، وتجهّزت جملة من الخدّام المجلّين في مآزق الشّبهة، المضطلعين بإقامة الحجة، مولين خطّة الملام، مخيّرين بين سحائب عاد من الإسلام، مظنّة إغلاق النعمة ، وإيقاع المثلة ، والإساءة بسبب القطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمّم بمسجدها، وجأر بالانقطاع إلى الله، وتوعّد من يجيره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه، فأهمّ أمره، وشغلت القلوب آبدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضت له رفع التّبعة، وتركه إلى تلك الوجهة.
ولمّا تحصّل ما تيسّر من ذلك، انصرف محفوفا بعالمي القطر، قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المترجم به قبله، والشيخ الخطيب أبي البركات بن الحاج، مستهلين لوروده، مشافهين للشفاعة في غرضه، فأقشعت الغمّة، وتنفّست الكربة. وجرى أثناء هذا من المراسلة والمراجعة، ما تضمّنه الكتاب المسمّى ب «كناسة الدّكان بعد انتقال السّكان» المجموع بسلا ما صورته:
«المقام الذي يحبّ الشّفاعة، ويرعى الوسيلة، وينجز العدّة، ويتمّم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيى حمده الممادح العريضة الطويلة، مقام محلّ والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصحّ في الله تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده، وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطّبع الكريم إذا دعاها، معظّم سلطانه الكبير، وممجّد مقامه الشهير، المتشيّع لأبوّته الرفيعة قولا باللّسان واعتقادا بالضمير، المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والوليّ النّصير. فلان . سلام كريم، طيب برّ عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأبوّتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الخلق الحميدة دليلا على عنايته بمن حلّاه حلاها، وميّز بها النفوس النفيسة، التي اختصّها بكرامته وتولّاها، حمدا يكون كفوا للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، المترقّي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها، والرضا عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لمّا ابتلاها، وعسل ذكرهم في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها، والدعاء لمقام أبوّتكم حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول الفتح: أنا طلّاع الثّنايا وابن جلاها ، والصّنائع التي تخترق المفاوز بركائبها المبشّرات فتفلي فلاها. فإنّا كتبنا إليكم، كتب الله تعالى لكم عزّة مشيّدة البناء، وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلّدكم قلائد مكارم الأخلاق، ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء. من حمراء غرناطة حرسها الله، والودّ باهر السّناء ، مجدّ على الأناء، والتشيّع رحب الدّسيعة والفناء.
وإلى هذا، وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم! فإننا خاطبنا مقامكم الكريم، في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري، خار الله تعالى لنا وله، وبلّغ الجميع من فضله العميم أمله، جوابا عمّا صدر من مثابتكم فيه من الإشارة المتمثّلة ، والمآرب المعملة، والقضايا غير المهملة، نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يردّ، وظمآها عن منهل قبولكم لا تجلى ولا تصدّ، حسبما سنّه الأب الكريم والجدّ، والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحدّ. ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيّلة، وتبلّج صبح الزّهادة والفضيلة، وجود النفس الشّحيحة بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخلّيه عن هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد، ومداومة الاستغفار.
وكنّا لما تعرّفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجرى عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا: أما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله، ففرّ من مالقة على ما تعرّفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدّة لسكنى المتّسمين بالخير، والمحترفين ببضاعة الطّلب، بحيث لم يتعرّف وروده ووصوله إلّا ممّن لا يؤبه بتعريفه، ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلّة تصريفه. ثم تلاحق إرسالكم الجلّة. فوجبت حينئذ الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما تحققناه من أمره، وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولّى وجهه شطرها فقد آثر أثيرا، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلا كبيرا وخيرا كثيرا، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همّه. فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدّنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظّه الباقي وقسمه، ويتوسّل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعوّل البريء على فضله، ويثق المذنب بحلمه. فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان، وهو أرب من آراب ، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم بما ضمّنا عنه وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضا منه من صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طيّة الإسعاف في الطريق إن قصد، إذ كان الأمان لمثله ممن تعلّق بجناب الله من مثلكم حاصلا، والدّين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلا، وطالب كيمياء السّعادة بإعانتكم واصلا. ولما مدّت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبدا يحرّض، وعلمكم يصرّح بمزيتها ولا يعرّض، فكمّلوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصحّ حديث في الباب، ووفّوا غرضنا من مجدكم، وخلّوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب وقابل التّوب بإخلاص المتاب، والتّشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية الجناب، الذي تعلّق به، أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم عير مكملة الآراب. وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب، ويقتضي خلاصها بالرّغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان. ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الرّكاب، بسبق أعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفّر الثناء الجميل، ويربي على التّأميل، ويكتب على الودّ الصريح العقد وثيقة التّسجيل. وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرّفد الجزيل. والسلام الكريم يخصّ مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، والله ينفع بقصده، وييسر علينا الرجعة إلى وجهه وفضله .
مشيخته: قال : فممّن أخذت عنه، واستفدت منه علماها، يعني تلمسان، الشامخان، وعالماها الراسخان: أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى، ابنا محمد بن عبد الله بن الإمام ، وحافظها ومدرّسها ومفتيها أبو موسى عمران بن موسى بن يوسف المشذالي ، صهر شيخ المتأخرين أبي علي ناصر الدين على ابنته، ومشكاة الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكيم الكناني السّلوى، رحمه الله. ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور ، والشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن البرّوني، وأبو عمران موسى بومن المصمودي الشهير بالبخاري. قال: سمعت البرّوني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرّس البخاري ، ورفيق له يدرّس صحيح مسلم، وكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاض، فطلب المشهود عليه بالإعذار فيهما، فقال له أبو عمران: أتمكّنه من الإعذار في الصّحيحين البخاري ومسلم؟ فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين. ثم قال: ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها، خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط، أدرك أبا إسحاق الطيّار. ومنهم أبو عبد الله بن محمد الكرموني، وكان بصيرا بتفسير الرّؤيا، فمن عجائب شأنه، أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن عبد الحق مع من كان فيه، من أهل تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبا جمعة علي التّلالسي الجرايحي منهم، كأنه قائم على ساقية دائرة، وجميع أقداحها وأقواسها تصب في نقير في وسطها، فجاء ليشرب، فاغترف الماء، فإذا فيه فرث ودم، فأرسله، واغترف فإذا هو كذلك، ثلاثا أو أكثر، ثم عدل إلى خاصّة ماء، فجاءها وشرب منها. ثم استيقظ، وهو النهار، فأخبره، فقال: إن صدقت الرؤيا، فنحن عن قليل خارجون من هذا السجن. قال: كيف؟ قال: الساقية الزمان، والنّقير السلطان، وأنت جرايحي، تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدّم، وهذا ما لا يحتاج معه إلى دليل، فأخرج، فوجد السلطان مطعونا بخنجر، فأدخل يده في جوفه، فناله الفرث والدّم، فخاط جراحته وخرج، فرأى خاصّة ماء، فغسل يده وشرب. ولم يلبث السلطان أن توفي، وسرّحوا من كان في سجنه. ومن أشياخه الإمام نسيج وحده، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد الآبلي التلمساني، وهو رحلة الوقت في القيام على الفنون العقلية، وإدراكه وصحّة نظره.
حدّث قال: قدم على مدينة فاس، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، عرف بابن المسفّر، رسولا من صاحب بجاية. وزاره الطلبة، فكان مما حدّثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين، يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتب فخر الدين، واستشكله الشيخ معهم. وهذا نصه: ثبت في بعض العلوم العقلية، أن المركّب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركّب في الفصل، وأن الجنس أقوى من الفصل، فأخبروا بذلك الشيخ الآبلي لما رجعوا إليه، فتأمله ثم قال: هذا كلام مصحّف، وأصله أن المركّب قبل البسيط في الحسّ، والبسيط قبل المركّب في العقل، وأن الحسّ أقوى من العقل، فأخبروا ابن المسفّر، فلجّ، فقال لهم الشيخ: التمسوا النسخ، فوجدوا في لفظ بعضها كما قال الشيخ.
رحلته: رحل إلى بجاية مشرّقا، فلقي بها جلّة، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، ابن المسفّر . ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزّواوي، فقيه ابن فقيه. ومنهم أبو علي حسن بن حسن إمام المعقولات بعد ناصر الدين. وبتونس قاضي الجماعة وفقيهها أبو عبد الله بن عبد السلام ، وحضر دروسه، وقاضي المناكح أبو محمد اللخمي ، وهو حافظ فقهائها في وقته، والفقيه أبو عبد الله بن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول. ثم حجّ فلقي بمكة إمام الوقت أبا عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن التّوزري، المعروف بخليل، وإمام المقام أبا العباس رضيّ الدين الشافعي، وغير واحد من الزّائرين والمجاورين وأهل البلد. ثم دخل الشام، فلقي بدمشق شمس الدين بن قيّم الجوزية، صاحب ابن تيميّة، وصدر الدين الغماري المالكي، وأبا القاسم بن محمد اليماني الشافعي وغيرهم. وببيت القدس أبا عبد الله بن مثبت، والقاضي شمس الدين بن سالم، والفقيه أبا عبد الله بن عثمان، وغيرهم.
تصانيفه: ألّف كتابا يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية، ضمّنها كل أصيل من الرأي والمباحثة. ودوّن في التّصوّف إقامة المريد، ورحلة المتبتّل، وكتاب الحقائق والرّقائق، وغير ذلك.
شعره: نقلت من ذلك قوله: هذه لمحة العارض لتكملة ألفيّة ابن الفارض، سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت على ردّها بحول الله المعين.
من فصل الإقبال : [الطويل]
رفضت السّوى وهو الطّهارة عندما ... تلفّعت في مرط الهوى وهو زينتي
وجئت الحمى وهو المصلّى ميمّما ... بوجهة قلبي وجهها وهو قبلتي
وقمت وما استفتحت إلّا بذكرها ... وأحرمت إحراما لغير تجلّة
فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ... سجود وإن لاهت قيام بحسرة
على أننا في القرب والبعد واحد ... تؤلّفنا بالوصل عين التّشتّت
وكم من هجير خضت ظمآن طاويا ... إليها وديجور طويت برحلة
وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ... بزرقة أسنان الرّماح وحدّة
وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسّيك أيام الفجار ومؤتة
ولمّا اقتسمنا خطّتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برّة
خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضيّة
وكم لي على حكم الهوى من تجلّد ... دليل على أنّ الهوى من سجيّتي
يقول سميري والأسا سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إلّا لمحنة
لو أنّ مجوسا بتّ موقد نارها ... لما ظلّ إلّا منهلا ذا شريعة
ولو كنت بحرا لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرّت
فلا ردم من نقب المعاول آمن ... ولا هدم إلّا منك شيد بقوّة
فممّ تقول الأسطقسّات منك أو ... علام مزاج ركّبت أو طبيعة
فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلّا فأنت الدّهر صاحب قعدة
فما أنت يا هذا الهوى؟ ماء أو هوا ... أم النار أم دسّاس عرق الأمومة؟
وإني على صبري كما أنت واصف ... وحالي أقوى القائمين بحجّة
أقلّ الضّنى أن عجّ من جسمي الضّنى ... وما شاكه معشار بعض شكيّتي
وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلّا احترقت بلوعة
وأخفي الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي وأخفى الوجد صبر المودّة
وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحبّ أقلّي ذكرها وفضيحتي
وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالأمس وسل حرّ الجفون الغزيرة
وأوجز أمري أنّ دهري كلّه ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة
أروح وما يلقى التأسّف راحتي ... وأغدو ما يعدو التفجّع خطّتي
وكالبيض بيض الدهر والسّمر سوده ... مساءتها في طيّ طيب المسرّة
وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحبّ رؤيتي
سقام بلا برء، ضلال بلا هدى ... أوام بلا ريّ، دم لا بقيمة
ولا عتب فالأيام ليس لها رضا ... وإن ترض منها الصّبر فهو تعنّتي
ألا أيها اللّوّام عني قوّضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي
ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلّوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي
فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنّت
تجلّى وأرجاء الرّجاء حوالك ... ورشدي غاو والعمايات عمّت
فلم يستبن حتى كأني كاسف ... وراجعت إبصاري له وبصيرتي
ومن فصل الاتصال : [الطويل]
وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الرّدى بين الظّبا والأسنّة
فجاوزت في حدّي مجاهدتي له ... مشاهدتي لمّا سمت بي همّتي
وحلّ جمالي في الجلال فلا أرى ... سوى صورة التّنزيه في كلّ صورة
وغبت عن الأغيار في تيه حالتي ... فلم أنتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي
وكاتبت ناسوتي بأمّارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنّة
وعلم يقيني صار عينا حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي
وبدّلت بالتّلوين تمكين عزّة ... ومن كلّ أحوالي مقامات رفعة
وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبّتي
وكم جلت في سمّ الخياط وضاق بي ... لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة
وما اخترت إلّا دنّ بقراط زاهدا ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة
وفقري مع الصّبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي
وأكتم حبّي ما كنى عنه أهله ... وأكني إذا هم صرّحوا بالخبيّة
وإنّي في جنسي ومنه لواحد ... كنوع، ففصل النوع علّة حصّتي
تسبّبت في دعوى التوكّل ذاهبا ... إلى أنّ أجدى حيلتي ترك حيلتي
وآخر حرف صار مني أولا ... مريدا وحرف في مقام العبودة
تعرّفت يوم الوقف منزل قومها ... فبتّ بجمع سدّ خرق التّشتّت
فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعيّة
فبايعتها بالنفس دارا سكنتها ... وبالقلب منه منزلا فيه حلّت
فخلّص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة
فيا نفس لا ترجع تقطّع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة
ومن فصل الإدلال : [الطويل]
تبدّت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤداي من سناها بلفحة
ومرّت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدّت لها فيك القران وقرّت
ملامي أبن، عذري استبن، وجدي استعن ... سماعي أعن، حالي أبن، قائلي اصمت
فمن شاهدي سخط ومن قاتلي رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي
مرامي إشارات، مراعي تفكّر ... مراقي نهايات، مراسي تثبّت
وفي موقفي والدّار أقوت رسومها ... تقرّب أشواقي تبعّد حسرتي
معاني أمارات، مغاني تذكّر ... مباني بدايات، مثاني تلفّت
وبثّ غرام، والحبيب بحضرة ... وردّ سلام والرقيب بغفلة
ومطلع بدر في قضيب على نقا ... فويق محلّ عاطل دون دجية
ومكمن سحر بابليّ له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السّمهريّة
ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غضّ بجنّة وجنّة
ورصف اللآلي في اليواقيت كلّما ... تعلّ بصرف الرّاح في كل سحرة
سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة
ورمّان كافور عليه طوابع ... من الندّ لم تحمل به بنت مزنة
ولطف هواء بين خفق وبانة ... ورقّة ماء في قوارير فضّة
لقد عزّ الصّبر حتى كأنّه ... سراقة لحظ منك للمتلفّت
وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة
وكلّ فصيح منك يسري لمسمعي ... وكلّ مليح منك يبدو لمقلتي
تهون عليّ النّفس فيك وإنها ... لتكرم أن تغشى سواك بنظرة
فإن تنظريني بالرّضا تشف علّتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلّتي
وإن تذكريني والحياة بقيدها ... عدلت لأمتي منيتي بمنيّتي
وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ... تجلّت دجاه عند ذاك وولّت
صليني وإلّا جدّدي الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلّت
فما أمّ بوّ هالك بتنوفة ... أقيم لها خلف الحلاب فدرّت
فلمّا رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنّت
بكت كلّما راحت عليه وإنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنّت
بأكثر منّي لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصّبر أحسن حلية
فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنّت
أهوّن ما ألقاه إلّا من القلى ... هوى ونوى نيل الرّضا منك بغيتي
أخوض الصّلى أطفي العلا والعلوّ لا ... أصلّ السّلا أرعى الخلى بين عبرتي
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة
وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت
فغنّت غناء أعجميّا فهيّجت ... غرامي من ذكرى عهود تولّت
فأرسلت الأجفان سحبا وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنّت
نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي فصلّى وصلّت
فيا لهما قلبا شجيّا ونظرة ... حجازيّة لو جنّ طرف لجنّت
ووا عجبا للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف سترة
وللعين لمّا سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطّنت كيف دلّت
وكنّا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامي بأعلام العلا كلّ رتبة
إلى مستوى ما فوقه فيه مستوى ... فلمّا توافينا ثبثّ وزلّت
وكنّا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدى قبر شيبة
مؤكدة بالنّذر أيام عهده ... فلمّا تواثقنا اشتددت وحلّت
ومن فصل الاحتفال : [الطويل]
أزور اعتمارا أرضها بتنسّك ... وأقصد حجّا بيتها بتحلّة
وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كلّ فطرة
ولولا خفاء الرّمز لا ولن ولم ... تجدها لشملي مسلكا بتشتّت
ولو لم يجدّد عهدنا عقد خلّة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة
بعثت إلى قلبي بشيرا بما رأت ... على قدم عيناي منه فكفّت
فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشّام من نور الصفات الكريمة
فيالك من نور لو أنّ التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النّفيسة
تحدّث أنفاس الصّبا أن طيبها ... بما حملته من حراقة حرقة
وتنبىء آصال الربيع عن الرّبا ... وأشجاره إن قد تجلّت فجلّت
وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنّت بترجيعي على كلّ أيكة
فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قرّبتني بخلّة
تبدّى وما زال الحجاب ولا دنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي
له كلّ غير في تجلّيه مظهر ... ولا غير إلّا ما محت كفّ غيرة
تجلّي دليل واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان ومحو تثبّت
فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو الشيء لم تحمد فجار أليّتي
وفي كل خلق منه كلّ عجيبة ... وفي كلّ خلق منه كل لطيفة
وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة
أراه بقلب القلب واللّغز كامنا ... وفي الزّجر والفال الصحيح الأدلة
وفي طيّ أوفاق الحساب وسرّ ما ... يتمّ من الأعداد فابدأ بستّة
وفي نفثات السّحر في العقد التي ... تطوع لها كلّ الطّباع الأبيّة
يصوّر شكلا مثل شكل ويعتلي ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة
وفي كلّ تصحيف وعضو بذاته ... اختلاج وفي التّقويم مجلى لرؤية
وفي خضرة الكمّون تزجي شرابه ... مواعيد عرقوب على إثر صفرة
وفي شجر قد خوّفت قطع أصلها ... فبان بها حمل لأقرب مدّة
وفي النّخل في تلقيحه واعتبر بما ... أتى فيه عن غير البريّة واسكت
وفي الطابع السّبتي في الأحرف التي ... يبيّن منها النّظم كلّ خفية
وفي صنعة الطّلسم والكيمياء وال ... كنوز وتغوير المياه المعينة
وفي حرز أقسام المؤدّب محرز ... وحزب أصيل الشّاذليّ وبكرة
وفي سيمياء الحاتميّ ومذهب اب ... ن سبعين إذ يعزى إلى شرّ بدعة
وفي المثل الأولى وفي النّحل الألى ... بها أوهموا لمّا تساموا بسنّة
وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلّا ناطقا بعجيبة
فلا سرّ إلّا وهو فيه سريرة ... ولا جهر إلّا وهو فيه كحلية
سل الذّكر عن أنصاف أصناف ما ابتنى ... عليه الكلام من حروف سليمة
وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدّها وتثبّت
فلا بدّ من رمز الكنوز لذي الحجا ... ولا ظلم إلّا ظلم صاحب حكمة
ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مسّ البرد خوفي لميتتي
ولو لم تداركني ولكن بعطفها ... درجت رجائي أن نعتني خيبتي
ولو لم تؤانسني عنّا قبل لم ولم ... قضى العتب منّي بغية بعد وحشتي
ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هوّنت بالصبر كلّ بليّة
ومن فصل الاعتقال : [الطويل]
سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة
وذلك لما أطلع الشمس في الدّجى ... محيّا ابنة الحيّين في خير ليلة
يمانيّة لو أنجدت حين أنجدت ... لما أبصرت عيناك حيّا كميّت
لأصحمة في نصحها قدم بنى ... لكلّ نجاشيّ بها حصن ذمّة
ألمّت فحطّت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التّوديع حتى استقلّت
فلو سمحت لي بالتفات وحلّ من ... مهاوي الهوى والهون جدّ تفلّتي
ولكنها همّت بنا فتذكّرت ... قضاء قضاة الحسن قدما فصدّت
أجلت خيالا إنني لا أجلّه ... ولم أنتسب منه لغير تعلّة
على أنني كلّي وبعضي حقيقة ... وباطل أوصافي وحقّ حقيقتي
وجنسي وفصلي والعوارض كلّها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي
وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيّتي القدسيّة
وفي كلّ لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معنى منه معنى للوعتي
ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمري والورى تحت قبضتي
ووقتي شهود في فناء شهدته ... ولا وقت لي إلّا مشاهد غيبة
أراه معي حسّا ووهما وإنه ... مناط الثّريّا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقّن سمعي ما توسوس مهجتي
ملأت بأنوار المحبّة باطني ... كأنّك نور في سرار سريرتي
وجلّيت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنّك في أفقي كواكب زينة
فأنت الذي أخفيه عند تستّري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي
فته أحتمل، واقطع أصل واعل استفل ... ومر أمتثل واملل أمل، وارم أثبت
فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكنة
ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إلّا إليك بمنّة
تعلّقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة
وحامت حواليها وما وافقت حمى ... سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي
فلو فاتني منك الرّضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة
ولو كنت في أهل اليمين منعّما ... بكيت على ما كان من سبقيّة
وكم من مقام قمت عنك مسائلا ... أرى كلّ حيّ كلّ حيّ وميّت
أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علما يبرّد غلّتي
ولم يدر قولي ابن سيناء سائلا ... فقل كيف أرجو عنده برء علّتي
فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيّتي؟
لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعي بينهم طول مدّتي
فقيّض لي نهجا إلى الحقّ سالكا ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي
فحصّنت أنظار الجنيد جنيدها ... بترك فلي من رغبة ريح رهبة
وكسّرت عن رجل ابن أدهم أدهما ... وأنقذته من أسر حبّ الأسرة
وعدت على حلّاج شكري بصلبه ... وألقيت بلعام التّفاتي بهوّة
فقولي مشكور ورأيي ناجح ... وفعلي محمود بكلّ محلّة
رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرّضا فيه جلّتي
فعشت ولا ضيرا أخاف ولا قلى ... وصرت حبيبا في ديار أحبّتي
فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلّغ نفسي منهم ما تمنّت
وأنشدني قوله في حال قبض وقيّدتها عنه : [الطويل]
إليك بسطت الكفّ أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطّرف أستشعر الذّلّا
وها أنا ذا قد قمت يقدمني الرّجا ... ويحجمني الخوف الذي خامر العقلا
أقدّم رجلا إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرّجلا
ولي عثرات لست آمل أن هوت ... بنفسي ألّا أستقل وأن أصلى
فإن تدرّكني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى
قال، ومما نظمته من الشعر : [مجزوء الكامل]
وجد تسعّره الضلو ... ع وما تبرّده المدامع
همّ تحرّكه الصّبا ... بة والمهابة لا تطاوع
أملي إذا وصل الرّجا ... أسبابه فالموت قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشّاق صانع؟
قال: ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء : [الرمل]
نحن، إن تسأل بناس، معشر ... أهل ماء فجّرته الهمم
عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السّمر الطوال الخيم
عرّضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم
أورثونا المجد حتى إننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم
ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوي إذا ما اقتحموا
قال: ومما قلته مذيّلا به قول القاضي أبي بكر بن العربي : [مجزوء الوافر]
أما والمسجد الأقصى ... وما يتلى به نصّا
لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا
قولي: [مجزوء الوافر]
فأقلع بي إليه هوى ... جناحا عزمه قصّا
أقلّ القلب واستعدى ... على الجثمان فاستعصى
فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى
قال: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدوّنة : [البسيط]
لا تعجبنّ لظبي قد دها أسدا ... فقد دها أسدا من قبل سحنون
قال: ومما قلته من الشعر : [البسيط]
أنبتّ عودا بنعماء بدأت بها ... فضلا وألبستها بعد اللّحى الورقا
فظلّ مستشعرا مستدثرا أرجا ... ريّان ذا بهجة يستوقف الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ... عوّدته من جميل من لدن خلقا
وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ... وغذّه برجاء واسقه غدقا
واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقا
ومما قيّدت عنه أيام مجالسته ومقامه بغرناطة، وقد أجرى ذكر أبي زيد ابن الإمام، أنه شهد مجلسا بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمّو، ذكر فيه أبو زيد المذكور، أن ابن القاسم مقيد بالنظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشذالي ، وادّعى أنه مطلق الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه أو يبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من ذلك بنظائر كثيرة. قال: فلو تقيّد بمذهبه لم يخالفه لغيره، فاستظهر أبو زيد بنصّ لشرف الدين بن التلمساني، ومثّل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك، والمزني إلى الشافعي. فقال أبو موسى عمران : هذا مثال، والمثال لا يلزم صحّته، فصاح به أبو زيد ابن الإمام وقال لأبي عبد الله بن أبي عمر : تكلّم، فقال: لا أعرف ما قال هذا الفقيه، والذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثّل به، فقال أبو موسى للسلطان: هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما يومئذ، وأنا حديث السن: ما أنصفهما الرّجل، فإن المثل كما يؤخذ على جهة التحقيق، كذلك يؤخذ على جهة التقريب، ومن ثمّ جاء ما قال هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمران ، وكيف لا وهذا سيبويه يقول: وهذا مثال ولا يتكلّم به، فإذا صحّ أن المثال قد يكون تقريبا، فلا يلزم صحة المثال، ولا فساد الممثّل لفساده، فهذان القولان من أصل واحد.
وقال: شهدت مجلسا آخر عند هذا السلطان، قرىء فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله» ، من صحيح مسلم، فقال له الأستاذ أبو إسحاق بن حكم السّلوي: هذا الملقّن محتضر حقيقة، ميّت مجازا، فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة؟ فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه. وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض «التنقيح» ، فقلت: زعم القرافي أن المشتقّ إنما يكون حقيقة في الحال، مجازا في الاستقبال، مختلفا فيه في الماضي، إذا كان محكوما به.
وأمّا إذا كان متعلّق الحكم كما هنا، فهو حقيقة مطلقا إجماعا، وعلى هذا التقرير لا مجاز ولا سؤال. ولا يقال: إنه احتجّ على ذلك بما فيه نظر؛ لأنّا نقول: إنه نقل الإجماع، وهو أحد الأربعة التي لا يطالب عنها بالدليل، كما ذكر أيضا. بل نقول: إنه أساء حيث احتجّ في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطّهارة ونحوها. بل هذا أشنع، لكونه مما علم كونه من الدّين ضرورة . ثم إنّا لو سلّمنا نفي الإجماع، فلنا أن نقول: إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة؛ لأنّ تلقينه قبل ذلك، إن لم يدهش، فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين: أي لقّنوا من تحكمون بأنه ميت. أو يقال : إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام، ألا ترى اختلافهم فيه: هل هو أخذ من حضور الملائكة أو حضور الأجل، أو حضور الجلّاس؟ ولا شك أن هذه حالة خفيّة يحتاج في نصها إلى دليل الحكمة أو إلى وصف ظاهر يضبطها، وهو ما ذكرناه، أو من حضور الموت، وهو أيضا ممّا لا يعرّف بنفسه، بل بالعلامات. فلمّا وجب اعتبارها، وجب كون تلك التسمية إشارة إليها، والله أعلم.
وقال: وكان أبو زيد يقول، فيما جاء من الأحاديث: ما معنى قول ابن أبي زيد: «وإذا سلّم الإمام، فلا يلبث بعد سلامه ولينصرف» ، وذلك بعد أن ينتظر من يسلّم من خلفه لئلّا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع المسبوق جمعا بين الأدلة.
وقلت : وهذا من ملح الفقيه. وقال: كان أبو زيد يعني الإمام، يصحّف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها، فيقول: و «المفارقات» ، ولعلّه في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لمّا قرأ عليه: [مجزوء الكامل]
وغررتني وزعمت أنك ... لابن في الصّيف تامر
فقال: [مجزوء الكامل]
وغررتني وزعمت أنك ... لا تني بالضّيف تامر
فقال: أنت في تصحيفك أشهر من الحطيئة، أو كما يحكى عن الشافعي أنه لما صلّى في رمضان بالخليفة، لم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في المصحف، وقرأ الآية «صنعة الله أصيب بها من أساء. إنما المشركون نحس. وعدها إياه ، تقية لكم خير لكم. هذا أن دعوا للرحمن ولدا، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» .
وقال : وذكر أبو زيد ابن الإمام في مجلسه يوما أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشريطتين : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ، فإنهما يستلزمان بحكم الإنتاج «ولو علم الله فيهم خيرا لتولّوا وهم معرضون» وهو محال. ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم: قال الخونجي: والإهمال بإطلاق لفظه، لو وأن في المتّصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزئية، ولا قياس على جزئيّتين. فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين، أخبرته بهذا، وبما أجاب به الزّمخشري وغيره، ممّا يرجع إلى انتفاء أمر تكرار الوسط. فقال لي: الجوابان في المعنى سواء؛ لأن القياس على الجزئيّتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرار الوسط. وأخبرت بذلك شيخنا أبا عبد الله الآبلي، فقال: إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين، إلى سائر ما يشترط، فقلت: ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلا لمجمل ما ينبني عليه الوسط وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن حسين. قال الآبلي: وأجبت بجواب السّلوي، ثم رجعت إلى ما قاله الناس، لوجوب كون مهملات القرآن كلّية؛ لأن الشّرطية لا تنتج جزئيّة. فقلت: هذا فيما يساق منها للحجة مثل لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا
. أما في مثل هذا فلا قلت . وكان يلزم السؤال الأول لو لم يكن للمتولي سبب تأخر، حسبما تبين في مسألة، لو لم يطع الله، فلينظر ذلك في اسم شيخنا أبي بكر يحيى بن هذيل رحمه الله.
وقال : لما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن بن فرحون، نزيل طيبة، على تربتها السلام، سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين: [الوافر]
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلنا بالرّقمتين
كلانا ناظر قمرا ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
ففكّر ثم قال: لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لفرط الاستحسان يرى أنها الحقيقة. فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة. وأيضا وهو ينظر إلى قمر مجازا، وهو لإفراطه استحسانها يرى أنّ قمر السماء هو المجاز، فقد رأت بعينه؛ لأنها ناظرة المجاز.
قلت: ومن هذا يعلم وجه الفاء في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
والفاء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني، فتأمّله، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ كل الفهم، ينشده: «وأذكرتني» . فالفاء في البيت الأول، منبّهة على الثاني، وهذا النحو يسمى «الإيذان في علم البيان» .
وقال: سألني ابن حكم عن نسب هذا المجيب في هذا البيت: [الكامل]
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحبّ حرام
ففكرت ثم قلت له : أراه تميميا؛ لإلغائه «ما» النافية. فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. وسأل ابن فرحون ابن حكم يوما : هل تجد في التّنزيل ستّ فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت: [البسيط]
رأى فحبّ فرام الوصل فامتنعت ... فسام صبرا فأعيا نيله فقضى
ففكر ابن حكم، ثم قال: نعم قوله عزّ وجلّ: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا
إلى آخرها، فمنعت له البناء في فَتَنادَوْا.
فقال لابن فرحون: فهل عندك غيره؟ فقال: نعم، قوله عزّ وجلّ: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها
(13) إلى آخرها، فمنع لهم بناء الآخرة لقراءة الواو. فقلت له: امنع ولا تسند، فيقال : إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف، وإن كان السّند لا يسمع الكلام عليه. وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ
. وكقول امرئ القيس: «غشيت ديار الحيّ بالبكرات، البيتين » . لا يقال قوله: فالحبّ سابع؛ لأنا نقول إنه عطف على «عاقل» المجرّد منها، ولعلّ حكمة السّتة أنها أول الأعداد التامة، كما قيل في حكمة خلق السماوات والأرض فيها، وشأن اللسان عجيب.
وقال : سمعت ابن حكم يقول: كتب بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
[المجتث]
ابعث إليّ بشيء ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... ممّا أشير إليه
فبعث إليه ببطّة من مرّي شرب، يشير بذلك إلى الرّياء.
وحدّثت أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم دعي إلى وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس بن الأشقر غضارا من اللّوز المطبوخ بالمرّي، لمناسبة لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرّض له بالرياء. وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فقدّم له القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون فطنته.
وقال عند ذكر شيخه أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد المجاصي: دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السّطي في أيام عيد، فقدّم لنا طعاما، فقلت: لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث «من أكل مع مغفور له، غفر له» فتبسّم، وقال لي: دخلت على سيدي أبي عبد الله الفاسي بالإسكندرية، فقدّم لنا طعاما، فسألته عن هذا الحديث فقال: وقع في نفسي شيء، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عنه، فقال : لم أقله، وأرجو أن يكون كذلك. وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان، بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي، بمصافحته أبا العباس أحمد الملثّم، بمصافحته المعمّر، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدّث عن شيخه أبي محمد الدّلاصي، أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد، فكان يخصّه لدينه وعقله، بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه: يا ساقي، يا طبّاخ، يا مزين. فناداه ذات يوم: يا فرّاش، فظنّ أن ذلك لموجدة عليه. فلم ير أثر ذلك، وتصوّرت له به خلوة، فسأله عن مخالفته لعادته ، فقال له: لا عليك، كنت يومئذ جنبا، فكرهت أن أذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تلك الحالة. وقال: أنشدني المجاصي، قال: أنشدني الإمام نجم الدين الواسطي، قال: أنشدني شرف الدين الدمياطي، قال: أنشدني تاج الدين الآمدي ، مؤلف «الحاصل» ، قال: أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه:
[الطويل]
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال
وقال : وقد مرّ من ذكر الشريف القاضي أبي علي حسين بن يوسف بن يحيى الحسني في عداد شيوخه وقال: حدّثني أبو العباس الرّندي عن القاضي أبي العباس بن الغمّاز ، قال: لمّا قدم القاضي أبو العباس بن الغماز من بلنسية، نزل بجاية؛ فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع ، فجاء عبد الحق يوما، وعليه برنس أبيض، وقد حسنت شارته، وكملت هيئته، فلمّا نظر إليه ابن الغماز أنشده:
[الخفيف]
لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها
لو زليخا رأته حين تبدّى ... لتمنّته أن يكون فتاها
وقال أيضا: إن ابن الغمّاز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزّيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلّوه . وجاء حفيد له صغير، فأخبره أنه أهلّه، فردّهم معه، فأراهم إياه، فقال: ما أشبه الليلة بالبارحة. وقد وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع بن سالم ، فأنشدنا فيه: [الطويل]
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محيّاه
فلمّا تصدّى لارتقاب شقيقه ... تبدّى له دون الأنام فحيّاه
وجرى في ذكر أبي عبد الله بن النجار ، الشيخ التعالمي من أهل تلمسان، فقال : ذكرت يوما قول ابن الحاجب فيما يحرّم من النساء بالقرابة، وهي «أصول وفصول، أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا» ، فقال: إن تركّب لفظ التّسمية العرفية من الطّرفين حلّت، وإلّا حرمت، فتأمّلته، فوجدته كما قال: لأن أقسام هذا الضابط أربعة: التّركيب من الطرفين، كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت، والتركيب من قبل الرجل كابنة الأخ والعمّ مقابله كابن الأخت والخالة.
وذكر الشيخ الرئيس أبا محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي. وقال :
كان ينكر إضافة الحول إلى الله عزّ وجلّ، فلا يجيز أن يقال: «بحول الله وقوّته» ، قال: لأنه لم يرد إطلاقه ، والمعنى يقتضي امتناعه؛ لأنّ الحول كالحيلة، أو قريب منها.
وحكى عن شيخه أبي زيد عبد الرحمن الصّنهاجي ، عن القاضي أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدّكالي، أنه اختصم عنده رجلان في شاة، ادّعى أحدهما أنه أودعها الآخر، وادّعى الآخر أنها ضاعت منه، فأوجب اليمين على المودع أنها ضاعت من غير تضييع، فقال: كيف أضيّع، وقد شغلتني حراستها عن الصلاة، حتى خرج وقتها؟ فحكم عليه بالغرم، فقيل له في ذلك، فقال: تأوّلت قول عمر: و «من ضيّعها فهو لما سواها أضيع» .
وحكى عن الشيخ الفقيه رحلة الوقت أبي عبد الله الآبلي، حكاية في باب الضّرب، وقوة الإدراك، قال : كنت يوما مع القاسم بن محمد الصّنهاجي، فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها: [السريع]
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها
فقال لي: ما مطلبه؟ فقلت: «نارنج» . ودخل عليه وأنا عنده بتلمسان الشيخ الطبيب أبو عبد الله الدبّاغ المالقي ، فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشّطر:
«ثمّ حبيب قلّما ينصف» فأخذته وكتبته، ثم قلبته وصحّفته، فإذا به : قصبتا ملفّ شحمي.
وقال: قال شيخنا الآبلي: لما نزلت تازة مع أبي الحسن بن برّي، وأبي عبد الله التّرجالي، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما إلى الكلام، فاستكشفت منهما عن معنى هذا البيت للمعري: [الطويل]
أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فجعلا يفكّران فيه، فنمت حتى أصبحا، ولم يجداه، وسألوني عنه، فقلت:
معناه «أقول لعبد الله لمّا وهي سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس: شم لنا برقا» .
قلت: وفيه نظر . وإن استقصينا مثل هذا، خرجنا عن الغرض.
مولده: نقلت من خطه: كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمّو موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان. وقد وقفت على تاريخ ذلك، ورأيت الصّفح عنه؛ لأن أبا الحسن بن موسى سأل أبا الطاهر السّلفي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا الفتح بن زيّان بن مسعدة عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت محمد بن علي بن محمد اللبّان عن سنّه فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت حمزة بن يوسف السّهمي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا بكر محمد بن علي النفزي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت أبا إسماعيل التّرمذي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنّه، فقال: أقبل على شأنك، ليس من المروءة إخبار الرجل عن سنّه .
وفاته: توفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين وسبعمائة، وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله. ونقل إلى تربة سلفه بمدينة تلمسان حرسها الله.
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.

 


محمد بن محمد بن أحمد بن أبى بكر بن يحيى القرشى التّلمسانى المقّرى.
نسبة إلى مقرّة. قرية بين الفيروان والزّاب، كذا ضبطه أبو العباس: أحمد الونشريسى: قاضى الجماعة بفاس.
كان قائما على العربية والفقه والتفسير، ويحفظ الحديث [والأخبار ] والتاريخ والأدب، ويشارك فى الأصلين والجدل والمنطق، ويتكلّم فى طريق الصوفية، ويعنى بالتّدريس فيه.
رحل وحجّ ولقى رجالا، وعاد إلى بلده. تقدّم عند السلطان أبى عنان؛ فولاّه قضاء الجماعة بفاس فأنفذ الحق، وألان الكلمة، وخفض الجناح، فأحبّته العامة والخاصة.
أخذ عن عبد المهيمن بن محمد الحضرمى، وبمصر عن أبى حيّان، والشمس الأصبهانى، وابن اللبّان، وابن عدلان، وبمكة من الرضىّ، إمام المقام، وبدمشق عن الشمس: بن قيم الجوزية، وصنّف فى الفقه والتصوّف.
قال ابن الخطيب: اتصل بنا نعيه سنة 759 بفاس، ونقل بعد مدة [لتلمسان ]، ودفن بعرصته داخل البلد.
ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال في أسماء الرّجال» المؤلف: أبو العبّاس أحمد بن محمّد المكناسى الشّهير بابن القاضى (960 - 1025 هـ‍)

 


محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر، أبو عبد الله القرشي التلمساني، الشهير بالمقري:
باحث، من الفقهاء الأدباء المتصوفين. من علماء المالكية. ولد وتعلم بتلمسان. وخرج منها مع المتوكل أبي عنان (سنة 749 هـ إلى مدينة فاس، فولي القضاء فيها وحمدت سيرته. وحج، ورحل في سفارة إلى الأندلس. وعاد إلى فاس، فتوفي بها ودفن بتلمسان. وهو جد المؤرخ الأديب صاحب (نفح الطيب) .
له مصنفات، منها (القواعد - خ) في شستربتي (4748) اشتمل على 1200 قاعدة، و (الحقائق والرقائق - خ) رسالة في مكتبة (أدوز) بالسوس ذكرها صاحب خلال جزولة، تصوف، و (المحاضرات) و (التحف والطرف) و (رحلة المتبتل) و (إقامة المريدين) . وله نظم جيد أورد ابن الخطيب (في الإحاطة) نماذج منه.
ولابن مرزوق الحفيد كتاب في ترجمته سماه (النور البدري في التعريف بالفقيه المقري) ضبطه فيه بفتح الميم وسكون القاف، وهي لغة ثانية في اسم (مقر) البلدة التي نسب إليها هو وحفيده، بفتح الميم وتشديد القاف، وهي من قرى زاب إفريقية .
-الاعلام للزركلي-