بهاء الدين محمد بن عبد الغني بن حسن البيطار

تاريخ الولادة1265 هـ
تاريخ الوفاة1328 هـ
العمر63 سنة
مكان الولادةدمشق - سوريا
مكان الوفاةدمشق - سوريا
أماكن الإقامة
  • دمشق - سوريا

نبذة

محمد (بهاء الدين) بن عبد الغني ابن حسن بن إبراهيم البيطار: فاضل، له نظم ونثر وعلم بالتصوف. دمشقي المولد والوفاة. حفظ القرآن، وجوّده على أبيه. وقرأ عليه جملة من كتب العربية وعلوم الدين، وقرأ بعض كتب الفلك وأكثر من مطالعة كتب المتصوفة.

الترجمة

(1265 - 1328 هـ = 1849 - 1910 م) محمد (بهاء الدين) بن عبد الغني ابن حسن بن إبراهيم البيطار: فاضل، له نظم ونثر وعلم بالتصوف. دمشقي المولد والوفاة. حفظ القرآن، وجوّده على أبيه. وقرأ عليه جملة من كتب العربية وعلوم الدين، وقرأ بعض كتب الفلك وأكثر من مطالعة كتب المتصوفة.
وصنف (النفحات الأقدسية في شرح الصلوات الأحمدية الإدريسية - ط) و (نقد عين الميزان - ط) و (فتح الرحمن الرحيم - خ) في التصوف، و (الواردات الإلهية - خ) ثلاثة أجزاء، و (فيض الواحد الأحد في معنى خلود الأبد - خ) رسالة، و (قرة العين - خ) في حل بيتي ابن عربي: يا قبلتي خاطبيني، و (المفاخرة بين الشمس والقمر - خ) و (مفاخرة بين البيضاء والسمراء والسوداء - خ) عليها تقاريظ بعض معاصريه. قلت: وكتبه المخطوطة، كلها عند ابنه الأستاذ محمد بهجة البيطار، بدمشق .

-الاعلام للزركلي-

 

 

الشيخ بهاء الدين بن أخي الشيخ عبد الغني ابن حسن بن إبراهيم البيطار الشافعي الصوفي
ألمعي مشهود له بقوة إدراكه، لوذعي سرى في مناهج العلوم مسير القمر في أفلاكه، له نثر كالروض تفتقت أزهاره، وشعر كالصبح تألقت أنواره، لقد أبدع من المعاني الغرائب، والألفاظ المزرية بدرر النحور والترائب، ورضع من در العلوم منذ كان وليداً، وحوى من أنواع الفنون طارفاً وتليداً.
ولد في خامس عشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين وخمس وستين. حفظ القرآن على والده وجوده، ثم قرأ على والده الشاطبية وشرحها لابن القاصح، وجملة من كتب النحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والقوافي وغير ذلك من بقية الفنون. ثم قرأ في الفقه والتوحيد والتفسير والحديث ما أثبت له الفضل والكمال، وقرأ على الشيخ الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي علم الجبر والمقابلة والحساب والميقات والفلك حتى برع، وقرأ على عمه الشيخ محمد البيطار جملة من كتب مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، وقرأ علي بعض رسائل الربع المجيب والمقنطر، وله مطالعة وفهم جيد في علم الرمل، ثم أخذ طريق الشاذلية عن الإمام المرشد الشيخ محمد الفاسي، فاشتغل في الطريق ومطالعة كتب السادة الصوفية كالفتوحات للشيخ الأكبر وغيرها حتى صار له ملكة عظيمة وكان إذا أشكل عليه شيء يراجع فيه حضرة المرشد الكامل والأستاذ الملاذ الفاضل، الأمير السيد عبد القادر الجزائري. وله من النظم والنثر، ما يزري بعقود اللؤلؤ والدر، ومن كلماته الرقيقة، التي هي الخمر الحلال على الحقيقة، مقامته التي أنشأها في المفاخرة بين الشمس والقمر، ولله درها من مقامة هي أرق من نسيم الصبا في السحر ونصها: حدثنا يسار بن حازم، عن فتح الله أبي المكارم، قال: رويت عن الورقاء بسندها عن العنقاء، قالت نشرت جناح الهمة، وطرت في فضاء الحكمة، ثم عرجت على الرفارف، إلى عالم اللطائف، فلم أزل أخترق حجاباً بعد حجاب، وأستفتح باباً بعد باب، إلى أن وصلت مواطىء الأنوار، وحصلت بمواطن الأسرار، فلما مرحت في مغانيها، وانشرحت بمعانيها، جلت بأعلى مجالي، في وجوه تلك المجالي، فرأيت في مرايا العجائب، ومزايا الغرائب، مجلساً من مجالس السمر، جمع الشمس والقمر، وهما متقابلان في النظر، في ليلة أربعة عشر، فألفت منهما الحديث والنظرة، ودلفت لتلك الحضرة، ثم بادرت بالتسليم، وحييت بالتعظيم، فقالا مرحباً وأهلاً فلقد صادف الغريب أهلاً، ثم أجلساني على موائد الفوائد، وآنساني بفرائد العوائد، ثم شرعا يتناجيان، وقد برعا بسحر البيان، فعاينت ما أخذ بمجامع قلبي، واستولى على عقلي ولبي، من طرائف ألفاظ، أسحر من الألحاظ، وظرائف معاني، هي نزهة كل معاني، فما أحلى ثمر تلك الفكاهة، وما أجلى ذاك السحر والنباهة، وما أرشق هاتيك الفقر، المزرية باللآلىء والدرر، وما آنق تلك الأسجاع، الممتزجة بالطباع والأسماع، لقد رقت وراقت، ودقت وفاقت:
كأن سامعها مذ مال من طرب ... بين الرياض وبين الكأس والوتر
ثم إنهما لم يزالا في منافثة أطيب من العناق للمشتاق، ومحادثة أطرب من الصبا والبياتي للعشاق. إلى أن جرت بهما سوابح المحاورة، وجرتهما سوانح المحاضرة، فألقتهما من مسالك تلك المسامرة، في مهاوي المهالك ومساوىء المفاخرة، فصعد القمر على المنبر الأزهر، وقال الحمد لله والله أكبر، هذا جمالي قد زهر، وجلالي قد بهر، لمن شاهد ونظر، وحقق واعتبر، أنا السر الأكبر، والكبريت الأحمر، ذو السناء الزاهي، والضياء الباهي، جليت في أحسن الصور، وانشققت لسيد البشر، وكان يناغيني في الصغر، ويناجيني كما في الخبر، فأنا سلطان الكواكب، وزينة المواكب، أزور غباً، لأزداد في القلوب حباً، فسبحان من حلاني بحلل النضار، وولاني ملك المجد والفخار، وهدى بي في ظلمات البر والبحر، فأنا سيد النيرات ولا فخر، ثم أنشأ وارتجل، وأنشد بغير وجل:
أنا قمر المحاسن والسناء ... ولي بين الملا أبهى لواء
فوجهي مشرق في الأرض يبدي ... من الأضوا صباحاً في المساء
أروق بطلعتي الأبصار أنسا ... وأبهج بالمسرة كل راء
يرى شبه الحبيب بي المعنى ... ويشكو ما عراه من العناء
وينتظر الملا مجلى طلوعي ... هلالاً بالمسرة والهناء
فإن لم يلمحوا مرأى هلالي ... تراهم شاخصين إلى السماء
فبي صوم الأنام بكل قطر ... كذاك العيد يبدو من لقائي
فالحمد لله الذي قدرني منازل، وصدرني في ميدان السباق وقدمني على كل منازل، وصورني بأكمل صورة وأجمل إنشاء، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم ختم إنشاء كلامه، بصلاته على النبي وسلامه. فلما سمعت الشمس نثره ونظامه، ووعت قوله وكلامه، زفرت زفرة القيظ، وكادت تتميز من الغيظ، فارتقت عرش اليراعة والجمال، وانتقت فرش البراعة والكمال، ثم قالت بعد أن تجلت ببرود السناء، وتحلت بعقود الحمد والثناء: أنا العروس الناضرة، والعين الناظرة، بي تحلو ثمار لواعب الأدواح، وتبدو محاسن الكواعب الملاح، ويأمن لعمري الخائف، طارق الليل الحائف، وتنسخ بي آية الليل الحالك، وتستنير المسالك لكل سالك، ويمتاز اليقين من الحدس، واليوم من الأمس، ولولاي لم تتحرر مواقيت الصلاة، ولم يتيسر نيل يواقيت الصلات، فتبارك الذي جعل في السماء بروجاً، وأجراني لمستقري بها نزولاً وعروجاً، وجعلني فيها سراجاً وهاجاً، وأوضح لي منها مسلكاً ومنهاجاً، وجل من رفعني مكاناً علياً، وحباني من فضله نوراً جلياً، وأسكنني أوسط الأفلاك، والوسط خير الأمور، ونظمني في سلك العالين من الأملاك، فسائر الأنوار علي تدور، وأحل بفلكي نبي الله إدريس، قطب الوجود في كل زمان، وغيره في هذا المقام النفيس، نائب عنه في هذا الشان، وأقسم بي وبضحاي، وفضلني وأكرم مثواي، فلي القطبية العظمى بين الأنوار، وبطلوعي وغروبي مناط الليل والنهار، ومن مشكاتي أشرق كل نور في العالمين " فتبارك الله أحسن الخالقين " ثم رنت القمر بعين محمرة، ووجنة مصفرة، وقالت عجيب للمملوك يجاري في مسراه الملوك، وللدرهم المصكوك، يباري الذهب المسبوك، أيها القمر القاضي بحدسه، المتغاضي عن معرفة نفسه، كأنك تقول لي بلسان الإشارة إياك أعني فاسمعي يا جارة:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
أما علمت أيها المتغالي في الحد، والمتعالي بما ليس في اليد، أن دعواك في النور محض مين وزور، حيث كنت ليلة الميلاد، مرتدياً برداء السواد، فلم أزل أربك بسنائي وليدا، وألبسك من ضيائي ثوباً جديدا، إلى أن اشتد ظهورك وامتد في الآفاق نورك، فإذا كان ليلة الرابعة عشرة من الشهر، أقابلك بكمالي فتكون كامل القدر، فعند ما تم لك مني السنا، جهلتني ولم تدر من أنا، أما علمت أن نورك مني وإلي، وحكمك في الإضاءة عائد علي، فكيف تفتخر علينا بنا، وتسوي في المقام بينك وبيننا، وأما زهوك بالانشقاق للسيد الحبيب، فليس بأعجب من ردى له بعد المغيب. ثم أنشدت بلسان صادع، وأرشدت ببيان بارع:
لي رتبة في العلا تسمو بها الرتب ... وأوج مجد له العلياء تنتسب
وآية الحسن بالإشراق تشهد لي ... بأن مني جميع النور يكتسب
إذا بزغت فلي ملك الضياء وإن ... أغب فعني ينوب البدر والشهب
لولاي لم يستقم للناس عيشهم ... ولا بدت لهم الأيام والحقب
ولا حلا ثمر ولا نما شجر ... ولا بدا قمر ولا همت سحب
عيني أنارت وجود الكون أجمعه ... ومن هداي اهتدى الإعجام والعرب
ومن ظلالي مواقيت الصلاة ومن ... غروبي الفطر للصوام يرتقب
فلي الكمال الذي حزت الفخار به ... وإن علاني من دوني فلا عجب
فلما سمع القمر ما هاله، قال لا دارت لي هالة، إن لم أبرز لك في ميدان السبق، وأبدي شرفي عليك لسائر الخلق، أما سمعت أيتها الشمس، قول بارىء الجن والإنس، " وللرجال عليهن درجة " فأنت بي في الفضل مندرجة: على أنك وسمت بالعين، وقد شاهدت بالعينين " وللذكر مثل حظ الأنثيين " وأعدل شاهد بسبقي لمن اعتبر، " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " وأما ما تعاليت به علي، قائلة أن نورك مني وإلي فالفرع قد يشرف أباه، أحب ذلك أو أباه:
إنما الورد من الشوك وما ... يخرج النرجس إلا من بصل
فلا غرو أني القمر المنير، ذو الشأن الخطير، بسنائي تطيب القلوب، وعلى ضيائي يجتمع المحب والمحبوب، فالأفراح لا يتم سرورها إلا بحضرتي، والراح لا يكمل حبورها إلا لدى طلعتي، وكم من ذي جفن ساهر، وذهن حائر، وطرف جائل، ودمع سائل، وقلب ذائب، وكرب دائب، يبث لي شكواه، وينث لي بلواه، وكم من كلف يحن إلي، لما يرى من شبهي بالحبيب، ودنف يئن لدي كأني لدائه طبيب، فأنا الشقيق لأهل الحسن والجمال، والشفيق على من صبا عشقاً ومال، إن أنكر المحبوب وجد الحبيب، أجابه سل أخاك فإنه علي رقيب، وما أعذب ما قاله ابن سهل الهمام، في هذا المقام:
سل في الظلام أخاك البدر عن سهري ... تدري النجوم كما تدري الورى خبري
مع أني شريك ذوي السها دليلا، والهائم معهم بجمال سعدى وليلى، فأنا رئيس ديوان الصبابة، وأنيس من فوق له الهوى سهم الحب فأصابه.
فما شرب العشاق إلا بقيتي ... ولا وردوا في الحب إلا على وردي
خلا أني أقرب الكواكب إلى عالم الإنسان، وأعذبهم في تمام الحسن وكمال الإحسان، فلذا جمالي باد، لكل حاضر وباد، تقر الأعين برؤيتي، وتشتهي الأنفس شهود طلعتي، فغرتي طالع السعد والبشر، وسمائي موطن آدم أبي البشر، فلتكف الشمس عن مضاهاتي، ولتمسك عن مساجلتي ومباهاتي، ولتحاول غير هذه الشطة، قبل وقوعها معي في أعظم ورطة، ولتعترف بفضلي اعتراف من تنبه غب ماسها، وإن عادت العقرب عدنا لها، ثم شمر عن ساعده الأشد، وضرب بلسانه أرنبة أنفه وأنشد:
لي منهج في العلا قد عز مسلكه ... ولي الكمال الذي بالفضل أملكه
تمنت الشمس أن تدنو لمرتبتي ... ما كل ما يتمنى المرء يدركه
فعند ذلك التهبت الشمس غضباً، وقضت مما سمعته وشاهدته عجباً، وقالت تعاليت علي بالإفك، وتعاميت عن حطتك مذ كنت هلال الشك، وبغيت بغي من ضل وتزندق، وتفرزنت وما أنت إلا بيدق، أوما خجلت من هذا الصلف، مع ما في وجهك من الكلف، وهل أنت مني في القدر، إلا كقلامة الظفر، ومع ما فيك من المحو والنقصان، كمالك لا يفي بتمام الإيضاح والبيان، فأنت نال وأنا متلوة وآيتي مبصرة وآيتك ممحوة وكفاك أيها الخادع الغرار، إن اسمك مشتق من القمار، وأنك عون السارق، وهون العاشق الطارق، تحل أجرة المنزل راجل الدين، فتذل بذلك فاقد الورق والعين، ويلي نورك ثياب الكتان، ويؤول كمالك إلى النقصان، وليت شعري هل لك بظهوري ظهور، وهل محور الدرج والدقائق إلا علي يدور فالزم الخضوع والاستكانة، ولا تطاول من سماك مكاناً ومكانة، فما هلك امرؤ عرف قدره، ولا سلك صواباً من روج مكره وغدره، ولقد بانت حجتك، واستبانت محجتك، فلا تعد بعد إلى الحيف، فتكون كمن ضيع اللبن بالصيف والزم الأدب مع أهل الكمال، ولا تك ممن عرف الحق ومال، ثم إنها تاهت تيه نشوان، وفاهت بشبيه الجمان:
أنا قد لبست ببهجتي ... خلع الملاحة والطرف
وظهرت في أوج العلا ... ببديع حسني والظرف
حسب الهلال تكلفاً ... ما فيه من شين الكلف
وبأنه لو لم يقا ... بلني لغشاه السدف
وإذا تجلت طلعتي ... في ذاته منها انكشف
وإذا انحرفت لوجهتي ... في السير أظلم وانكسف
فكأنني وكأنه ... في شأو سبق ذي شرف
كالدرة البيضاء إذ ... باحالها قشر الصدف
فلما أمعن القمر في معانيها، وجال طرف فكره في مغانيها، وثب وثبة الأسد، ونعب نعبة الحرد والغضب، وقال أيتها اللافحة بنار الهاجرة، لأنت التاركة للإنصاف والهاجرة، تزدرينني بسواد الكلف، أو ما دريت أنه من دواعي الحب والكلف، فهل هو إلا كخال توج به الخد المورد، أو كنقطة عنبر صيغت على در منضد، أو عذار يقيم لعاشقيه الأعذار. أو إنسان عين يشير لناظريه بالإنذار، وكأنك لم تسمعي قول من قال، وأحسن فيما قال:

أهلاً بفطر قد أنار هلاله ... ألآن فاغد على المدام وبكر
فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وأرق من هذا في التشبيه، وأدق وألطف في التنبيه، قول من أجاد:
يا ريم قومي الآن ويحك فانظري ... وجه الهلال وقد بدا في المشرق
كخليلة نظرت إلى خل لها ... فتنقبت خجلاً بكم أزرق
ومن هذا القبيل ما قيل:
قالوا التحى، فمحا محا ... سن وجهه نبت الشعر
الآن طاب وإنما ... ذاك النهار على السحر
لولا سواد في القمر ... والله ما حسن القمر
وأعدل شاهد لي بكمال القدر، تلألؤ وجهه صلى الله عليه وسلم تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان إذا رآني يقابلني بجميل محياه، ويقول هلال خير ورشد إن شاء الله، فبركاتي مشهورة، والدعوات لدى ظهوري مأثورة، وحزبي هم السادة الأفراد، وصحبي هم القادة الأمجاد، يناجون معي في الأسحار، ويرجون سني النفحات بالذلة والانكسار، " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " وتنهل من عيونهم عيون المدامع، فلا ريب أنهم فازوا بالمشاهدة والوصال، وحازوا أحسن الشيم والخصال، ولي إليهم أياد وأي أياد، حينما يرصدونني للصوم والأعياد. هذا وإن شعاعك أيتها الشمس، يذهب بالسرور والأنس، ينشي الصداع، ويغشى الأسماع، وينفر الطباع، ويثير الداءات والأوجاع، فلا يبدو به انشراح، ولا تشدو به بلابل الأفراح، ومن الذي بشعاعك ترنم، وشدة الحر من فيح جهنم، وكيف لا وسيد الأنام، ظلله من حرك الغمام، وقد صح عن سيد ولد عدنان، طلوعك بين قرني شيطان، ففضلي عليك متعين واجب، والعين لا تعلو على الحاجب. فلما وعت الغزالة ما أبداه، ورعت منتهى كلامه ومبتداه، آلت برب المشارق والمغارب، لتجر عنه من كؤوس نقمتها أمر المشارب، ثم قالت إلى متى تتطاول في مذمتي، وحتى متى وأنت غرس نعمتي، فلأجعلنك أيها القمر عبرة لمن اعتبر، ألم أعدك وأنت في ضنا المحو والمحاق، وأعدك للوجود بعد الفنا والاحتراق، وأكسك بعد التجرد حلة البهاء، وأقلدك قلائد التورد والازدهاء، فنبذت شكري وراءك ظهرياً، وتركت بري نسياً منسياً، وجنحت إلى الغرة، واستكبرت استكبار أبي مرة، وقابلتني بكفران النعم، وجازيتني بالعدوان والنقم، فما أراني بعد إحساني الغامر، إلا كمجير عامر. ثم أعرضت عنه ابتذالا، وتمثلت وعينها تتقد اشتعالا
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني
ثم نظرت إليه شزراً، وقالت لقد جئت شيئاً نكراً، أتظن أن أحداً بهجائي يعول عليك، أو ينظر دوني بالإقبال إليك، وهو يعلم أن ما فيك من النور ليس من صفاتك، وإنما هو من إشراق سنائي بمرآة ذاتك، وأن ما بدا منك فمعار مني إليك، وكل ناظر بعين الحقيقة فإلي لا إليك، فو الذي أثبتني بالبقا، ومحاك بالفنا، ما ظهر فيك أيها المغرور إلا أنا، فما رأى أحد منك سواي، ولا بدا فيك إلا معناي، ولله در العفيف، إذ أشار لهذا المعنى اللطيف، فقال:

نظرت إليها والمليح يظنني ... نظرت إليه لا ومبسمها الألمى
ولكن أعارته التي الحسن وصفها ... صفات جمال فادعي ملكها ظلما
وأما إعابتك علي بطلوعي بين قرني شيطان، فهو في الحقيقة عائد لعبادي من ذوي الطغيان، وتظليل الغمام من حري سيد الخلق، فهو لما أودعته من نور جلال الحق، أو ما علمت أن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل أمة، فلي شرب من إشراق تجلي القهار، بشاهد قوله جل من قائل " لا تدركه الأبصار " فانظر لما ألقيته عليك بعين الفهم " ولا تقف ما ليس لك به علم " واطو من بيننا شقة الكلام، فإنها جالبة للطعن والكلام، وأبق للصلح موضعاً ومحلاً، وكف عني لسانك وإلا، فقد لاح الحق لذي عينين، وراح الباغي يخفي حنين، وإن عدت لزخارف عدوانك ومينك، فهذا فراق بيني وبينك.
قالت العنقاء: فلما رأيت احتداد الحجاج وامتداد اللجاج، وقد كاد كل منهما من الجدال، أن يتلو سورة القتال، قلت غب أن أحسنت لفظي، وأكثرت نصحي ووعظي، هل لكما في حكم، يفصل بينكم بآداب وحكم؟ فقالا: ومن هو الذي يلقى إليه القياد، في كشف هذا العنا والعناد، فأنبئينا أيتها الناصحة عنه، لنلتقط درر المعارف والبيان منه. فقلت: اللهم بلى، وهل يخفى ابن جلا، إنه لفارس السباق في كل ميدان، وغارس حدائق الآداب لكل قاص ودان، رسائله وسائل المنى لكل عارف، وفضائله جداول الهنا لكل غارف، وملحه قد عذبت حلاوة وانسجاماً، ومنحه ادارت من راحها قدحاً وجاما، كم ركعتالبلغاء لجمال أبكاره الحسان، وسجدت الأدباء لكعبة أفكاره الباهرة كل إنسان، فإن أقر على الرق أنامله، أقر بالرق أدباء الأنام له، تضحك ثغور الأوراق طرباً من بكاء يراعه، وتسجع بلابل الأوراق عجباً من طيب لفظه وسماعه، فلو انتشق ريحانة لفظه ابن نباتة، لاستطاب في ربا البديع نباته، فأين النسيج الحريري من رفيع مقاماته، والغزل الجريري من ترصيع أبياته، فرياض عباراته حياض الشفا لغليل كل عليل، وغياض إشاراته مفاض الصفا وأنس الجليل، فلو امتزج النسيم بنفحة أنفاسه القدسية، لأغنى أهل الرموس عن نفخة النشور، ولو انبلج لأهل الجحيم نور طلعته الانسية، لعرفت في وجوههم نضرة النعيم والسرور، هذا وراحته بفيض نداها السائل، راحة لكل راج وسائل، فلعمري لقد دارت شموس الكمالات عليه، وسارت بدور السعادات إليه،
أفديه عبداً إلى الرزاق ذا شيم ... تألقت من سناها غرة الزمن
وسيداً من بني البيطار والده ... بدر الهدى حسن ناهيك من حسن
فأقبلا على بهيج بابه، وقبلا أريج أعتابه، ثم قدما لمقامه السعيد، مقامة التهنئة بالصوم والعيد، وغب ذلك تساجلاً لديه، وتناضلاً بين يديه، فهو حكم الحكم، ومنتهى الهمم، فعرجا في الحال، واندرجا بحماه العال.
فحينما رآهما حيا وبيا، وتهلل بالبشر منه باهي المحيا، وقال مرحباً وأهلاً بالنيرين، ومن هما لجسد الكون كالعينين. قالت العنقاء: فقلت ها أنتما بالمشهد المأنوس، ولا عطر بعد عروس، فلينضح كل منكما إناءه بما فيه، ولينصح نفسه بصدقها في ظاهر أمره وخافيه. فلما سردا لديه المقامة، وودا أن يقيم كلا منهما مقامه، قال: والذي ألبسكما من الجمال أبهاه، ومن الكمال أنهاه، ومن الحسن أولاه، أنكما لآيتان من آيات الله، ولأنتما للزمان روحه وجسده، ولعالم الإنسان عضده وسنده، وهل أنت أيها البدر من يوح، إلا كشقيق روح أو ابن بوح، فلم تختلفان وعليكما دار الملوان بحسبان، وما منكما إلا له مقام معلوم، وفضل في الأنام مرسوم، فلا تعودا إلى المشاحنة فإنها تشين النفاسة، ولا يخفى عليكما ما ينشأ عن حب الرئاسة.
قالت راوية الأثر: فلقد خاب القلوب ببلاغته وأسر، وأرضى كلاً منهما بما أمضى وأسر، فتهلل وجه كل منهما بالصلح، وتلا سورة النصر والفتح، وتمثل كل وقوفاً بين يديه، واستأذن بشكره والثناء عليه، فقال بسم الله ولا حرج، حيث تم المنى ووافى الفرج، فعند ذ لك ابتدرت الشمس، وأنشدت ما يقر العين والنفس:
حياك من فرد وحيد ... يا طلعة الحسن الفريد
يا سالياً قلبي العليل ... وسالباً لبي الشريد
لولا قوامك مائس ... ما شاقني غصن يميد
كلا ولولا راح ثغرك ... لم أهم في حسن غيد
لم أبد منك لطائفاً ... إلا حلالي إن أعيد
وهواك أقرب للحشا ... والروح من حبل الوريد
يا من لأوج صدوده ... قد أعجم الوصل الحميد
قلبي الحسين شهادة ... واللحظ منك غدا يزيد
أصبو بنجد والعرا ... ق إلى بياتك لو تريد
وأنوح نوح الأصفها ... ني كي ترق فلا يفيد
وحصار ركب نواك ير ... صدني جهاراً بالوعيد

حجز القرار ولم تجب ... عد باللقا فالوعد عيد
ضربت بي الأمثال في العشاق من شوقي المزيد
وفني جميل تصبري ... لكن شوقي لا يبيد
حملتني بهواك ما ... بأقله شاب الوليد
قل لي فديتك هل حشا ... ك الصخر أم صلد الحديد
أو ما ترى من مقلتي ... دمعاً جرى البحر المديد
وتنهدي وتسهدي ... وتشتتي في كل بيد
ولقد لقيت من العوا ... ذل كل شيطان مريد
كفروا جمالك إذ أبيا ... إلا ضلالهم البعيد
فهم لفي لبس بأن ... هواك من خلق جديد
تباً لهم أو ليس منهم في الهوى رجل رشيد
يا ليت نار الصد تصلي كل جبار عنيد
أواه لو لي بالعوا ... ذل قوة الندب الجليد
لكفيتهم لكنني ... آوي إلى ركن شديد
مولاي أعني العبد للر ... زاق ذا الحسب المجيد
لي منه زاهر نسبة ... لكنني أدنى العبيد
لله مولى لذ لي ... في وصفه عذب النشيد

كل الوجود على كما ... ل صفاته الحسنى شهيد
والدهر طوق من سجا ... ياه الفرائد عقد جيد
يا سامياً أوج العلا ... بالحذق والرأي السديد
عيد الصيام ببشره ... وافى حماك فلا يحيد
فاهنأ ودم في كل عيد ... في صفا العيش الرغيد
وإليك في حلل البها ... مزفوفة بكر القصيد
حلت سمواً من رفيع علاك في قصر مشيد
لم ترتجي إلا قبو ... لك يا ملاذ المستفيد
قد أرخت سد بالمنى ... يهنيك بالعيد النضيد
فلما فرغت الشمس من أبياتها، وسحرت بباهر آياتها، رفع القمر عقيرته، وأنشد قصيدته:
ما للمصاب من الجوى من راقي ... إلا التي زانت بحسن راقي
هيفا كجسمي خصرها، وبردفها ... شبه العذول هما جناس طباق
جمعت بفاتر لحظها ورضابها ... ضدين من سم ومن ترياق
سبحان من أبدى بروضة خدها ... ورداً يفوح بعنبر عباق
وأدار من كأس العقيق بثغرها ... راحاً جرت في اللؤلؤ البراق
عذبت حلاوة حسنها لكنها ... صداً أذاقتني أمر مذاق
هل لي مجير من سهام لحاظها ... هيهات ما لقتيلها من واق
ما كنت أحسب قبل وقعة عشقها ... إن المنايا الحمر في الأحداق
كيف النجاة من الهوى وشراكه ... والقلب مأسور رهين وثاق
يا آل ودي هل لكم في مغرم ... ضربت به الأمثال في الأشواق
يرثي له الصخر الأصم إذا بكى ... بمدامع الخنساء في الآفاق
يا غادة تشدو جهاراً بالنوى ... من أوجه لمحير العشاق
قلبي الحسيني الشهيد صبابة ... حجز البيات وقد صبا لوفاق

رصد اللقاء فظل من ركب الجوى ... وحصاره يرثي بنجد عراق
عز القرار فهل جواب بالمنى ... إن الوفا من طاعة الخلاق
يا وجهها أنت الرشيد هداية ... فارحم فديتك جعفر الآماق
لا زلت مسروراً بملك ملاحة ... يحيي بحسنك ناظر المشتاق
ما حق قلبي وهو ببيت هواك أن ... يلفى لديك مقطعاً بفراق
آليت دهري لا التفت عن الهوى ... إلا لمدحي كامل الأخلاق
حبر إذا أبكى عيون مداده ... ضحكت ثغور الكتب والأوراق
ذو غرة لو يستجير البدر في ... أنوارها لم يخش جور محاق
وشمائل أضحت لجيد زماننا ... عقد الكمال وحلية الأطواق
ما دار من راح العلوم وصفوها ... كأس الهدى إلا وكان الساقي
كلا ولا في شأو فضل قد جرى ... في فكره إلا سما بسباق
طوفان نوح لو حكى إحسانه ... لم ينج إنسان من الإغراق
عمت مكارمه البسيطة وارتقت ... أوصافه مجداً لسبع طباق
لو رام إمساكاً وحاشا جوده ... لم تستطع يده سوى الإنفاق
لو لم يكن عبداً لرزاق الورى ... لدعوته بمقسم الأرزاق
سجدت لكعبة عزه هام العلا ... والسعد بين يديه في الإطراق
يا سيداً زان الزمان بشيمة ... ساد الأنام بها على الإطلاق
هذا هلال العيد أمك بالمنى ... ولأنت فينا عيد أنس باق
فاهنأ ودم شمس الهداية طالعاً ... بسما الكمال بلا مغيب تلاق
واستجل من فكري عروساً مهرها ... منك القبول فذا أجل صداق
قد زفها نظم البهاء مقلداً ... من در وصفك حلية الأعناق
وافى بها عيد السرور مؤرخاً ... بالبشر عيد دام والإشراق
قالت العنقاء: فهاج بي نسيم الغرام، وماج بي بحر الوجد والهيام، إن أنحو نحو هذا الأثر، وإن أتشبه بالشمس والقمر، لأن التشبه بالكرام فلاح، والتنبه للاقتداء بهم نجاح، فعززتهما بثالثة، وفية بالعهد لا ناكثة:
سلاه عن فؤادي هل سلاه ... وكيف وما جنى ذنباً سلاه
غزال زانه جيد وفاه ... شرود عجبه يأبى وفاه
أقمت على ثناه وليت شعري ... عن الخل الوفي ماذا ثناه
بثغر لماه ظل رباط قلبي ... لذا من لحظه الغازي رماه
عذابي في جواه يراه عذباً ... وسلبي في هواه غدا مناه
فيا تلك الشعور إلا شعور ... بمن في ليلكن نما ضناه
ويا ورد الخدود ألا ورود ... فأنت لذي الضنا أحلى جناه
ويا تلك الشفاه ألا شفاء ... لمن بسلافكن غدا شفاه
لقد طال البعاد ولا سلو ... ولا تغني الشجي الصب آه
ألا يا للهوى من لي عذير ... بمن في حسنه العشاق تاهوا
عراقي الطباع يبيح ظلماً ... دم الصب الحسيني في هواه
صبوت به جهاراً مذ بدا لي ... بأوج جماله وأضا سناه
وركب صدوده يبدي حصاراً ... فيحجرني ويرصد لي عناه
أنوح محيراً وأبيح وجداً ... بنوح الأصفهاني من نواه
وقد عز القرار فلا جواب ... سوى جفني تجاوبني دماه
فمن لي يا أهيل الود فيه ... بأن أفنى ويحييني بقاه
رضيت بحبه وصلاً وهجراً ... وطاب لي البيات على رضاه
كتمت غرامه حتى كأني ... من الكتمان لم أدريه ما هو
وأنكرت الهوى صوناً لأني ... أغار عليه يهواه سواه
يشخصه الهيام بكل ذاتي ... فلا أدري أراها أم أراه
فلو يدعى اسمه ألفى مجيباً ... لمن يدعوه من ولهي أنا هو
له ملك الفؤاد وكل عشق ... له منا دراه من دراه
تناهى في الجمال كما تناهى ... لبهجة عصرنا عز وجاه

ملاذ عبد رزاق البرايا ... رعاه الله ما أبهى لقاه
رياض أكفه تزهو سماحاً ... بمنثور الندى الحالي جناه
تخال نزيله من حسن بر ... وتكريم أخاه أو أباه
يرق لدمعة الباكي انعطافاً ... ويرحم لوعة الشاكي جواه
وإن أنشا من الأفكار عقداً ... شهدت الحور زفت من حلاه
ألا يا كامل الأوصاف عذراً ... فقدرك عز أن أحصي ثناه
فلا زالت بك الأيام تسمو ... ووجهك مشرق بسنا ضياه
وذا عيد المنى فاهنأ وأرخ ... نضير العيد زاهي من حباه
فلما تليت على الأسماع عرائس القصائد الشكرية، وحليت بنفائس الأسجاع أوانس الفوائد الفكرية، تهلل وجهه سروراً، وتعلل بها طرباً وحبوراً، ثم قال: ما أطيب هذا النفس الأنفس، وما أطرب هذا السماع الأقدس، فلعمري ما المثالث والمثاني، بأعذب من هذه المعاني، ولا وصل الحبيب بلا رقيب، بأعجب من هذا التشبيب بذا النسيب، فليت شعري أهذ رقيق كلام، أم عتيق مدام، أم در ألفاظ، أم سحر ألحاظ، أم نثر بديع، أم نشر ربيع، أم بيان بنان، أم نظم جمان، فلا زالت الأفلاك بجمالكم ناضرة، ولا برحت ألحاظ الأحلاك بعيونكم ناظرة، ما افتر ثغر الدهر بسناكم باسما، واحمر خد الزهر لنداكم راسما، وما حمد شارع على التمام، وسعد بارع بحسن الختام.
أقول: هذا ما جئت به من بضاعتي المزجاة، لسيدي عزيز القدر والجاه، الوالد العطوف الروحاني، والعم الرؤوف الذي عمني بنداه ونحاني، وأرجوه غض الطرف عن هفوتي، ونظر اللطف لإصلاح كبوتي، ولولا وثوقي بهذا الامتنان، لم أحم حول هذا الشان، ومع هذا فليتني لزمت حدي من الضعف والقصور، ولم أتشوف بجدي لارتقاء هاتيك القصور، لجمود عين الفطنة القريحة، وخمود نار الروية والقريحة، على أن المطالب تغشي الأذهان، والجواذب تعشي مقلة السليم مما أهان، لاسيما ومقام سيدي أشهر من أن يذكر، والثناء عليه أزهر من أن ينشر، وليس قصدي إلا ترديد ذكراه طربا، وتعديد مزاياه عجبا، وإلا فرفيع مقامه غني عن المقامة، وربيع مقامه محط رحال ذوي الثناء والمقالة،
من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع
وبالجملة فشريف شمس نسبتي، أطمعني أن أكون بدري المقام، ولطيف عنقاء محبتي، دعاني لإنشائها مع التحية والسلام. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى تابعيه السادة الكرام، ما ناح الحمام، وفاح شذا مسك الختام.
أقول: إن هذه المقامة لا ريب أنها من بحر معارفه خليج، ومن رياض ألطافه شذرة ذات مقام بهيج، وإن له غيرها من النثر والنظم، ما يحسن التهليل والتكبير عند شروقه، ويشربه السمع فتدب نشوة الحميا في عروقه، فنثره لعمري عقود الجوهر، ونظمه نثر اللآلىء والدرر، وهو ممن لم يزل يصل في اجتهاده الليالي بالأيام، ويعتاض في ازدياده السهر من المنام، حتى بلغ مبلغاً يقصر عنه أمل المتطلع، وحل محلاً تنقطع دونه رغبة المتطمع، ونزل من القلوب بمنزلة الامتزاج بين الماء والراح، وأورد العيون الرياض والقرائح القراح، فللنواظر فيه مرتع، وللخواطر منه مستمتع.
وله الأيادي البيض، في بحر كل كمال طويل أو عريض، فكأن الله براه نوراً مصوراً، وأطلع غصن كماله غضاً منوراً:
رفيع كمال كلما زاد خاطري ... به أملاً زادت محاسنه حسنا
وكيف لا وهو فارس المجال، ورب الروية والارتجال، تؤخذ الفصاحة عن لفظه، وتروي فنون البلاغة عن حفظه، أبلغه الله المنى وأفرغ عليه حلة السرور والهنا.

حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.