عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الجزائري أبي محمد ناصر الدين

الأمير عبد القادر

تاريخ الولادة1222 هـ
تاريخ الوفاة1300 هـ
العمر78 سنة
مكان الولادةقيطنة - الجزائر
مكان الوفاةدمشق - سوريا
أماكن الإقامة
  • قيطنة - الجزائر
  • وهران - الجزائر
  • الطائف - الحجاز
  • المدينة المنورة - الحجاز
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • بغداد - العراق
  • بلاد الشام - بلاد الشام
  • استانبول - تركيا
  • بورصة - تركيا
  • دمشق - سوريا
  • أمبواز - فرنسا
  • باريس - فرنسا
  • فرنسا - فرنسا
  • بيت المقدس - فلسطين

نبذة

الأمير أبو محمَّد عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري: الإِمام الأوحد والعلم المفرد عالم الأمراء وأمير العلماء وكان والده من العلماء الأعلام الذين يرجع إليهم في مشكلات الأحكام، أخذ عن والده وانتفع به وحج معه ودخل الشام وبغداد وأخذا الطريقة عن الشيخ محمود القادري وأجازهما بذلك.

الترجمة

الأمير أبو محمَّد عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري: الإِمام الأوحد والعلم المفرد عالم الأمراء وأمير العلماء وكان والده من العلماء الأعلام الذين يرجع إليهم في مشكلات الأحكام، أخذ عن والده وانتفع به وحج معه ودخل الشام وبغداد وأخذا الطريقة عن الشيخ محمود القادري وأجازهما بذلك وفي سنة 1248 هـ بايعه أهل الجزائر وولوه على القيام بأمر المدافعة عن الوطن والدين وقام بذلك أحسن قيام وحمده الخاص والعام وصار مركز الدائرة ببلده والرياسة طوع يده واشتهر أمره وبعد صيته وجرت بينه وبين دولة فرنسا حروب دامت سنين وظهرت منه شجاعة دوّنها أصحاب التاريخ ثم رأى من المصلحة الجنوح إلى السلم وعقد صلحاً مع قائد الجيش وحمل لفرنسا وأقام هناك مدة محل إكبار وتعظيم ورتبت له الحكومة مبلغاً من المال له بال سنوياً ثم رحل لدار الخلافة وأنعم عليه السلطان عبد المجيد بدار حافلة ببورصة وأقبل على تعليم العلم وإفادة الناس وفي سنة 1271هـ انتقل لدمشق وقرّ قراره بها وأقبل على تدريس العلوم وصدرت له تآليف ورسائل لو جمعت لبلغت مجلدات منها المواقف في التصوف وتعليق على حاشية لبعض أجداده في علم الكلام والقراض الحاد رد فيه على بعض الطاعنين في دين الإِسلام والصافنات الجياد وضعه في محاسن الخيل وصفاتها وذكرى العاقل وتنبيه الغافل ضمنه كثيراً من حقائق العلوم ومجالي العقول وله الشعر الجيد أفردت ترجمته بالتأليف. ومن شعره قصيدة في مدح سكنى البادية بها ما يربو على الثلاثين بيتاً ومستهلها:
يا عاذراً لامرىء قد هام في الحضر ... وعاذلاً لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتاً خف محملها ... وتمدحن بيوت الطين والحجر
ومنها:
قال الأولى قد مضوا قولاً يصدقه ... نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في بيتين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشَعر
مولده في سنة 1222هـ وتوفي في رجب سنة 1300هـ[1882م] ودفن بحجرة الشيخ الأكبر ورثاه كثير من الشعراء والبلغاء.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية_ لمحمد مخلوف

 

 

(1222 - 1300 هـ = 1807 - 1883 م) عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري: أمير، مجاهد، من العلماء الشعراء البسلاء. ولد (1246 هـ - 1843 م) بايعه الجزائريون وولوه القيام بأمر الجهاد، فنهض بهم، وقاتل افرنسيين خمسة عشر عاما، ضرب في أثنائها نقودا سماها " المحمدية " وأنشأ معامل للأسلحة والأدوات الحربية وملابس الجند. وكان في معاركه يتقدم جيشه ببسالة عجيبة. وأخباره مع الفرنسيين في احتلالهم الجزائر، كثيرة، لا مجال هنا لاستقصائها. ولما هادنها سلطان المغرب الأقصى عبد الرحمن بن هشام، ضعف أمر عبد القادر، فاشترط شروطا للاستسلام رضي بها الفرنسيون، واستسلم سنة 1263 هـ (1874 م) فنفوه إلى طولون، ومنها إلى أنبواز حيث أقام نيفا وأربع سنين. وزاره نابليون الثالث فسرحه، مشترطا أن لا يعود إلى الجزائر. ورتب له مبلغامن المال يأخذه كل عام. فزار باريس والأستانة، واستقر في دمشق سنة 1271 هـ وتوفي فيها.
من آثاره العلمية " ذكرى العاقل - ط " رسالة في العلوم والأخلاق، و " ديوان شعره - ط " و " المواقف - ط " ثلاثة أجزاء في التصوف .
-الاعلام للزركلي-

 

 

الأمير الكبير السيد عبد القادر بن محي الدين الجزائري المغربي
هو الهمام الكامل العارف، والإمام المتحلي بأعلى العوارف، الراسخ القدم في العلم الإلهي والكاشف عن أسرار الحقائق حتى شهدها كما هي، قد حل من طرف الفضل في سواده، وتبوأ من صدر الشرف أوج فؤاده، فمحامده تملأ المجامع والمسامع، ومناقبه تنير المطالع وتقف عندها المطامع، فلا ريب أنه مفرد الزمان القائم مقام الجمع، المستجمع لصفات الكمالات الإنسانية لدى كل منطق وسمع، فهو البحر الذي سارت فيه سفن الأذهان فلم تدرك قراره، وعجزت أفكار النظراء وألباب البلغاء عن أن يخوضوا تياره. ما برز جواد علمه في ميدان البحث إلا وازدان على قاص ودان، ويقال لمن سأل عن حقيقة حاله ليس الخبر كالعيان. وأما جوده فهو القطر الذي عم الفجاج نتاجه، والبحر الذي طاولت الأبراج أمواجه. فلله دره من كامل قد استدارت منطقة المجد حول قطب سيادته، واستنارت كواكب المعالي الزاهرات بأضواء شمس سعادته. فهذا الذي تقتبس من مشكاته أنوار التقوى والصلاح، وتختلس من جانب طوره أطوار النجاة والنجاح. وحل من الشرف في طالع سعوده، واستوى على ذروة الغرف المشيدة لبذل نداه وجوده، وشهرته قد فاقت ضوء المصباح والصباح، وسيرته قد رقت فهي لسامعها الراح المباح. ولا غرو فهو فرع الشجرة الطيبة المنابت، قد ثبت أصلها وزاحمت أغصانها الثوابت، تسامت بالنسبة إلى شرف النبوة أعاليها، واخضرت بماء الفتوة أدواح معانيها ومعاليها:
كل المفاخر والمناقب جمعت ... فيه على الإطلاق والتقييد
والمجد مقصور عليه أثيله ... والعز تحت ظلاله الممدود
تلقى برؤيته المنى أو ما ترى ... عنوانه بجبينه المسعود
لو تشعر الدنيا لقالت إن ذا ... مضمون أشعاري وبيت قصيدي
ومع ذلك فهو فارس ميدان اليراع والصفاح، وليث الرماح الخطية والأقلام الفلاح. فهو لعمري الموصوف حقاً ببسط الكف ما أعرض يوماً عن بذل المعروف ولا كف. فهيهات أن يصفه الواصف وإن أطال الكلام، أو أن يحكيه العارف وإن ملأ بطون الدفاتر وبرى ألسنة الأقلام. وأما ذكر نسبه الموصول بأشرف نبي وأجل رسول، فهو التقي العابد والغازي المجاهد، الأمير عبد القادر المغربي الجزائري بن السيد محيي الدين بن السيد المصطفى بن السيد محمد بن السيد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المختار بن السيد عبد القادر بن السيد أحمد المعروف بابن حذه مرضعته بن السيد محمد بن السيد عبد القوي بن السيد علي بن السيد أحمد بن السيد عبد القوي بن السيد خالد بن السيد يوسف بن السيد أحد بن السيد بشار بن السيد محمد بن السيد مسعود بن السيد طاووس بن السيد يعقوب بن السيد عبد القوي بن السيد أحمد بن السيد محمد بن السيد إدريس الأصغر بن السيد إدريس الأكبر بن السيد عبد الله بن السيد الحسن المثنى بن السيد الحسن السبط بن السيد علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت سيد العالمين، وإمام الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم:
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقد نظم هذا النسب الشريف صاحب المقام العالي المنيف السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق الشام رحمه الله تعالى فقال:
يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه ... حاشا علاكم بأن الخلف يعقبه
حيا فأحيا ظنوناً غير نائية ... لولاه كانت قضت مما تراقبه
وافى البشير به والفكر في قلق ... والقلب في حرق هم يقلبه
والجفن في أرق والعين في غرق ... والصبر في فرق كرب يداعبه
ومذ تفوه قام الحزن مرتحلاً ... عنا بعسكر لوم لست أنحبه
وباشر البشر في ضرب الخيام على ... قاع السرور فكم ذا كنت أرقبه
فالحمد لله حيث الفضل في ملك ... مسلسل الأصل يعلو حين تنسبه
العالم العامل الغازي أخو ورع ... الزاهد المنتقى للخير ينتبه
السيد الفرد عبد القادر الحسني ... من سيفه ملك الإفرنج يرهبه
نجل المحقق محيي الدين سيدنا ... من ضاء من علمه شرق ومغربه
ابن الإمام الهمام المصطفى كرماً ... من كل محمدة في الكون تطربه
ابن الممجد ركن العز أوحدهم ... محمد من غدا في الحمد مذهبه
ابن الهمام هو المختار قدوتنا ... عند الثريا مقاماً كنت تحسبه
ابن السميدع عبد القادر الورع المز ... دان بالقدر رفعاً لست تنصبه
ابن الشريف هو المختار أحمد من ... فعل المحامد والإحسان مشربه
ابن الممجد عبد القادر الحسن ال ... أخلاق فوق الدراري كان مطلبه
ابن المسمى بحذه عند نسبتهم ... أخدوده واصل لله راكبه
ابن التقي الذي سموه أحمد من ... وسائط الحمد للتوفيق تجذبه
ابن الذي مر في عز وفي شرف ... محمد من لذيل الفخر يسحبه
ابن المسمى بعبد للقوي لما ... أبداه في دين مولاه تصلبه
ابن الكريم علي من سما عظماً ... حتى غدا في علاه البدر يرقبه
ابن الجواد العفيف السمح أحمد من ... أعي اليراع لفضل فيه حاسبه
وهو ابن عبد القوي الله سدده ... قواه في ضمن تقواه تقربه
ابن الذي خلد الفردوس خالدهم ... فالحور في روضة الرضوان تخطبه
ابن السمي إلى الصديق يوسف من ... قميصه من عفاف قد جاذبه
ابن الهمام جليل القدر أحمد من ... ساد المعالي بطرق المجد يركبه
ابن المبجل بشار الكرام ومن ... سمت لدى الخلق بالبشرى مراتبه
ابن المكرم فرع المجد واحده ... محمد من صفات الحمد تصحبه
ابن المهذب مسعود الطوالع من ... في الشرق والغرب لا يخشى تحجبه
ابن المفاخر طاووس بنسبته ... إلى المعالي ولا عجب يصاحبه
ابن المسمى إلى يعقوب سيدنا ... من صبره لم تضق فيه مذاهبه
ابن الشديد لأمر الله قدوتنا ... عبد القوي فذا يحلو تعصبه
ابن الكريم المفدى ذاك أحمد من ... ركن المعالي به تسمو جوانبه
ابن المعظم نسل الملك قسوره ... محمد من سمت فينا رغائبه
ابن المتوج تاج الملك في رحم ... إدريس أصغرهم تزهو كتائبه
ابن المسمى بإدريس المليك فكم ... خاض المفاخر فيه الدهر أشهبه
ابن المكمل عبد الله كاملهم ... من حصر أوصافه يعيي تطلبه
ابن الإمام المثنى فضله حسن ... من جمع إحسانه ما لست أكتبه
وهو ابن سبط الرسول المنتقى حسن ... من كان سيده المختار ناسبه
وهو ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ... طراً كما الأخبار تعربه
وهي ابنة الخاتم الهادي محمدنا ... من شرف السلك في الأنساب كوكبه
صلى عليه مع التسليم خالقنا ... ما ضاء في العالم العلوي موكبه
والآل والصحب ما أرخت أي وطر ... يا حبذا الوعد والإنجاز يصحبه
ولد رضي الله عنه وأرضاه في القيطنة من أعمال معسكر بالمغرب الأوسط يوم الجمعة الثالث والعشرين من رجب سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية، ونشأ رحمه الله تعالى في حجر والده إلى أن شب بالعفة والصيانة والطاعة والأمانة مرضي الحال محمود الأقوال والأفعال، مشهوراً بين أقرانه بالجد والاجتهاد دائباً على المطالعة والحفظ والرياضة والانفراد، قد ظهرت عليه من صغره لوائح الفلاح، وتقلد منذ تمييزه بمقاليد الصلاح والنجاح، وأخذ الفقه عن والده عمدة المحققين إمام الكل في الكل السيد محيي الدين، والفقه وغيره عن غيره من العلماء والسادة القادة الفضلاء، ثم رحل للطلب إلى هوران، فأخذ عن علمائها ذوي الإتقان. وكان يحفظ أكثر البخاري متضلعاً باللغة العربية، وله بذلك وبغيره اليد العلية، ولم يزل يكرع من شراب العلم كؤوساً روية، ويلبس للجولان في ميدان القيام بأنواع العبادات دروعاً قوية، وعين الرعاية ترعاه وتساعده على ما قصده وعناه، ويد الرفعة تشير إليه وتطرح تقاليد السعادة بين يديه، إلى أن صار عين زمانه وحدقة إنسان عصره وأوانه، وقد افتخر به من خلف على من تقدم من الأعلام وسلف، ومع ذلك فكان ذا شجاعة علوية، وأخلاق وأوصاف محمدية. ولما قصد حضرة والده البلاد الحجازية، أخذه معه للتشرف بتلك الأماكن والأخذ عن ذوي المراتب الألمعية، فمشى مع والده براً إلى تونس، ثم ركب معه البحر إلى الإسكندرية، ومنها سار إلى مصر ثم إلى السويس فركب معه إلى جدة ومنها إلى مكة، فحج مع والده وزار واعتمر وأدى بقية المناسك كما أخبر النبي وأمر، ثم سار معه إلى المدينة المنورة، فزار قبر جده الشريف وصلى بالمسجد النبوي المنيف، ثم سار معه إلى دمشق الشام، فأقام بها مدة وأخذ عن علمائها السادة الأعلام، كما أخذ عن أهل غيرها ممن مر عليهم في طريقه، غير أنه قد استقام في دمشق الشام مدة، قد بذل بها في طريق النقشية اجتهاده وجده، ثم سار إلى مدينة بغداد لزيارة السيد عبد القادر الجيلاني كعبة الإسعاد، فتكمل بهذه الرحلة، ونال ممن اجتمع بهم من ذوي الفضل كل نحلة، ولبس الخرقة القادرية من يد الأستاذ نقيب الأشراف وخليفة السيد عبد القادر سيدي السيد محمود القادري ذي الفضل الباهر، ثم رجع إلى مكة المشرفة مرة ثانية فحج وزار وتبرك بتلك الآثار السامية، ثم رجع مع والده إلى الأوطان وحالها مضمحل معدوم الراحة والأمان، وقد طال عليهم الأمد وتوالى عليهم الكرب والنكد، وتطاولت إليهم يد الأجانب، وأحاط بهم الهم والغم من كل جانب، وكثر بينهم الفساد وانحازت طوائفهم نحو التخالف والعناد، فتارة يرون كف العدو فرضاً، وتارة يحارب بعضهم بعضاَ، وقد يئسوا من نجدة الدولة العثمانية التي لها عليهم السيادة الحقية، وظهر لهم عجز جارهم سلطان المغرب الأقصى، وبحر الفتن لديهم لا تحد أمواجه ولا تحصى، فاجتمع العلماء والأشراف وأعيان القبائل من العرب وذوي الإنصاف، وقدموا على حضرة والد المترجم السيد محيي الدين وألزموه إما أن يقبل بيعتهم على الملك لنفسه وإما أن يقبلها لولده المترجم المرقوم، ولم يقبلوا له من اعتذار بل أصروا عليه غاية الإصرار، فنظر في هذا الأمر فوجد الاهتمام به واجباً، وقد خطبته هذه الإمارة ولم يكن لها طالباً. بيد أنه لا يقدر على القيام بها بنفسه لكبر سنه وعجزه، فاختار لها ولده المترجم المذكور ذا الفضل الباهر والمشهور، حيث أنه بلغ أشده ونال من الكمال حده، وترشح للإمامة وتأهل لها، حتى لم تكن تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها، لما كان محتوياً عليه من علو الهمة واستقامة الأطوار، وقوة الملكة وتحمل المكاره وحسن الاصطبار، والشجاعة والعلم والسماحة والحلم، والقوة والعزم والإزماع والحزم، والنباهة والتيقظ والمواراة من المخاوف والتحفظ، والعبادة والتقوى في السر والنجوى، إلى غير ذلك من أنواع الفضائل وبديع الشمائل، التي لا بد للملك منها ولا غنى له عنها. فلما علموا من والده الشريف الإجابة ورأوا ما عند المترجم من البسالة والنجابة، نادى المنادون بلا توان باجتماع الأكابر والأعيان. فاجتمع العلماء والأشراف، وأهل الصولة من الأطراف، وكان اجتماعهم بوادي فروحه من غريس فجلس سيدي المترجم تحت دردارة هناك عظيمة، وتقدم والده إليه فبايعه ثم بايعه الناس بيعة عميمة. وفي الحال لقبه والده بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبي جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية. هـ بأمير المؤمنين ناصر الدين، وكانت هذه البيعة خصوصية في محل معلوم، لكنه لما تسامع خبرها حضر إليه الناس من كل جانب وبايعه العموم، حتى أنه لم يبق أحد ممن لم يحضر إلا وقد صدق على بيعته واتقاد لسلطنته وإمرته، وكان ذلك سنة ألف ومائتين وثمان وأربعين، فأسس ربوع الخلافة والسلطان، وشيد أركان دولته برفع الظلم وهدم جدار الطغيان، ثم قامت الحروب بينه وبين الفرنسيس على ساق، واتسع الخرق وقوي الشقاق، ولم يزل يصول عليهم ويوجه سهام الموت الأحمر إليهم، إلى آخر تلك القصة، التي لا يساعدنا الاختصار على ذكر تفصيلها. وقد ألف سعادة ولده الأمير السيد محمد باشا كتاباً مستوفى في ذلك ذكر فيه ترجمة حاله مفصلة من ابتدائها إلى انتهائها. وكتب المؤرخ الفاضل الشيخ محمد بيرم التونسي في كتابه صفوة الاعتبار، فقال: اعلم أن الدولة الفرنساوية لما ترقت في المعارف لا سيما في الأعصر الأخيرة لازمها حب الظهور، وعدم تحمل الهوان، وكانت الدولة العثمانية في شغلها الشاغل من أعمال الينكشارية وحروب الروسية وثورات اليونان وطغيان ولاة الأقاليم وعدم امتثالهم للأوامر، وكان والياً على الجزائر، حسين باشا وكان مستبداً ظلوماً مرتشياً قليل التدبر، وحصل منه إهانة لقنصل فرانسا، وذلك على ما في تاريخ ابن الضياف أن أحد التجار اليهود الأغنياء الجزائريين الملقب ببقرى أبي جناح، له خطلة مالية مع تجار من الفرانسيس، وتداعوا في خسائر من الجهتين، وانتصر حسين باشا لرعيته بالإلحاح على قنصل فرانسا في إنصافه، وآل الأمر إلى صلح يدفع على مقتضاه التجار الفرنساويون إلى التاجر الجزائري مالاً عظيماً وافراً، وأضمر حسين باشا أخذ المال لنفسه لما رآه ذريعاً وراجعاً لرعيته، وتلك كانت من عادته المألوفة له عن أمثاله. ولما قرب دفع المال وإذا بتجار أخر فرنساويين قاموا على بقرى المذكور بدين أوقفوا عليه المال الذي يريد قبضه، فتكدر حسين باشا لذلك كدراً عظيماً وطلب من القنصل رفع الإيقاف، وقال: إن أرباب الدين الفرنساويين يتبعون ذمة المديون بعد قبضه المال، حيث أنه لا حق لهؤلاء الطالبين في المال الذي يدفعه الفرنساويون، فامتنع من ذلك القنصل مستنداً إلى أن المال مال المديون والغرماء حقه عليهم، فحجزوا على المال لاستيفاء حقهم منه، وكان الديون قد دبر هذه الحيلة خوفاً على ماله من الهلاك باستيلاء الباشا عليه، فأعرض الباشا عن القنصل، وكاتب دولة فرنسا فأرسلت الدولة المكتوب بعينه إلى القنصل وأمرته بالجواب عنه، فذهب القنصل عند الباشا لمآرب أخر، فخطابه الباشا في استبطاء جواب مكتوبه الذي أرسله لدولة فرانسا، فقال له القنصل إن المكتوب أرسلته الدولة إلي وأمرتني بالجواب عنه، فسأل عن سبب عدم إجابة الدولة له، فأجابه بما فهم منه احتقاره، وكانت بيد الباشا منشة يطرد بها الذباب فضرب بها وجه القنصل وطرده، وبقي آسفاً على ما فاته من مال بقرى. ثم أن فرانسا تهددت الوالي المذكور على إهانة نائبها، وألحت عليه بأن يطلب منها الرضى ويعترف بالخطأ فأبى وأصر على غلطه، مع أن الدولة العثمانية والدول الأجانب وخواص الأعالي قد حسنوا ذلك له، ودولته أمرته أمراً قطعياً بذلك فأبى، وقد كانت فرانسا في شغل من داخليتها في ذلك الوقت لأن ذلك كان أثر حرب نابليون الأول، وكانت أيضاً متوقية المشاحنة مع العرب ومع الدولة العثمانية، حتى رضيت فرنسا بأن يكلف الباشا أي إنسان كان في باريس بطلب الترضية لكي تندفع هذه المعرة، ولا تلحقه هو مذلة بإرسال أحد من متوظفيه إلى " القنصلاتو " ولا إلى باريس، وكان قصدها بذلك اجتناب الحرب ما أمكن لاشتغالها بحروبها وأحزابها الداخلية، فأصر الوالي على رأيه، وأرسلت فرانسا أسطولها وحاربت بلد الجزائر، واستولت عليها، وحمل ذلك الوالي إلى باريس، ثم مات في إسكندرية.
فداء الجزائر قد ابتدأ منذ انخرم أمر الينكشارية في القسطنطينية التي هي مقر الدولة العامة، ونشأ عنه ما نشأ من فساد الإدارة والولاة، إلى أن أصيبت عدة جهات وباء حسين باشا بالخزي، وأثم الظلم والخراب والتهور الذي كان أعظم النكبات، وانتقلت حالة الجزائر بل وحالة السياسة في شطوط إفريقية الشمالية إلى طور آخر انتهى.
وكان مبدأ استيلاء فرانسا على الجزائر سنة ست وأربعين ومائتين وألف، في مدة كارلوس العاشر ملك فرانسا، وتمكن الفرانسيس أولاً من القاعدة وما حولها، لكن بقية الجهات أصروا على الامتناع من الطاعة لفرانسا، لأنها إنما أرادت الانتقام من الوالي حسين باشا وقد حصل، فالجهات الشرقية من القطر انفرد بالحكم فيها الحاج أحمد باي قسنطينة، والجهات الجنوبية والغربية تشتت تحت رؤساء القبائل، ورام الفرنساويون محاولة تطويعهم بالرفق بأن يتولى الأمر في وهران والي تونس، بإرسال أحد عائلته أو أحد متوظفيه، فأرسل والي تونس واحداً من جهته ومعه شرذمة من الحرس، فلم ينفذ أمره في مدين وهران فضلاً عن خارجها، فرجع من حيث أتى.
ثم أجمعت الجهات الغربية والجنوبية على مبايعة الرجل الوحيد سلالة النسل المطهر الأمير السيد عبد القادر الجزائري بن محي الدين الحسني، وقام لله حق القيام وصحبته النصرة الإلهية في كثير من الوقائع، إلى أن كان في بعضها ما هو خارق للعادة من الكرامات، كطفر فرسه الأزرق به ستين متراً وحين أحاطت به العساكر الفرانساوية كالحلقة، وراموا مسكه باليد فطفر به فرسه على رؤوس العساكر وأسلحتهم ذلك المدى ونجا راكضاً إلى منعته، ودام محارباً لهم نحو سبع عشرة سنة، واستقامت له حكومة ضرب فيها السكة باسمه وأنشأ المدافع والبنادق ونفذ أمره وخشيته فرانسا، وأرسل إلى الحاج أحمد باي ليتحدا ويكونا يداً واحدة، فامتنع تجبراً وطغياناً، وكان ذلك سبباً لتأخر أمره وحطته وغدره، وتنكيس أعلامه واستيلاء الفرانساوية على ما كان تحت أحكامه. وبقي الأمير السيد عبد القادر مدافعاً ومهاجماً إلى أن سولت الغلطات النفسانية المخالفة للديانة الإسلامية لسلطان المغرب الاتحاد مع الفرنسيس على محاربة الأمير السيد المشار إليه، وقطع عنه سلطان المغرب خط التجائه إلى جهات الصحراء، فاضطر حضرة الأمير إلى التسليم للفرنسيس، بعد المشاورة مع وكلائه ووزرائه وأمرائه، حيث سدت المناهج والمسالك وعز الخلاص، ولات حين مناص:
إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها
فأرسل المترجم رسوله إلى قائد الفرنساويين بالميل إلى التسليم، على شروط أرسلها له في رقيم، فقبلها القائد وأظهر الفرح، وزال عنه الغم والترح، ووجه إلى المترجم هدية ذات شان، مفيدة للتودد والأمان، وصدق له على عهده، وأظهر له من الاحتفال غاية جهده. ثم بعد أيام نزل بعائلته ومن معه من خاصته في البارجة الحربية إلى أن وصل إلى دينة أمبواز وبداخلها صرايا عظيمة حصينة، فوضع المترجم بها هو ومن معه، وكان ذلك في شعبان سنة ألف ومائتين وأربع وستين، ثم نقل الأمير منها إلى مدينة بوردو، ثم إلى مدينة نانت، ولما فصل رئيس جمهورية فرانسا وتولاه البرنس لويس نابليون، فاجتهد غاية الاجتهاد وسلك مناهج السداد، في تخليص الأمير من سجنه، وتسريحه إلى مكان يحول بينه وبين كدره وحزنه، فلم يزل يوجه إليه الرسائل، ويعمل في الحضور لديه الوسائل، إلى أن توجه نابليون إلى امبواز، ووعده بالوفاء بالعهد على الحقيقة لا المجاز، وقال له إنك بعد أيام تكون في باريز عاصمة ملكنا، ويكون لك كمال القدر عندنا، وكان قد أقام في امبواز أربع سنوات، فما مضى قليل من الأيام إلا وجاء الأمر بحضور الأمير إلى باريز بالجلالة والاحترام، فدخل في موكب لم يكن لغيره، وساق الله إليه جميل بره وإحسانه وخيره. ولم يزل في عز واحترام وجلالة وإعظام. يدور حيث شاء ويجتمع مع الأكابر والعظماء، إلى أن صدر الأمر من الذات الإمبراطورية بتسريح حضرته الآستانة العلية، وذلك في ربيع الأول سنة تسع وستين ومائتين وألف، فسافر هو ومن معه إلى الآستانة ولا يمر في طريقه على بلدة إلا ويتلقاه أهلها بالحبور وغاية السرور إلى أن وصل إلى الآستانة دار الخلافة العثمانية، واجتمع بأمير المؤمنين مولانا السلطان عبد المجيد فأجله وعظمه وأكبره واحترمه، وقال له أنت صاحب الرأي في سكناك في أل محل شئت من الممالك العثمانية والبلاد الإسلامية، فخرج من عنده حامداً شاكراً، داعياً له بدوام السعادة أولاً وآخراً، وأنشأ هذه القصيدة وقدمها لحضرته العالية السعيدة، وهي:
الحمد لله تعظيماً وإجلالا ... ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالا
والشكر لله إذ لم ينصرم أجلي ... حتى وصلت بأهل الدين إيصالا
وما أتت نفحات الخير ناسخة ... من المكاره أنواعاً وأشكالا
وامتد عمري إلى أن نلت من سندي ... خليفة الله أفياء وأظلالا
فالله أكرمني حقاً وأسعدني ... وحط عني أوزاراً وأثقالا
قد طال ما طمحت نفسي وما ظفرت ... لكن للوصل أوقاتاً وآجالا
اسكن فؤادي وقر الآن في جسدي ... فقد وصلت بحزب الله أحبالا
هذا المرام الذي قد كنت تأمله ... هذا مناك فطب حالاً بما آلا
وعش هنيئاً فأنت اليوم آمن من ... حمام مكة إحراماً وإحلالا
فأنت تحت لواء المجد مغتبطاً ... في حضرة جمعت قطباً وأبدالا
وته دلالاً وهذا العطف من طرب ... وغن وارقص وجر الذيل مختالا
آمنت من كل مكروه ومظلمة ... فبح بما شئت تفصيلاً وإجمالا
هذا مقام التهاني قد حللت به ... فارتع ولا تخش بعد اليوم أنكالا
وابشر بقرب أمير المؤمنين ومن ... قد أكمل الله فيه الدين إكمالا
عبد المجيد حوى مجداً وعز علاً ... وجل قدراً كما قد عم أفضالا
كهف الخلافة كافيها وكافلها ... من لا عهدنا له في القرن أمثالا
يا رب فاشدد على الأعداء وطأته ... واحفظ حماه وزده منك إجلالا
واظهرن حزبه في كل متجه ... وسددن منه أقوالاً وأفعالا
وابسط يديه على الغبراء قاطبة ... وذللن كل من في لأرض إذلالا
فالمسلمون بأقصى الغرب طامحة ... أبصارهم نحو يرجون إقبالا
كم خائف يرتجي أمناً بسطوته ... وحائر يرتجي للحزن تسهالا
فرع الخلافة وابن الأكرمين ومن ... شادوا عرا الدين أركاناً وأطلالا
كم أزمة فرجوا كم غمة كشفوا ... كم فككوا عن رقاب الخلق أغلالا
هم رحمة لبني الإيمان سائرهم ... هم الوقاية أسواء وأهوالا
أنصار دين النبي بعد غيبته ... في نصره بذلوا نفساً وأموالا
قد خصهم ربهم في خير منقبة ... ما خص صحباً بها قبلاً ولا آلا
كم حاول الصحب والآل الكرام لها ... والله يختص من قد شاء إفضالا
ما زال في كل عصر منهم خلف ... يحمي الشريعة أقوالاً وأفعالا
حتى أتى دهرنا في خير منتخب ... من آل عثمان أملاكاً وأقيالا
قد كنت مضمر خفض ثم أكسبني ... رفعاً وقد عمني جوداً وأفضالا
وبالإضافة بعد القطع عرفني ... وقد نفى عني تصغيراً وإعلالا
هذا وحق علاه منتهى أملي ... قد حط عني بمحض الفضل أثقالا
لا زال تخدمه نفسي وأمدحه ... مستغرق الدهر أبكاراً وآصالا
أهدي مديحي وحمدي ما حييت له ... أفادني أنعماً جلت وإقبالا
جزاه عني إله العرش أفضل ما ... جازى به محسناً يوماً ومفضالا
ولم تزل الباخرة واقفة على الآستانة عشرة أيام، وهو في كل يوم يزور الكبراء والعظماء والوكلاء ويزورونه، وقد كفله السلطان عبد المجيد حينما طلبت دولة فرانسا من السلطان المومى إليه أن يكفله، وبعد أن استقام عشرة أيام، والطعام في كل يوم يأتيه من السرايا إلى الباخرة، توجه إلى بروسة فدخلها يوم الاثنين السابع من ربيع الثاني سنة 1269 وتلقاه واليها خليل باشا صهر الذات الشاهانه ومعه العلماء والوزراء والكبراء، ثم أنه لم يستقر به الأمر أياماً حتى جاء عنده خليل باشا بأمر السلطان المعظم يخبره بأن مراد الدولة العلية أن تعين له معاشاً يكفيه مع الاتساع هو ومن يلوذ به، فسر المترجم بذلك، ووجه لأمير المؤمنين ما يليق من الدعوات، غير أنه اعتذر بأن إمبراطور فرنسا قد عين له ما يكفيه ويكفي من معه، وأما حضرة أمير المؤمنين فإن ما أسداه إليه من كفالته عند فرنسا فإنها هي المنة التي لا تقابلها منة، حيث أنه لولاها لم يتيسر له الخروج من بلاد فرنسا. ثم أنه لما رأى ما عرا هذه المدينة من كثرة الزلازل، ورأى أن جماعته قد ضاقت صدورهم من الإقامة بها، وقد تحسن عندهم تبعاً لسعادة الأميرة الرحلة إلى دمشق الشام، فسافر إلى الآستانة أول ذي الحجة سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، ثم إلى باريز فتلقاه الإمبراطور ورجال الدولة بكل عظمة وإجلال، ثم رجع إلى الآستانة وقدم الاستئذان من الباب العالي بالرخصة له أن يرحل إلى دمشق الشام، فصدرت أوامر الدولة العلية لمحمود نديم باشا والي دمشق بالاستعداد لقدومه، وإعداد محل لائق به. ثم أن الأمير المرقوم غب حضور الإذن رجع إلى بروسة، وفي خامس ربيع الثاني خرج منها بمن معه وكانوا مائتين نفس فركب بهم باخرة فرنساوية إلى بيروت، فاستقبله الخاص والعام واهتزت لقدومه أنحاء الشام، وبقي قليلاً من الأيام ثم رحل ودخل الشام، وكان قد خرج للقائه أهل البلد، ولا يبعد أن يقال ما شذ منهم أحد، فتألف الكبير والصغير وشملهم بامتنانه وبشره الغزير، ثم بعد أن استراح من السفر وزال عنه النصب والكدر، توجه إلى بيت المقدس للزيارة الشريفة، وكان ذهابه من طريق صفد، وإيابه من طريق حوران، تتميماً للزيارات الواقعات في الطريقين وذلك سنة 1273.
وبعد ذلك في رمضان من تلك السنة، قرأ في المدرسة الأشرفية المشهورة بدار الحديث الواقعة في العصرونية صحيح الإمام الحافظ المجتهد أبي عبد الله البخاري، وكان ختامه في اليوم الرابع والعشرين من شوال سنة أربع وسبعين ومائتين وألف.
وفي نصف ذي الحجة الحرام سنة ألف ومائتين وست وسبعين حينما وقعت الحادثة الكبرى في نصارى الشام، وكان قد تعدى عليهم بعض الأشقياء المتوحشين فقتلوا وأضرموا النيران في أملاكهم ونهبوا متاعهم، فحصل من الأمير المرقوم ما يدل على كمال غيرته ومروءته وتمدنه من خلاصهم والإحسان إليهم، وبذل كمال المعروف، وقد كافأه حضرة أمير المؤمنين السلطان عبد المجيد خان بالكتاب الذي أرسله إليه بخطاب التفخيم والاحترام، مع النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، وتواردت عليه كتابات بقية الملوك مع النياشين ذوات الفخر والقدر.
وتفصيل ذلك مذكور في كتاب مناقب المترجم من تأليف ولده المحترم سعادة محمد باشا الذي سماه بالكوكب الزاهر، في أخبار الأمير عبد القادر. وفي سنة سبع وسبعين ومائتين وألف توجه إلى حمص وحماه وغيرهما بقصد الزيارة للمشاهد العظيمة، ولما وصل إلى حماة ونزل في طيارة بني الكيلاني، ورأى الناعورة أنشد:
وناعورة ناشدتها عن حنينها ... حنين الحوار والدموع تسيل
فقالت وأبدت عذرها بمقالها ... وللصدق آيات عليه دليل
الست تراني ألقم الثدي لحظة ... وادفع عنه والبلاء طويل
وحالي لحال العشق بات محالفاً ... يدور بدار الحب وهو ذليل
يطأطئ حزناً رأسه بتذلل ... ويرفع أخرى والعويل عويل
وفي أول رجب سنة ألف ومائتين وتسع وسبعين توجه إلى الحجاز من جهة البحر، فنزل من بيروت إلى الإسكندرية ثم إلى مصر، بكل عز وإكرام، ثم إلى مكة، وبعد أيام أخذ الطريقة الشاذلية عن العارف بالله الشيخ محمد الفاسي واختلى مدة في غار حراء فبلغ مطلوبه ونال مرغوبه، وفتحت له كنوز الأسرار وكشف له عن رموز الستار، وبرقت له البوارق ووردت عليه الواردات من المنهل الرائق، وبعد خروجه من غار حراء، توجه إلى الطائف الشريف فمكث هناك نحو ثلاثة أشهر، وهو على اشتغاله واجتهاده في الطريق، ونظم هناك قصيدته التي يذكر بها بدايته ونهايته، ويمدح بها شيخه ويذكر خلافته وولايته، وأولها:
أمسعود جاء السعد والخير واليسر ... وولت جيوس النحس ليس لها ذكر
إلى أن قال:
أتاني مربي العارفين بنفسه ... ولا عجب فالعسر من بعده يسر
وأعني به شيخي الإمام وعدتي ... لهيبته تغضي له الأسد والنمر
محمد الفاسي له من محمد ... كمال الرضى والحال والشيم الغر
أبي حسن لو قد رآه أحبه ... وقال له أنت الخليفة يا بحر
إلى آخرها، وهي طويلة ذكر بها أسراراً وأموراً تدل على بعض ما حصل له من الفتح الرحماني والكشف الصمداني.
وفي أول يوم من جرب سنة ثمانين ومائتين وألف، توجه إلى المدينة المنورة من طريق جدة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من جرب، واستقبله أشرافها وحكامها وعلماؤها، ثم بعد مدة طلب من حضرة الهمام الشريف صاحب المقام المنيف السيد أحمد أسعد أن يهيء له محلاً يختلي فيه للعبادة مدة، فهيأ له المحل الذي كان لسيدنا الصديق قدس الله سره وبابه من المسجد الشريف، فاختلى فيه شهرين، وحصل له ما حصل ووصل إلى ما إليه وصل، ولم يزل في المدينة الشريفة والبلدة المنفية، إلى أن حضر ركب الشام فتوجه معه إلى مكة والبلد الحرام، وبعد إتمام حجه توجه إلى جده في الرابع عشر من ذي الحجة الحرام، وفي التاسع عشر ركب في الوأبير المصري، ولم يزل تستقبله الولاة والكبراء والعلماء والوزراء، إلى أن دخل دمشق الشام، في التاسع عشر من المحرم سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف فاستقبله الخاص والعام، فقابلهم كعادته بالبشر والسرور والفرح والحبور، وبعد استراحته من رحلته وسياحته سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف، عزم على السفر إلى الآستانة لزيارة الخليفة الأعظم والسلطان الأفخم، مولانا السلطان عبد العزيز خان، فقابلته الدولة بما لاق وعاملته بما اشتهر في الآفاق، وأتاه حضرة الصدر الأعظم من طرف أمير المؤمنين بالنيشان العثماني من الرتبة الأولى، وكان إذ ذاك مسند الصدارة العظمى حضرة فؤاد باشا. وفي تلك الأيام قدم المترجم الرجا والشفاعة لحضرة أمير المؤمنين في تسريح الذوات الشاميين المنفيين إلى قبرص وردس فقبلت شفاعته وخرج الأمر العالي بتسريحهم، وقد تعرض لذلك العالم الجليل والفاضل النبيل، مفتي اللاذقية السيد عبد الرزاق أفندي فتاحي الحسيني في موشحه الذي قدمه لحضرة مولانا المترجم المرقوم وهو:
سلت لفتكي من الأحداث هنديا ... خود حكى قدها بالميل خطيا
دور
رشيقة القد بالأعطاف تسبيني ... تسمو بطلعتها حسناً على العين
رضابها العذب منه الرشف يحييني ... وقد دعاني بفرط الوجد مسميا
دور
يا بانة اللطف كم ذا تهجرين الصب ... مني بطيب اللقا وارعي حقوق الحب
متى تجودين يا أخذ المها بالقرب ... لمغرم قد غدا بالشوق مضنيا
دور
ما لي إذا ما جفا الأحباب أو بعدوا ... سوى الأمير الذي وافى به الرشد
السيد الشهم عبد القادر السنة ... مولى غدا عرفه في الكون عطريا
دور
سليل ذي الفضل محي الدين والحسن ... في نسبة منتهاها صاحب السنن
بدر الجزائر من وافى على سنن ... غدا به عند رب العرض مرضيا
دور
في فتنة الشام كم وفى من الهمم ... حتى حكى صنعه ناراً على علم
وقد حبته ملوك الأرض بالنعم ... وللفخار نياشيناً زهت زيا
دور
وقد أتم صنيع الخير حيث سرى ... لباب سلطاننا الأسمى الرفيع ذرا
يرجوه إطلاق من في النفي فاعتبرا ... منه المقام وبالبشرى له حيا
دور
وقد بلغنا جميعاً غاية الأمل ... بحسن إقدام هذا السيد البطل
من فاق فينا بحسن العلم والعمل ... لا زال دهراً من الأسواء محميا
وله في ذلك أيضاً:
بشرى فقد نلنا المنى ... والغم زال والعنا
دور
الله عودنا الجميل ... من فيض إحسان جزيل
لا بد للخطب الجليل ... من منحة فيها الهنا
دور
كم شدة ذاب الفؤاد ... منها وجافانا السهاد
قد حفها لطف فعاد ... فيها لنا يسر دنا
دور
صبراً أخا العقل السليم ... ورضى بتقدير الحكيم
فالله ذو الفضل العظيم ... فبفضله قد عمنا
دور
بالصبر قد حزنا الفرج ... وبه لنا فاح الأرج
والغم زال كذا الحرج ... مع كل كرب أحزنا
دور
قد فاز عبد القادر ... رب الكمال الباهر
بجزيل أجر وافر ... لما بذا الخير اعتنى
دور
بدر الجزائر ذو العلا ... من فاق قدراً في الملا
بحر لوراد حلا ... وفي العطا مولى الغنا
دور
ليث الوغى رب الندى ... سامي الذرا شمس الهدى
أهل التقى نور بدا ... يمحو الدياجي بالسنا
دور
في فتنة الشام الشريف ... قد سكن الخطب المخيف
بحزمه الوافي المنيف ... خف البلا عن قطرنا
دور
للوسع أضحى باذلاً ... وقد رقى منازلا
وله الملوك عاجلاً ... أهدوا نياشين الثنا
دور
ثم انتضى العزم الوفي ... لرد من منا نفي
فنحا حمى الليث الصفي ... بدر الملوك عزنا
دور
سلطاننا عبد العزيز ... غوث الملا الحرز الحريز
سامي الذرى الغوث المجيز ... من بالمراد أمدنا
دور
إلى حماه قد ورد ... قد فاز منه بالمدد
وأجابه فيما قصد ... وعفا له عمن جنى
دور
وحباه نيشان افتخار ... وأحله أوج الوقار
فسما له ذكر وسار ... مع ما من الخير اقتنى
دور
ندعوك رب العالمين ... بالمصطفى طه الأمين
أيد أمير المؤمنين ... سلطاننا غوث الدنا
دور
واعطف بفضل وافر ... للشهم عبد القادر
سبط النبي الطاهر ... من قد هدانا سبلنا
دور
واحفظ لنا أشباله ... وامنحهم إقباله
يسر له آماله ... وافتح له يا ربنا
وبعد أن أقام حضرة الأمير المترجم مدة شهرين في الآستانة، توجه إلى فرنسا فاهتز القطر لقدومه، وتحرك لاستقباله ركن العاصمة من حاكمه ومحكومه، ونال من القدر أعلاه ومن الاحتفال أجلاه وأولاه. وقابل الإمبراطور نابليون وجلس معه ساعة وبذل له من الاحترام اتساعه، ثم بعد أيام رحل إلى لوندرا مملكة الإنكليز، وحصل له من الدولة والأهالي كل قدر عزيز، ثم بعد تمام اطلاعه على تلك المحلات رجع إلى باريز، وغب وداع الإمبراطور ورجال الدولة توجه إلى وطنه دمشق الشام، وكان قد زيد له في معاشة في كل سنة خمسون ألف فرنك، فصار جملة معاشه في كل شهر ستمائة ليرة فرنساوية، اثنا عشر ألف فرنك، ولا زال في طريق رجوعه إلى الشام إلى أن وصلها، لا يمر على بلدة إلا ويقابل بكل مقام عال، ولما أقبل على الشام خرج أكابرها وعلماؤها لاستقباله والسلام عليه، فعاملهم بأحسن معاملة ولاطفهم غاية الملاطفة، وكان يحادثهم بما أنعم الله به علي تحدثا بنعمة الله تعالى.
وفي تشرين الثاني سنة ألف وثمانمائة وتسع وستين الموافق سنة ألف ومائتين وخمس وثمانين، دعي إلى حضور فتح خليج السويس كما دعي إلى ذلك أعيان العالم، فاجتمع في مصر بإمبراطورة فرنسا وكان له منها الاحتفال العظيم والالتفات الجسيم، ثم عاد إلى الشام بعد مدة قريبة.
وفي سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين، خرج ومعه بعض أولاده السادات وبعض خواصه وخدمه إلى طبرية وصفد ونواحيهما للتنزه والفرجة، وكان الوقت وقت الربيع، وأقام في تلك الرحلة نحو أربعين يوماً، وكان لي بحمد الله منه الحظ الأوفى والالتفات الأجدى الأجدر، والعناية العالية والبشاشة السامية، وحضرت عليه مع من حضر كتاب فتوحات الشيخ الأكبر، ورسالة عقلة المستوفز له، وكتاب المواقف للمترجم المرقوم، وهو كتاب كبير في الواردات التي وردت عليه ونسبت إليه. وكنا لا يرد علينا إشكال من آية أو حديث أو غير ذلك إلا وأجاب عنه بأحسن جواب، من فتح الملك الوهاب، وكان في كل مدة قليلة يدعونا إلى بعض محلاته خارج البلد، فكان يدخل علينا كل سرور ويفرغ علينا كل حبور، وفي كل سنة في أيام الصيف كان يخرج إلى قصره في أرض دمر، فكان يأمرني بالخروج معه، ولا زلت ملازماً لها إلى أن توفي.
وفي غرة رجب سنة ألف وثلاثمائة ابتدأه مرض المثانة وحصر البول، ولا زال يقوى عليه إلى الساعة السابعة من ليلة السبت التاسع عشر من رجب، فدعاه مولاه إلى جنابه وفسيح رحابه، وذلك في قصره في قرية دمر، فلما أصبح الصباح ماج الناس بالعويل والصياح. ونقل في عربته من قصره في دمر إلى داره في الشام، ثم غسل في داره بحضرة العلماء الأعلام، وصلي عليه في جامع بني أمية في مشهد لم يسبق لمثله، وخرج معه الناس أجمع مع الخضوع والتذلل، إلى أن دفن في الصالحية من دمشق في مدفن الشيخ الأكبر محي الدين العربي شمالي قبره الشريف، ليس بينه وبين الحائط الشمالي قبر آخر وكتب على بلاطة القبر الشريف من نظم الأخ الفاضل عبد المجيد أفندي الخاني:
لله أفق صار مشرق دارتي ... قمرين هلا من ديار المغرب
الشيخ محيي الدين ختم الأوليا ... قمر الفتوحات الفريد المشرب
والفرد عبد القادر الحسني الأمير ... قمر المواقف ذا الولي ابن النبي
من نال مع أعلى رفيق أرخوا ... أزكى مقامات الشهود الأقرب
في تاسع عشر رجب سنة ألف وثلاثمائة وقد رثاه كثير من العلماء الأعلام والشعراء الأدباء الكرام، منهم العلامة محمد إسحق أفندي الأدهمي الطرابلسي:
قامت عليك قيامة العلماء ... يا سيد العلماء والأمراء
وبكتك أجفان المكارم والعلا ... يوم النوى ممزوجة بدماء
هذا مصاب ما أصيب بمثله الإسلام بعد السادة الخلفاء
من لليتامى والأرامل يا ترى ... بعد الأمير ومن إلى الفقراء
ومن الذي يولي الجميل تفضلاً ... ويجود بالصفراء والبيضاء
ومن الذي يرجى لهذا الدين إن ... خفنا عليه سطوة الأعداء
من للمساجد والرياضات التي ... أرضيت فيها عالم السراء
تالله من بعد الأمير المرتضى ... ما ثم إلا كاشف الضراء
مات الأمير السيد الحسني عبد القادر ابن السادة الكرماء
أسفي على قمر بأفق سما العلا ... قد كان يحلف غرة الظلماء
القانت الأواب من أحيت موا ... قفه لنا العربي ذاك الطائي
علامة الآفاق ذاك العارف الغو ... ث المعظم بضعة الزهراء
أسفي على من كان يستسقى به ... صوب الغمام وصيب الأنواء
إلى أن قال:
أما الأمير فقد غدا في جنة ... المأوى وجاور أكرم الكرماء
وغدا ينادي نلت ما أملته ... من خالقي وبلغت كل مناء
وسعادة الدارين حزت فأرخوا ... طيباً بحسن الظن من مولائي
سنة 1300 وهي قصيدة طويلة تزيد على ثمانين بيتاً.
ورثاه أيضاً الشيخ طاهر أفندي المغربي السمعوني فقال:
خطب جسيم عم بالأكدار ... ما بعده لسواه من مقدار
لو يعتري صم الجبال لأصبحت ... دكاً تنثر مثل نثر غبار
ولو اعترى نوع النبات لما نما ... ولصار مثل الترب والأحجار
إلى أن قال:
لو كان في الموت الفداء فداه ... م كل سميدع ندب من الأحرار
لكنه أمر على كل الورى ... متحتم في سابق الأقدار
إلى آخرها.
وممن رثاه حسن أفندي بيهم البيروتي:
بأي جناح سامنا صرفه الدهر ... أم الدهر خب من خلائقه الغدر
وعن حسد ما انتابنا من خطوبه ... وما نابنا إلا الخديعة والمكر
هو الدهر لم يحسن لمن كان قبلنا ... ولا يرتجى خير الذي طبعه الشر
يمد لنا بالنائبات أكفه ... أليس لهذا المد عن مسنا جزر
ويبغي ولا يبغي البقاء لغيره ... ولا بد يوماً أن يذوق الردى الدهر
ويحسدنا في كل شهم سميدع ... ولا عجب إذ كان في طبعه كبر
فليس من الحزم الوثوق بعهده ... فما عهده إلا الخلابة والخفر
لقد زادنا طعناً فأدمى قلوبنا ... وقابلنا بالكسر فامتنع الجبر
وأورثنا ريب المنون مصيبة ... لها ارتجت الأفلاك وانقضت الزهر
لها الأرض مادت والجبال تزلزلت ... لها صعق الأحيا وقد قضي الأمر
ومنها:
بها جاء ناعي البرق يرعد قلبنا ... فأمطرت الآماق ما ضمه الصدر
عشية عين الغرب حجب نورها ... دجى الشرق حتى لا يخال له فجر
مصاب به العلياء تبكي أميرها ... وكل امرئ من ذا المصاب به شطر
أجل مات عبد القادر الحسني من ... به سادت السادات وافتخر الفخر
ومنها:
به ملتقى البحرين للعلم والندى ... ففي صدره بحر وفي كفه بحر
وكانت أياديه ولا من بعدها ... مناهل جود ليس يسبقها نهر
وهي طويلة تنوف عن خمسين بيتاً.
وممن رثاه أيضاً الأديب الأريب أبي النصر أفندي السلاوي المغربي فقال:
على نفسه فليبك من كان باكيا ... فمن مات من نال الحظوظا العواليا
هو الحق والدنيا لعمرك باطل ... ومن ينأ عنها كان للخير دانيا
وما الناس إلا بين نوم ويقظة ... يسومون بالبخس النفوس الغواليا
وأي امرئ آتاه مولاه رشده ... غدا زنده نحو الترحل واريا
ومن لم يسر في يومه سار في غد ... إلى حيث ألقى السابقون المراسيا
بلى كل نفس سوف يأتي كتابها ... ويحظى بعقبى الدار من كان راضيا
لنا في رسول الله يا قوم أسوة ... نقضي بها أيامنا واللياليا
وليس سوى التسليم والصبر ملجأ ... إذا زلزل الخطب الجبال الرواسيا
لئن ساءنا فقد الأمير فإننا ... بمطلوبه العالي نمني الأمانيا
تولاه مولاه الذي يبسط العطا ... لمن شاء بالحسنى ويجزي المواليا
ترقت به النفس الشريفة للعلا ... ولبت إلى نعم الرفيق المناديا
وما ذاك إلا أنه كان سالكاً ... سبيل الهدى بعد النبيين راعيا
مشيداً عماد الدين من شرع جده ... مقيماً حدود الله بالعهد وافيا
رؤوفاً رحيماً دائم الشكر والرضى ... حليماً عليماً للفضائل حاويا
سميعاً بصيراً لا أرى غير أنه ... سواء لديه الأمر جهراً وخافيا
يمد أيادي المحسنين بفضله ... ويغفر للمستغفرين المساويا
ويبسط للراجين من بحر جوده ... على الرفد والإقبال منه الأياديا
وكم من سحاب كان للناس ممطراً ... سواريه تحكى من عطاه الغواديا
وكم نعمة من فضله طاب غرسها ... لدينا ونرجو أن تدوم كما هيا
وإنا وإن كنا فقدناه واحداً ... وقد عز أن يأتي به الدهر ثانيا
فأنجاله الأمجاد فيهم كفاءة ... بإحرازها حازوا الثنا والمعاليا
على أنه ألقى إليهم زمامها ... فقادوا بأسباب الكمال النواصيا
وأرشدهم حتى أتاه يقينه ... وجد إلى دار السعادة ساريا
فهم بعده أقمار مجد صفاتهم ... نجوم عن الأرجاء تجلو الدياجيا
ونعم الكرام الفائزون بألفة ... ترد الردى عنهم وتردي الأعاديا
ألا يا بني قطب الوجود تمسكوا ... بحسن التواخي تشكرون المساعيا
وكونوا من الدنيا على قلب واحد ... تناولن بالحزم الحظوظ القواصيا
ولا تأسفوا فالصبر أجدر بالفتى ... إذا أبرم الرحمن ما كان قاضيا
هنيئاً له بالبشر والفوز أنه ... غدا مكرماً في جنة الخلد راضيا
وله أيضاً مؤرخاً:
يا طالب الإمداد دونك روضة ... قد حل في أرجائها القمر المنير
الفرد عبد القادر الحسني من ... هو في الحقيقة وارث القطب الشهير
تاقت لحضرته الكريمة نفسه ... فحوى بحسن جواره حسن المصير
بشرى لمن وافى رحاب ضريحه ... يرجو إغاثته إذا عز النصير
فبسره تقضى الحوائج كيفما ... كانت بعون عناية الملك القدير
ولذا لسان الحال قال مؤرخاً ... حي بدار الخلد مولانا الأمير
وممن رثاه العالم المجيد، والشاعر الذي حكى شعره شعر لبيد، فقال:
إنما الدنيا وإن طال مداها ... ليس للمرء بقاء في حماها
دأبه الفكر بما يعمرها ... وهو منقول إلى دار سواها
لو درى مقدار ما يحيا بها ... آثر الزهد ولم يعشق غناها
هو منها دائماً في خطر ... وترى خاطره في مشتهاها
إنه عما جرى منه بها ... غافل كالعين لم تنظر قذاها
لا يلم من لامه في حبها ... حيث يعطي نفسه فيها هواها
هي شوهاء عجوز إنما ... تتجلى كعروس في حلاها
إلى أن قال:
فجعتنا بأمير كامل ... كان يهدي كل نفس لهداها
هو عبد القادر الشهم الذي ... قد حوى بين الملا عزاً وجاها
سيد إن ذكرت أوصافه ... يعبق المحفل من طيب شذاها
أصله في الأرض أضحى ثابتاً ... وله فرع تسامى لسماها
كان ذا علم وحلم وتقى ... ووقار وسماح لا يضاهى
كان للآداب سوقاً أهلها ... ربحت أنفسهم منه مناها
كان في الغرب وفي الشرق حمى ... يرتجي الناس به دفع أذاها
ودمشق الشام منه قد خلت ... كسماء فقدت شمس ضحاها
أسفاً لو يقبل الموت الفدا ... لفدته كل نفس برضاها
أي عين قد بكته دهرها ... فلتلك العين عذر في بكاها
قبره لو أنه يدري بما ... حازه ساكنه تاه وباهى
إلى آخر القصيدة. وممن رثاه أيضاً الشيخ إبراهيم الأحدب:
أصم نداء الخطب للمجد مسمعاً ... وراع المعالي والعوالي بما نعى
وهذا منار العز لفح سمومه ... وما صد عن هام العلى حين صدعا
تداعى له ركن الفخار وقد هوى ... به كوكب العلياء هولاً بما دعا
فلا كان يوم السبت يوم مصائب ... فقد جاء ظهراً فيه للنجم مطلعا
وقد راع أصحاب العبا وقع حادث ... بفقد إمام جل في الكون موقعا
وألوى بعبد القادر الدهر عادياً ... على قدر ساء الكرام وروعا
إلى آخرها، وهي طويلة تنوف عن ستين بيتاً.
وممن رثاه تاج الأدباء وقطب مدار الشعراء، محمد أفندي الهلالي الحموي فقال:
سهام قضاء الله ليس لها رد ... وكأس الردى ما من إذاقته بد
بلى كل شيء هالك غير وجهه من ... له الحكم حتماً لا شريك ولا ضد
محال إذا جاء المقدر حيلة ... لمستعصم من أن يلم بد كد
عناء حياتي كلها بعد سيد ... به فجع الإسلام والعلم والمجد
وأظلمت الأوطان حين بجسمه ... تنورت الأكفان وابتهج اللحد
سقى وابل الرضوان أعطر مرقد ... حوى بحر فضل ما لتياره حد
كأن لم يكن بر كأن لم يكن تقى ... كأن لم يكن صدق كأن لم يكن رشد
طوى الكل بعد النشر بعض من الثرى ... فلم يبق إلا الذكر والشكر والحمد
مضى الجود والإحسان والعفة انقضت ... وصاحبها العرفان والحلم والزهد
مضى ابن بني الزهراء حقاً لجده ... فيا حبذا الأبناء والأب والجد
معز اليتامى والأرامل كنزهم ... إذا الضبع الشهباء ذلت بها الأسد
بروحي بروحي آه لو يفتدى بها ... أمير بأمر الله جد به الجد
هنيئاً لجنات النعيم بقرب من ... أرانا جحيم الحزن من بعده البعد
هنيئاً لمحيي الدين قدس سره ... بجار حماه اليمن للجار والسعد
مصاب أصاب الدين لو أن بعضه ... على أحد لا ندك من هوله أحد
قيامة رزء لو ترى الناس بالبكا ... محاجرهم جرحى وأعينهم رمد
لهم زحل بالذكر لله والدعا ... وأدمعهم سحب وأهوالهم رعد
سكارى وما هم بالسكارى وإنما ... وفاة ابن محيي الدين حق بها الوعد
سرى نعشه فوق الرقاب وحوله ... ملائكة الرحمن أنوارهم تبدو
لقد جل عن أن يدفنوه بروضة ... هي الروح والريحان والمسك والند
تقي نقي جاور الله في البقا ... وأقبل بالبشرى على القادر العبد
وقور غيور ناسك متواضع ... على أنه المقدام والأسد الورد
على أنه البسام يوم كريهة ... إذا عبست من تحت فرسانا الجرد
فتى من رجال الله كان على العدى ... حساماً صقيلاً لا يفل له حد
فتى كان لا يخشى من الخصم سطوة ... وليث الشرى حاشا يروعه القرد
فتى في سبيل الله كان مجاهداً ... وليس له إلا رضى ربه جهد
همام كمي كم أزاح ملمة ... بسيف رقاب المعتدين له غمد
هزبر هصور في الجزائر كم له ... وقائع لا يقوى على حصرها عد
سراج على سرج الجواد كأنما ... من الرعب والإرهاب يقدمه جند
نعيناه للمحراب والحرب والندى ... فكل علاه الحزن والسهد والوجد
عطاء ولا من وعفو ولا حقد ... وجبر ولا كسر وود ولا صد
حسان مزايا بانتقال حليفها ... تعطل جيد المجد وانفصم العقد
لحى الله داراً للزوال نعيمها ... وأولها مهد وآخرها لحد
غرور حياة وهي غراء حية ... بأنيابها سم يمازجه الشهد
فتاة تراها وهي شر عجوزة ... كما الدهر لم يصرم حبائلها الشد
تصيد البرايا واحداً بعد واحد ... فلم ينج منها لا كريم ولا وغد
مجربة تباً لها من خؤونة ... فلا موثق منها يدوم ولا عهد
عروس ولكن المحال حليها ... لها المين مرط والخداع لها برد
لعوب كما الصهبا بألباب أهلها ... تروح بهم طوراً وطوراً بهم تغدو
فما نصحت إلا وغشت وهكذا ... قياس قضاياها بنا العكس والطرد
شكونا ونرد الدهر ليس بسامع ... وهل تنفع الشكوى إذا حكم النرد
فلس لنا إلا التوكل والرضى ... بما قد قضاه الواحد الأحد الفرد
فصبراً جميلاً إنها لمصيبة ... يذوب أسى من حرها الحجر الصلد
ولكن إذا في نار حزن ثوى الحجا ... خبت ومع التسليم أخمدها البرد
وآل رسول الله أولى من الورى ... بأن يتحلوا بالوقار ويعتدوا
هم الحسنيون الألى صوت صيتهم ... به ألسن الإحسان ما برحت تشدو
هم الكاظمون الغيظ والصابرون هم ... رياحين زهراء النبي إذا عدوا
وهم عدتي في شتي وذخيرتي ... بدنياي والأخرى هم القبل والبعد
ولا سيما أنجال من قد مضى ومن ... رحيق شراب الأنس طاب له الورد
مصابيح فضل عظم الله أجرهم ... ولا ساءهم من بعد من فقدوا فقد
وأبقاهم الرحمن للناس رحمة ... سحائبها يروى بها الغور والنجد
نعم كلهم نجب كرام ثوابت ... لدى الروع حتى أن أصغرهم طود
وأكبرهم من دونه الدهر همة ... بغيرة ندب أوحد ما له ند
محمد السامي سماء مقامه ... على الشمس لا نكر هناك ولا جحد
أمير وجيه الوجه والجاه كوكب ... منير به العلياء تم لها السعد
لإحسانه تصبو العفاة وحسنه ... تحن له ليلى وتشتاقه هند
بديع معان عن أداء بيانها ... لقد كلت الأقلام والألسن اللد
كفى بشذاه سيرة وسريرة ... فما الشيخ ما القيصوم والبان والرند
وما غايتي بالمدح إلا تشرفي ... بأروع من بيت القصيد هو القصد
إليه سرت أسرار والده الذي ... بعدن مع الأبرار طاب له الخلد
وسار إلى المأوى بتاريخه وقد ... دعاه بجنات البقا رجب الفرد
سنة 1300 هـ.
عليه من الرب الرحيم السلام ما ... بكت مقلة وابتل من دمعها خد
وما ابن هلال راح ينشد قائلاً ... سهام قضاء الله ليس لها رد
وممن رثاه مصطفى أفندي رشدي:
قد طالما حاربت ضمن ضمائري ... جيش الخطوب ولا تجوب بخاطري
بل طالما خاطبت خطبي قائلاً ... خطرت ويحك ما الزمان بقاهري
هل كيف يقهرني الزمان ولي إلى ... فخر العلا نسب بود باهر
فأجاب وا أسفا على حامي الحمى ... مع يا فتى واندب بدمع وافر
ناديت مات المجد بل مات الندى ... من بعد ذي النعماء عبد القادر
إلى أن قال بعد أبيات كثيرة:
مذ قيل فاز بجنة أرخت كم ... بجنان خلد فاز عبد القادر
سنة 1300 وممن رثاه طيب الله ثراه الشاعر الشهير عمر أفندي البربير فقال:
لم اسودت الدنيا ولم يك غاسق ... وأظلمت الآفاق حتى المشارق
خليلي رعاك الله قل لي ما الذي ... لقد صار في الدنيا فإنك صادق
فهل آن خلي للقيامة وقتها ... ونفخ بصور ثم يصعق صاعق
وبعث الورى والحشر ثم وإنه ... تقوم لرب العالمين الخلائق
أرى الكون مسوداً أرى الشمس لم تبن ... أرى البدر لم يسفر وما هو شارق
وإن نجوم الأفق غير طوالع ... فلم يبد مسبوق ولم يبد سابق
وأين السما غير الظلام فلا يرى ... ولو جد بالتحديق والوثق وامق
أزالت وإلا بالظلام تحجبت ... فما شأنها قل لي فصدري ضائق
وما لي أرى الأطواد ليست بحالها ... فكم قد هوى طود وكم دك شاهق
وما لي أرى الأطيار خرساً ولم يكن ... عن الصدح والتغريد يسكت ناطق
إلى أن قال:
وها لم أزل فيه إلى أن أجابني ... وأدمعه من مقلتيه دوافق
بصوت خفي قد يدق سماعه ... إجابة باك وهو بالدمع شارق
وقال نعم أودى خليفة مالك ... ومالك هذا العصر من لا يسابق
وجيه أولي التدقيق وهو أميرهم ... له نشرت فيهم عليه البيارق
هو الشمس عبد القادر السيد الذي ... على فضله أهل العلوم تصادقوا
إلى آخر ما قال وقد أسهب فيها وأطال في حق هذا السيد المفضال.
وممن رثاه أيضاً خليل أفندي البربير البيروتي فقال:
خطب ألم بنا أجرى العيون دما ... لقد شكى الخلق من أهواله ألما
فليندب المجد في الأكوان مظهره ... إذ راع ركن العلا والعز فانهدما
يا للمصيبة من خطب سطا وعدا ... فلم نجد أحداً من حزنه سلما
يا للنوائب من هول به كسفت ... شمس الهدى فكسا آفاقنا ظلما
رزء تداعب به شم الجبال وقد ... ألوى بها زعزع أضحت به عدما
يا للرزيئة من رزء بوقعته ... أنار في كل قلب بالأسى ضرما
كادت به الأرض من حزن تميد كما ... غدت هشيماً به من هول ما صدما
هل بعد ذا الخطب ما بين الأنام يرى ... خطب به كل جفن يرسل الديما
أو هل نرى بعده في الكون مزعجة ... تخفي السرور وتبدي الحزن والسقما
كلا لعمري فهذا الخطب صدمته ... قد زعزعت كل رأس قد غدا علما
أضحى به رجب يبدي لنا عجباً ... عشنا به فرأينا رزءه دهما
شهر أصم به في الكون قد ظهرت ... نوائب أوقرت أسماعنا صمما
يد المنون به اغتالت أمير علا ... فاغتالت المجد والمعروف والكرما
نتيجة الدهر عبد القادر العلم المولى الذي في البرايا قدره عظما
السيد السند الشهم الذي عظمت ... أخلاقه فاغتدى بين الملا علما
دوح السيادة تاج المجد بهجته ... ثغر المعالي بها قد كان مبتسما
إنسان عين أولي العلياء سيد من ... سيب المكارم منهم سح وانسجما
أمير مجد سما هام السهى شرفاً ... وكان للعز والعلياء خير حمى
أمير حزم حكت آراؤه شهباً ... لكل مارد خطب رائع رجما
غوث الطريد وغيث اللائذين إلى ... حماه يمطرهم من جوده نعما
ناديه مصدر أنواع الندى أبداً ... ما من يوماً بما يعطي ولا سئما
أربى على كل ذي فخر بنسبته ... لسبط خير رسول بالفخار سما
بمجده سادت السادات وافتخرت ... وعقدهم بعلاه كان منتظما
أقواله درر أفعاله غرر ... وجه المعالي بها قد كان متسما
هذا وكان المترجم معظماً عند سائر ملوك البلاد الإفرنجية فكانوا يطلبون صورته ويطلبون أن يكتب عليها، فكتب على بعضها ما صورته:
لئن كان هذا الرسم يعطيك ظاهري ... فليس يريك النظم صورتنا العظمى
فثم وراء الرسم شخص محجب ... له همة تعلو بأخمصها النجما
وما المرء بالوجه الصبيح افتخاره ... ولكنه بالفضل والخلق الأسمى
وإن جمعت للمرء هذي وهذه ... فذاك الذي لا يبتغي بعده نعما
وله نظم بديع، ونثر فائق رفيع، غير أنها بعضها في الرقائق، وأكثرها في الحقائق، تدل على سمو معارفه، وعلو عوارفه، نفعنا الله به في الدارين بجاه محمد سيد الكونين. آمين.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.

عبد القادر الجزائري
1222-1300ه
وقفت له على ترجمة كتبها حفيده الأمير طاهر الجزائري، قال: هو سمو الأمير عبد القادر الجزائري الحسيني الكبير فرع الشجرة الزكية، وبدر العصابة الحسنية، إنسان عين السادة الأخيار، وعقد جيد القادة الأبرار، صدر الشريعة بل تاجها، بدر الحقيقة بل معراجها، نخبة آل بيت اشتهرت بالشرف أوائلهم وأواخرهم، وأشرقت في أفق سماء السعادة فضائلهم ومفاخرهم، من عجزت عن حصر أوصافه الأقلام، وتباهت بوجوده الليالي والأيام، وتزينت الطروس بغرر مزاياه ومدائحه، وتلت النفوس آیات الحمد والإخلاص في صحائفه، واسطة عقد الشرف المقتني، وغصن شجرة المجد المجتنى، كعبة القاصدين، حرم الخائفين، ناصر الدين، الأمير عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفی بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد المختار بن عبد القادر بن خدة بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن أحمد بن بشار بن أحمد بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن فاطمة الزهراء، بضعة خير الأنام، عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام.
ولد قدس الله سره في رجب سنة ألف ومائتين واثنتين وعشرين ببلدة القيطنة التي اختطها جده بإيالة وهران من أعمال الجزائر، ثاني أنجال والده ووالدته السيدة الشريفة الزهراء بنت السيد عبد القادر بن دوخة الحسيني، تربى في حجر والده، وفي مدرسته حفظ القرآن الكريم، وأخذ العلم عن أهل العرفان.
وفي سنة 1236ه سافر إلى وهران وحل بها، وبرع في مختلف الفنون وفي سنة 1241ه سافر منها برا صحبة والده ذي الكمالات والعلوم الباهرة، قاصدين مكة المكرمة عن طريق القاهرة، وبعد الحج رجعا إلى دمشق الشام، لزيارة الصلحاء والعلماء الأعلام، وأخذ بها عن الولي الصالح الإمام حضرة مولانا الشيخ خالد المجدوي الطريقة النقشبندية، ثم غادرها إلى بغداد حيث أخذ الطريقة العلية القادرية على السيد محمود الكيلاني، ثم رجع برا إلى الشام، ومنها قصد بيت الله الحرام مرة أخرى، وبعد أداء المناسك رجع من طريق البر إلى بلدته في السنة الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة.
وفي سنة 1246ه قام والده بأمر الجهاد فحارب معه سنتين، وفي رجب سنة 1248ه بایعه أهل الجزائر أميرا عليهم لاشتهاره بالشجاعة والعلم والصلاح والبراعة، فباشر الأعمال، وركب الأخطار والأهوال، وأقام الإمارة على قدمي الفضل والعدل، وزانها بما يؤيده العقل والنقل، وضرب السكة من فضة ونحاس، وأنشأ المعامل للأسلحة واللباس، وقام بأمر الجهاد ستة عشر عاما، يحارب جيوش فرنسا ويحمي دينه ووطنه، وأظهر من الشجاعة والبسالة في كل مجال ما اشتهر في الآفاق، وقد بسطت ترجمته في كتابي المسمى ب «تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر». .
وكان يباشر القتال بنفسه، ويتقدم أصحابه في المواقف، فيرجع وألبسته محرقة من الرمي بالرصاص، ولم يصبه سوى جرح بكتفه وآخر بأذنه، وماتت تحته عدة خيول.
ثم هاجمته جيوش مراكش من جهة أخرى، وبعد محاربات عديدة علم أن التسليم أولى، فسلم لفرنسا على شروط مقررة وعهود، وذلك في المحرم 1264ه وبقي محجورا عليه عندها.
وفي سنة 1266 ه زاره في محل إقامته بمدينة «أمبواز» نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وبشره بإطلاق سبيله، وأهدى إليه سيفا مرصعا، ورتب له في كل سنة خمسة آلاف ليرة فرنسية.
ثم سافر إلى باريس ومنها إلى الآستانة حيث قابل السلطان عبد المجید خان فأكرم وفادته، ومنحه دارا عظيمة بمدينة «بورصة»، ثم رجع سنة 1270 ه إلى الآستانة وتوجه منها إلى باريس، ثم رجع إلى بورصة وبقي بها حتى سنة 1271ه فغادرها إلى دمشق للإقامة بها
وفي سنة 1273ه توجه إلى زيارة بيت المقدس، وقرأ خلال شهر رمضان في دار الحديث هناك البخاري، كما قرأ الإتقان والإبريز في مدينة الجقمقية.
وفي شهر رمضان سنة 1275ه اعتكف بالجامع الأموي، وقرأ الشفاء والصحيحين في مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه، وفي سنة 1277ه زار حمص وحماة، ومنح من الدولة العلية النيشان المجيدي من الرتبة الأولى، ونياشين كثيرة من دول مختلفة، تقديرا لما أبداه من المساعدة للمسيحيين في الفتنة التي حدثت في تلك السنة.
وفي سنة 1280ه توجه إلى مكة المكرمة وأقام بها وبالطائف وبالمدينة المنورة سنة وستة أشهر، وأخذ بمكة الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد الفاسي.
وفي سنة 1282ه قصد الآستانة وقابل السلطان عبد العزيز فأكرم نزله ومنحه النيشان العثماني من الرتبة الأولى، ثم توجه منها إلى باريس فزاد له الإمبراطور نابليون الثالث 2500 ليرة فرنسية على مرتبة السنوي السابق
وكان مالكي المذهب، محافظا على السنن، عاكقا على شهود الجماعة، كثير الصدقات، وجعل مرتبا في كل شهر للعلماء الصلحاء والفقراء، عاملا بتقوى الله في السر والجهر وتغلغل في آخر عمره في علوم القوم، وأظهر من دقائق الحقائق وعوارف المعارف ما يؤذن بسمو مقامه وعلو قدره، وكان يصوم شهر رمضان على الكعك والزبيب، معتزلا عن القريب والغريب، وله خلوة يتحنث بها في قصره بقرية أشرفية صحنايا، وكان خلال مرض وفاته مشتغلا بالمراقبة والمشاهدة، حتى إنه ما أن ولا تأوه برغم اشتداد آلام الكلى والمثانة طيلة 25 يوما، إلى أن انتقل إلى رحمة ربه الكريم في منتصف ليلة السبت 19 من رجب سنة 1300ه في قصره بقرية دمر بدمشق.
وصلى عليه بالجامع الأموي خلق كثير، واجتمع في جنازته أمم من جميع الملل، ودفن ظهر يوم السبت إلى جوار الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن العربي الحاتمي في حجرته.
وله من المؤلفات تعليقات على حاشية جده السيد عبد القادر بن خدة في علم الكلام، وتنبيه الغافل وذكرى العاقل، والمقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد، والمواقف في علم التصوف، وله من الشعر الرائق والنثر الفائق ما يطرب الأسماع، ويستهوي الألباب والطباع، كما كان يجيد اللعب بالشطرنج، ويحسن الخياطة ولا سيما خياطة الشبكة، وبالجملة كان إماما جليلا، عالما عاملا، نبيها نبيلا، زاهدا ورعا، مهيبا شجاعا، كريما حليما أوابا، رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مثواه، آمين.
وله ديوان شعر فائق العبارات، رائق الإشارات، سماه: «نزهة الخاطر في قريض الأمير عبد القادر»..
مقتطفات من كتاب: أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث، تأليف: أحمد تيمور باشا.