محيي الدين بن عبد القادر بن محيي الدين الجزائري الحسني
تاريخ الولادة | 1259 هـ |
تاريخ الوفاة | 1336 هـ |
العمر | 77 سنة |
مكان الولادة | الجزائر - الجزائر |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
محيي الدين (باشا) ابن الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري الحسني: مجاهد من أدباء العلماء ولد وتعلم وحفظ القرآن بالجزائر. وتفقه (مالكيا) بدمشق بعد أن سكنها مع أبيه. ورحل الى إسطنبول سنة (1281) فأكرمه السلطان عبد العزيز. ومنح لقب (باشا) ونشبت الحرب (1289 هـ بين فرنسا وألمانيا وانتصرت ألمانيا في الشهور الأولى فنهض لتجديد الجهاد الّذي بدأه أبوه. ووصل الى تونس وانتشرت أخبار حركته، فمنع من دخول الجزائر، فبعث الى زعمائها بنحو 200 رسالة يدعوهم للاستعداد، وعاد الى مالطة فتنكر ولبس لباس درويش ودخل الجزائر، وأظهر نفسه فالتفت حوله الجماهير ووقعت بينه وبين الجيوش الفرنسية معارك. وتوقفت الحرب بين ألمانيا وفرنسا فأقبل الفرنسيون لسحقه، فعاد الى حدود تونس وأبقى من كان معه من الجزائريين فيها، وانصرف هو إلى (صيدا) فجلس نحو سنه ورجع إلى والده في دمشق. ولما توفي أبوه (1300 هـ أرادت فرنسا منحه ما كانت تعطي أباه، على أن يكون هو وإخوته من رعيتها، فامتنع وجعل له السلطان عبد الحميد ابن عبد المجيد راتبا شهريا (خمسين ليرة عثمانية) وسافر الى الأستانة (1305) فأكرمه السلطان عبد الحميد ونقله من السلك الملكي الى السلك العسكري وأغدق عليه الكثير من المرتبات والصلات .
-الاعلام للزركلي-
السيد محيي الدين باشا بن السيد الأمير عبد القادر بن السيد محيي الدين الجزائري الحسني المتصل نسبه بسيدي عبد القادر الجيلاني الحسني رضي الله عنه
إنني لم أجد عبارة تفي في حقه بالمدح، غير أني أرسلت اليراع يجول في ميدان الفتح، ومن أين لي أن أترجمه بما يليق، أو أن أصفه بما هو به حري وحقيق، وهو الأمير الذي ورث الإمارة عن أبيه وجده، والشهير الذي استوى على عرش الفضائل بإجتهاده وجده، والأديب الذي يمتزج كلامه بأجزاء النفس لطافة، والأريب الذي رق طبعه حتى حاكى النسيم رقة ونحافة، تحلى بالمكارم فكانت مقصورة عليه، وتجلى على عرش الكرائم المنتسب أكرمها إليه، ولقد لحظته عين السعادة فقصرته من كل محبوب على الأعلا، وجذبته يد السيادة لكل مرغوب فقلدته منه بالأولى، ورفعه ساعد العلم إلى ذروة الكمال، ووضعه صائب الفهم الثاقب على نقطة الاعتدال، فله من الملح ما يزري بنوافث السحر، ومن المنح ما ينقل ذوي الحاجات إلى الغنى بعد الفقر، وإن سألت عما ناله من رقيق الأخلاق وأنيق اللطف والارتفاق، فهو واحد هذا العصر بل نادرة الزمان وثمرة الدهر، وأما طلاوة نظمه ونثره، وحلاوة قريضه وشعره:
يستنبط الروح اللطيف نسيمه ... أرجاً ويوكل بالضمير ويشرب
فلعمري إن عقود ألفاظه أحلى من عقود النحور، وأبكار معانيه لو مازجها النسيم لأزالت ملاحتها ملوحة البحور، فما من جارحة إلا وهي تود لو كانت أذناً فتلتقط ثمين جواهره، أو عيناً لا تنفك عن مطالعة طرائفه ونوادره، أو لساناً يدرس محاسنه وشمائله، أو قلماً يرقم مآثره وفضائله. بالجملة فقد نال في الأدب رتبة عجز غيره عن استعلامها فضلاً عن علمها، وحاز فهمه الشريف منحة كل غيره عن استفهامها دون فهمها، تنتهي إليه محاسن الألفاظ وتزدهي معانيه على غمزات الألحاظ، فأشعاره قد طارت في الآفاق، وانعقد على كمال جمالها الاتفاق، لا يبلي جدتها الجديدان، ولا تزداد إلا حسناً على تردد الأزمان، قد كادت الأيام تنشدها طرباً، والأنام توردها حلية وأدبا، ونثره يقطر ظرفاً ويمزج بالراح رقة ولطفا، لسان الراغب في مدحه عن مراده قاصر، وقلم الكاتب عن استيفاء حليته في ميدان جولانه حائر، فلا ريب أنه عين الزمان ويمينه، لو حلف الدهر ليأتين بمثله حنثت يمينه، فهو بحر كله جود، وحبر كل فضل في ذاته موجود، مع تواضع يفرغ على مجالسه جلباب السرور، ولطف يجلب لمؤانسه كل حبور، ومنطق تحاشى عن النطق بما يعاب، ووجه بشوش يوهم المسيء له أنه بفعله أصاب، غير أن يده قد صالت على ماله، فلا ترد يد مستمنح خالبة من نواله، كثير المروءة والفتوة، يميل في أموره إلى الحزم والقوة. حسن المجالسة عذب الاستشهاد، لا يأتي جليسه بمعنى من العلوم إلا واستشهد له بأبيات من حفظه أو نظمه حسب المراد.
وقد أخبرني حفظه الله حينما سألته عن مقدار ما يحفظه من الأبيات الشعرية، فقال: ما ينوف على عشرين ألف بيت من نظمه ونظم غيره زيادة على المحفوظات النثرية، يهوى الإطلاق والطرب ومذاكرة العلوم، ويأبى الترفع والتحجب والتمسك بأحوال ذوي الرسوم، ويقول بأن رفعة القدر والشأن، ليس بالعجب والكبر وسلاطة اللسان، وكيف لا يكون كذلك وهو فرع شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، قد اتصلت بسيد الرسل وسند الأنبياء.
وأما والده فهو علم الفضل والإنصاف، وشرف النعوت والأوصاف، افتخر به الآباء والبنون، وتجملت بفضائله الشهور والسنون، شهرته من الأنام شهرة القمر ليلة بدره، ومحله من الكمال حيث يستمد كل ذي قدر من قدره، وهذا المترجم نتيجة ذلك الأصل، فلذا تفرد في زمانه في الكمال والفضل، تحقق بأنواع العلوم الحديثة والقديمة، وتعشق في الطريق الواضح فكان لا يسلك غير الطريقة القويمة، وناهيك بهذا الشرف العظيم والفضل الجسيم.
ولد حفظه الله في ثالث ربيع الثاني سنة تسع وخمسين ومائتين وألف بإقليم الجزائر، ونشأ في حجر والده عمدة السادة الأكابر، وحفظ القرآن عن ظهر قلب وهو ابن ثمان سنين وشهور، وأقبل على حفظ المتون في أنواع العلوم ما بين منظوم ومنثور، ثم قرأ فقه المالكية على الشيخ محمد بن عبد الله الخالدي المغربي وعلى غيره من العلماء الأخبار، وقرأ جملة من الفنون على الفاضل الدمشقي الشيخ محمد الجوخدار. ثم قرأ على الإمام الكامل والهمام الفاضل الشيخ محمد الطنطاوي الزهري الكتب الكبيرة في أنواع العلوم، وحضر على والده الحديث والتوحيد، وأجازوه جميعاً بما تجوز لهم روايته من منثور ومنظوم. ولما رأى فيه والده الأهلية للتدريس العام، أمره بأن يقرأ درساً بحضرته وحضرة العلماء الكرام، فامتثل أمر والده المبرور، وكان يرى على وجهه حين حضوره في درسه البشر والسرور، وأجازه على ذلك ترغيباً له بجائزة سنية، وتفرس به الترقي إلى الرتب العلية، وكان سنه إذ ذاك ثمانية عشر، حتى تعجب من نبله وفصاحته وجسارته من حضر، وفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف، أنعم عليه السلطان الغازي عبد العزيز خان، برتبة ازمير مع النيشان العثماني من الرتبة الثالثة ذات القدر والشأن.
وفي عام اثنين وثمانين في ثالث ذي الحجة الحرام من الهجرة النبوية، توجه للسياحة في البلاد الأفرنجية، فتوجه إلى رومة وبلاد إيطاليا، ثم إلى مملكة سويسرة، ثم إلى عاصمة الفرنسيس، وفي ثاني يوم وصوله زار الأمبراطور نابليون الثالث فأكرمه وعامله بغاية الإقبال والتأنيس، ودعاه إلى مائدته وبالغ في مودته، ثم استأذن منه في السياحة في أنحاء مملكته، فدارها ثم رجع إلى العاصمة فاستأذن من الإمبراطور في الرجوع إلى أهله وبلدته، فجدد إكرامه وأهداه ننيشاناً وودعه بك إقبال، فتوجه إلى البلاد المصرية فساح بها مدة ثم رجع إلى محل إقامته بعد ذلك الترحال، وكان مدة ذلك ستة أشهر هلالية، فعاد إلى حاله وكماله بهمة قوية. ثم في سنة تسع وثمانين في شهر رجب، وقع بين دولة فرنسا وألمانيا للقتال أعظم سبب، فانتشبت بينهما نار الحرب، وتقابلت الدولتان بالسفك والطعن والضرب، وآل الأمر في مدة أربعة أشهر إلى انتصار ألمانيا على الدولة الفرنساوية، وتكبدت فرنسا خسائر ومشقات قوية، فخطر في بال المترجم أن الحرب يطول بين الدولتين، فينتهز الفرصة لتخليص وطنه الجزائر من يد فرنسا ويزيل عن الوطن الكدر والغين، فتوجه بقصد الزيارة في الديار المصرية، فحينما وصل إلى مدينة إسكندرية، توجه منها إلى تونس الغرب ولم يعلم أحد نيته الخفية، فأكرمه حاكمها صادق باشا وشاع ذكره في ذلك القطر عرضاً وطولاً، وأنزله ذلك الحاكم عنده وأهداه نيشاناً من الرتبة الأولى، فقصد المترجم التوجه منها إلى الجزائر، فلم يتمكن من ذلك نظراً لما ناله من الاشتهار، الذي ملأ تلك النواحي والأقطار، فحرر لرؤساء الجزائر نحو المائتي كتاب، لكي يتهيأوا لمحاربة فرنسا عند قدومه المستطاب، وأرسلها من تونس مع الرسل الخفية، ثم ودع الباشا مظهراً له قصد الرجوع إلى الديار الدمشقية، فتوجه إلى مالطه، وحين وصوله إليها أخفى نفسه وتنكر، ولبس لباس الدراويش وظهر في غير ذلك المظهر، وتوجه إلى طرابلس الغرب، فحينما وصلها أرسل ثقله مع بعض الخدم في البحر إلى مدينة قابس، وهو قد توجه براً متكبداً لمشقات لم يكن على مثلها بممارس، إلى أن وصل لبلاد الجريد، ومكانها عن حدود الجزائر غير بعيد، فهناك أظهر حاله للناس، ولم يخش على نفسه من بأس، ومن عجيب ما اتفق له أن شخصاً من المنصورة " قرية من قرى جريد " كان مرافقاً له من طرابلس متوجهاً إلى قريته ومحل إقامته، فكان يسأل رفقاه المترجم عنه، فيقولون له رجل من أشراف الجزائر كان في الحجاز، فيقول لهم هذا ابن ملك أو أمير حقيقة لا أقصد المجاز، ولم يمكنهم إقناعه بحال، إلى أن وصلوا إلى قريته، فقال لهم إن عدم نزولكم عندي من المحال، فنزلوا عنده فما استقر به المجلس حتى جاء للسلام عليه حاكم البلد، وبعده نحو الأربعمائة فارس من ذوي الشجاعة والجلد، وكان قد أرسل لهم يخبرهم بوصوله، فسلموا عليه وعاهدوه على القيام معه حسب مأموله، ثم أنه سأل عن رفيقه صاحب الدار، فقال له رجل من أقاربيه أنه يقدم لحضرتك عن عدم حضوره جميل الاعتذار، حيث أنه من نحو سنتين قتل شخصاً وفر لطرابلس، والآن قد رجع خفية لرؤية عائلته ثم يرجع، فلما رأى حاكم البلد والخيل معه ظن أنهم حضروا للقبض عليه ففر منهم، فعند ذلك تذاكر المترجم مع حاكم البلد وطلب منه الصفح عنه حيث أنهم ضيوفه، فأجابه الحاكم بأنه إن يسمح عنه أهل المفتول فأنا أسمح عن حق الحكومة، فأحضروهم وكلموهم أن يسمحوا على الدية، فسمحوا فقال الحال بلا دية نظراً إلى خاطر المترجم، ثم فتشوا على الرجل فبعد الجهد وجدوه مختبئاً في مكان، فأحضروه عند الحاكم وأخبره الحكم بأن أهل المقتول قد سمحوا عنه، وكذلك هو نظراً لخاطر المترجم، فعندما قال الرجل لأتباع المترجم كيف رأيتم فراستي في الدرويش، مع كونكم أجهدتم أنفسكم في إقناعي فما قدرتم، وقد أشار إلى ذلك في قصيدة طويلة أرسلها إلى أخيه سعادة محمد باشا:
طوراً تراني مختف متنكراً ... كيما أرى من ماء قصدي أستقى
والبدر لا يخفيه جنح دجنة ... والمسك لا يخفى وإن لم يفتق
وسأورد بعض هذه القصيدة عند ذكر نظمه، ولنرجع إلى ذكر بعض ما وقع له في الجزائر، فانه لما وصلت كتبه إلى رؤساء الجزائر من تونس، استبشروا ولم يعد لهم صبر لانتظار قدومه، فتراسلوا وتؤامروا وأظهروا العصاوة على دولة فرنسا، وانتشب القتال بينهم في كل مكان، فلما وصل إليهم بايعوه على السمع والطاعة، ووقعت بينه وبين الجيوش الفرنساوية مقاتلات عديدة، ما عدا التي وقعت بأمره في عدة أماكن ولم يحضرها، وقد قتل ألوف من الفرنساوية، ولكن حيث أن الباري لم يقدر خلاص الجزائر من اليد الفرنساوية تصالحوا هو وألمانيا، وأرسلوا في الحال جيوشاً جرارة لمحاربته، فتيقن عند ذلك بعدم اقتداره على مقاومتهم، والتمست دولة فرانسا من حضرة والده إرسال أمر ونصيحة له، فعندما رجع إلى حدود تونس بمن معه، ثم بقيت أهالي الجزائر في تونس، ورجع هو إلى الشام، وبقي في ثغر صيدا نحو السنة، ثم رجع إلى دمشق عند والده، وقد سألته بعد مدة معاتباً له عن عدم إخباره لي بما عزم عليه من السفر إلى الجزائر، وما ترتب على ذلك، فاعتذر لي بأن هذا من الأمور المكتومة التي لا يمكن إبداؤها لأحد، وأخبرني أيضاً حفظه الله أنه لما خطر له هذا الخاطر، ورأى أن أسباب اغتنام الفرصة متسهل بواسطة الخلاف الذي وقع بين فرانسا وألمانيا، عظم عليه الأمر واشتد عليه الخطر، وعلم أن دون ذلك مسالك جسيمة ومهالك عظيمة، وشديد مشقات عميمة، تباطأت عزمته وفترت همته، فجرى على فكره نظم هذه الأبيات، فلما أتمها وقرأها عادت له همته أعظم من الأول وهي:
على ماذا الخمول وأنت قرم ... مطاع في العشائر لا تمارى
وأنك لا تنال المجد حتى ... تقود عرمرماً يملا القفارا
تعوض من شدا الشادي صهيلاً ... وعن طيب الغوالي اعتض غبارا
وأطيب من عناق الخود حقاً ... عناق مدرع يورى الشرارا
فقومي سادة عرب كرام ... بغير الحرب ما نالوا فخارا
ثم أنه في سنة ست وتسعين، أنعم عليه حضرة مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان برتبة مير ميران الرفيعة، ثم في سنة ثلاثمائة وثلاث، رقاه إلى رتبة روملي بيكلر بيكي، وكان قد عين له بعد انتقال والده معاشاً في كل شهر خمسين ليرة عثمانية من الخزينة السلطانية، حيث أنه رفض معاش دولة فرانسا التي طلبت منه أن يكون من رعيتها هو واخوته، وتعيد لهم معاش والدهم على التمييز والاستحقاق لا على التسوية.
ولنورد شيئاً من شعره وبديع نثره الذي هو أرفع من الدر قدرا، وأضوع من المسك نشرا، فمن ذلك وكان متنزهاً في صالحية دمشق بحديقة الشيخ الأكبر في فصل الربيع، فقال:
لله در الصالحية مذ بدت ... محفوفة بحدائق النوار
فكأنما هي غادة حفت بها ... سود المحاجر في جمال نوار
حوت المفاخر إذ غدت للحاتمي ... داراً فأضحت مطلع الأنوار
ومن نظمه حفظه الله موريا باسم فائق:
يقول معذبي هل حسن وجهي ... لبدر التم يشبه أو يطابق
فقلت وحق من أعطاك حسناً ... ملكت به القلوب لأنت فائق
وله متغزلاً حفظه الله:
دعوني فالغرام أذاب قلبي ... وأحرق مهجتي هجران حبي
أيا أهل الهوى كرماً أعينوا ... جريح لواحظ وقتيل حب
أنا المفتون وا ويلاه حالي ... غريب في الهوى عن كل صب
ملاح الشرق تيهوا قد أخذتم ... أسيراً في الغرام أمير غرب
رويت الحرب عن آباء صدق ... فها أنا ذا الأسير بغير حرب
لعمرك ما خشيت سواد جيش ... فما لي قد خشيت سواد هدب
ومن نظمه تشطير هذه الأبيات، وإنه يصعب تشطيرها لشدة ارتباطها:
أنا والحب ما خلونا ولا طر ... قة طيف يا صاح هذا عجيب
ما تواصلنا ساعة ولا طر ... فة عين إلا علينا رقيب
ما خلونا بقدر إن مكن الده ... شة إني عن السلام أجيب
ليس لي فرصة وقد فني العم ... ر بأني أقول أنت الحبيب
بل خلونا بقدر ما قلت أنت ال ... ح فلاح فقلت سيب النسيب
ومرضت فعادني قلت جاء ال ... ح فوافى فقلت كيم الطبيب
ومن نظمه أطال الله بقاه، وجعل في مدارج السعادة مرتقاه:
تأمل في بديع الحسن واعذر ... به صبا لقد خلع العذارا
من أحداق الورى قد صاغ خالا ... ومن أجفانها جعل العذارا
له لحظ ينادي من رآه ... هلموا واتركوا عشق العذارى
وله دام علاه تخميس على لامية العجم أوله:
الله عظم مقداري من الأزل ... وزادني شرفاً كالشمس في الحمل
وإن رماني العدا بالنقص والزلل ... أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني عن العطل
ولي جدود لبند المجد قد رفعوا ... جميع الورى طبعاً له تبع
وإنني مقتف آثار ما شرعوا ... مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
وله أحسن الله إليه، وأسبل جميل امتنانه علينا وعليه، مورياً في اسم خنجر:
يا قاتلي بلحاظ ... سيوفها لي أشهر
إني لأضعف عنها ... يكفي لقتلي خنجر
وله ألبسه الله حلة السرور، وأجلسه على ذروة الحبور:
إشرب على البدرين شمس مدامة ... بدر السماء وبدرنا في المجلس
واغنم زمان الأنس لا تسمع لمن ... يلحو المتيم في ارتشاف الأكؤس
ما العيش إلا راحة في راحة ... تجلى عليك من الغزال الألعس
يا أيها الظبي الذي ملك الحشا ... وغدا له شغل بقتل الأنفس
ارحم أميراً في هواك أهنته ... وغدا ذليلاً للعيون النعس
ما هاب من جيش يضيق به الفضا ... وبدا طعيناً بالقدود الميس
ومن نثره كتابه لأخيه الأمير محمد باشا كتبه له من ثغر صيدا: إن أطرب من خفق الأعواد، ومن ترجيع البلابل على الأعواد، ومن كؤوس الحميا يطوف بها بهي المحيا، في روض زاهر، غض الأزاهر، ومن نقر المثاني والمثالث، ومن وصل أليفين ليس بينهما ثالث، سلام عطري النشر، يبشر قتيل الفراق بالنشر، ويؤذن مطوي أيام التلاقي بالنشر، تتحمله وتؤديه ريح الجنوب، من مشوق تتجافى عن المضاجع منه الجنوب، إلى ذي المنصب العالي، وواسطة عقد المعالي، وفريدة سمط اللآلي، والبدر المنير في مدلهمات الليالي، إذا امتطى صهوة جواد، أزرى بكل فارس بطل جواد، فكأنه بدر فوق نسر، أو أسد ممتط النمر، وإذا جرد بسام هنديه في يوم بالقتال حالك، قال النحس لأبطال أعدائة اليوم يا سوأة حالك، له يد أحوالها كعدة البنان، ليست إلا لمسك عنان، أو هز هندي وسنان، أو تحبير رسائل، أو إعطاء سائل، أو تقبيل عدو خاضع، ذليل منكسر متواضع، أعني الأخ الشقيق والبر الرفيق، وارث المفاخر كابراً عن كابر، الأمير محمد باشا ابن الأمير عبد القادر، لا زال الدهر له يساعد، ويمده باليد والساعد. أما بعد إهداء التعظيم الواجب، من صميم قلب بالفراق واجب، فإن تفضلتم بالسؤال عن حالي، فهو لله الحمد بمر الصبر حالي، متسلق بتعظيم المقدار ما أوجبته حكمة الأقدار، والدهر ذو إحاله فلا يدوم على حاله، فمن ذا الذي أساءه وما سره، وأين يوجد من نفعه وما ضره، وفي مطالعة أخبار من سلف، تسلية وموعظة لمن بعدهم قد خلف.
ومن نثره ونظمه أيضاً جبا الله القلوب على محبته، وأدام لهم إشراق طلعة سعادته، ما كتبه إلي يدعوني للحضور في قريته المعروفة بالكفرين، الواقعة في ناحية المرج، بينها وبين دمشق نحو أربع ساعات، وصورة ما كتبه:
فديتك عجل اللقيا وبادر ... فإنك سيدي للكون بادر
فذا زمن الربيع أتى وحيا ... بأنواع اللطائف والأزاهر
فأضحى الروض يضحك من سرور ... وكل منىً سواك لدي حاضر
فديتك أنت تعلم إن حظي ... من الدنيا هواك به أفاخر
فلا تمهل بحق الود وأسرع ... فها طرفي لنحو الطرق ناظر
حضرة عالم الأدباء وأديب العلماء، العالم الأديب العلم، فارس المنبر والقلم، نخبة عصرنا وزينة مصرنا، من جبل الله القلوب على محبته، فغبطته الناس على عليِّ مرتبته، أخي وصديقي ومناي من الدنيا ورفيقي، الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار، حفظه الله في الإقامة والأسفار. مولاي: إني خرجت إلى القرية لأنزه الخاطر، وأجلو برؤية الخضرة صدى الناظر، فوجدت الربيع قبل وصولي قد وصل إليها، وهيأ كل ما تشتهيه الأنفس وتفضل عليها، وكسا الأرض بالحلل الخضر، والأغصان بالتيجان البيض والحمر، وطيبها نسيم الصبا بالمسك الأذفر، وبعده ريح الغرب بالعطر والعنبر، فأسرعت إليها شعراء الأطيار، لأجل أداء التهنئة بما نالته من الأوطار، فأطربت القلوب بتسجيعها، وشنفت الآذان بلطيف ترجيعها، وماست الأزهار من الطرب، ورقصت الأغصان فرحاً ولا عجب، فعندها اصطفت ندماني، وابتدوا بضرب المثالث والمثاني، ثم بعد أن أطربوا الفؤاد، وأزالوا الهموم برائق الإنشاد، أخذوا في المذاكرة، وشرعوا في المحاورة، فكان أول شيء ذكرهم لبعض ألطافكم، وما حزتموه من بديع أوصافكم، فتنغض على الحضور بسبب إبطائكم السرور، وقد كان حصل وعدكم الشريف بأنكم تتفضلون علينا بالتشريف، فطلب مني جميعهم إرسال رسالة لتحثكم على سرعة الإجابة بدون إطالة، فبادرت، بإرسال هذا الكتاب، وأملي أن تكون رؤية طلعتكم هي الجواب، وبصحبتكم صاحب القلب السليم، سيادة أخيكم الشيخ سليم، وشاديكم قرة العين، النجيب السيد حسين، وها هي جياد الخيل واصلة لأعتابكم، وواقفة مسرجة ملجمة ببابكم، وأسأل الله أن يديم سرورنا بكم على الدوام، ما فاح على الرياض مسك ختام. وغب وصولنا إليه، وتمثلنا بعد السلام بين يديه، أنشدنا وقال:
أهلاً بمقدم سادة قد شرفوا ... ولذي الوداد بقربهم قد أسعفوا
حازوا اللطائف والفضائل كلها ... سروا الفؤاد وللمسامع شنفوا
دامت مسرتهم ودام علاهم ... فعلى مودتهم فؤادي أوقفوا
فقلت له على الارتجال، مع اعترافي بأني ضيق المجال:
يا أكمل الناس في فضل وفي شرف ... أنت الأمير على السادات والأمرا
حويت كل مقام عز مطلبه ... ونلت كل كمال في الورى ذكرا
حييت بالبشر والإقبال ذا شغف ... وليس ينكر ذا أن منك قد صدرا
لا زلت تاجاً على هام العلا أبداً ... ودام من رام ضراً فيك محتقرا
ولقد أنشدنا لنفسه أيضاً حينما شدا الشادي على العود، قصيدة مطلعها سعد السعود، وكان الوقت صافيا، والمقت بحمد الله قافيا.
بشير للصفاء غدا ينادي ... هلموا فالأيادي في أيادي
أنا قطب السرور علي دارت ... نجوم البسط يا أهل الوداد
إذا بأصابعي حركت عودي ... غرست رياض أنس في الفؤاد
فأنشدته ما أنشأته في الحال، حينما انحنى العواد على عوده ومال، وأجاد وأطرب، وأنبأ عن وجده وأعرب، وكان سعادته أمرني أن أقول شيئاً من هذا المعنى.
عجباً لعواد على العود انحنى ... وغدا يتيه تواجداً وهياما
وتكلما حتى فؤادي كلما ... وتشاكلا لذوي السماع كلاما
وتراقصا رقص الشجي لدى النوى ... والحب أثر فيهما الأسقاما
وتعانقا وتشاكيا أمر الهوى ... حتى بكينا رحمة وغراما
وفي أثناء حضوري عنده قال أجز هذا البيت وهو قوله:
قدم الربيع فلا تكن متواني ... عن نهب وقت مسرة وتهاني
فقلت:
فالأرض قد لبست رداءً أخضرا ... متلوناً ببدائع الألوان
وقال:
وبدا يميس كغادة قد حليت ... وتزينت بالدر والعقيان
فقلت:
والبدر أشرق والرياض تنورقت ... والنهر ساح على حصى المرجان
وقال:
وبلابل الروض الأنيق لقد شدت ... تسبي العقول بسائر الألحان
فقلت:
وتجاوبت خطباء أنواع الطيو ... ر بشدوها في منبر الأغصان
وقال:
وتمايلت قضب الرياض تميس إذ ... هب النسيم مبشراً بأمان
فقلت:
تهتز إن مر النسيم تمايلا ... كمتيم دنف الحشا ولهان
وقال:
فكأنها الأحباب بعد تشتت ... وتباعد قدس الله سره عدن للأوطان
فقلت:
وتعانقت لحنوها ولشجوها ... وتزايدت لعناقها أشجاني
وقال:
والزهر بين معصفر ومفضض ... ومذهب صاف وأحمر قاني
فقلت:
قم يا معنى للرياض مبادرا ... واطرب وقل والله طاب زماني
وقال:
وانظر عجائب صنع رب قادر ... سبحانه من مبدع منان
فقلت:
مقل الزهور تفتحت كيما ترى ... ما قد جرى في مجلس الندمان
وقال:
ورد ونسرين ومنثور زها ... قد فاخرته شقائق النعمان
فقلت:
والطل ينثر كالعقود لئالئا ... في الجيد ينظمها كنظم جمان
وقال:
يا أيها الساقي المفدى هاتها ... وأدر كؤوسك لا تكن متواني
فقلت:
صرفاً بها عنا تزيح همومنا ... واطرح ملام مؤنب النشواني
وقال:
خمراً معتقة غدت منسية ... في الدن طول تعاقب الأزمان
فقلت:
وبخمر فيك امزج كؤوسي علها ... تطفي حرارة قلبي الولهان
وكنت مرة في صحبته بروضة ذات أدواح، قد أقيمت بها مواكب أفراح، فجاء غلام حسن المحيا، فقبل يده وسلم وحيا، ثم بعد حصة قبل ذيله وذهب وخلف في القلوب أعظم غصة، فحينما غاب أنشد سيدي المترجم في الحال. على الارتجال:
فديت بديع حسن قد سباني ... بطلعته وبالقد الرشيق
ولم أنس الوداع له ودمعي ... دماً يجري وقلبي في حريق
فمبسمه ووجنته ودمعي ... عقيق في عقيق في عقيق
ومنه الخصر مع شفة وعهد ... رقيق في رقيق في رقيق
فأنشدته أبياتاً كنت أنشأتها من هذا المعنى وتخلصت منها بمدحه الشريف وهي:
أيا روحي وريحاني وراح ... إلى م وأنت لم ترحم جراحي
فجيدك والمحيا والثنايا ... صباح في صباح في صباح
وقربك والوصال وبعد ضدي ... صلاح في صلاح في صلاح
وعمري والملام وسوء هجري ... نواح في نواح في نواح
وسقمي والغرام وفقد صبري ... فلاح في فلاح في فلاح
وضمك والعناق ولثم خد ... رباح في رباح في رباح
وعطفك وابتسامك واقتبالي ... سماح في سماح في سماح
وعذالي ولوامي وضدي ... قباح في قباح في قباح
وثغرك والعيون وحمر دمعي ... ملاح في ملاح في ملاح
وتعذيبي وإبعادي وقتلي ... مباح في مباح في مباح
وإني لست أشكو منك حالي ... ولكن بحت في أصل افتضاحي
لقطب المجد محيي الدين باشا ... علي القدر في كل النواحي
فمهما عشت في الدنيا فإني ... عليه قصرت شكري وامتداحي
له دام العلا ما ضاء بدر ... ومن عاداه مقصوص الجناح
وأنشدته أيضاً حفظه الله ورفع في الخافقين قدره وعلاه، قولي:
هلال الحسن هل على جبيني ... ومن فرقي بدت شمس الكمال
فما لي لا أتيه على الندامى ... وأسعى ساحباً ذيل الدلال
دموع العاشقين عقود نحري ... ووصلي دونه حد النصال
ولب أولي الهوى في قيد أسري ... ولا يحلو لهم إلا وصالي
فكم بنصال قدي باد قرم ... وكم لحظي فرى مهج الرجال
فجيدي ثم نحري والمحيا ... هلال في هلال في هلال
وأخلاقي وألفاظي وحظي ... كمال في كمال في كمال
وقد اتفق لي أني مرة كنت في داره المعمورة فناولني غلام عنده وردة، وقال أنشدني شيئاً مناسباً لذلك، ووقف فقلت له بعد إطراق قليل:
وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده
فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده
فخمسهما سعادة الباشا في الحال بقوله:
نلت الهناء بروضة قد تم لي بأحبة لما غدوا بمسرة
وافى الحبيب بوردة ... وغدا يميس بقده
قد شابهته بلونها فكأنه وكأنها فرع بأصل قد زها
فسألته عن روضها ... فأشار لي من خده
ومرة كنت مع سعادته في البويضية قرية من قرى دمشق، فجلس غلام معه بعيداً مني ولم يسمح بالتداني فقلت له:
كم ذا تذل متيماً ... وتذيقه ألم النوى
فأجابني متبسما ... إن الهوان مع الهوى
وقد خمسهما سعادته أيضاً فقال:
أفدي مليحاً قد سما ... وأذلني واستعظما
فسألته مستفهما ... كم ذا تذل متيما
وتذيقه ألم النوى
وترى لقاه محرماً ... وعذابه عذباً فما
أقساك يا حلو اللما ... فأجابني متبسما
إن الهوان مع الهوى
وقد أسمعني حفظه الله وأدام بقاه وعلاه، قصيدته التي مدح بها والده وهنأه بها بعيد الفطر، سنة ألف ومائتين وثلاث وتسعين:
زمان الأنس والأفراح منا ... دنا إذ منيتي بالوصل منا
فبادر للصفاء وللتصابي ... فمن خوف التقاطع قد أمنا
ويا ساقي المدام أدر وعجل ... فطير الروض بالبشرى تغنا
وناول رفقتي كأساً فكأسا ... بظل حديقة بالزهر غنا
بها طير وظبي قد تبارا ... فذا يشدو على غصن نثنى
وذا شاد تثنى فوق عود ... ولم أسمع بظبي قبل غنا
تثنى مفرد في الحسن فأعجب ... بلا ثان فكيف به تثنى
إذا أبدى الدلال وهز قدا ... فلا تسأل عن الصب المعنى
غدا ملك الملاح بلا اعتراض ... وقالوا كلهم إنا أطعنا
له قتل الخلائق صار فرضا ... وسيف اللحظ للعشاق سنا
فهل للعاشقين له نصير ... بسحر عيونه إنا فتنا
ترى عشاقه سكرى غرام ... كأنهم سقوا دنّا ودنا
تراهم في النهار وهم حيارى ... وويلهم إذا ما الليل جنا
تبارك من براه بلا شبيه ... فلا عجب إذا ما الصب جنا
ولا أنسى مراجعة تقضت ... بأول وهلة لما التقينا
رنا شزراً إلي وقال مهلا ... فما لك من نجاة إن طعنّا
فقلت له فديتك لا أبالي ... سأصبر في الغرام فمن تأنى
وأبلغ منك مقصودي بلطف ... وإلا بالمهند وهو أدنى
فماس يتيه من قولي دلالا ... وقال أراك قد أخلفت ظنا
فإن معاشري فرسان حرب ... ولا يخشون يوم الروع طعنا
فقلت له ألم تسمع بقومي ... فقد جعلوا الوغى والفتك فنا
وقد ذاعت مفاخرهم وشاعت ... تناقلها الرواة بكل مغنى
وسل عنا الفرنجة فهي تنبي ... بما قاست من الأهوال منا
وقائد معشري بطل همام ... غدا لي والداً وبه افتخرنا
بعبد القادر المولى تسمى ... لعمرك في اسمه قد لاح معنى
وفي الأسماء للأشخاص فأل ... كذا نقل الرواة وقد صدقنا
أمير قد تفرد في البرايا ... غدا لجميع أهل العصر ركنا
له الجود العميم بكل قطر ... به أهل الفضائل قد سعدنا
له جد وجد ثم جد ... بهم نال الفخار وما تمنى
فجد فاق أهل الأرض طرا ... وشرف ذكره سهلاً وحزنا
وجد في المعارف والمزايا ... به نال العلا فناً ففنا
وجد منه يدني كل قاص ... فلو طلب النجوم لما بعدنا
أمير في الشجاعة لا يضاهى ... إذا ما السيف في الهامات رنا
يسير إلى الوغى فرحاً بشوق ... ويقتحم الكتائب مطمئنا
بسالته بكل الأرض شاعت ... بها أعداء دولته شهدنا
إذا ما لاح ممتطياً لطرف ... تخضب بالدماء بدت كحنا
ترى بدراً على شفق وبرق ... بيمنى قد غدت نحساً ويمنا
بها لعدو سدته هلاك ... وأضحت للصديق منى وأمنا
وإن شئت العلوم فكل فن ... غدا فيه فريداً لا يثنى
أيا مولى تفرد في المزايا ... ولم أعلم له في الفخر دنا
تفضل بالقبول فدتك نفسي ... فأنت أحق من بالصفح منا
ودم في عزة وعلو شان ... بك الأعياد يا سندي تهنا
وقد دعاني في عيد من الأعياد لأن أكون معه أيام العيد في بعض منتزهاته، فأرسل لي هذا الكتاب الشريف، المحتوي على كل معنى لطيف، فقال: الأستاذ العظيم والملاذ المفخم، الحائز للفضائل والمتمم للفواضل، سيدي وأخي الشيخ عبد الرزاق أفندي، وبعد: فإنني أهديكم من السلام أعطره، وأبث إلى صديقي من الشوق أوفره، هذا وإن عيد الفطر قد اقترب، والنفوس متشوقة إلى التنزه والطرب، لأن شهر الصيام يضني الأجسام، ولذلك قد صممت الجماعة على التوجه لمحل مخلصكم بالأشرفية بعد الغروب بساعة، وحيث أن حضرتكم واسطة عقدنا، وعروتنا الوثقى الرابطة لودنا، ولا يتم إلا بوجودكم سرورنا، وإن غبتم عنا غاب بسطنا وحبورنا، وبمشاهدتكم يكون لنا عيدان، بمجلس النايات والعيدان، فبادروا إلى المحفل الزاهر، واجتنوا من البستان الأزاهر، وسرحوا الناظر في الروض الناضر، ولا تنقصوا علينا بعدم تشريفكم المسرة، وتجلبوا لأهل ودادكم ببعادكم المضرة، لأنكم قطب دائرة أفراحنا، وطلعتكم البهية مزيلة أتراحنا، فبادروا لإسعافنا بتشريفكم وإتحافنا والسلام:
أهنيك يا بدر السادة والفخر ... بعيد سعيد بعد ما نلت من أجر
فدم ملجأ للناس في العلم والنهى ... يهنى بكم عيد الضحية والفطر
فلا زلت يا مولاي ترفل دائماً ... بثوب الهنا والعز ما رجع القمري
ثم إنه بعد الغروب، مر علي في عربيته فبادرت الركوب وسرت مع حضرته مصغياً لكلامه، مقتطفاً أزهار نثره ونظامه، بمحاضرة تهز المعاطف اهتزاز الغصون، ورونق لفظ لم يدع قيمة للدر المصون. وفي ثاني يوم صباح العيد، باركت له في الموسم السعيد، ثم قدمت هذه القصيدة، لطلعة حضرته السعيدة، فتناولها مني بيد القبول، وأجرى لها من البشاشة ما يفوق المأمول، وهي:
أما والهوى العذري المقيم على عذري ... بها كل برهان حكى طلعة البدر
لئن كان لي قلب يميل لغيرها ... فلا زلت طول الدهر في غصة الهجر
فتاة لها روحي وهبت ومهجتي ... وإن قبلت أسديتها ميتا شكري
أرى الموت في شرع الغرام بحبها ... حياة ومن لم يقض في الحب ذر كفر
رماني عذولي بالسلو ولامها ... على صلتي من لي بضد عنى ضري
أأسلو وقلبي كلما مر ذكرها ... أسال جفوني من يواقيتها الحمري
ألم يكف هذا الدهر سقمي ولوعتي ... فساعد في تسليط ضدي على غدري
رعى الله أيام الوصال وطيبها ... وياليت لو أنفقت في نيلها عمري
لقد كان لي ممن أحب رعاية ... فصار لها قلب يزيد على الصخر
ولم أنس مذ جاذبتها من ذوائب ... فمالت كغصن البان تيها على صدري
ولله ما أجراه رشح رضابها ... بلبي كأني سغت خمراً على خمر
ثوت في فؤادي حين شامته خالياً ... ولكن على صعب النوى أحكمت قصري
سقى الله مغناها سيواكب عبرتي ... فيغدو بدمعي منبت الورد والزهر
فليس لها في الحسن والله مشبه ... وليس لمحيي الدين ثان بلا نكر
أمير العلا بحر الندى صفوة الملا ... عليه يد النعماء قد قصرت شكري
تملكني عن أصله فهو سيدي ... وأني له المملوك في صورة الحر
أيا ابن النبي الهاشمي محمد ... لقد راق للأسماع في مدحكم شعري
إليك يحق المدح إذ أنت أهله ... وأنت لعمري كعبة النظم والنثر
وأنت الذي قد أعجز العقل دركه ... وهيهات أن تدري النهى لجة البحر
وإني لكم أهديت عذراء فكرة ... تفاخر إن أبدت حلاها سنا الفجر
وتفصح أن شامت قبولاً بقولها ... وحقك يا مولاي قد زدت في مهري
فلا زال شهر الصوم يحكيك قدره ... ولا زلت تحكي منه في ليلة القدر
وأعطاك ربي ما تروم وما تشا ... ودامت لك الأيام باسمة الثغر
ولازلت للأعياد عيداً وللعلا ... علاء وللدنيا ضياء مدى الدهر
وفي العيد الذي بعده كنت في معيته في بعض المتنزهات فأراد ملاطفتي بخطابه لي بهذه الأبيات وهي:
ألا يا واحد الفضلاء إني ... لغيرك ليس لي في الرد منزع
وقد كانت توافى كل عيد ... قصائدك التي للشان ترفع
فلم غيرت عادة ذي وداد ... بحبك دون كل الناس يقنع
وأكثرت المدائح والتهاني ... لغيري إن هذا الأمر أفظع
فأجبته في الحال:
ألا يا أوحد الأمراء طرا ... ويا من ساد أهل العصر أجمع
تفرقت المحاسن في البرايا ... وأنت لكل ما نالوه مجمع
فمهما كان مني من مديح ... فمالي في السوى والله مطمع
فأنت على الحقيقة جل قصدي ... وأنت لكل مدح راق مطلع
وقد آن أن نذكر بعض القصيدة التي وعدنا بها عند ذكر سفره إلى الجزائر.
بعد الأحبة عن عياني محرقي ... يا ويح قلب المستهام الشيق
يا قلب هل تقضي زمانك بالأسى ... إربأ بنفسك واشفقن وترفق
كم تقطعن الليل بين تنهد ... وتحسر وتفكر وتحرق
ومنها
هل نلتقي يا أهل ودي ساعة ... يا أهل ودي ساعة هل نلتقي
فأبثكم شكواي من ألم النوى ... تباً به بمتيم لم يرفق
أنا ذلك الصب الذي وحياتكم ... وحياتكم لسواكم لم يعشق
هل تحفظون ذمام خل عنده ... إن السلو سجية لم تخلق
ومنها في الحماسة:
إني ورثت شجاعة الآباء في ... صغري وإن بفعالهم لم الحق
إني اجتهدت وخانني دهري فلا ... عار علي برد سعي المخفق
لله أشهب كالشهاب علوته ... لولا اللجام غدا لشهب يرتقي
وطلبت سهم الموت قدماً جاهداً ... لكنه لتعاستي لم يرشق
إنا أناس لا نرى موت الفتى ... فقداً إذا كان برمح أزرق
ونرى عناق مدرع يوم الوغى ... أشهى وأبهى من عناق مقرطق
والشرب من جاري الدماء ألذ من ... صهباء ماء في الدنان معتق
وغبار يوم الحرب أعبق عندنا ... من نشر مسك في ثياب ممنطق
من كان معشره أمانيهم كذا ... فإذا تحدث بالبسالة صدق
وهي طويلة تنوف عن ثمانين بيتاً، وله حفظه الله من قصيدة يمدح بها والده:
فؤادي في حب الحسان تعذبا ... وما أحسن التعذيب منهم وأعذبا
ألا في سبيل الحب روحي وهبتها ... لبدر تمام بالهلال تنقبا
سبى العقل مني بل جميعي جملة ... وفرق صبري مثلما افترقت سبا
صبا كل قلب في الأنام لقده ... إذا ما انثنى كالغصن حركه صبا
ومنها:
يا ربة الحسن البديع ترفقي ... بصب على جمر الغرام تقلبا
ولا تسمعي قول الوشاة فإنه ... إلى غير ذاك الحسن في الحب ما صبا
صليه واصلي قلب واشيه حسرة ... فكم نمق التزوير عنه وأطنبا
ومنها:
أيا ويح من بالحب ذاب فؤاده ... وعلق بدراً في البروج محجبا
يرى الموت أدنى من نوال مرامه ... ونيل نجوم الأفق أيسر مطلبا
مهاة أسود الحرب تحرس خدرها ... يرى دونها سمر الأسنة والظبا
وما العيش إلا أن تكون ممتعا ... بوصل حبيب عن سواك تحجبا
ثم إنه كان قد قدم معروض الاستئذان من الحضرة العلية، والذات الشاهانية، حضرة مولانا بهجة الأنام وروح جسم الليالي والأيام، السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان عبد المجيد خان، أيد الله صولته وأبد دولته، ما أشرقت الشمس وضاء النهار وطاب الأنس بين الرياض والأزهار، بأن يتشرف بأعتابه وأن يكون مأذوناً في السعي لواسع رحابه، فحصل له الإذن العال بكل تعظيم وإجلال، أن يشرف من غير إطالة لكي يحظى بمطلوبه وينال آماله، فأحكم العزو وعلى السفر عول، وتوجه عام خمس وثلاثمائة وألف في ربيع الأول، وخرج لوداعه أهل البلد، وكاد أن يقال ما بقي منهم أحد:
لا تطلبن القلب بعد رحيلهم ... مني فقد ذهب الفؤاد بأسره
يا ليت يوم البين من قبل النوى ... لم تسمح الدنيا بمولد شهره
ثم إنه لم يمض أيام من وصوله إلى الدار العلية، إلا وقد وجهت عليه الذات الشاهانية رتبة الفريقية مع الياورية العظمى ذات المقام الأسمى، بعد نقله من الملكية إلى العسكرية، ومعاملته بالمعاملة التي تليق بطلعته البهية، وأمره حضرة مولانا السلطان، بأن يبقى في الدار العلية ليكون تحت نظره العالي الشان، وبعد نحو سنة أرسله أفندينا السلطان إلى الشام في مسألة سياسية، فجلس في الشام أياماً ثم أخذ عياله ورجع بهمة قوية، وفي شهر رمضان عام ألف وثلاثمائة وستة، أمرني بكتابه الشريف بالتوجه لحضرته، لما علم من كثرة شوقي لرؤية إشراق طلعته، وأرسل لي مصروف الطريق ونفقة العيال، فامتطيت جواد العزم على التوجه نحو التداني والوصال، وودعت الأهل والأولاد والإخوان الكرام، وتوجهت في سنة ألف وثلاثمائة وست سادس ذي القعدة الحرام، وحينما وقف الوأبير القطار في موقفه من الدار العلية، وجدت حضرة عطوفة المترجم مقبلاً علينا بقاربه بهمة قوية، فعلمت أنه قد تنزل من مقامه العال، لأجل أن يحبر الخاطر بجميل الاستقبال، فوقف عند الوأبير متبسماً تبسم السرور وهو في ملابسه الرسمية، الدالة على فخامة رتبته العلية، فنزلت من الوأبير إليه، وحييته بما يجب وجلست في قاربه لديه، فخلع علي خلعة سروره وبشره، وصنع بي ما يوجب علي دوام حمده وشكره:
شهم يدل على كريم أصوله ... طيب النبوة في جميل صفاته
كل المطالب دونه فلو أنه ... طلب السماك لحل في عتباته
بدر السعادة والسيادة والعلا ... محيي لدين الجود بعد مماته
فلله دره من همام قد تشرفت الصفات بذاته، وإمام قد تحلت العبارات ببديع صفاته، فلعمري ما تليت آيات أوصافه إلا وركع لها القلم وسجد، ولا قرأت أحاديث سنده إلا وتفردت في صحيحها بعلو السند، فهو الذي حديثه في الفضل مرفوع، وغيث سحابه الهاطل لا مقطوع ولا ممنوع، ولقد وجه إلي خطابه التأنيسي الذي يستحق أن يرسم بنور البصر، في عنوان صحائف الأذهان والفكر، ثم خرجت معه من القارب إلى الركوب في عربته، وأخذت تسير بل تطير بنا إلى داره ومحلته، وكان قد قال لي من جملة الكلام، إياك أن تتأمل العود إلى الشام قبل مضي عام، وفي ثاني يوم من وصولي عين لي معاشاً لنفقة الأهل والولد، وأخبرني بذلك لكي أستريح من كل هم ونكد، مع أنه مدة مكثي عنده ما قطع عني عطاءه، ولا منع عني يوماً حباءه، ولم يقيد حفظه الله إجراء هذا المعاش بمدة من الأيام، بل جعله من إحساناته المعتصمة بحبل الدوام، ثم إنه بعد أن رآني قد استرحت من لانصب، ونفضت ثوب السفر من غبار التعب، أخذ يطوف بي كل يوم في مكان، ويدخل بي إلى أمكنة لم يدخلها سوى أهل الرفعة والشان، ويجمعني بأكابر أعيانها، ويدخل بي أحسن رياضها وجنانها، ولم يبق مكان من أمكنتها أو سراي من سراياتها إلا وقد دخلته معه وقوبلت من أهله بالرحب والسعة، وقد أخذني حفظه الله وأعلا مقامه وعلاه، إلى مكان في البحر يقال له بيق اضا، ليس لداخله منه إلا السرور والرضى، فلا ريب أن ذلك المكان ما كأنه إلا قطعة من الجنان، تدرقت حواشيه وتأنق واشيه، فتنظمت عقوده وتنمنمت بروده، وراضته أكف المطر ودبجته أيدي الندى بأفانين الدرر، وأخرجت أرضه آثارها، وأبدت مخبآتها وأسرارها، والقيان في زينتها وزخارفها تتيه في وشيها ومطارفها، والولدان تزهو جمالاً، وتميل لطفاً ودلالاً، فلعمري إن ذلك المكان هو كالعين من الإنسان، قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤه، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤه، وتنافجت بنوافج المسك أنواره، وتعارضت بغرائب النطق أطياره، وتنظمت بيوتها على طرز بديع، يزري بجمال الزهور في أيام الربيع، فجلسنا في ذلك المكان سحابة النهار، نشرح الصدر ونجلو الأبصار، وفي شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثمائة وألف أرسل حضرة مولانا السلطان أمير المؤمنين عبد الحميد خان لحضرة المترجم خبراً بالحضور، فتوجه إلى مكانه السامي المعمور، فحينما حضر لديه وتمثل في أعتابه بين يديه، أظهر له سروره وبشره وحبوره، وقال له قد عينتك عضواً في مجلس التفتيش العسكري الكائن في المابين، فعند ذلك أحضر المترجم قلبه ورفع اليدين، ودعا له بما فتح الله به في الحال، وأبدى من التشكر والثناء على العواطف الشاهانية ما لم يكن يخطر في ذلك الوقت ببال، حيث أنه لم يزل يخصه برعايته، ويلحظه بعين عنايته، ويقربه من رفيع سدته، ويدنيه من منيع حضرته، ويرفع حجاب الوسائط بينه وبينه، ويمنع عنه همه وكدره وغينه. أبقاه الله له وللأنام حصناً حصيناً، ووقاه ما يضره وأدامه لنا سلطاناً أميناً.
ثم إنني حينما دخل المحرم سنة سبع وثلاثمائة وألف قدمت له قصيدة تبريكاً بالعام، أحببت ذكرها هنا تتميماً للغرام، وهي:
ألفت الهوى طفلاً وكهلاً وأشيبا ... وما رمت لي ديناً سواه ومذهبا
ولم أر شخصاً مثل شخصي متيما ... ولم أدر قلباً مثل قلبي معذبا
رعى الله من بات الفؤاد بحبها ... حريقاً على جمر الغضا متقلبا
إذا ما محيا البدر قابلها صبا ... إليها وأبدى للمغيب وغربا
ممنعة لا يمكن الطرف أن يرى ... جمال محياها البديع المحجبا
جفتني ومن لي من جفاها وليس لي ... أخلاي ذنب في جفاها تسببا
ومذ صوبت قلبي بسهم صدودها ... رأيت سهام القتل أولى وأقربا
أشابت شعوري ثم مني تنكرت ... ومنها مشيبي كان من زمن الصبا
شغفت بها حباً ومالي مأرب ... سواها ولا أرضى سوى الحب مأربا
ولم أنس مذ قالت دلالاً ومحنة ... أراك بدعواك الغرام مكذبا
وسهدي وسقمي وانتحالي وأدمعي ... شهود عدول رامت الصدق مركبا
وقالت بأني في الغرام سلوتها ... ولست أرى السلوان في الحب مذهبا
فلا عشت إن مر السلو بخاطري ... ولا أم إن كنت أسلو ولا أبا
وكيف ترى المشغوف يسلو حبيبه ... وهيهات يسلو الصب مهما تعذبا
وكان على سمعي حديث ملامها ... ألذ على المحرور من نسمة الصبا
وما أجمل التأنيب فيمن تحبه ... وما أعذب التعذيب فيه وأطربا
أما والهوى العذري قلبي بحبها ... أسير ولا يرضى من الأسر مهربا
أبى الله إلا شقوتي في غرامها ... ولم يرج من يشقى سوى الذل مطلبا
رأيت نواها لي مبيداً وليتها ... تنيل المعنى من جنى الوصل مأربا
فبالله دعني عاذلي لا تلم فتى ... يرى الموت في شرع الصبابة أقربا
وحاشاي أني أرهب الموت في الهوى ... ولكن أرى هجري من الموت أصعبا
فشقي لجيبي في الهوى ليس نافعاً ... فمن لم يشق القلب كان مكذبا
فما العز إلا بالحبيب وعطفه ... وما الذل إلا أن تكون مخيبا
أفاتنتي بالوصل عطفاً تكرمي ... على مغرم لا زال مضنى معذبا
وليس له ذنب يقود إلى الردى ... سوى الحب إن الحب يدعو إلى الحبا
فبالله يا ذات الجمال وما الذي ... أمالك عن وصلي وهجري أوجبا
يميناً بمحي الدين باشا أبي الهدى ... سليل الندى من فاق شرقاً ومغربا
لأنت مني روحي ولم تر مقلتي ... سواك غدا في ذروة الحسن كوكبا
كما أن هذا الشهم شمس أولي العلا ... وفي فضله باح الزمان وأعربا
سما في المعالي واستقر بأوجها ... جمالاً وإجلالاً ومجداً ومنصبا
لقد ورث المجد المؤثل والعلا ... عن الغوث فرد الكون من قد تقطبا
أبيه الذي دانت له مهج الورى ... وكان لدى كل الأنام محببا
أبي الفضل عبد القادر الحسني الذي ... له كان متن الدهر للعز مركبا
هو ابن علي وابن سيد من سما ... محمد المختار أفضل مجتبى
فهذا هو الفخر الرفيع مقامه ... هنيئاً له قد فاز بالعز والحبا
فلا ريب أن الله أعطاه ما رجا ... وكمله خلقاً وخلقاً ومنسبا
فما هو إلا في البرية أوحد ... بآداب خير الخلق طراً تأدبا
همام أعاد الفضل من بعد ما قفا ... وجدد رسم الجود من بعد ما نبا
له شيم تسمو إلى ذروة العلا ... فقل ما تشا حمداً عليه مرتبا
تجمع فيه الجود والعلم والتقى ... لذا كان من ظل الأنام مقربا
أجل ملوك الأرض قدراً وقدرة ... خليفة خير الخلق شرقاً ومغربا
سليل العلا عبد الحميد الذي سما ... وقر على عرش الصعود وطنبا
فبشرى لمحي الدين باشا بنعمة ... عليها دوام الشكر مولاه أوجبا
فأين الجبال الشم من عظم قدره ... وإن له من سيد الرسل منسبا
إذا الناس قد راموا مديحاً بفعلهم ... فعنه لسان المدح لبى وأعربا
وإن ذكر السادات يوماً فذكره ... كبسملة القرآن ممن تأدبا
فللشمس إن شامت بوارق حسنه ... حياء به مالت إلى جهة الخبا
له هيبة بين الأنام وطلعة ... غدت في سماء العز للعين كوكبا
يغص العدا إن فاح عطر ثنائه ... كأنك تغريهم على السم مشربا
وفي قلبهم مهما تقدم للعلا ... من النار مقدار عليهم تلهبا
فقل للأعادي خاب ظنكم به ... فقولوا لموت الغيظ أهلاً ومرحبا
غدا رأيه في المشكلات مقدماً ... إذا خابت الآراء كان المصوبا
يرى بذله للمال لو جل هينا ... وكان لديه الحمد أعلا وأكسبا
رأت جوده سحب السماء فأيقنت ... بأن نداه كان أغلا وأغلبا
وإن هز في يوم الوغى سمهريه ... فليس لمن يبغي من الموت مهربا
وأسد الشرى تخشى مواقع بطشه ... ففي يده اليمنى المنية والحبا
ضحوك إذا استمطرت هاطل جوده ... وإن هب ريح الحرب حياه مرحبا
إذا نشرت يوماً دواوين مدحه ... أذاعت لنا عطراً من المسك أطيبا
أرق من الراح الشمول شمائلاً ... ولطفاً ولكن زاد عن نسمة الصبا
به قد غدا حمدي بهيجاً ومدحه ... لدي غدا من نغمة العود أطربا
بمالي وأهلي أفتديه ومهجتي ... وإن لامني اللاحي العذول وأنبا
لأني به قد نلت كل مآربي ... ولست سواه أرتجي العمر مطلبا
فيا سيداً ساد الأنام بسؤدد ... ويا جيداً في جوده الدهر أطنبا
تهن بما ترجو ودم في سيادة ... تكون لمن والاك عزاً ومنصبا
فلا زلت في أثواب سعدك رافلاً ... وشانيك ما دام الزمان مخيبا
وأبشر بعام عمه منك نفحة ... يضوع لها نشر القرنفل والربا
وحينما وقفت لديه، وتلوتها بين يديه، هش وبش وقابلني بسروره، وأفرغ علي حلة حبوره، وحباني من نعمه، وأولاني ما يدل على مزيد كرمه، ولم أزل عنده في دار السعادة متقلباً على فرش السعادة، فائزاً بكل مطلوب، حائزاً على كل مرغوب، ولما كمل لي في ضيافته عام، وما كأنه إلا لحظة أو منام، أذن لي بالسفر إلى الوطن والأهل، فأخذت في تهيئة الأسباب على مهل. ثم ودعته بعد أن أودعته قلبي، وفارقته وقد فارقني صبري ولبي:
لأصبر كرها لا احتمالاً فربما ... صروف الليالي مسعدات بأسعد
وأبعث أنفاسي إذا هبت الصبا ... تروح بتسليم عليه وتغتدي
ولم أبرح بحمد الله موصولاً بصلاته، ممتعاً بجميل نعمه وهباته، مسعوداً بحسن شمائله، مقصوداً بشريف كتبه ورسائله، أطال الله مدته وعمره، ورفع في الدارين حضرته وقدره، وأناله كل منى، وقصر أيامه ولياليه على السرور والهنا، وأهلك حاسده وضده وجعل السعد خادمه وعبده. هذا وإنني لم أزل أقابل بره الدائم بالثناء الجميل، وأصرف مدة العمر عليه بالدعاء الجليل.
وغاية جهد أمثالي ثناء ... يدوم مدى الليالي مع دعاء
البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.