محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني أبي الفيض

مرتضى الزبيدي

تاريخ الولادة1145 هـ
تاريخ الوفاة1205 هـ
العمر60 سنة
مكان الولادةالهند - الهند
مكان الوفاةمصر - مصر
أماكن الإقامة
  • الحجاز - الحجاز
  • الطائف - الحجاز
  • الهند - الهند
  • زبيد - اليمن
  • مصر - مصر

نبذة

محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الزبيدي، أبو الفيض، الملقب بمرتضى: علّامة باللغة والحديث والرجال والأنساب، من كبار المصنفين. أصله من واسط (في العراق) ومولده بالهند (في بلجرام) ومنشأه في زبيد (باليمن) رحل إلى الحجاز، وأقام بمصر، فاشتهر فضله

الترجمة

محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الزبيدي، أبو الفيض، الملقب بمرتضى:
علّامة باللغة والحديث والرجال والأنساب، من كبار المصنفين. أصله من واسط (في العراق) ومولده بالهند (في بلجرام) ومنشأه في زبيد (باليمن) رحل إلى الحجاز، وأقام بمصر، فاشتهر فضله وانهالت عليه الهدايا والتحف، وكاتبه ملوك الحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب الأقصى والترك والسودان والجزائر. وزاد اعتقاد الناس فيه حتى كان في أهل المغرب كثيرون يزعمون أن من حج ولم يزر الزبيدي ويصله بشئ لم يكن حجه كاملا! وتوفي بالطاعون في مصر.
من كتبه (تاج العروس في شرح القاموس - ط) عشرة مجلدات، و (إتحاف السادة المتقين - ط) في شرح إحياء العلوم للغزالي، عشرة مجلدات، طبعة مصر، و (أسانيد الكتب الستة - خ) و (عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة - ط) مجلدان، و (كشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام) و (رفع الشكوى وترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب - ط) و (معجم شيوخه - خ) و (ألفية السند - خ) في الحديث 1500 بيت، وشرحها، و (مختصر العين - خ) في اللغة، اختصر به كتاب العين المنسوب للخليل بن أحمد، و (التكملة والصلة والذيل للقاموس - خ) في مجلدين ضخمين، و (إيضاح المدارك بالإفصاح عن العواتك - خ) رسالة، و (عقد الجمان في بيان شعب الإيمان - خ) رسالة أيضا، و (تحفة القماعيل، في مدح شيخ العرب إسماعيل - خ) بخطه، و (تحقيق الوسائل لمعرفة المكاتبات والرسائل - خ) و (جذوة الاقتباس في نسب بني العباس - خ) و (حكمة الإشراق إلى كتّاب الآفاق - ط) و (الروض المعطار في نسب السادة آل جعفر الطيار - خ) و (مزيل نقاب الخفاء عن كنى سادتنا بني الوفاء - خ) لعله المسمى أيضا (رفع نقاب الخفا، عمن انتمى إلى وفا وأبي ألوفا - خ) اقتنيته. و (بلغة الغريب في مصطلح آثار الحبيب - ط) و (تنبيه العارف البصير على أسرار الحزب الكبير - خ) و (سفينة النجاة المحتوية على بضاعة مزجاة من الفوائد المنتقاة - خ) و (غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد مسلم بن الحجاج - خ) و (عقد اللآلي المتناثرة في حفظ الأحاديث المتواترة - خ) و (نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح - خ) وكان يحسن التركية والفارسية وبعضا من لسن الكرج، و (العرائس المجلوة في ذكر أولياء فوّة - خ) في الرباط (2371 ك)  .

-الاعلام للزركلي-

 

السيد مرتضى الزبيدي بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق بن عبد الغفار بن تاج الدين بن حسين بن جمال الدين بن إبراهيم بن علاء الدين بن محمد بن أبي العز بن أبي الفرج بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن ناصر الدين بن إبراهيم بن القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن علي بن زين العابدين بن الحسين السبط الإمام الفاضل والهمام الكامل، قال صاحب عجائب الآثار في ترجمة هذا السيد المعدود من الأخيار، هو علم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كل فج، وخاض من العلم كل لج، المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والأقلام، ذو المعرفة والمعروف وهو العلم الموصوف، العمدة الفهامة والرحلة النسابة العلامة، الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي، الناظم الناثر.

ولد سنة خمس وأربعين ومائة وألف، كما سمعته من لفظه ورأيته بخطه، ونشأ ببلاده، وارتحل في طلب العلم، وحج مراراً، واجتمع بالشيخ عبد الله السندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، وعب السقاف، والمسند محمد بن علاء الدين المزجاجي، وسليمان بن يحيى، وابن الطيب، واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة، وبالشيخ عبد الله ميرغني الطائفي في سنة ثلاث وستين، ونزل بالطائف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين، فقرأ على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيراً من مؤلفاته وأجازه، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة وأجازه بمروياته ومسموعاته، قال وهو الذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان، وقرأ عليه طرفاً من الإحيا وأجازه بمروياته، ثم ورد إلى مصر في تاسع صفر سنة سبع وستين ومائة وألف، وسكن بخان الصاغة، وأول من عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه، وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه، واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان وأولاه بره، حتى راج أمره وتورنق حاله، واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، وأكرمه شيخ العرب همام، وإسماعيل أبي عبد الله، وأبي علي وأولاد نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه، وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة وباقي البنادر العظيمة مراراً، حين كانت مزينة بأهلها عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك، وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم.

وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظماً ونثراً، لو جمعت كانت مجلداً ضخماً، وكناه سيدنا السيد أبي الأنوار بن وفا بأبي الفيض، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا يوم زيارة المولد المعتاد، ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنة بوكالة الصاغة.
وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلداً، وسماه تاج العروس، ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية، وذلك في سنة إحدى وثمانين ومائة وألف، وأطلعهم عليه واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة إطلاعه ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نظماً ونثرا، فممن قرظ عليه شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير، والسيد عبد الرحمن العيدروس، والشيخ محمد الأمير، والشيخ حسن الجداوي، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ عيسى البراوي، والشيخ محمد الزيات، والشيخ محمد عبادة، والشيخ محمد العوفي، والشيخ حسن الهواري، والشيخ أبي الأنور السادات، والشيخ علي القناوي، والشيخ علي خرائط، والشيخ عبد القادر بن خليل المدني، والشيخ محمد المكي، والسيد علي القدسي، والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا، والشيخ علي الشاوري، والشيخ محمد الخربتاوي، والشيخ عبد الرحمن المقري، والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي، وهو آخر من قرظ عليه، وكنت إذ ذاك حاضراً، وكتبه نظماً ارتجالا، وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربع وتسعين ومائة وألف وهذا نصه:
شرح الشريف المرتضى القاموسا ... وأضاف ما قد فاته قاموسا
فقدت صحاح الجوهري وغيرها ... سحر المدائن حين ألقى موسى
إذ قد أبان الدر من صدف النهى ... في سلك جوهرة اللهى تأنيسا

وبنى أساساً فائقاً واختار في ... اتقانه مختاره تأسيسا
فأثار من مصباح مزهر نوره ... عين الغبي فأبصرته نفيسا
فهو الفريد فلا يثنى جمعه ... إذ لا يحاك كمثله تدليسا
فلسان نظمي عاجز عن مدحه ... فالله ينشر نثره تقديسا
ويديم مولاي الشريف بعصرنا ... في كل قطر للهداة رئيسا
وإذا توجه لي بلمحة نظرة ... إني سعيد لا أصير خسيسا
أهدي الصلاة مع السلام لجده ... هدياً جزيلاً لا يطاق مقيسا
والآل مع صحب وهذا المرتضى ... ومن ارتضى ومن اصطفاه أنيسا
وقد ذكرت بعض التقريظات في تراجم أصحابها، ومنها تقريظ الشيخ علي الشاوري الفرشوطي، أذكره لما فيه من تضمن رحلة المترجم إلى فرشوط ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين.
الحمد لله منطق البلغاء بأفصح البيان، ومودع لسان الفصيح حلاوة التبيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الملوان، وبعد فإن للعلوم شعباً وطرائق، وهضاباً وشواهق، يتفرع من كل أصل منه فنون، ومن كل دوحة فروع وغصون، وإن من أجل العلوم معرفة لغات العرب، التي تكاد ترقص العقول عند سماعها من الطرب، وكان ممن كيل له ذلك بالكيل الوافر، وطلع في سمائها طلوع البدور السوافر، ومر في ميدانها طلق العنان، وشهد له بالفصاحة القلم واللسان، حلية أبناء العصر والأوان، ونتيجة آخر الزمان، العدل الثبت الثقة الرضى، مولانا السيد الشريف المرتضى، متعنا الله بوجوده، وأطال عمره بمنه وجوده، وقد من الله علينا وشرفنا بقدومه الصعيد، فكان فيه كالطالع السعيد، فحصل لنا به غاية الفرح، وفرت العين به واتسع الصدر وانشرح، وقد أطلعني على بعض شرحه على قاموس البلاغة فإذا هو شرح حافل، ولكل معنى كافل، وقد مدحه جمع من السادة العلماء الأعلام،

خصوصاً شيخنا وأستاذنا العلامة البطل الهمام، خاتمة المحققين بالاتفاق، أوحد الأئمة المجتهدين الحذاق، أستاذنا الشيخ علي الصعيدي العدوي، وناهيك به من شاهد، وكل ألف لا تعد بواحد، فهو مؤلف جدير بأن يثنى عليه، وحقيق بأن تشد الرحال إليه، كيف وهو صياغة نبراس البلاغة، وفارس البداعة والبراعة. الذي قلت فيه حين قدم فرشوط بلدتنا:
قد حل في فرشوطنا كل الرضى ... مذ جاءها الحبر النفيس المرتضى
أكرم به من طود فضل شامخ ... من نسل من نرجو همو يوم القضا
جاد الزمان بمثله فحسبته ... من أجل هذا قد يعود بمن مضى
عجباً لدهر قد يجود بمثله ... ورواؤه قدماً تولى وانقضى
أحيا فنون العلم بعد فنائها ... وأزال غيهبها بتحقيق أضا
لا سيما علم اللغات فإنه ... قد شيد الأس الذي منه نضا
أمست به فرشوط تفخر غيرها ... وتبلجت أقطارها حتى الغضا
لما تولى ذاهباً من عندنا ... فكأن في أحشائنا نار الغضا
وقد اجتمع السيد السند العظيم بأمير المنهل العذب الرحيق الذي قصد من كل فج عميق كهف الأنام، الليث الهمام، شيخ مشايخ العرب الشيخ همام لازالت همته هامية، ودواعيه إلى فعل الخير نامية، فأحله من التعظيم لمكانه الأقصى، متأدباً معه بآداب لا تعد ولا تحصى، وهو جدير بذلك:
فما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مسلوب الفؤاد جميل
أعاد الله علينا من بركاته وصالح دعواته، في خلواته وجلواته، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
قائل هذا النظم والنثر العبد الفقير، إلى مولاه الغني القدير، علي بن صالح بن موسى الشهير بالشاوري جنبه الله شرور نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه، والله ولي التوفيق انتهى.
وقال سيدي الجبرتي في ترجمته للمترجم المرقوم وكتب للمرحوم الوالد يسأله الإجازة والتقريظ بقوله:

أمولاي بحر العلم يا من سناؤه ... يفوق ضياء الشمس في الشرق والغرب
ويا وارث النعمان فقهاً وحكمة ... وزهداً له قد شاع في البعد والقرب
عبيدكم الظمآن قد جاء يرتجي ... ملاحظة منها يفوز قضا الأرب
ويسأل في هذا الكتاب إجازة ... بتقريظه حتى يفوق على الكتب
حباكم إله العرش منه كرامة ... وعيشاً هنيئاً في أمان بلا كرب
وقابلكم بالجبر يوم حسابه ... بحسن وجازاكم بفضل وبالقرب
وينصب في الآفاق أعلام علمه ... ويقرن بالتوفيق إخلاصه القلبي
وصلى إله العرش ربي على الرضا ... محمد المبعوث للعجم والعرب
واتبعه بالآل والصحب كلهم ... نجوم الهدى يحيا بذكرهم قلبي
ولما أنشأ محمد بيك أبي الذهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر، وعمل فيه خزانة للكتب، واشترى جملة من الكتب ووضعها بها، أنهوا إليه شرح القاموس هذا، وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك، فطلبه وعوضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها. ولم يزل المترجم بخدم العلم ويرقى في درج المعالي ويحرص على جمع الفنون، التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث، واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألف في ذلك كتباً ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوائل سنة تسع وثمانين ومائة وألف، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف ويعظهم، ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، فأقبلوا عليه من كل جهة وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريباً وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، ويعرف باللغة التركية والفارسية، بل وبعض لسان الكرج، فانجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه، ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سنداً بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك، ثم إن بعض علماء الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعداً عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخوني، واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها، وتناقل في الناس سعي علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعي والشيخ مصطفى الطائي والشيخ سليمان الأكراشي وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني، فانتقل من الرواية عن الدراية، وصار درساً عظيماً، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضاً، وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثاً من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين، وافتتح درساً آخر في مسجد الحنفي وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم. ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي، وكاتب الأسماء فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية، كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده، وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك: صحيح ذلك، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة.
يقول الحقير إني كنت مشاهداً وحاضراً في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق، وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل غيض المعدية والأزبكية وغير ذلك، فكنا نشتغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها، وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ، وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن. وانجذب إليه بعض الأمراء الكبار مثل مصطفى بك الاسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله، وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال. واشترى الجواري وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة. وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر، وسمع به فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية. ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه وخلع عليه فروة سمور، ورتب له تعييناً من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة وغلالاً من الأنبار، وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة، وقدره مائة وخمسون نصفاً فضة في كل يوم، وذلك في سنة إحدى وتسعين ومائة وألف، فعظم أمره وانتشر صيته. وطلب إلى الدولة في سنة أربع وتسعين، فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة، وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق. وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فوقع لهم موقعا، وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا، والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها، وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة، وماء الكاري والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال، وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد، وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى أن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجاً ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملاً، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده، فيقول له فلان من بلدة كذا، فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقاً أن عرف جاره أو قريبه، فيقول له فلان طيب فيقول نعم سيدي، ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح، فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئاً ما، أو تمراً أو شمعاً على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده، وقس على ذلك ما لم يقل.
وشرع في شرح كتاب إحياء العلوم للغزالي وبيض منه أجزاء، وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس، ويرغب في طلبه واستنساخه.
وماتت زوجته في سنة ست وتسعين فحزن عليها حزناً كثيراً، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية، وعمل على قبرها مقاماً ومقصورة، وستوراً وفرشاً وقناديل، ولازم قبرها أياماً كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسون والقهوة والشربات، واشترى مكاناً بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتاً صغيراً، وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحياناً، وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه، ورثاها هو بقصائد وجدتها بخطه بعد وفاته في أوراقه المدشتة، على طريقة شعر مجنون ليلى، منها قوله:
أعاذل من يرزأ كرزئي لا يزل ... كئيباً ويزهد بعده في العواقب
أصابت يد البين المشت شمائلي ... وحاقت نظامي عاديات النوائب
وكنت إذا ما زرت زبدا سحيرة ... أعود إلى رحلي بطين الحقائب
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها ... من الخفرات البيض غير الكواعب
فتاة الندى والجود والحلم والحيا ... ولا يكشف الأخلاق غير التجارب
فديت لها، ما يستذم رداؤها ... عميدة قوم من كرام أطايب
عليها سلام الله في كل حالة ... ويصحبه الرضوان فوق المراتب
مدى الدهر ما ناحت حمامة أيكة ... بشجو يثير الحزن من كل نادب

وقوله أيضاً:
يقولون لا تبكي زبيدة واتئد ... وسل هموم النفس بالذكر والصبر
وتأتي لي الأشجان من كل وجهة ... بمختلف الأحزان بالهم والفكر
وهل لي تسل من فراق حبيبة ... لها الجدث الأعلى بيشكر من مصر
أبى الدمع إلا أن يعاهد أعيني ... بمحجرها والقدر يجري إلى القدر
فأما تروني لا تزال مدامعي ... لدى ذكرها تجري إلى آخر العمر
وقوله أيضاً:
خليلي ما للأنس أضحى مقطعاً ... وما لفؤادي لا يزال مروعا
أمن غير الدهر المشت وحادث ... ألمّ برحلي أم تذكرت مصرعا
وإلا فراق من أليفة مهجتي ... زبيدة ذات الحسن والفضل أجمعا
مضت فمضت عني بها كل لذة ... تقر بها عيناي فانقطعا معا
لقد شربت كأساً سنشرب كلنا ... كما شربت لم يجد عن ذاك مدفعا
وقوله أيضاً:
خليلي هل ذكرى الأحبة نافع ... فقد خانني الصبر الجميل العواقب
وهل لي عود في الحمى أم تراجع ... لوصل بتلك الآنسات الكواعب
لقد رحلت عني الحبيبة غدوة ... وسارت إلى بيت بأعلى السباسب
أقول وما يدري أناس غدوا بها ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السباسب
فأخرت عنها في المسير وليتني ... تقدمت لا ألوي على حزن نادب
وقوله أيضاً:
زبيدة شدت للرحيل مطيها ... غداة الثلاثا في غلائلها الخضر
وطافت بها الأملاك من كل وجهة ... ودق لها طبل السماء بلا نكر
تميس كما ماست عروس بدلها ... وتخطر تيها في البرانس والأزر
سأبكي عليها ما حييت وإن أمت ... ستبكي عظامي والأضالع في القبر
ولست بها مستبقياً فيض عبرة ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر!

وقوله أيضاً:
نعم الفتاة بها فجعت غدية ... وكذاك فعل حوادث الأيام
شدت مطايا البين ثم ترحلت ... وتمايلت أكوارها بسلام
رحلت لرحلتها غداة تجملت ... أحلامنا من قاعد وقيام
ما خلفت من بعدها في أهلها ... غير البكا والحزن والأيتام
يا لهف نفس حسن أخلاق لها ... جبلت عليه ووصلة الأرحام
وإطاعة للبعل ثم عناية ... صرفت لإطعام ولين كلام
تلك المكارم فابكها ما رنحت ... ريح الصبا سحراً غصون بشام
يا وارداً يوماً على قبر لها ... قف ثم راجع من شج بسلام
وقلن لها قد كنت فيما قد مضى ... تأتي له عند اللقا بمقام
واليوم مالك قد هجرت فهل لذا ... سبب فقولي يا ابنة الأعلام
وغير ذلك تركته خوفاً من الإطالة، وفي هذا القدر كفاية في هذا المقام.
ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره.
ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء واعتكف بداخل الحريم، وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة. وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين اردبا من البر، وأحمالاً من الأرز والسمن والعسل والزيت، وخمسمائة ريال نقود، وبقج كساوي أقمشة هندية وجوخاً وغير ذلك، فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بك الاسكندراني وغيرهما، وحضرا إليه، فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما، ورجعا من غير أن يواجهاه.

ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر، لم يذهب إليه بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصاناً معدوداً مرختاً بسرج، وعباءة قيمتها ألف دينار، أعد ذلك وهيأه قبل زيارته له، وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال، وقبل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها في الحال.
وأرسل مرة إلى أحمد بك الجزار مكتوباً وذكر له فيه أنه المهدي المنتظر! وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الإحراز والتمائم، فكان يسر بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعي المعارف في الجفور والزايرجات، ويعتقد صحته بلا شك، ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء أحبه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وأبعده ومنع عنه بره، ولو كان من أهل الفضائل! واشتهر ذلك عنه عند من عرف ذلك منه بالفراسة، ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما.
واتفق أن مولاي محمداً سلطان المغرب رحمه الله تعالى وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء، فأرسل له في سنة إحدى ومائتين صلة لها قدر، فردها، وتورع عن قبولها وضاعت، ولم ترجع إلى السلطان، وعلم السلطان من جوابه فأرسل إليه مكتوباً قرأته، وكان عندي ثم ضاع في الأوراق، ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة، ويقول له إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين، وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقراء والمحتاجين، فيكون لنا ولك أجر ذلك، إلا أنك رددتها وضاعت، ويلومه أيضاً على شرحه كتاب الإحياء ويقول له كان ينبغي أن تشغل وقتك بشيء نافع غير ذلك، ويذكر وجه لومه له في ذلك، وما قاله العلماء، وكلاماً مفحماً مختصراً مفيداً رحمه الله تعالى.
وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الإحياء تأليفات كثيرة، منها كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه مما وافق فيه الأئمة الستة، وهو كتاب نفيس حافل، رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات، ثم في العمليات، على ترتيب كتب الفقه، والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية، جمع فيه أسانيد العيدروس، وهي في نحو عشرة كراريس، والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين، وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق. وشرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراساً ألفها لعلي أفندي درويش، وألف باسمه أيضاً التفتيش في معنى لفظ درويش، ورسائل كثيرة جداً، منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا، وبلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، وإعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام، وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلهام بشرح صيغة سيدي عبد السلام، ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري، ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق، والقول المثبوت في تحقيق لفظ التأبيت، وتنسيق قلائد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن، ولقط اللآلي من الجوهر الغالي، وهي في أسانيد الأستاذ الحفني، وكتب له إجازته عليها في سنة سبع وستين، وذلك سنة قدومه إلى مصر، والنوافح المسكية على الفوائح الكشكية، وجزء في حديث نعم الأدام الخل، وهدية الإخوان في شجرة الدخان، ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية، وإتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي، وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتني هود، والمربي الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي، والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية، ورسالة في المناشي والصفين، وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس مستقل على لسان القوم، وشرح على حزب البر للشاذلي وتكملة على شرح حزب البكري للفاكهي من أوله، فكمله للشيخ أحمد البكري، ومقامة سماها إسعاف الأشراف، وأرجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي، وحديقة الصفا في والدي المصطفى، وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي، ورسالة في طبقات الحفاظ، ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي وليس من الكرم، الخ وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب، صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني، والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة، والمنح العلية في الطريقة النقشبندية، والانتصار لوالدي النبي المختار، وألفية السند، ومناقب أصحاب الحديث، وكشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام، ورفع الشكوى لعالم السر والنجوى، وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب، ورفع الكلل عن العلل، ورسالة سماها قلنسوة التاج ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري ويكتب عليها تقريظاً ففعل ذلك، وكتب إليه يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة وسماها قلنسوة التاج، وأولها بعد البسملة الحمد لله الذي رفع متن العلماء وشرح بالعلم صدورهم، وأعلا لهم سنداً وصحح الحسن من حديثهم فصار موصولاً غير مقطوع ولا متروك أبداً، وحمى قلوبهم عن ضعف اليقين في الدين، فلم تضطرب ولم تنكر الحق بل صارت لإفادته مقصداً. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وآله أئمة الهدى، وصحبه نجوم الاهتدا، ما اتصل الحديث وتسلسل، وسلم من العلل، والشذوذ سرمدا. وبعد فهذه قلنسوة التاج، صنعت بأفخر ديباج، بل غنية المحتاج وبل صدى المزاج، وزهرة الابتهاج والقصر المشيد بالأبراج، والمصباح المغني عن أبي السراج، بل الدرع الموصوف بلآلي عوالي غوالي، أحاديث موصولة إلى صاحب الإسراء والمعراج، رصعت باسم الكوكب الوضاح المستنير بأضواء مصباح الفلاح، المتشح باردية أسرار التحقيق والمتزر بملاءة أنوار التوفيق، المنصف في جدله غير محاب لقريب والآتي من تقريره بالعجب العجيب، ذي المناقب التي لا يستوعبها البنان واللسان، ولا يبلغ أداء شكره، ولو أطلقت اللسان بالثناء عليه على ممر الزمان، صاحبنا الفاضل العلامة الجمال محمد بن بدير الشافعي المقدسي رحمه الله تعالى آمين.
إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا
أضاء الله بدر كماله، وحرس مجده بجلاله، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود وكتب في آخرها ما نصه:
أجزت له إبقاء ربي وحاطه ... بكل حديث حاز سمعي بإتقان
وفقه وتاريخ وشعر رويته ... وما سمعت أذني وقال لساني
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريئاً عن التصحيف من غير نكران
كتبت له خطي واسمي محمد ... وبالمرتضى عرفت والله يرعاني
ولدت بعام ارخوا فك ختمه ... وبالله توفيقي وبالله تكلاني
وكتب معها جواب كتابه ما نصه: أمعاطف أغصان النقا تترنح، أم القلوب بميلانها إلى المحبوب تتروح، ورنات أوتار العيدان بأنات أهل الغرام والشوق، أم هيجان البلابل بسجوع البلابل وتغريد ذات الطوق، أم دعوة روح القدس تهتف بميت فيقوم حيا، أم مقدم عيس حبيب أحيا تدانيه عشاق معاليه وحيا، ما هذه إلا صدى تشبيب نسيم بث الشوق وإهداء التحيات، كلا بل نفحات عبهر الثناء وإرسال تحف التسليمات إلى ممد ماء الحب من ميم مد بحره البسيط، والفيض للمجتدي من رشحات قاموس بره المحيط، من نثر لآليء القول البديع على مفارق مهارق الصباحة والملاحة، ونشر ملاءة الإحسان على غرة طلعة تاج عروس الفصاحة، مردي فارس البراعة في الميدان إذا اقتعدها سلهبا سبوحا، الممطر غارب النجابة والإتقان بجلالة قدر تخضع له من الفلك الأطلس برجا، هو الذي إذا قال أقال عثار الدهر، وقال تحت إفياء ظلال دوحة الفخر، وإذا رقم فصفحة الفلك بالزواهر، مرقومة، وإذا رسم فجبهة الأسد بايات الحرس موسومة، وشاهدي ما شاهدته في كتابه المنيف الواصل إلي، وخطابه الشريف الوارد علي، فعين الله على منشئ تلك الفصاحة سملت من الحصر، إلا وإن وردها الحضر أعيا البدو والحضر، وقد صدر إليه ما أشار على المحب في ختام خطابه، وعرج عليه هضماً لنفسه فلم يك إلا كالمسك يتنافس فيه وراد جنابه. ولو أن فيوضات العلوم والمعارف من غير حماكم لا تستماح، وممدات المنح والعوارف من غير حيكم لا تستباح، ولكن رأى الإطاعة في ذلك مغنما، وتحقق التباطؤ في مثل ذلك مغرماً، فأشرق أفق سعد القبول بمقياسه، وسعى قلم الإجازة في الخدمة على كراسه، وعطر بيان أسانيد العوالي فردوس الأسناد بأنفاسه، وهبت غالية نسائم كمائم اللطائف، وهبت بارقة غمائم المشارق والمراشف، وتمايلت أفنان الاتصال برماح علو الإسناد، وسقى قلم التحرير رياض الإجازة من جريال الإمداد، فدونكها إجازة خاصة، على مدارج كمالاتك ناصة، كأنها عروس جليت بالتاج، وحليت بأفخر ديباج، ولولا مخافة طول العهد، والتماس السعد في الحث على إنجاز الوعد، بتنضد تاج الملفقات، لكانت مفلقات الكلم المتفرقات، بغيث ذكركم المنسجم مجلدات، فهي بطاقة تحمل في كل كلمة غريدة بان، وتنفث السحر في عقد البيان، فامتط غارب سنامها، واهتصر ثمرات نظامها، دمت لذروة المعالي متسنماً، ولأنفاس رياض السعادة متنسماً آمين.
أقول: والشيخ محمد بدير المذكور، هو الآن فريد عصره في الديار المقدسة، يبدي ويعيد ويدرس ويفيد، بارك الله فيه مدى الأيام، وامتع بوجوده الأنام آمين.
وللمترجم أشعار كثيرة جوهرية النفثات صحاح، وعرائس أبيات ذات وجوه صباح، منها قوله من قصيدة يمدح بها الأستاذ العلامة شمس الدين السيد محمد أبا الأنوار بن وفا أطال الله بقاه، ويذكر فيها نسبه الشريف منها:
مدحت أبا الأنوار أبغي بمدحه ... وفور حظوظي من جليل المآرب
نجيباً تسامى في المشارق نوره ... فلاحت بواديه لأهل المغارب
محمد الباني مشيد افتخاره ... بعز المساعي وابتذال المواهب
ربيب العلا المخضل سيب نواله ... سماء الندى المنهل صوب السحائب
كريم السجايا الغر واسطة العلا ... بسيم المحيا الطلق ليس بغاضب
حوى كل علم واحتوى كل حكمة ... ففات مرام المستمر الموارب
به ازدهت الدنيا بهاء وبهجة ... وزادت جمالاً من جميع الجوانب
مخايله تنبيك عما وراءها ... وأنواره تهديك سبل المطالب
له نسب يعلو بأكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب
وهي طويلة ذكرها في خاتمة رفع نقاب الخفاء. ومن كلامه في مدح المشار إليه قوله:

زار عن غفلة من الرقباء ... في دجى الليل طيف حب نائي
يا لها زورة على غير وعد ... نسخت آيها ظلام النائي
بت منها منعماً في سرور ... ومحا نورها دجى الظلماء
وتجلى إشراقها بوصال ... مهديا للقلوب كل هناء
ويقول في مديحها:
عمدة ماجد مكنى أبا الأن ... وار رب الفخار نجل الوفاء
أشرف العالمين أصلاً وفصلاً ... مفرد العصر نخبة الأصفياء
ويقول فيها:
أشرقت في قلوبنا من سناه ... نيرات بهية الأضواء
هو روح الإله في كل مجلى ... هو تاج الجمال للعلياء
هو بدر البدور في كل أوج ... هو نجم الهدى وشمس الضحاء
هو باب المنى فتحاً ونصراً ... منه تمت مظاهر النعماء
هو رجائي وعدتي ونصيري ... واعتمادي في شدتي ورخائي
ومدحه صاحبنا يتيمة الدهر، وبقية نجباء العصر، الناظم الناثر السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب، بهذه القصيدة الغراء اللامية وهي:
ذاك المحيا وذاك الفاحم الرجل ... با آبلبي وتلك الأعين النجل
وبي غزالاً إذا شمس الضحى أفلت ... أراه شمساً وجنح الليل منسدل
أغن أغيد وضاح الجبين له ... خد أسيل وطرف كله كحل
نشوان لم يحتسي صرفاً مشعشعة ... لكنه بالذي في ثغره ثمل
أقام في كبدي الوجد المضر به ... حتى تحلل فيما تسفح المقل
وفي الجوانح أذكى صده حرقاً ... تكاد من حرها الأحشاء تشتعل
حملت فيه الذي تعي الجبال به ... وما لقيس بما قاسيته قبل
كم بت فيه وأشواقي تؤرقني ... ودمع عيني على خدي ينهمل
وعاذل جاء يلحاني فقلت له ... دعني بمدحي إمام العصر أشتغل

محمد المرتضى الراقي ذرى شرف ... تلوح من دونه الجوزاء والحمل
السيد السند الثبت الموضح ما ... للعجز قد تركت إيضاحه الأول
صدر الشريعة مصباح البرية من ... يضيق عن وصفه التفصيل والجمل
أحيا معالم علم كنت أنشدها ... إنا محبوك فاسلم أيها الطلل
وقام في الله للإسلام منتصراً ... وكاد لولاه يصغي الحادث الجلل
أعيا أكف الكرام الحافظين له ... في رقم صالح قول أثره عمل
للخط أولا فللخطي راحته ... فما له عنهما إلا الندى شغل
ومنها:
ضرائب من معال لم يخص بها ... غلاه منها سواه حظه العطل
يا ابن الذي قد غدا جبريل خادمه ... وبشرت قومها قدما به الرسل
خذها إليك وإن كانت مقصرة ... حسبي علا أنها حبلي المادح الغزل
لا زلت مبلغ مثلي ما يؤمله ... وللمروع أمناً إن عرا وجل
فأجابه بقوله:
اعقد لآل أم نجوم ثواقب ... أم الروض فيه الورق جاءت تخاطب
وإلا غروس في ملاء محاسن ... لها الصون عن عين الحواسد حاجب
والانظام من حبيب ممجد ... أخي الفضل من دانت لديه الغوارب
وهي طويلة، وله أيضاً:
إذا ما هب سلطان المريسي ... وأبدى الجو وجهاً للعبوس
فزعت بمفرد الكافات يأتي ... بجمع حاصل هو كاف كيسي
به أصبحت أرفل في كساء ... به أمسيت في كن نفيس
به تجلى من السمراء كأسي ... إلي على يدي غزلان خيس
فارشف تارة منها وطورا ... من الثغر الشنيب بلا مقيس

وله في المعنى:
إذا ضم قطر الجو عنا ... وهبت رياح بالعشية بارده
قصرت على كاف الكتاب مطالعاً ... ومقتبساً منه فوائد شارده
وله أيضاً:
قد عد قوم في الشتاء لذائذا ... كافية تكفي لدى الأنواء
كالكيس والكانون والكن الذي ... يأوي له العاني وكأس طلاء
ثم الكتاب وسادس الكافات من ... شمس تضيء دنت وكاف كساء
ولدي أن الكيس يجمع كل ما ... ذكروا من الأفراد والأجزاء
وله في المعنى:
لكاف الكيس فضل مستمر ... يفوق به على الكافات طرا
إذا ظفرت به كفاك يوماً ... تسنى سائر الكافات قسرا
وله أيضاً في المعنى:
إذا هب سلطان المريسي غدوة ... وجلل آفاق السماء سحاب
وضاق لتحصيل الأماني مذاهب ... فنعم جليس الصالحين كتاب
وله أيضاً:
كاف الكياسة مع كيس إذا اجتمعا ... يوماً لمرء إلا في العصر سلطانا
بالكيس يصبح مقضياً حوائجه ... وبالكياسة يولي الكيس إحسانا
والكيس منفردا مضن بصاحبه ... والكيس منفرداً يوليه مجانا
وله في إجازة:
أجزت لمن حوى قصب الفخار ... وجلى في العلوم فلا مجاري
رواياتي جميعاً عن شيوخ ... ثقات أهل فضل واختبار
لهم بين الملا صيت ومجد ... وفخر واعتماد في اشتهار
ومنظومي ومنثوري جميعاً ... وإن لم أك أهلا لاعتبار

وحسن الظن بالاغضا كفيل ... ورعي العهد مع بعد المزار
فأنت المفرد العلم المنادي ... ومثلك من أصاخ إلى اعتذار
ولا تغفل محبك من دعاء ... بنيل القصد في تلك الديار
ويرجو المرتضى منكم قبولا ... عسى يعطى الرضى عند القرار
بجاه المصطفى خير البرايا ... إمام المرسلين المستجار
على عليائه أزكى سلام ... وصحب ما أضت شمس النهار
وله في أسماء أهل الكهف على الخلاف الوارد فيهم:
بتمليخ مكسلمين مشلين بعده ... دبرنوش مرنوش أشداء للكهف
وخذشادنوشا سادس الصحب ذاكرا ... كغشططيوش في رواية ذي العرف
نوانس سانينوس مع بطينوشهم ... مكرطونش تلك الروايات فاستوف
وكشفوطط كندسلططنوس هكذا ... روينا وارنوش على حسب الخلف
وبنيونس كشنيطط اربطانس ... ومرطوكش عند الأجلة في الصحف
وكلبهم قطمير سابع سبعة ... فخذ وتوسل يا أخا الكرب والرجف
ومن كلامه أيضاً:
توكل على مولاك واخش عقابه ... وداوم على التقوى وحفظ الجوارح
وقدم من البر الذي تستطيعه ... ومن عمل يرضاه مولاك صالح
وأقبل على فعل الجميل وبذله ... إلى أهله ما اسطعت غير مكالح
ولا تسمع الأقوال من كل جالب ... فلا بد من مثن عليك وقادح
ونظمه كثير، ونثره بحر غزير، وفضله شهير وذكره مستطير. وكنت كثيراً ما أجتلي وجه وداده، وأوقد نار الفكرة بقدح واري زناده، واستظل بدوحه المريع، واستمد من بحره السريع، وأسامره بما يذكرنا عهود الرقمتين، وأتنزه من صفات فضله وذاته في الربيعين، كما قيل:

وكانت بالعراق لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني
وبالجملة فإنه كان في جمع المعارف صدراً لكل ناد، حتى قوض الدهر منه رفيع العماد، وأذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، كما قيل:
وزهرة الدنيا وإن أينعت ... فإنها تسقى بماء الزوال
وقد نعاه الفضل والكرم، وناحت لفراقه حمائم الحرم؛ وأصيب بالطاعون في شهر شعبان، وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره، فطعن بعد ما فرغ من الصلاة، ودخل إلى البيت واعتقل لسانه تلك الليالي، وتوفي يوم الأحد، فأخفت زوجته وأقاربها موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر، والأمتعة والكتب المكلفة، ثم أشاعوا موته يوم الاثنين، فحضر إسماعيل بك طبل الإسماعيلي، ورضوان كتخدا المجنون وادعى أن المتوفى أقامه وصيا مختاراً، وعثمان بك ناظراً بسبب أن زوج أخت الزوجة من أتباع المجنون، يقال له حسين آغا، فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق، أخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج، وخرجوا بجنازته وصلوا عليه، ودفن بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية، ولم يعلم بموته أهل الأزهر ذلك اليوم، لاشتغال الناس بأمر الطاعون، وبعد الخطة، ومن علم منهم وذهب لم يدرك الجنازة، ومات رضوان كتخدا في أثر ذلك، واشتغل عثمان بك بالإمارة لموت سيده أيضاً، وأهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربها متروكاته، ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة إلى دارهم، ونسي أمره شهوراً، حتى تغيرت الدولة وتملك الأمراء المصريون الذين كانوا بالجهة القبلية، وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من أتباعهم، فعند ذلك فتحوا التركة بوصايا الزوجة من طرف القاضي، خوفاً من ظهور وارث، وأظهروا ما انتقوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات، وباعوها بحضرة الجمع، فبلغت نيفاً ومائة ألف نصف فضة، فأخذ منها بيت المال شيئاً، وأحرز الباقي مع الأول، وكانت مخلفاته شيئاً كثيراً جداً، أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته، أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته، فأدخلوه إليه، فوجده راقداً معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق إلى الليوان، ورأيت كوماً عظيماً من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشيمري والفراء، من غير تفصيل نحو الحملين، وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها، قال: ورأيت عدداً كثيراً من ساعات العب الثمينة مبدداً على بساط القاعة، وهي بغلافات بلادها، قال فجلست عند رأسه حصة وأمسكت يده، ففتح عينيه ونظر إلي وأشار كالمستفهم عما هم فيه، ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه، فقمت عنه، قال: ورأيت في الفسحة التي أمام القاعة قدراً كثيراً من شمع العسل الكبير والصغير، والكافوري والمصنوع والخام، وغير ذلك مما لم أره ولم ألتفت إليه.
ولم يترك ابنا ولا ابنة، ولم يرثه أحد من الشعراء، وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضاء، معتدل اللحية قد خط الشيب في أكثرها، مترفهاً في ملبسه، ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكى وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر، وكان لطيف الذات حسن الصفات، بشوشاً بسوماً، وقوراً محتشماً، مستحضراً للنوادي والمناسبات، ذكياً لوذعياً فطناً ألمعياً، روض فضله نضير، وما له في سعة الحفظ نظير.

وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر شعبان المعظم سنة خمس ومائتين وألف، ودفن في جانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية في القبر الذي أعده لنفسه هناك كما تقدم جعل الله مثواه قصور الجنان، وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران، وعوضه جنة ونعمة وخيراً وأجراً، وعوض المسلمين عنه خيراً، وجمعنا جميعاً وإياه في مستقر رحمته آمين.
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.