سعادة (1088 - 1171 هـ) (1678 - 1758 م)
محمد بن عمر سعادة المنستيري أصلا، العالم الأديب الشاعر.
ولد بتونس ونشأ بها، وقد ذكر في كتابه «قرة العين» أن أجداده استقروا بتونس منذ العصر الحفصي، وذكر في هذا الكتاب معلومات كثيرة عن عائلته وعن حياته وعن دراسته وأسفاره وبداية توظفه، وتشكى في هذا الكتاب من اعتباره غير بلدي في مدينة تونس، ويمكن أن نستخلص من هذه المعلومات التي يشوبها التناقض أنه هو وأسرته كانوا يعيشون تارة في بلده الأصلي المنستير، وتارة في مدينة تونس، وجده الأعلى قاسم هو الذي عاش بتونس، ومنها أطلق عليه لقب سعادة الذي احتفظت به العائلة فيما بعد.
قرأ على علماء جامع الزيتونة كالشيخ محمد زيتونة المنستيري، ومحمد الحجيج الأندلسي، ومحمد الغماري النحوي، وسعيد الشريف وسعيد المحجوز، ومحمد فتاتة، وغيرهم من أساتذة جامع الزيتونة والمدارس في آخر العهد المرادي. وبعد وفاة شيخه سعيد الشريف بارح تونس وله نحو سبع عشرة سنة قاصدا مصر حوالي 1105/ 1694 فجاور بالأزهر مدة سبع سنوات قرأ فيها على مشايخه وحصل الفقه والنحو والصرف والمنطق والمعاني والبيان والأصول والحديث، فمن مشايخه بالأزهر المحدث الشيخ علي الطولوني، والعلامة الشيخ أحمد الشرفي الصفاقسي نزيل مصر من علماء
الرياضيات والفلك والملاحة والشيخ علي النشرتي، والشيخ محمد الزرقاني، والشيخ منصور المنوفي، والعلامة النفراوي، والشيخ البشبيشي، وابراهيم الفيومي، وأحمد بن الفقيه، وأجازه هؤلاء المشايخ الذين قرأ عليهم ومجموع الاجازات في سفر نحو ست كراريس، وعند محاولته الرجوع إلى تونس عن طريق البحر غرقت السفينة التي تحمله في ميناء الاسكندرية في ليلة السفر، وغرق أثاثه وكتبه ومذكراته. وبسبب فقره وبسبب الحرب بين الفرنسيين والانكليز التي صيرت البحر غير آمن لبث بالاسكندرية ثلاثة أشهر، واهتم به علماء البلدة وبالخصوص مفتيها الشيخ يوسف الخوشي، وسمحوا له بالتدريس في عدة مساجد، وكانوا يحضرون دروسه أحيانا، ولما يئس من الرجوع مباشرة إلى تونس، وعلم بأن السفن التونسية باستانبول قبل عرض من يسمى سلام لحمله في سفينته إلى استانبول، وفي البحر هاجم النصارى السفن التونسية التي كانت عائدة إلى تونس، وهكذا اضطر المترجم إلى الاقامة في استانبول التي مدح كرم سكانها عامة وعلمائها خاصّة ونزل ضيفا عند قاضي العسكر عارف افندي، ومدحه بمناسبة تعيينه في هذا المنصب الذي تقلده، بعد عشرين يوما من وصول المترجم إلى استانبول. وأحرز المترجم على نصيب من مال الأوقاف المخصصة للعلماء التي توزع عادة في المولد النبوي، وكان نصيبه ثلاثة وثلاثين ريالا تونسيا وذكر هذا للمقارنة بالأوقاف التونسية التي كانت تدار إدارة سيئة، وألقى دروسا في استانبول وحضر دورسا أخرى، لكنه لم يستطع التحاور محاورة مفيدة مع بعضهم لاختلاف اللغة عدا قلة من العلماء يجيدون العربية كعارف أفندي على أنه احتفظ بانطباع حسن عن استانبول، ولولا حب الوطن والواجب نحو الأهل لبقي بها.
وعند ما رجع إلى تونس ألقى دروسا احتسابا لكن سرعان ما حباه الأمير بالعطاء، وذكر حسين خوجة في «ذيل بشائر أهل الإيمان» أن الأمير أسند إليه وظيفة مدرس بجامع الزيتونة وسماه أيضا بالمدرسة المنتصرية، وذكر الشيخ محمد السنوسي في «مسامرات الظريف» انه صار شيخا للمنتصرية حوالي 1125/ 1747، وهذا يتفق مع ما في «قرة العين» حيث ذكر أن المفتي حمودة الرصاع حقد عليه حظوته عند ما لطخ جدار المدرسة، وأسند إليه الأمير أيضا خطة العدالة، وفي آخر سنة 1135/ 1728 اتهم بالتدليس لتزويره في وثيقة بإدخاله رجلا في النسب الشريف وهو ليس بشريف، ووقع التحقيق معه من أجل ذلك، ورفعت القضية للأمير، وذهب المترجم للقائه بالقيروان حيث كان مع المحلة العسكرية لاستخلاص الضرائب، وبإعانة من باش كاتب قدم له قصيدة استعرض فيها حالته واسترحمه، وبعد مدة تحصل على عفو الأمير الباي بتدخل من باش كاتب قاسم بن سلطان، وتنوسيت هذه الحادثة سريعا لأنه سمي فيما بعد في وظيفة مهمة. وفي شعبان /1140 مارس - افريل 1728 كان عضوا حاملا لاسم مفت ضمن وفد رجال الدين الذين بعثهم حسين بن علي باي إلى جبل وسلات لحمل ابن أخيه علي باشا على العدول عن الثورة، وعند ما دخل علي باشا إلى مدينة تونس في سنة 1147/ 1735 بإعانة من حسين داي الجزائر كان المترجم من جملة أفراد حاشيته وتمتع بحظوة كبيرة لديه حتى أن محمد الصغير ابن يوسف الباجي قال إنه كان مقربا منه وألصق من القلادة بالعنق، واتهمه هذا المؤلف بأنه سعى للإضرار بزملائه القدامى ومنافسيه وبالخصوص ابراهيم بن علي شعيب قاضي باردو وكان الذي سعى في سجنه لتسببه في رجوع والده الهارب.
وفي تذكرة محفوظة بوثائق الحكومة التونسية صادرة عن علي باشا ومؤرخة بغرة جمادى الأولى /1151 أوت 1738 أطلقت عليه لقب قاض.
وهذه الوثيقة تؤيد ما ذكره السنوسي الذي يؤكد أن علي باشا منذ أول عهده سمى سعادة نائبا مالكيا لقاضي تونس الذي كان - كما هو معروف - تركيا حنفيا يسمى مباشرة من استانبول. وعند ما تحصل علي باشا على الاذن من السلطنة العثمانية بتسمية قاضي تونس بنفسه من بين الفقهاء المحليين في سنة 1157/ 1745 فإن المترجم على قول المؤلف السنوسي تقلد خطة قضاء المالكية بتونس.
ثم ترقى إلى رئاسة الشوري في تاريخ لم يحدده المؤلف المذكور على أن تلميذه العياضي الذي ترجم له نسب إليه وظيفة مفت في سنة 1153/ 1741 ولا يعرف كيف يقع التوفيق بين ما ذكره مؤلف معاصر للأحداث وبين ما ذكره السنوسي.
وعزله علي باشا عن الفتوى في صفر سنة 1161/ 1749، وعزل الريكلي عن القضاء وأولاه الافتاء، وفي شرح الشيخ محمد الشافعي ابن القاضي على قصيدة محمد الرشيد باي المسماة «محركات السواكن إلى أشرف الأماكن» أن الوافي ولي القضاء بعد عزل الشيخ سعادة منه ثم ولي وعزل الريكلي. قال الشيخ محمد الشافعي: وفي هؤلاء الثلاثة يقول بعضهم:
الا يا تونس الخضراء فابكي … على العليا بدمع ذي انبعاث
أبعد قضاتك البررات قبلا … وصرت اليوم من بغث البغاث
أحرّاثا ودباغا ونذلا … ثلاثتهم أشر من الثلاث
يريد بالحراث أبا عبد الله محمد الوافي المثلوثي، وبالدباغ أبا عبد الله محمد الريكلي لأن صناعته كانت صناعة الدباغة، وبالنذل أبا عبد الله محمد سعادة لأنه كان شريرا بذيئا
وممن قرأ عليه وتخرج به الشاعر علي الغراب الصفاقسي، وأحمد زروق الكافي عم القيرواني، والشاعر محمد الورغي.
وكان المترجم يداري أحيانا أرباب السلطة والنفوذ، فقد حكم وهو متقلد خطة الافتاء في عهد علي باشا بفساد وقف على بعض الأقوال، وكان ليونس باي ابن علي باشا غرض في فساده فكتب المترجم الحكم بخطه ونسبه إلى الشيخ الريكلي الاندلسي قاضي المالكية وناوله الحكم في المجلس فأبى الإمضاء عليه وأصر على الامتناع، فقال المترجم كيف نفعل؟ فقال له الشيخ الريكلي: «حكم سعادة وطابع الباشا، والريكلي لا يقتحم جهنم» فصار قوله مثلا لكل أمر يبنى بين اثنين على غير أساس.
وأنكر علي باشا ذلك وعذل ابنه وأمر القاضي أن يحكم بالراجح الجاري به العمل.
ومن أخبار علي باشا مع الشيخ سعادة المفتي أنه عزله بالمجلس من الفتوى فقام منصرفا ولما شارف باب البيت استرجعه فعزله من مشيخة التدريس، ولما ولى استرجعه فعزله من خطة أخرى فقال له: نسيت خطة لم تعزلني منها وهي أعز الخطط علي».
- فقال له: وما هي؟
فقال له: «أن تنزع ما بقلبي من العلم إن قدرت».
- فاسترجع وقال له: «قاتلك الله اجلس وأنت على سائر خططك التي نقدر على نزعها والتي لا نقدر» قال العياضي في تحليته في «مفاتيح النصر»: حاز في العلوم المعقولة والمنقولة قصب السبق فكأنه في أفق تلك العلوم لمع البرق، هذا هو في هذا القطر لسان الأدب، وراوية شعر العرب، علامة الاعلام، مبدع النثر والنظام، واسع الدائرة في الكلام، عالم علامة، وحبر فهامة، على غصن لسانه تصدح بلابل التحقيق، على هامة بنائه تخفق رايات التدقيق، له شعر يعبث بالنسيم، ونثر يزدري بالدر النظيم لا يخلو شعره من المعاني المبتدعة، وكأنما شعره جواهر مرصعة ... ».
مؤلفاته:
تحفة المعتبر من كل حاج ومعتمر، وهو نظم بديع لمناسك الحج، قال عنه العياضي: «لم ينظم على منواله، ولا سمحت قريحة بمثاله».
تنوير المسالك في شرح نهج المسالك إلى ألفية ابن مالك وهو حاشية
على شرح الأشموني على الفية ابن مالك، أظهر فيها طول باعه وقوة حفظه وسعة اطلاعه.
قرة العين بنشر فضائل الملك حسين الممجّد ونجله الأمير ابن الأمير سيدي محمد - ويبدو أنه تصرف في آخر الأمر في عنوان الكتاب «قرة العين في نشر فضائل الملك حسين وكيد ذي المين» وقيل «قمع ذي المين».
ذكر انه انتهى من تأليفه في أواخر محرم /1136 أكتوبر 1723 والتأليف يشتمل على مقدمة في بضع صفحات، وعلى بابين كبيرين يحتويان على عدة فصول وخاتمة، وفي الخاتمة تحدث عن عائلته وطفولته وعن تعلمه في تونس والقاهرة، ورحلته دامت سبع سنوات حكاها ببعض التفصيل.
والكتاب في مدح الأمير حسين بن علي باي، يذكر مآثره في نثر مسجوع ثم يعقب ذلك بأبيات شعرية في المعنى، وهجاء خصمه حمودة الرصاع قال حسين خوجه: «وأتى فيه بكل غريب من النظم والنثر العجيب» توجد منه نسخة بالمكتبة الوطنية أصلها من المكتبة الأحمدية رقمها 7129 ويقال إن د/محمد الحبيب الهيلة بصدد تحقيقه
كتاب تراجم المؤلفين التونسيين - الجزء الثالث - صفحة 29 - للكاتب محمد محفوظ