أبي عبيدة
الإِمَامُ العَلاَّمَةُ البَحْرُ أبي عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بنُ المُثَنَّى التَّيْمِيُّ مَوْلاَهُمْ البَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
وُلِدَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَمائَةٍ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيْهَا الحَسَنُ البَصْرِيُّ.
حَدَّثَ عَنْ: هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ وَرُؤبَةَ بنِ العَجَّاجِ وَأَبِي عَمْرٍو بنِ العَلاَءِ وَطَائِفَةٍ.
وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَدِيْثٍ وَإِنَّمَا أَوْرَدتُهُ لِتَوَسُّعِهِ فِي عِلْمِ اللِّسَانِ وَأَيَّامِ النَّاسِ.
حَدَّثَ عَنْهُ: عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي عُثْمَانَ المَازِنِيُّ، وَعُمَرُ بنُ شَبَّةَ وَعَلِيُّ بنُ المُغِيْرَةِ الأَثْرَمُ وَأبي العَيْنَاءِ وَعِدَّةٌ.
حَدَّثَ بِبَغْدَادَ بِجُملَةٍ مِنْ تَصَانِيْفِهِ.
قَالَ الجَاحِظُ: لَمْ يَكُنْ فِي الأَرْضِ جَمَاعِيٌّ وَلاَ خَارِجِيٌّ أَعْلَمَ بِجَمِيْعِ العُلُوْمِ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ.
وَقَالَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ المَدِيْنِيِّ ذَكَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ فَأَحْسَنَ ذِكْرَهُ وَصَحَّحَ رِوَايَتَهُ وَقَالَ: كَانَ لاَ يَحكِي عَنِ العَرَبِ إلَّا الشَّيْءَ الصَّحِيْحَ.
وَقَالَ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
قَالَ المُبَرِّدُ: كَانَ هُوَ، وَالأَصْمَعِيُّ مُتَقَارِبَيْنِ فِي النَّحوِ، وَكَانَ أبي عُبَيْدَةَ أَكمَلَ القَوْمِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانَ الغَرِيْبُ، وَأَيَّامُ العَرَبِ أَغَلَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لاَ يُقِيْمُ البَيْتَ إِذَا أَنشَدَهُ ويخطئ إذ قَرَأَ القُرْآنَ نَظَراً وَكَانَ يُبْغِضُ العَرَبَ وَأَلَّفَ فِي مثَالِبِهَا كُتُباً، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الخَوَارِجِ.
وَقِيْلَ: إِنَّ الرَّشِيْدَ أَقدَمَ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضَ كُتُبِهِ، وَهِيَ تُقَارِبُ مائَتَيْ مُصَنَّفٍ مِنْهَا: كِتَابُ مَجَازِ القُرْآنِ وَكِتَابُ غَرِيْبِ الحَدِيْثِ وكتاب مَقْتَلِ عُثْمَانَ وَكِتَابُ أَخْبَارِ الحَجَّاجِ، وَكَانَ أَلثَغَ بَذِيْءَ اللِّسَانِ وَسِخَ الثَّوبِ.
وَقَالَ أبي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ: كَانَ يُكْرِمُنِي بِنَاءً عَلَى أَنَّنِي مِنْ خَوَارِجِ سِجِسْتَانَ.
وَقِيْلَ: كَانَ يَمِيْلُ إِلَى المُرْدِ إلَّا تَرَى أَبَا نُوَاسٍ حَيْثُ يَقُوْلُ:
صَلَّى الإِلَهُ عَلَى لُوْطٍ وَشِيْعتِهِ ... أَبَا عُبَيْدَةَ قُلْ بِاللهِ آمِيْنَا
فَأَنْتَ عِنْدِي بِلاَ شَكٍّ بَقِيَّتُهُم ... مُنْذُ احْتَلَمتَ وَقَدْ جَاوَزَتَ سَبْعِيْنَا
قُلْتُ: قَارَبَ مائَةَ عَامٍ أَوْ كَمَّلَهَا.
فَقِيْلَ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمائَتَيْنِ وَقِيْلَ: مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ.
قُلْتُ: قَدْ كَانَ هَذَا المَرْءُ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ بِالمَاهِرِ بِكِتَابِ اللهِ، وَلاَ العَارِفِ بِسُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ البَصِيْرِ بِالفِقْهِ، وَاخْتِلاَفِ أَئِمَّةِ الاجْتِهَادِ بَلَى، وَكَانَ مُعَافَىً مِنْ مَعْرِفَةِ حِكْمَةِ الأَوَائِلِ، وَالمَنْطِقِ وَأَقسَامِ الفَلْسَفَةِ وَلَهُ نَظَرٌ فِي المَعْقُوْلِ، وَلَمْ يَقعْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ عَوَالِي روايته.
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي
معمر بن المثنى أبي عبيدة التيمي. ولد سنة (110ه)، حدث عن هشام بن عروة ورؤبة بن العجاج وغيرهما، وحدث عنه علي بن المديني وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهما، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعى أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة. ( ت: 209ه). ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر: 59/423، وسير أعلام النبلاء للذهبي: 9/445، وميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي: 4/155.
أبو عبيدة معمر بن المثنى
عن الكديمي - أو أبي العيناء - قال: قال رجل لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة، قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم، فبالله تعالى إلاّ ما عرفتني من أبوك، وما أصله؟ فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً.
وكان أبو عبيدة من أعلم الناس باللغة وأخبار العرب وأنسابها، وله في ذلك مصنفات كمقاتل الفرسان وغيره.
وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو.
وقال المبرد: قال التوزي: سألت أبا عبيدة عن قول الشاعر:
وأضحت رسوم الدار قفراً كأنها ... كتاب محاه الباهلي بن أصمعا
فقال: هذا يقوله في جد الأصمعي. قال التوزي: فسألت الأصمعي عن ذلك فتغير وجهه، وقال: هذا كتاب عثمان ورد على عبد الله بن عامر، فلم يجد من يقرؤه إلاّ جدي.
وقال المبرد: قال أبو عبيدة: لما حملت أنا والأصمعي إلى الرشيد تغدينا عند الفضل بن يحيى، فجاءوا بأطعمة ما سمعت بها قط، وإذا بين يدي الأصمعي سمك كنعد وكامخ، فقال: كل من هذا يا أبا عبيدة، فإنه كامخ طيب، فقلت: والله ما فررت من البصرة إلاّ من الكامخ والكنعد.
ولما قدم بغداد قرئ عليه أشياء من كتبه.
روى عنه علي بن المغيرة الأثرم، وأبو عبيدة القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وغيرهم.
وقال محمد بن يحيى الصولي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي، هو الذي أقدم أبا عبيدة من البصرة، سأله الفضل بن الربيع أن يقدمه، فورد أبو عبيدة سنة ثمان وثمانين ومائة بغداد، فأخذ عنه وعن الأصمعي علماً كثيراً.
وعن التوزي، عن أبي عبيدة، قال: أرسل إلى الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فلما استأذنت عليه، أذن لي وهو في مجلس له طويل عريض، فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عاليةٌ لا يرتقى إليها إلاّ على كرسي وهو جالس عليها، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني حتى جلست معه على فره، ثم سألني وألطفني وباسطني، وقال: أنشدني فأنشدته، فطرب وضحك وزاد نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب، له هيئة، فأجلسه إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أبو عبيدة، علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا، وقال لي: إني كنت إليك مشتاقاً، وقد سئلت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت: هات، قال: قال الله ﷻ:] طلعها كأنه رؤوس الشياطين [،
وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف؛ فقلت: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به؛ فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل، واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه؛ فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه، [وهو] إبراهيم بن إسماعيل الكاتب.
قال سلمة: سمعت الفراء يقول لرجل: لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في [كتاب] المجاز.
وقال التوزي: بلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه تأليف كتاب المجاز في القرآن، وأنه قال: يفسر ذلك برأيه، قال: فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقة الأصمعي، فنزل عن حماره، وسلم عليه وجلس عنده؛ وحادثه ثم قال له: يا أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟ قال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال له أبو عبيدة: فسرت كتاب الله برأيك، قال الله تعالى:] إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً [فقال له الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، لم أفسره برأيي، فقال له أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا، كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا؛ ثم قام فركب حماره وانصرف.
وقال أبو عثمان المازني: سمعت أبا عبيدة يقول: دخلت على الرشيد، فقال لي: يا معمر، بلغني أن عندك كتاباً حسناً في صفة الخيل، أحب أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتاب؟ يحضر فرس، ونضع أيدينا على عضو عضو، ونسميه، ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا غلام، أحضر فرسي، فقام الأصمعي فوضع يده على عضو عضو، ويقول: هذا كذا، قال الشاعر فيه كذا، حتى انقضى قوله. فقال الرشيد: ما تقول فيما قال؟ قال: قلت: قد أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه شيء نعلمه، والذي أخطأ فيه لا أدري من أين أتى به! وقال عبد الله بن عمرو بن لقيط: لما خبر أبو نواس بأن الخليفة يجمع بين الأصمعي وأبي عبيدة، قال: أما أبو عبيدة فعالم؛ ما يزال مع أسفاره يقرؤها، والأصمعي بمنزلة بلبل في قفص، يسمع من نغمه لحوناً، ويرى كل وقت من ملحه فنوناً.
وزعم الباهلي صاحب المعاني أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا أبا عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر -يعني أن الأصمعي كان صاحب عبارة حسنة، وأن أبا عبيدة كان صاحب عبارة سيئة.
قال أبو العباس المبرد: كان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعد يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم.
وذكر علي بن عبد المديني أبا عبيدة فأحسن ذكره، وصحح روايته وقال: كان الأصمعي لا يحكي عن العرب إلاّ الشيء الصحيح.
وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حضرت أبا عبيدة في بعض الأيام فأخطأ في موضعين، قال: "شِلت الحجر"، وإنما هو "شُلت" بضم الشين، ثم أنشد:
شلت بدا فارية فرتها
فضم الشين وإنما هو فتحها.
وكان أبو عبيدة ينشد قول حاجب بن زرارة يوم جبلة:
شتان هذا العناق والنوم ... والمشرب البارد في ظل الدوم
وكان الأصمعي ينكر عليه، ويقول: ما ابن الصباغ وهذا! وأنى لأهل نجد دوم، والدوم شجر المقل، وهو يكون بالحجاز، وحاجب نجدي، فأنى له دوم! وكان الأصمعي ينشده "في الظل الدوم"، أي الدائم، كما يقال: رجل زور، أي زائر.
وقال أبو موسى محمد بن المثنى: توفي أبو عبيدة النحوي سنة ثمان ومائتين.
وقال الخليل بن أسد النوشجاني: أطعم محمد بن القاسم بن سهل النوشجاني أبا عبيدة موزاً، فكان سبب موته، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزاً، فقال: ما هذا يا أبا جعفر!
قتلت أبا عبيدة بالموز وتريد أن تقتلني! لقد استحللت قتل العلماء.
قال الصولي: توفي أبو عبيدة سنة سبع ومائتين.
وقال المظفر بن يحيى: توفي أبو عبيدة سنة تسع ومائتين؛ وهو ابن ثلاث وتسعين سنة.
وقيل: توفي بالبصرة سنة ثلاث عشرة ومائتين، وله ثمان وتسعون سنة في خلافة المأمون.
نزهة الألباء في طبقات الأدباء - لكمال الدين الأنباري.
أَبُو عُبَيْدَة معمر بن مثنى التَّيْمِيّ
أوسع النَّاس علما بأخبار الْعَرَب وأيامها.
وَله تصنيف كثير، من كتبه: " الْمجَاز " فِي الْقُرْآن، وَله " كتاب فِي غَرِيب الحَدِيث "، وَله " كتاب فِي ذكر أَيَّام الْعَرَب الْمَشْهُورَة "، وَله " كتاب العققة والبررة "، وَله كتاب " الأدعياء واللواحق ".
وجدت بِخَط أبي، رَحمَه الله: عَاشَ أَبُو عُبَيْدَة سبعا وَتِسْعين سنة، وتُوفي سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، عَن ابْن قُتيبة.
قَالَ الْمبرد: كَانَ أعلم بِالنّسَبِ من الْأَصْمَعِي، وَكَانَ الْأَصْمَعِي أعلم بالنحو مِنْهُ.
تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم-لأبو المحاسن المفضل التنوخي المعري.
ولأبي عبيدة معمر بن المثنى [ معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيدة النحويّ من أئمة العلم بالأدب واللغة، استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد سنة 188 هـ، وقرأ عليه أشياء من كتبه، قال الحافظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه، وكان إباضيا، شعوبيا، من حفاظ الحديث، قال ابن قتيبة: كان يبغض العرب وصنف في مثالبهم كتبا، وله نحو 200 مؤلف منها «نقائض جرير والفرزدق» و «مجاز القرآن» و «العقفة والبررة» و «وفتوح أرمينية» ، و «تسمية أزواج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأولاده، توفي سنة 209 هـ».
ينطر في وفيات 2/ 105 المشرق 15/ 600، إرشاد 7/ 164، تذكرة 1/ 338، بغية الوعاة 395، والكتبخانة 4/ 341، ميزان الاعتدال 3/ 189، تاريخ بغداد 13/ 252، السيرافي 267 الفهرس التمهيدي 254، تهذيب 10/ 246، نزهة الألباء 137، مفتاح السعادة 1/ 93، أخبار النحويين البصريين 67، إنباه الرواة 3/ 276.].
وهو من العلماء الّذين ألّفوا في الصّحابة الكرام عليهم رضوان الله تعالى
(الإصابة في تمييز الصحابة - أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني.)
أبي عبيدة
كان أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي تيم قريش لا تيم الرباب وهو مولى لهم ويقال هو مولى لبني عبيد الله بن معمر التيمي.
وحدثنا أبو بكر بن مجاهد قال حدثنا الكديمي أو أبو العيناء الشك من أبي سعيد قال: قال رجل لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم فبالله إلا عرفتني من كان أبوك وما أصله. فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهودياً بباجروان.
وكان أبو عبيدة من أعلم الناس بأنساب العرب وبأيامهم وله كتب كثيرة في أيام العرب وحروبها مثل كتاب مقاتل الفرسان وكتب في الأيام معروفة.
قال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالماً بالشعر والغريب والأخبار والنسب وكان الأصمعي يشركه في الغريب والشعر والمعاني وكان الأصمعي أعلم بالنحو منه، وكان أبو عبيدة والأصمعي يتقارصان كثيراً ويقع كل واحد منهما في صاحبه.
أخبرنا أبو بكر بن السراج قال حدثنا أبو العباس المبرد قال حدثنا التوزي قال سألت أبا عبيدة عن قول الشاعر:
وأضحت رسوم الدار قفراً كأنها ... كتابٌ تلاه الباهلي ابن أصمعا
فقال: هذا يقول له في جد الأصمعي كان يقرأ الكتب على المنبر كما يقرأه الخراساني. قال التوزي: فسألت الأصمعي عن هذا فتغير وجهه ثم قال: هذا كتاب عثمان ورد على ابن عامر فلم يوجد له من يقرؤه إلا جدي.
ويروى أنه قيل لأبي عبيدة: أن الأصمعي يقول: بينا أبى يساير سلم بن قتيبة على فرس له. فقال أبو عبيدة: سبحان الله والحمد لله والله أكبر المتشبع بما لم يؤت كلابس ثوبي زور والله ما ملك أبو الأصمعي قط دابة إلا في ثوبه.
وحمل أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد فاختار الأصمعي لمجالسته لأنه كان أحسن منشأ منه وأصلح لمجالسة الملوك.
قال أبو العباس محمد بن يزيد قال أبو عبيدة: لما حملت إلى الرشيد أنا والأصمعي تغدينا عند الفضل بن يحيى فجاؤونا بأطعمة والله ما سمعت بها قط وإذا بين يدي الأصمعي سمك كنعد وكامخ شبت. فقال لي: كل من هذا يا أبا عبيدة فإنه كامخ طيب. قال فقلت: والله ما فررت من البصرة غلا من الكامخ والكنعد.
وحدثنا أبو علي الصفار قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة قال سمعت ابن دأب يقول: فخرج حمزة كأنه جملٌ محجوم. فصاح به صائح، يا أبا الوليد ما المحجوم؟ قال الذي به عضاض. قال: فرفعت رأسي فقلت له: للمحجوم ثلاثة مواضع اخترت لحمزة شرها. قال أبو العباس: الحجم حجم الشيء الذي له لَمْس يقال رأيتُ حجم صرته فعلمت ما فيها أي لمستها. قال أبو العباس وثلاثة المواضع التي يحتمل المحجوم أحدها هو الذي له جسم ولحم يقال جمل محجوم إذا كان جسيماً والمحجوم الذي كان المحجم على فيه يمنعه من الكلام، والمحجوم من العضاض.
وممن اختص بالأخذ عنه حتى نسب إليه التوزي ودماذ أبو غسان ويقال أنه مات سنة ثمان ومائتين وقيل سنة تسع ومائتين والله أعلم وأحكم؟ وبعد هذه الطبقة أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني واليهما انتهى النحو في زمانهما وفي عصرهما التوزي والزيادي والرياشي وأبو حاتم السجستاني.
أخبار النحويين البصريين - الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي.
مَعْمَر بن المُثَنَّى
(110 - 209 هـ = 728 - 824 م)
معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيد النحوي:
من أئمة العلم بالأدب واللغة. مولده ووفاته في البصرة. استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد سنة 188 هـ وقرأ عليه أشياء من كتبه. قال الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. وكان إباضيا، شعوبيا، من حفاظ الحديث. قال ابن قتيبة: كان يبغض العرب وصنف في مثالبهم كتبا. ولما مات لم يحضر جنازته أحد، لشدة نقده معاصريه. وكان، مع سعة علمه، ربما أنشد البيت فلم يقم وزنه، ويخطئ إذا قرأ القرآن نظرا.
له نحو 200 مؤلف، منها (نقائض جرير والفرزدق - ط) و (مجاز القرآن - ط) جزان، و (العققة والبررة - ط) رسالة، و (مآثر العرب) و (المثالب) و (فتوح أرمينية) و (ما تلحن فيه العامة) و (أيام العرب) و (الإنسان) و (الزرع) و (الشوارد) و (معاني القرآن) و (طبقات الفرسان) و (طبقات الشعراء - خ) و (المحاضرات والمحاورات - خ) و (الخيل - ط) و (والأنباذ - خ) و (إعراب القرآن - خ) و (القبائل) و (الأمثال) و (تسمية أزواج النبي، صلّى الله عليه وسلم، وأولاده - خ) قال عبيد: في الظاهرية .
-الاعلام للزركلي-
ومن أخبار أبي عبيدة معمر بن المثنى
هو مولى لتيم قريش في قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وقال أبو سعيد السُكري: أبو عبيدة مولى بني سلامة من بني تيم بن مرة، وسلامة هذه أم عبد الرحمان، ومنهم من وهم ويقول: آل سلامة مخففاً يوهمون أنه رجل، وعثمان بن عفان قاضي البصرة خاله، ولد سنة اثنتي عشرة ومائة ومات سنة ثمان ومائتين، بلغ ثلاثا وتسعين سنة.
قال ثعلب: من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني. - وهو أولُ من رسم في الجاهليين والإسلاميين من الجوداء والفرسان وغير ذلك كتاباً سماه الناس بالديباج. - كان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ الأصمعي ويهجوه، فقيل له: ماتقول في الأصمعي؟ قال: بلبل في قفص. قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علم الناس وفهمه. قيل: فما تقول في أبي عبيدة؟ قال: ذاك أديم طوي على علم.
قال أبو عبيدة: قال لي رجلً من الملحدين: مامعنى قول الله تعالى (قُلْ إنْ كان للرِحمن وَلَدٌ فأنَا أَوَّلُ العَابدين) . فقلت: العابد في قول العرب الآنف، ألم تسمع قول الشاعر " من الوافر ":
وأعبد أن أسبَّهم بقومي … وأترك دارماً وبني رياح
أولئك إن سببت وفاءُ قومي … وأحذر أن أعاقب بالجناح
وكذا قولُ الفرزدق " من الطويل ":
أولئك أكفائي فجئني بمثلهم … وأعبدُ أن أهجو عبيداً بدارمِ
وقال أبو حاتم: كان أبو عبيدة صفرياً وكان يكتم ذلك فأنشدني لعمران ابن حطان " من البسيط ":
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه … ماالناس بعدك يامرداسُ بالناس
إما تكن ذقت كأساً دار أولها … على القرون فذاقوا نهلة الكاس
فكل من لم يذقها شاربٌ عجل … منها بأنفاس وردٍ بعد أنفاس
قد كنت أبكيك حيناً ثمّ قد يئست … نفسي فما ردَّ عني عبرتي ياسي
قال: وكثيرا ما ينشد أشعارهم ثمّ يتمثل " من الطويل ":
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا … وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
قال: والصفرية أصحاب عبد الله بن صفار أحد بني سعد؛ والإباضية أصحاب عبد الله بن إباض أحد بني سعد؛ والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، وكان صفرياً ثمّ خالفهم في تعذيب الأطفال، فتبرؤا منه واتبعه على رأيه أبو فديك ونجدة بن عامر الحنفي. - قال التوزي: كنت إذا أردت أن أنشط أبا عبيدة سألته عن أخبار الخوارج فأبعج منه ثبج بحرٍ، فجئته يوماً وهو مطرق ينكت في الأرض في صحن المسجد، وقد قربت منه الشمس، فسلمت فلم يُردَّ عليَّ، فتمثلتُ " من الوافر ":
وما للمرء خير في حياةٍ … إذا ما عُدَّ من سقط المتاع
فنظر إليَّ وقال: ويحك! أتدري لمن البيت؟ فقلت: لقطري. فقال: أسكت، فضَّ الله فاك إلا قلت: أمير المؤمنين أبو نعامة! ثمّ انتبه فقال: أكتمها عليَّ! فقلت: هي بنت الأرض.
قال أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام محتجاً لمذهبه في أن الأسم هو المسمى بقول لبيد - وهو مذهب أبي عبيدة - " من الطويل ":
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما
قال أبو عبيد: " اسم السلام " ههنا هو السلام، كما يقال: هذا وجه الحق، يراد هذا الحق، " فثمَّ وجه الله " أي الله. فقال المبرد: غلط أبو عبيد وأخطأ أبو عبيدة، والذي عندنا أنّ لبيداً أراد بقوله " اسم الله " اسم الله ﷻ، وهذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا. فقلت: السلام عندي ههنا هو اللفظ الموضوع لتقضي الأشياء فتختم بها الرسائل والخطب والكتب والكلام الذي يستوفي معناه، فليس لها مسمى غيرها وهي مثلُ حسب وقط وقد الموضوعات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لامسمى له غيره. قال: فأعجب ذلك المبرد واستحسنه وقال لي: لاعدمتك، يا أبا عبد اللهه! فما سرني بهذه حمر النعم.
وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (وحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً) ، فقال: العرب تجعل الواحد في موضع الجمع، قال عباس بن مرداس " من الوافر ":
فقلنا: أسلموا إنا أخوكم … فقد برئت من الإجن الصدور
وقال: (ثمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا) ، وقال: (يَنظُرُون مِنْ طَرَفٍ خَفِي) . وقال في قوله: (أكادُ أُخْفيِها) أي أظهرها، قال: وأنشدني أبو الخطاب قول تمرئ القيس بن عابس الكندي " من المتقارب ":
فإن تكتموا الداء لانخفه … وإن تبعثوا الحرب لانقعد
وقال في قوله تعالى: (وَالَّذين يكنزون الذَّهبَ وَالفِضَّة وَلَا يُنْفقونها في سبيل اللهٍ) ولم يقلُ: ينفقونها في سبيل الله، جاء الخبر لواحد كما قال البرجمي " من الطويل ":
فمن يك أمسى بالمدينة رحله … فإني وقيار بها لغريب
وقال أبو قيس بن الأسلت " من المنسرح ":
نحن بما عندنا وأنت بما … عندك راضٍ والرأي مشترك
وقال آخر " من الخفيف ":
إنّ شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنوناً
وقال في قوله: (أوَ لَمْ يَرَ الذَّين كَفَرُوا أنَّ السَّمواتِ وَالأرض كانتا رَتْقاً) ولم يقل: رتقين، قال الأسود بن يعفر " من الكامل ":
إنَّ المنية والحتوف كلاهما … يوفي المخارم يرقبان سوادي
والرتق الذي ليس فيه ثقب، ففتق الله ﷻ السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. وقال في قوله: (خلق الإنسان مِنْ عجل) إنما العجل خلق من الإنسان، وفي قوله: (ما إنَّ مفاتحه لتنوءُ بالعصبة) وإنما العصبة تنوء أي تنهض بالمفاتح، والعرب تقول: إنها لتنوء عجيزتها بها، والمعنى: هي تنوء أي تنهض بعجيزتها. قال الجعدي " من الطويل ":
تمززتها والديك يدعو صباحه … إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وأنشد أبيات المتلمس " من الطويل ":
أحارث إنا لو تساط دماؤنا … تزايلن حتى لايمس دم دما
وقال: هذا أشد بيت قيل في النفي ومنها:
وما كنت الا مثل قاطع كفه … بكف له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه … فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فلما استقاد الكفَّ بالكف لم يكن … له درك في أن تبينا فأحجما
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى … مساغاً لنابيه الشجاع لصمما
قال أبو عبيدة: يريد أنه فيما صنع به أخواله بمنزلة من قطع يده الأخرى فبقي أجذم فأمسك عنهم.
قال أبو عبيدة: كان بالبصرة نخاس في سوق الإبل يقال له ثبيت، فنزل به أعرابي، فجعل يصلي إلى الصباح ولم يطعم الأعرابي شيئاً، فقال الأعرابي لما صلى الغداة " من الوافر ":
لخبز يا ثبيت عليه لحم … أحب إليَّ من صوت القرآن
تبيت تدهده القرآن حولي … كأنك عند رأسي عقربان
فلو أطعمتني خبزاً ولحما … حمدنا والطعام له مكان
قال أبو عبيدة: فاستفدنا من الأعرابي عقربان، يقال للذكر عقربان وللأنثى عقربة. - قيل له: أيما أشعر أبو نواس أو أبي عيينة؟ قال: لاأحكم بين الشعراء إذا كانوا أحياء.
وقال: إنما سمي قصياً لأنه قصا مع أبيه، وسمي المغيرة عبد مناف لأن أمه أخدمته منافا صنما كان لهم في الجاهلية، وكان اسمه ايضا القمر؛ وعمرو هاشما لأنه هشم الثريد، وأول من هشم إسماعيل عليه السلام ثمّ عمرو وعبد المطلب لما زاره مع عمه المطلب حين جاء به من عند أمه؛ وكان المطلب ابن عبد مناف يلقب الفيض. اسم الجارود بشر بن عمرو، وهو من سادات عبد القيس، وإنما سمي الجارود بقوله " من الطويل ":
كما جرد الجارود بكر بن وائل
وهو الذي سماه رسول الله ﷺ الأشج. وكتب إليه المنذر بن عائذ كتاباً من دارا موضع من البحرين وعرفه بأنه اجتمع برسول الله ﷺ وقد قبل دعوتهم، وأنه عليه السلام أرسل إليهم معه العلاء بن الحضرمي رسولا. فقدم الجارود على النبي ﷺ مع العلاء ورهط من عبد القيس فبايعوه.
وقال: من طرق كثيرة أن أبا هريرة قال: حدا الحادي لرسول الله ﷺ بهذه الأبيات " من الرجز ":
طاف الخيالان فهاجا سقما … خيال تكنى وخيال تكتما
قامت تريك خشية أن تصرما … ساقاً بخنداة وكعباً أدرما
وتكلم أبو عبيدة يوماً في باب من العلم، ورجل يكسر عينه حياله يوهم أنه يعلم ما يقول، فقال أبو عبيدة " من الوافر ":
يكلمني ويخلج حاجبيه … لأحسب عنده علماً دفيناً
وما يدري قبيلاً من دبير … إذا قسم الذي يدري الظنونا
وكان أبو عبيدة يعشق خرك بن أخي يونس النحوي فقال فيه " من الخفيف ":
ليتني ليتني وليت وليتي … ليتني قد علوت ظهرك خرك
فقرأنا حقابه وفككنا … خاتماً كان قبلنا لم يفكك
وقال أبو عبيدة: أعرق العرب في القتل عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد، قتل عمارة وحمزة يوم قديد، قتلهما الإباضية، وقتل محمد مصعب بن الزبير، وقتل الزبير ابن جرموز، وقتلت بنو كنانة العوام، وقتلت خزاعة خويلداً.
وقيل لأبي عبيدة: مامعنى قول الأول " من الوافر ":
فأوصى جحدر قدماً بنيه … بإلقاء القراد على البعير
قال: هذا اللص أمر ولده أن يأخذ القراد فيطرحه على ذنب البعير وهو بارك، فإذا ثار البعير قاده فانقاد معه، ولو أثاره وهو بارك من غير أن يطرح على ذنبه القراد لرغا.
وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (اَلَم ذلك الكتابُ) وأين ذلك من هذا؟ فقال: إن العرب تجعل الفعل السمقبل مكان الفعل الماضي، قال الشاعر " من الطويل ":
أقول له والرُمحُ يأطِرُ متنه … تأملْ خفافاُ إنني أنا ذلكا
ولم يقل: أنا هذا! ويأطر يطعن.
وقال: أعيانا أن نرى زبيرياً سخياً أو مخزومياً متواضعاً أو دارياً أرسح أو بكريا كامل العقل. - وسئل عن قوله تعالى: (طلْعُها كأنه رؤوسُ الشَّياطين) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. فقال: إنما كلمهم الله على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس " من الطويل ":
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي … ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. قال أبو عبيدة: واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، وعملت كتابي الذي سميته " المجاز ".
قال: وقال لي الفضل بن يحيى: من أشعر المولدين؟ فسميت له جماعة. قال: لا، ولكن أشعرهم الذي يقول وهو ابن أبي عيينة المهلبي " من البسيط ":
زر وادي القصر نعم القصر والوادي … لابُدَّ من زورة عن غير ميعاد
زره فليس له شبه يقاربه … من منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو باد
ترفى قرقيره والعيسُ واقفةٌ … والنونُ والضَبُّ والملاح والحادي
فقلت: أصلحك الله! وماهذا؟ إنما سرقه من خلف بن خليفة، ووصف مدينة ابن هبيرة بواسط فقال " من الكامل ":
مُكاؤُها غردٌ يجيبُ الخضر من ورشانها
قرنتْ رؤوس ظبائها … بالزرق من حيتانها
فقال: ويحك، أفسدته عليّ! قال أبو عبيدة: تغديت مع الفضل بن يحيى، فجئ بألوان لم أر مثلها، وكان معنا الأصمعي يأكل من كامخ، فقال لي: كلْ من هذا الكامخ فإنه طيبٌ! فقلت: إنما هربتُ من الكامخ إلى ههنا، فما أصنع به؟ دعْ مالا يفوتك وأقبل على ما يفوتك. - كان الأصمعيُّ بخيلاً، وكان أبو عبيدة إذا ذكر الأصمعي أنشد " من الكامل ":
عظُمَ الطعامُ بعينه فكأنهُ … هو نفسه للآكلين طعامُ
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أنشدت أبا عبيدة قولَ الفرزدق " من الطويل ":
جلوسك في الشربِ الكرام بليةٌ … ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر
وما نظفت كأسٌ ولاطاب ريحها … ضربت على حافاتها بالمشافر
فقال: ماأعرفهما وأشهد أنهما من شعره.
قال أبو عبيدة: كنتُ أقودُ بشاراً، فمررنا بباهلة فسلم على قوم منهم، فلم يردوا عليه، فقال: من فيهم؟ قلت: عمرو الظالميُّ. فنفث - وكان إذا أراد أن يقول الشعر نفث - وقال " من البسيط ":
اُرْفق بعمرو إذا حركت نسبته … فإنه عربيُّ من قوارير
إن جاز آباؤك الأنذالُ في مضر … جازت فلوس بخارا في الدنانير
قال أبو عبيدة: كان بشارُ عظيم الجسد محدودباً سميناً طويلاً، وكان جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر، وكان أقبح الناس عمى، وكان حمَّاد عجردٍ يعيره بالقبح، فلمَّا قال حمَّاد فيه " من السريع ":
والله ما الخنزيرُ في نتنه … بربعه في النتن أو خمسه
بل ريحه أطيب من ريحه … ومسه ألين من مسه
ووجهه أحسن من وجهه … ونفسه أفضل من نفسه
وعوده أكرم من عوده … وجنسه أكرم من جنسه
فقال بشار: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. قيل: وكيف ذاك، يا أبا معاذ؟ قال: ماأراد الزنديق إلا قول الله ﷻ: (لقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ في أحسنِ تَقْويم) فقد أخرج الجحود بها مخرج هجائي. - وكان لبشار أخوان بشر وبشيرٌ وكانا قصَّابين، وكان بشَّار بهما باراً وكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها، فيبرز بشَّار للناس في ثياب سخام، فيقال له: ماهذا، ياأبا معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرحم. - وقال الشعر ولم يبلغ عشر سنين، فبلغ الحُلُم وهو مخشي معرَّة اللسان بالبصرة. وكان لا يزال قومٌ يشكونه إلى أبيه فيضربه حتى رقَّ عليه. وكانت أمُّه تخاصمه، فيقول لها أبوه: قولي له يكف لسانه عن الناس! فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: ياأبت، احتج عليهم بقول الله تعالى: (ليسَ عَلَى الأعْمى حَرَجٌ) ! فقال له أبوه حين شكوه إليه هذا القول، فقالوا: فقه بُرد أضر علينا من شعر بشار.
وسئل أبو عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديُّ بشاراً عن ذكر النساء، قال: كان أوّل ذلك اشتهار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال الفسق من أشعر هذا الأعمى. وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلَّما كثُر ذلك وانتهى خبره إلى المهدي وأنشد لأشعاره، نهاه عن ذلك. قال: فقلت: ما أحسب أن شعر كثير وجميل وعروة وقيس بن ذريح وأولئك الطبقة أبلغ في هذا الباب! قال: ليس كلُّ من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لايخفى عليهن مايقول ومايريد، وأي حُرّةٍ حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها؟ فكيف الغزلة التي لاهمة لها إلا الرجال! وأنشدني " من المنسرح ":
قد لامني في خليلتي عُمَرُ … واللومُ في غير كنهه قذر
قال: أفق! قلت: لا! فقال: بلى … قد شاع في الناس منكما الخبر
قلت: وإن شاع ما اعتذاري … مما ليس فيه عندهم عذرُ
ماذا عليهم وما لهم خرسوا … لو أنهم في عيوبهم نظروا
أعشق وحدي فيؤخذون به … كالروم تغزو وتهزم الخزرُ
يا عجباً للخلاف يا عجباً … في في الذي لام في الهوى الحجرُ
حسبي وحسب الذي كلفت به … مني ومنها الحديث والنظر
أو قبلة في خلال ذاك ومابأس إذا لم تحلل الأزرُ
أو عضةٌ في ذراعها ولها … فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدٍ … والباب قد حال دونه السُتر
والساق براقةٌ خلاخلها … أو مص ريق وقد علا البهر
واسترخت الكف للغزال وقا … لت: إيه عني والدمع منحدر
انهض فما أنت كالذي زعموا … أنت وربي مغازلٌ أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي … فالله لي منك فيك ينتصر
يارب خذ لي فقد ترى ضرعي … من فاسق جاء ما له شُكر
أهوى إلى معضدي فرَّضضَهُ … ذو قوّة ما يُطاق مقتدر
يلصق بي لحية له خشنت … ذات سوادٍ كأنها الإبر
حتى علاني وأسرتي غيبٌ … ويلي عليه لو أنهم حضروا
أقسم بالله ما نجوت بها … فاذهب فأنت المساور الظفر
كيف بأمي إذا رأت شفتي … أم كيف إن شاع منك ذا الأثر
قد كنت أخشى الذي ابتليت به … منك فماذا تقول: ياعبرُ
قلت لها: عند ذاك يا سكني … لابأس إني مجربٌ خبر
قولي لها بقَّة لها ظفرُ … إن كان في البق ما له ظُفُرُ
ثم قال لي: مثل هذا الشعر يميل القلوب ويلين صعب! وكان أبو عبيدة يقول: أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للأوائل، وينشد من شعر أبي نواس " من الطويل ":
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفْ … له عن عدوٍ في ثياب صديق
وما الناس إلا هالك وابن هالك … وذو نسبٍ في الهالكين عريق
وكان أبو نواس ربما يشغل أهل مجلسه عن الاستماع بالعبث، فشكوه إلى أبي عبيدة، فقال: اطردوه! فطردوه، فتباعد وكتب رقعة فحذفها في حجره " من الكامل ":
أمر الأمير بأخذ أولاد الزنا … فتغيبوا لاتؤخذوا فتعاقبوا
فقال: والله لأقينَّ عرضي منه بأن أردَّه! وكيف أطرد من هذا مقداره؟! فرَّده. وكان يحبه لظرفه وأدبه.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: (أَمَتنا اثنتين وأحْييَتنا اثنتين) هو مثل قوله: (كُنْتُم أمواتاً فأحْيَاكُم ثمَّ يميتكم ثمَّ يحييكم) ههنا موتتان وحياتان. وقال في قوله: لَايسمَعُون فيها لغواً إلَاّ سَلاما) قد يستثنى الشء ليس من الشيء، فليس السلام من اللغو فكأن فيه ضميراً: لايسمعون فيها لغواً إلا أنهم يسمعون سلاما. وقال أبو جندب الهذلي " من الطويل ":
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدقه … ولم ينج إلا خفق سيف ومئزرا
فاستثناهما منه وهما من غيره.
وكان أبو عبيدة يسمي بيتي كعب بن سعد الغنوي درَّة الغائص وهما " من البسيط ":
اعص العواذل وارم الليل عن عرض … بذي سبيب يقاسي ليله خببا
حتى تمول مالاً أو يقال فتىً … لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
قال: لأن الدرة إذا أصابها الغائص، لم يصب مثلها حتى ينفق في طلبها أضعاف ثمن التي أصيبت. وهذان البيتان قد قتلا خلقاً كثيرا، ينفض أحدهم رأسه ويتمثل بهما، ثمّ يخرج زعم أن يتمول، فيقتل ألف قبل أن يتمول واحد. وأنشد أحمد بن يحيى " من الطويل ":
فلو أن مابي باعضى فلق الحصى … وبالريح لم يسمع لهنَّ هُبوبُ
ولو أنني أستغفر الله كلما … ذكرتك لم تكتب عليَّ ذنوب
فزعموا أن الرواية كانت " قلق الحصى " فصحفه أبو عبيدة فقال: " فلق الحصى "، فصار ذلك رواية.
وقال أبو عبيدة: الشعراء الذين هجوا ومدحوا ودخلوا على الملوك وأخذوا الجوائز سبعة: ثلاثة إسلاميون وثلاثة جاهليون وواحد مخضرم. فأما الإسلاميون فجرير والفرزدق والأخطل، وأما الجاهليون فزهير بن أبي سُلمى والنابغة من بني ذبيان والأعشى من بني قيس، وأما المخضرم الذي أدرك الجاهلية وقال فيها الشعر وأدرك الإسلام وقال فيه الشعر فالحطيئة.
وسئل أبو عبيدة: هل قال الشعر أحدٌ قبل امرئ القيس؟ فقال: قدم علينا أربعةٌ وعشرون رجلاً من بني جعفر بن كلاب من أهل البادية، فكنا نأتيهم فنكتب عنهم، فقالوا: من أبن خذام؟ قلنا: ما سمعنا به! قالوا: والله لقد سمعنا به! ورجونا أن يكون علمه عندكم لأنكم أهل الأمصار وأصحاب الدواوين، ولقد بكى في الدمن قبل امرئ القيس وهو الذي يقول له امرؤ القيس " من الكامل ":
عُوجاً على الطلل المحُيل لعلنا … نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وهي أبيات، قال: وهم لايعرفون لابن خذام نسباً. وأنشدوا له " من الطويل ":
كأني غداة البين لمَّا تحملوا … لدى سُمرات الحيّ نلقفُ حنظلِ
قال أبو عبيدة: لم يقل النابغة الذبياني من الشعر حتى بلغ الخمسين. - وقال: دخل الأعشى بلاد فارس، فأخبر عنه كسرى وقالوا: إنه شاعر العرب! فأُدخل عليه فاستنشده فأنشده " من الطويل ":
أرقتُ وماهذا السُهاد المؤرقُ … ومابي من سقمٍ ولابي معشق
فقال كسرى: فسروا لي ما قال! فترجم له، فقال: لئن كان يسهر من غير سقم، ولاعشق إنه لسارق! قال أبو عبيدة: كان كثير أشعر أهل الإسلام، وكان يكذب في حُبه وجميل يصدق. وسئل: من أشعر المولدين؟ قال: السيد! وكان السيد مشتهراً بمدح أهل البيت، وهو الذي يقول " من البسيط ":
إني امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني … لا من ربيعة آبائي ولا مضر
وقال من قصيدة " من البسيط ":
ثمَّ الولاء الذي أرجو النجاة به … يوم القيامة للهادي أبي حسنِ
قوله في اللغة والعربية، قال أبو عبيدة: الناقراتُ من السهام المصيبات القرطاس، والقاصرات التي لاتبلغ، والغاضرات التي تخرج عن الهدف يمنة ويسرة، والطالعات التي تخرج من فوق الهدف، والحوابي التي تقرب من القرطاس ولا تصيب، والمقرطسات المصيبات. وقال: أهل العالية يقولون: الحرب خدعة، وهي لغة رسول الله صلى الله عليه ولغة نجد: خدعة؛ ورجل خدعة إذا كان يخدع الناس، ورجل هُزأة إذا كان يهزؤ بالناس؛ قال: والمكاشرة أن يضحك إليه وفي صدره عليه غمر. والطم والرم: الرطب واليابس؛ والغارة الشعواء: الكثيرة. قال: وأهل الحجاز يقولون: قد أخلق الثوب، وبنو تميم يقولون: قد خلَّق الثوب، ويقولون أيضاً بالتخفيف خلق وهو كثير في كلامهم، وإنما يخففون في فعل وفعل ولايخففون في فعل. قال أبو عبيدة: أسماءُ الحلب البرم والفطر والضب والمصر والضف والنكع، فالمصر بإصبعين والضف بالكف كلها والنكع أن يجهدها في الحلب، والنكع والنهز ضرب الضرع باليد عند الحلب لتَدُرَّ، وإنما ذلك في الضأن خاصة، فأما المعز فإنما هو المسح، وأما الكسع فإنما هو ردُّ الدرة وحقن اللبن وهو في النوق خاصة، يُرش الضرع بالماء ويضربه بيده ليرتفع، فيكون أقوى للناقة.
قال أبو ربيعة النحوي: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل مافيه كان هلاكه بأكمل ما فيه. فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال: هذا حسن وعندي آخر يشبهه، كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فبالحرى أن تكون سبب منيته. فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي آخر يشبههما، كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان في أغلب خصال الخير حتفه. فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذا حسنٌ كلُّه وعندي آخر يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيءٍ إذا كثُر رخص إلا العقلُ فإنه إذا كثُر غلا.
وقال أبو عبيدة: لم يكن لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي قاضٍ ولا عمالُ شُرط ولا لابن الزبير بالمدينة، وكان أوَّل قاض في المدينة في خلافة معاوية في إمارة مروان استقضى عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حتى عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل سعيد بن العاص، واستقضى سعيد أبا سلمة بن عبد الرحمان.
وقال أبو عبيدة كان رجل من بني هلال يقال له طفيل بن زلال، فكان إذا سمع بقوم عندهم دعوة أتاهم فأكل من طعامهم، فسمي الطفيليُّ طفيلياً به. - وقال وكان الناس لايركبون الحمير حتى تفارقوا أيام المنصور فركبوها، ولبيس في الأرض مركب إلا وهو كلما كان أكبر كان أحسن إلا الحمير فإنها كلما كانت أكبر كان أقبح. وقال آخر لعنها الله! فارهها يتعب وخسيسها يتعب رجليك.
كان أبو عبيدة لما كبُر إذا أراد أن يقوم تمثَّل بقول أبي الطمحان القيني " من الوافر ":
حنتني حانيات الدهر حتى … كأني خاتلٌ يدنو لصيد
قريبُ الخطو يحسبُ من رآني … ولستُ مقيداً أني بقيد
وقال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده ونسأله عن سبب علته، فقال: هذا النوشجاني! دخلتُ عليه مسلماً، فجاءني بموزٍ كأنه أيور المساكين، فأكثرتُ منه فكان سبب علتي. ثمّ دخل أبو العتاهية بعد موت أبي عبيدة دار النوشجاني، فوضع بين يديه قنو موز، فقال: ياهذا! أقتلت أبا عبيدة وتريد أن تقتلني؟ لقد استحليت قتل العلماء، والله لاأذوقه! قال الصولي: مات أبو عبيدة سنة تسع ومائتين، وقيل: عشر، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: إثنتي عشرة، وله أربع وتسعين سنة. وقيل للأصمعي: مات أبو عبيدى! فقال: اليوم مات الظرف.
من كتاب نور القبس - أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود اليغموري (ت 673هـ)
، ولد سنة اثنتي عشرة ومائة ومات سنة ثمان ومائتين، بلغ ثلاثا وتسعين سنة.