عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي أبي سعيد

سحنون

تاريخ الولادة160 هـ
تاريخ الوفاة240 هـ
العمر80 سنة
مكان الولادةالقيروان - تونس
مكان الوفاةالقيروان - تونس
أماكن الإقامة
  • أفريقيا - أفريقيا
  • الحجاز - الحجاز
  • المغرب - المغرب
  • القيروان - تونس
  • مصر - مصر

نبذة

سحنون بن سعيد التنوخي أبي سعيد: وسحنون لقب واسمه عبد السلام وتفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب، ثم انتهت الرياسة إليه في العلم بالمغرب، وولي القضاء بالقيروان، على قوله المعول بالمغرب كما على قول ابن المواز - يعني روايته عن ابن القاسم  - المعول بمصر، وصنف المدونة وعليها يعتمد أهل القيروان، وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. ومات سنة أربعين ومائتين في رجب.

الترجمة

أبو سعيد عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي القيرواني: أصله من حمص اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، الفقيه الحافظ العابد والورع الزاهد، الإمام العالم الجليل المتفق على فضله وإمامته، أخذ عن أئمة من أهل المشرق والمغرب: كالبهلول بن راشد وعلي بن زياد وأسد بن الفرات وابن أبي حسان وابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وابن عيينة ووكيع وابن مهدي ومعن وابن الماجشون ومطرف وأشهب وابن غياث والوليد بن مسلم والطيالسي وغيرهم.

وكانت رحلته للمشرق سنة 188 هـ وعنه أئمة منهم ابنه محمَّد ومحمد بن عبدوس وابن غالب ويحيى بن عمر وأحمد بن الصواف وجبلة وحمديس القطان وسعيد بن الحداد وأبو محمَّد يونس الورداني ولازمه كثيراً وأحمد بن أبي سليمان وفرات بن محمَّد وغيرهم قال- في المدارك- بعد ما ترجم لكثير من تلامذته وهناك جماعة معروفون بصحبته غلب على كثير منهم العبادة فالرواة عنه نحو 700 انتهت إليه الرئاسة في العلم وعليه المعول في المشكلات وإليه الرحلة ومدونته عليها الاعتماد في المذهب. في أوائل نهاية المتيطي بعدما نوه بالمدونة قال: كانت مؤلفة على مذهب أهل العراق فسلخ أسد بن الفرات الأسدية وقدم بها المدينة يسأل عنها مالكاً ويردها على مذهبه فألفاه قد توفي فأتى أشهب ليسأله عنها ثم أعرض عنه وأتى ابن القاسم وطلب منه ذلك فأبى ولم يزل به حتى شرح الله صدره لما سأله مسألة مسألة فما كان عنده فيه سماع من مالك قال: سمعت مالكاً يقول كذا وكذا حتى أكملها وما لم يكن عنده من مالك بلاغ فيها قال: لم أسمع منه في ذلك شيئاً وبلغني أنه قال فيها كذا وكذا حتى أكملها فرجع إلى بلاده بها فطلبها منه سحنون فأبى ثم توصل لنسخها فانتسخها ورحل بها إلى ابن القاسم فقرأها عليه فرجع عن مسائل كثيرة وكتب إلى أسد بن الفرات أن يصلح كتابه على ما في كتاب سحنون فأنف أسد من ذلك وأباه فبلغ ذلك ابن القاسم فدعا أن لا يبارك له فيها وكان مجاب الدعوة فأجيبت دعوته ولم يشتغل بكتابه ومال الناس إلى المدونة ونفع الله بها وكان سحنون إذا حث على طلب العلم والصبر عليه تمثل بهذا البيت:
اخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
أي لا يحصل العلم إلا بالعناية والملازمة والحث والنصب والصبر على الطلب اهـ ببعض اختصار وبالجملة فإن فضائله جمة جمعها العلماء مفردة ومضافة ولما بلغ من العمر ثمانين سنة عمل طعاماً ونادى عليه بعض الخاصة فسئل عن سببه فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بلغ عمره ثمانين سنة كتبت حسناته ولم تكتب سيئاته" فعمله شكراً لله، ولد في رمضان سنة 160 هـ راوده محمَّد بن الأغلب حولاً كاملاً على القضاء ثم قبل منه على شرط أن لا يرتزق له شيئاً على القضاء وأن ينفذ الحقوق على وجهها في الأمير وأهل بيته وكانت ولايته سنة 234 هـ ومات وهو يتولاه في رجب سنة 240 هـ وقبره بالقيروان معروف متبرك به.

 

 

سحنون بن سعيد التنوخي، من أبناء الجند العربي، ولد في القيروان سنة 160 هـ، وأخذ في إفريقية عن علي بن زياد، وأسد بن الفرات وغيرهما، ورحل إلى الحجاز، ولم يدرك مالكًا، ورجع إلى مصر فسمع من عبد الرحمن بن قاسم، وعليه غالب اعتماده، وأخذ عن غيره من كبار تلاميذ مالك، وعلي بن القاسم راجع " مدونة " شيخه أسد بن الفرات وقد ظهر لابن القاسم العدول عن بعض آرائه الأولى واتخاذ آراء غيرها، وعاد سحنون إلى بلاده، وأراد أن يحمل أَسَدًا على إصلاح " الأسدية " على ما تلقاه من ابن القاسم، فلم يوافقه أسد.
واستمر سحنون بما أوتي من براعة ومقدرة يبث فقه أهل المدينة خاصة - مالك وأصحابه - ولا سيما بعد استشهاد أسد بن الفرات في صقلية، وَلِذَا عُدَّ سحنون أول من أظهر الفقه المدني ورجحه، وأرسخ كلمته في إفريقية والمغرب، وقد امتاز سحنون بخصال نادرة، منها: جمعه بين الاستقامة التامة والدين، ورجحان العقل والعفة، مع استقلال الفكر وقوة الشكيمة؛ وتوارد عليه عدد لا يحصى من المتعلمين من أنحاء المغرب، ولا سيما الأندلس، وصارت حلقة تدريسه أكبر حلقة عرفت لأستاذ، قيل إنه كان يجلس فيها أربعمائة طالب علم؛ ولما ناله سحنون من الشهرة والصيت البعيد أولاه الأمير الأغلبي قضاء إفريقية سنة 234هـ فأظهر مقدرة منقطعة النظير في تنظيم مهمة القضاء، بل إنه وضع الكثير من أصول المؤسسات الشرعية في إفريقية، مثل دستور «أحكام السوق» وهي وظيفة الحسبة، ونظإم قضاة الآفاق، وكشف الشهود، وسنن التعليم الابتدائي، وتعيين أيمة المساجد إلى غير ذلك من الأوضاع التي جرى بها العمل مئات السنين، وما زال بعضها سنة متبعة إلى يوم الناس هذا.
وفي مدة قضائه اجتهد سحنون في تعطيل الدروس التي كان يلقيها أصحاب الأهواء، والنحل الخارجة عن السنة في الجامع الكبير، مسجد عقبة بالقيروان، مثل الصُّفْرِيَّةِ، وَالمُرْجِئَةِ، وَالمُشَبِّهَةِ، وَالمُعْتَزِلَةِ وغيرهم، حتى ألزمهم إخلاء الجامع من حلقهم، ولم تعد إليه بعد.
وقصارى القول أن سحنون بن سعيد يعد بحق المؤسس الأول لمدرسة الفقه المالكي في إفريقية، بل في المغرب عامة كما كان الأسوة الحسنة لمن جاء بعده من علماء السنة في دراسة العلوم الفقهية، وشرح أصول السنة، وتوفي سنة 240 هـ.
الكتاب: الإمام المازري - حَسن حُسني بن صالح الصُّمادحي التجيبي..

 

 

سحنون بن سعيد التنوخي أبي سعيد: وسحنون لقب واسمه عبد السلام وتفقه بابن القاسم وابن وهب وأشهب، ثم انتهت الرياسة إليه في العلم بالمغرب، وولي القضاء بالقيروان، على قوله المعول بالمغرب كما على قول ابن المواز - يعني روايته عن ابن القاسم  - المعول بمصر، وصنف المدونة وعليها يعتمد أهل القيروان، وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك، وعنه انتشر علم مالك في المغرب. ومات سنة أربعين ومائتين في رجب.

- طبقات الفقهاء / لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي -.

 

 

سُحْنُون: الإِمَامُ, العَلاَّمَةُ، فَقِيْهُ المَغْرِبِ, أبي سَعِيْدٍ عَبْدُ السلام بن حبيب بن حَسَّانَ بنِ هِلاَلِ بنِ بَكَّارِ بنِ رَبِيْعَةَ بنِ عَبْدِ اللهِ التَّنُوْخِيُّ, الحِمْصِيُّ الأَصْلِ, المَغْرِبِيُّ, القَيْرَوَانِيُّ, المَالِكِيُّ, قَاضِي القَيْرَوَانِ، وَصَاحِبُ المُدَوَّنَةِ، وَيُلَقَّبُ: بِسَحْنُوْنَ, ارْتَحَلَ وَحَجَّ.
وَسَمِعَ مِنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وَالوَلِيْدِ بنِ مُسْلِمٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ وَهْبٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، وَوَكِيْعِ بنِ الجَرَّاحِ، وَأَشْهَبَ، وَطَائِفَةٍ.
وَلَمْ يَتَوَسَّعْ فِي الحَدِيْثِ كَمَا تَوَسَّعَ، فِي الفُرُوْعِ.
لاَزمَ ابْنَ وَهْبٍ، وَابْنَ القَاسِمِ، وَأَشْهَبَ حَتَّى صَارَ مِنْ نُظَرَائِهِم.
وَسَادَ أَهْلَ المَغْرِبِ، فِي تَحْرِيْرِ المَذْهَبِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ العِلْمِ، وَعَلَى قَوْلِهِ المُعَوَّلُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَتفَقَّهَ بِهِ عَدَدٌ كَثِيْرٌ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ أَوَّلاً بِإِفْرِيْقِيَةَ عَلَى ابْنِ غَانِمٍ وَغَيْرِهِ. وَكَانَ ارْتِحَالُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ، وَكَانَ مَوْصُوْفاً بِالعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ التَّامَةِ وَالوَرَعِ, مَشْهُوْراً بِالجُوْدِ وَالبَذْلِ، وَافِرَ الحُرْمَةِ, عَدِيْمَ النَّظِيْرِ.
أَخَذَ عَنْهُ: وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ؛ فَقِيْهُ القَيْرَوَانِ، وَأَصْبَغُ بنُ خَلِيْلٍ القُرْطُبِيُّ، وَبَقِيُّ بنُ مِخْلَدٍ، وَسَعِيْدُ بنُ نَمِرٍ الغَافِقِيُّ الإِلْبِيْرِيُّ الفَقِيْهُ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ غَافِقٍ التُّوْنُسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدُوْسٍ المَغْرِبِيُّ، وَوَهْبُ بنُ نَافِعٍ؛ فَقِيْهُ قُرْطُبَةَ، وَيَحْيَى بنُ القَاسِمِ بنِ هِلاَلٍ الزَّاهِدُ، وَمُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَرْوَانِيُّ مَوْلاَهُمْ، وَيَحْيَى بنُ عُمَرَ الكِنَانِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ، وَعِيْسَى بنُ مِسْكِيْنٍ، وَحَمْدِيْسُ، وَابْنُ مُغِيْثٍ، وَابْنُ الحَدَّادِ، وَعَدَدٌ كَثِيْرٌ مِنَ الفقهاء.
فَعَنْ أَشْهَبَ, قَالَ: مَا قَدِمَ عَلَيْنَا أَحَدٌ مِثْلُ سَحْنُوْنَ.
وَعَنْ يُوْنُسَ بنِ عَبْدِ الأَعْلَى قال: سحنون سيد أهل المغرب.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ الأَنْدَلُسِيِّ, قَالَ: مَا بُوْرِكَ لأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَصْحَابِهِ مَا بُوْرِكَ لِسَحْنُوْنَ فِي أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي كُلِّ بَلَدٍ أَئِمَّةً.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُوْنَ قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ بَلْ يَضُرُّهُ.
وَقَالَ سَحْنُوْنُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ مَجْلِسَ القَاضِي ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ بِلاَ حَاجَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ.
وَسُئِلَ سَحْنُوْنُ: أَيَسَعُ العَالِمَ أَنْ يَقُوْلَ: لاَ أَدْرِي فِيْمَا يَدْرِي? قَالَ: أَمَّا مَا فِيْهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ فَلاَ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ ذَلِكَ؛ لأَنَّهُ لاَ يَدْرِي أَمُصِيْبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ.
قَالَ الحَافِظُ أَحْمَدُ بنُ خَالِدٍ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ وَضَّاحٍ لاَ يُفَضِّلُ أَحَداً مَمَّنْ لَقِيَ عَلَى سَحْنُوْنَ فِي الفِقْهِ وَبِدَقِيْقِ المَسَائِلِ.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ قَالَ: أَكْلٌ بِالمَسْكَنَةِ، وَلاَ أَكْلٌ بِالعِلْمِ. مُحِبُّ الدُّنْيَا أَعْمَى, لَمْ يُنَوِّرْهُ العِلْمُ. مَا أَقْبَحَ بِالعَالِمِ أَنْ يَأْتِيَ الأُمَرَاءَ، وَاللهِ مَا دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ إِلاَّ وَإِذَا خَرَجْتُ حَاسَبْتُ نَفْسِي، فَوَجَدْتُ عَلَيْهَا الدَّرْكَ، وَأَنْتُم تَرَوْنَ مُخَالَفَتِي لِهَوَاهُ، وَمَا أَلْقَاهُ بِهِ مِنَ الغلظة، والله ما أَخَذْتُ وَلاَ لَبِسْتُ لَهُمُ ثَوْباً.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ قَالَ: كَانَ بَعْضُ مَنْ مَضَى يُرِيْدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَا لانْتَفَعَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيْرٌ، فَيَحْبِسُهَا، وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَخَافَةَ المُبَاهَاةِ. وَكَانَ إِذَا أَعْجَبَهُ الصَّمْتُ تَكَلَّمَ، وَيَقُوْلُ: أَجْرَأُ النَّاسِ عَلَى الفُتْيَا أَقَلُّهُم عِلْماً.
وَعَنْهُ قَالَ: أَنَا أَحْفَظُ مَسَائِلَ فِيْهَا ثَمَانِيَةُ أَقَاوِيْلَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَئِمَّةٍ، فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ أُعَجِّلَ بِالجَوَابِ? وَقِيْلَ: إِنَّ زِيَادَةَ اللهِ الأَمِيْرَ بَعَثَ يَسْأَلُ سَحْنُوْناً، عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بنُ عُبْدُوْسٍ: أُخْرُجْ مِنْ بَلَدِ القَوْمِ أَمْسِ تَرْجَعُ عَنِ الصَّلاَةِ خَلْفَ قَاضِيْهِم، وَاليَوْمَ لاَ تُجِيْبُهُم?! قَالَ: أَفَأُجِيْبُ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يَتَفَكَّهَ يُرِيْدُ أَنْ يَأْخُذَ قَوْلِي وَقَوْلَ غَيْرِي، وَلَوْ كَانَ شَيْئاً يَقْصِدُ بِهِ الدِّيْنَ لأَجَبْتُهُ.
وَعَنْهُ: قَالَ: مَا وَجَدْتُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ إِلاَّ المُفْتِي.
وَعَنْ عَبْدِ الجَبَّارِ بنِ خَالِدٍ, قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ سَحْنُوْنَ بِقَرْيَتِهِ، فَصَلَّى الصُّبْحَ، وَخَرَجَ، وَعَلَى كَتِفِهِ مِحْرَاثٌ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ زَوْجُ بَقَرٍ، فَقَالَ لَنَا: حُمَّ الغُلاَمُ البَارِحَةَ، فَأَنَا أَحْرُثُ اليَوْمَ عَنْهُ، وَأَجِيْئُكُمْ. فَقُلْتُ: أَنَا أَحْرُثُ عَنْكَ. فَقَرَّبَ إِلَيَّ غَدَاءهُ؛ خُبْزَ شَعِيْرٍ وَزَيْتاً.

وَعَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ, قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَحْنُوْنَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضٍ، وَفِي عُنُقِهِ تَسْبِيْحٌ يسبح به.
وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ العَطَّارِ قَالَ: بَاعَ سَحْنُوْنُ زيتونًا له بثمانمائة، فَدَفَعَهَا إليَّ، فَفَرَّقْتُهَا عَنْهُ صَدَقَةً.
وَقِيْلَ: كَانَ إِذَا قُرِئَتْ عَلَيْهِ "مَغَازِي ابْنِ وَهْبٍ"، تَسِيْلُ دُمُوْعُهُ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ "الزُّهْدَ" لاِبْنِ وَهْبٍ يَبْكِي.
وَعَنْ يَحْيَى بنِ عَوْنٍ, قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ سَحْنُوْنَ عَلَى ابْنِ القَصَّارِ، وَهُوَ مَرِيْضٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا القَلَقُ? قَالَ لَهُ: المَوْتُ وَالقُدُوْمُ عَلَى اللهِ. قَالَ لَهُ سَحْنُوْنُ: أَلَسْتَ مُصَدِّقاً بِالرُّسُلِ وَالبَعْثِ وَالحِسَابِ وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ أبي بَكْرٍ ثُمَّ عُمُرُ, وَالقُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَنَّ اللهَ يُرَى يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَنَّهُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى، وَلاَ تَخْرُجُ عَلَى الأَئِمَّةِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ جَارُوا. قَالَ: إِيْ وَاللهِ. فَقَالَ: مُتْ إِذَا شِئْتَ, مُتْ إِذَا شِئْتَ.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ, قَالَ: كَبِرْنَا وَسَاءتْ أَخْلاَقُنَا، وَيَعْلَمُ اللهُ مَا أَصِيْحُ عَلَيْكُم إِلاَّ لأُؤَدِّبَكُم.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ, قَالَ: مَا عَمِيَتْ عَلَيَّ مَسْأَلَةٌ إِلاَّ وَجَدْتُ فَرَجَهَا فِي كُتُبِ ابْنِ وَهْبٍ.
وَقِيْلَ: إِنَّ طَالِباً قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ سَحْنُوْناً يَبْنِي الكَعْبَةَ, قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ "مَنَاسِكَ الحَجِّ" الَّذِي جَمَعَهُ.
وَقِيْلَ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنْ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، وَإِسْحَاقَ الأَزْرَقَ، وَوَكِيْعٍ، وَيَحْيَى بنِ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ طُلَيْبٍ المُرَادِيِّ، وَبُهْلُوْلِ بنِ رَاشِدٍ، وَعَلِيِّ بنِ زِيَادٍ التُّوْنُسِيِّ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ غَانِمٍ الرُّعَيْنِيِّ، وَشُعَيْبِ بنِ اللَّيْثِ المِصْرِيِّ، وَمَعْنٍ القَزَّازِ، وَأَبِي ضَمْرَةَ اللَّيْثِيِّ، وَيَزِيْدَ بنِ هَارُوْنَ، وَعِدَّةٍ.
قَالَ أبي العَرَبِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ: كَانَ الَّذِيْنَ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ سَحْنُوْنَ مِنَ العُبَّادِ أَكْثَرَ مِنَ الطَّلَبَةِ, كَانُوا يَأْتُوْنَ إِلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ، وَلَمَّا وَلِيَ سَحْنُوْنُ القَضَاءَ بِأَخَرَةٍ عُوْتِبَ، فَقَالَ: مَا زِلْتُ فِي القَضَاءِ مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً هَلِ الفُتْيَا إِلا القَضَاءُ?!
قِيْلَ: إِنَّ الرُّوَاةَ عَنْ سحنون بلغوا تسعمائة.
وَأَصْلُ المُدَوَّنَةِ أَسْئِلَةٌ سَأَلَهَا أَسَدُ بنُ الفُرَاتِ لاِبْنِ القَاسِمِ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ سَحْنُوْنُ بِهَا عَرَضَهَا عَلَى ابْنِ القَاسِمِ، فَأَصْلَحَ فِيْهَا كَثِيْراً وَأَسْقَطَ, ثُمَّ رَتَّبَهَا سَحْنُوْنُ، وَبَوَّبَهَا، وَاحْتَجَّ لِكَثِيْرٍ مِنْ مَسَائِلِهَا بِالآثَارِ مِنْ مَرْوِيَّاتِهِ مَعَ أَنَّ فِيْهَا أَشْيَاءَ لاَ يَنْهَضُ دَلِيْلُهَا، بَلْ رَأْيٌ مَحْضٌ.

وَحَكَوا أَنَّ سَحْنُوْنَ، فِي أَوَاخِرِ الأَمْرِ عَلَّمَ عَلَيْهَا، وَهَمَّ بِإِسْقَاطِهَا وَتَهْذِيْبِ "المُدَوَّنَةِ"، فَأَدْرَكَتْهُ المَنِيَّةُ -رَحِمَهُ اللهُ. فَكُبَرَاءُ المَالِكِيَّةِ يَعْرِفُوْنَ تِلْكَ المَسَائِلَ، وَيُقَرِّرُونَ مِنْهَا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَيُوَهِّنُونَ مَا ضَعُفَ دَلِيْلُهُ، فَهِيَ لَهَا أُسْوَةٌ بِغَيْرِهَا مِنْ دَوَاوِيْنِ الفِقْهِ. وَكُلُّ أَحَدٍ فُيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلاَّ صَاحِبَ ذَاكَ القَبْرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً- فَالعِلْمُ بَحْرٌ بِلاَ سَاحِلٍ، وَهُوَ مُفَرَّقٌ فِي الأُمَّةِ, مَوْجُوْدٌ لِمَنِ التَمَسَهُ.
وَتَفْسِيْرُ سَحْنُوْنَ بِأَنَّهُ اسْمُ طَائِرٍ بِالمَغْرِبِ, يُوْصَفُ بالفطنة والتحرز، وهو بفتح السين وبضمها.
تُوُفِّيَ الإِمَامُ سَحْنُوْنُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَلَهُ ثَمَانُوْنَ سَنَةً، وَخَلَفَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ.
قَرَأْتُ فِي تَارِيْخِ القَيْرَوَانِ لأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ المَالِكِيِّ, قَالَ: قَالَ أبي العَرَبِ: اجْتَمَعَتْ فِي سَحْنُوْنَ خِلاَلٌ قَلَّمَا اجْتَمَعَتْ فِي غَيْرِهِ: الفِقْهُ البَارِعُ، وَالوَرَعُ الصَّادِقُ، وَالصَّرَامَةُ فِي الحَقِّ، وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّخَشُّنُ فِي المَلْبَسِ وَالمَطْعَمِ، وَالسَّمَاحَةُ, كَانَ رُبَّمَا وَصَلَ إِخْوَانَهُ بِالثَّلاَثِيْنَ دِيْنَاراً، وَكَانَ لاَ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً، وَلَمْ يَكُنْ يَهَابُ سُلْطَاناً فِي حَقٍّ. شَدِيْداً عَلَى أَهْلِ البِدَعِ, انْتَشَرَتْ إِمَامَتُهُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى فَضْلِهِ, قَدِمَ بِهِ أبيهُ مَعَ جُنْدِ الحِمْصِيِّينَ، وَهُوَ مِنْ تَنُوْخَ صَلِيْبَةً.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ, قَالَ: حَجَجْتُ زَمِيلَ ابْنِ وَهْبٍ.
وَقَالَ عِيْسَى بنُ مِسْكِيْنٍ: سَحْنُوْنُ رَاهِبُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَالِكٍ وَسَحْنُوْنَ أَحَدٌ أَفْقَهَ مِنْ سَحْنُوْنَ.
وَعَنْ سَحْنُوْنَ, قَالَ: إِنِّي حَفِظْتُ هَذِهِ الكُتُبَ, حَتَّى صَارَتْ فِي صَدْرِي كَأُمِّ القُرْآنِ.
وَعَنْهُ, قَالَ: إِنِّي لأَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا، وَلاَ يَسْأَلُنِي اللهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ قُلْتُ فِيْهَا بِرَأْيِي، وَمَا أَكْثَرَ مَا لاَ أَعْرِفُ.
وَعَنْهُ: سُرْعَةُ الجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ فِتْنَةِ المال.

سير أعلام النبلاء: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن  قايمازالذهبي

 

 

عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون: قاض، فقيه، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب. كان زاهدا لا يهاب سلطانا في حق يقوله. أصله شامي، من حمص، ومولده في القيروان  ولي القضاء بها سنة 234 هـ واستمر إلى أن مات، أخباره كثيرة جدا. وكان رفيع القدر، عفيفا، أبيّ النفس. روى " المدونة - ط " في فروع المالكية، عن عبد الرحمن بن قاسم، عن الإمام مالك. ول أبي العَرَب محمد بن أحمد بن تميم كتاب " مناقب سحنون وسيرته وأدبه " .

-الاعلام للزركلي-

 

 

عبد السلام أبي سعيد: سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي صليبة من العرب أصله شامي من حمص وقدم أبيه سعيد في جند حمص قال محمد ابنه: قلت له: أنحن صليبة من تنوخ؟ فقال لي: وما تحتاج إلى ذلك فلم أزل به حتى قال لي: نعم وما يغني عنك ذلك من الله شيئاً إن لم تتقه.
وسحنون: لقب له واسمه: عبد السلام وسمى سحنون باسم طائر حديد: لحدته في المسائل وقد جمع الناس أخبار سحنون مفردة ومضافة وممن ألف فيها تأليفاً مفرداً: أبي العرب التميمي ومحمد بن حارث القروي.

ذكر طلبه ورحلته: أخذ سحنون العلم بالقيروان من مشايخها: أبي خارجة وبهلول وعلي بن زياد وابن أبي حسان وابن غانم وابن أشرس وابن أبي كريمة وأخيه: حبيب ومعاوية الصمادحي وأبي زياد الرعيني ورحل في طلب العلم في حياة مالك وهو بن ثمانية عشر عاماً أو تسعة عشر وكانت رحلته إلى بن زياد بتونس وقت رحلة بن بكير إلى مالك.
قال سحنون: كنت عند بن القاسم وجواباته ترد عليه فقيل له: فما منعك من السماع منه؟ قال: قلة الدارهم وقال مرة أخرى: لحا الله الفقر فلولاه لأدركت مالكاً فإن صح هذا فله رحلتان. وسمع من بن القاسم وابن وهب وأشهب وطليب بن كامل وعبد الله بن عبد الحكم وسفيان بن عيينة ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي وحفص بن غياث وأبي داود الطيالسي ويزيد بن هارون والوليد بن مسلم وابن نافع الصائغ ومعن بن عيسى وابن الماجشون ومطرف وغيرهم. وانصرف إلى إفريقية سنة إحدى وتسعين ومائة.
قال سحنون: سمع مني أهل أجدابية سنة إحدى وتسعين وفيها مات بن القاسم قال: وخرجت إلى بن القاسم وأنا بن خمس وعشرين وقدمت إلى إفريقية بن ثلاثين سنة وأول من قرأ علي عبد الملك بن زونان.

قال أبي العرب: كان سحنون ثقة حافظاً للعلم فقيه البدن اجتمعت فيه خلال قلما اجتمعت في غيره: الفقه البارع والورع الصادق والصرامة في الحق والزهادة في الدنيا والتخشن في الملبس والمطعم والسماحة.
وكان لا يقبل من السلطان شيئاً وربما وصل أصحابه بالثلاثين ديناراً أو نحوها. ومناقبه كثيرة وكان مع هذا رقيق القلب غزير الدمعة ظاهر الخشوع متواضعاً قليل التصنع كريم الأخلاق حسن الأدب سالم الصدر شديداً على أهل البدع لا يخاف في الله لومة لائم وسلم له الإمامة أهل عصره واجتمعوا على فضله وتقديمه.
سئل أشهب عمن قدم إليكم من أهل المغرب؟ قال: سحنون قيل له: فأسد؟ قال: سحنون والله أفقه منه بتسع وتسعين مرة. وقال أيضاً: ما قدم إلينا من المغرب مثله وقال بن القاسم: ما قدم إلينا من إفريقية مثل سحنون قال أبي زيد بن أبي الغمر: لم يقدم علينا أفقه من سحنون إلا أنه قدم علينا من هو أطول لساناً منه يعني بن حبيب. وقال يونس بن عبد الأعلى: هو سيد أهل المغرب فقال له حمديس: أو لم يكن سيد أهل المغرب والمشرق؟.

أخذ سحنون من بن وهب مغازيه إجازة وكان العلم في صدر سحنون كسورة من القرآن من حفظه وقال سحنون: إني حفظت هذه الكتب حتى صارت في صدري كأم القرآن وقال بن القاسم: إن أسعد أحد - بهذه الكتب - لسحنون. وقال بن وضاح: كان سحنون يروي تسعة وعشرين سماعاً وما رأيت في الفقه مثل سحنون بالمشرق.
وقال بن حارث: قدم سحنون بمذهب مالك واجتمع له مع ذلك فضل الدين والعقل والورع والعفاف والانقباض فبارك الله فيه للمسلمين فمالت إليه الوجوه وأحبته القلوب وصار زمانه كأنه مبتدأ قد انمحى ما قبله فكان أصحابه سرج أهل القيروان وأنبه علمائها وأكثرهم تأليفاً وابن عبدوس فقيهها وابن غافق عاقلها. وابن عمر حافظها وجبلة زاهدها وحمديس أصلبهم في السنة وأعداهم للبدعة وسعيد بن الحداد لسانها وفصيحها وابن مسكين أرواهم للكتب والحديث وأشدهم وقاراً وتصاوناً كل هذه الصفات مقصورة على وقتهم.
قال محمد بن سحنون قال أبي: إذا أردت الحج فاقدم طرابلس وكان فيها رجال مدنيون ثم مصر وفيها الرواة ثم المدينة - وفيها مالك ثم مكة واجتهد جهدك فإن قدمت علي بلفظ خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك أصلها فاعلم أن شيخك كان مفرطاً.

وقال سليمان بن سالم: دخلت مصر فرأيت بها العلماء متوافرين: عبد الحكم والحارث بن مسكين وأبا الطاهر وأبا إسحاق والبرقي وغيرهم ودخلت المدينة وبها أبي المصعب والفروي ودخلت مكة وبها ثلاثة عشر محدثاً ودخلت غيرها من البلدان ولقيت علماءها ومحدثيها فما رأيت مثل سحنون وابنه بعده.
وقال عيسى بن مسكين: سحنون زاهد هذه الأمة ولم يكن بين مالك وسحنون أفقه من سحنون وقال بعضهم: ما رأيت أحداً أهيب من سحنون وقال الشيرازي: إليه انتهت الرئاسة في العلم بالمغرب وعلى قوله المعول بالمغرب وصنف المدونة وعليها يعتمد أهل القيروان وحصل له من الأصحاب ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك وعنه انتشر علم مالك بالمغرب.

قال أبي علي بن البصير: سحنون فقيه أهل زمانه وشيخ عصره وعالم وقته

قال بن حارث: كان سحنون أفضل الناس صاحباً وأعقل الناس صاحباً وأفقه الناس صاحباً وكانت هذه الصفات صفات سحنون فخلق بها أصحابه رحمهم الله تعالى.
ذكر ولايته القضاء وسيرته: ولي سحنون قضاء إفريقية سنة أربع وثمانين ومائتين - وسنه إذ ذاك أربع وسبعون سنة فلم يزل قاضياً إلى أن مات ولما ولي القضاء دخل على ابنته خديجة وكانت من خيار النساء فقال لها: اليوم ذبح أبيك بغير سكين فعلم الناس قبوله القضاء.
وقال: حدثني بن وهب ورفع سحنون سنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم المطية الدنيا فارتحلوها فإنها تبلغكم الآخرة ". وكان سحنون لا يأخذ لنفسه رزقاً ولا صلة من السلطان في قضائه كله ويأخذ لأعوانه وكتابه وقضاته من جزية أهل الكتاب وقال للأمير: حبست أرزاق أعواني وهم أجراؤك وقد وفوك عملك ولا يحل ذلك لك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه ".

وكان يضرب الخصوم إذا أذى بعضهم بعضاً بكلام أو تعرضوا للشهود ويقول: إذا تعرض للشهود كيف يشهدون؟ ويؤدب الخصم إن طعن على الشاهد بعيب أو تجريح أو يقول: سل لي عن البينة إنهم كذا حتى يسئله عن تجريحه ويقول للخصم: أنا أغنى بذلك منك وهو علي دونك.
وكان إذا دخل عليه الشاهد - ورعب منه - أعرض عنه حتى يستأنس وتذهب روعته فإن طال ذلك به هون عليه وقال له: ليس معي سوط ولا عصاً ولا عليك بأس أد ما علمت ودع ما لم تعلم.
وكان يؤدب الناس على الأيمان التي لا تجوز من الطلاق والعتق حتى لا يحلفوا بغير الله عز وجل. وتخاصم إليه رجلان صالحان من أصحابه ممن نظر في العلم فأقامهما وأبى أن يسمع منهما وقال: استرا عني ما ستر الله عليكما. وكان يؤدب على الغش وينفي من الأسواق من يستحق ذلك وكان يجلس في بيت في الجامع بناه لنفسه إذا رأى كثرة الناس وكثرة كلامهم فكان لا يحضر عنده غير الخصمين ومن يشهد بينهما في دعواهما وسائر الناس عنه بمعزل لا يراهم ولا يسمع كلامهم ولا يشغل باله أمرهم.
وكان الناس يكتبون أسماءهم في رقاع تجعل بين يديه ويدعوهم واحداً واحداً إلا أن يأتي مضطر أو ملهوف. وكان كثيراً ما يؤدب بلطم القفا ولم يل قضاء إفريقية مثله. وقال سحنون: ليس من السنة أن أدعوك إلى طعام غيري ولو كان لي لفعلت وقال: قال عليه السلام: " إذا أحب الله عبداً سلط عليه من يؤذيه ".

قال بن عجلان الأندلسي: ما بورك لأحد بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بورك لسحنون في أصحابه إنهم كانوا بكل بلد أئمة.
قال بن حارث: سمعتهم يقولون: كان سحنون من أيمن عالم دخل المغرب كأن أصحابه مصابيح في كل بلد وعد له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته وانتفعوا بمجالسته.

حكم من كلامه رحمه الله تعالى: قال سحنون لابنه محمد: يا بني سلم على الناس فإن ذلك يزرع المودة وسلم على عدوك وداره فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس.
وكان يقول: من لم يعمل بعلمه لم ينفعه العلم بل يضره وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب فإذا عمل به نور قلبه وإن لم يعمل به وأحب الدنيا أعمى حب الدنيا قلبه ولم ينوره العلم.
وكان يقول: ترك الحلال أفضل من جميع عبادات الله تعالى وترك لحلال الله أفضل من أخذه وإنفاقه في طاعة الله تعالى.
وقال: ترك دانق مما حرم الله أفضل من سبعين ألف حجة تتبعها سبعون ألف عمرة مبرورة متقبلة وأفضل من سبعين ألف فرس في سبيل الله بزادها وسلاحها ومن سبعين ألف بدنة تهديها إلى بيت الله العتيق وأفضل من عتق سبعين ألف رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل.
فبلغ كلامه هذا عبد الجبار بن خالد فقال: نعم وأفضل من ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً وفضة كسبت وأنفقت في سبيل الله لا يراد بها إلا وجه الله عز وجل.
وكان يقول: انظر أبداً: الأمرين يكون فيهما الثواب فأثقلهما عليك هو أفضل.

وقال: إذا تردد الرجل على القاضي ثلاث مرات بلا حاجة فلا تجوز شهادته.
ووجه ذلك أن التردد إلى القاضي من غير حاجة يكسب الرجل مكانة عند الناس ومنزلة يكرمونه ويهادونه لأجلها لما يتوهمون من منزلته عند القاضي بسبب تردده إليه فيصير تردده سبباً لأكل المال بالباطل.
ورأى الناس يقبلون يد بن الأغلب فقال له: لم تعطيهم يدك؟ لو كان هذا لأجل قربك من الجنة ما سبقونا إليه. وتوفي في رجب سنة أربعين ومائتين ودفن من يومه وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب ووجه إليه بكفن وحنوط فاحتال ابنه محمد حتى كفنه في غيره وتصدق بذلك.
وكان سنه يوم مات ثمانين سنة ومولده سنة ستين ومائة ويقال: إحدى وستين وقال له رجل: الناس يقولون: إنك دعوت الله أن لا يبلغك سنة أربعين ومائتين؟ فقال: ما فعلت ولكن الناس يقولونه ما أرى أجلي إلا فيها.
ولما مات سحنون رجت القيروان لموته وحزن الناس وقال سليمان بن سالم: لقد رأيت يوم مات سحنون مشايخ من الأندلس يبكون ويضربون خدودهم كالنساء ويقولون: يا أبا سعيد ليتنا تزودنا منك بنظرة نرجع بها إلى بلدناوقال رجل: رأيت في نومي رجلاً صعد إلى السماء الدنيا ثم من سماء إلى سماء حتى صار تحت العرش فقيل: ينبغي أن يكون هذا سحنوناً فقال الرائي: هو ذاك وفي أولها رأيت باباً فتح في السماء ونودي بسحنون فأتي به فصعد.
وقال آخر: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقبوراً والناس يجعلون على قبره التراب وسحنون ينبشه فقال: قل لسحنون: هم يدفنون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تحييها.
وقال عبد الملك بن الخشاب الأندلسي - وكان ثقة: رأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم يمشيب في طريق وأبي بكر رضي الله عنه خلفه وعمر رضي الله عنه خلف أبي بكر رضي الله عنه ومالك خلف عمر رضي الله عنه وسحنون خلف مالك رحمهما الله تعالى. قال بن حارث: أقام سؤدد العلم في دار سحنون نحو مائة عام وثلاثين عاماً من ابتداء طلب سحنون وأخيه إلى موت ابن ابنه: محمد بن محمد بن سحنون. وقال بعضهم: رأيت في شأن سحنون قبل موته رؤيا قصصتها على معبر يقال له بن عياض فقال له: هذا الرجل يموت على السنة رحمهما الله تعالى

الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - ابن فرحون، برهان الدين اليعمري

سَحنون عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون وهو أسم طائر بالمغرب، يوصف بالفطنة والتحرز ،  وسحنون قاض، فقيه، انتهت إليه رياسة العلم في المغرب ، كان زاهدا لا يهاب سلطانا في حق يقوله.أصله شامي، من حمص، ومولده في القيروان. ولي القضاء بها سنة 234 هـ، واستمر إلى أن مات، أخباره كثيرة جدا ، وكان رفيع القدر، عفيفا، أبي النفس ، روى " المدونة " في فروع المالكية، عن عبد الرحمن بن قاسم، عن الإمام مالك. (ت 240 هـ ). ينظر الأعلام للزركلي (4/5) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (23/58).