أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني الدمشقي أبي العباس

ابن تيمية تقي الدين

تاريخ الولادة661 هـ
تاريخ الوفاة728 هـ
العمر67 سنة
مكان الولادةحران - تركيا
مكان الوفاةدمشق - سوريا
أماكن الإقامة
  • حران - تركيا
  • دمشق - سوريا
  • الإسكندرية - مصر
  • القاهرة - مصر
  • مصر - مصر

نبذة

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقيّ الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الإمام، شيخ الإسلام. ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية. ثم أطلق فسافر إلى دمشق واعتقل بها سنة 720 وأطلق، ثم أعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين. آية في التفسير والأصول.

الترجمة

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقيّ الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية:

الإمام، شيخ الإسلام. ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها فسجن مدة، ونقل إلى الإسكندرية. ثم أطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ واعتقل بها سنة 720 وأطلق، ثم أعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين. آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. وفي الدرر الكامنة أنه ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرّس وهو دون العشرين. أما تصانيفه ففي الدرر أنها ربما تزيد على أربعة آلاف كراسة، وفي فوات الوفيات أنها تبلغ ثلاث مئة مجلد، منها (الجوامع - ط) في السياسة الإلهية والآيات النبويّة، ويسمى (السياسة الشرعية) و (الفتاوى - ط) خمس مجلدات، و (الإيمان - ط) و (الجمع بين النقل والعقل - خ) الجزء الرابع منه، والثالث في 267 ورقة كتب سنة 737 في شستربتي (3510) و (منهاج السنة - ط) و (الفرقان بين أولياء الله وأولياء الشيطان - ط) و (الواسطة بين الحق والخلق - ط) و (الصارم المسلول على شاتم الرسول - ط) و (مجموع رسائل - ط) فيه 29 رسالة، و (نظرية العقد - ط) كما سماه ناشره، واسمه في الأصل (قاعدة) في العقود و (تلخيص كتاب الاستغاثة - ط) يعرف بالرد على البكري، وكتاب (الرد على الأخنائي - ط) و (رفع الملام عن الأئمة الأعلام - ط) رسالة، و (شرح العقيدة الأصفهانية - خ) رأيته في المكتبة السعودية بالرياض، و (القواعد النورانية الفقهية - ط) و (مجموعة الرسائل والمسائل - ط) خمسة أجزاء.و (التوسل والوسيلة - ط) و (نقض المنطق - ط) و (الفتاوي - خ) و (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - خ) و (مجموعة - ط) أخرى اشتملت على أربع رسائل: الأولى رأس الحسين (حقق فيها أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن في البقيع) والثانية الرد علي ابن عربي والصوفية، والثالثة العقود المحرمة، والرابعة قتال الكفار. ولابن قدامة كتاب في سيرته سماه (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - ط) وللشيخ مرعي الحنبلي، كتاب (الكواكب الدرية - ط) في مناقبه، ومثله لسراج الدين عمر بن علي ابن موسى البزار، وللشهاب أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري .

 

-الاعلام للزركلي-

 

 

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم.
الشيخ الأمام العلامة المفسر المحدّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر، فريد الدهر، تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين بن الأمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية.
سمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخبر وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين والقاسم الإربلي، وابن علاّن، وخلقٍ كثير.
وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله، ثم أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه.
تحول به أبوه من حران إلى دمشق سنة سبع وستين وست مائة. و" تيمية " لقبٌ لجده الأعلى.
تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل. وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجدّل خصومهُ في وسط ميانه، وفرّج مضائق البحث بأداةٍ قاطعة، ونصر أقوالهُ في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة، كأن السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل جنابه، وأقوال العلماء مجلوةٌ نُصب عيانه. لم أر أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطةُ مداره.
وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً فكان عجباً لمن يسمعه، ومُعجزاً لمن يُعد ما يأتي به أو يجمعه. يُنزل الفروع منازِلها من أصولها، ويرد القياسات إلى مآخذها من محصولها.

وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البدع الأُول، ومعرفةُ أرباب المذاهب، وما خصوا به من الفتوحات والمواهب، فكان بحراً يتموج، وسهماً ينفذ على السواء لا يتعوج.
وأما المذاهب الأربعة فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السَّلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مجنُّه، قل أن قطعة خصُمه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظرهُ إلا وهو يشكو من الأين والنَّصب.
وأما التفسير فيدُه فيه طولى، وسردُه فيه يجعل العيون إليه حُولاً. إلا أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهورُ معيبة. كاد منها يقع في هُوَّة، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجوة، والله يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عند وما دمر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدبا، ولا درج منها إلا إلى البقعة الحدبا، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير.
وكان ذا قلم يسابقُ البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرَّاسين والثلاثة في قعدة، وجدُّ ذهنه ما كل ولا انثلم، قد تحلى بالمُحلى، وتولّى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثَّلب.

وضيع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عائد الدين أو ناقضه؛ ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم.
وكان من صغره حريصاً على الطلب، مجدّاً على التحصيل والدأب، لا يؤثرُ على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظةٌ منه في البطالة فذّة، يذهلُ عن نفسه ويغيب في لذّة العلم عن حسه، لا يطلب أكلاً إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديه.
قيل: إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وتركه لاتباعهم وما انفرده من تكلُّفه، فقال: أنتم ما نزيد لكم شيئاً ولا تجدد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب " جنة الناظر وجنّة المناظر "، وهو مجلد صغير، وأمره شهير.
لا جرم أنه كان في أرض العلوم حارثاً وهو همام، وعلومُه كما يقول الناس تدخل معه الحّمام. هذا إلى كرم يضحك البرقُ منه على غمائمه، وجودٍ ما يصلحُ حاتمٌ أن يكون في فضِّ خاتمه، وشجاعة يفرّ منها قشورة، وإقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلمه كلاماً غيظاً بقوه، وأسمعه مقالاً لا تحملّه الأبوةُ من البنوّة.
وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مائة، قد قام عليه جماعة من الشافعية، وأنكروا عليه كلاماً في الصفات، وأخذوا فُتياه الحموية، وردوا عليه فيها، وعملوا له مجلساً، فدافع الأفرم عنه ولم يُبلّغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشدّ، وكان قد مُنع من الكلام، ثم إنه جلس على عادته يوم الجمعة، وتكلم ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم، ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئاً عزّرناه.
ثم إنه كُلب إلى مصر، هو والقاضي نجم الدين صَصرَى، وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة، فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلساً انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثم نقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبع مائة، ولم يمكن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرج عنه وأقام بالقاهرة مُدة. ثم اعتقل أيضاً، ثم أُفرج عنه في ثامن شوال سنة تسع وسبع مائة، أخرجه الناصر لمّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق، فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكز، وقرأ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلق بالشيخ تقي الدين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعُوتب على فُتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على توكيد المنع. ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مائة عُقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق وحاققوه عليها، وعاتبوه لأجلها. ثم إنه حُبس بقلعة دمشق، فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبع مائة، فأخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجه إلى منزله. وكانت مدة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً.
ولما كان في يوم الاثنين بعد العصر، سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسومُ السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوساً.
ومولده بحرّان سنة إحدى وستين وست مائة.
وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثماني عشرة، وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلةً في التفسير في الإعراب، ومسألة مشكلة في الممكن والواجب، وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرّات، وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البرّ والبحر، ونوعاً فرداً وشكلاً غريباً وكان كثيراً ما ينشد قول ابن صردر.

تموتُ النفوسُ بأوصابها ... ولم تشكُ عُوّادها ما بها
وما أنصفت مُهجةٌ تشتكي ... أذاها إلى غير أحبابها
وينشد أيضاً:
من لم يُقد ويُدسٌ في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميساً
رأيته في المنام بعد موته رحمه الله تعالى كأنه في جامع بني أمية، وأنا في يدي صورةُ عقيدة ابن حزم الظاهري التي ذكرها في أول كتاب المُحلَّى، وقد كتبها بخطي، وكتبت في آخرها:
وهذا نصُّ ديني واعتقادي ... وغيري ما يرى هذا يجوزُ
وقد أوقفته على ذلك، فتأملها ورآها وما تكلم بشيء.
ذكر شيء من تصانيفه

كتب التفسير
قاعدة في الاستعاذة، قاعدة في البسملة، قاعدة في قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين "، قطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " نحو ثلاثة كراريس، وفي قوله تعالى: " مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " نحو كراسين، وفي قوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " سبع كراريس، وفي قوله تعالى: " إلا من سفه نفسه " كراس، آية الكرسي كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. "

منه آيات محكمات " إلى آخرها نحو مجلد، " شهد الله أنه لا إله إلا هو " ستة كراريس، " ما أصابك من حَسَنة " عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران.
تفسير المائدة مجلد كبير، " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " ثلاث كراريس، " وإذا أخذ ربُّك من بني آدم " سبع كراريس، قواعد سورة يوسف، مجلد كبير، سورة النور، مجلد لطيف، سورة تبت والمعوذتين، سورة الكافرين، سورة الإخلاص، مجلد، سورة القلم، وأنها أول سورة أنزلت، تضمنت أصول الدين مجلد، سورة " لم يكن " وغير ذلك من آيات مُفّرقة.

كتب الأصول
" الاعتراضات المصرية على الفُتيا الحموية " أربع مجلدات، أملاه في الجب، " بياتُ تَلبيس الجَهميّة في تأسيس بدَعن الكلامية "، وربما سمّاه " تلخيص التلبيس من تأسيس التقديس "، " شرح أول المحصّل " للرازي، بلغ ثلاث مجلدات، شرح بضعةِ عشر مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين الرازي، " تعارض العقل والنقل " أربع مجلدات، " جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي " مجلد، " الجواب الصحيح لِمّن بدّل دين المسيح "، ثلاث مجلدات، " منهاج الاستقامة " " شرح عقيدة الأصبهاني " مجلد، " نقض الاعتراض " عليها لبعض المشارقة أربع كراريس، " شرح أول كتاب الغَزْنَوي "، مجلد، " الرد على المنطق " مجلد، ردّ آخر لطيف، " الرد على الفلاسفة " مجلدات، " قاعدة في القضايا الوهمية "، " قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى "، "

جواب الرسالة الصفدية "، " جواب في نقص قول الفلاسفة: إن معجزات الأنبياء قوى نفساني "، " إثبات المعاد والرد على ابن سينا "، " شرح رسالة ابن عبدوس " في كلام الإمام أحمد في الأصول، " ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً "، و" المعجزات والكرامات "، " قاعدة في الكليات "، مجلد لطيف، " الرسالة القبرسية "، " رسالة أهل طبرستان وجَيْلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم "، " مسألة ما بين اللوحين كلامُ الله "، " تحقيق كلام الله لموسى "، " هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ "، " الرسالة البعلبكية "، " الرسالة الأزهرية "، " القادرية "، " البغدادية "، " أجوبة الشكل والنقط "، " إبطال الكلام النفساني ": أبطله من نحو ثمانين وجهاً، " جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث " أن القرآن حرف وصوت. وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات، " المراكشيّة "، " صفات الكمال والضابط فيها "، " أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه "، " جواب في الاستواء، وإبطال تأويله بالاستيلاء "، " جوابُ من قال لا يمكن الجمعُ بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه "، " أجوبة كونِ العرش والسموات كُرَويّة " وسبب قصد القلوب جهةَ العلو، " جواب كون الشيء في جهة العلوّ مع أنه ليس بجوهر ولا عرض معقول أو مستحيل "، " جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب "، شمَّاه " الأربلية "، " مسألة النزول " واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع، مجلد لطيف، " شرح حديث النزول " في أكثر من مجلد، " بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث "، " قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه "، مجلد، " الكلام على نقض المرشدة "، " المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحاد والحلولية "، ما تضمنه فصوص الحكم من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول، " جواب في لقاء الله "، " جواب رؤية النساء رَبّهُنّ في الجنة "، " الرسالة المدنية في الصفات النقلية "، " الهلاوونية " جواب ورد على لسان ملك التتار، مجلد، " قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية "، مجلد " رد على الروافض في الإمامة " لابن مُطهّر، " جواب في حُسن إدارة الله بخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلّة أم لغير علّة "، " شرح حديث: فخجَّ أدم موسى "، " تنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل "، " تناهي الشدائد في اختلاف العقائد "، " كتاب الإيمان "، " شرح حديث جبريل في الإسلام، والإيمان في عصمة الأنبياء فيما يبلغون "، " مسألة في العقل والروح "، " في المقرّبين: هل يسألهم منكر ونكير "، " هل تعذيب الروح مع الجسد في القبر، وهل تفارق البدن بالموت أو لا "، " الرد على أهل كسروان "، " في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما "، " قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أن لا يُسب "، " في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس " " في كفر النُّصَيريّة " " في جواز الرافضة "، " في بقاء الجنة والنار وفنائهما "، وهو آخر ما صنّفه في القلعة. وقد رد عليه العلاّمة قاضي القضاة تقي الدين السبكي.

كتب أصول الفقه
" قاعدة غالبُها أقوال الفقهاء "، مجلدان، " قاعدة كل حمد وذم من المقالات لا يكون إلا من الكتاب والسنة " " شمول النصوص للأحكام "، " قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام "، " جواب في الإجماع وخبر التواتر "، " قاعدة في أن خبر الواحد اليقين "، " قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجْمَاع "، " في الرد على من قال إن الأدلة اللَّفظيّة لا تفيد اليقين "، " قاعدة فيما يُظنُ مِن تعارض النص والإجماع "، " مؤاخذة لابن حزم في الأجماع "، " قاعدة في تقرير القياس "، " قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام "، " رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، " قاعدة في الاستحسان "، " وصف العموم والإطلاق "، " قواعد في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم "، " هل العاميّ يجب عليه تقليد مذهب مُعَيّن "، " جواب في ترك التقليد فيمن يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة "، " جواب من تَفَقَّه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً، هل يعمل به أو لا "، " جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر "، " الفتح على الإمام في الصلاة " " تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة "، " تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم "، " قاعدة في تفضيل الإمام أحمد "، " جواب: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الرسالة نبياً "، " جواب: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متعبداً بشرع من قبله "، " قواعد أن النهي يقتضي الفساد ".

كتاب الفقه
" شرح المحرر في مذهب أحمد " ولم يُبيّض، " شرح العمدة لموفق "، أربع مجلدات، " جواب مسائل وردت من أصبهان "، " جواب مسائل وردت من الأندلس "، " جواب مسائل وردت من الصلت "، " جواب مسائل وردت من بغداد "، " مسائل وردت من زُرع "، " أربعون مسألة لُقّبت الدرّة المضيئة، " الماردانية " " الطرابلسية "، " قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها "، " المائعات وملاقاتها النجاسة "، " طهارة بول ما يؤكل لحمه "، " قاعدة في حديث القُلّتين وعدم رفعه "، " قواعد في الاستجمار، وتطهير الأرض بالشمس والريح "، " جواز الاستجمار مع وجود الماء "، " نواقض الوضوء "، " قواعد في عدم نقض الوضوء بلمس النساء "، " التسمية على الوضوء "، " خطأ القول بجواز مسح الرجلين "، " جواز المسح الخفين المتخرّقين والجوربين واللفائف "، " فيمن لا يعطي أجرة الحَمّام "، " تحريم دخول الحمّام بلا مُبرر "، " في الحمّام والاغتسال "، " ذم الوسواس "، " جواز طواف الحائض "، " تيسير العبادات لأرباب الضروريات بالتيمم، والجمع بين الصلاتين للعُذر "، " كراهية التلفّظ بالنّيّة وتحريم الجَهْر بها "، " في البسملة هل هي من السورة "، " فيما يعرض من الوسواس في الصلاة "، " الكلم الطيب في الأذكار " " كراهية بسط سجادة المصلي قبل مجيئه "، " في الركعتين اللتين تُصلّيان قبل الجمعة "، " في الصلاة بعد أذان الجمعة "، " القنوت في الصبح والوتر " " قتل تارك أحد المباني وكُفره "، " الجمع بين الصلاتين في السفر "، " فيما يختلف حكمه في السفر والحضر "، " أهل البِدَع هل يُصلّى خلفهم "، " صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض "، " الثلوات المبتدعة "، " تحريم السماع " " تحريم الشبابة "، " تحريم الشطرنج "، " تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها "، " النّهيُ عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء "، " مقدار الكَفّارة في اليمين "، " في أنّ المطلقة ثلاثاً، لا تحل إلا بنكاح زوج ثان "، " بيان الطلاق المُباح والحرام "، " في الحلف بالطلاق متى تجيزه ثلاثاً "، " جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة "، " الفرق المبين بين الطلاق واليمين "، " لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف "، " الطلاق البِدَعي لا يقع "، " مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع نحو ذلك "، تقدير خمسة عشر مجلداً، " مناسك الحج عِدة "، " في حجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، " في العمرة المكية "، " في شهر السلاح بتبوك وشرب السَّويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحرم، وزيارة الخليل عُقيب الحج، وزيارة القدس مطلقاً "، " جبل لبنان كأمثاله من الجبال، ليس فيه رجال غُيّب ولا أبدال "، " جميع أيمان المسلمين مُكفّرة ".

كتب في أنواع شتى
جمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مُدَّة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة، " الكلام على بُطلان الفتّوة المُصطلح عليها بين العوام "، وليس لها أصل يتصل بعلي عليه السلام. " كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية "، " بطلان ما يقوله أهلُ بيت الشيخ عديّ "، " النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة والخسوف والكسوف "، " هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلّة "، " تحريم أقسام المُعزّمين بالعزائم المُعجَمة وصرع الصحيح وصفة الخواتم ". " إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت "، " كشف حال المرازقة "، " قاعدة العُبيديين ".
ومن نظم الشيخ تقي الدين على لسان الفقراء المُجردين وغيرهم:
والله ما فَقرُنا اختْيارُ ... وإنما فَقْرُنا اضْطْرارُ
جماعةٌ كلُّنا كَسالى ... وأكلُنا كله عيارُ
تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلُّها فُشَارُ
وله قصائد مطوّلة، أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظماً، مثل مسألة اليهودي، وجوابه عن اللغز الذي نظمه الشيخ رشيد الدين الفارقي، وغير ذلك.
ومدحه جماعة من أهل مصر، منهم شهاب الدين أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن الأبرادي، والشيخ شمس الدين بن الصائغ، وسعد الدين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحرّاني، وأكثر من ذلك، ومنه قوله:
لئن نافَقَوه وه في السّجنِ وابتغَوا ... رِضاه وأبدوا رِقّةً وتودُّدا
فلا غَرْوَ إنْ ذلَ الخُصومُ لِنَأسِه ... ولا عَجَبٌ أن خاف سطوتَه العِدا
فمن شِيَمةِ العَضبِ المُهنَّدِ أنه ... يُخافُ ويُرجُى مُغمداً ومُجرّدا

وممن مدحه بمصر أيضاً شيخنا العلاّمة أبو حيان، لكنه انحرف عنه فيما بعد ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب؛ منها أنه قال له يوماً: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، وقد كان أولاً جاء إليه والمجلس عنده غاصٌّ بالناس، فقال يمدحه ارتجالاً:
لّما أتينا تقيَّ الدِّين لاحً لنا ... داعٍ إلى الله فَردٌ ماله وِزَرُ
على مُحيّاه من سِيما الأُولى صَحِبوا ... خَيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القمرُ
خَبرٌ تَسربَلَ منه دَهرُه حِبَراً ... تَقاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ
قام ابنُ تَيْميَّةٍ في نَر شِرعَتِنا ... مُقَما سَيِّدِ تيمٍ إذ عَصَتْ مُضَرُ
فأظهرً الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرّ إذ طارت له الشرر
كُنّا نُحدَّث عن خبرٍ يجيءُ فها ... أنت الإمامُ الذي قد كان يُنتظرُ
وكتب الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن الزملكاني رحمه الله تعالى على بعض تصانيفه:
ماذا يقولُ الواصفون له ... وصفاتُه جلّتْ عن الحَصرِ
هو حُجّةٌ اللهِ قاهرِرَةٌ ... هو بيننا أُعجوبةُ العَصرِ
هو آيةٌ في الخَلقِ ظاهِرَةٌ ... أنوارُها أربَت على الفَجرِ
والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدين في حياة الشيخ صدر الدين بن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدين بن تيمية، والله أعلم.
ولما توفي رحمه الله تعالى رثاه جماعة منهم الشيخ قاسم بن عبد الرحمن المقرئ، وبرهان الدين إبراهيم بن الشيخه شهاب الدين العجمي، ومحمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، ومجير الدين الخياط الدمشقي، وشهاب الدين أحمد بن الكرشت، وزين الدين عمر بن الحسام، ومحمد عبد الحق البغدادي الحنبلي، وجمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرومي الحريري. المعروف بالمُنيّم، وتقي الدين محمد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري، وجمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، وغيرهم.
أنشدني إجازة لنفسه الشيخ علاء الدين علي بن غانم:
أيُّ خَبرٍ مضى وأيُّ إمامِ ... فُجعتُ فيه مِلَّةُ الإسلامِ
ابنُ تيميَّةَ التَّقيُّ وحيدُ الد ... هْرِ من كان شامةً في الشَّامِ
بَحرُ علمٍ قد غاضَ من بعدما ف ... ضَ نداهُ وعم بالنعامِ

زاهدٌ عابدٌ تنّزه في دُن ... ياه عن كل ما بها من حُطامِ
كان كَنزاً لكلِّ كالبِ علمِ ... ولِمَنُ خافَ أن يُرى في حَرَامِ
ولعافٍ قد جاء يشكو من الفق ... ر لديه فنال كُلَّ مَرَامِ
حاز عِلماً فماله من مساوٍ ... فيه من عالمٍ ولا من مُسامٍ
لم يَكُنْ في الدنى له مِن نظيرٍ ... في جميعِ العُلومِ والأحكامِ
كان في علمِه وَحيداً فريداً ... لم ينالوا ما نالَ في الأحْلامِ
كل من في دمشق ناح عليه ... ببُكاءٍ من شدّة الآلامِ
فُجِعَ الناسُ في الشَّرقِ والغَر ... بِ وأضحَوا بالحُزنِ كالأيتامِ
لو يُفيدُ الفِداءُ بالرُّوحِ كُنّا ... قد فديناه من هُجومِ الحِمامِ
أوحدٌ فيه قد أصيبَ البَرايا ... فيُعزى فيه جميعُ الأنامِ
وعزيزٌ عليهم أن يَرَوْه ... غابَ بالرَّغمِ في الثّرى والرُّغامِ
ما يُرى مِثلُ يومهِ عندما سا ... رَ على النَّعشِ نحوَ دار السلامِ
حملوه على الرِّقابِ إلى القَب ... رِ وكادوا أن يَهلكوا بالزّحامِ
فهو الآن جارُ رَبِّ السماوا ... ت الرحيمِ المُهيمنِ العلاّمِ
قدّسَ الله روحَه وسقى قب ... راً حواه بَها طِلاتِ الغَمامِ
فلقد كان نادراً في بني الده ... ر وحُسناً في أوجَهِ الأيّامِ

وأنشدني أيضاً: إجازة لنفسه الشيخ زين الدين عمر بن الوردي:
قلوبُ النّاس قاسيةٌ سِلاطُ ... وليس إلى العَليا نَشاطُ
أتنشطُ قَطُّ بعدَ وفاةِ خبرٍ جَوهَره التقاطُ
تقيُّ الدين ذو وَرَعٍ وعِلمٍ ... خُروقُ المُعضِلات به تُحاطُ
تُوفي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إلى الدّنيا انبساطُ
ولو حَضروه حين قضى لألفَوا ... مَلائِكةَ النَّعيمِ به أحاطوا
قضى نَحباً وليس له قرينٌ ... وليس يلفُّ مُشبِههُ القِماطُ
قتىً في علمه أضحى فريداً ... وحَلُّ المُشكلاتِ به يُناطُ
وكان يخافُ إبليسُ سطاه ... لوَعظِ للقلوبِ هو السِّياطُ
فيا الله ما قد ضم لَحدٌ ... ويا لله ما غطى البَلاطُ
وحَبسُ الدُّرِّ في الأصدافِ فَخرٌ ... وعِندَ الشَّيخِ بالسِّجنِ اغتباطُ
بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ
ولكن يا نَدَامتَنا عليه ... فشكُّ المُلحدين به يُماطَ
إمامٌ لا ولايةٌ قطُّ عانى ... ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ
ولا جارى الورى في كسبِ مالِ ... ولم يَشغلهُ بالناس اختلاطُ
ولولا جارى الورى في كسبِ مالٍ ... لكان به لقدرهم انحطاطُ
لقد خفيت عليّ هنا أمورٌ ... وليس يليقُ لي فيها انخراطُ
وعند الله تجتمعُ البرايا ... جميعاً وانطوى هذا البِساطُ

 

وقلت أنا أيضاً أرثيه:
إنّ ابنَ تيميّةَ لمّا قضى ... ضاق بأهلِ العِلمِ رَحبُ الفضا
فأيُّ بدرِ قد محاه الرَّدى ... وأيُّ بحرٍ في الثرى غُيضا
وأيّ شرِّ فتحت عينهُ ... وأيُّ خيرٍ طرفُه غُمّضا
يا وَخشَةَ السُّنَّةِ من بَعدِه ... فرَبعُها المعمورُ قد قُوِّضا
كم مَجلسٍ كان هشيماً من ال ... علم فلمّا جاءه رُوّضا
وكلُّ حَفلٍ أفقُهُ مُظَّلِمٌ ... تَراه إن وافى إليه أضا
ومُشكِلٌ لمّا دَجى ليلُه ... أعادَه يومَ هُدى أبيضا
تراه إن برهن أقواله ... فقلَّ أن تُدحَرَ أو تُدحَضا
وبحُه في مَددٍ طافحٍ ... وخصمُه في وقتِه انقضا
يودُّ لو أبلعَهُ ريقه ... وهنو بالحقِّ قد أجرضا
أغصَّه حتى غدا مُطرقاً ... مِن ندمٍ كفّيه قد عضّضا
ما كان إلا أسداً حادِراً ... أضحى له غابُ النُّهى مَربَضا
وهو يرى العِلمَ في بُردِه ... وخَصمُه قد ضمّ جَمرَ الغضا
سُبحان من سخَّر قَلبَ الورى ... لقوله طوعاً وقد قيضا
قد أجمعَ النّاسُ على حُبِّه ... ولا اعتبارَ بالذي أبغضا
كان سليمَ الصَّدرِ قد سلّم ال ... أمرَ لباريه وقد فوّضا
كم حثّ للخير وكم ذي كرى ... أيقظ من نومٍ وكم حرّضا
وأمرض الإلحادَ لمّا جلى ال ... حقّ وقلبُ الزِّيغِ قد أرمضا

وغادر الباطلَ في ظُلمَةٍ ... لمّا رأى بارقَةٌ أومضا
وهو عن الدنيا زوى نفسَه ... والله بالجنَّةِ قد عوّضا
فماله في منصبٍ رغبَةٌ ... وعزمُه في ذاك ما استنهضا
كان إذا الدّنيا له عرضت ... بزُخرفِ من نفسها أعرضا
ولو رأى ذلك ما فاته ... مناصبُ من بَعضهنَّ القضا
وبعد هذا حكُمه نافذذٌ ... في كلِّ ما قد شاءه وارتضى
بنفسه جاهدَ جهراً وكم ... سَلَّ حّساماً في الوغى وانتضى
ويوم غازان غدا عندما ... شدّدَ في القولِ ومت خفَّضا
شقَّ سواد المُغلِ زاهي الطُلا ... كالماء لما مَزقَ العَرمَضا
جاذل بل جالد مُستمسِكا ... بالحق حتى إنّه أجهَضا
ولم يكن فيه سوى أنه ... خالف أشياءَ كمن قد مضى
متبعاً فيه الدّليل الذي ... بدا ولله فيه القضا
وبعد ذا راحَ إلى ربه ... ما ادّان مِن لهوٍ ولا استقرضا
ثناؤه ما انقضَّ منه البنا ... وذِكرُه بين الورى ما انقضى
فجادَت الرَّحمةُ أرضاً ثوى ... فيها وسقَّتْها غُيوثُ الرِضى
وعلى الجملة، فكان الشيخ تقي الدين بن تيمية أحد الثلاثة الذين عاصرتهم، ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مئة سنة، وهم الشيخ تقيُّ الدين بن تيمية، والشيخ تقيُّ الدين بنُ دقيق العيد، وشيخنا العلاّمة تقيُّ السبكي. وقلت في ذلك:

ثلاثةٌ ليس لهم رابعُ ... فلا تكنْ من ذاك في شكِّ
وكُّلهم مُنتسبٌ للتُّقى ... يقصًر عنهم وصفٌ من يحكي
فإن تَشَا قلت ابن تيمية ... وابن دقيق العيد والسبكي
أعيان العصر وأعوان النصر- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ).

_____________________________________________________________

 

أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن تَيْمِية الْحَرَّانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس بن شهَاب الدّين ابْن مجد الدّين ولد فِي عَاشر ربيع الأول سنة 661 وتحول بِهِ أَبوهُ من حران سنة 67 فَسمع من ابْن عبد الدَّائِم وَالقَاسِم الأربلي وَالْمُسلم ابْن عَلان وَابْن أبي عمر وَالْفَخْر فِي آخَرين وَقَرَأَ بِنَفسِهِ وَنسخ سنَن أبي دَاوُد وَحصل الْأَجْزَاء وَنظر فِي الرِّجَال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وَتقدم وصنف ودرس وَأفْتى وفَاق الأقران وَصَارَ عجبا فِي سرعَة الاستحضار وَقُوَّة الْجنان والتوسع فِي الْمَنْقُول والمعقول والإطالة على مَذَاهِب السّلف وَالْخلف وَأول مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ من مقالاته فِي شهر ربيع الأول سنة 698 قَامَ عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفُقَهَاء بِسَبَب الْفَتْوَى الحموية وَبَحَثُوا مَعَه وَمنع من الْكَلَام ثمَّ حضر مَعَ القَاضِي إِمَام الدّين الْقزْوِينِي فانتصر لَهُ وَقَالَ هُوَ وَأَخُوهُ جلال الدّين من قَالَ عَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين شَيْئا عزرناه ثمَّ طلب ثَانِي مرّة فِي سنة 705 إِلَى مصر فتعصب عَلَيْهِ بيبرس الجاشنكير وانتصر لَهُ سلار ثمَّ آل أمره أَن حبس فِي خزانَة البنود مُدَّة ثمَّ نقل فِي صفر سنة 709 إِلَى الاسكندرية ثمَّ أفرج عَنهُ وأعيد إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ أُعِيد إِلَى الاسكندرية ثمَّ حضر النَّاصِر من الكرك فَأَطْلقهُ وَوصل إِلَى دمشق فِي آخر سنة 712 وَكَانَ السَّبَب فِي هَذِه المحنة أَن مرسوم السُّلْطَان ورد على النَّائِب بامتحانه فِي معتقده لما وَقع إِلَيْهِ من أُمُور تنكر فِي ذَلِك فعقد لَهُ مجْلِس فِي سَابِع رَجَب وَسُئِلَ عَن عقيدته فأملأ مِنْهَا شَيْئا ثمَّ احتضروا العقيدة الَّتِي تعرف بالواسطية فقرىء مِنْهَا وَبَحَثُوا فِي مَوَاضِع ثمَّ اجْتَمعُوا فِي ثَانِي عشرَة وقرروا الصفي الْهِنْدِيّ يبْحَث مَعَه ثمَّ أخروه وَقدمُوا الْكَمَال الزملكاني ثمَّ انْفَصل الْأَمر على أَنه شهد على نَفسه أَنه شَافِعِيّ المعتقد فأشاع أَتْبَاعه أَنه انتصر فَغَضب خصومه وَرفعُوا وَاحِدًا من أَتبَاع ابْن تَيْمِية إِلَى الْجلَال الْقزْوِينِي نَائِب الحكم بالعادلية فعزره وَكَذَا فعل الْحَنَفِيّ بِاثْنَيْنِ مِنْهُم ثمَّ فِي ثَانِي عشرى رَجَب قَرَأَ الْمزي فصلا من كتاب أَفعَال الْعباد للْبُخَارِيّ فِي الْجَامِع فَسَمعهُ بعض الشَّافِعِيَّة فَغَضب وَقَالُوا نَحن المقصودون بِهَذَا ورفعوه إِلَى القَاضِي الشَّافِعِي فَأمر بحبسه فَبلغ ابْن تَيْمِية فَتوجه إِلَى الْحَبْس فَأخْرجهُ بِيَدِهِ فَبلغ القَاضِي فطلع إِلَى القلعة فوافاه ابْن تَيْمِية فتشاجرا بِحَضْرَة النَّائِب واشتط ابْن تَيْمِية على القَاضِي لكَون نَائِبه جلال الدّين آذَى أَصْحَابه فِي غيبَة النَّائِب فَأمر النَّائِب من يُنَادي أَن من تكلم فِي العقائد فعل كَذَا بِهِ وَقصد بذلك تسكين الْفِتْنَة ثمَّ عقد لَهُم مجْلِس فِي سلخ رَجَب وَجرى فِيهِ بَين ابْن الزملكاني وَابْن الْوَكِيل مباحثة فَقَالَ ابْن الزملكاني لِابْنِ الْوَكِيل مَا جرى على الشَّافِعِيَّة قَلِيل حَتَّى تكون أَنْت رئيسهم فَظن القَاضِي نجم الدّين بن صصرى أَنه عناه فعزل نَفسه وَقَامَ فأعانه الْأُمَرَاء وولاه النَّائِب وَحكم الْحَنَفِيّ بِصِحَّة الْولَايَة ونفذها الْمَالِكِي فَرجع إِلَى منزله وَعلم أَن الْولَايَة لم تصح فصمم على الْعَزْل فرسم النَّائِب لنوابه بِالْمُبَاشرَةِ إِلَى أَن يرد أَمر السُّلْطَان ثمَّ وصل بريدي فِي أَوَاخِر شعْبَان بعوده ثمَّ وصل بريدي فِي خَامِس رَمَضَان بِطَلَب القَاضِي وَالشَّيْخ وَأَن يرسلوا بِصُورَة مَا جرى للشَّيْخ فِي سنة 698 ثمَّ وصل مَمْلُوك النَّائِب وَأخْبر أَن الجاشنكير وَالْقَاضِي الْمَالِكِي قد قاما فِي الْإِنْكَار على الشَّيْخ وَأَن الْأَمر اشْتَدَّ بِمصْر على الْحَنَابِلَة حَتَّى صفع بَعضهم ثمَّ توجه القَاضِي وَالشَّيْخ إِلَى الْقَاهِرَة ومعهما جمَاعَة فوصلا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان وَعقد مجْلِس فِي ثَالِث عشر مِنْهُ بعد صَلَاة الْجُمُعَة فَادّعى على ابْن تَيْمِية عِنْد الْمَالِكِي فَقَالَ هَذَا عدوي وَلم يجب عَن الدَّعْوَى فكرر عَلَيْهِ فأصر فَحكم الْمَالِكِي بحبسه فأقيم من الْمجْلس وَحبس فِي برج ثمَّ بلغ الْمَالِكِي أَن النَّاس يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ يجب التَّضْيِيق عَلَيْهِ أَن لم يقتل وَإِلَّا فقد ثَبت كفره فنقلوه لَيْلَة عيد الْفطر إِلَى الْجب وَعَاد القَاضِي الشَّافِعِي إِلَى ولَايَته وَنُودِيَ بِدِمَشْق من اعْتقد عقيدة ابْن تَيْمِية حل دَمه وَمَاله خُصُوصا الْحَنَابِلَة فَنُوديَ بذلك وقرىء المرسوم وَقرأَهَا ابْن الشهَاب مَحْمُود فِي الْجَامِع ثمَّ جمعُوا الْحَنَابِلَة من الصالحية وَغَيرهَا واشهدوا على أنفسهم أَنهم على مُعْتَقد الإِمَام الشَّافِعِي وَذكر ولد الشَّيْخ جمال الدّين ابْن الظَّاهِرِيّ فِي كتاب كتبه لبَعض معارفه بِدِمَشْق أَن جَمِيع من بِمصْر من الْقُضَاة والشيوخ والفقراء وَالْعُلَمَاء والعوام يحطون على ابْن تَيْمِية إِلَّا الْحَنَفِيّ فَإِنَّهُ يتعصب لَهُ وَإِلَّا الشَّافِعِي فَإِنَّهُ سَاكِت عَنهُ وَكَانَ من أعظم القائمين عَلَيْهِ الشَّيْخ نصر المنبجي لِأَنَّهُ كَانَ بلغ ابْن تَيْمِية أَنه يتعصب لِابْنِ الْعَرَبِيّ فَكتب إِلَيْهِ كتابا يعاتبه على ذَلِك فَمَا أعجبه لكَونه بَالغ فِي الْحَط على ابْن الْعَرَبِيّ وتكفيره فَصَارَ هُوَ يحط على ابْن تَيْمِية ويغري بِهِ بيبرس الجاشنكير وَكَانَ بيبرس يفرط فِي محبَّة نصر ويعظمه وَقَامَ القَاضِي زين الدّين ابْن مخلوف قَاضِي الْمَالِكِيَّة مَعَ الشَّيْخ نصر وَبَالغ فِي أذية الْحَنَابِلَة وَاتفقَ أَن قَاضِي الْحَنَابِلَة شرف الدّين الْحَرَّانِي كَانَ قَلِيل البضاعة فِي الْعلم فبادر إِلَى إجابتهم فِي المعتقد واستكتبوه خطه بذلك وَاتفقَ أَن قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَهُوَ شمس الدّين ابْن الحريري انتصر لِابْنِ تَيْمِية وَكتب فِي حَقه محضراً بالثناء عَلَيْهِ بِالْعلمِ والفهم وَكتب فِيهِ بِخَطِّهِ ثَلَاثَة عشر سطراً من جُمْلَتهَا أَنه مُنْذُ ثَلَاثمِائَة سنة مَا رأى النَّاس مثله فَبلغ ذَلِك ابْن مخلوف فسعى فِي عزل ابْن الحريري فعزل وَقرر عوضه شمس الدّين الْأَذْرَعِيّ ثمَّ لم يلبث الْأَذْرَعِيّ أَن عزل فِي السّنة الْمُقبلَة وتعصب سلار لِابْنِ تَيْمِية وأحضر الْقُضَاة الثَّلَاثَة الشَّافِعِي والمالكي والحنفي وَتكلم مَعَهم فِي إِخْرَاجه فاتفقوا على أَنهم يشترطون فِيهِ شُرُوطًا وَأَن يرجع عَن بعض العقيدة فأرسلوا إِلَيْهِ مَرَّات فَامْتنعَ من الْحُضُور إِلَيْهِم وَاسْتمرّ وَلم يزل ابْن تَيْمِية فِي الْجب إِلَى أَن شفع فِيهِ مهنا أَمِير آل فضل فَأخْرج فِي ربيع الأول فِي الثَّالِث وَعشْرين مِنْهُ وأحضر إِلَى القلعة وَوَقع الْبَحْث مَعَ بعض الْفُقَهَاء فَكتب عَلَيْهِ محْضر بِأَنَّهُ قَالَ أَنا أشعري ثمَّ وجد خطه بِمَا نَصه الَّذِي اعْتقد أَن الْقُرْآن معنى قَائِم بِذَات الله وَهُوَ صفة من صِفَات ذَاته الْقَدِيمَة وَهُوَ غير مَخْلُوق وَلَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَأَن قَوْله {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} لَيْسَ على ظَاهره وَلَا أعلم كنه المُرَاد بِهِ بل لَا يُعلمهُ إِلَّا الله وَالْقَوْل فِي النُّزُول كالقول فِي الاسْتوَاء وَكتبه أَحْمد بن تَيْمِية ثمَّ أشهدوا عَلَيْهِ أَنه تَابَ مِمَّا يُنَافِي ذَلِك مُخْتَارًا وَذَلِكَ فِي خَامِس عشرى ربيع الأول سنة 707 وَشهد عَلَيْهِ بذلك جمع جم من الْعلمَاء وَغَيرهم وَسكن الْحَال وَأَفْرج عَنهُ وَسكن الْقَاهِرَة ثمَّ اجْتمع جمع من الصُّوفِيَّة عِنْد تَاج الدّين إِبْنِ عَطاء فطلعوا فِي الْعشْر الْأَوْسَط من شَوَّال إِلَى القلعة وَشَكوا من ابْن تَيْمِية أَنه يتَكَلَّم فِي حق مَشَايِخ الطَّرِيق وَأَنه قَالَ لَا يستغاث بِالنَّبِيِّ صلّى الله عَلَيْهِ وسلّم فَاقْتضى الْحَال أَن أَمر بتسييره إِلَى الشَّام فَتوجه على خيل الْبَرِيد ... وكل ذَلِك وَالْقَاضِي زين الدّين ابْن مخلوف مشتغل بِنَفسِهِ بِالْمرضِ وَقد أشرف على الْمَوْت وبلغه سفر ابْن تَيْمِية فراسل النَّائِب فَرده من بلبيس وَادّعى عَلَيْهِ عِنْد ابْن جمَاعَة وَشهد عَلَيْهِ شرف الدّين ابْن الصَّابُونِي وَقيل أَن عَلَاء الدّين القونوي أَيْضا شهد عَلَيْهِ فاعتقل بسجن بحارة الديلم فِي ثامن عشر شَوَّال إِلَى سلخ صفر سنة 709 فَنقل عَنهُ أَن جمَاعَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَأَنه يتَكَلَّم عَلَيْهِم فِي نَحْو مَا تقدم فَأمر بنقله إِلَى الاسكندرية فَنقل إِلَيْهَا فِي سلخ صفر وَكَانَ سَفَره صُحْبَة أَمِير مقدم وَلم يُمكن أحدا من جِهَته من السّفر مَعَه وَحبس ببرج شَرْقي ثمَّ توجه إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه فَلم يمنعوا مِنْهُ فتوجهت طَائِفَة مِنْهُم بعد طَائِفَة وَكَانَ مَوْضِعه فسيحاً فَصَارَ النَّاس يدْخلُونَ إِلَيْهِ ويقرؤون عَلَيْهِ ويبحثون مَعَه قَرَأت ذَلِك فِي تَارِيخ البرزالي فَلم يزل إِلَى أَن عَاد النَّاصِر إِلَى السلطنة فشفع فِيهِ عِنْده فَأمر بإحضاره فَاجْتمع بِهِ فِي ثامن عشر شَوَّال سنة 9 فَأكْرمه وَجمع الْقُضَاة وَأصْلح بَينه وَبَين القَاضِي الْمَالِكِي فَاشْترط الْمَالِكِي أَن لَا يعود فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان قد تَابَ وَسكن الْقَاهِرَة وَتردد النَّاس إِلَيْهِ إِلَى أَن توجه صُحْبَة النَّاصِر إِلَى الشَّام بنية الْغُزَاة فِي سنة 712 وَذَلِكَ فِي شَوَّال فوصل دمشق فِي مستهل ذِي الْقعدَة فَكَانَت مُدَّة غيبته عَنْهَا أَكثر من سبع سِنِين وتلقاه جمع عَظِيم فَرحا بمقدمه وَكَانَت والدته إِذْ ذَاك فِي قيد الْحَيَاة ثمَّ قَامُوا عَلَيْهِ فِي شهر رَمَضَان سنة 719 بِسَبَب مَسْأَلَة الطَّلَاق وأكد عَلَيْهِ الْمَنْع من الْفتيا ثمَّ عقد لَهُ مجْلِس آخر فِي رَجَب سنة عشْرين ثمَّ حبس بالقلعة ثمَّ أخرج فِي عَاشُورَاء سنة 721 ثمَّ قَامُوا عَلَيْهِ مرّة أُخْرَى فِي شعْبَان سنة 726 بِسَبَب مَسْأَلَة الزِّيَارَة واعتقل بالقلعة فَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ فِي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة 728 قَالَ الصّلاح الصَّفَدِي كَانَ كثيرا مَا ينشد
(تَمُوت النُّفُوس بأوصابها ... وَلم تدر عوادها مَا بهَا)
(وَمَا أنصفت مهجة تَشْتَكِي ... اذاها إِلَى غير أحبابها)
وَكَانَ ينشد كثيرا
(من لم يقد ويدس فِي خيشومه ... رهج الْخَمِيس فَلَنْ يَقُود خميسا)
وَأنْشد لَهُ على لِسَان الْفُقَرَاء

(وَالله مَا فقرنا اخْتِيَار ... وَإِنَّمَا فقرنا اضطرار)
(جمَاعَة كلنا كسَالَى ... وأكلنا مَا لَهُ عيار)
(يسمع منا إِذا اجْتَمَعنَا ... حَقِيقَة كلهَا فشار)
وسرد أَسمَاء تصانيفه فِي ثَلَاثَة أوراق كبار وَأورد فِيهِ من أمداح أهل عصره كَابْن الزملكاني قبل أَن ينحرف عَلَيْهِ وكأبي حَيَّان كَذَلِك وَغَيرهمَا قَالَ ورثاه مَحْمُود بن عَليّ الدقوقي ومجير الدّين ابْن الْخياط وصفي الدّين عبد الْمُؤمن الْبَغْدَادِيّ وجمال الدّين ابْن الْأَثِير وتقي الدّين مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان الجعبري وعلاء الدّين بن غَانِم وشهاب الدّين ابْن فضل الله وزين الدّين ابْن الوردي وَجمع جم وَأورد لنَفسِهِ فِيهِ مرثية على قافية الضَّاد الْمُعْجَمَة قَالَ الذَّهَبِيّ مَا ملخصه كَانَ يقْضِي مِنْهُ الْعجب إِذا ذكر مَسْأَلَة من مسَائِل الْخلاف وَاسْتدلَّ وَرجع وَكَانَ يحِق لَهُ الِاجْتِهَاد لِاجْتِمَاع شُرُوطه فِيهِ قَالَ وَمَا رَأَيْت أسْرع انتزاعاً للآيات الدَّالَّة على الْمَسْأَلَة الَّتِي يوردها مِنْهُ وَلَا أَشد استحضاراً للمتون وعزوها مِنْهُ كَانَ السّنة نصب عَيْنَيْهِ وعَلى طرف لِسَانه بِعِبَارَة رشيقة وَعين مَفْتُوحَة وَكَانَ آيَة من آيَات الله فِي التَّفْسِير والتوسع فِيهِ وَأما أصُول الدّيانَة وَمَعْرِفَة أَقْوَال الْمُخَالفين فَكَانَ لَا يشق غباره فِيهِ هَذَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والفراغ عَن ملاذ النَّفس وَلَعَلَّ فَتَاوِيهِ فِي الْفُنُون تبلغ ثَلَاثمِائَة مُجَلد بل أَكثر وَكَانَ قوالاً بِالْحَقِّ لَا يَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم قَالَ وَمن خالطه وعرفه فقد ينسبني إِلَى التَّقْصِير فِيهِ وَمن نابذه وَخَالفهُ قد ينسبني إِلَى التغالي فِيهِ وَقد أوذيت من الْفَرِيقَيْنِ من أَصْحَابه وأضداده وَكَانَ أَبيض اسود الرَّأْس واللحية قَلِيل الشيب شعره إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ وَكَأن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان ربعَة من الرِّجَال بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ جَهورِي الصَّوْت فصيحاً سريع الْقِرَاءَة تعتريه حِدة لَكِن يقهرها بالحلم قَالَ وَلم أر مثله فِي ابتهاله واستغاثته وَكَثْرَة توجهه وَأَنا لَا أعتقد فِيهِ عصمَة بل أَنا مُخَالف لَهُ فِي مسَائِل أَصْلِيَّة وفرعية فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدّين بشرا من الْبشر تعتريه حِدة فِي الْبَحْث وَغَضب وشظف للخصم تزرع لَهُ عَدَاوَة فِي النُّفُوس وَإِلَّا لَو لاطف خصومه لَكَانَ كلمة إِجْمَاع فَإِن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشنوفه مقرون بندور خطائه وَأَنه بَحر لَا سَاحل لَهُ وكنز لَا نَظِير لَهُ وَلَكِن ينقمون عَلَيْهِ إخلافاً وأفعالاً وكل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك قَالَ وَكَانَ محافظاً على الصَّلَاة وَالصَّوْم مُعظما للشرائع ظَاهرا وَبَاطنا لَا يُؤْتى من سوء فهم فَإِن لَهُ الذكاء المفرط وَلَا من قلَّة علم فَإِنَّهُ بَحر زخار وَلَا كَانَ متلاعباً بِالدّينِ وَلَا ينْفَرد بمسائله بالتشهي وَلَا يُطلق لِسَانه بِمَا اتّفق بل يحْتَج بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث وَالْقِيَاس ويبرهن ويناظر أُسْوَة من تقدمه من الْأَئِمَّة فَلهُ أجر على خطائه وأجران على إِصَابَته إِلَى أَن قَالَ تمرض أَيَّامًا بالقلعة بِمَرَض جد إِلَى أَن مَاتَ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ الْعشْرين من ذِي الْقعدَة وَصلي عَلَيْهِ بِجَامِع دمشق وَصَارَ يضْرب بِكَثْرَة من حضر جنَازَته الْمثل وَأَقل مَا قيل فِي عَددهمْ أَنهم خَمْسُونَ ألفا قَالَ الشهَاب ابْن فضل الله لما قدم ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إِلَى الْقَاهِرَة فِي سنة سَبْعمِائة نزل عِنْد عمي شرف الدّين وحض أهل المملكة على الْجِهَاد فَأَغْلَظ القَوْل للسُّلْطَان والأمراء ورتبوا لَهُ فِي مقرّ إِقَامَته فِي كل يَوْم دِينَارا ومخفقة طَعَام فَلم يقبل شَيْئا من ذَلِك وَأرْسل لَهُ السُّلْطَان بقجة قماش فَردهَا قَالَ ثمَّ حضر عِنْده شَيخنَا أَبُو حَيَّان فَقَالَ مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مثل هَذَا الرجل ثمَّ مدحه بِأَبْيَات ذكر أَنه نظمها بديهاً وأنشده إِيَّاهَا
(لما أَتَانَا تَقِيّ الدّين لَاحَ لنا ... دَاع إِلَى الله فَرد مَا لَهُ وزر)
(على محياه من سِيمَا الأولى صحبوا ... خير الْبَريَّة نور دونه الْقَمَر)
(حبر تسربل مِنْهُ دهره حبرًا ... بَحر تقاذف من أمواجه الدُّرَر)
(قَامَ ابْن تَيْمِية فِي نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر)

(وَأظْهر الْحق إِذْ آثاره اندرست ... وأخمد الشَّرّ إِذْ طارت لَهُ شرر)
(كُنَّا نُحدث عَن حبر يَجِيء بهَا ... أَنْت الإِمَام الَّذِي قد كَانَ ينْتَظر)
قَالَ ثمَّ دَار بَينهمَا كَلَام فَجرى ذكر سِيبَوَيْهٍ فَأَغْلَظ ابْن تَيْمِية القَوْل فِي سيبوية فنافره ابو حَيَّان وقطعه بِسَبَبِهِ ثمَّ عَاد ذاما لَهُ وصير ذَلِك ذَنبا لَا يغْفر قَالَ وَحج ابْن الْمُحب سنة 34 فَسمع من أبي حَيَّان أناشيد فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِه الأبيات فَقَالَ قد كشطتها من ديواني وَلَا أذكرهُ بِخَير فَسَأَلَهُ عَن السَّبَب فِي ذَلِك فَقَالَ ناظرته فِي شَيْء من الْعَرَبيَّة فَذكرت لَهُ كَلَام سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ يفشر سِيبَوَيْهٍ قَالَ أَبُو حَيَّان وَهَذَا لَا يسْتَحق الْخطاب وَيُقَال إِن ابْن تَيْمِية قَالَ لَهُ مَا كَانَ سِيبَوَيْهٍ نَبِي النَّحْو وَلَا كَانَ مَعْصُوما بل أَخطَأ فِي الْكتاب فِي ثَمَانِينَ موضعا مَا تفهمها أَنْت فَكَانَ ذَلِك سَبَب مقاطعته إِيَّاه وَذكره فِي تَفْسِيره الْبَحْر بِكُل سوء وَكَذَلِكَ فِي مُخْتَصره النَّهر ورثاه شهَاب الدّين ابْن فضل الله بقصيدة رائية مليحة وَترْجم لَهُ تَرْجَمَة هائلة تنقل من المسالك إِن شَاءَ الله ورثاه زين الدّين ابْن الوردي بقصيدة لَطِيفَة طائية وَقَالَ جمال الدّين السومري فِي أَمَالِيهِ وَمن عجائب مَا وَقع فِي الْحِفْظ من أهل زَمَاننَا أَن ابْن تَيْمِية كَانَ يمر بِالْكتاب مطالعة مرّة فينتقش فِي ذهنه وينقله فِي مصنفاته بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَقَالَ الأقشهري فِي رحلته فِي حق ابْن تَيْمِية بارع فِي الْفِقْه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخر وَمَا من فن إِلَّا لَهُ فِيهِ يَد طولى وقلمه وَلسَانه متقاربان قَالَ الطوفي سمعته يَقُول من سَأَلَني مستفيداً حققت لَهُ وَمن سَأَلَني مُتَعَنتًا ناقضته فَلَا يلبث أَن يَنْقَطِع فأكفي مُؤْنَته وَذكر تصانيفه وَقَالَ فِي كِتَابه أبطال الْحِيَل عَظِيم النَّفْع وَكَانَ يتَكَلَّم على الْمِنْبَر على طَريقَة الْمُفَسّرين مَعَ الْفِقْه والْحَدِيث فيورد فِي سَاعَة من الْكتاب وَالسّنة واللغة وَالنَّظَر مَا لَا يقدر أحد على أَن يُورِدهُ فِي عدَّة مجَالِس كَأَن هَذِه الْعُلُوم بَين عَيْنَيْهِ فَأخذ مِنْهَا مَا يَشَاء ويذر وَمن ثمَّ نسب أَصْحَابه إِلَى الغلو فِيهِ وَاقْتضى لَهُ ذَلِك الْعجب بِنَفسِهِ حَتَّى زها على أَبنَاء جنسه واستشعر أَنه مُجْتَهد فَصَارَ يرد على صَغِير الْعلمَاء وَكَبِيرهمْ قويهم وحديثهم حَتَّى انْتهى إِلَى عمر فخطأه فِي شَيْء فَبلغ الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الرقي فَأنْكر عَلَيْهِ فَذهب إِلَيْهِ وَاعْتذر واستغفر وَقَالَ فِي حق عَليّ أَخطَأ فِي سَبْعَة عشر شَيْئا ثمَّ خَالف فِيهَا نَص الْكتاب مِنْهَا اعْتِدَاد المتوفي عَنْهَا زَوجهَا أطول الْأَجَليْنِ وَكَانَ لتعصبه لمَذْهَب الْحَنَابِلَة يَقع فِي الأشاعرة حَتَّى أَنه سبّ الْغَزالِيّ فَقَامَ عَلَيْهِ قوم كَادُوا يقتلونه وَلما قدم غازان بجيوش التتر إِلَى الشَّام خرج إِلَيْهِ وَكَلمه بِكَلَام قوي فهم بقتْله ثمَّ نجا واشتهر أمره من يَوْمئِذٍ وَاتفقَ الشَّيْخ نصر المنبجي كَانَ قد تقدم فِي الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فِيهِ فَبَلغهُ أَن ابْن تَيْمِية يَقع فِي ابْن الْعَرَبِيّ لِأَنَّهُ كَانَ يعْتَقد أَنه مُسْتَقِيم وَأَن الَّذِي ينْسب إِلَيْهِ من الِاتِّحَاد أَو الْإِلْحَاد من قُصُور فهم من يُنكر عَلَيْهِ فَأرْسل يُنكر عَلَيْهِ وَكتب إِلَيْهِ كتابا طَويلا وَنسبه وَأَصْحَابه إِلَى الِاتِّحَاد الَّذِي هُوَ حَقِيقَة الْإِلْحَاد فَعظم ذَلِك عَلَيْهِم وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ ضبطوا عَلَيْهِ كَلِمَات فِي العقائد مُغيرَة وَقعت مِنْهُ فِي مواعيده وفتاويه فَذكرُوا أَنه ذكر حَدِيث النُّزُول فَنزل عَن الْمِنْبَر دَرَجَتَيْنِ فَقَالَ كنزولي هَذَا فنسب إِلَى التجسيم ورده على من توسل بِالنَّبِيِّ صلّى الله عَلَيْهِ وسلّم أَو اسْتَغَاثَ فأشخص من دمشق فِي رَمَضَان سنة خمس وَسَبْعمائة فَجرى عَلَيْهِ مَا جرى وَحبس مرَارًا فَأَقَامَ على ذَلِك نَحْو أَربع سِنِين أَو أَكثر وَهُوَ مَعَ ذَلِك يشغل ويفتي إِلَى أَن اتّفق أَن الشَّيْخ نصرا قَامَ على الشَّيْخ كريم الدّين الآملي شيخ خانقاه سعيد السُّعَدَاء فَأخْرجهُ من الخانقاه وعَلى شمس الدّين الْجَزرِي فَأخْرجهُ من تدريس الشريفية فَيُقَال أَن الآملي دخل الْخلْوَة بِمصْر أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلم يخرج حَتَّى زَالَت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وَأطلق ابْن تَيْمِية إِلَى الشَّام وافترق النَّاس فِيهِ شيعًا فَمنهمْ من نسبه إِلَى التجسيم لما ذكر فِي العقيدة الحموية والواسطية وَغَيرهمَا من ذَلِك كَقَوْلِه أَن الْيَد والقدم والساق وَالْوَجْه صِفَات حَقِيقِيَّة لله وَأَنه مستوٍ على الْعَرْش بِذَاتِهِ فَقيل لَهُ يلْزم من ذَلِك التحيز والانقسام فَقَالَ أَنا لَا أسلم أَن التحيز والانقسام من خَواص الْأَجْسَام فألزم بِأَنَّهُ يَقُول بتحيز فِي ذَات الله وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى الزندقة لقَوْله أَن النَّبِي صلّى الله عَلَيْهِ وسلّم لَا يستغاث بِهِ وَأَن فِي ذَلِك تنقيصاً ومنعاً من تَعْظِيم النَّبِي صلّى الله عَلَيْهِ وسلّم وَكَانَ أَشد النَّاس عَلَيْهِ فِي ذَلِك النُّور الْبكْرِيّ فَإِنَّهُ لما عقد لَهُ الْمجْلس بِسَبَب ذَلِك قَالَ بعض الْحَاضِرين يُعَزّر فَقَالَ الْبكْرِيّ لَا معنى لهَذَا القَوْل فَإِنَّهُ إِن كَانَ تنقيصاً يقتل وَإِن لم يكن تنقيصا لَا يُعَزّر وَمِنْهُم من ينْسبهُ إِلَى النِّفَاق لقَوْله فِي عَليّ مَا تقدم وَلقَوْله إِنَّه كَانَ مخذولا حَيْثُ مَا توجه وَأَنه حاول الْخلَافَة مرَارًا فَلم ينلها وَإِنَّمَا قَاتل للرئاسة لَا للديانة وَلقَوْله إِنَّه كَانَ يحب الرِّئَاسَة وَأَن عُثْمَان كَانَ يحب المَال وَلقَوْله أَبُو بكر أسلم شَيخا يدْرِي مَا يَقُول وَعلي أسلم صَبيا وَالصَّبِيّ لَا يَصح إِسْلَامه على قَول وبكلامه فِي قصَّة خطْبَة بنت أبي جهل وَمَات مَا نَسَبهَا من الثَّنَاء على ... وقصة أبي الْعَاصِ ابْن الرّبيع وَمَا يُؤْخَذ من مفهومها فَإِنَّهُ شنع فِي ذَلِك فألزموه بالنفاق لقَوْله صلّى الله عَلَيْهِ وسلّم وَلَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق وَنسبه قوم إِلَى أَنه يسْعَى فِي الْإِمَامَة الْكُبْرَى فَإِنَّهُ كَانَ يلهج بِذكر ابْن تومرت ويطريه فَكَانَ ذَلِك مؤكداً لطول سجنه وَله وقائع شهيرة وَكَانَ إِذا حوقق وألزم يَقُول لم أرد هَذَا إِنَّمَا أردْت كَذَا فيذكر احْتِمَالا بَعيدا قَالَ وَكَانَ من أذكياء الْعَالم وَله فِي ذَلِك أُمُور عَظِيمَة مِنْهَا أَن مُحَمَّد بن أبي بكر السكاكيني عمل أبياتاً على لِسَان ذمِّي فِي إِنْكَار الْقدر وأولها
(أيا عُلَمَاء الدّين ذمِّي دينكُمْ ... تحير دلوه بأعظم حجَّة)
(إِذا مَا قضى رَبِّي بكفري بزعمكم ... وَلم يرضه مني فَمَا وَجه حيلتي)
فَوقف عَلَيْهَا ابْن تَيْمِية فَثنى إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَأجَاب فِي مَجْلِسه قبل أَن يقوم بِمِائَة وَتِسْعَة عشر بَيْتا أَولهَا
(سؤالك يَا هَذَا سُؤال معاند ... مخاصم رب الْعَرْش باري الْبَريَّة)
وَكَانَ يَقُول أَنا فأقرت فِي الأقفاص وَقَالَ شيخ شُيُوخنَا الْحَافِظ أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي فِي تَرْجَمَة ابْن تَيْمِية حداني يَعْنِي الْمزي على رُؤْيَة الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين فَأَلْفَيْته مِمَّن أدْرك من الْعُلُوم حظاً وَكَانَ يستوعب السّنَن والْآثَار حفظا إِن تكلم فِي التَّفْسِير فَهُوَ حَامِل رايته أَو أفتى فِي الْفِقْه فَهُوَ مدرك غَايَته أَو ذَاكر فِي الحَدِيث فَهُوَ صَاحب علمه وَذُو رِوَايَته أَو حَاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته فِي ذَلِك وَلَا أرفع من درايته برز فِي كل فن على أَبنَاء جنسه وَلم تَرَ عين من رَآهُ مثله وَلَا رَأَتْ عينه مثل نَفسه كَانَ يتَكَلَّم فِي التَّفْسِير فيحضر مَجْلِسه الجم الْغَفِير ويردون من بحره العذب النمير يرتعون من ربع فَضله فِي رَوْضَة وغدير إِلَى أَن دب إِلَيْهِ من أهل بَلَده دَاء الْحَسَد وألب أهل النّظر مِنْهُم على مَا ينْتَقد عَلَيْهِ من أُمُور المعتقد فحفظوا عَنهُ فِي ذَلِك كلَاما أوسعوه بِسَبَبِهِ ملاما وفوقوا لتبديعه سهاماً وَزَعَمُوا أَنه خَالف طريقهم وَفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بَعضهم وقاطعوه ثمَّ نَازع طَائِفَة أُخْرَى ينتسبون من الْفقر إِلَى طَريقَة ويزعمون أَنهم على أدق بَاطِن مِنْهَا وَأجلى حَقِيقَة فكشف تِلْكَ الطرائق وَذكر على مَا زعم بوائق فآضت إِلَى الطَّائِفَة الأولى من منازعيه واستغاثت بذوي الضغن عَلَيْهِ من مقاطعيه فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل مِنْهُم فِي كفره فكره فرتبوا محَاضِر وألبوا الرويبضة للسعي بهَا بَين الأكابر وَسعوا فِي نَقله إِلَى حَضْرَة المملكة بالديار المصرية فَنقل وأودع السجْن سَاعَة حُضُوره واعتقل وعقدوا لإراقة دَمه مجَالِس وحشدوا لذَلِك قوما من عمار الزوايا وسكان الْمدَارِس مَا بَين مجامل فِي الْمُنَازعَة ومخاتل بالمخادعة ومجاهر بالتكفير مباد بالمقاطعة يسومونه ريب الْمنون وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون وَلَيْسَ المجاهر بِكُفْرِهِ بِأَسْوَأ حَالا من المجامل وَقد دبت إِلَيْهِ عقارب مكره فَرد الله كيد كل فِي نَحره ونجاه على يَد من اصطفاه وَالله غَالب على أمره ثمَّ لم يخل بعد ذَلِك من فتْنَة بعد فتْنَة وَلم ينْتَقل طول عمره من محنة إِلَّا إِلَى محنة إِلَى أَن فوض أمره إِلَى بعض الْقُضَاة فتقلد مَا تقلد من اعتقاله وَلم يزل بمحبسه ذَلِك إِلَى حِين ذَهَابه إِلَى رَحْمَة الله وانتقاله وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور وَهُوَ مطلع على خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور وَكَانَ يَوْمه مشهوداً ضَاقَتْ بجنازته الطَّرِيق وانتابها الْمُسلمُونَ من كل فج عميق يَتَقَرَّبُون بمشهده يَوْم يقوم الْإِشْهَاد ويتمسكون بسريره حَتَّى كسروا تِلْكَ الأعواد قَالَ الذَّهَبِيّ مترجماً لَهُ فِي بعض الإجازات قَرَأَ الْقُرْآن وَالْفِقْه وناظر وَاسْتدلَّ وَهُوَ دون الْبلُوغ وبرع فِي الْعلم وَالتَّفْسِير وَأفْتى ودرس وَهُوَ دون الْعشْرين وصنف التصانيف وَصَارَ من كبار الْعلمَاء فِي حَيَاة شُيُوخه وتصانيفه نَحْو أَرْبَعَة آلَاف كراسة وَأكْثر وَقَالَ فِي مَوضِع آخر وَأما نَقله للفقه ومذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فضلا عَن الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ نَظِير وَفِي مَوضِع آخر وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة أَقْوَال السّلف وَقل أَن تذكر مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا مَذَاهِب الْأَئِمَّة وَقد خَالف الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي عدَّة مسَائِل صنف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة وَلما كَانَ معتقلاً بالإسكندرية التمس مِنْهُ صَاحب سبتة أَن يُجِيز لَهُ بعض مروياته فَكتب لَهُ جملَة من ذَلِك فِي عشرَة أوراق بأسانيده من حفظه بِحَيْثُ يعجز أَن يعْمل بعضه أكبر من يكون وَأقَام عدَّة سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين وَقَالَ فِي مَوضِع آخر بَصيرًا بطريقة السّلف وَاحْتج لَهُ بأدلة وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا وَأطلق عِبَارَات أحجم عَنْهَا غَيره حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق من الْعلمَاء بالمصرين فبدعوه وناظروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق إِذا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فَجرى بَينهم حملات حربية ووقعات شآمية ومصرية ورموه عَن قَوس وَاحِدَة ثمَّ نجاه الله تَعَالَى وَكَانَ دَائِم الابتهال كثير الِاسْتِعَانَة قوي التَّوَكُّل رابط الجأش لَهُ أوراد وأذكار يدمنها قلبية وجمعية وَكتب الذَّهَبِيّ إِلَى السُّبْكِيّ يعاتبه بِسَبَب كَلَام وَقع مِنْهُ فِي حق ابْن تَيْمِية فَأَجَابَهُ وَمن جملَة الْجَواب وَأما قَول سَيِّدي فِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فالمملوك يتَحَقَّق كَبِير قدره وزخارة بحره وتوسعه فِي الْعُلُوم النقلية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه فِي كل من ذَلِك الْمبلغ الَّذِي يتَجَاوَز الْوَصْف والمملوك يَقُول ذَلِك دَائِما وَقدره فِي نفسير أكبر من ذَلِك وَأجل مَعَ مَا جمعه الله لَهُ من الزهادة والورع والديانة ونصرة الْحق وَالْقِيَام فِيهِ لَا لغَرَض سواهُ وحرية على سنَن السّلف وَأَخذه من ذَلِك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله فِي هَذَا الزَّمَان بل فِيمَا مضى من أزمان وقرأت بِخَط الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي فِي ثَبت شيخ شُيُوخنَا الْحَافِظ بهاء الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن خَلِيل مَا نَصه وَسمع بهاء الدّين الْمَذْكُور على الشَّيْخَيْنِ شَيخنَا وَسَيِّدنَا وإمامنا فِيمَا بَيْننَا وَبَين الله تَعَالَى شيخ التَّحْقِيق السالك بِمن اتبعهُ أحسن طَرِيق ذِي الْفَضَائِل المتكاثرة والحجج الْقَاهِرَة الَّتِي أقرَّت الْأُمَم كَافَّة أَن هممها عَن حصرها قَاصِرَة وَمَتعْنَا الله بِعُلُومِهِ الفاخرة ونفعنا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَهُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الرباني والحبر الْبَحْر القطب النوراني إِمَام الْأَئِمَّة بركَة الْأمة 187 عَلامَة الْعلمَاء وَارِث الْأَنْبِيَاء آخر الْمُجْتَهدين أوحد عُلَمَاء الدّين شيخ الْإِسْلَام حجَّة الْأَعْلَام قدوة الْأَنَام برهَان المتعلمين قامع المبتدعين سيف المناظرين بَحر الْعُلُوم كنز المستفيدين ترجمان الْقُرْآن أعجوبة الزَّمَان فريد الْعَصْر والأوان تَقِيّ الدّين إِمَام الْمُسلمين حجَّة الله على الْعَالمين اللَّاحِق بالصالحين والمشبه بالماضين مفتي الْفرق نَاصِر الْحق عَلامَة الْهدى عُمْدَة الْحفاظ فَارس الْمعَانِي والألفاظ ركن الشَّرِيعَة ذُو الْفُنُون البديعة أَبُو الْعَبَّاس ابْن تَيْمِية وقرأت بِخَط الشَّيْخ برهَان الدّين مُحدث حلب قَالَ اجْتمعت بالشيخ شهَاب الدّين الْأَذْرَعِيّ سنة 79 لما أردْت الرحلة إِلَى دمشق فَكتب لي كتبا إِلَى الياسوفي والحسباني وَابْن الجابي وَابْن مَكْتُوم وَجَمَاعَة الشَّافِعِيَّة إِذْ ذَاك فَحصل لي بذلك مِنْهُم تَعْظِيم وَذكر لي فِي ذَلِك الْمجْلس الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر شَيْئا من كراماته وَذكر أَنه حضر جنَازَته وَأَن النَّاس خَرجُوا من الْجَامِع من كل بَاب وَخرجت من بَاب الْبَرِيد فَوَقَعت سرموزتي فَلم أستطع أَن أستعيدها وصرت أَمْشِي على صُدُور النَّاس ثمَّ لما فَرغْنَا وَرجعت لقِيت السرموزة وَذَلِكَ من بركَة الشَّيْخ رَحمَه الله

-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني-

 

ابن تيمية: الشيخ العلامة الفقيه الحافظ الزاهد العابد المجاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس احمد ابن شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني ثم الدمشقي وكان ذكياً كثير الحفظ إماما في التفسير والفقه عالماً بأختلاف العلماء عالماً في الأصول والفروع والنحو واللغة له تصانيف كثيرة اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجها توفي في سجن القلعة بدمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. ينظر: البداية والنهاية لأبن كثير 13/135- 141,شذرات الذهب6/88

 

 

الشيخ العلَّامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن تيمية الحَرَّاني الحنبلي، أحد الأعلام، صاحب التصانيف الكثيرة التي تزيد على ستمائة مجلد والمحن المشهورة، المتوفى محبوسًا بقلعة دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، عن سبع وستين سنة.
قدم مع والده الشيخ شهاب الدين إلى دمشق، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم والمجد بن عساكر وجماعة وقرأ كثيرًا ولازم السماع سنين واشتغل بالعلوم، فصار إمامًا في العلوم النقلية والعقلية، حافظًا للحديث وكمل من تصانيفه جملة [ .... ] وكتبت عنه وجملة كثيرة لم يكملها وله مسائل غريبة أنكروها عليه وحبس بسببها.
قال اليافعي: ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي -عليه السلام- حبس مرة لإفتائه في الطلاق بخلاف الجمهور في سنة 720 ثم أطلق وقد عقدت له ثلاثة مجالس في سنة 705 وسألوه عن عقيدته وقرئت "عقيدته الواسطية" وضايقوه، ثم وقع نوع وفاق، ثم إنه طُلب على البريد إلى مصر وأقيمت عليه دعوى عند قاضي المالكية فاستخصمه الشيخ وقاموا فسجن بضعة عشر شهرًا، ثم أُخرج إلى الإسكندرية، ثم طلبه السلطان واحترمه وصالح بينهما والذي ادعى عليه بمصر أنه يقول إن الرحمن على العرش حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت ثم كتبوا عليه محضرًا بأنه على مذهب الأشعري وأنه تاب مما ينافي ذلك.
وفي "المنهل": ومصنفاته تزيد على مائتي مصنّف، استوعبها الصَّفَدي في "الوافي بالوفيات" وأطنب تلميذه ابن كثير في "تاريخه" وأطال ترجمته إلى الغاية فمن أراد التفصيل فلينظر ثمة وصنَّف في سيرته الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي البزَّار البغدادي مجلدا سماه "الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية".
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.

 

 

ابْن تَيْمِية الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْحَافِظ النَّاقِد الْفَقِيه الْمُجْتَهد الْمُفَسّر البارع شيخ الْإِسْلَام علم الزهاد نادرة الْعَصْر تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْمُفْتِي شهَاب الدّين عبد الْحَلِيم ابْن الإِمَام الْمُجْتَهد شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم الْحَرَّانِي أحد الْأَعْلَام ولد فِي ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
وَسمع ابْن أبي الْيُسْر وَابْن عبد الدَّائِم وعدة
وعني بِالْحَدِيثِ وَخرج وانتقى وبرع فِي الرِّجَال وَعلل الحَدِيث وفقهه وَفِي عُلُوم الْإِسْلَام وَعلم الْكَلَام وَغير ذَلِك وَكَانَ من بحور الْعلم وَمن الأذكياء الْمَعْدُودين والزهاد والأفراد ألف ثَلَاثمِائَة مجلدة وامتحن وأوذي مرَارًا مَاتَ فِي الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة

طبقات الحفاظ - لجلال الدين السيوطي.

 

أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن الْقَاسِم بن تَيْمِ
الحرّاني الدمشقي الحنبلي تقي الدَّين أَبُو الْعَبَّاس شيخ الإسلام إمام الْأَئِمَّة الْمُجْتَهد الْمُطلق ولد سنة 661 إحدى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وتحول بِهِ أَبوهُ من حران سنة 667 سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَسمع من ابْن عبد الدايم وَالقَاسِم الأريلى وَالْمُسلم ابْن عَلان وَابْن أَبى نمر وَالْفَخْر وَمن آخَرين قَالَ ابْن حجر فِي الدُّرَر وَقَرَأَ بِنَفسِهِ وَنسخ سنَن

أَبى دَاوُد وَحصل الْأَجْزَاء وَنظر في الرِّجَال والعلل وتفقه وتمهّر وَتقدم وصنّف ودرس وَأفْتى وفَاق الأقران وَصَارَ عجباً في سرعَة الاستحضار وَقُوَّة الْجنان والتوسع فى الْمَنْقُول والمقعول والاطلاع على مَذَاهِب السلف وَالْخلف انْتهى وَأَقُول أَنا لَا أعلم بعد ابْن حزم مثله وَمَا أَظُنهُ سمح الزَّمَان مَا بَين عصر الرجلَيْن بِمن شابههما أَو يقاربهما قَالَ الذهبي مَا ملخصه كَانَ يقْضى مِنْهُ الْعجب إِذا ذكر مَسْأَلَة من مسَائِل الْخلاف الَّتِى يوردها مِنْهُ وَلَا أَشد استحضاراً للمتون وعزوها مِنْهُ وَكَانَت السنة نصب عَيْنَيْهِ وعَلى طرف لِسَانه بِعِبَارَة رشيقة وَكَانَ آية من آيَات الله في التَّفْسِير والتوسع فِيهِ وَأما أصُول الدّيانَة وَمَعْرِفَة أَقْوَال الْمُخَالفين فَكَانَ لَا يشق غباره فِيهِ هَذَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْكَرم والشجاعة والفراغ عَن ملاذ النَّفس وَلَعَلَّ فَتَاوِيهِ في الْفُنُون تبلغ ثَلَاثمِائَة مُجَلد بل أَكثر وَكَانَ قوالاً بِالْحَقِّ لَا تَأْخُذهُ بِاللَّه لومة لائم ثمَّ قَالَ وَمن خالطه وعرفه قد ينسبني إِلَى التَّقْصِير فِيهِ وَمن نابذه وَخَالفهُ قد ينسبني إِلَى التغالي فِيهِ وَقد أوذيت من الْفَرِيقَيْنِ من أَصْحَابه وأضداده وَكَانَ أَبيض اسود الرَّأْس واللحية قَلِيل الشيب شعره إِلَى شحمة أُذُنَيْهِ كَأَن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان ربعَة من الرِّجَال بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ جهوريّ الصَّوْت فصيحاً سريع الْقِرَاءَة تعتريه حِدة لَكِن يقهرها بالحلم قَالَ وَلم أرمثله في ابتهاله واستعانته بِاللَّه وَكَثْرَة توجهه وَأَنا لَا أعتقد فِيهِ عصمَة بل أَنا مُخَالف لَهُ في مسَائِل أَصْلِيَّة وفرعية فَأَنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدَّين بشراً من الْبشر تعتريه حِدة فِي الْبَحْث وَغَضب وصدمة للخصوم

تزرع لَهُ عَدَاوَة فى النُّفُوس وَلَولَا ذَلِك لَكَانَ كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بَحر لَا سَاحل لَهُ وكنز لَيْسَ لَهُ نَظِير وَلَكِن ينقمون عَلَيْهِ أخلاقاً وأفعالاً وكل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك قَالَ وَكَانَ محافظاً على الصَّلَاة وَالصَّوْم مُعظما للشرائع ظَاهرا وَبَاطنا لَا يُؤْتى من سوء فهم فإن لَهُ الذكاء المفرط وَلَا من قلَّة علم فإنه بَحر زاخر وَلَا كَانَ متلاعباً بِالدّينِ وَلَا ينْفَرد بمسائل بالتشّهي وَلَا يُطلق لِسَانه بِمَا اتفق بل يحْتَج بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث وَالْقِيَاس ويبرهن ويناظر أُسْوَة بِمن تقدمه من الْأَئِمَّة فَلهُ أجر على خطأه وأجران على إصابته انْتهى وَمَعَ هَذَا فقد وَقع لَهُ مَعَ أهل عصره قلاقل وزلازل وامتحن مرة بعد أُخْرَى في حَيَاته وَجَرت فتن عديدة وَالنَّاس قِسْمَانِ فِي شَأْنه فبعض مِنْهُم مقصر بِهِ عَن الْمِقْدَار الَّذِي يسْتَحقّهُ بل يرميه بالعظائم وَبَعض آخر يُبَالغ في وَصفه ويجاوز بِهِ الْحَد ويتعصب لَهُ كَمَا يتعصب أهل الْقسم الأول عَلَيْهِ وَهَذِه قَاعِدَة مطردَة في كل عَالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بِالْكتاب وَالسّنة فإنه لَا بُد أَن يستنكره المقصرون وَيَقَع لَهُ مَعَهم محنة بعد محنة ثمَّ يكون أمره الْأَعْلَى وَقَوله الأولى وَيصير لَهُ بِتِلْكَ الزلازل لِسَان صدق في الآخرين وَيكون لعلمه حَظّ لَا يكون لغيره وَهَكَذَا حَال هَذَا الإمام فإنه بعد مَوته عرف النَّاس مِقْدَاره واتفقت الألسن بالثناء عَلَيْهِ إلا من لَا يعْتد بِهِ وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته وَأول مَا أنكر عَلَيْهِ أهل عصره فِي شهر ربيع الأول سنة 698 أَنْكَرُوا عَلَيْهِ شيأ من مقالاته فَقَامَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء وَبَحَثُوا مَعَه وَمنع من الْكَلَام ثمَّ طلب ثاني مرة في سنة 705 إِلَى مصر فتعصب عَلَيْهِ بعض أَرْكَان الدولة وَهُوَ بيبرس الجاشنكير وانتصر لَهُ ركن آخر وَهُوَ الْأَمِير سلار ثمَّ آل أمره أَن حبس في خزانَة البنود مُدَّة ثمَّ نقل في صفر سنة 9 إلى الإسكندرية ثمَّ أفرج عَنهُ وأعيد إِلَى الْقَاهِرَة ثمَّ أُعِيد إِلَى الإسكندرية ثمَّ حضر السُّلْطَان النَّاصِر من الكرك فأطلقه وَوصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وَكَانَ السَّبَب فِي هَذِه المحنة أَن مرسوم السُّلْطَان ورد على النَّائِب بامتحانه في معتقده لما رفع إليه من أُمُور تنكر في ذَلِك فعقد لَهُ مجْلِس فِي سَابِع رَجَب فَسئلَ عَن عقيدته فأملى مِنْهَا ثمَّ أحضروا العقيدة الَّتِى تعرف بالواسطية فَقَرَأَ مِنْهَا وَبَحَثُوا في مَوَاضِع ثمَّ اجْتَمعُوا في ثاني عشرة وقرروا الصفي الهندي يبْحَث مَعَه ثمَّ أخروه وَقدمُوا الْكَمَال الزملكاني ثمَّ انْفَصل الْأَمر على أَنه أشهد على نَفسه أَنه شافعي المعتقد فأشاع أَتْبَاعه أَنه انتصر فَغَضب خصومه وَرفعُوا وَاحِدًا من أَتبَاع ابْن تَيْمِية إلى الْجلَال القزوينى نَائِب الحكم بالعادلية فعزره وَكَذَا فعل الحنفى بِاثْنَيْنِ مِنْهُم وفى ثاني عشر رَجَب قَرَأَ المزي فصلاً من الْكتاب أَفعَال الْعباد للبخاري في الْجَامِع فَسمع بعض الشَّافِعِيَّة فَغَضب وَقَالَ نَحن المقصودون بِهَذَا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فَأمر بحبسه فَبلغ ابْن تَيْمِية فَتوجه إلى الْحَبْس فَأخْرجهُ بِيَدِهِ فَبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابْن تَيْمِية فتشاجرا بِحَضْرَة النَّائِب فَأمر النَّائِب من يُنَادى أَن من تكلم فِي العقائد فعل بِهِ كَذَا وَقصد بذلك تسكين الْفِتْنَة ثمَّ عقد لَهُ مجْلِس في سلخ شهر رَجَب وَجرى فِيهِ من ابْن الزملكاني وَابْن الْوَكِيل مباحثة فَقَالَ ابْن الزملكاني لِابْنِ الْوَكِيل مَا جرى على الشَّافِعِيَّة قَلِيل حَيْثُ تكون أَنْت رئيسهم فَظن القاضي ابْن صصري أَنه يعرض بِهِ فعزل نَفسه ثمَّ وصل بربد من عِنْد السُّلْطَان إلى دمشق أَن يرسلوا بِصُورَة مَا جرى في سنة 698 ثمَّ وصل مَمْلُوك النَّائِب وَأخْبر أَن بيبرس وَالْقَاضِي المالكي قد قاما في الإنكار على ابْن تَيْمِية وَأَن الْأَمر قد اشْتَدَّ على الْحَنَابِلَة حَتَّى صفع بَعضهم ثمَّ توجه القاضي ابْن صصري وَابْن تَيْمِية صُحْبَة الْبَرِيد إلى الْقَاهِرَة ومعهما جمَاعَة فوصلا في الْعشْر الْأَخِيرَة من رَمَضَان وَعقد مجْلِس في ثاني عشرينه بعد صَلَاة الْجُمُعَة فَادّعى على ابْن تَيْمِية عِنْد المالكي فَقَالَ هَذَا عدوى وَلم يجب عَن الدَّعْوَى فكرّر عَلَيْهِ فأصرَّ فَحكم المالكي بحبسه فأقيم من الْمجْلس وَحبس فِي برج ثمَّ بلغ المالكي أَن النَّاس يَتَرَدَّدُونَ إليه فَقَالَ يجب التَّضْيِيق عَلَيْهِ ان لم يقتل والا فقد ثَبت كفره فنقلوه لَيْلَة عيد الْفطر إلى الْجب وَلَقَد أحسن المترجم لَهُ رَحمَه الله بالتصميم على عدم الإجابة عِنْد ذَلِك القاضى الجرئ الْجَاهِل الغبي وَلَو وَقعت مِنْهُ الإجابة لم يبعد الحكم بإراقة دم هَذَا الإمام الَّذِي سمح الزَّمَان بِهِ وَهُوَ بِمثلِهِ بخيل وَلَا سِيمَا هَذَا القَاضِي من الْمَالِكِيَّة الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن مخلوف فَإِنَّهُ من شياطينهم المتجرئين على سفك دِمَاء الْمُسلمين بِمُجَرَّد أكاذيب وكلمات لَيْسَ المُرَاد بهَا مَا يحملونها عَلَيْهِ وناهيك بقوله أَن هَذَا الإمام قد اسْتحق الْقَتْل وَثَبت لَدَيْهِ كفره وَلَا يساوي شَعْرَة من شعراته بل لَا يصلح لِأَن يكون شسعاً لنعله وَمَا زَالَ هَذَا القاضى الشَّيْطَان يتطلب الفرص الَّتِى يتَوَصَّل بهَا إلى إِرَاقَة دم هَذَا الإمام فحجبه الله عَنهُ وَحَال بَينه وَبَينه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ثمَّ بعد هَذَا نودي بِدِمَشْق أَن من اعْتقد عقيدة ابْن تَيْمِية حلَّ دَمه وَمَاله خُصُوصا الْحَنَابِلَة فنودي بذلك وَقُرِئَ المرسوم قَرَأَهُ ابْن الشهَاب مَحْمُود في الْجَامِع ثمَّ جمعُوا الْحَنَابِلَة من الصالحية وَغَيرهَا وَأشْهدُوا على أنفسهم أَنهم على مُعْتَقد الإمام الشافعي وَكَانَ من أعظم القائمين على المترجم لَهُ الشَّيْخ نصر المنبجي لِأَنَّهُ كَانَ بلغ ابْن تَيْمِية أَنه يتعصب لِابْنِ العربي فَكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذَلِك فَمَا أعجبه لكَونه بَالغ في الْحَط على ابْن العربي وكفّره فَصَارَ هُوَ يحط على ابْن تَيْمِية ويغرى بيبرس الَّذِي يفرط في محبَّة نصر وتعظيمه وَقَامَ القاضي المالكي الْمُتَقَدّم ذكره مَعَ الشَّيْخ نصر وَبَالغ في أذية الْحَنَابِلَة وَاتفقَ أَن قاضي الْحَنَابِلَة كَانَ قَلِيل البضاعة في الْعلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوا خطه بذلك وَاتفقَ أَن قاضي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَهُوَ شمس الدَّين ابْن الجزرى انتصر لاين تَيْمِية وَكتب في حَقه محضراً بالثناء عَلَيْهِ بِالْعلمِ والفهم وَكتب فِيهِ بِخَطِّهِ ثَلَاثَة عشر سطرا من جُمْلَتهَا أَنه مُنْذُ ثلثمِائة سنة مَا رأى النَّاس مثله فَبلغ ذَلِك ابْن مخلوف فسعى في عزل ابْن الجزري فعزل وَقرر عوضه شمس الدَّين الأذرعى ثمَّ لم يلبث الأذرعي أَن عزل في السنة الْمُقبلَة وتعصّب سلاّر لِابْنِ تيمية وأحضر الْقُضَاة الثَّلَاثَة الشافعي والمالكي والحنفي وَتكلم مَعَهم فِي إخراجه فاتفقوا على أَنهم يشترطون فِيهِ شُرُوطًا وَأَن يرجع عَن بعض العقيدة فأرسلوا إِلَيْهِ مَرَّات فَامْتنعَ من الْحُضُور إليهم وَاسْتمرّ على ذَلِك وَلم يزل ابْن تَيْمِية في الْجب إلى أَن تشفع فِيهِ مهنّا أَمِير آل فضل فَأخْرج في ربيع الأول في الثَّالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ وأحضر إِلَى القلعة وَوَقع الْبَحْث مَعَ بعض الْفُقَهَاء فَكتب عَلَيْهِ محْضر بأنه قَالَ أَنا أشعري ثمَّ اجْتمع جمَاعَة من الصُّوفِيَّة عِنْد تَاج الدَّين بن عَطاء فطلعوا في الْعشْر الأوسط من شَوَّال إِلَى القلعة وَشَكوا من ابْن تَيْمِية أَنه يتَكَلَّم فِي حق مَشَايِخ الطَّرِيقَة وَأَنه قَالَ لَا يستغاث بالنبى صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فاقتصى الْحَال أَن أَمر بتسييره إلى الشَّام فَتوجه على خيل الْبَرِيد وكل ذَلِك والقاضي زين الدَّين ابْن مخلوف مشتغل بِالْمرضِ وَقد أشرف على الْمَوْت فَبَلغهُ سير ابْن تَيْمِية فراسل النَّائِب فَرده من نابلس وَادّعى عَلَيْهِ عِنْد ابْن جمَاعَة وَشهد عَلَيْهِ شرف الدَّين ابْن الصابونى وَقيل ان عَلَاء الدَّين القونوى شهد عَلَيْهِ أَيْضا فاعتقل بسجن حارة الديلمة في ثامن عشر شَوَّال إلى سلخ شهر صفر سنة 709 فَنقل عَنهُ أَن جمَاعَة يَتَرَدَّدُونَ إليه وَأَنه يتَكَلَّم عَلَيْهِم في نَحْو مَا تقدم فَأمر بنقله إِلَى الإسكندرية فَنقل إليها في سلخ صفر وَكَانَ سَفَره صُحْبَة أَمِير مقدم وَلم يُمكن أحداً من جِهَته من السفر مَعَه وَحبس ببرج شرقي ثمَّ توجه إليه بعض أَصْحَابه فَلم يمنعوا مِنْهُ فتوجهت طَائِفَة مِنْهُم بعد طَائِفَة وَكَانَ مَوْضِعه فسيحاً فَصَارَ النَّاس يدْخلُونَ إليه ويقرأون عَلَيْهِ ويبحثون مَعَه فَلم يزل إِلَى أَن عَاد النَّاصِر إلى السلطنة فشفع فِيهِ عِنْده فَأمر بإحضاره فَاجْتمع بِهِ في ثامن عشر شَوَّال سنة 709 فَأكْرمه وَجمع الْقُضَاة فَأصْلح بَينه وَبَين القاضي المالكى فَاشْترط المالكي أَن لَا يعود فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان قد تَابَ وَسكن الْقَاهِرَة وَتردد النَّاس إليه إِلَى أَن توجه صُحْبَة النَّاصِر إِلَى الشَّام بنية الْغَزْو سنة 712 فوصل إِلَى دمشق وَكَانَت غيبته مِنْهَا أَكثر من سبع سِنِين وتلقاه جمع كثير فَرحا بمقدمه وَكَانَت والدته إِذْ ذَاك حَيَّة ثمَّ قَامُوا عَلَيْهِ في شهر رَمَضَان سنة 719 بِسَبَب قَوْله أن الطَّلَاق الثَّلَاث من دون تخَلّل رَجْعَة بِمَنْزِلَة طَلْقَة وَاحِدَة ثمَّ عقد لَهُ مجْلِس آخر في رَجَب سنة 720 ثمَّ حبس بالقلعة ثمَّ أخرج في عَاشُورَاء سنة 721 ثمَّ قَامُوا عَلَيْهِ مرة أُخْرَى في شعْبَان سنة 722 بِسَبَب مَسْأَلَة الزِّيَارَة واعتقل بالقلعة فَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ في لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لعشرين من شهر الْقعدَة سنة 738 بِجَامِع دمشق وَصَارَ يضْرب الْمثل بِكَثْرَة من حضر جنَازَته وَأَقل مَا قيل في عَددهمْ أَنهم خَمْسُونَ ألفاً قَالَ ابْن فضل الله لما قدم ابْن تَيْمِية على الْبَرِيد إلى الْقَاهِرَة فِي سنة 700 حض أهل المملكة على الْجِهَاد وَأَغْلظ القَوْل للسُّلْطَان والأمراء ورتبوا لَهُ كل يَوْم دِينَارا وَطَعَامًا فَلم يقبل ذَلِك ثمَّ قَالَ حضر عِنْده شَيخنَا أَبُو حَيَّان فَقَالَ مَا رَأَتْ عيناي مثل هَذَا الرجل ومدحه بِأَبْيَات ذكر أَنه نظمها بديهة مِنْهَا
(لما أَتَانَا تقي الدَّين لَاحَ لنا ... دَاع إلى الله فَرد مَاله وزرُ)
(على محياه سيماء الأولى صحبوا ... خير الْبَريَّة نور دونه الْقَمَر)
قَالَ ثمَّ دَار بَينهمَا كَلَام فَجرى ذكر سِيبَوَيْهٍ فَأَغْلَظ ابْن تَيْمِية القَوْل في سِيبَوَيْهٍ فنافره أَبُو حَيَّان وقطعه وصير ذَلِك ذَنبا لَا يغْفر وَسُئِلَ عَن السَّبَب فَقَالَ ناظرته فى شئ من الْعَرَبيَّة فَذكرت لَهُ كَلَام سِيبَوَيْهٍ فَقَالَ مَا كَانَ سِيبَوَيْهٍ نبيّ النَّحْو وَلَا كَانَ مَعْصُوما بل أَخطَأ فِي الْكتاب في ثَمَانِينَ موضعاً مَا تفهمها أَنْت فَكَانَ ذَلِك سَبَب مقاطعته إِيَّاه وَذكره في تَفْسِيره الْبَحْر بِكُل سوء وَكَذَلِكَ في مُخْتَصره النَّهر وَقد ترْجم لَهُ جمَاعَة وبالغوا في الثَّنَاء عَلَيْهِ ورثاه كثير من الشُّعَرَاء وَقَالَ جمال الدَّين السرمدي فِي أَمَالِيهِ وَمن عجائب زَمَاننَا في الْحِفْظ ابْن تيميه كَانَ يمر بِالْكتاب مرّة مطالعة فينقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَحكى بَعضهم عَنهُ أَنه قَالَ من سألني مستفيداً حققت لَهُ وَمن سألني مُتَعَنتًا ناقصته فَلَا يلبث أن يَنْقَطِع فأكفى مُؤْنَته وَقد ترْجم لَهُ الصفدي وسرد أَسمَاء تصانيفه في ثَلَاثَة أوراق كبار وَمن أنفعها كِتَابه فِي ابطال الْحِيَل فانه نَفِيس جدا وَكتاب الْمِنْهَاج فى الرَّد على الروافض فِي غَايَة الْحسن لَوْلَا أَنه بَالغ فِي الدفع حَتَّى وَقعت لَهُ عِبَارَات وألفاظ فِيهَا بعض التحامل وَقد نسبه بَعضهم إلى طلب الْملك لِأَنَّهُ كَانَ يلهج بِذكر ابْن تومرت ونظرائه فَكَانَ ذَلِك مولداً لطول سجنه وَله وقائع مَشْهُورَة وَكَانَ إِذا حوقق وألزم يَقُول لم أرد هَذَا وَإِنَّمَا أردْت كَذَا فيذكر احْتِمَالا بَعيدا وَلَعَلَّ ذَلِك وَالله أعلم أَنه يُصَرح بِالْحَقِّ فتأباه الأذهان وتنبوا عَنهُ الطبائع لقُصُور الأفهام فيحوله إِلَى احْتِمَال آخر دفعاً للفتنة وَهَكَذَا ينبغي للْعَالم الْكَامِل أَن يفعل يَقُول الْحق كَمَا يجب عَلَيْهِ ثمَّ يدْفع الْمفْسدَة بِمَا يُمكنهُ وَحكى عَنهُ أَنه لما وصل إِلَيْهِ السُّؤَال الَّذِي وَضعه السكاكيني على لِسَان يهودي وَهُوَ
(أيا عُلَمَاء الدَّين ذميُّ دينكُمْ ... تحيّر دلّوه بأعظم حجَّة)
(إِذا مَا قضى ربي بكفري بزعمكم ... وَلم يرضه مني فَمَا وَجه حيلتي)
إلى آخرهَا فَوقف ابْن تَيْمِية على هَذِه الأبيات فَثنى إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَأجَاب في مَجْلِسه قبل ان يقوم بِمِائَة وَتِسْعَة عشر بَيْتا أَولهَا
(سؤالك ياهذا سُؤال معاند ... مخاصم ربّ الْعَرْش ربّ الْبَريَّة)
وَقَالَ ابْن سيّد النَّاس اليعمري في تَرْجَمَة ابْن تَيْمِية إنه برز في كل فن على أَبنَاء جنسه وَلم تَرَ عين من رَآهُ مثله وَلَا رَأَتْ عينه مثل نَفسه وَقَالَ الذَّهَبِيّ مترجماً لَهُ فِي بعض الإجازات قَرَأَ الْقُرْآن وَالْفِقْه وناظر وَاسْتدلَّ وَهُوَ دون الْبلُوغ وَبلغ في الْعُلُوم وَالتَّفْسِير وَأفْتى ودرّس وَهُوَ دون الْعشْرين وصنّف التصانيف وَصَارَ من أكَابِر الْعلمَاء فى حَيَاة مشايخه وتصانيفه نَحْو أَرْبَعَة آلاف كراسة وَأكْثر وَقَالَ وَأما نَقله للفقه ومذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فضلاً عَن الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ نَظِير وَقَالَ أَنه لَا يذكر مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا مَذَاهِب الْأَئِمَّة وَقد خَالف الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة في عدَّة مسَائِل صنّف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة وَقد أثنى عَلَيْهِ جمَاعَة من أكَابِر عُلَمَاء عصره فَمن بعدهمْ ووصفوه بالتفرد وأطلقوا في نَعته عِبَارَات ضخمة وَهُوَ حقيق بِذَاكَ وَالظَّاهِر أنه لَو سلم مِمَّا عرض لَهُ من المحن المستغرقة لأكْثر أَيَّامه المكدرة لذهنه المشوشة لفهمه لَكَانَ لَهُ من المؤلفات والاجتهادات مَا لم يكن لغيره قَالَ الصفدي وَكَانَ كثيراً مَا ينشد
(تَمُوت النُّفُوس بأوصابها ... وَلم يدر عوادها مَا بهَا)
(وَمَا أنصفت مهجة تشتكى ... أذاها إِلَى غير أَرْبَابهَا)
وَمِمَّا أنْشد لَهُ على لِسَان الْفُقَرَاء)
(وَالله مَا فقرنا اخْتِيَار ... وَإِنَّمَا فقرنا اضطرار)
(جمَاعَة كلنا كسَالَى ... وأكلنا مَاله عيار)
(تسمع منا إِذا اجْتَمَعنَا ... حَقِيقَة كلهَا فشار)

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني.

 

أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن ابى الْقَاسِم بن الْخضر بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الحرانى ثمَّ الدمشقى الإِمَام الْفَقِيه الْمُجْتَهد الْحَافِظ الْمُفَسّر الزَّاهِد أبي الْعَبَّاس الْحَافِظ الْمُفَسّر الزَّاهِد أبي الْعَبَّاس تقى الدّين شيخ الْإِسْلَام وَعلم الْأَعْلَام
ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران
قدم بِهِ وَالِده وبإخوته إِلَى دمشق عِنْد اسْتِيلَاء التتر على الْبِلَاد
وَسمع من ابْن عبد الدَّائِم وَابْن أَبى الْيُسْر وَالْمجد بن عَسَاكِر وَالقَاسِم الإربلى وَالشَّيْخ شمس الدّين بن أَبى عمر وَخلق كثير سمع الْمسند مَرَّات والكتب السِّتَّة ومعجم الطبرانى وَمَا لَا يُحْصى
وَكتب بِخَطِّهِ جملَة من الْأَجْزَاء وَأَقْبل على الْعُلُوم فى صغره وَأخذ الْفِقْه وَالْأُصُول عَن وَالِده وَعَن الشَّيْخ شمس الدّين بن أَبى عمر وَالشَّيْخ زين الدّين ابْن المنجى وبرع فى ذَلِك وناظر وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة على ابْن عبد القوى ثمَّ أَخذ كتاب سِيبَوَيْهٍ فَتَأَمّله وفهمه وَأَقْبل على تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم فبرز فِيهِ وَأحكم الْفَرَائِض والحساب والجبر والمقابلة وَغير ذَلِك من الْعُلُوم وَنظر فى علم الْكَلَام والفلسفة وبرز فى ذَلِك على أَهله ورد على رُؤَسَائِهِمْ وأكابرهم وتأهل للْفَتْوَى والتدريس وَله دون الْعشْرين سنة وأمده الله تَعَالَى بِكَثْرَة الْكتب وَسُرْعَة الْحِفْظ وَقُوَّة الْإِدْرَاك والفهم وَكَانَ بطىء النسْيَان حَتَّى ذكر جمَاعَة أَنه لم يكن يحفظ شَيْئا فينساه
وَتوفى وَالِده الشَّيْخ شهَاب الدّين وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك إِحْدَى وَعشْرين سنة فَقَامَ بوظائفه ودرس بدار الحَدِيث السكرية فى أول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَحضر عِنْده قاضى الْقُضَاة شهَاب الدّين بن المزكى وَالشَّيْخ شهَاب الدّين الفزارى وَالشَّيْخ شهَاب الدّين ابْن المرحل وَالشَّيْخ زين الدّين ابْن المنجى وَذكر درسا عَظِيما فى الْبَسْمَلَة وعظمه الْجَمَاعَة الْحَاضِرُونَ فَأَثْنوا عَلَيْهِ ثَنَاء كثيرا
قَالَ الذهبى وَكَانَ الشَّيْخ تَاج الدّين الفزارى يُبَالغ فى تَعْظِيمه بِحَيْثُ أَنه علق بِخَطِّهِ درسه بالسكرية
ثمَّ جلس مَكَان وَالِده بالجامع يُفَسر الْقُرْآن الْكَرِيم وَشرع من أَوله وَكَانَ يُورد من حفظه فى الْمجْلس نَحْو كراسين أَو أَكثر وبقى يُفَسر فِي سُورَة نوح عدَّة سِنِين وفى وَقت ذكر يَوْم جُمُعَة شَيْئا من الصِّفَات فَقَامَ بعض الْمُخَالفين وَسعوا فى مَنعه فَلم يُمكنهُم ذَلِك
وَقَالَ قاضى الْقُضَاة شهَاب الدّين الخويى أَنا على اعْتِقَاد الشَّيْخ تقى الدّين فعوتب فى ذَلِك فَقَالَ لِأَن ذهنه صَحِيح ومواده كَثِيرَة فَهُوَ لَا يَقُول إِلَّا الصَّحِيح
وَكَانَ أعجوبة زَمَانه فى الْحِفْظ وَقد حكى أَن بعض مَشَايِخ حلب قدم دمشق لينْظر إِلَى حفظ الشَّيْخ فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل الْآن يحضر فَلَمَّا حضر ذكر لَهُ أَحَادِيث فحفظها من سَاعَته ثمَّ أمْلى عَلَيْهِ عدَّة أَسَانِيد انتخبها ثمَّ قَالَ اقْرَأ هَذَا فَنظر فِيهِ كَمَا فعل أول مرّة فَقَامَ الشَّيْخ الحلبى وَهُوَ يَقُول إِن عَاشَ هَذَا الْفَتى لَيَكُونن لَهُ شَأْن عَظِيم فَإِن هَذَا لم ير مثله وَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين أَنا أَرْجُو بركته وَدعَاهُ وَهُوَ صاحبى وأخى
ذكر ذَلِك البرزالى فى تَارِيخه
ثمَّ شرع فى الْجمع والتصنيف من الْعشْرين وَلم يزل فى علو وازدياد فى الْعلم وَالْقدر إِلَى آخر عمره
قَالَ الْحَافِظ المزى مَا رَأَيْت مثله وَلَا رأى هُوَ مثل نَفسه
وَذكره الذهبى فى مُعْجم شُيُوخه وَوَصفه بِأَنَّهُ شيخ الْإِسْلَام وفريد عصره علما وَمَعْرِفَة وشجاعة وذكاء وَنصحا للْأمة أمرا بِالْمَعْرُوفِ ونهيا عَن الْمُنكر إِلَى غير ذَلِك من الصِّفَات الحميدة والأخلاق المرضية
وَقَالَ الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن الزملكانى كَانَ ابْن تَيْمِية إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرآئى وَالسَّامِع أَنه لَا يعرف غير ذَلِك الْفَنّ وَحكم أَن أحدا لَا يعرفهُ مثله وَكَانَ الْفُقَهَاء من سَائِر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا مِنْهُ فى مذاهبهم أَشْيَاء وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فى علم من الْعُلُوم سَوَاء كَانَ من عُلُوم الشَّرْع أَو غَيرهَا إِلَّا فاق فِيهِ أَهله وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا
قَالَ الشَّيْخ زين الدّين ابْن رَجَب وَقد عرض عَلَيْهِ قَضَاء الْحَنَابِلَة قبل التسعين ومشيخة الشُّيُوخ فَلم يقبل شَيْئا من ذَلِك
وَقد كتب ابْن الزملكانى بِخَطِّهِ على كتاب إبِْطَال الْحِيَل تَرْجَمَة الْكتاب وَاسم الشَّيْخ وَترْجم لَهُ تَرْجَمَة عَظِيمَة وَأثْنى عَلَيْهِ شَيْئا كثيرا وَكتب تَحْتَهُ بِخَطِّهِ
(مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر)
(هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الدَّهْر)
(هُوَ آيَة لِلْخلقِ ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر)
وَحكى الذهبى عَن الشَّيْخ تقى الدّين ابْن دَقِيق العَبْد أَنه قَالَ لَهُ عِنْد اجتماعه بِهِ وسماعه لكَلَامه مَا كنت أَظن أَن الله تَعَالَى بقى يخلق مثلك
وَقد كتب الْعَلامَة قاضى الْقُضَاة تقى الدّين السبكى إِلَى الْحَافِظ الذهبى فى أَمر الشَّيْخ تقى الدّين فالمملوك يتَحَقَّق أَن قدره وزخارة بحره وتوسعته فى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده بلغ من ذَلِك كل الْمبلغ الَّذِي يتجاوزه الْوَصْف والمملوك يَقُول ذَلِك دَائِما وَقدره فى نفسى أَكثر من ذَلِك وَأجل مَعَ مَا جمعه الله تَعَالَى من الزهادة والورع والديانة ونصرة الْحق وَالْقِيَام فِيهِ لَا لغَرَض سواهُ وجريه على سنَن السّلف وَأَخذه من ذَلِك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله فى هَذَا الزَّمَان بل فى أزمان
وللشيخ أثير الدّين أَبى حَيَّان الأندلسى النحوى لما دخل الشَّيْخ إِلَى مصر وَاجْتمعَ بِهِ قَالَ أبياتا لم يقل خيرا مِنْهَا وَلَا أفحل
(لما رَأينَا تقى الدّين لَاحَ لنا ... دَاع إِلَى الله فَرد مَاله وزر)
(على محياه من سِيمَا الأولى صحبوا ... خير الْبَريَّة نور دونه الْقَمَر)
(حبر تسربل مِنْهُ دهره حبرًا ... بَحر تقاذف من أمواجه الدُّرَر) (قَامَ ابْن تَيْمِية فى نصر شرعتنا ... مقَام سيد تيم إِذْ عَصَتْ مُضر)
(فأظهر الْحق إِذا آثاره درست ... وأخمد الشّرك إِذْ طارت لَهُ شرر)
(يَا من يحدث عَن علم الْكتاب أصخ ... هَذَا الإِمَام الذى قد كَانَ ينْتَظر)
وَأما مناظرته للخصوم وإفحامهم وقطعهم لَدَيْهِ فَهُوَ ظَاهر وَكتبه الَّتِى صنفها فهى أشهر من أَن تذكر وتعرف فَإِنَّهَا سَارَتْ مسير الشَّمْس فى الأقطار وامتلأت بهَا الْبِلَاد والأمصار وَقد جَاوَزت حد الْكَثْرَة فَلَا يُمكن أحد حصرها وَلَا يَتَّسِع هَذَا الْمَكَان لعَدهَا
وَله اختيارات غَرِيبَة جمعهَا بَعضهم فى مُجَلد لطيف
وَوَقع لَهُ أُمُور وأحوال قَامَ عَلَيْهِ فِيهَا المعاند والحاسد إِلَى أَن وصل الْحَال بِهِ أَن وضع فى قلعة دمشق فى مقَام أَبى الدَّرْدَاء رضى الله عَنهُ سنة سِتّ وَعشْرين فى شعْبَان إِلَى ذى الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين ثمَّ مرض أَيَّامًا وَلم يعلم أَكثر النَّاس مَرضه
وَتوفى سحر لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ الْعشْرين من الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة
وَذكره مُؤذن القلعة على مَنَارَة الْجَامِع وَتكلم بِهِ الحرس وَاجْتمعَ النَّاس وَلم تفتح الْأَسْوَاق الْمُعْتَادَة بِالْفَتْح أول النَّهَار وَاجْتمعَ عِنْده خلق يَبْكُونَ ويثنون خيرا وَأخْبرهمْ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا ختما فى القلعة ثَمَانِينَ ختمة والحادية والثمانين أنتهيا فِيهَا إِلَى قَوْله تَعَالَى (إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر) وابتدأ عِنْده جمَاعَة فى الْقِرَاءَة من سُورَة الرَّحْمَن إِلَى خَتمه
وَلم يفرغ من غسله حَتَّى امْتَلَأَ أَكثر القلعة بِالرِّجَالِ فصلى عَلَيْهِ بدركاتها الشَّيْخ الزَّاهِد مُحَمَّد بن تَمام وضج النَّاس ثمَّ خَرجُوا بِهِ إِلَى جَامع دمشق وَكثر الْجمع حَتَّى يُقَال إِنَّه فاق جَمِيع الْجمع ثمَّ وضع عِنْد مَوضِع الْجَنَائِز حَتَّى صليت الظّهْر ثمَّ صلى عَلَيْهِ نَائِب الْخَطِيب عَلَاء الدّين الْخَرَّاط لغيبة القزوينى ثمَّ خَرجُوا بِهِ من بَاب الْفرج وَكثر الزحام وَخرج النَّاس من غَالب أبياب الْبَلَد ثمَّ صلى عَلَيْهِ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرَّحْمَن بسوق الْخَيل وَدفن وَقت صَلَاة الْعَصْر بالصوفية إِلَى جَانب أَخِيه شرف الدّين
وحزر الرِّجَال بستين ألفا وَأكْثر وَالنِّسَاء بِخَمْسَة عشر ألفا وَظهر بذلك قَول الإِمَام بَيْننَا وَبينهمْ الْجَنَائِز
وَختم لَهُ ختمات كَثِيرَة وَتردد النَّاس إِلَى قَبره ورؤيت لَهُ مقامات حَسَنَة وتأسف النَّاس لفقده رضى الله عَنهُ

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين. 

 

[شيخ الإسلام] أحمدُ بنُ عبد الحليم بنِ عبدِ السلام، ابن تيمية، الحرانيُّ، الدمشقيُّ، الحنبليُّ، تقيُّ الدين، أبو العباس.
قال الشوكاني في كتاب "شرح الصدور في تحريم رفع القبور": هو الإمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها، انتهى. وقال ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار": هو العلامة الحافظ المجتهد الحجة، المفسر، شيخ الإسلام، نادرة العصر، عَلَم الزهاد.
وقال ابن رجب: هو الإمام الفقيه المجتهد، المحدث المفسر الأصولي.
وقال الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي في "تذكرة الحفاظ": هو شيخنا الإمام الرباني، إمامُ الأئمة، ومفتي الأمة، بحرُ العلوم، سيدُ الحفاظ، فارسُ المعاني والألفاظ، فريدُ العصر، قريعُ الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، ترجمة القرآن، علم الزهاد، أوحد العباد، قامع المبتدعين، علامة المجتهدين.
وقال في "البدر الطالع": شيخ الإسلام، إمام الأئمة، المجتهد المطلق، ولد سنة 661.
قال ابن حجر في "الدرر": نظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتقدم وصنف، ودرَّس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف، انتهى.
وأقول أنا: لا أعلم بعدَ ابن حزم مثلَه، وما أظنُّ سمحَ الزمان ما بين عصرَي الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما. قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضى منه العجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، استدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد؛ لاجتماع شروطه، وما رأيت أسرعَ انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشدَّ استحضارًا للمتون وعزوها منه. كانت السنة نصبَ عينيه، وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، قال: ولعل فتاواه في الفنون تبلغ ثلاث مئة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان أبيضَ، أسودَ الرأس واللحية، قليلَ الثيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعةَ من الرجال، بعيدَ ما بين المنكبين، جهوريَّ الصوت، فصيحًا، سريعَ القراءة، تعتريه حدة، لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله، وكثرة توجهه إليه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث، وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك، لكان كلمةَ إجماع، فإنَّ كبارَهم خاضعون لعلمه، معترفون بأنه بكر لا ساحلَ له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكلُّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الذهبي: وما كان متلاعبًا بالدين، ولا يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أسوة لمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته، انتهى.
قال الشوكاني: ومع هذا، فقد وقع له مع أهل عصره قلائل وزلازل، وامتُحن مرة بعد أخرى، وحُبس حبسًا بَعد حبس، وجرت فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه: فبعضٌ منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه، بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه، ويجاوز به الحدَّ، ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية، ويفوق أهل عصره، ويدين بالكتاب والسنة؛ فإنه لا بد أن يستنكره المقصرون، ويقع له معهم محنة، ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين، ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره، وهكذا كان حال هذا الإمام؛ فإنه بعد موته عرف الناس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه، إلا من لا يُعتد به، وطارت مصنفاته، واشتهرت مقالاته، انتهى.
وقد ترجم له جماعات، منهم: الشهاب ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار"، وكتب ترجمة حسنة طويلة عريضة كاملة، ومنهم: العلامة ابن رجب الحنبلي في "طبقاته"، وأثنى عليه ثناء كثيرًا، ومنهم: ابن شاكر صاحب "فوات الوفيات"، ومنهم: الشيخ مرعي، وسماها: "الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية"، ومنهم: الحافظ ابن عبد الهادي، ترجم له في مجلد مفرد ومنهم: أبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي، كتب كراريس في ترجمته، ومنهم: العلامة صفي الدين أحمد البخاري نزيل نابلس، وسماها: "القول الجلي"، وقرض عليه العلامة مفتي القدس محمد الباقلاني، ومحدث الشام محمد الكربزي الشافعي، ومنهم: العلامة نجم الدين أبو الفضل، أنشد قصيدة حسنة طويلة في مدحه وثنائه.
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - في حقه: شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، عُني بالحديث، وسمع "المسند" مرات، والكتب الستة، ومعجم الطبراني "الكبير"، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، وبرع في ذلك، وقرأ في العربية، وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكمَ أصول الفقه والفرائض والحساب، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون عشرين سنة، وأفتى من قبل عشرين أيضًا، وأمد بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم وبطوء النسيان، حتى قال غير واحد أنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه.
وحصر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين المرجل، وابن المنجا وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة - وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة والحاضرون وأثنوا عليه ثناء كثيرًا.
قال الذهبي: وكان الفزاري يبالغ في تعظيمه، وذكر على الكرسي يوم الجمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين وسعوا في منعه من الجلوس فلم يمكنهم ذلك، وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخوي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين فعوتب في ذلك، فقال لأن ذهنه صحيح ومواده كثيرة فهو لا يقول إلا الصحيح. وقال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعائه وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البزار إلي في تاريخه، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره، قال الذهبي: شيخنا وشيخ الإسلام فريد الزمان علمًا ومعرفة وشجاعة وذكاء وتنويرًا إلهيًا وكرمًا ونصحًا للأمة وآمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، وسمع الحديث وأكثر بنفسه في طلبه، وكتب ونظر في الرجال والطبقات وحصل ما لم يحصل غيره، برع في تفسير القرآن وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ مَنْ يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوا إلى أصوله مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا وتعليلاً واختلافًا، ونظر في العقليات وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم ونبَّه على خطئهم وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبره براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحصنة حتى أعلن الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكتب أعدائه وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا وعلى طاعته، ويضيء به الشام بل الإسلام بعد أن كاد يتثلم بتشبيه الأمر لما أقبل حرب "التتر" والبغي في خيلائهم، وظننت بالله الظنون وزلزل المؤمنون واشرأب النفاق وأبدى صفحته ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام وبالطلاق ألف طلقة أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثلَ نفسه، ما حنثتُ، وقد قرأت بخط الشيخ العلامة شيخِنا كمالِ الدين بنِ الزملكاني ما كتبه سنة بضع وسبعين تحت اسم: "ابن تيمية": كان إذا سُئل عن فن من العلم، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غيرَ ذلك، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا، استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أنه ناظرًا أحدًا، فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع، أو غيرها - إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
قال ابن رجب: قلت: وقد عُرض عليه قضاءُ القضاة، ومشيخةُ الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك، أثنى عليه ابنُ سيد الناس ثناء بالغًا حسنًا، وكتب الذهبي في "تاريخه الكبير" ترجمة مطولة له، قال فيها: لا يبلغ أحدٌ في العصر رتبتَه، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة، و"المسند" بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية، فليس بحديث.
قال: فلقد كان عجبًا في معرفة علم الحديث، ولقد كتب "الحموية" في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه. وقد ترجم له ابن الزملكاني ترجمة عظيمة، وأثنى عليه ثناء عظيمًا. ومدحه أبو حيان الأندلسي نظمًا حسنًا. وقال له ابن دقيق العيد عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أن الله فيما بقي يخلق مثلك.
قال ابن رجب: ومما وجد في كتاب كتبه العلامة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمره: أما قول سيدي في الشيخ، فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدرُه في نفسه أكبرُ من ذلك وأجلُّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان، انتهى.
قلت: وأبو الحسن السبكي - هو السبكي الكبير - كما صرح بذلك ابن مفلح في "طبقاته"، وقد قال بعض السفهاء: إن علمه كان زائدًا على عقله؛ يشير بذلك إلى قلة فهمه، كأن القائل بهذا القول لم يقف على ما أثنى به عليه جمعٌ جَمٌّ من الأئمة الكبار بالذكاء وقوة الدرك، وبلوغه في المعقولات مبلغًا عظيمًا، والزهد، فأين هذا يقع من ذاك؟ ولكن من أعمى الله بصر بصيرته، فهو يرى الشمس مظلمة، هذا السبكي عدوُّه، والرادُّ عليه قد أقر له في كتابه هذا بما أقر، ولنعم ما قيل:

وإذا أتتكَ مَذَمَّتي من ناقِص ... فهيَ الشهادةُ لي بأنِّي كامِلُ
وكان الحافظ المزي يبالغ [في] تعظيم الشيخ، والثناء عليه، حتى كان يقول: لم ير مثله منذ أربع مئة سنة، وقال ابن رجب: بلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني: أنه سئل عن الشيخ، فقال: لم نر من خمس مئة سنة أو أربع مئة سنة - الشك من الناقل، وغالب ظنه أنه قال: من خمس مئة سنة - أحفظَ منه. وكذلك المشايخ العارفون؛ كالقدوة محمد بن قوام. ويحكى أنه كان يقول: ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية، والشيخ عماد الدين الواسطي كان يعظمه جدًا، ويتلمذ له، مع أنه كان أسنَّ منه، وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامُه في بعض الأمور مقامَ الصديقين.
وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فيها أنه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم ير فيها مثل الشيخ عملاً وعلمًا، وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات، ثم قال: أصدقُ الناس عقلاً، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذُهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما رأينا في عصرنا هذا من يستجلي النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل؛ بحيث يشهد القلب الصحيح - أن هذا هو الاتباعُ حقيقة.
قال: وطوائفُ من أئمة الحديث، حُفَّاظُهم وفقهاؤهم كانوا يحبون الشيخ، ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغلَ مع أهل الكلام ولا الفلاسفة كما هو طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ مثل الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، ونحوهم، وكذلك كثير من الفقهاء وغيرهم كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل التي أنكرها السلف على من شذ بها.
أقول: وهذا الإنكار منهم عليه إنكار جاهل على عالم، والمرء عدو لما جهل، والذي تفرد به شيخ الإسلام من بعض المسائل قد أثبته جماعةٌ من أهل العلم بالأدلة الصحيحة المحكمة الثابتة، وذبوا جنابه الرفيع عن تلك الإيرادات، ولهذا قال الذهبي: غالبُ حَطَّه على الفضلاء والمتزهدة حقٌّ، وفي بعضه هو مجتهد، ولا يُكفر أحدٌ إلا بعد قيام الحجة عليه، قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج ببراهينَ ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجَسُر هو عليها حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيدَ عليه، وبَدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن بحال، ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وقوة عقله وفهمه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله؛ فإنه دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، وله من الشطر الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائرُ العامة تحبه؛ لأنه منتصف لنفعهم ليلاً ونهارًا بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته، فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وكان شقحب يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته.
وله نظم قليل وسط، ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل، وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت، وما رأيت في العالم أكرمَ منه، ولا أفرغَ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيامٌ مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مالَ له، وملبوسه كآحاد الفقهاء، ولم يحن [رأسه] لأحد قط، وإنما يسلِّم، ويصافح، ويتبسم.
وأما محنه، فكثيرة، وشرحها يطول جدًا، منها: أنه امتحن - في سنة 705 - بالسؤال عن معتقده - بأمر السلطان -، فجمع نائبُه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر من داره "العقيدة الواسطية" فقرؤوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سنية سلفية، ومنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا، وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف.
وفي آخر الأمر دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك بالتنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا - رأسهم القاضي الأحنائي المالكي -، وحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا، وبها مات - رحمه الله تعالى -. ووافقه جماعة من علماء بغداد، وكذلك أبناء أبي الوليد - شيخ المالكية بدمشق - أفتيا: أنه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأنه نقل خلف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين، قال الحافظ ابن القيم: سمعت ابن تيمية - قدس الله روحه ونَوَّرَ ضريحه - يقول في الحبس: إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخر. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان في حبسه يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير، ونحو هذا. وقال مرة: المحبوس مَنْ حُبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إلى القلعة، وصار داخل سورها، نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، انتهى حاصله.
قال ابن رجب: وأما تصانيفه، فهي أشهر من أن تذكر، وأعرفُ من أن تنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرُها، ولا يتسع هذا المكان لعد المعروف منها، ولا ذكرها، ثم ذكر نبذة من أعيان مصنفاته الكبار، ثم ذكر طرفًا من مفرداته وغرائبه، منها: أنه اختار ارتفاع الحدث بالمياه المُعْتَصَرة؛ كالورد ونحوه.
واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرَّجل إلى معالجته باليد، أو بالرجل الأخرى؛ فإنه يجوز عنده المسحُ عليه مع القدمين. واختار أن المسح على الخفين لا يتوقت على الحاجة كالمسافرة على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خير البريد، ويتوقت مع إمكان النزع وتيسره، واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها. واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور؛ كمن أخر الصلاة عمدًا حتى تضايقَ وقتُها، وكمن خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محِدث، فأما من استيقظ، أو ذكر في آخر وقت الصلاة، فإنه يتطهر بالماء، ويصلي؛ لأن الوقت متسع في حقه، واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، وشق عليها النزول إلى الحمام وتكرره، فإنها تتيمم وتصلي. واختار أن لا حدَّ لأقلَّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض، وأن ذلك يرجع إلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أن تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له الطهارة.
قلت: وهذه المسائل غالبُها مبرهنة في مواضعها بالأدلة الصحيحة الدالة عليها، وقد ذهب إليها ذاهبون من أهل العلم قديمًا وحديثًا.
ثم ذكر ابن رجب وفاته - رحمه الله -، وقال: مرض الشيخ في القلعة بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلا موته، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة سنة 728، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس في ذلك، وبعضُهم أُعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة، حتى أهل الغوطة، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أول النهار، وفتح باب القلعة، واجتمع خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبر أخوه أنه منذ دخل القلعة ختم ثمانين ختمة، وانتهى إلى قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].
صلى عليه الزاهدُ القدوة محمدُ بن تمام، وأُخرج إلى جامع دمشق، وكان الجمع أجمع من جمع الجمع، ثم ساروا به والناس في بكاء وثناء وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة، وكان يومًا مشهودًا لم يُعهد بدمشق مثلُه، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إلا الضعفاءُ والمخدَّرات، وصرخَ صارخ: هكذا يكون جنائزُ أهل السنة، فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى، وخرج الناس من أبواب المدينة كلها، ودُفن وقت العصر، وحُزر الرجال بستين ألفًا إلى مئة ألف وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. ظهر بذلك قول الإمام أحمد: بيننا وبينَ أهل البِدع يومُ الجنائز، وخُتم له ختماتٌ كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إلىَ زيارة قبره أيامًا كثيرة ليلاً ونهارًا. ورئيت له منامات كثيرة صالحة، ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده، وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإسلام - القريبة والبعيدة -، حتى في اليمن والصين، وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة: الصلاة على ترجمان القرآن!.
قال ابن رجب: وقد أفرد الحافظ محمدُ بنُ عبد الهادي له ترجمة في مجلدة، وكذلك أبو حفص عمرُ بنُ علي البغدادي البزار في كراريس، وإنما ذكرنا ها هنا على وجه الاختصار، وقد حدث الشيخ كثيرًا، وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث، وخرج له ابن الواني أربعين حديثًا حدث بها، انتهى. قلت: وقد اختصرت هذه الترجمة من الترجمة المختصرة التي ذكرها ابن رجب مع زيادة بعض ألفاظ عليها، فإن شئت أن تطلع على جملتها، فعليك بالمجلدات الكبار، والتراجم الحوافل التي كتبها الأئمة الكبار مستقلة مفردة، والله يختص برحمته من يشاء، ويدخل من يشاء في رحمته.

قال في "الروضة الغناء": ولد سنة 661، وأفتى ودرَّس، وصنف التصانيف البديعة الكثيرة، وجرت له محن كثيرة إلى أن توفي، ودفن بمقبرة الصوفية، انتهى.
وقال المعلم بطرس البستاني، في "دائرة المعارف": وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله تصانيف ومؤلفات، وقواعد وفتاوى، وأجوبة ورسائل، وتعاليق كثيرة، انتهى. وذكر منها نبذة، ثم قال: فلما رأى أهل بلاده ما كان له من الشهرة ورفعة الشأن، دبَّ في قلوبهم الحسد، وأكبَّ أهل النظر منهم بما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عليه في ذلك كلامًا، قد أوسعوا لثلبه ملامًا، وفَوَّقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقراء إلى طريقة، ويزعمون أنهم على طريق أدق باطنًا منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم موابق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضعف عليه من مقاتليه، فوصَّلوا إلى الأمراء أمرَه، وأعمل كل منهم في كفره فكرَه، فرتبوا الحاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، قال: فرد الله كيد كل في نحره ونجاه، والله غالب على أمره، انتهى حاصله.
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.

 

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم بن محمد بن تيمية.
مفتى الشام ومحدثه وحافظه.
كان يرتكب شواذ الفتاوى، ويزعم أنه مجتهد مصيب. سمع من ابن عبد الدائم وابن أبى اليسر وابن أبى الخير وابن عطاء وابن عساكر وابن البخارى: فخر الدين وله تآليف.
مولده سنة 661 بحران (5) ذكره ابن جابر فى شيوخه.

قال عنه ابن كثير: قرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث وكتب الطباق والأثبات، وقل أن سمع شيئا الا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ، فصار اماما فى التفسير وما يتعلق به، عارفا بالفقه، فيقال: انه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا فى زمانه وغيره وكان عالما باختلاف العلماء عالما فى الأصول والفروع والنحو واللغة. وما قطع فى مجلس وأما الحديث فكان حامل رأيته. . الخ. وقال ابن الزملكانى: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها ثم جرت له محن فى مسألة الطلاق الثلاث، وشد الرحال الى قبور الأنبياء الصالحين وحبب للناس القيام عليه وحبس مرات بالقاهرة والاسكندرية ودمشق 50 الخ. كانت وفاته عام 728 راجع ترجمته فى البداية والنهاية 14/ 135 - 141، والدرر الكامنة 1/ 144 - 165 والنجوم الزاهرة 9/ 271 - 272، والمنهل الصافى 1/ 336 - 340، وتذكرة الحفاظ 4/ 278 وذيل طبقات الحنابلة 2/ 387 وشذرات الذهب 6/ 80 وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2/ 28 وفوات الوفيات 1/ 62 - 82 وقد بلغ بعضهم بمؤلفاته خمسمائة وبعضهم أربعة آلاف منها: منهاج السنة النبوية فى نقض كلام الشيعة والقدرية، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، والايمان، والاستقامة، والسياسة الشرعية فى اصلاح الراعى والرعية، والفرقان بين أولياء الرحمن وحزب الشيطان. . الخ

ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال في أسماء الرّجال» المؤلف: أبو العبّاس أحمد بن محمّد المكناسى الشّهير بابن القاضى (960 - 1025 هـ‍)