محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر أبي بكر بن الحداد المصري

الكناني

تاريخ الولادة265 هـ
تاريخ الوفاة345 هـ
العمر80 سنة
مكان الولادةغير معروف
مكان الوفاةالقاهرة - مصر
أماكن الإقامة
  • بغداد - العراق
  • مصر - مصر

نبذة

- مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الإِمَام الْجَلِي أَبِي بكر بن الْحداد المصري وَأخذ الْفِقْه عَن أَبى سعيد مُحَمَّد بن عقيل الفريابى وَبشر بن نصر غُلَام عرق وَمَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الضَّرِير وَاجْتمعَ أَيْضا بالصيرفى وبالإصطخرى وَلم يتهيأ لَهُ الِاجْتِمَاع بأبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فَكَانَ يتأسف وَيَقُول وددت أَنى رَأَيْت ابْن سُرَيج وأنى أحم فى كل لَيْلَة إِلَى أَن أَمُوتوَكَانَ عَارِفًا بِالْحَدِيثِ والأسماء والكنى والنحو واللغة وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَأَيَّام النَّاس وسير الْجَاهِلِيَّة حَافظ لشئ كثير من الشّعْر.

الترجمة

مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الإِمَام الْجَلِي أَبِي بكر بن الْحداد المصري
صَاحب الْفُرُوع وساحب ذيل الْفضل الذى هُوَ على الرؤوس مَحْمُول وعَلى الْعُيُون مَوْضُوع ذُو الفكرة المستقيمة والفطرة السليمة فكره فى محتجبات الْمعَانى سَارِيَة وفى سَمَاء المعالى سامية وقريحه عَجِيبَة الْحَال مَا أَدْرَاك مَاهِيَّة نَار حامية إِمَام لَا يدْرك مَحَله وجواد لَا يجاريه إِلَّا ظله سَارَتْ مولداته فى المغارب والمشارق وطرق فكره الأسماع وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق وناطق قَالَ فَكَانَ لَهُ من القَوْل بسيطه ووجيزه ومصرى صَحَّ على نقد الأذهان إبريزه ووضح حليه فعوذ من شَرّ الوسواس الخناس واصطفت الْأَئِمَّة مَعَه فَقَالَ لِسَان الْحق مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ
(يقف التَّوَهُّم عَنهُ حِدة ذهنه ... فَقضى على غيب الْأُمُور تَيَقنا)
(أمضى إِرَادَته فَسَوف لَهُ قد ... واستقرب الْأَقْصَى فتم لَهُ هُنَا)
ولد يَوْم موت المزنى
وَأخذ الْفِقْه عَن أَبى سعيد مُحَمَّد بن عقيل الفريابى وَبشر بن نصر غُلَام عرق وَمَنْصُور بن إِسْمَاعِيل الضَّرِير
وجالس أَبَا إِسْحَاق المروزى لما ورد مصر
وَدخل بَغْدَاد سنة عشر وثلاثمائة فَاجْتمع بجرير وَأخذ عَنهُ وَاجْتمعَ أَيْضا بالصيرفى وبالإصطخرى وَلم يتهيأ لَهُ الِاجْتِمَاع بأبى الْعَبَّاس ابْن سُرَيج فَكَانَ يتأسف وَيَقُول وددت أَنى رَأَيْت ابْن سُرَيج وأنى أحم فى كل لَيْلَة إِلَى أَن أَمُوت

وَأخذ الْعَرَبيَّة عَن مُحَمَّد بن ولاد
وَسمع الحَدِيث من جمَاعَة مِنْهُم مُحَمَّد بن عقيل الفريابى الْفَقِيه وَأَبُو يزِيد القراطيسى وَعمر بن مِقْلَاص والنسائى وَغَيرهم وَلكنه لم يحدث عَن غير النسائى
قَالَ الدارقطنى كَانَ ابْن الْحداد كثير الحَدِيث وَلم يحدث عَن غير أَبى عبد الرَّحْمَن النسائى وَقَالَ جعلته حجَّة فِيمَا بينى وَبَين الله تَعَالَى
وَكَانَ كثير التَّعَبُّد يخْتم كل يَوْم وَلَيْلَة ويصوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيخْتم يَوْم الْجُمُعَة ختمة أُخْرَى فى رَكْعَتَيْنِ فى الْجَامِع قبل الصَّلَاة سوى الَّتِى يختمها كل يَوْم
وَكَانَ عَارِفًا بِالْحَدِيثِ والأسماء والكنى والنحو واللغة وَاخْتِلَاف الْفُقَهَاء وَأَيَّام النَّاس وسير الْجَاهِلِيَّة حَافظ لشئ كثير من الشّعْر
وَكَانَ حسن الثِّيَاب رفيعها حسن المركوب
وَولى الْقَضَاء بِمصْر نِيَابَة لِابْنِ هروان الرملى وَلغيره أَيْضا
وَكَانَ نَسِيج وَحده فى حفظ الْقُرْآن إِمَام عصره فى الْفِقْه بحرا وَاسِعًا فى اللُّغَة تجمل بِهِ وجوده يجلس فى خلْوَة للشغل بِالْعلمِ فيغشى حلقته الجم الْغَفِير الَّذين يفوتون الْحصْر وَله كلمة نَافِذَة عِنْد الْمُلُوك وجاه رفيع
وَأما غوصه على الْمعَانى الدقيقة وَحسن استخراجه للفروع المولدة فقد أجمع النَّاس على أَنه فَرد فى ذَلِك وَلم يلْحقهُ أحد فِيهِ
وَله كتاب الباهر فى الْفِقْه قيل إِنَّه فى مائَة جُزْء وَكتاب أدب الْقَضَاء فى أَرْبَعِينَ جُزْءا وَكتاب جَامع الْفِقْه وَكتاب الْفُرُوع المولدات الْمُخْتَصر الْمَشْهُور الذى شَرحه عُظَمَاء الْأَصْحَاب مِنْهُم الْقفال وَالشَّيْخ أَبُو على السنجى والقاضى أَبُو الطّيب الطبرى والقاضى الْحُسَيْن المروزى وَغَيرهم
قَالَ الرافعى فى كتاب الْعدَد من الشَّرْح وَنقل القاضى الرويانى فى جمع الْجَوَامِع أَن الإِمَام أَبَا بكر بن الْحداد كَانَ فقيد الخصية الْيُمْنَى وَكَانَ لَا ينزل وَكَانَت لحيته طَوِيلَة

وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت الدارقطنى يَقُول سَمِعت أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم ابْن مُحَمَّد الْمعدل النسوى الْمعدل بِمصْر يَقُول سَمِعت أَبَا بكر بن الْحداد وَذكره بِالْفَضْلِ وَالدّين وَالِاجْتِهَاد يَقُول أحدث نفسى بِمَا رَوَاهُ الرّبيع عَن الشافعى أَنه كَانَ يخْتم فى رَمَضَان سِتِّينَ ختمة سوى مَا كَانَ يقْرَأ فى الصَّلَاة فَأكْثر مَا قدرت عَلَيْهِ تسعا وَخمسين ختمة وأتيت فى غير رَمَضَان بِثَلَاثِينَ ختمة
قلت وفى ابْن الْحداد يَقُول بَعضهم
(الشافعى تفقها والأصمعى ... م تفننا والتابعون تزهدا)
وَقَالَ ابْن زولاق فى شَوَّال سنة أَربع وَعشْرين وثلاثمائة سلم مُحَمَّد بن طغج الإخشيد قَضَاء مصر إِلَى أَبى بكر بن الْحداد وَكَانَ أَيْضا ينظر فى الْمَظَالِم ويوقع فِيهَا فَنظر فى الحكم خلَافَة عَن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أبي زرْعَة مُحَمَّد بن عُثْمَان الدمشقى وَهُوَ لَا ينظر وَكَانَ يجلس فى الْجَامِع وفى دَاره وَرُبمَا جلس فى دَار ابْن أَبى زرْعَة وَوَقع فى الْأَحْكَام وَكَاتب خلفاء النواحي
وَكَانَ فَقِيها متعبدا يحسن علوما كَثِيرَة مِنْهَا علم الْقُرْآن وَقَول الشافعى وَعلم الحَدِيث والأسماء والكنى وسير الْجَاهِلِيَّة وَالشعر وَالنّسب ويحفظ شعرًا كثيرا ويجيد الشّعْر
وَيخْتم كل يَوْم وَلَيْلَة فى صَلَاة ويصوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيخْتم يَوْم الْجُمُعَة ختمة أُخْرَى فى رَكْعَتَيْنِ فى الْجَامِع قبل صَلَاة الْجُمُعَة سوى الَّتِى يختمها كل يَوْم
حسن الثِّيَاب رفيعها حسن المركوب فصيحا غير مطعون عَلَيْهِ فى لفظ وَلَا فضل ثِقَة فى الْيَد والفرج وَاللِّسَان مجموعا على صيانته وطهارته
كَانَ من محَاسِن مصر حاذقا بِعلم الْقَضَاء أَخذ ذَلِك عَن أَبى عبيد القاضى
إِلَى أَن قَالَ وكل من وقف على مَا ذَكرْنَاهُ يَقُول صدقت

ثمَّ قَالَ وَكَانَ من محبته للْحَدِيث لَا يدع المذاكرة وَكَانَ يَنْقَطِع إِلَيْهِ أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد ابْن سعد الباوردى الْحَافِظ فَأكْثر عَنهُ من مصنفاته فذاكره يَوْمًا بِأَحَادِيث فاستحسنها أَبُو بكر وَقَالَ اُكْتُبْهَا لى فكتبها لَهُ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا مَنْصُور اجْلِسْ فى الصّفة فَفعل فَقَامَ أَبُو بكر وَجلسَ بَين يَدَيْهِ وسمعها مِنْهُ وَقَالَ هَكَذَا يُؤْخَذ الْعلم فَاسْتحْسن النَّاس ذَلِك مِنْهُ
وَكَانَت أَلْفَاظه تتبع وَأَحْكَامه تجمع ورميت لَهُ رقْعَة فِيهَا
(قولا لحدادنا الْفَقِيه ... والعالم الماهر الْوَجِيه)
(وليت حكما بِغَيْر عقد ... وَغير عهد نظرت فِيهِ)
(ثمَّ أبحت الْفروج لما ... وَقعت فِيهَا على البديه)
فى أَبْيَات يعْنى أَن مَادَّة ولَايَته من الإخشيد لَا من الْخَلِيفَة
وَقد أجَاب عَن هَذِه الأبيات جمَاعَة
ثمَّ قَالَ وَلم يزل ابْن الْحداد يخلف ابْن أَبى زرْعَة فى الْقَضَاء إِلَى آخر أَيَّامه وَكَانَ ابْن أَبى زرْعَة يتأدب مَعَه ويعظمه وَلَا يُخَالِفهُ فى شىء
قلت وماأحسن قَول ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب فى حق ابْن الْحداد بعد مَا نَصره فى فَرعه الْمَشْهُور بِأَنَّهُ وهم فِيهِ وَهُوَ مَا إِذا أوصى بِعَبْد لِرجلَيْنِ يعْتق على أَحدهمَا الْقَصْد دفع نِسْبَة هَذَا الإِمَام الْجَلِيل عَن الْغَلَط إِلَى أَن قَالَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ الإِمَام فى حق الحليمى إِمَام غواص لَا يدْرك كنه علمه الغواصون والبلدية عِلّة جَامِعَة للنصرة فَإِنَّهُ مصرى انْتهى
وَلَيْسَ هُوَ كَقَوْل الرافعى فى كتاب الطَّلَاق إِن ابْن الْحداد فَوق مَا قَالَ إِلَّا أَن الْعجب أَخذ بِرجلِهِ فزل

حج ابْن الْحداد وَمرض فَلَمَّا وصل إِلَى الْجب توفى عِنْد الْبِئْر والجميزة يَوْم الثُّلَاثَاء لأَرْبَع بَقينَ من الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَقيل سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة وَهُوَ يَوْم دُخُول الْحَاج إِلَى مصر وعاش تسعا وَسبعين سنة وشهورا ثَمَانِينَ سنة إِلَّا قَلِيلا وَصلى عَلَيْهِ يَوْم الْأَرْبَعَاء وَدفن بسفح المقطم عِنْد قبر والدته وَحضر أَبُو الْقَاسِم الإخشيد وَأَبُو الْمسك كافور والأعيان جنَازَته
وَمن الْفَوَائِد وَالْملح والمسائل عَن أَبى بكر
كَادَت الْمُلَاعنَة بَين زَوْجَيْنِ تقع فى زَمَانه وَذَلِكَ أَنه تقدم إِلَيْهِ رجل أنماطى فَجحد بِنْتا من مولاة لَهُ كَانَ قد أعْتقهَا وَتَزَوجهَا فشرع أَبُو بكر فى اللّعان وتهيا لَهُ وعزم على المضى إِلَى الْجَامِع الْعَتِيق بِمصْر بعد الْعَصْر وَأَن يجلس على الْمِنْبَر وَيُقِيم الرجل وَالْمَرْأَة
وَعين وَاحِدًا من جُلَسَائِهِ لِأَن يضْرب على فَم الرجل بعد فَرَاغه من الشَّهَادَة الرَّابِعَة ويخوفه من قَول الْخَامِسَة وَيَقُول إِنَّهَا مُوجبَة
وَعين امْرَأَة تضرب على فَم الْمَرْأَة أَيْضا عِنْد فراغها من الشَّهَادَة الرَّابِعَة وَتقول لَهَا مثل مَا قيل للرجل
وتبادر النَّاس وازدحموا على الِاجْتِمَاع وَحَضَرت الشُّهُود فحسده أَبُو الذّكر المالكى الذى كَانَ حَاكما بِمصْر قبله على شرف هَذَا الْمجْلس وترفق بِالرجلِ حَتَّى اعْترف بالبنت وَسَأَلَ الزَّوْجَة إعفاءه من الْحَد
فَمَا علم أَبُو بكر بِفِعْلِهِ وَأَبُو بكر من أذكى الْخلق قريحة أَمر بِأَن تحمل الْبِنْت على كتف أَبِيهَا وَأَن يُطَاف بِهِ فى الْبَلَد وينادى عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي جحد ابْنَته فَاعْرِفُوهُ
وَهَذَا التَّعْزِير على هَذَا الْوَجْه من ذكائه وَقد عمله فى مُقَابلَة مَا عمل عَلَيْهِ فى المكيدة

ولأبى بكر فى هَذَا أُسْوَة بمعلمه الْقَضَاء وَهُوَ أَبُو عبيد بن حربوية فَإِنَّهُ كَانَ يرى أَن الطِّفْل إِذا أسلمت أمه دون أَبِيه لَا يتبعهَا فِي الْإِسْلَام وَإِنَّمَا يتبع الْأَب وَهُوَ رأى شَيْخه أَبى ثَوْر فَأسْلمت امْرَأَة ذِمِّيَّة وَلها ولد طِفْل وَلم يسلم الْأَب وَمَات فَدس على أَبى عبيد من يسْأَله الحكم بِبَقَاء كفر الطِّفْل تبعا لِأَبِيهِ فتفطن إِلَى أَنه إِن فعل ذَلِك قَامَت عَلَيْهِ الغوغاء ونصحه أَبُو بكر ابْن الْحداد نَفسه وَقَالَ لَهُ لَا تعْمل بِهَذَا وَإِيَّاك وَالْخُرُوج فِيهِ عَن مَذْهَب الشافعى فَإنَّك إِن فعلت ذَلِك نالك الْأَذَى من الْخَاصَّة والعامة وَعلم أَنه إِن لم يفعل خرج عَن معتقده
فَلَمَّا جلس أَبُو عبيد فى الْجَامِع اجْتمع الْخلق بِهَذَا السَّبَب الْمبيت عَلَيْهِ بلَيْل وَقَامَ رجل على سَبِيل الاحتساب وَقَالَ أيد الله القاضى هَذِه الْمَرْأَة أسلمت وَلها هَذَا الطِّفْل فَيكون مُسلما أَو على دين أَبِيه فَقَالَ أَيْن أَبوهُ وَقد كَانَ علم أَنه مَاتَ فَقَالُوا مَاتَ فَقَالَ شَاهِدين يَشْهَدَانِ أَنه مَاتَ نَصْرَانِيّا وَإِلَّا فالطفل مُسلم
فَكثر الدُّعَاء لَهُ والضجيج من الْعَامَّة وَستر علمه بفهمه
ذكر أَبُو عَاصِم العبادى أَن ابْن الْحداد ذكر فى فروعه أَن الذمى إِذا زنا وَهُوَ مُحصن ثمَّ نقض الْعَهْد وَلحق بدار الْحَرْب ثمَّ اسْترق أَنه يرْجم
قلت وَلم أجد هَذَا فى شىء من نسخ الْفُرُوع الَّتِى وقفت عَلَيْهَا بل وجدته فى شرحها للشَّيْخ أَبى على السنجى وَعبارَته ينبغى أَن يرْجم والواقف عَلَيْهِ لَا يكَاد يشك فى أَنه من كَلَام أَبى على لَا من كَلَام ابْن الْحداد
قَالَ ابْن الْحداد فى فروعه وَلَو أَن وَصِيّا على يَتِيم ولى الحكم فَشهد عَدْلَانِ بِمَال لأبى الطِّفْل على رجل وَهُوَ مُنكر لم يكن لَهُ أَن يحكم حَتَّى يصير إِلَى الإِمَام أَو الْأَمِير فيدعى على الْمَشْهُود عَلَيْهِ
هَذَا لَفظه وَعلله شارحوه بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون خصما ومدعيا للصبى وَهُوَ الْحَاكِم

وَمن كَانَ خصما فى حُكُومَة لم يجز أَن يكون حَاكما فِيهَا كَمَا لَا يجوز أَن يحكم على غَيره لنَفسِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَو شهد للصبى الذى هُوَ قيمه بِمَال لم يقبل وَمن لايجوز شَهَادَته لشخص لم يجز حكمه لَهُ
قَالَ الْقفال فى شرح الْفُرُوع وَاخْتلف أَصْحَابنَا فى هَذِه الْمَسْأَلَة فَمنهمْ من وَافقه وَمِنْهُم من خَالفه لِأَن القاضى يلى أَمر الْأَيْتَام كلهم وَإِن يكن وَصِيّا من قبل فَلَا تُهْمَة هَذَا ملخص كَلَامه فى شَرحه
والرافعى صحّح أَن لَهُ الحكم وَعَزاهُ إِلَى الْقفال وَتبع فِي ذَلِك الشَّيْخ أَبَا على فَإِنَّهُ ذكر فى شرح الْفُرُوع أَنه سَمعه من الْقفال
وَاعْلَم أَن مَا صَححهُ الرافعى غير بَين وَلَا جُمْهُور أَئِمَّتنَا عَلَيْهِ بل الْبَين الذى يظْهر تَرْجِيحه قَول ابْن الْحداد وَقد ذكر ابْن الرّفْعَة فى الْمطلب أَنه الصَّوَاب
قَالَ وَالْفرق بَينه وَبَين غَيره من الْأَيْتَام أَن ولَايَة القاضى إِذا لم يكن وَصِيّا تَنْقَطِع عَن المَال الذى حكم بِهِ بِانْقِطَاع ولَايَته وَلَا كَذَلِك الوصى إِذا تولى الْقَضَاء فَإِن مَا حكم فِيهِ للْيَتِيم الَّذِي تَحت وَصيته يبْقى ولَايَته بعد الْعَزْل فَقَوِيت التُّهْمَة فى حَقه وضعفت فى حق غَيره
قلت وَهَذَا فرق صَحِيح وَلَا شكّ أَن الْحَاكِم الوصى يتَصَرَّف للْيَتِيم الذى هُوَ قيمه ويجتمع فى تصرفه وصفان بَينهمَا عُمُوم وخصوص كَونه حَاكما وَكَونه وَصِيّا وَحِينَئِذٍ فينبغى أَن يكون التَّصَرُّف بِكَوْنِهِ وَصِيّا وَهُوَ وصف لَا يحكم بِهِ فَلَا سَبِيل إِلَى حكمه إِذْ لَو حكم لَكَانَ بِكَوْنِهِ حَاكما وَلَو حكم بِكَوْنِهِ حَاكما لاحتاج إِلَى مُدع وَلَا مدعى إِلَّا الوصى وَهُوَ هُوَ فَلَو كَانَ حَاكما لم يكن حَاكما وَهُوَ خلف آيل إِلَى دور وَهَذَا سر دَقِيق أوضحته فى كتاب الْأَشْبَاه والنظائر فى قَاعِدَة منع التَّعْلِيل بعلتين
وبقى فى هَذَا الْفَرْع تَنْبِيه على عقدَة فى الْفَرْع لم أر من تكلم عَلَيْهَا لَا مِمَّن شرح الْفُرُوع وَلَا من غَيرهم وَذَلِكَ أَن ابْن الْحداد فرض الْفَرْع فى وصّى ولى الْقَضَاء

فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ فاقتضت عِبَارَته تَقْيِيد الْمَسْأَلَة بطرآن ولَايَة الْقَضَاء على كَونه وَصِيّا بِأَن يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ وَتَبعهُ على التَّقْدِير من تقدم وَتَأَخر آخِرهم الرافعى والنووى وَابْن الرّفْعَة
فَأَما الْقَيْد الأول وَهُوَ طرآن الْقَضَاء على الْوِصَايَة فقد يُقَال إِنَّه لَا فرق بَينه وَبَين عَكسه وَهَذَا هُوَ مُنْتَهى فهم أَكثر من بحث مَعَه فى الْمَسْأَلَة
والذى ظهر لى أَن القاضى إِذا أسندت إِلَيْهِ وَصِيَّة فَإِن كَانَ مسندها أَبَا أَو جدا فَالْأَمْر كَذَلِك فَإِنَّهُ لم يكن عَلَيْهِ ولَايَة وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد بعدهمَا فيقارن تجددهما بِالْوَصِيَّةِ تجددهما بفقدهما أَو نَحوه لكَونه حَاكما فَينْظر هُنَا فى أَنه هَل يتَصَرَّف بالوصفين عِنْد من تعلل بعلتين أَو إِنَّمَا يتَصَرَّف بالوصفين عِنْد من تعلل بعلتين أَو إِنَّمَا يتَصَرَّف بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الذى ينصره فى الْأُصُول
وَإِن كَانَ مسندها وَصِيّا جعل لَهُ الْإِسْنَاد فَيحْتَمل أَن يكون كَذَلِك وَيحْتَمل أَن لَا يَتَجَدَّد لَهُ بذلك شئ لِأَن ولَايَته من قبل هَذَا الْإِسْنَاد فَإِن لَهُ مَعَ الأوصياء ولَايَة
وَهَذَا الإحتمال هُوَ الذى يتَرَجَّح عندى لَكِن يظْهر على سِيَاقه أَن لَا يَصح قبُوله لهَذَا الْإِسْنَاد مَا دَامَ قَاضِيا وَلم أجسر على الحكم بِهِ فَإِن تمّ ظهر بِهِ السِّرّ فى تَقْيِيد ابْن الْحداد
وَأما الْقَيْد الثانى وَهُوَ قَوْله فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ فقد يُقَال أَيْضا لَا فَائِدَة لَهُ بل لَا فرق بَين أَن يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ أَو يحكم هُوَ بِعِلْمِهِ وَقد يُقَال لَا يحكم هُنَا بِعِلْمِهِ جزما لشدَّة التُّهْمَة وَمَا أظنهم يسمحون بذلك وَلَا يستثنونه من الْقَضَاء بِالْعلمِ بل من يجوز لَهُ الحكم فِيمَا يظْهر لَا يفرق بَين أَن يقْضى بِالْعلمِ أَو بِالْبَيِّنَةِ كَسَائِر الْأَيْتَام وَسَائِر الْأَقْضِيَة
نعم عبارَة ابْن الْحداد يشْهد عِنْده شَاهِدَانِ وَقد اختصرها الرافعى فَقَالَ هَل لَهُ أَن يسمع الْبَيِّنَة وَيحكم وَلَو اقْتصر على قَوْله هَل لَهُ أَن يحكم لأفاد أَنه هَل يسمع الْبَيِّنَة لِأَن من جوز سَماع الْبَيِّنَة جوز الحكم
وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى أَن قَول ابْن الْحداد فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ لَيْسَ على ظَاهره إِذْ لَا يَقُول أحد إنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عِنْده على وَجه التأدية ثمَّ لَا يحكم وَإِنَّمَا المُرَاد بِشَهَادَتِهِمَا عِنْده اختيارهما إِيَّاه فَقَوْل الرافعى هَل لَهُ أَن يسمع الْبَيِّنَة من هَذَا الْوَجْه خير من قَول ابْن الْحداد فَشهد عِنْده شَاهِدَانِ لإنهائها أَنه يسمع الْبَيِّنَة وَلَا يحكم لَكِن قَول ابْن الْحداد شَاهِدَانِ خير من إِطْلَاق الرافعى الْبَيِّنَة لِأَنَّهَا قد توهم أَن للشَّاهِد وَالْيَمِين هُنَا مدخلًا وَلَا يُمكن لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَكَانَ الْحَالِف هُوَ وَلَا سَبِيل إِلَى أَنه يحلف وَيحكم لِأَن الْحَالِف غير الْحَاكِم وَلِأَن الولى لَا يحلف
وللرافعى أَن يَقُول إِنَّمَا عنيت بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَة وهى شَاهِدَانِ
وَأما قَول ابْن الْحداد حَتَّى يصير إِلَى الإِمَام أَو الْأَمِير فقد يُقَال من الذى يعنيه بالأمير فَإِن الْأَمِير قد يُطلق وَيُرَاد بِهِ أُمَرَاء الْعَسْكَر الَّذين لَا حكم لَهُم وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فى مَسْأَلَة ابْن الْقطَّان وَابْن كج فِيمَا إِذا دعى الشَّاهِد إِلَى أَمِير أَو وَزِير هَل لَهُ تأدية الشَّهَادَة عِنْده أَولا لِأَن تأدية الشَّهَادَة إِنَّمَا هُوَ للحكام فأطلقا الْأَمِير على من لَيْسَ بحاكم
وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْحَاكِم كَقَوْلِنَا أَمِير الْبَلَد
وَالْأَظْهَر أَنه أَرَادَ الثانى فَإِن الأول لَا حكم لَهُ وَالْمرَاد أَمِير من قبل الإِمَام الْأَعْظَم جعل لَهُ الحكم وَكَذَلِكَ عبر الشَّيْخ أَبُو على عَن هَذَا الْغَرَض بقوله ينبغى للْحَاكِم أَن يأتى إِلَى الإِمَام الْأَعْظَم أَو الْأَمِير الذى ولاه الْقَضَاء أَو إِلَى حَاكم آخر انْتهى
وَهَذَا على مصطلح بِلَادهمْ فى أَن أُمَرَاء الْبَلَد يولون الْقُضَاة وَقصد فى هَذَا التَّوَقُّف فى أَنه هَل يدعى هَذَا الْحَاكِم الذى هُوَ وصّى عِنْد خَلِيفَته على الحكم أَولا لكَونه خَليفَة

وَفِيه خلاف صرح بِهِ الشَّيْخ أَبُو على وَغَيره فى هَذِه الصُّورَة وَصرح بِهِ الرافعى وَغَيره فِيمَا إِذا امْتنع حكم الْحَاكِم لنَفسِهِ أَولا يُعَارضهُ هَل لَهُ أَن يتحاكم إِلَى خَلِيفَته
فرع ادّعى فِيهِ تنَاقض ابْن الْحداد
وَأَنا جَامع أَطْرَافه لتبددها فى كَلَام الرافعى رَحمَه الله وَمُلَخَّص القَوْل فِيهِ بِحَسب مَا اجْتمع لى
إِذا وَقعت الْفرْقَة قبل الدُّخُول بَين الزَّوْجَيْنِ لَا بِسَبَب من وَاحِد مِنْهُمَا فَهَل تجْعَل كَأَنَّهَا وَاقعَة بِسَبَب الزَّوْجَة فَيسْقط الْمهْر بِالْكُلِّيَّةِ أَو كَأَنَّهَا وَاقعَة بِسَبَب من جِهَة الزَّوْج فيشطره
هَذَا أصل يَقع خلافيا بَين ابْن الْحداد والقفال رحمهمَا الله ابْن الْحداد يَقُول بِالْأولِ أبدا والقفال يَقُول بالثانى وَلَعَلَّه الرَّاجِح عِنْد الرافعى تأصيلا وتفريعا أما تَفْرِيعا فَلَمَّا ستراه عِنْد ذكر الصُّور وَأما تأصيلا فلإطلاقه فى بَاب تشطير الصَدَاق أَن مَوْضِعه كل فرقة لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة لَكِن يشبه أَن يكون مُرَاده هُنَا بِالْعَام الْخَاص أى بِكُل سَبَب من جِهَة الزَّوْج بِدَلِيل أَنه قابله بقوله فَأَما إِذا كَانَ الْفِرَاق مِنْهَا أَو بِسَبَب فِيهَا وَيكون قد سكت عَمَّا إِذا لم يكن من وَاحِد مِنْهُمَا وَفِيه صور
مِنْهَا إِذا تزوج جَارِيَة مورثة كجارية أَبِيه أَو أَخِيه أَو عَمه أَو غَيرهم فَمَاتَ السَّيِّد وَزوجهَا وَارِث إِمَّا كل التَّرِكَة أَو بَعْضهَا انْفَسَخ النِّكَاح لِأَن النِّكَاح وَالْملك لَا يَجْتَمِعَانِ
وَأما الْمهْر إِذا كَانَ الْمَوْت قبل الدُّخُول فَقَالَ ابْن الْحداد يسْقط وَهَذَا بِنَاء على أَصله لِأَن الْفَسْخ لم يكن من قبل الزَّوْج وَإِنَّمَا دخلت فى ملكه بِالْمِيرَاثِ أحب أَو كره
قَالَ الشَّيْخ أَبُو على واشهدا على قَول الْمَرْأَة مشترى الزَّوْج من سَيّده قبل الدُّخُول

سقط لِأَنَّهُ لم يكن للزَّوْج فِيهِ صنع وَلذَلِك لَو وجدت بِالزَّوْجِ عَيْبا قبل الدُّخُول واختارت الْفَسْخ سقط الْمهْر كَذَلِك مثله فى مَسْأَلَتنَا
وَقَالَ الْقفال وَمن شرح الْفُرُوع لَهُ نقلت هَذِه الطَّرِيقَة يسلكها صَاحب الْكتاب يعْنى ابْن الْحداد فى مسَائِل كَثِيرَة فَتَقول الْفُرُوع إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم يكن الزَّوْج لانفساخه متسببا فَلَا مهر عَلَيْهِ وَهَذَا عندى غلط بل الْوَاجِب أَن يُقَال إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم تكن الْمَرْأَة سَببا فى الْفَسْخ فلهَا الْمهْر انْتهى وَاسْتدلَّ بِمَا سَنذكرُهُ
وَهَذِه مقَالَة الْقفال المروزى صرح بهَا كَمَا ترَاهُ فى هَذِه الْمَسْأَلَة وفى نظائرها ونقلها عَنهُ فى هَذِه الْمَسْأَلَة القاضى أَبُو الطّيب الطبرى فى شرح الْفُرُوع كَمَا سنحكى كَلَامه وَمَعَ ذَلِك لم ينقلها عَنهُ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو على فى هَذِه الصُّورَة بل قَالَ وَرَأَيْت بعض أَصْحَابنَا يَقُول لَا يسْقط كل الْمهْر فَمن الْعجب أَنه يخفى عَنهُ مَذْهَب شَيْخه مَعَ نَقله عَنهُ نَظِيره فى نَظَائِر الْمَسْأَلَة فَلَقَد قضيت من هَذَا الْعجب وَكَاد يُوجب لى توقفا فى الْعزو إِلَى الْقفال ولكنى رَأَيْته قد أفْصح بِهِ فى شرح الْفُرُوع إفصاحا وَنَقله القاضى أَبُو الطّيب عَنهُ صَرِيحًا وَنقل الشَّيْخ أَبُو على عَنهُ كَمَا سترى فى نَظَائِره مثله فَاسْتَتَمَّ لى قَضَاء الْعجب
ثمَّ الْأَرْجَح من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ عِنْد الرافعى قَول الْقفال كَمَا ذكره فى كتاب النِّكَاح فى بَاب نِكَاح الْأمة وَالْعَبْد قبل فصل الدّور الحكمى وَهُوَ أَيْضا لم يفصح بِذكر الْقفال وَلَكِن حكى الْوَجْهَيْنِ وَعزا الأول لِابْنِ الْحداد وَرجح الثانى وعَلى هَذَا الرَّاجِح يكون النّصْف تَرِكَة تقضى مِنْهُ الدُّيُون وتنفذ الْوَصَايَا فَإِن لم يكن سقط إِن كَانَ النِّكَاح جَائِزا لِأَنَّهُ لَا يثبت لَهُ على نَفسه وَإِلَّا سقط نصِيبه وَللْآخر نصِيبه
وَسَنذكر تَوْجِيه هَذَا الْوَجْه من كَلَام الْقفال ونتكلم عَلَيْهِ

وَمِنْهَا إِذا تزوج ذمى ذِمِّيَّة صَغِيرَة من أَبِيهَا ثمَّ أسلم أحد أَبَوَيْهَا قبل الدُّخُول وتبعته فى الْإِسْلَام فانفسخ النِّكَاح
قَالَ ابْن الْحداد يسْقط الْمهْر لِأَن سَبَب فَسَاد النِّكَاح لم يُوجد من الزَّوْج
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو على قَالَ بعض أَصْحَابنَا لَهَا نصف الْمهْر لِأَن الْفَسْخ وَإِن لم يكن من الزَّوْج فَلَيْسَ مِنْهَا أَيْضا وَإِذا لم يكن لَهَا صنع فى الْفِرَاق لم يسْقط كل الْمهْر
قلت وَقَائِل ذَلِك هُوَ شَيْخه الْقفال فَمن الْعجب كَونه لم يُصَرح باسمه وَكَذَلِكَ حكى الإِمَام الْمقَالة عَن بعض الْأَصْحَاب قبيل بَاب الصَدَاق وَلم يُصَرح باسم الْقفال أَيْضا فَمن أعجب الْعجب تَصْرِيح الْقفال بمقالة فى كَلَامه أطنب فِيهَا فى شرح الْفُرُوع ثمَّ لَا يحكيها عَنهُ الحاكون للقليل وَالْكثير فى كَلَامه الحريصون على الْبعيد والقريب من أنفاسه العارفون بغالب حركاته فى الْفِقْه وسكناته
وَهَذِه عِبَارَته فى شرح الْفُرُوع إِذا تزوج نصرانى صَغِيرَة ابْنة كتابيين فَأسلم أحد الْأَبَوَيْنِ انْفَسَخ نِكَاحهَا لِأَنَّهَا غير مَدْخُول بهَا وَحكم لَهَا بِالْإِسْلَامِ لإسلام أحد الْأَبَوَيْنِ
ثمَّ قَالَ صَاحب الْكتاب لَا مهر لَهَا على الزَّوْج لِأَن الزَّوْج لم يكن سَببا فى الْفَسْخ
وَهَذَا غلط وَهُوَ لَا يزَال يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة بل يجب أَن يُقَال إِذا لم يحصل الْفَسْخ من جِهَة الْمَرْأَة فلهَا الْمهْر سَوَاء جَاءَ الْفَسْخ من جِهَة الزَّوْج أَو من جِهَة غَيره انْتهى
ثمَّ ذكر دَلِيله على ذَلِك وسنذكره
وَلم يحك القاضى أَبُو الطّيب فى شرح الْفُرُوع عَن الْقفال هُنَا شَيْئا وَإِنَّمَا عزا هَذِه الْمقَالة إِلَى بعض أَصْحَابنَا كَمَا فعل الشَّيْخ أَبُو على وَالْإِمَام رحمهمَا الله تَعَالَى
والقاضى أَبُو الطّيب فى أوسع الْعذر فَإِنَّهُ أكبر من أَن يحْكى مقالات الْقفال وحكايته فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث عَنهُ مِمَّا يستغرب وَإِنَّمَا الْعجب إغفال الشَّيْخ أَبى على وَالْإِمَام ذكر الْقفال الذى قَالَه فى كِتَابه وَحَكَاهُ عَنهُ قاضى الْعرَاق فيالله الْعجب عراقى يحْكى مقَالَة خراسانى لَا يحكيها أَصْحَابه عَنهُ مَعَ ثُبُوتهَا عَلَيْهِ وَهَذَا عندى من عقد المنقولات

وَهَذِه الْمَسْأَلَة لم يُصَرح بهَا الرافعى فى كِتَابه وَإِنَّمَا جرم فى بَاب الْمُتْعَة فى ذِمِّيَّة صَغِيرَة تَحت ذمى أسلم أحد أَبَوَيْهَا فانفسخ النِّكَاح أَنه لَا مُتْعَة كَمَا لَو أسلمت بِنَفسِهَا وَهَذَا يُوَافق مَا رَجحه فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث وَيسْتَمر على منوال وَاحِد فى وفَاق الْقفال
وَمِنْهَا إِذا أسلم على أم وبنتها وَلم يدْخل بِوَاحِدَة مِنْهُمَا تعيّنت الْبِنْت واندفعت الْأُم على الصَّحِيح بِنَاء على صِحَة أنكحتهم
وفى قَول يتَخَيَّر
ثمَّ قَالَ ابْن الْحداد إِن خيرناه فللمفارقة نصف الْمهْر لِأَنَّهُ دفع نِكَاحهَا بإمساك الْأُخْرَى وَإِن قُلْنَا تتَعَيَّن الْبِنْت فَلَا مهر للْأُم لاندفاع نِكَاحهَا بِغَيْر اخْتِيَاره
وَقَالَ الْقفال فى شرح الْفُرُوع مَا نَصه وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو زيد وَالشَّيْخ أَبُو عبد الله الخضري وأصحابنا هَذَا خطأ على أصل الشَّافِعِي
وَيَنْبَغِي أَن يكون الْجَواب على عكس مَا قَالَه فى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عندى فَإِذا قُلْنَا لَهُ الْخِيَار فَاخْتَارَ احداهما فَلَا مهر للثَّانِيَة وَإِن قُلْنَا لَا خِيَار ويمسك الْبِنْت وَيُفَارق الْأُم فلهَا الْمهْر
وَالْحَال فى تَقْرِير هَذَا وَنَقله عَنهُ تِلْمِيذه الشَّيْخ أَبُو على فِي شرح الْفُرُوع سَمَاعا فَقَالَ وَسمعت شيخى رضى الله عَنهُ يَقُول الْجَواب على عكس مَا ذكره صَاحب الْكتاب واندفع فى ذكر كَلَام الْقفال وَلم يذكر أَبَا زيد وَلَا الخضرى فَعرفت من ذَلِك أَنه لم ينظر شرح شَيْخه على الْفُرُوع وَإِنَّمَا كَانُوا يتكلون على حفظهم وَمَا يسمعونه من أَفْوَاه مشايخهم رضى الله عَنْهُم
وَكَأن الرافعى اقْتصر على النّظر فى شرح الشَّيْخ أَبى على فَإِنَّهُ نقل الْمَسْأَلَة عَن الْقفال وَغَيره وَأَشَارَ بقوله وَغَيره إِلَى تَرْجِيحه وَلَو وقف على شرح الْقفال لأفصح

بِذكر أَبى زيد والخضرى وَقد نازعهم القاضى أَبُو الطّيب الطبرى وَرجح قَول ابْن الْحداد وَأطَال وأطاب
والنزاع فى هَذَا الْفَرْع عَائِد إِلَى الأَصْل الْمُتَقَدّم وَرُبمَا زَاد أَن المنازع يدعى أَن إِسْلَامه سَبَب لاندفاع نِكَاح الْأُم فالفرقة من جِهَته ولعلنا نتكلم على ذَلِك فِيمَا بعد
وَمِنْهَا ردتهما مَعًا لم يذكر الرافعى هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَّا اسْتِطْرَادًا فى بَاب نِكَاح المشركات أَشَارَ إِلَى الْوَجْهَيْنِ فِيهَا وفيهَا ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا إِضَافَة الْفرْقَة إِلَى الزَّوْج فيتشطر
والثانى إِضَافَة الْفرْقَة إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أَتَت بِالْجِنَايَةِ الَّتِى لَو انْفَرَدت سقط حَقّهَا فَإِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ جِنَايَة الْغَيْر لَا يُؤثر فى ذَلِك كَمَا لَو قَالَ اقْطَعْ يدى فَقطع وهما مشهوران
قَالَ الرويانى وَالْأول أظهر
وَالثَّالِث حَكَاهُ الماوردى وَتَبعهُ الرويانى لَهَا ربع الْمهْر لاشْتِرَاكهمَا فى الْفَسْخ فَسقط من النّصْف نصفه لِأَنَّهُ فى مُقَابلَة ردة الزَّوْجَة وبقى نصفه لِأَنَّهُ فى مُقَابلَة ردة الزَّوْج
وَالْمَسْأَلَة شهيرة ذكرهَا الْأَصْحَاب فى بَاب ارتداد الزَّوْجَيْنِ وَهُوَ بَاب عقدَة الشافعى رضى الله عَنهُ فى كتاب النِّكَاح قبل بَاب طَلَاق الْمُشرك وَبعد نِكَاح المشركات والرافعى تبعا للغزالى لم يذكر هَذَا الْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ فَمن ثمَّ لم يستوعب مسَائِله
وَذكر الرَّافِعِيّ أَيْضا ارتدادهما مَعًا فى الْمُتْعَة وَصحح أَنه لَا مُتْعَة
وَاعْلَم أَن الْوَجْهَيْنِ جاريان فى التشطير مشهوران فِيهِ وَإِن لم يذكرهما الرافعى إِلَّا اسْتِطْرَادًا
وَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي بَاب نِكَاح المشركات إِذا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا قبل الدُّخُول ففى تشطير الْمهْر إِحَالَة على ردته أَو سُقُوط كُله إِحَالَة على ردتها وَجْهَان مشهوران وَرُبمَا يعزى الثانى مِنْهُمَا لِابْنِ الْحداد

قلت وَهُوَ جَار على أَصله وَإِذا تَأَمَّلت مَا ذكرته علمت أَن الْفرْقَة قد تكون من جِهَته وَقد تكون من جِهَتهَا وَقد تكون من جهتهما وَقد تكون لَا من جِهَة وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعَة أَحْوَال لم يذكر الرافعى فى بَاب التشطير إِلَّا الْأَوَّلين فَقَط
فَإِن قلت قد قَالَ فى بَاب التشطير مَوضِع التشطير كل فرقة تحصل لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة وَهَذَا يَشْمَل مَا إِذا كَانَت لَا بِسَبَب مِنْهُمَا ثمَّ مثل لَهُ بِمَا إِذا أرضعت أم الزَّوْجَة الزَّوْج وَهُوَ صَغِير إِلَى آخر مَا ذكره
قلت مَسْأَلَة الرَّضَاع سنتكلم عَلَيْهَا وقولى لَا بِسَبَب من الْمَرْأَة إِنَّمَا نعنى بِهِ إِذا كَانَت من جِهَة الزَّوْج بِدَلِيل قَوْله بعده أما إِذا كَانَ الْفِرَاق مِنْهَا أَو بِسَبَب فِيهَا
وَبِالْجُمْلَةِ لَا تَصْرِيح من الرافعى فى بَاب التشطير بِهَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا فى بَاب الْمُتْعَة وفى بَاب نِكَاح العَبْد وَالْأمة وَلَو جمع شَمل النَّظَائِر فى فصل وَاحِد كَانَ أولى بل لم يُصَرح بمسألتين عظيمتين بَين الْأَصْحَاب ردتهما مَعًا هَل تشطر وَإِن كَانَ ذكر أَنَّهَا هَل تسْقط الْمُتْعَة وَإِسْلَام أَبى الزَّوْجَة الصَّغِيرَة إِذا انْفَسَخ نِكَاحهَا هَل يشطر وَإِن كَانَ ذكر أَنه هَل يمتع
إِذا عرفت هَذَا كُله فقد تبين لَك أَن ابْن الْحداد يَجْعَل الْفرْقَة لَا من وَاحِد مِنْهُمَا مسقطة مُلْحقَة بِمَا إِذا كَانَت من جِهَتهَا والقفال يُخَالِفهُ ويجعلها مشطرة مُلْحقَة بِمَا إِذا كَانَت مِنْهُ
ثمَّ يَقُول ابْن الْحداد وَمن صور الْقَاعِدَة أَن يَرث الزَّوْج بعض زَوجته وَهَذَا تَصْوِير لَا يُخَالف فِيهِ وَإِن أسلم على أم وبنتها وَإِن سلم فتتبعه الزَّوْجَة وَهَذَانِ يُنَازع فيهمَا تصويرا كَمَا يُنَازع فيهمَا حكما فَيُقَال لم يكن إِسْلَامه على أم وبنتها وَإِن

قُلْنَا يديم نِكَاح الْبِنْت وتندفع الْأُم فهى فرقة كائنة من جِهَته لِأَنَّهُ رُبمَا صَار بِإِسْلَامِهِ وإسلامه تبعا لِأَنَّهَا فرقة كائنة من جِهَتهَا
وَنحن نلخص القَوْل فى المقامين أما الْمقَام الأول وَهُوَ دَعْوَى ابْن الْحداد أَن الْفرْقَة لَا من وَاحِد مِنْهُمَا مُلْحقَة بالواقعة مِنْهَا فَيسْقط فَلم يحْتَج عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ من أَن الْفَسْخ لم يكن من قبله بل هُوَ قهرى أحب أَو كره
وللقفال أَن يَقُول لَهُ لم قلت إِنَّه إِذا لم يكن من قبله لَا يلْحق بِمَا يكون من قبله فَلَيْسَ قَوْلك لَا يشطر لكَونه لَيْسَ من قبله مَا يبعد من قَوْلنَا يشطر لكَونه لَيْسَ من قبلهَا بل التشطير معتضد بِالْأَصْلِ فَإِن الأَصْل بعد تَسْمِيَة الصَدَاق وُجُوبه فَلَا يسْقط إِلَّا النّصْف للفرقة قبل الدُّخُول وَيبقى النّصْف الآخر بِالْأَصْلِ مَا لم يتَحَقَّق زَوَاله بتحقق كَونه من جِهَتهَا
وَاسْتشْهدَ الْقفال لعدم سُقُوط النّصْف بِمَسْأَلَة الرَّضَاع وَغَيرهَا فَقَالَ فى شرح الْفُرُوع مُشِيرا إِلَى قَول ابْن الْحداد هَذَا عندى غلط بل الْوَاجِب أَن يُقَال إِذا انْفَسَخ النِّكَاح وَلم تكن الْمَرْأَة سَببا فى الْفَسْخ فلهَا الْمهْر أَلا ترى أَن الرجل إِذا تزوج امْرَأَة وَتزَوج أَبوهُ أمهَا فغلط الابْن فوطئ امْرَأَة الْأَب وهى أم امْرَأَة الابْن انْفَسَخ نِكَاح امْرَأَة الابْن بِوَطْء أمهَا بِشُبْهَة وَوَجَب لَهَا الْمهْر لِأَنَّهَا لم تكن سَببا للْفَسْخ
وَكَذَلِكَ لَو أَن رجلا كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ أحداهما كَبِيرَة وَالْأُخْرَى صَغِيرَة فأرضعت الْكَبِيرَة الصَّغِيرَة انْفَسَخ نِكَاح الصَّغِيرَة وَوَجَب لَهَا على الزَّوْج نصف الْمهْر وَلَيْسَ الزَّوْج هَا هُنَا سَببا للْفَسْخ إِلَّا أَن الْفَسْخ لما لم يكن بِسَبَب من الْمَرْأَة وَجب لَهَا الْمهْر
فَكَذَلِك فى مَسْأَلَة الْكتاب إِذا تزوج جَارِيَة أَبِيه فَمَاتَ أَبوهُ وملكها انْفَسَخ النِّكَاح وَعَلِيهِ الْمهْر لِأَن الْمَرْأَة لم تكن سَببا للْفَسْخ إِلَّا أَن مَسْأَلَة الرَّضَاع تبَاين هَذِه

الْمَسْأَلَة من وَجه وَهُوَ أَن فى هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا غرم الْمهْر فَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع على الْكَبِيرَة بِمَا غرم
وَالْفرق بَينهمَا أَن موت الْإِنْسَان لَا يكون بِاخْتِيَارِهِ وَلَا ينتمى إِلَى جِنَايَة فَلذَلِك لَا يغرم الْمهْر وَأما الْكَبِيرَة إِذا أرضعت الصَّغِيرَة فَإِنَّهَا تنتمى إِلَى جِنَايَة فَلذَلِك يغرم الْمهْر حَتَّى إِنَّهَا لَو أرضعت من غير أَن تنْسب فى الْإِرْضَاع إِلَى جِنَايَة سقط عَنْهَا الْغرم أَيْضا مثل أَن ترى الصَّغِيرَة ملقاة فى مَوضِع لَو لم ترضعها خيف عَلَيْهَا التّلف وَلم يكن بقربها من يتعهدها فأرضعتها انْفَسَخ النِّكَاح وَلَا غرم عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تنْسب إِلَى جِنَايَة فى إرضاعها إِيَّاهَا فَصَارَ ذَلِك كَمَا لَو دبت الصَّغِيرَة إِلَى ثدى الْكَبِيرَة فارتضعت وهى نَائِمَة انْفَسَخ النِّكَاح وَلَا غرم عَلَيْهَا وعَلى الزَّوْج الْمهْر وَإِنَّمَا لم يجب الْمهْر فى هَذِه الْمَسْأَلَة لوُجُود فعل من الْكَبِيرَة وَسبب من الصَّغِيرَة فَيجب الْمهْر إِذا مَاتَ الْأَب فَملك جَارِيَته الْمَنْكُوحَة إِذا لم يحصل مِنْهَا سَبَب فى الْفَسْخ انْتهى كَلَام الْقفال
ثمَّ أعَاد نظره بعد وَرَقَات فى مَسْأَلَة مَا إِذا أسلم أَبُو الصَّغِيرَة وَعزا مَا ذكره من أَنه لَا يجب الْغرم على كَبِيرَة أرضعت صَغِيرَة وَقت الضَّرُورَة إِلَى أَصْحَابنَا فَقَالَ قَالَ أَصْحَابنَا وَذكر الْمَسْأَلَة وهى مَسْأَلَة حَسَنَة غَرِيبَة لَا أعتقدها مسلمة وَقد عرفت مَا ذكره وَحَاصِله الاستشهاد على مَا ادَّعَاهُ بِمَسْأَلَة الرَّضَاع
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى هَذَا الذى قَالَ أَبُو بكر الْقفال وَاضح وَمن قَالَ بقول صَاحب الْكتاب فَإِنَّهُ يَقُول إِذا كَانَ الْفَسْخ بِالشَّرْعِ سقط حَقّهَا أَلا ترى إِذا تزَوجهَا وَكَانَ النِّكَاح فَاسِدا بِالشَّرْعِ وَجب أَن يفرق بَينهمَا وَلَا حق لَهَا إِذا كَانَ قبل الدُّخُول بهَا لِأَن التَّحْرِيم وَالْفَسْخ بِالشَّرْعِ فَكَذَلِك هَا هُنَا
فَإِن قيل إِذا كَانَ النِّكَاح فَاسِدا فَإِن الْمهْر لم يجب
قيل لَهُ إِنَّمَا لم يجب لِأَن التَّحْرِيم وَالْفَسْخ بِالشَّرْعِ وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود هَا هُنَا
وَيُخَالف هَذَا مَا ذكره من وَطْء الْأَب وإرضاع الْكَبِيرَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ من جِهَة الشَّرْع وَإِنَّمَا هُوَ بِفعل آدمى يتَعَلَّق بِهِ الضَّمَان وَلِهَذَا نقُول إِن الزَّوْج يرجع على الْأَب بِنصْف الْمهْر وَكَذَلِكَ يرجع على الْمُرضعَة فَسقط مَا قَالَه انْتهى كَلَام القاضى أَبى الطّيب ثمَّ أعَاد مثله فِيمَا بعد
وَأَقُول لَا حَاجَة إِلَى استشهاده بِالنِّكَاحِ الْفَاسِد وَفِيمَا ذكره من الْفرق كِفَايَة فلابن الْحداد أَن يَقُول إِنَّمَا أَقُول بالسقوط فى مُوجب شطر يقر قراره على الزَّوْج أما مَاله مرد وَمَا الزَّوْج فِيهِ إِلَّا طَرِيق فَلَا أمْنَعهُ وَهَذَا فرق وَاضح وَيكون عِنْده هَكَذَا الْفرْقَة الْوَارِدَة لأمر مِنْهُمَا إِذا آلت إِلَى تغريم الزَّوْج شطرا لَا يرفع بِهِ لَا يُوجب عَلَيْهِ شَيْئا بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن إِلَّا طَرِيقا فَحسب فَهَذَا ملخص الْكَلَام على أصل الْقَاعِدَة وهى مصورة تصويرا وَاضحا فى مَسْأَلَة الْمِيرَاث
أما إِسْلَام الْأَب فتتبعه الزَّوْجَة أَو إِسْلَام الْكَافِر على أم وبنتها فَمن قَالَ كل فرقة لَا ترد من جِهَة الْمَرْأَة تشطر سَوَاء أوردت من جِهَة الزَّوْج أم لم تنْسب إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا وَهُوَ الْقفال وَقَبله أَبُو زيد والخضرى وَبعده الرافعى فِيمَا يظْهر وَمن تبعه فَيَقُول بالتشطير لَا محَالة وَأما من قَالَ بقول ابْن الْحداد إِن كل فرقة لَا ترد من جِهَة الرجل تسْقط سَوَاء أوردت من جِهَة الْمَرْأَة أم لم تنْسب لوَاحِد مِنْهُمَا فقد نقُول فى هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ إِنَّهَا فرقة لَا من جِهَة وَاحِد مِنْهُمَا وَيحكم بالسقوط وَبِذَلِك صرح ابْن الْحداد وَقد نقف وندعى أَنَّهَا فرقة من جِهَتهَا فَمن ثمَّ يُقَال لِابْنِ الْحداد اذْهَبْ إِنَّا نسلم مَا تدعيه من الأَصْل لَكِن لَا نسلم أَن الْفرْقَة فى هَاتين الصُّورَتَيْنِ لَا من وَاحِد مِنْهُمَا بل هى مِنْهَا

وَاعْلَم أَن مَسْأَلَة إِسْلَام الرجل على أم وابنتها قد أفْصح الْقفال فِيهَا بتغليط ابْن الْحداد وَزعم أَنه عكس التَّفْرِيع فَإِنَّهُ قَالَ إِن قُلْنَا باستمرار نِكَاح الْبِنْت كَمَا هُوَ الصَّحِيح سقط نِكَاح الْأُم بِنَاء على أَصله أَنَّهَا فرقة وَردت بِالشَّرْعِ قهرية فَلَا تشطر وَإِن قُلْنَا يتَخَيَّر فالمفارقة مَنْسُوب إِلَيْهِ اخْتِيَار فراقها فَقَالَ الْقفال ومتابعوه بل الْأَمر بِالْعَكْسِ بل الْجَواب على عكس مَا ذكره إِن قُلْنَا بِصِحَّة أنكحتهم فقد أفسدنا نِكَاح الْأُم بِكُل حَال للْعقد على الْبِنْت وَحِينَئِذٍ ففسخ النِّكَاح إِنَّمَا وَقع بِإِسْلَامِهِ وإسلامها جَمِيعًا وَالْفَسْخ إِذا وَقع قبل الدُّخُول بِسَبَب يشْتَرك فِيهِ الزَّوْجَانِ يجب الْمهْر كَمَا لَو تخالعا فَلَا يسْقط الْمهْر بل يتشطر وَتجب الْمُتْعَة
وَأما على القَوْل الذى يَقُول يمسك أَيَّتهمَا شَاءَ فَإِذا أمسك إِحْدَاهمَا جعل الثَّانِيَة كَأَن لم ينْكِحهَا قطّ فَلَا مهر وَلَا مُتْعَة وَيجوز لِابْنِهِ أَن يتَزَوَّج بهَا وَيكون بِمَنْزِلَة من لم يعْقد عَلَيْهَا هَذَا حَاصِل مَا ذكره
وَقَالَ القاضى أَبُو الطّيب الطبرى منتصرا لِابْنِ الْحداد وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ على الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا جعل الِاخْتِيَار إِلَيْهِ والوصلة والفرقة إِلَى إِرَادَته فَمن اخْتَارَهَا من أَكثر من أَربع وَمن الْمَرْأَة وعمتها أَو خَالَتهَا فنكاحها صَحِيح وَمن فَارقهَا مِنْهُنَّ وَقُلْنَا إِنَّهَا بِمَنْزِلَة من لم يعْقد عَلَيْهَا فَإِنَّمَا يصير بِهَذِهِ الْمنزلَة بِاخْتِيَارِهِ وَقد كَانَ يُمكنهُ أَن يُقيم على نِكَاحهَا بِاخْتِيَارِهِ إِيَّاهَا فَأوجب عَلَيْهِ نصف الْمهْر بذلك وأجرى مجْرى الْمُطلق لهَذِهِ الْعلَّة وَيُفَارق الْمَنْكُوحَة نِكَاحا فَاسِدا فى الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يجب أَن يفرق بَينهمَا وَلَا اخْتِيَار لَهُ فِيهَا فَبَان الْفرق بَينهمَا
هَذَا كَلَام القاضى أَبى الطّيب وَهُوَ مُحْتَمل جيد يحْتَمل أَن يُقَال عدم إِمْسَاكه الْوَاحِدَة مَعَ قدرته وَلَكِن الشَّارِع لَهُ من إِِمْسَاكهَا بِمَنْزِلَة طَلاقهَا وَيحْتَمل أَلا يُقَال بِهِ

وَمَا أَظن ابْن الرّفْعَة وقف على كَلَام القاضى أَبى الطّيب هَذَا فَإِنَّهُ ذكر نَحوه بحثا لنَفسِهِ وَلَو وقف عَلَيْهِ لاستظهر بِهِ فَإِن ابْن الرّفْعَة قَالَ فى بَاب نِكَاح المشركات فِيمَا إِذا أسلم على أُخْتَيْنِ وطلق كل وَاحِدَة ثَلَاثًا وَقد نقل عَن ابْن الْحداد التَّخْيِير بَينهمَا مَعَ كَونه يمِيل فى أنكحة الْكفَّار إِلَى الْوَقْف وَأَن مُقْتَضَاهُ أَلا يجب مهر وَقد حكى عَنهُ الرافعى إِيجَاب الْمهْر وَأَن قَول الْوَقْف يُنَاسِبه أَلا يجب مهر
قَالَ ابْن الرّفْعَة قد يكون مَأْخَذ ابْن الْحداد فى إِيجَاب الْمهْر للمندفعة وَإِن بَان فَسَاد النِّكَاح فِيهِ كَونه عينهَا للفراق مَعَ صلاحيتها للبقاء بِاخْتِيَارِهِ الْأُخْرَى مَعَ أَنه لَا تَرْجِيح وَمثل ذَلِك وَإِن كَانَ جَائِزا فيناط بِهِ الْإِيجَاب على رأى بعض الْأَصْحَاب فِيمَا إِذا أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض وَقد بقى من الْوَقْت مَا يَتَّسِع لَهَا أَو لِلظهْرِ فَقَط أَو بقى مِنْهُ مَا يدْرك بِهِ الْعَصْر وَهُوَ رَكْعَة فَإنَّا نلزمه الظّهْر وَالْعصر بِإِدْرَاك أَربع رَكْعَات على رأى صَاحب الإفصاح وبإدراك رَكْعَة فَقَط على رأى غَيره وَهُوَ الذى قيل إِنَّه الْمُصَحح فى الْمَذْهَب وكل ذَلِك مَعَ قَوْلنَا إِنَّه لَو أدْرك دون ذَلِك لَا يكون بِهِ مدْركا لوَاحِدَة من الصَّلَاتَيْنِ وَإِذا تَأَمَّلت ذَلِك وجدت إِلْزَامه للصلاتين بِمَا يلْزمه بِهِ إِحْدَاهمَا إِنَّمَا هُوَ لِأَن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا تقبل أَن توقع فى ذَلِك الْوَقْت على الْبَدَل لَا مَعَ الْمَعِيَّة فَكَذَا فِيمَا نَحن فِيهِ جَازَ أَن يتَعَلَّق الْإِيجَاب بالقبولية على الْبَدَل وَإِن لم يُمكن الْجمع وَيصِح هَذَا المأخذ إِن كَانَ يَقُول بِأَنَّهُ إِذا أسلم على أَكثر من أَربع وأسلمن مَعَه أَنه يجب للمندفعات بِاخْتِيَارِهِ لغيرهن الشّطْر فَإِن لم يقل بِهِ فَلَا تَمام وَالظَّاهِر أَنه يَقُول بِهِ انْتهى
وَمَا ذكره من أَنه قد يكون مَأْخَذ ابْن الْحداد قد عرفت أَن القاضى أَبَا الطّيب قَالَه وللبحث فِيهِ مجَال قد يُقَال تعْيين الْفِرَاق فِيمَن لَهُ أَن يعين فِيهَا الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الطَّلَاق وَقد يُقَال بل إِذا جعل لَهُ ذَلِك فقد جعل لَهُ أَن يعين فِيهَا انْتِفَاء للزوجية بِالْكُلِّيَّةِ فَمن أَيْن الْمهْر فَلْيتَأَمَّل فى ذَلِك فإنى لم أشبعه بحثا

طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي

 

 

 

 

ابْن الْحداد الْعَلامَة الْحَافِظ شيخ عصره أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد جَعْفَر الْكِنَانِي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي
صَاحب المولدات الْمَشْهُورَة
لَازم النَّسَائِيّ وَتخرج بِهِ وَكَانَ من أوعية الْعلم ذَا السن وفصاحة تبصر بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْه والنحو وَالرِّجَال والكنى وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَالشعر وَأَيَّام النَّاس متعبداً كثير الصَّلَاة يخْتم فِي كل يَوْم ختمة صَادِقا فِي الْقَضَاء بعيد الصيت لَهُ أدب الفضاء وَغَيره مَاتَ لما قدم من الْحَج سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلاثمائة عَن ثَمَانِينَ سنة

طبقات الحفاظ - لجلال الدين السيوطي.

 

 

 

 

القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر ابن الحداد المصري صاحب الفروع : مات في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. وكان فقيهاً مدققاً وفروعه تدل على فضله.

- طبقات الفقهاء / لأبو اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي -.

 

 

 

محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر أبي بكر بن الحداد المصري – ولد: يوم مات المزني – ت يوم الثلاثاء في ذي الحجة سنة: 345 ه – من شيوخه: محمد بن عقيل الفريابي ، والنسائي – من مصنفاته: الفروع ، والباهر في الفقه – طبقات الشافعية الكبرى – 3 / 79 ، 80 ، 83 .

 

 

 

محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني:
قاض. من فقهاء الشافعية من أهل مصر. ولي فيها القضاء والتدريس. وكان قوّالا بالحق، ماضي الأحكام، فصيحا، متعبدا، له كتاب " الفروع " في فقه الشافعية. شركه كثيرون، و " الباهر " في الفقه، مئة جزء و " أدب القاضي " أربعون جزءا و " الفرائض " نحو مئة جزء. مات بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم  .

-الاعلام للزركلي-

 

 

 

 

ابن الحَدَّاد :
الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الثَّبْتُ, شَيْخُ الإِسْلاَم, عَالِمُ العَصْر, أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ الكِنَانِيُّ المِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ, ابْنُ الحَدَّادِ.
صَاحبُ كتَابِ الْفُرُوع فِي المَذْهب.
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ أَبَا الزِّنْباع رَوْح بنَ الفَرَجِ, وَأَبَا يَزِيْدَ يُوْسُف بن يَزِيْدَ القَرَاطِيْسِيّ، وَمُحَمَّد بن عَقِيْل الفِرْيَابِيّ، وَمُحَمَّد بن جَعْفَرِ بنِ الإِمَام, وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ، وَأَبَا يَعْقُوْب المَنْجَنِيْقيَّ, وَخلقاً سِوَاهُم.
وَلاَزمَ النَّسَائِيّ كَثِيْراً وتخرَّج بِهِ، وعَوّل عَلَيْهِ, وَاكتفَى بِهِ, وَقَالَ: جعلتُه حُجَّة فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الله تَعَالَى. وَكَانَ فَى العِلْم بَحْراً لاَ تكدِّره الدِّلاَء, وَلَهُ لَسَنٌ وَبلاغَة وَبَصَرٌ بِالحَدِيْثِ وَرِجَاله, وَعربيَّة مُتقَنَةٌ، وَبَاعٌ مَدِيد فِي الفِقْه لاَ يُجَارَى فِيْهِ, مَعَ التَأَلُّه وَالعِبَادَة وَالنَّوَافل, وبُعْد الصِّيت, وَالعَظَمَة فِي النُّفُوْس.
ذكره ابْن زُوْلاَق، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابه فَقَالَ: كَانَ تَقِيّاً متعبِّداً, يحسن عُلوماً كَثِيْرَة, عِلْم القُرْآن وَعِلْم الحَدِيْث وَالرِّجَال وَالكُنَى وَاختلاَفِ العُلَمَاء، وَالنَّحْو وَاللُّغَة وَالشِّعْر, وَأَيَّام النَّاس, وَيختِمُ القُرْآن فِي كُلِّ يَوْم، وَيَصُوْم يَوْماً وَيُفْطِر يَوْماً, كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ مِصْر إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ طَوِيْل اللِّسَان, حسن الثِّيَاب وَالمركوب, غَيْرَ مَطْعُوْنَ عَلَيْهِ فِي لَفْظٍ ولا فعل, وكان
حَاذِقاً بِالقَضَاء. صنَّف كتَاب "أَدب القَاضِي" فِي أَرْبَعِيْنَ جُزْءاً، وكتَاب "الفَرَائِض" فِي نَحْو مِنْ مائَة جُزْء.
أَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ الأَمِيْن, أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ النسَّابة, أَخْبَرَنَا أبي المَعَالِي بنُ صِابر, أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ الحَسَنِ بنِ الموَازينِي, أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ سعْدَان, أَخْبَرَنَا يُوْسُفُ بنُ القَاسِمِ القَاضِي, أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الحَدَّاد, سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ, سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بنَ فَضَالَة, سَمِعْتُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُوْلُ: الشَّافِعِيّ إِمَامٌ.
نقُلْتُ فِي "تَاريخ الإِسْلاَم" أنَّ مولد ابْن الحَدَّاد يَوْم مَوْت المُزَنِيّ, وَأَنَّهُ جَالَس أَبَا إِسْحَاقَ المَرْوَزِيَّ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِم وَنَاظرَه.

وكتَابُه فِي الفُروع مختصرٌ, دقَّق مَسَائِلَه, شَرحه القفَّال وَالقَاضِي أبي الطيِّبِ، وَأبي عَلِيٍّ السِّنْجِيّ, وَهُوَ صَاحِبُ وَجْه فِي المَذْهب.
قَالَ أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ: سَمِعْتُ الدَّارَقُطْنِيّ, سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْم بنَ مُحَمَّدٍ النَّسْوِي المُعَدَّل بِمِصْرَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ الحَدَّاد يَقُوْلُ: أَخَذْتُ نَفْسِي بِمَا رَوَاهُ الرَّبِيْع, عَنِ الشَّافِعِيّ, أَنَّهُ كَانَ يختِم فِي رَمَضَانَ سِتِّيْنَ خَتْمَة سِوَى مَا يقرأُ فِي الصَّلاَةِ, فَأَكْثَرُ مَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ تسعاً وَخَمْسِيْنَ خَتْمَة, وَأَتَيْت فِي غَيْر رَمَضَان بِثَلاَثِيْنَ خَتْمَة.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ابْنُ الحَدَّاد كَثِيْر الحَدِيْثِ, لَمْ يحدِّث عَنْ غَيْرِ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ: رَضِيْتُ بِهِ حُجَّة بَيْنِي وَبَيْنَ الله.
وَقَالَ ابْنُ يُوْنُسَ: كَانَ ابْنُ الحَدَّاد يُحسن النَّحْو وَالفَرَائِض, وَيدخُل عَلَى السَّلاَطين، وَكَانَ حَافِظاً للفِقّه عَلَى مَذْهَب الشَّافِعِيّ, وَكَانَ كَثِيْر الصَّلاَة متعبِّداً, وَلِي القَضَاء بِمِصْرَ نِيَابَةً لابْنِ هروَان الرَّمْلِيّ.
وَقَالَ المسبِّحيّ: كَانَ فَقِيْهاً عَالِماً كَثِيْر الصَّلاَة وَالصِّيَام, يَصُوْم يَوْماً وَيُفْطِر يَوْماً, وَيختِم القُرْآن فِي كُلِّ يَوْمٍ وَليلَةٍ, قَائِماً مُصَلِّياً.
قَالَ: وَمَاتَ وصلِّيَ عَلَيْهِ يَوْم الأَرْبعَاء, وَدُفِنَ بِسَفْحِ المقطَّم عِنْد قَبْر وَالدَتِه، وَحضر جِنَازَتَه الملكُ أبي القَاسِمِ بن الإِخْشِيذ, وَأبي المِسْك كَافور, وَالأَعيَانُ, وَكَانَ نسيجَ وَحدِه فِي حِفْظ القُرْآن وَاللُّغَة وَالتَّوسُّع فِي عِلْم الفِقْه، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ مِنْ سِنِيْنَ كَثِيْرَة يغَشْاهَا المُسْلِمُوْنَ، وَكَانَ جِداً كُلّه, رَحِمَهُ اللهُ, فَمَا خلّف بِمِصْرَ بَعْدَهُ مثله.
قَالَ: وَكَانَ عَالِماً أَيْضاً بِالحَدِيْثِ وَالأَسْمَاء وَالرِّجَال وَالتَّارِيْخ.
وَقَالَ ابْنُ زُوْلاَق فِي "قُضَاة مِصْر" فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِيْنَ: سلَّم الإِخْشِيذ قَضَاءَ مِصْر إِلَى ابْنِ الحَدَّاد، وَكَانَ أَيْضاً ينظُر فِي المَظَالم, وَيوقِّع فِيْهَا, فنَظَر فِي الحكم خِلاَفَةً عَنِ الحُسَيْنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيّ, وَكَانَ يجلِسُ فِي الجَامع، وَفِي دَاره, وَكَانَ فَقِيْهاً متعبِّداً, يُحسن علوماً كَثِيْرَةً, مِنْهَا: عِلْم القُرْآن, وَقولُ الشَّافِعِيّ, وَعِلْم الحَدِيْث, وَالأَسْمَاء وَالكُنَى, وَالنَّحْو وَاللُّغه, وَاختلاَف العُلَمَاء، وَأَيَّامُ النَّاس, وَسِير الجَاهِليَة, وَالنَّسب، وَالشِّعْر, وَيحفَظُ شِعراً كَثِيْراً, وَيجيد الشعر, ويختم في كل يوم وَليلَةٍ, وَيَصُوْم يَوْماً وَيُفْطِر يَوْماً, وَيختم يَوْم الجُمُعَة خَتْمَة أُخْرَى فِي رَكْعَتَيْنِ فِي الجَامع قَبْلَ صَلاَة الجُمُعَة, سِوَى الَّتِي يختمهَا كُلّ يَوْم, حسنَ الثِّيَاب رفيعهَا, حسنَ الْمَرْكُوب, فَصِيْحاً غَيْر مَطْعُوْنَ عَلَيْهِ فِي لفظٍ، وَلاَ فَضْل, ثِقَةً فِي اليَد وَالفَرْج وَاللِّسَان, مجموعاً عَلَى صِيَانته وَطَهَارته, حَاذِقاً بعِلْم القَضَاء, أَخذَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ القَاضِي.
وَأَخَذَ عِلْم الحَدِيْث عَنِ النَّسَائِيّ, وَالفِقْه عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْل الفِرْيَابِيّ, وَعَنْ بِشْر بن نَصْرٍ, وَعَنْ مَنْصُوْر بن إِسْمَاعِيْلَ، وَابْن بَحْر, وَأَخَذَ العَرَبِيَّة عَنِ ابْنِ وَلاَّد, وَكَانَ لحبِّه الحَدِيْث لاَ يدعُ المذَاكرَة, وَكَانَ يلزَمَهُ مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ البَاوردِي الحَافِظُ, فَأَكْثَرَ عَنْهُ مِنْ مصنَّفَاته, فذَاكره يَوْماً بِأَحَادِيْثَ فَاسْتحسنهَا ابْنُ الحَدَّاد وَقَالَ: اكتُبْهَا لِي, فكتَبَهَا لَهُ, فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَمِعَهَا مِنْهُ, وَقَالَ: هَكَذَا يُؤخذ العِلْم, فَاسْتحسن النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ, وَكَانَ تتبَّع أَلفَاظه، وَتُجْمَع أَحْكَامه, وَلَهُ كتَابُ البَاهر فِي الفِقْه نَحْو مائَة جُزْء، وكتَاب الجَامع.

وفِي ابْن الحَدَّاد يَقُوْلُ أَحْمَد بن مُحَمَّدٍ الكَحَّال:
الشَّافِعِيّ تفقهاً وَالأَصْمَعِيّ ... تفنُناً وَالتَّابِعِيْنَ تزهدَا
قَالَ ابْنُ زولاَق: حدَّثنا ابْنُ الحَدَّاد بكتَاب خصَائِص عليّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, عَنِ النَّسَائِيّ, فَبَلَغَه عَنْ بَعْضهم شَيْءٌ فِي عَلِيّ فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَملِي الكِتَابَ في الجامع.
قَالَ ابْنُ زولاَق: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بنُ حسن قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الحَدَّاد يَقُوْلُ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ ابْنِ الإِخْشِيذ -يَعْنِي: مَلِكَ مِصْر, فلمَّا قُمْنَا أَمسكنِي وَحْدِي فَقَالَ: أَيُّمَا أَفْضَل, أبي بَكْرٍ وَعُمَرُ أَوْ عليّ؟ فَقُلْتُ: اثْنَيْنِ حِذَاء وَاحد, قَالَ: فَأَيُّمَا أَفْضَل, أبي بَكْرٍ أَوْ عليّ؟ قُلْتُ: إِنْ كَانَ عِنْدَك فعلِيّ, وَإِنْ كَانَ برّاً فَأبي بَكْرٍ, فَضَحِكَ.
قَالَ: وَهَذَا يُشبه مَا بَلَغَنِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ, أَنَّهُ سأَله رَجُلٌ: أَيُّمَا أَفْضَل, أبي بَكْرٍ أَوْ عَلِيُّ? فَقَالَ: عُدْ إليَّ بَعْد ثَلاَث, فَجَاءهُ فَقَالَ: تقدَّمْنِي إِلَى مُؤخَّر الجَامع, فتقدَّمه, فَنَهَضَ إِلَيْهِ وَاسْتعفَاهُ فَأَبَى, فَقَالَ: عَلِيٌّ, وَتَالله, لَئِنْ أَخَبْرتَ بِهَذَا أَحداً عنِّي لأقولنَّ للأَمِيْرِ أَحْمَدَ بن طُولُوْنَ, فيضربك بالسياط.

وَقَدْ وَلِيَ القَضَاءَ مِنْ قِبَلِ ابْن الإِخْشِيذ, ثُمَّ بَعْد سِتَّة أَشهر وَرد العَهدُ بِالقَضَاء من قاضي العراق ابن أبي الشوارب ابن أَبِي زُرْعَةَ, فَرَكِبَ بِالسَّوَاد، وَلَمْ يَزَلِ ابْنُ الحَدَّاد يَخلفه إِلَى آخر أَيَّامه.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي زُرْعَةَ يتأدَّب مَعَهُ وَيُعظِّمُه, وَلاَ يخَالفُه فِي شَيْءٍ, ثُمَّ عُزِل عَنْ بَغْدَاد ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ بِأَبِي نَصْرٍ يُوْسُف بنِ عُمَرَ, فَبَعَثَ بِالعهد إِلَى ابْنِ أَبِي زُرْعَةَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: صنَّف أبي بَكْرٍ بنُ الحَدَّاد كتَابَ "الفُروع" فِي المَذْهَب، وَهُوَ صَغِيْرُ الْحَجْم, دقَّقَ مَسَائِلَه، وَشرَحه جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّة؛ منهُم: القفَّال المَرْوَزِيُّ, وَالقَاضِي أبي الطَّيِّبِ، وَأبي عَلِيٍّ السنجي, إلى أن قَالَ: أَخَذَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ.
وَمولده يَوْمَ مَاتَ المُزَنِيّ، وَكَانَ غَوَّاصاً عَلَى المعَانِي محقِّقاً.
توفِّي سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ, وَقِيْلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ.
قُلْتُ: حَجَّ وَمَرِضَ فِي رُجُوعه, فَأَدْركه الأَجل عِنْد البِئر وَالجُمَّيْزَة, يَوْم الثّلاَثَاء لأربَع بَقَيْنَ مِنَ المحرَّم سَنَةَ أَرْبَعٍ, وَهُوَ يَوْم دُخُول الرَّكْب إِلَى مِصْرَ، وَعَاشَ تسعاً وَسَبْعِيْنَ سَنَةً وَأَشهراً, وَدُفِن يَوْم الأَرْبعَاء عند قبر أمه, أرَّخَه المسبَّحي.

سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي