يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل الأنصاري الخزرجي أبي الحجاج

النصري

تاريخ الولادة718 هـ
تاريخ الوفاة755 هـ
العمر37 سنة
مكان الوفاةغرناطة - الأندلس
أماكن الإقامة
  • الأندلس - الأندلس
  • غرناطة - الأندلس

نبذة

يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجّاج. حاله وصفته: كان أبيض أزهر، أيّدا، برّاق الثنايا، أنجل، رجل الشّعر أسوده، كثّ اللحية، تقع العين منه على بدر تمام، يفضل الناس بحسن المرأى وجمال الهيئة.

الترجمة

يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي
أمير المسلمين بالأندلس، أبو الحجّاج.
حاله وصفته: كان أبيض أزهر، أيّدا، برّاق الثنايا، أنجل، رجل الشّعر أسوده، كثّ اللحية، تقع العين منه على بدر تمام، يفضل الناس بحسن المرأى وجمال الهيئة كما يفضلهم مقاما ورتبة، عذب اللسان، وافر العقل، عظيم الهيبة، إلى ثقوب الذهن، وبعد الغور، والتفطّن للمعاريض، والتّبريز في كثير من الصنائع العملية، مائلا إلى الهدنة، مزجيا للأمور، كلفا بالمباني والأثواب، جمّاعة للحلي والذّخيرة، مستميلا لمعاصريه من الملوك. تولّى الملك بعد أخيه بوادي السّقائين من ظاهر الخضراء، ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، وسنّه إذ ذاك خمسة عشر عاما وثمانية أشهر. واستقلّ بالملك، واضطلع بالأعباء، وتملّأ الهدنة ما شاء. وعظم مرانه لمباشرة الألقاب، ومطالعة الرسم، فجاء نسيج وحده، ثم عانى شدائد العدو، فكرم يوم الوقيعة العظمى بظاهر طريف موقعه ، وحمد بعد في منازلة الطّاغية عند الجثوم على الجزيرة صبره، وأجاز البحر في شأنها، فأفلت من مكيدة العدو التي تخطّاها أجله، وأوهن حبلها سعده.
ولما نفذ فيها القدر، وأشفت الأندلس، سدّد الله أمور المسلمين بها على يده، وراخى مخنّق الشّدة بسعيه، فعرفت الملوك رجاحته، وأثنت على قصده، إلى حين وفاته .
أمه: أم ولد تسمى بهارا، طرف في الخير والصون والرجاحة.
ولده: كان له ثلاثة من الولد، كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده، وتلوه أخوه إسماعيل المستقر في كنفه، محجورا عليه التصرف إلى أعمال التدبير، وثالثهم اسمه قيس، شقيق إسماعيل.
وزراء دولته: تولّى وزارته لأول أمره، كبير الأكرة ونبيه الدهّاقين ، من منتجعي المدر بحضرته، أبو إسحاق بن عبد البر، لمخيّلة طمع نشأت لمقيمي الدولة فيما بيده، سدّا لحال بها على عوز طريقه إلى حضرته، إلى ثالث شهر المحرم من العام. وأنف الخاصة والنبهاء رياسته، فطلبوا من السلطان إعاضته، فعدل عنه إلى خاصة دولتهم الحاجب أبي النعيم رضوان ، مظنّة التّسديد، ومحطّ الإنفاق، فاتصل نظره مستبدا عليه، في تنفيذ الأمور، وتقديم الولاة والعمال، وجواب المخاطبات، وتدبير الرعايا، وقود الجيوش. ثم نكبه ، وأحاط به مكروها، مجهول السبب، ليلة الأحد الثاني والعشرين لرجب عام أربعين وسبعمائة.
وتولّى الوزارة بعده، ابن عمة أبيه القائد أبو الحسن علي بن مول بن يحيى بن مول الأمي، ابن عم وزير أخيه، رجل جهوري حازم؛ مؤثر للغلظة على الشّفقة ، ولم ينشب أن كفّ استبداده، فانكدر نجم سعادتهم، والتأثث حاله، ولزمته شكاية سدكت فاستنقذته . وأقام لرسم الوزارة كاتبه شيخنا نسيج وحده أبا الحسن بن الجياب إلى أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة. وهلك، رحمه الله، فأجري لي الرّسم، وعصّب لي تلك المثابة، مضاعف الجراية، معزّزة بولاية القيادة.
كتّابه: تولّى كتابته كاتب أخيه وأبيه، شيخنا المذكور إلى حين وفاته. وقلّدني كتابة سرّه مثنّاة بمزيد قربه، مظفّرة برسم وزارته.
قضاته: تولّى أحكام القضاء، قاضي أخيه الصّدر البقيّة، شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف، وفقد في مصافّه، وتحت لوائه . وتولى القضاء الفقيه المفتي البقيّة أبو عبد الله محمد بن عيّاش ، من أهل مالقة أياما، ثم طلب الإعفاء، فأسعف عن أيام تقارب أسبوعا، وولّي مكانه الفقيه أبو جعفر أحمد بن محمد بن برطال من أهل مالقة، فسدّد الخطّة، وأجرى الأحكام، إلى الرابع من شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة. وقدّم عوضا عنه، الفقيه الشريف الصّدر الفاضل أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السّبتي المولد والمنشأ ، الطالع على أفق حضرته في أيام أخيه، النازع إلى إيالتهم النصرية، معدودا في مفاخر أيامها، مشارا إليه بالبنان عند اعتبار أعلامها؛ ثم عزله لغير جرمة تذكر، إلّا ما لا ينكر وقوعه، مما تجره تبعات الأحكام. وولّي الخطة شيخنا نسيج وحده الرّحلة البقية أبا البركات بن الحاج، شيخ الصّقع، وصدر الجلّة. واستمرّ قاضيا إلى ... وأربعين وسبعمائة. ثم أعاد إليها القاضي المفوض هونه، الشريف الفاضل، أبا القاسم، إلى يوم وفاته.
رئيس الغزاة ويعسوب الجند الغربي:
تولّى ذلك لأول الأمر الشيخ أبو ثابت عامر بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق، قريع دهره في النكراء والدهاء، المسلّم له في الرتبة، عتاقة ورأيا وثباتا، إلى أن نكبه، وقبض عليه وعلى إخوته، يوم السبت التاسع والعشرين من ربيع الأول، عام أحد وأربعين وسبعمائة. وأقام شيخا ورئيسا، دائلهم وابن عمّهم، المتلقّف لكرة عزّهم يحيى بن عمر بن رحّو، ولي ذلك بنفسه ونديمه ومبرز خصاله إلى تمام مدته.
من كان على عهده من الملوك:
وأولا بفاس دار الملك بالمغرب، السلطان المتناهي الجلالة، أبو الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق. وجاز على عهده إلى الأندلس، إثر صلاة يوم الجمعة تاسع عشر صفر، من عام أحد وأربعين وسبعمائة، بعد أن أوقع بأسطول الروم، المستدعى من أقطارهم، وقيعة كبيرة شهيرة، استولى فيها من المتاع والسلاح والأجفان، على ما قدم به العهد، واستقر بالخضراء في جيوش وافرة، وكان جوازه، في مائة وأربعين جفنا غزويا. وبادر إلى لقائه، واجتمع به في وجوه الأندلسيين وأعيان طبقاتهم بظاهر الجزيرة الخضراء، في اليوم الموفي عشرين من الشهر المذكور . ونازل إثر انقضاء المولد النّبوي، مدينة طريف، ونصب عليها المجانيق، وأخذ بمخنّقها، واستحثّ من بها من المحصورين طاغية الروم ، فبادر يقتاد جيشا يجرّ الشّجر والمدر. وكانت المناجزة يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى من العام. ومحّص المسلمون بوقيعة هائلة، أتت على النفوس والأموال والكراع، وهلك فيها بمضرب الملك جملة من العقائل الكرام، فعظمت الأحدوثة، وجلّت المصيبة، وأسرع اللّحاق بالمغرب مفلولا في سبيل الله، محتسبا يروم الكرّة.
وكان ما هو معلوم من إمعانه في حدود الشّرق، عند إحكام المهادنة بالأندلس، وتوغّله في بلاد إفريقية، وجريان حكم الله عليه بالهزيمة، ظاهر القيروان التي لم ينتشله الدهر بعدها، وعلقت آمال الخلق بولده، مستحق الملك، من بين سائر إخوته، وهلك على تفئة لحاقه بأحواز مراكش، ليلة الأربعاء السادس والعشرين لربيع الأول عام اثنين وخمسين وسبعمائة، فاختار الله له ما عنده ، بعد أن بلغ من بعد الصيت، وتعظيم الملوك له، وشهرة الذكر، ما لم يبلغه سواه.
ونحن نجلب دليلا على فضله، والإشادة بفخره، نسخة العقد الذي تضمن هديته إلى صاحب الديار المصرية، صحبة الرّبعة الكريمة بخطه، وذلك قبّة من مائة بنيقة، وفيها أربعة أبواب، وقبّة أخرى من ستة وثلاثين بنيقة؛ داخلها حلة محلوقة ووجهها حرير أبيض، وركيزها أبنوس وعاج مرصع، والأهار فضة مذهبة، والشرائط حرير. وضربت القبّتان بالصفصيف، وحلّ فيها جميع الهدية. وصفّفت جميع الدواب بجهازاتها أمام القبة، من الخيل ثلاثمائة، وخمسة وثلاثون من البغل بين ذكور وأناث، ومن الجمال سبعمائة، إلا أنها لم تصفّف، بل أعدّت لحمل الهدية، ومن البزاة الأحرار أربعة وثلاثون، ومن أحجار الياقوت مائتان وخمسة وعشرون، ومن قطب الزمرد مائة وثمانية وعشرون، ومن حبوب الجوهر الفاخر أكثره، ثلاثة آلاف وأربعة وستون. ومن أحجار الزبرجد ثمانية وعشرون، ومن المهنّدات بحلية الذهب عشرة، ومن أزواج مهاميز الذهب عشرة، ومن أزواج الأركب عشرة؛ واحد كله ذهب، وثلاثة كلها فضة، وستة من حبحبة مذهبة على الحديد، واثنان من اللضمات من ذهب، وشاشية مذهبة، وحلل: ثلاث عشرة، وعشر كلل ومخاد حلة. وتوق ذهب:
مائتان، واشتراق ذهب: عشرون. وقدود: ستة وأربعون. وفرش جلّة. وعشر علامات معشّشة. وعشر وقايات مذهّبة. وثلاثون من وجوه اللّحف حرير وذهب.
ومائتان من المحررات الملونة الرفيعة المختمة. وحيطيان أحدهما حلة والآخر طوق.
وثلاثة وعشرون شّقة من الرهاز. واثنان من هنابل الحلة. وعشرة براقع للخيل، منها ثمانية من الحلة. ومن أسلة الخيل ثلاثون، وثلاثة طنافس من الحرير. وهنابل حرير:
اثنان. وعشرة هنابل من الحرير والصوف. وهنابل وانشريشية وزمورية: مائة وسبعة.
وأربعة آلاف من الجلد التركي والأغماتي. ومن درق اللّمط المثمنة مائتان. ومن الأكسية المحررة أربعة وعشرون. ومن البرانس المحررة ثمانية. ومن الأحارم ما بين محررة وصوف عشرون. ومن أزواج المحفف خمسون. وعشر لزمات من الفضة.
وست عشرة شقة من الملف. وأما أزودة الحجاج فأعطى للحرة المكرمة أخته، أعزّها الله، ثلاثة آلاف دنير من الذهب، ومائتي كسوة برسم العرب. ولمن سافر معها ستمائة وسبعين. ولأبي إسحاق بن أبي يحيى ثلاثمائة من الذهب وكسوة رفيعة.
ولعريفه يحيى السويدي ألف دنير من الذهب. إلى العدد الكثير من الذهب العين برسم الوصفان والخدام، ولرسوم التحبيس على قراء الرابعة الكريمة، ستة عشر ألفا وخمسمائة دنير. انتهى.
وكان هذا السلطان، رحمه الله، ممّن دوّخ الأقطار، وجاهد الكفار، ووطئ بالأساطيل خدود البحار، والتمس ما عند الله من الثواب، وأعلق يده من نسخ كتابه بأوثق الأسباب، إلى أن استوسق الأمر لولده، أمير المؤمنين بالمغرب وما إليه، فارس المكني بأبي عنان، الملقب بالمتوكل على الله. فقام بالأمر أحمد قيام.
وجرت بين هذا السلطان وبينه المخاطبات والمراسلات. وسفّرني إليه لأول الأمر، معزّيا بأبيه، ومهنّئا بما صار إليه من ملكه، واستصحبت إليه كتابا من إنشائي، نجليه بحول الله، تجميما لمن يقف على هذه الأخبار، وإن اقتحمتها ثبج الإكثار، وهو:
المقام الذي رسخت منه في مقامي الصّبر والشكر قدم، فلا يغيره وجود لا يروعه عدم، وصدقت منه في كتاب المجد عزمة لم يختلجها وهن ولا ندم، حتى تصرفت بحكم معاليه، أيام دهره ولياليه، هو ولدان وهذه خدم. مقام محل أخينا الذي إن جاشت النوائب، وسعها صدره، أو عظمت المواهب، ترفع عنها قدره، أو أظلمت الكروب جلاها بدره. أو تألبت الخطوب هزمها صبره، أو أظلّت سحائب النعم أسدرها حمد الله وشكره، أو عرضت عقود الحمد في أسواق المجد أغلاها فجره، أو راقت حلل الصنائع طرّزها ذكره، أو طبّقت سيوف الناس أغمدها صفحه، وسلّها قهره. السلطان الكذا أبقاه الله ضاحك السعد كلما بكت عين، مجموع الشّمل كلما أزف بين، واري الزّند إذا اقتضى دين، محمي الذّمار بانفساح الأعمار كلما أغار على الأحياء حين. ولا زال يقيد منه شكر الله نعما ما في وعدها ليّ ولا في قولها مين، ويلبس منها حللا تقواه في عواتقها زين. مساهمة في كل خطب غمّ، أو فضل من الله عمّ، ومقاسمة في كل ما ألمّ. وتهنئة بالملك الذي خلص وتمّ، فلان.
أما بعد حمد الله الذي جعل الصّبر في الحوادث حصنا منيعا، والشكر يستدعي المزيد من النعم سريعا، فمتى أعملت للصبر دعوة كان بها الأجر سميعا، ومتى رفعت من الشكر رقعة كان المزيد عليها توقيعا، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بوّأنا من السعادة جنابا مريعا، وبين له حدود أوامره ونواهيه فطوبى لمن كان مطيعا، وكان لنا في الدنيا هاديا ونجده في الآخرة شفيعا، والرضا عن آله وصحبه الذين كانوا على العداة قيظا وللعفاة ربيعا، فحلّوا من الاقتداء به فيما ساء وسرّ وأحلى وأمرّ مقاما رفيعا. وخفض عليهم مضاضة فقده، مثابرتهم على ضمّ شمل المسلمين من بعده، اقتداء بقوله سبحانه: واعتصموا بحبل الله جميعا. والدّعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يشكر منه الجياد والبيض الحداد صنيعا، وتشرح منه ألسن الأقلام تهذيبا وتقريعا، والصبر الذي زرافات الأجر قطيعا فقطيعا. فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم من حظوظ الخير أوفرها عددا، وأقطعكم من خطط السّعد أبعدها مدا. وأتبعكم من كتائب العز أطولها يدا، وخوّلكم من بسطة الملك ما لا يبيد أبدا، وألهمكم من الصبر لما تقدّمونه فتجدونه غدا. من حمراء غرناطة، حرسها الله، وعندنا من الاعتداد في الله أسباب وثيقة، وأنساب صدق في بحبوحة الخلوص عريقة، ومن الثناء عليكم حدائق روض لا تحاكيها حديقة، ومن المساهمة لكم في شتّى الأحوال مقاصد لا تلتبس منها طريقة، ومن السّرور بما سناه الله لكم نعم بشكر الله عزّ وجلّ خليقة.
وإلى هذا، أيّدكم الله بنصره، وحكم لمقامكم بشدّ أزره، وإعلاء أمره، فإنّنا ورد علينا الخبر الذي قبض وبسط، وجار وأقسط، وبخس ووفى، وأمرض وشفى، وأضحى وظلّل، وتجهّم وتهلّل، وأمرّ وأحلى وأساء ثم أحسن، وبشّر بعد ما أحزن، خبر وفاة والدكم، محلّ أبينا، السلطان العظيم القدر، الكبير الخطر، قدّس الله طاهر تربته، وكرّم لحده، كما أحيا بكم معالم مجده. فيا له من سهم رمى أغراض القلوب فأثبتها، وطرق مجتمعات الآمال فشتّتها. ونعى إلى المجد إنسان عينه وعين إنسانه، وإلى الملك هيولى أركانه، وإلى الدين ترجمة ديوانه، وإلى الفضل عميد إيوانه.
حادث نبّه العيون من سنة غرورها، وذكّر النفوس بهم أمورها. وأشرق المحاجر بماء دموعها، وأضرم الجوانح بنار ولوعها. وبيّن أن سراب الآمال سراب، وأنّ الذي فوق التّراب تراب. فمن تأمل الدنيا وطباعها، والأيام وإسراعها، والحوادث وقراعها، بدا له الحقّ من المين، واستغنى عن الأثر بالعين. فشأنها أن لا تفترّ عن سهم تسدّده إلى غرض، وصحّة تعقبها بمرض، وجوهر ترميه بعرض. وداء للموت قديم، وقربه لا يبقي عليه أديم، وكأسه يشربها موسر وعديم. دبّت إلى كسرى الفرس عقاربه، فلم تمنعه أساورته ولا مرازبه. وقصر قيصر على حكمه فكدّرت مشاربه، وأتبر سيف بن ذي يزن عمدانه فلم ترعه مضاربه، وأردى تبّعا فلم يكن في أتباعه من يحاربه. لم تدافع عنهم الجنود المجنّدة، ولا الصّفاح المهنّدة، ولا الدّروع المحكمة، ولا النّياب المعلمة. ولا الجياد الجرد المسوّمة، ولا الرّماح المثقّفة المقومة. كلّ قدّم على ما قدّم. وجّد إلى ما أعدّ. جعلنا الله ممن يسّر لسفره زادا، وقدّم بين يديه رباطا شافعا لديه وجهادا. ووثّر لنفسه بمناصحة الله والمؤمنين في أعلى عليين مهادا، وطوّق المسلمين عدلا وفضلا وإمدادا. غير أن هذا الفاجىء الذي فجع، ومنع القلوب أن تقرّ والعين أن تهجع، غمرته البشرى، وغلبته المسرّة الكبرى، وعارضته من بقائكم الآية المحكمة الأخرى، فاضمحلّ من بعد الرّسوخ، وصار ليله في حكم المنسوخ.
ما كان من استخلاصكم الملك الذي أنتم أهله، واحتيازكم المجد الذي أشرق بكم محلّه. وكيف بسهم أخطأ ذاتكم الشريفة، أن يقال فيه: أصمى وأجهز، والأمل بعد بقائكم أن يقال فيه: تعذّر أو أعوز. إنما الآمال ببقائكم للملإ منوطة، وسعادة الإسلام بحياتكم المتّصلة مشروطة.
ومنها: فأي ترح يبقى بعد هذا الفرح، وأي كسل ينشأ بعد هذا المرح. إن أفل البدر، فقد تبلّج الفجر، أو غاض النّيل فقد فاض البحر. وإن مال فلك الملك فقد عاد إلى مداره، وإن أذنب الدّهر فقد أحسن ما شاء في اعتذاره. إنما هذا الخطب وهنّ أعقبه ضوء النهار، وسطعت بعده أشعة الأنوار، وصمصامة أغمدت وسلّ من بعدها ذو الفقار.
ومنها: وإنّنا لما ... عن حقّه ورصدنا طالعه في أفقه قابلنا الواقع بالتّسليم، والمنحة الرّادفة بالشكر العظيم، وأنسنا في غمام الهدنة ربّ هذا الإقليم. وقلنا استقرّ الحق ووضحت الطرق، وهوى الرّائد وصدق البرق، وتقرّرت القاعدة وارتفع الفرق، واستبشر بإبلال المغرب أخوه الشّرق. وثابت آمال أولي الجهاد إلى اقتحام فرضة المجاز، وأولي الحج إلى مرافقه ركب الحجاز، وآن للدنيا أن تلبس الحلى العجيبة بعد الابتزاز. والحمد لله الذي زيّن بكم أفق الملك، وكيّف بسعدكم نظم ذلك السّلك. وهنّأ الله إيالتكم العباد والبلاد، والحجّ والجهاد. وصدّق الظنون الذي في مقامكم الذي جاز في المكارم الآماد. بادرنا، أيّدكم الله، من برّكم إلى غرضين، وقمنا من حقّ عزائكم وهنائكم بواجبين مفترضين وشرعنا ومن لدينا أن نباشر بالنفوس هذين القصدين. إلّا أننا عاقنا عن ذلك ما اتصل بنا من العدوّ الذي بلينا بجواره، ورمينا بمصابرة تيّاره، وإلّا فهذا الغرض قد كنّا لا نرى فيه بإجراء الاستنابة، ولا نحظى غيرنا بزيارة تلك المثابة. فليصل الفضل جلالكم، ويقبل العذر كمالكم. وإذا كان الاستخلاف مما تحتمله العبادة، ولا ينكره عند الضرورة العرف والعادة، فأحرى الأخوة والودادة، والفضل والمجادة. فتخيرنا جهدنا، واصطفينا لباب اللّباب فيمن عنادنا، فعينّا فلانا.
واتصلت أيامه إلى آخر مدته.
وبمدينة تلمسان: عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن بن زيّان، يكنى أبا تاشفين. وقد تقدم ذكره، وهو الذي انقضى ملك بني زيّان على يده.
تولّى الملك عام ثمانية عشر كما تقدم، وتهنّأه إلى أن تأكّدت الوحشة بينه وبين السلطان ملك المغرب، فتحرّك لمنازلته، وأخذ بكظمه ، وحصره سنين ثلاثا، واقتحم عليه ملعب البلدة ليلة سبع وعشرين من رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة. وفي غرّة شوال منها، دخل البلد من أقطاره عنوة، ووقف هو وكبير ولده برحبة قصره، قد نزعا لام الحرب المانعة من عمل السلاح استعجالا للمنيّة ورغبة في الإجهاز، وقاما مقام الثّبات والصبر والاستجماع، إلى أن كوثرا وأثخنا، وعاجلتهما منيّة العزّ قبل شدّ الوثاق، وإمكان الشّمات، واستولى على الملك ملك المغرب. وفي ذلك قلت من الرّجز المسمى بقطع السلوك في الدول الإسلامية، مما يخص ملوك تلمسان، ثم أميرها عبد الرحمن هذا : [الرجز]
وحلّ فيها عابد الرحمن ... فاغترّ بالدنيا وبالزمان
وسار فيها مطلق العنان ... من مظهر سام إلى جنان
كم زخرفت علياه من بنيان ... آثاره تنبي عن العيان
وصرف العزم إلى بجايه ... فعظمت في قومها النّكايه
حتى ما إذا مدّة الملك انقضت ... وأوجه الأيام عنهم أعرضت
وحقّ حقّ الدهر فيها ووجب ... وكتب الله عليها ما كتب
حثّ إليها السير ملك المغرب ... يا لك من ممارس مجرّب
فغلب القوم بغير عهد ... بعد حصار دائم وجهد
فأقفرت من ملكهم أوطانه ... سبحان من لا ينقضي سلطانه
ثم نشأت لهم بارقة، لم تكد تقد حتى خبت ، عندما جرت على السلطان أبي الحسن الهزيمة بالقيروان؛ وانبتّ عن أرضه، وصرفت البيعة في الأقطار إلى ولده، وارتحل إلى طلب منصور ابن أخيه، المنتزي بمدينة فاس، فدخلوا تلمسان، وقبضوا على القائم بأمرها، وقدّموا على أنفسهم عثمان بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن، المتقدم الذكر في رسم عثمان، وذلك في الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة. واستمرت أيامه أثناء الفتنة وارتاش، وأقام رسم الإمرة، وجدّد ملك قومه. واستمرت حاله إلى أن أوقع بهم ملك المغرب، أمير المسلمين أبو عنان الوقيعة المصطلمة التي خضدت الشوكة، واستأصلت الشّأفة.
وتحصّل عثمان في قبضته. ثم ألحقت النكبة به أخاه ، فكانت سبيلهما في القتل صبرا عبرة، وذلك في وسط ربيع الأول من عام التاريخ.
وبتونس: الأمير أبو يحيى أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحاق ابن الأمير أبي زكريا ، إلى أن هلك. وولي الأمر ولده عمر، ثم ولده أحمد، ثم عاد الأمر إلى عمر. ثم استولى ملك المغرب السلطان أبو الحسن على ملكهم. ثم ضمّ نشرهم بعد نكبته وخروجه عن وطنهم على أبي إسحاق بن أبي بكر.
ومن ملوك النصارى بقشتالة: ألفنش بن هرنده بن دون جانجه بن ألفنش المستولي على قرطبة، ابن هرنده المستولي على إشبيلية، إلى عدد جمّ. وكان طاغية مرهوبا، وملكا مجدودا. هبّت له الريح، وعظمت به إلى المسلمين النكاية.
وتملّك الخضراء بعد أن أوقع بالمسلمين الوقيعة الكبرى العظمى بطريف. ثم نازل جبل الفتح، وكاد يستولي على هذه الجزيرة، لولا أن الله تداركها بجميل صنعه وخفيّ لطفه، لا إله إلّا هو. فهلك بظاهره في محلّته حتف أنفه ليلة عاشوراء من عام أحد وخمسين وسبعمائة، فتنفس المخنّق، وانجلت الغمّة، وانسدل السّتر. كنت منفردا بالسلطان، رحمه الله، وقد غلب اليأس، وتوقّعت الفضيحة، أؤنسه بعجائب الفرج بعد الشدة، وأقوي بصيرته في التماس لطف الله، وهو يرى الفرج بعيدا، ويتوقع من الأمر عظيما. وورد الخبر بمهلكه، فاستحالت الحال إلى ضدها من السّرور والاستبشار، والحمد لله على نعمه. وفي ذلك قلت : [الطويل]
ألا حدّثاني فهي أم الغرائب ... وما حاضر في وصفها مثل غائب
ولا تخليا منها على خطر السّرى ... سروج المذاكي أو ظهور النّجائب
أيوسف، إنّ الدهر أصبح واقفا ... على بابك المأمول موقف تائب
دعاؤك أمضى من مهنّدة الظّبا ... وسعدك أقضى من سعود الكواكب
سيوفك في أغمادها مطمئنة ... ولكنّ سيف الله دامي المضارب
فثق بالذي أرعاك أمر عباده ... وسل فضله فالله أكرم واهب
لقد طوّق الأذفنش سعدك خزية ... تجدّ على مرّ العصور الذواهب
وفّيت وخان العهد في غير طائل ... وصدّق أطماع الظنون الكواذب
هوى في مجال العجب غير مقصّر ... وهل نهض العجب المخل براكب؟
وغالب أمر الله جلّ جلاله ... ولم يدر أنّ الله أغلب غالب
ولله في طيّ الوجود كتائب ... تدقّ وتخفى عن عيون الكتائب
تغير على الأنفاس في كل ساعة ... وتكمن حتى في مياه المشارب
فمن قارع في قومه سنّ نادم ... ومن لاطم في ربعه خدّ نادب
مصائب أشجى وقعها مهج العدا ... وكم نعم في طيّ تلك المصائب
شواظّ أراد الله إطفاء ناره ... وقد نفج الإسلام من كل جانب
وإن لم يصب منه السلاح فإنّما ... أصيب بسهم من دعائك صائب
ولله من ألطافه في عباده ... خزائن ما ضاقت لمطلب طالب
فمنهما غرست الصّبر في تربة الرضا ... بأحكامه فلتجن حسن العواقب
ولا تعدّ الأمر البعيد وقوعه ... فإن الليالي أمّهات العجائب
وهي طويلة سهلة؛ على ضعف كان ارتكابه مقصودا في أمداحه.
وببرجلونة : السلطان بطره المتقدم ذكره في اسم أخيه.
ومن الأحداث في أيامه الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى، من عام أحد وأربعين وسبعمائة، وما اتصل بذلك من منازل الطاغية ألهنشه قلعة يحصب الماسة الجوار من حضرته، واستيلائه عليها، وعلى باغة. ثم منازلة الجزيرة الخضراء عشرين شهرا، أوجف خلالها بجيوش المسلمين من أهل العدوتين إلى أرضه. ثم استقرّ منازلا إياها إلى أن فاز بها قداحه، والأمر لله العلي الكبير، في قصص يطول ذكره، تضمن ذلك «طرفة العصر» من تأليفنا. ثم تهنأ السلم، والتحف جناح العافية والأمنة برهة، رحمه الله.
وفاته : وما استكمل أيام حياته، وبلغ مداه، أتمّ ما كان شبابا واعتدالا وحسنا وفخامة وعزّا، حتى أتاه أمر الله من حيث لا يحتسب، وهجم عليه يوم عيد الفطر، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، في الركعة الأخيرة، رجل من عداد الممرورين ، رمى بنفسه عليه، وطعنه بخنجر كان قد أعدّه ، وأغرى بعلاجه، وصاح، وقطعت الصلاة، وقبض عليه، واستفهم، فتكلم بكلام مخلّط، واحتمل إلى منزله، على فوت لم يستقر به، إلّا وقد قضى، رحمه الله ورضي عنه، وأخرج ذلك الخبيث للناس، وقتل وأحرق بالنار، مبالغة في التشفي، ودفن السلطان عشية اليوم في مقبرة قصره لصق والده ، وولي أمره ابنه أبو عبد الله محمد، وبولغ في احتفال قبره، بما أشف على من تقدمه، وكتب عليه ما نصه:
«هذا قبر السلطان الشهيد، الذي كرمت أحسابه وأعراقه، وحاز الكمال خلقه وأخلاقه، وتحدّث بفضله وحلمه شام المعمور وعراقه، صاحب الآثار السّنيّة، والأيام الهنيّة، والأخلاق الرضيّة، والسير المرضيّة. الإمام الأعلى، والشّهاب الأجلى، حسام الملة، علم الملوك الجلّة، الذي ظهرت عليه عناية ربّه، وصنع الله له في سلمه وحربه. قطب الرّجاحة والوقار، وسلالة سيّد الأنصار، حامي حمى الإسلام برأيه ورايته، المستولي في ميدان الفخر على غايته، الذي صحبته عناية الله في بداية أمره وغايته، أمير المسلمين أبي الحجاج يوسف ابن السلطان الكبير، الإمام الشهير، أسد دين الله، الذي أذعنت الأعداء لقهره، ووقفت الليالي والأيام عند نهيه وأمره. رافع ظلال العدل في الآفاق، حامي حمى السّنة بالسمر الطوال والبيض الرّقاق، مخلّد صحف الذّكر الخالد والعزّ الباقي، الشّهيد السعيد المقدس أبي الوليد، ابن الهمام الأعلى الطاهر النسب والذات، ذي العز البعيد الغايات، والفخر الواضح الآيات، كبير الخلافة النصرية، وعماد الدولة الغالبيّة، المقدس المرحوم أبي سعيد فرج بن إسماعيل بن نصر، تغمّده الله برحمة من عنده، وجعله في الجنّة جارا لسعد بن عبادة جدّه، وجازى عن الإسلام والمسلمين حميد سعيه، وكريم قصده. قام بأمر المسلمين أحمد القيام، ومهّد لهم الأمن من ظهور الأيام، وجلّى لهم وجه العناية مشرق القسام، وبذل فيهم من تواضعه وفضله كل واضح الأحكام، إلى أن قضى الله بحضور أجله، على خير عمله، وختم له بالسعادة، وساق إليه على حين إكمال شهر الصوم هديّة الشهادة. وقبضه ساجدا خاشعا، منيبا إلى الله ضارعا، مستغفرا لذنبه، مطمئنا في الحالة التي أقرب ما يكون العبد فيها من ربّه. على يد شقيّ قيضه الله لسعادته، وجعله سببا لنفوذ سابق مشيئته وإرادته، خفي مكانه لخمول قدره، وتمّ بسببه أمر الله لحقارة أمره، وتمكّن له عند الاشتغال بعبادة الله، ما أضمره من غدره، وذلك في السجدة الأخيرة من صلاة العيد، غرة شوال، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، نفعه الله بالشهادة التي كرم منها الزمان والمكان، ووضح منها على قبول رضوان الله البيان، وحشره مع سلفه الأنصار الذين عزّ بهم الإيمان، وحصل لهم من النار الأمان. وكانت ولايته الملك في غرة اليوم الرابع عشر لذي الحجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة. ومولده في الثامن والعشرين لربيع الآخر عام ثمانية عشر وسبعمائة. فسبحان من انفرد بالبقاء المحض، وحتّم الفناء على أهل الأرض، ثم يجمعهم إلى يوم الجزاء والعرض، لا إله إلا هو.
وفي الجهة الأخرى من النظم، وكلاهما من إملائي، ما نصه: [الطويل]
يحيّيك بالريحان والروح من قبر ... رضى الله عمّن حلّ فيك مدى الدّهر
إلى أن يقوم الناس تعنو وجوههم ... إلى باعث الأموات في موقف الحشر
ولست بقبر إنما أنت روضة ... منعّمة الريحان عاطرة النّشر
ولو أنني أنصفتك الحقّ لم أقل ... سوى يا كمام الزّهر أو صدف الدّرّ
ويا ملحد التقوى ويا مدفن الهدى ... ويا مسقط العليا ويا مغرب البدر
لقد حطّ فيك الرحل أيّ خليفة ... أصيل المعالي غرّة في بني نصر
لقد حلّ فيك العزّ والمجد والعلى ... وبدر الدّجا والمستجار لدى الدهر
ومن كأبي الحجاج حامي حمى الهدى؟ ... ومن كأبي الحجاج ماحي دجا الكفر؟
إمام الهدى غيث النّدى دافع العدا ... بعيد المدى في حومة المجد والفخر
سلالة سعد الخزرج بن عبادة ... وحسبك من بيت رفيع ومن قدر
إذا ذكر الإغضاء والحلم والتّقى ... وحدّثت عن علياه حدّث عن البحر
تخوّنه طرف الزمان وهل ترى ... بقاء لحيّ أو دواما على أمر؟
هو الدهر ذو وجهين يوم وليلة ... ومن كان ذا وجهين يعتب في غدر
تولّى شهيدا ساجدا في صلاته ... أصيل التقى رطب اللسان من الذكر
وقد عرف الشّهر المبارك حقّ ما ... أفاض من النّعمى ووفّى من البرّ
وباكر عيد الفطر والحكم مبرم ... وليس سوى كأس الشهادة من فطر
أتيح له وهو العظيم مهابة ... وقدرا حقير الذّات والخلق والقدر
شقيّ أتته من لدنه سعادة ... ومنكر قوم جاء بالحادث النّكر
وكم من عظيم قد أصيب بخامل ... وأسباب حكم الله جلّت عن الحصر
فهذا عليّ قد قضى بابن ملجم ... وأوقع وحشي بحمزة ذي الفخر
نعدّ الرّماح المشرفيّة والقنا ... ويطرق أمر الله من حيث لا تدري
ومن كان بالدّنيا الدّنية واثقا ... على حالة يوما فقد باء بالخسر
فيا مالك الملك الذي ليس ينقضي ... ويا من إليه الحكم في النهي والأمر
تغمّد بستر العفو منك ذنوبنا ... فلسنا نرجّي غير سترك من ستر
فما عندك اللهمّ خير ثوابه ... وأبقى ودنيا المرء خدعة مغترّ
ومما رثي به قولي في غرض ناء عن الجزالة، متحرّيا اختيار ولده :
[الكامل]
العمر يوم والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمرّ منام
وإذا تحقّقنا لشيء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام
والنفس تجمع في مدى آمالها ... ركضا، وتأبي ذلك الأيام
من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه نفذت بذا الأحكام
بعد الشبيبة كبرة ووراءها ... هوم ومن بعد الحياة حمام
ولحكمة ما أشرقت شهب الدّجا ... وتعاقب الإصباح والإظلام
دنياك يا هذا محلّة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام
هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السّماح وأعدم الإعدام
سرّ الإمامة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضّرغام
قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعزّ سام والخميس لهام
فجعت به الدنيا وكدّر شربها ... وشكى العراق مصابه والشام
أسفا على الخلق الجميل كأنه ... بدر الدّجنّة قد جلاه تمام
أسفا على العمر الجديد كأنه ... غضّ الحديقة زهره بسّام
أسفا على الخلق الرّضيّ كأنها ... زهر الرّياض همى عليه غمام
أسفا على الوجه الذي مهما بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام
يا ناصر الثّغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسماء قتام
يا صاحب الصّدمات في جنح الدجا ... والناس في فرش النعيم نيام
يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام
مولاي، هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام؟
مولاي، هل لك للعبيد تذكّر؟ ... حاشاك أن تنسى لديك ذمام
يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزّة نصره الأعلام
وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النّهى والجود والإقدام
ورحلت عنّا الرّكب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام
نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزّاد فيه تهجّد وصيام
وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم كيل والضياء ظلام
وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحيّ مدام
وختمت عمرك بالصلاة فحبّذا ... عمل كريم سعيه وختام
مولاي، كم هذا الرقاد؟ إلى متى ... بين الصّفائح والتّراب تنام؟
أعد التحيّة واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام
تبكي عليك مصانع شيّدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام
تبكي عليك مساجد عمّرتها ... فالناس فيها سجّد وقيام
تبكي عليك خلائق أمّنتها ... بالسّلم وهي كأنها أنعام
عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام
لو كنت تفدى أو تجار من الرّدى ... بذلت نفوس من لدنك كرام
لو كنت تمنع بالصّوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام
لكنه أمر الإله وما لنا ... إلّا رضى بالحكم واستسلام
والله قد كتب الفنا على الورى ... وقضاؤه جفّت به الأقلام
نم في جوار الله مسرورا بما ... قدّمت يوم تزلزل الأقدام
واعلم بأن سليل ملك قد غدا ... في مستقرّ علاك وهو إمام
ستر تكنّف منه من خلّفته ... ظلّ ظليل فهو ليس يضام
كنت الحسام وصرت في غمد الثّرى ... ولنصر ملكك سلّ منه حسام
خلّفت أمّة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمّة الأحكام
فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام
أبقى رسومك كلّها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام
العدل والشّيم الكريمة والتّقى ... والدّار والألقاب والخدّام
حسبي بأن أغشى ضريحك لائما ... وأقول والدمع السّفوح سجام
يا مدفن التّقوى ويا مثوى الهدى ... منّي عليك تحية وسلام
أخفيت من حزني عليك وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام
ولو انني أدّيت حقّك لم يكن ... لي بعد فقدك في الوجود مقام
وإذا الفتى أدّى الذي في وسعه ... وأتى بجهد ما عليه ملام
وكتبت في بعض المعاهد التي كان يأنس بها رحمة الله عليه
: [السريع]
غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب
يا يوسف، أنت لنا يوسف ... وكلّنا في الحزن يعقوب
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.

 

 

أَبُو الحَجَّاج النَّصْري
(718 - 755 هـ = 1318 - 1354 م)
يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل، أَبو الحَجّاج الأنصاري الخزرجي النصري:
سابع ملوك " بني نصر " ابن الأحمر، في الأندلس. بويع بغرناطة ساعة مقتل أخيه محمد (أواخر سنة 733) وسنه إذ ذاك خمسة عشر عاما وثمانية أشهر. وكان في صباه كثير الصمت والسكون، فلم يمارس شيئا من أعمال الدولة إلا بعد أن توفرت له الحنكة والتجارب، فقام بأعباء الملك، وباشر بعض الحروب بنفسه. وقاتله الإسبانيون، فثبت لهم مدة، إلى أن " نفذ بالجزيرة القدر وأشفت الأندلس " كما يقول لسان الدين ابن الخطيب، فسدد الأمور، وتمكن بسعيه من تخفيف حدة الشدة. وفي أيامه كانت وقعة البحر بأسطول اروم، ثم الوقيعة على المسلمين بظاهر طريف، وتغلب العدوّ على قلعة يحصب (المجاورة لعاصمته) وعلى الجزيرة الخضراء (باب الأندلس) سنة 743 وتمتع بالسلم في أعوامه الأخيرة. وبينما كان في المسجد الأعظم بحمراء " غرناطة " ساجدا في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر، هجم عليه " مجهول " وطعنه بسكين (أو خنجر) وقبض عليه، فسئل، فتكلم بكلام مختلط، فقتل وأحرق بالنار، وحمل السلطان إلى منزله فمات على الأثر. قال سيد أمير علي: وهو من أذكى وأشهر ملوك بني نصر .
-الاعلام للزركلي-

 

 

يوسف بن إسماعين النصرى .
أحد ملوك بنى الأحمر.
توفى بجامع الحمراء-وهو ساجد في صلاة عيد الفطر-وولى ولده سنة 754.
ترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة 4/ 450 - 451 بعنوان بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الخزرجى أبو الحجاج بن أبى الوليد بن الأحمر: سلطان الأندلس وذكر أنه ولد في سنة 718 وولى السلطنة في ذى الحجة 733. وكانت في زمنه الوقعة العظمى يظاهر طريف بين المسلمين والفرنج فنازل صاحب قشتالة: الجزيرة الخضراء، عشرين شهرا، وقتل فيها جماعة من المسلمين إلى أن فرج الله عن المسلمين على يديه، وكان موته مقتولا بيد شخص مجنون رمى بنفسه عليه وهو في صلاة عيد الفطر سنة 755.
ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال في أسماء الرّجال» المؤلف: أبو العبّاس أحمد بن محمّد المكناسى الشّهير بابن القاضى (960 - 1025 هـ‍)