محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل الخزرجي

الغني بالله

تاريخ الولادة739 هـ
تاريخ الوفاة793 هـ
العمر54 سنة
أماكن الإقامة
  • الأندلس - الأندلس
  • غرناطة - الأندلس
  • تونس - تونس

نبذة

محمد بن يوسف أبي الحجاج بن إسماعيل: ثامن ملوك دولة بني نصر بن الأحمر في الأندلس. ولي بعد وفاة أبيه (سنة 755 هـ وجدّد رسوم الوزارة لوزير أبيه (لسان الدين ابن الخطيب) وكان للغني باللَّه أخ اسمه إسماعيل استمال إليه جماعة من أهل غرناطة فنادوا بدعوته وخلعوا (الغني).

الترجمة

محمد بن يوسف أبي الحجاج بن إسماعيل:
ثامن ملوك دولة بني نصر بن الأحمر في الأندلس. ولي بعد وفاة أبيه (سنة 755 هـ وجدّد رسوم الوزارة لوزير أبيه (لسان الدين ابن الخطيب) وكان للغني باللَّه أخ اسمه إسماعيل استمال إليه جماعة من أهل غرناطة فنادوا بدعوته وخلعوا (الغني) وسجنوا (لسان الدين) وفرَّ الغني إلى (وادي آش) سنة 761 ومنها إلى تونس، فأقام عند سلطانها أبي سالم المريني. وشفع المريني بلسان الدين، فأخلي سبيله. ولما كانت سنة 763 سنحت للغنيّ باللَّه فرصة فدخل غرناطة، وثبتت بها قدمه، وردَّ لسان الدين إلى وزارته، ثم انقلب عليه ونكبه في خبر طويل تقدمت الإشارة إليه في ترجمة لسان الدين، وهو ما يؤخذ على الغني باللَّه. واتسعت الدولة في أيامه حتى أصبح له ملك المغرب كله. وكان حازما داهية. استمر في الملك إلى أن توفي .
-الاعلام للزركلي-

 

 

محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج ابن يوسف بن نصر الخزرجي
أمير المسلمين لهذا العهد بالأندلس، صدر الصدور، وعلم الأعلام، وخليفة الله، وعماد الإسلام، وقدوة هذا البيت الأصيل، ونير هذا البيت الكريم، ولباب هذا المجد العظيم، ومعنى الكمال، وصورة الفضل، وعنوان السّعد، وطائر اليمن، ومحول الصّنع، الذي لا تبلغ الأوصاف مداه، ولا توفي العبارة حقّه، ولا يجري النظم والنثر في ميدان ثنائه، ولا تنتهي المدائح إلى عليائه.
أوّليّته: أشهر من إمتاع الضّحى، مستولية على المدى، بالغة بالسّعة بالانتساب إلى سعد بن عبادة عنان السماء، مبتجحة في جهاد العدا، بحالة من ملك جزيرة الأندلس، وحسبك بها، وهي بها في أسنى المزاين والحلي، وقدما فيه بحسب لمن سمع ورأى.
حاله: هذا السلطان أيمن أهل بيته نقيبة، وأسعدهم ميلادا وولاية، قد جمع الله له بين حسن الصورة، واستقامة البنية، واعتدال الخلق، وصحّة الفكر، وثقوب الذّهن، ونفوذ الإدراك، ولطافة المسائل، وحسن التأنّي؛ وجمع له من الظّرف ما لم يجمع لغيره، إلى الحلم والأناة اللذين يحبّهما الله، وسلامة الصدر، التي هي من علامة الإيمان، ورقّة الحاشية، وسرعة العبرة، والتبريز في ميدان الطهارة والعفّة، إلى ضخامة التّنجّد، واستجادة الآلات، والكلف بالجهاد، وثبات القدم، وقوة الجأش، ومشهور البسالة، وإيثار الرّفق، وتوخّي السّداد، ونجح المحاولة. زاده الله من فضله، وأبقى أمره في ولده، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية واختيارا، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدّس أبيه، من عام خمسة وخمسين وسبعمائة، لمخايل الخير، ومزية السّن، ومظنّة البركة، وهو يافع، قريب العهد بالمراهقة، فأنبته الله النّبات الحسن، وسدل به السّتر، وسوّغ العافية، وهنّأ العيش؛ فلم تشحّ في مدته السماء، ولا كلب الأعداء، ولا تبدّلت الألقاب، ولا عونيت الشدائد، ولا عرف الخوف، ولا فورق الخصب، إلى أن كانت عليه الحادثة، ونابه التّمحيص الذي أكسبه الحنكة، وأفاده العبرة، فشهد بعناية الله في كفّ الأيدي العادية، وأخطأ ألم السّهام الرّاشقة، وتخييب الآمال المكايدة، وانسدال أروقة السّتر والعصمة، ثم العودة، الذي عرف الإسلام بدار الإسلام قدرها، وتملّأ عزّها ورجح وزنها، كما اختبر ضدّها فرصة الملك، وشاع العدل، وبعد الصيت، وانتشر الذّكر، وفاض الخير؛ وغزر القطر، فظهرت البركات، وتوالت الفتوح، وتخلّدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل، ما يسعه الترتيب بحول الله.
ترتيب دولته الأولى: إذ هو ذو دولتين، ومسوّغ ولايتين، عزّزهما الله، بملك الآخرة، بعد العمر الذي يملأ صحايف البرّ، ويخلّد حسن الذّكر، ويعرف إلى الوسيلة، ويرفع في الرفيق الأعلى الدّرجة، عند الله خير وأبقى للذين آمنوا، وعلى ربّهم يتوكلون.
وزراؤه وحجّابه: انتدب إلى النّيابة عنه، والتّشمير إلى الحجابة ببابه، الشيخ القائد المعتمد بالتّجلّة، المتحول من الخدّام النّبهاء، المتسود الأبوة؛ المخصوص بالقدح المعلّى من المزية، المسلّم في خصوصيّة الملك والتربية، ظهير العلم والأدب، وأمين الجدّ، ومولى السّلف، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد، وعقد سفرة السلطان، وبقية رجال الكمال من مشيخة المماليك، وخيار الموالي، أبا النعيم رضوان، رحمه الله، فحمد الكلّ، وخلف السلطان، وأبقى الرّتب، وحفظ الألقاب، وبذل الإنصاف، وأوسع الكنف، واستدعى النّصيحة، ولم يأل جهدا في حسن السّيرة، وتظاهر المحض، وأفردني بالمزيّة وعاملني بما يرتدّ عنه جسر أطرف الموالاة والصّحبة، ووفّى لي الكيل الذي لا يقتضيه السّن، والقربة من الاشتراك في الرتبة، والتّزحزح عن الهضبة، والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة، والمحافظة على التّشيّع والقدمة، بلغ في ذلك أقصى الغايات، مدارج التخلق المأثور عن الجلّة، والتودّد إليّ المرّة بعد المرّة، واختصصت بفوت المدّة بالسلطان، فكنت المنفرد بسرّه دونه، ومفضي همّه، وشفاء نفسه، فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته، أو تصيّر توجيه السّذاجة في معاملاته، وصلاح ما يتغيّر عليه من قلبه، إلى أن لحق بربّه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره:
أقر على الغزاة شيخهم على عهد أبيه، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، مطمح الطّواف ، وموفى الاختيار، ولباب القوم، وبقيّة السلف، جزما ودهاء، وتجربة وحنكة وجدّا وإدراكا، ناهيك من رجل فذّ المنازع، غريبها، مستحقّ التقديم، شجاعة وأصالة، ورأيا ومباحثة، نسّابة قبيله، وأضحى قسّهم، وكسرى ساستهم، إلى لطف السّجية، وحسن التأنّي، لغرض السلطان، وطرق التّنزل للحاجات، ورقّة غزل الشّفاعات، وإمتاع المجلس، وثقوب الذّهن والفهم، وحسن الهيئة. وزاده خصوصيّة ملازمته مجلس الرّقاع المعروضة، والرسّل الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سرّه: قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها إليّ أبوه المولى المقدّس، رحمه الله، من الوقوف على رأسه، والإمساك في التهاني والمبايعة بيده، والكتابة والإنشاء والعرض والجواب، والخلعة والمجالسة، جامعا بين خدمة القلم، ولقب الوزارة، معزّز الخطط برسم القيادة، مخصوصا بالنيابة عنه في الغيبة، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة، مطلق أمور الإيالة، محكما في أشتاته تحكيم الأمانة، مطلق الراية، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العزّ، وتأكد الرّعي، وتمحّض القرب، فنقلني من جلسة المواجهة، إلى صفّ الوزارة؛ وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصيّة، كافأ الله فضله، وشكر رعيه، وأعلى محلّه عنده.
وأصدر لي هذا الظّهير لثاني يوم ولايته: هذا ظهير كريم، صفي شربه. وسفّرني في الرسالة عنه، إلى السلطان، الخليفة الإمام، ملك المغرب، وما إليه من البلاد الإفريقية، أبي عنان، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة الأولى، عن كثير من الخدمة، ونوّه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة، فاخترت للكلّ والبدلة، وما صان عنه في سبيل التجلّة، وإن كان منتهى أطوار الرّفعة، الفقيه أبا محمد بن عطية ، مستنزلا عن قضاه وادي آش وخطابتها، فكان يتولّى ما يكتب بنظري، وراجعا لحكمي، ومتردّدا لبالي، مكفى المؤنة في سبيل الحمل الكلي، إلى وقوع الحادثة، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.
قضاته: جدّد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ الأستاذ الشريف ، نسيج وحده، وفريد دهره، إغرابا في الوقار، وحسن السّمت، وأصالة البيت ، وتبحّرا في علوم اللّسان، وإجهازا في فصل القضايا، وانفرادا ببلاغة الخطبة، وسبقا في ميدان الدهاء والرّجاحة، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، الجانح إلى الإيالة النّصرية من مدينة سبتة . وسيأتي التعريف به في مكانه، إن شاء الله.
وتوفي، رحمه الله، بين يدي حدوث الحادثة، فأرجىء الأمر بمكانه، إلى قدوم متلقّف الكرة، ومتعاور تلك الخطّة، الشيخ الفقيه القاضي، أبي البركات قاضي أبيه، ووليها الأحقّ بها بعده، إذ كان غايبا في السّفارة عنه، فوقع التّمحيص قبل إبرام الأمر على حال الاستنابة.
الملوك على عهده: وأوّلهم بالمغرب، السلطان، الإمام ، أمير المسلمين، أبو عنان ابن أمير المسلمين أبي الحسن ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ، البعيد الشأو في ميدان السّعادة، والمصمي أغراض السّداد، ومعظّم الظّفر، ومخوّل الموهبة، المستولي على آماد الكمال ، عقلا وفضلا وأبّهة ورواءا، وخطّا وبلاغة، وحفظا وذكاء وفهما وإقداما ، تغمّده الله برحمته، بعثني إلى بابه رسولا على إثر بيعته، وتمام أمره، وخاطبا إثره وودّه، مسترفدا من منحة قبوله، فألفيت بشرا مبذولا، ورفدا ممنوحا، وعزّا باذخا، يضيق الزمان عن جلالته، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور، وأنشدته بين يدي المخاطبة، ومضمن الرسالة: [المنسرح]
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدّجى قمر
فأحسب وكفى، واحتفل واحتفى، وأفضت بين يديه كرمته، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد رحب. هاج به الخدّام أسدا، أرود، شثن الكفّين، مشعر اللّبدة، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا به، من بعد إقلاعه، من بعض كواه، وأثارته من خلفه، واستشاط وتوقّد بأسا. وجلب ثور عبل الشّوى، منتصب المروى، يقدمه صوار من الجواميس، فقربت الخطى، وحميت الوغى، وبلغ الزئير والجوار ما شاء، في موقف من ميلاد الشيم العلى يخشى الجبان مقارعة العدا، ويوطن نفسه الشجاع على ملاقاة الرّدى، وخار الأسد عن المبارزة، لما بلغ منه ثقافا عن رد المناوشة، ومضطلعا بأعباء المحاملة، فتخطاه إلى طائفة من الرّجالة، أولي عدّة، وذوي دربة، حمل نفسه متطارحا كشهاب الرّجم، وسرك الدّجى، وأخذته رماحهم بإبادته، بعد أن أردى بعضهم، وجدّل بين يدي السلطان، متخبطا في دمه.
وعرّض بعض الحاضرين، وأغرى بالنظم في ذلك، فأنشدته: [الكامل]
أنعام أرضك تقهر الآسادا ... طبعا كسا الأرواح والأجسادا
وخصائص لله بثّ ضروبها ... في الخلق ساد لأجلها من سادا
إن الفضائل في حماك بضائع ... لم تخش من بعد النّفاق كسادا
كان الهزبر محاربا فجزيته ... بجزاء من في الأرض رام فسادا
فابغ المزيد من آلائه بشكره ... وارغم بما خوّلته الحسّادا
فاستحسن تأتّي القريحة، وإمكان البديهة، مع قيد الصّفة، وهيبة المجلس.
وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب، ومهاداة أثيرة، وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوعة. وكان الوصول في وسط محرم من عام ستة وخمسين وسبع مائة، وقد نجح السّعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمّن رحلي الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفي، زعموا، بحيلة، وقيل: حتف أنفه، لمّا نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبّر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه، وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا السبيل خاتمة الملوك الجلّة، من أهل بيته. جدّد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب، وأغلظ العقاب، وصيّر إيالته أضيق من الخدّ. وأمدّ الأندلس، وهزم الأضداد، وخلّد الآثار، وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرّك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته، ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرّت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر لذي حجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة.
وصار الأمر إلى ولده المسمى بالسّعيد، المكنى بأبي بكر، مختار وزيره ابن عمر الفدودي. ورام ضبط الإيالة المشرقية فأعياه ذلك، وبايع الجيش الموجّه إليها منصور بن سليمان ، ولجأ الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد، مثوى الخلافة المرينيّة، فكان أملك بها. ونازله منصور بن سليمان، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوّة شكيمته. وغادر السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن ، أخو الهالك السلطان أبي عنان، الأندلس، وقد كان استقرّ بها بإزعاج أخيه إيّاه عن المغرب، كما تقدم في اسمه، فطلع على الوطن الغربيّ بإعانة من ملك النصارى، عانى فيها هولا كثيرا، واستقرّ بآخرة بعد إخفاق شيعته المرّاكشية، بساحل طنجة، مستدعى ممن بجبال غمارة، ودخلت سبتة وطنجة في طاعته. وفرّ الناس عن منصور بن سليمان، ضربة لازب، وتقبّض عليه وعلى ابنه، فقتلا صبرا، نفعهما الله.
وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر لشعبان عام ستين وسبعمائة، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان من لحاق السلطان برندة، واستعانته على ردّ ملكه ما يأتي في محلّه، والبقاء لله سبحانه.
وبتلمسان السلطان أبو حمّو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمرس بن زيان، قريب العهد باسترجاعها، لأول أيام السعيد.
وبتونس الأمير إبراهيم ابن الأمير أبي بكر ابن الأمير أبي حفص ابن الأمير أبي بكر بن أبي حفص بن إبراهيم بن أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد، لنظر الشيخ رأس الدولة، وبقية الفضلاء، الشهير الذكر، الشائع الفضل، المعروف السياسة، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن تافراقين، تحت مضايقة من عرب الوطن.
ومن ملوك النصارى بقشتالة ، بطره بن ألهنشه بن هراندة بن شانجه بن ألفنش بن هرانده، إلى الأربعين ، وهو كما اجتمع وجهه، تولى الملك على أخريات أيام أبيه في محرم عام أحد وخمسين وسبعمائة. وعقد معه سلم على بلاد المسلمين. ثم استمرّ ذلك بعد وفاته في دولة ولده المترجم به، وغمرت الرّوم فتنة وألقت العصا، وأغضت القضاء، وأجالت على الكثير من الكبار الرّدى، بما كان من إخافته سائر إخوانه لأبيه، من خاصّته، العجلة الغالبة على هواه، فنبذوه على سوء بعد قتلهم أمّهم، وانتزوا عليه بأقطار غرسهم فيها أبوهم قبل موته بمرعيّة أمّهم. وسلك لأول أمره سيرة أبيه في عدوله عن عهوده بمكابيه لمنصبه، إلى اختصاص عجلة، أنف بحراه كبار قومه، من أجل ضياع بذره وانقراض عقبه، فمال الخوارج عليه، ودبّروا القبض عليه، وتحصّل في أنشوطة، يقضي أمره بها إلى مطاولة عقله أو عاجل خلع، لولا أنه أفلت وتخلّص من شرارها. فاضطره ذلك إلى صلة السّلم، وهو الآن بالحالة الموصوفة.
الأحداث في أيامه:
لم يحدث في أيامه حدث إلّا العافية المسحّة والهدنة المتّصلة، والأفراح المتجدّدة، والأمنة المستحكمة، والسّلم المنعقدة. وفي آخر جمادى عام ستة وخمسين وسبعمائة لحق بجبل الفتح ، فشمّم شعبته، وأبرّ مبتوته ، كان على ثغره العزيز على المسلمين، من لدن افتتاحه، الموسوم الخطة، المخصوص بمزية تشييده، عيسى بن الحسن بن أبي منديل ، بقيّة الشيوخ أولي الأصالة والدّهاء، والتزيّي بزي الخير، والمثل السائر في الانسلاخ من آية السعادة، والإغراق في سوء العقبى، والله غالب على أمره، فكان أملك بمصامّه، وقرّ عينه بلقاء ولده، والتمتع منه بجواد عتيق. ملّي من خلال السياسة، أرداه سوء الحظ، وشؤم النّصبة، واظلمّ ما بينه وبين سلطانه، مسوغه برداء العافية على تفه صغر، وملبسه رداء العفّة على قدح الأمور، أبدى منها الخوف على ولده، وعرض ديسم عزمه، على ذوبان الجبل، فانحطّوا في هواه، وغرّوه بكاذب عصبة، فأظهر الامتناع سادس ذي قعدة من العام المذكور، واتصلت الأخبار، وساءت الظنون، وضاقت الصدور، ونكست الرءوس لتوقّع الفاقرة، بانسداد باب الصّريخ، وانبتات سبب النّصرة، وانبعاث طمع العدوّ، وانحطّت الأطماع في استرجاعه واستقالته، لمكان حصانته، وسموّ الذّروة، ووفور العدّة، ووجود الطّعمة، وأخذه بتلاشي الفرصة. ثم ردفت الأخبار بخروج جيشه صحبة ولده إلى منازلة أشتبونة ، وإخفاق أمله فيها، وامتساك أهلها بالدعوة، وانتصافهم من الطائفة العادية؛ فبودر إليها من مالقة بالعدد. وخوطب السلطان من ملك المغرب، أيّده الله، بالجليّة، فتحققت المنابذة؛ واستقرّت الظنون. وفي الخامس والعشرين من شهر ذي قعدة، ثار به أهل الجبل، وتبرّأ منه أشياعه، وخذلوه بالفرار، فأخذت شعابه ونقابه، فكرّ راجعا أدراجه إلى القاعدة الكبيرة، وقد أعجله الأمر، وحملته الطمأنينة على إغفال الاستعداد بها، وكوثر فألقي به، وقد لحق به بعض الأساطيل بسبتة، لداعي تسوّر توطّى على إمارته، فقيّد هو وابنه، وخيض بهما البحر للحين، ولم ينتطح فيها عنزان، رحمه الله؛ سنام فئة ألقت بركها، وأناخت بكلكلها، وقد قدّر أنها واقعة، ليس لها من دون الله كاشفة، فقد كان من بالجبل برموا على إيالة ذينك المرتسمين، وألقوا أجوارها، وأعطوهما الصفقة، بما أطمعهما في الثورة، ولكل أجل كتاب. واحتمل إلى الباب السلطاني بمدينة فاس، وبرز الناس إلى مباشرة إيصالهما مجلوبين في منصّة الشهرة، مرفوعين في هضبة المثلة. ثم أمضى السلطان فيهما حكم الفساد، بعد أيام الحرابة، فقتل الشيخ بخارج باب السمّارين من البلد الجديد، بأيدي قرابته، فكان كما قال الأول: [الكامل]
أضحت رماح بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق
وقطعت رجل الولد ويده، بعد طول عمل وسوء تناول، ولم ينشب أن استنقذه حمامه فأضحى عبرة في سرعة انقلاب حالهما من الأمور الحميدة، حسن طلعة، وذياع حمد، وفضل شهرة، واستفاضة خيريّة، ونباهة بيت، وأصالة عزّ، إلى ضدّ هذه الخلال، وقانا الله مصارع السوء، ولا سلب عنا جلباب السّتر والعافية.
وسدّ السلطان ثغر الجبل بآخر من ولده اسمه السعيد، وكنيته أبو بكر، فلحق به في العشر الأول من المحرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، ورتّب له بطانته، وقدّر له أمره، وسوّغه رزقا رغدا، وعيشا خفضا. وبادر السلطان المترجم له، إلى توجيه رسوله؛ قاضيا حقّه، مقرّر السّرور بجواره، وأتبع ذلك ما يليق من الحال من برّ ومهاداة ونزل، وتعقبت بعد أيام المكافات، فاستحكم الودّ، وتحسنت الألفة إلى هذا العهد، والله وليّ توفيقهم ومسني الخير والخيرة على أيديهم.
الحادثة التي جرت عليه: واستمرت أيامه كأحسن أيام الدول، خفض عيش، وتوالي خصب، وشياع أمن، إلّا أنّ شيخ الدولة القائد أبا النعيم، رحمه الله، أضاع الحزم. وإذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، سلب ذوي العقول عقولهم، بما كان من أمنه جانب القصر الملزم دار سكناه، من علية فيها أخو السلطان، بتهاونه، يحيل أمّه المداخلة في تحويل الأمر إليه، جملة من الأشرار، دار أمرهم على زوج ابنتها الرئيس محمد بن إسماعيل بن فرج من القرابة الأخلاف، وإبراهيم بن أبي الفتح، والدليل الموروري، وأمدّته بالمال، فداخل القوم جملة من فرسان القيود، وعمرة السّجون، وقلاميد الأسوار.
وكانت تتردّد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا الخبيث، المنزوع العصمة، خارج القلعة حتى تمّ يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من العام، اجتمعوا وقد خفي أمرهم، وقد تألّفوا عددا يناهز المائة بالقوس الداخل من وادي هدارّه إلى البلد، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء، وكان بسورها ثلم، لم يتمّ ما شرعوا فيه من إصلاحه؛ فنصبوا سلما أعدّ لذلك، وصعدوا منه. ولمّا استوفوا، قصدوا الباب المضاع المسلحة، للثقة بما قبله؛ فلمّا تجاوزوه أعلنوا بالصياح، واستغلظوا بالتهويل، وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء، فقصدت طائفة منهم دار الشيخ القائد أبي النّعيم؛ فاقتحمته غلابا وكسرت أبوابه؛ وقتلته في مضجعه؛ وبين أهله وولده، وانتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير، الذي قامت بدعوته، فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحوّلا بأهله إلى سكنى «جنّة العريف» خارج القلعة، فلمّا طرقه النبأ؛ وقرعت سمعه الطبول سدّده الله؛ وساند أمره في حال الحيرة، إلى امتطاء جواد كان مرتبطا عنده في ثياب تبذّله ومصاحبا لأفراد من ناسه؛ وطار على وجهه، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته، وطرق مكانه بأثر ذلك، فلم يلف فيه، واتّبع فأعيا المتبع. ومن الغد، استقام الأمر لأولي الثورة، واستكملوا لصاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم بالأزمّة، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي آش، بعد أن ثبت أهلها مع المعتصم بها، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق، وخيف فوات البدر ونفاد القوة، فشرع السلطان في النظر لنفسه، وخاطب السلطان أبا سالم ملك المغرب في شأن القدوم عليه، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحديث في شأنه، فتمّ ذلك ثاني يوم عيد النّحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان، ساكنّا بجنتي المنسوبة إليّ من الحضرة، منتقلا إليها بجملتي، عادة المترفين، إذ ذاك من مثلي، فتخطاني الحتف، ونالتني النكبة، فاستأصلت النعمة العريضة، والجدة الشهيرة، فما ابتقت طارفا ولا تليدا، ولا ذرت قديما ولا حديثا، والحمد لله مخفّف الحساب، وموقظ أولي الألباب، ولطف الله بأن تعطّف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطّه، وجعل أمري من فصول قصده. ففكّت عني أصابع الأعداء، واستخلصت من أنيابهم، ولحقت بالسلطان بوادي آش، فذهب البأس، واجتمع الشّمل. وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور، فكان النزول بفحص ألفنت، ثم الانتقال إلى لوشة، ثم إلى أنتقيره، ثم إلى ذكوان، ثم إلى مربلّة، يضم أهل كلّ محل من هذه مأتما للحسرة، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين من الشهر، والاستقرار بمدينة سبتة، وكفى بالسلامة غنما، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وكان الرحيل إلى باب السلطان، تحت برّ لا تسعه العبارة، ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألمّ عاقه عن الإصحار والتغنّي على البعد، يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده، في مركب هائل، واحتفال رائع رائق، فعورض فيه النزول عن الصّهوات، والبرّ اللائق بمناصب الملوك، والوصول إلى الدار السلطانية، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين يدي مؤمّله، فأنشدته مغريا بنصره، كالوسيلة بقولي : [الطويل]
سلا هل لديها من مخبّرة ذكر؟ ... وهل أعشب الوادي ونمّ به الزّهر؟
فهاج الامتعاض، وسالت العبرات، وكان يوما مشهودا، وموقفا مشهورا، طال به الحديث، وعمرت به النوادي، وتوزّعتنا النزائل على الأمل، شكر الله ذلك وكتبه لأهله، يوم الافتقار إلى رحمته. واستمرّت الأيام، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس، والسلطان تغلبه المواعيد، وتونسه الآمال، والأسباب تتوفّر، والبواعث تتأكّد. وإذا أراد الله أمرا هيّأ أسبابه، واستقرّت بي الدار بمدينة سلا، مرابطا، مستمتعا بالغيبة، تحت نعمة كبيرة، وإعفاء من التكليف.
وفي اليوم السابع لشوال من عام التاريخ، قعد السلطان بقبّة العرض بظاهر جنّة المصارة لتشييعه ، بعد اتخاذ ما يصلح لذلك؛ من آلة وحلية، وقد برز الخلق، لمشاهدة ذلك الموقف المسيل للدموع، الباعث للرّقّة، المتبع بالدّعوات، لما قذف الله في القلوب من الرحمة، وصحبه به في التغرّب من العناية، فلم تنب عنه عين، ولا خمل له موكب، ولا تقلّصت عنه هيبة، ولا فارقته حشمة، كان الله له في الدنيا والآخرة. وأجاز، واضطربت الأحوال، بما كان من هلاك معينه السلطان أبي سالم، وغدر الخبيث المؤتمن على قلعته به، عمر بن عبد الله بن علي، صعّر الله حزبه، وخلّد خزيه، وسقط في يده، إلّا أنّه ثبتت في رندة من إيالة الأندلس، الراجعة إلى إيالة المغرب، قدمه، فتعلّل بها، وارتاش بسببها، إلى أن فتح الله عليه، وسدّد عزمه، وأراه لمّا ضعفت الحيل صنعه، فتحرّك إلى برّ مالقة، وقد فغر عليها العدوّ فمه، ثم أقبل على مالقة، مستميتا دونها، فسهّل الله الصّعب، وأنجح القصد، واستولى عليها، وانثالت عليه لحينها البلاد، وبدا الريّس المتوثّب على الحضرة، بعد أن استوعب الذّخيرة والعدّة، في جملة ضخمة ممن خاف على نفسه، لو وفّى بذمّة الغادر وعهده، واستقرّ بنادي صاحب قشتالة، فأخذه بجريرته ، وحكّم الحيلة في جنايته وغدره، وألحق به من شاركه في التّسوّر من شيعته، ووجّه إلى السلطان برءوسهم تبع رأسه. وحثّ السلطان أسعده الله خطاه إلى الحضرة، يتلقّاه الناس، مستبشرين، وتتزاحم عليه أفواجهم مستقبلين مستغفرين، وأحقّ الله الحقّ بكلماته، وقطع دابر الكافرين.
وكان دخول السلطان دار ملكه، وعوده إلى أريكة سلطانه، وحلوله بمجلس أبيه وجدّه، زوال يوم السبت الموفي عشرين لجمادى الثانية من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، جعلنا الله من همّ الدنيا على حذر، وألهمنا لما يخلص عنده من قول وعمل. وتخلّف الأمير وولده بكره، أسعده الله، بمدينة فاس فيمن معه من جملة، وخلّفه من حاشية ولد المستولي على ملك المغرب في إمساكه إلى أن يسترجع رندة في معارضة هدفه. ثم إن الله جمع لأبيه بجمع شمله، وتمّم المقاصد بما عمّه من سعده. وكان وصولي إليه معه، في محمل اليمن والعافية، وعلى كسر التّيسير من الله والعناية يوم السبت الموفي عشرين شعبان عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكور:
هنّأ المسلمين ببركتها الوافرة، ومزاياها المتكاثرة، السلطان، أيّده الله، قد مرّ ذكره، ويسّر الله من ذلك ما تيسّر.
وزراؤه: اقتضى حزمه إغفال هذا الرّسم جملة، مع ضرورته في السياسة، وعظم الدخول، حذرا من انبعاث المكروه له من قبله، وإن كان قدّم بهذا اللقب في طريق منصرفه إلى الأندلس، وأيّاما من مقامه برندة، فنحله عن كره، علي بن يوسف بن كماشة، من عتاق خدّامه وخدّام أبيه، مستصحبا إيّاه، مسدول التّجمّل على باطن نفرة، مختوم الجرم، على شوكه، في حطبه في حبل المتغلب، وإقراضه السيئة من الحسنة، والمنزل الخشن، إلى الإنفاق منه على الخلال الذّميمة، ترأسها خاصّة الشّوم، علاوة على حمل الشيخ الغريب الأخبار، والطّمع في أرزاق الدور، والاسترابة بمودّة الأب، وضيق العطن، وقصر الباب، وعيّ اللّسان، ومشهور الجبن. ولمّا وقع القبض، وساء الظنّ، بعثه من رندة إلى الباب المريني ليخلي منه جنده، ويجسّ مرض الأيام، بعد أن نقل من الخطة كعبه، فتيسّر بعد منصرفه الأمر، وتسنّى الفتح.
وحمله الجشع الفاضح، والهوى المتّبع، على التشطّط لنفسه، والكدح لخويصته بما أقطعه الجفوة، وعسر عليه العودة على السلطان بولده، إلى أن بلغ الخبر برجوع أمره، ودخول البلاد في طاعته، فألقى ما تعيّن إليه، وأهوى به الطمع البالغ في عرش الدولة، ويرتاش في ريق انتقامها. وتحرّك وراية الإخفاق خافقة على رأسه، قطب مخلصه، وجؤجوة عوده، من شيخ تدور بين فتكه رحى جعجعة، وتثور بين أضلاعه حيّة مكيدة، وينعق فوق مساعيه غراب شوم وطيرة. وحدّث حرفاؤه صرفا من مداخلة سلطان قشتالة، أيام هذه المجاورة، فبلغ أمنيته من ضرب وعد؛ واقتناء عهد، واتخاذ مدد، وترصيد دار قرار، موهما نفسه البقاء والتعمير والتملّي، وانفساح المدة والأمر، وقيادة الدّجن عند تحوّل الموطن لملّة الكفر، يسمح لذلك، لنقصان عقله، وقلّة حيائه وضعف غيرته. وطوى المراحل، وقيّض حمّى تزلزل لها فكّاه، أضلّها الحسرة، وانتزاء الخبائث. وتلقّاه بمالقة، إيعاز السلطان بالإقامة بها، لما يتّصل به من سوء تصريفه، ثم أطلع شافع الحياء في استقامة وطنه طوق عتبه، وصرفه إلى منزله، ناظرا في علاج مرضه. ثم لمّا أفاق وقفه دون حدّه، ولم يسند إليه شيئا من أموره، فشرع في ديدنه من الفساد عليه، وتمرّس سلطان قشتالة، شاكيا إليه بثّه، وأضجر لسكنى باديته بالثّغر، فراب السلطان أمره، وأهمّه شأنه، فتقبّض عليه وعلى ولده، وصرفا في جملة من دائرة السّوء ممن ثقلت وطأته، فغرّبوا إلى تونس، أوائل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحجّ، واستقرّ ببجاية يريد المغرب، حنّ إلى جوار النّصرانية، التي ريم سلفه العبوديّة إليها، فعبر البحر إلى برجلونة ، ينفض عناء طريق الحجّ على الصّلبان، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود، تقبيل أيدي الكفّار.
ثم قصد باب المغرب رسولا عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين، فلم ينجح فيه قصده، فتقاعد لمّا خسر فيه ضمانه، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة، وعنّ على كتب إليه بخطّه، يتنفّق عنده ويغريه بالمسلمين، فتقبّض عليه، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقرّ حاله إلى اليوم، وأبرأ إلى الله من التّجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.
ولمّا وفدت على السلطان بولده، وقرّت عيني بلقائه، تحت سداده وعزّه، وفوق أريكة ملكه، وأدّيت ما يجب من حقّه؛ عرضت عليه غرضي، ونفضت له خزانة سرّي، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي، وصرفت إلى التّشريق وجهي، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة، ولاطفني بما عاملت البرّ بين الدّعر والضّنانة، ويضرب الآماد، وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن مؤازرته أبرّ القرب، وراكنني إلى عهد بخطّه، فسح فيه لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب، صلوات الله عليه، في طلب الزّيادة على تلك النّسبة، وأشهد من حضر من العلية، ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكّم عقلي في اختيار عقله، وغطّى من جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواه في التحول ثانيا وقصدي، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت بالله، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحقّ بالجهاد، ورمى إليّ بدنياه، وحكّمني فيما ملكته يداه، وغلّبني على أمره لهذا العهد، والله غالب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدّة أجرى الله فيها، من يمن النّقيبة، واطّراد السّداد، وطرد الهوى، ورفض الزّور، واستشعار الجدّ، ونصح الدّين، وسدّ الثغور، وصون الجباية، وإنصاف المرتزقة، ومحاولة العدوّ، وقرع الأسماع بلسان الصّدق، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة، وقدح زناد الرّجولة، ما هو معلوم، يعضّد دعواه، ولله المنّة، سجية السّذاجة، ورفع التّسمّت، وتكوّر المنسأة، وتفويت العقار في سبيل القربة، والزّهد في الزّبرج ، وبثّ حبال الآمال، والتّعزيز بالله عن الغنيمة، وجعل الثوب غطاء الليل، ومقعد المطالعة فراش النّوم، والشغل لمصلحة الإسلام، لريم الأنفاس، فأثمر هذا الكرخ، وأثبج هذا المسعى مناقب الدولة، بلغت أعنان السماء ، وآثارا خالدة ما بقيت الخضراء على الغبراء، وأخبارا تنقل وتروى، إن عاندها الحاسد، فضحه الصّباح المنير، وكاثره القطر المنثال، وأعياه السّيل المتدافع.
فما يختص من ذلك بالسلطان، فخامة الرتبة، ونباهة الألقاب، وتجمّل الرياش، وتربع الشريعة، وارتفاع التّشاجر ببابه، والمنافسة والاغتباط منه، بمجالس التنبيه والمذاكرة، وبدار الدموع في حال الرّقة، والإشادة باحتقار الدنيا بين الخاصة، وتعيين الصدقات في الأوقات العديدة، والقعود لمباشرة المظالم ستة عشر يوما في كل شهر من شهور الأهلّة، يصل إليه فيها اليتيم والأرملة، فيفرح الضعيف، وينتظر حضور الزمن، ويتغمّد هفوة الجاهل، ويتأثر لشكوى المصاب، ويعاقب الوزعة على الأغلاط، إلى إحسان الملكة في الأسرى، والإغراب في باب الحلم، والإعياء في ترك الحظ، والتبرّي من سجيّة الانتقام، والكلف بارتباط الخيل، واقتناء أنواع السلاح، ومباشرة الجهاد، والوقار في الهيعات ، وإرسال سجيّة الإيمان، وكساد سوق المكيدة، والتصامم عن السعاية؛ هذا مع الشباب الغضّ، والفاحم الجعد، وتعدّد حبائل الشيطان في مسالك العمر، ومطاردة قانص اللّذات في ظلّ السّلم، ومغازلة عيون الشهوات من ثنايا الملوك. وأيم الله الذي به تستخلص الحقوق، وتيسّر السّتور، وتستوثق العهود، ولا تطمئن القلوب إلّا به؛ ما كاذبته، ولا راضيت في الهوادة طوله، ولا سامحته في نقيض هذه الخلال. ولقد كنت أعجب من نفاق أسواق الذّكرى لديه، وانتظام أقيسة النصح عنده، وإيقاع نبات الرّشد فيه نصيحة، وأقول: بارك الله فيها من سجيّة، وهنّأ المسلمين بها من نفس زكيّة. وسيأتي بيان هذه النتائج، وتفسير مجمل هذه الفضائل بحول من لا حول إلّا به سبحانه.
والحال متصلة على عهده الوثير من إعانته بالوسوع والخروج له عن هذه العهدة، والتسليم له في البقيّة، إرهافا لسيف جهاده، وجلاء لمرآة نصحه، وتسوية لميزان عدله، وإهابة لمحمد رشده، شدّ العقدة، عقدة وغيرة على حرمة ماله وعرضه، ورعاية للسان العلم المنبئ عن شأنه، ونيابة عنه في معقل ملكه، ومستودع ماله وذخيرته، ومحافظة على سرّه وعلانيته لحرمه وولده، وعمرانا للجوانح بتفضيله وحبّه، معاملة أخلص الله قصدها لوجهه، وأمحضها من أجله، ترفعه عن جراية رحل هلالها، وإقطاع تنجع قدرته، أو فصلة تعبث البنان بنشيرها، وخطّة تشدّ إليه على منشورها. والله يرجح ميزاني عنده، ويحظى وسيلتي لديه، ويحرّك مكافأة سعيي في خواطر حجّه، وينبّه لتبليغ أملي من حجّ بيت الله، وزيارة رسول الله، بمنّه وكرمه، فما على استحثاث الأجل من قرار، ولا بعد الشّيب من إعذار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أولاده : كمل له في هذا الوقت من الولد أربعة؛ ثلاثتهم ذكور، يوسف بكره، وأراه يتلوه سعد، ثم نصر، غلمة روقة، قد أفرغهم الله في قالب الكمال، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا، فسح الله لهم أمد السعادة، وجعل مساعيهم جانحة إلى حسنى العقبى، سالكا بهم سبيل الاهتداء بفضل الله ورحمته.
قضاته : قدّم لأول قدومه، الفقيه القاضي، الحسيب، الخيّر، أبا جعفر بن أحمد بن جزي، شاكرا بلاءه بمالقة، إذ كان قد ألقاه قاضيا بها للمتغلّب، فلم يأل جهدا في الإجلاب على من اعتصم بقصبتها، والتحريض على استنزالهم، فاتّخذ زلفة لديه، فأجرى الأحكام، وتوخّى السّداد. ثم قدّم إليها الفقيه القاضي الحسيب، أبا الحسن علي بن عبد الله بن الحسن، عين الأعيان ببلده مالقة، والمخصوص برسم التّجلّة، والقيام بوظيفة العقد والحلّ بها في الدولة الأولى، وأصالة البيت، والانقطاع إليه، ومصاحبة ركابه في طلب الملك، ومتسوّر المشاق من أجله، وأولى الناس باستدرار خلف دولته، فسدّد وقارب، وحمل الكلّ ، وأحسن فصاحة الخطبة والخطّة، وأكرم المشيخة وأرضى، واستشعر النّزاهة، ولم يقف في حسن التأنّي عند غاية، واشتمل معها لفق الخطابة، فأبرز وأعلم، تسمّيا وحفظا وجهوريّة، فاتّفق في ذلك على رجاحته، واستصحب نظره على الأحباس، فلم يقف في النصح عند غاية، أعانه الله.
كتّابه : أسند الكتابة إلى الفقيه المدرك، المبرّز في كثير من الخلال، ملازمه أيضا في طلب الملك، ومطاردة قنص الحظّ، أبي عبد الله بن زمرك، ويأتي التعريف بجميعهم.
شيخ غزاته: متولي ذلك في الدولة الأولى، الشيخ أبو زكريا يحيى بن عمر بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق ، قدّمه إليها معتبا إياه، طاويا بساط العدوّ بالجملة، قدّموها بابنه عثمان على الخاصّة يومئذ، لمظاهرته في الوجهة، وسعيه في عودة الدّولة، واستمرّت الحال إلى اليوم الثالث عشر لشهر رمضان من عام أربعة وستين وسبعمائة، وكان القبض على جملتهم، وأجلى هذا البيت من سفرة السياسة مدّة، مجتزيا فيه بنظره على رسمه في الوزارة من قبيله. ثم قدّم إليها موعوده بها القديم الخدمة، وسالف الأدمة، لمّا لجأ إلى وادي آش مفلتا من وبقة الحادثة، الشيخ أبا الحسن علي بن بدر الدين بن موسى بن رحّو بن عبد الله بن عبد الحق، حلف السّداد أيامه، والمقاربة والفضل والدّماثة، المخصوص على اختصار بيمن النّقيبة، واستمرّت أيامه إلى نقبة القفول عن غزوة جيّان أخريات محرم من عام تسعة وستين، وتوفي، رحمه الله، حتف أنفه، فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبّيه، واستغفاره، والاعتراف بصدق موالاته، وتفجيعه لفقده، وما أعرب به من وفاء نجده، وقدّم لها عهدا طرف اختياره، الأمين، الشّهم، البهمة، خدن الشّهرة، والمشار إليه بالبسالة، وفرع الملك والأصالة، عبد الرحمن ابن الأمير أبي الحسن علي بن السلطان أبي علي عمر ابن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، إذ كان قد لحق به، بعد ظهور أتيح له بوطنه من المغرب، استقرّ مبايعا بعمالة سجلماسة وما إليها، وطن جدّه، وميراث سلفه، ففسح له جانب قبوله، وأحلّه من قربه محلّ مثله، وأنزله بين ثغر الاغتباط ونحره، ثم استظهر به على هذا الأمر، فأحسن الاختيار، وأعزّ الخطة، وهو القائم عليها لهذا العهد، وإلى الله أسباب توفيقه.
ظرف السلطان وحسن توقيعه: بذّ في هذا الباب من تقدّمه، وكثرة وقوعه، بحيث لا يعدّ نادره، وقليل الشيء يدلّ على كثيره. مرّ بي يوما ومعي ولده، يروم اتخاذ حذق القرآن، فقلت له: أيّدك الله، الأمير يريد كذا، ولا بدّ له من ذلك، وأنا وكيله عليك في هذا، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا خفاء ببراعة هذا التوقيع، وغرابة مقاصده، ومجالسه على الأيام معمورة بهذا ومثله.
الملوك على عهده: بالمغرب السلطان الجليل إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. تولّى ملك المغرب حسبما تقدم في اسمه ، وألقى إليه بالمقاليد، واستوسقت له الطاعة، وبحسب ما بثّ الله من اشرباب الخلق إليه، وتعطّشهم إلى لقائه، ورغبتهم في إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الخلال، شرقا بأيامه وإحصاء لسقطاته، وولعا باغتيابه وتربصا لمكروه به، إذ أخفقت فيه الآمال، واستولت الأيدي من خدّامه على ملكه. وقيّض الله لإبادة أمره، وتغيّر حاله وهدّ ركنه، الخائن الغادر نسمة السوء وقذار ناقة الملك، وصاعقة الوطن وحرد السّيد عمر بن عبد الله بن علي مؤتمنة على البلد الجديد، دار ملكه ومستودع ماله وذخيرته، فسدّ الباب دونه، وجهر بخلعانه. وفض في اتّباع الناعق المشؤوم سور ماله، وأقام الدّعوة باسم أخيه أبي عمر، ذي اللّوثة، الميؤوس من إفاقته، وذلك ضحوة اليوم الثامن عشر لشوال من عام اثنين وستين وسبعمائة. وبادر السلطان أبو سالم البيعة من متحول سكناه بقصر البلد القديم ، وصابر الأمر عامة اليوم. ولمّا جنّ الليل، فرّ لوجهة، وأسلم وزراءه وخاصّته، وقيّدت خطاه الخيريّة، فأوى إلى بعض البيوت، وبه تلاحق متبوعه، فقيد إلى مصرعه السّوء بظاهر بلده، وحز رأسه، وأوتي به إلى الغادر. وكان ما بين انفصال السلطان عنه مودّعا إلى الأندلس بإعانته، ومطوّق فضل تلقيه وقفوله وحسن كفالته، ثمانية أشهر ويوم واحد. واستمرّت دعوة أخيه المموّه به إلى الرابع والعشرين من صفر من عام ثلاثة وستين وسبعمائة، واستدعي من باب قشتالة الأمير محمد أبو زيّان ابن الأمير أبي زيد بن عبد الرحمن ابن السلطان المعظّم أبي الحسن. وقد استقرّ نازعا إليه أيام عمّه السلطان أبي سالم، وقع عليه اختيار هذا الوزير الغادر، إذ وافق شنّ تغلّبه طبق ضعفه ، وأعمل الحيلة في استجلابه، فوصل حسب غرضه، وأجريت الأمور باسمه، وأعيد أخوه المعتوه إلى مكانه، واستمرّت أيام هذا الأمير مغلوبا عليه، مغرى بالشراب على فيه وبين الصّحب إلى أن ساءت حاله، وامتلأت بالموجدة على الوزير نفسه، فعاجله بحتفه، وباشر اغتياله، وأوعز إلى خدامه بخنقه، وطرحه بحاله في بعض سواقي قصره، متبعا ببعض أواني خمره، يوهم بذلك قاتله، تردّيه سكرا، وهويه طفوحا.
ووقف عليه بالعدول عند استخراجه، وندب النّاس إلى مواراته، وبايع يومه ذلك أبا فارس عبد العزيز وارث ملك أبيه السلطان أبي الحسن، المنفرد به، وخاطب الجهات بدعوته، وهو صبيّ ظاهر النبل والإدراك، مشهور الصّون، وأعمل الحيلة لأول أمره، على هذا الوزير مخيف أريكة ملكه، ومظنّة البدا في أمره، فطوّقه الحمام واستأصل ما زراه من مال وذخيرة، شكر الله على الدولة صنيعة، وفي ذلك يقول: [الطويل]
لقد كان كالحجاج في فتكاته ... تحاذره البرّاء دوما وتخشاه
تغدّى به عبد العزيز مبادرا ... وعاجله من قبل أن يتعشّاه
وكان بعده وليّه الحق ونصيره لا إله إلّا هو. وهو اليوم ملك المغرب، مزاحما بابن أخيه، السلطان أبي سالم، المعقود البيعة بمرّاكش وما إليها، جمع الله شتات الإسلام، ورفع عن البلاد والعباد مضرّة الفتنة.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى ابن الأمير أبي يعقوب يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيّان. حسبما كان في الدولة الأولى، متفقها منه على خلال الكرم والحزم، مضطلعا بأمره والقيام على ما بيده.
وبتونس ، الأمير أبو سالم إبراهيم ابن الأمير أبي يحيى بن أبي حفص، حسبما تقدم ذكره.
ومن ملوك النصارى: فبقشتالة سلطانها المتقدم الذكر في الدولة الأولى، بطره ابن السلطان ألهنشة بن هراندة بن شانجه بن ألهنشة بن هراندة، متأكّدة بينهما السلم الجمّة، والهدنة المبرمة، بما سلف من مظاهرته إيّاه، والحرص على ما استحانه من المغرب في أسطوله، وبعثه إليه برأس عدوّه المتوثّب على ملكه، ورؤوس أشياعه، الظالمين الغدرة، وأتباعه الفجرة، مستمرّة أيامه إلى وسط شعبان عام سبعة وستين، صارفا وجهه إلى محاربة صاحب برجلونة ، مستوليا على كثير من قواعده الشهيرة، وقلاعه المنيعة، لما أسلفه به من إجازته، أخيه أندريق المدعوّ بالقند، ومظاهرته حتى ساءت أحواله وأحوال عدوّه، وأوهنت الحركات قوى جيشه، وأضعف الاحتشاد عمرة أرضه، واشرأبّت القلوب إلى الانحراف عن دعوته، ومالت النفوس إلى أخيه، وقامت البلاد بدعوته، وتلاحقت الوجوه بجهته، ورام التمسّك بإشبيلية دار ملكه، فثار أهلها به في عام سبعة وستين. فخرج فارّا عنها ... به والسلاح يهشّ إليه، وبعد أن استظهر بخويصته، وأحمل ما قدر عليه من ذخيرة، ورفع من له من ولد وحرمة، رأى سخنة العين من انتهاب قصوره، وتشعيث منازله، وعياث الأيدي في خزائنه، وأسمعه الناس من محض التأنيب وأعراض الشمّات، ما لا مزيد عليه، ولاذ بصاحب برتغال، فنأى عنه جانبه لما يجنيه أبواه من مخالفة رأي الأمّة فيه، فقصد بلاد غليسية، وتلاحق أخوه أندريق بحضرة إشبيلية، فاستوى على الملك وطاعت لأمره البلاد، وعاجله المسلمون لأول أمره، فاستولوا على كثير من الثغور، والحمد لله.
ولمّا توسّد له الأمر تحوّل لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية في البحر، واستقرّ ببلد بيونة، ممّا وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطّة القشتالية وأمر نفسه، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة ، وهو المعروف ببرقسين أبي الأمير، وبين أول أرضه وبين قشتالة؛ ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور، الساكن بأول ما تلقّاه من تلك الأرض، وسفر بينه وبين أبيه فأنكر الأب استئذانه إياه، والمراجعة في نصره، حميّة له، وامتعاضا للواقع. وحال هذه الأمة غريبة في الحماية الممزوجة بالوفاء والرقّة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمد، وبين يدي العشائق، عادة العرب الأول. وأخبارهم في القتال غريبة، من الاسترجال والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجثوّ في الأرض، أو دفن ببعض الأرض في التّراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيّجة، ورماتهم قسيّهم غريبة جافية، وكلّهم في دروع، والإحجام عندهم، والتقهقر مقدار الشّبر ذنب عظيم، وعار شنيع، ورماتهم يثبتون للخيل في الطّراد، وحالهم في باب التّحليّ بالجواهر، وكثرة آلات الفضة، غريب. وبعد انقضاء سبعة عشر يوما كان رجوعه ورجوع البرنس المذكور معه مصاحبا بأمراء كثيرين من خترانه وقرابته، وبعد أن أسلفوه مالا كثيرا، واختصّ منه صاحب الأنتكيرة، بمائتي ألف دينار من الذهب إلى ما اختصّ به غيره، وارتهنوا فيه ولده وذخيرته. وكان ينفق على نفسه وجيشه بحسب دينار واحد من الذهب للفارس في ثلاثة أيام. وكان تأليف الجيوش في بنبلونة في أزيد من ثلاثين ألفا، وعسر عليهم المجاز على فحص أحدونيه، لبلاد تمسك لطاعة القند أخيه؛ فصالح القوم صاحب نبارّه على الإفراج لهم، ونزلت المحلّات في فحص نبارّة، ما بين حدود أرض نبارّة وقشتالة، ونزل المتصيّر إليه أمر قشتاله، القند بإزائها في جموع لم تنتظم لمثله، إلّا أنه لشهامته واغتراره، أجاز خندقا كان بين يديه، وعبر جسرا نشب فيه عند الجولة. وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس إبريل العجمي، وبموافقة شعبان من عام ثمانية وستين. وكان هذا الجمع الإفرنجي الآتي من الأرض الكبيرة في صفوف ثلاثة، مرتبة بعضها خلف بعض، ليس فيهم فارس واحد، إنما هم رجّالة، سواء أميرهم ومأمورهم، في أيديهم عصي جافية في غلظ المعاصم؛ يشرعونها أمامهم، بعد إثبات زجاجها فيما خلفهم من الأرض، يستقبلون منها وجوه عدوّهم، ونحور خيله، ويجعلونها دعائم وتكآت لبناء مصافّهم، فلم تقلقهم المحلات، وبين أيديهم من الرّماه النّاشبة الدّارعة، ما لا يحصيهم إلّا الله عزّ وجلّ. وسايرهم السلطان، مستدعى نصرهم راجلا أميالا برأيهم؛ إلى أن أعيا بعد ميلين منها فأركبوه بغلة حملوه بينهم عليها، إلى موقف اللقاء والقند، وكان على مقدمة القوم الدك أخو البرنس، والبرنس مع السلطان مستجيره في القلب، والقند المعروف بقند أرمانيان، وكثير من الأمراء؛ ردى وسيفه دونهم، ومن خلف الجميع الخيل بجنبها ساستهم وغلمانهم وخدّامهم، ووراءها دوابّ الظّهر وأبغالهم، وفي أثناء هذه العبيّة من البنود وآلات الحرب والطرب والأبواق ما يطول ذكره. وكان في مقدمة القند المستأثر بملك قشتالة؛ أخوه شانجه في رجل قشتالة، قد ملأ السّهل والجبل، ومن خلفهم أولو الخيل الجافية القبيلية، المسبغة الدّروع، من رأس إلى حافر، في نحو ألف وخمسمائة، وفي القلب أخوه الآخر دنطية في جمهور الزّعماء والفرسان والدّرق، وهو الأكثر من رجال الجيش اليوم، ومن ورائهم السلطان أندريق في لفيف من الناس. ولما حمل بعضهم على بعض أقدم رماة الفرنج، ثقة بدروعهم، فعظم أثرهم فيمن بإزائهم من رماة عدوهم ورجالهم، لكونهم كشفاء، فكشفوا إياهم.
وحملت خيل قشتالة الدّارعة، فزحزحت كرّ المصافّ الإفرنجي، واتصل الحرب بالبرنس، وهو مطلّ عليهم في ربوة، فصاح بهم بحيث أسمع، وتناول شيئا من التراب فاستفه، وكسر ثلاث عصيي، وفعل من معه مثل فعله، وهي عادتهم عند الغضب، وعلامة الإقدام الذي لا نكوص بعده. ووجّه إلى أخيه في المقدمة، يقول له: إن وجدت في نفسك ضعفا، فاذكر أنك ولد صاحب الأنتكيرة. وحمل الكلّ حملة رجل واحد، فلم تجد الخيل الدّارعة سبيلا، وقامت في نحورها تلك الأسنّة، فولّوا منهزمين.
ولمّا رأى القند هزيمة أخيه، تقدّم بنفسه بمن معه من مدد الأمة الرّغونية ، وهو ينادي: يا أهل قشتالة، يا موالي، إياكم والعار، ها أنذا، فلم يثبت أمره، وتراجع فلّه. فعند ذلك فرّ في أربعة من أولي ثقته، واستولى القتل والأسر على خاصّته، وتردّى المنهزمون في الوادي خلفهم، فكان ذلك أعون الأسباب على هلكهم، فأناف عدد من هلك في هذه الوقيعة، حسبما اشتهر، خمسين ألفا. وامتلأت أيدي هذه الأمة من الأسلحة والأموال والأمتعة والأسرى الذين يفادونهم بمال عظيم، واتصل القند المنهزم بأرض رغون، ثم نجم من البلاد الفرنسية، ودخل أخوه بهذه الأمة أوائل البلاد معترفا بحميد سعيهم، وعزيز نصرهم، وقد رابه استيلاؤهم، وأوجسه تغلبهم، وساءه في الأرض الرّعّادة عياثهم فاستأذنهم في اللّحوق بقواعد أرضه، وقبض الأموال التي تجبي منها نفقاتهم، وقبض منها ديونهم قبله. وحثّ السّير، فوصل طليطلة، لا يصدّق بالنجاة، وخاطب السلطان المترجم به، وقدر ودّه، وحذّره سورة هذه الأمة التي فاض بحرها وأعيا أمرها، وأنهى إليه شرّها، وشره إلى استئصال المسلمين، وحدّ له مواعدها التي جعلت لذلك. ووصل إشبيليّة؛ وانثالت البلاد عليه، وعادت الإيالة إلى حكمه، ثم شرع في جعل الضرائب، وفرض الأموال، وأخاف الناس بالطّلب والتّبعات، فعاد نفورهم عنه جزعا، وامتنعوا من الغرم، وطردوا العمّال، وأحسّ بالشّرّ، فتحصّن بإشبيلية وجهاتها على نفسه، وطال على الأمة الواصلة في سبيل نصره الأمر. فرجعت إلى بلادها، ووقيت نفرة الفرسان، وأولي الأتباع، وأظهروا الخلاف، وكشفت جيّان وجهها في خلعانه، والرّجوع إلى دعوة أخيه المتصرّف، فتحرّك إليها السلطان المترجم به، بعد أن احتشد المسلمين، فكان من دخولها عنوة، واستباحة المسلمين إياها وتخريبها، ما هو مذكور في موضعه. ثم ألحقت بها مدينة أبّدة، الذاهبة في مخالفة مذاهبها والحمد لله. وخالفت عليه قرطبة، واستقرّ بها من الكبار جملة، كاتبوا أخاه، واستعجلوا، فتعرّف في هذه الأيام، أنه قد بلغ أرض برغش، ونار الفتنة بينهم، ويد الإسلام لهذا العهد، والمنية لله، وحده غالبة.
وإنما مددنا القول في ذكر هذه الأحوال الرّومية، لغرابة تاريخها، وليستشعر الحذر، ويؤخذ من الأمة المذكورة وغيرها، والله وليّ نصر المؤمنين بفضله.
وبأرض رغون سلطانها الكائن على الدولة الأولى.
بعض مناقب الدولة لهذا العهد:
وأولا ما يرجع إلى مناقب الحلم والكظم من مآزق الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس.
فمن ذلك أن السلطان لمّا جرت الحادثة، وعظه التمحيص، وألجأ إلى وادي آش، لا يملك إلّا نفسه في خبر طويل، بادر إلى مخاطبة ثقته بقصبة ألمريّة، قلعة الملك، ومظنّة الامتناع، ومهاد السّلامة، ومخزن الجباية والعدّة، وقد أصبح محلّ استقراره، بينها، وبين المنتزى سدّا، وبيعة أهلها لم ينسخ الشرع منها حكما يناشده الله في رمقه، ويتملّقه في رعي ذمّته، والوفاء له، وإبراء غربته، وتمسّكه من أمانته، فردّ عليه أسوأ الردّ، وسجن رسوله في المطبق، وخرج منها لعدوّه، وناصح بعد في البغي عليه. فلمّا ردّ الله الأمر، وجبر الحق، أعتب وأجرى عليه الرّزق. ولمّا ثار في الدولة الثانية الدليل البركي ، هاتفا بالدعوة لبعض القرابة، وأكذبه الله، وعقّه الشيطان بعد نشر راية الخلاف، وجعل للدولة، علوّ اليد، وحسن العاقبة، وتمكّن من المذكور، أبقى عليه، وغلّب حكم المصلحة العامة في استحيائه، وهو من مغربات الحلم المبني على أساس الدين، وابتغاء وجه الله.
ولمّا أجلى عن الترشيح من القرابة، بعد تقرّب التهمة، وغمس الأيدي في المعصية، صرفوا إلى المغرب صرف العافية، وأجرى على من تخلّفوه عوائد الأرزاق، ومرافق المواسم، ووعد ضعفاءهم بالإرفاد، وتجوفي عمّا يرجع للجميع من عقار ورباع، وأسعفت آمالهم في لحاق ذويهم من أهل وولد.
وممّا يرجع إلى عوائد الرّفق، ومرافق العدل من مأزق في جهاد النفس، وقوف وكيل الدولة، مع من يجاور مستخلص السلطان من العامرين ومما ولي الفلاحة، وقد ادّعوا أضرارا، يجرّه الحوار بين يدي القاضي بالحضرة، حتى بعد منقطع الحقّ، على ما يخصّ السلطان من الأصول التي جرّها الميراث عن كريم السّلف. ولا كقضية التاجر المعروف بالحاج اللبّاس، من أهل مدينة وادي آش، وقد تحصّلت في داره، من قبل التاجر المذكور جارية من بنات الروم، في سبيل تفوّت الذّمم، ومستهلك المتولات، وترقّت إلى تربية ولده، وأصبحت بعض الأظآر لأمرائه، واتّصل بها كلفه، وزاد هيمانه، وغشي مدافن الصّالحين من أجلها، وأنهيت إليه خبره وبثّه، وقرّرت عنده شجوه، وألمعت بما ينقل في هذا الباب عن الملوك قبله، فبادر إلى إخراجها من القصر بنفسه، وانتزاعها من أيدي الغبطة، انتزاع القهر، بحاله في جميل الزّي، فمكّنت منها يد عاشقها الذّاهل، وقد خفّت نفسه، وسكن حسّه، وكاد لقاؤه إيّاها أن يقضي عليه. ونظائر هذا الباب متعددة.
ومن مواقف الصّدق والإحسان من خارق جهاد النفس، بناء المارستان الأعظم، حسنة هذه التخوّم القصوى، ومزيّة المدينة الفضلى. لم يهتد إليه غيره من الفتح الأول، مع توفّر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همّة الدّين، ونفس التقوى، فأبرزه موقف الأخدان ، ورحلة الأندلس، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدّد مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحّة هواء، وتعدّد خزائن ومتوضآت، وانطلاق جراية، وحسن ترتيب، أبرّ على مارستان مصر ، بالسّاحة العريضة، والأهوية الطيّبة، وتدفّق المياه من فورات المرمل، وأسود الصخر، وتموّج البحر، وانسدال الأشجار، إلى موافقته إياي، وتسويغه ما اخترعته بإذنه، وأجريته بطيب نفسه، من اتخاذ المدرسة والزاوية، وتعيين التّربة، مغيرا في ذلك كله على مقاصد الملوك، نقشا عليه، بطيب اسمه في المزيد، وتخليد في الجدرات للذّكر، وصونا للمدافن غير المعتادة، في قلب بلده بالمقاصر والأصونة، وترتيل التلاوة، آناء الليل ، وأطراف النهار. وكل ذلك إنما ينسب إلى صدقاته، وعلوّ همّته. ويشهد بما ينبّه الحسّ إلى المنقبة العظمى، في هذا الباب، من إمداد جبل الفتح، مع كونه في إيالة غيره، وخارج عن ملكة حكمه، وما كان من إعانته، وسدّ ثغره، فانهار إليه على خطر السّرى، والظهر البعيد المسعى، ما ملأ الأهواء، وقطع طمع العداة، أنفقت عليه الأموال، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بودر بذلك، بين يدي التفاؤل، بنزول العدوّ إياه، فكان الكرى على إيصال الطعام إليه، بحساب درهم واحد وربع درهم للرّطل من الطعام، منفعة فذّة، وحسنة كبرى، وبدعا من بدع الفتوى.
وفي موقف الاستعداد لعدوّ الإسلام، من خارق جهاد النفس، إطلاق البنى ، للمدّة القريبة، والزمان الضيق، باثنين وعشرين ثغرا من البلاد المجاورة للعدوّ، والمشتركة الحدود، مع أراضيه، المترامية النيران لقرب جوابه، منها ثغر أرجدونة ، المستولي عليه الخراب، أنفق في تجديد قصبته؛ واتخاذ جبّه، ما يناهز عشرين ألفا من الذهب، فهو اليوم شجى العدو، ومعتصم المسلمين، وحصن أشر، وما كان من تحصين جبله بالأسوار والأبراج، على بعد أقطاره، واتخاذ جباب الماء به، واحتفار السانية الهايلة بربضه، ترك بها من الآثار ما يشهد بالقوة لله، والعناية بالإسلام. ثم ختم ذلك بنديد حصن الحمراء، رأس الحضرة، ومعقل الإسلام، ومفزع الملك، ومعقد الأيدي، وصوان المال والذّخيرة، بعد أن صار قاعا صفصفا، وخرابا بلقعا، فهو اليوم عروس يجلي المهضب، ويغازل الشهب، سكن لمكانه الإرجاف، وذوت نجوم الأطماع، ونقل إليه مال الجباية، المتفضّل لهذا العهد، بحسب التدبير، ونفّد الخراج، وصوّن الألقاب، وقمع الخزانة بما لم يتقدّم به عهد، من ثمانين سنة، والحمد لله، وتجديد أساطيل الإسلام، وإزاحة علل جيوش المرج، وعساكر البحر، فهي لهذا العهد، ملس الأديم، شارعة الشّبا، منقضّة جفاتها إلى مساواة الأعداء، راكبة ظهور المحاسن، قلقة الموافق، قدما إلى الجهاد، قد تعدّد إغزاؤها، وجاست البحر سوابحها، وتعرّفت بركتها، والحمد لله، وأنصاب جيش الجهاد، استغرق الشهور المستقبلة، لرود الصفراء والبيضاء الأهلّة إلى أكفّ أهلها، على الدوام، بعد أن كانت يتحيّفها المطل، وينقصها المطال، والحمد لله.
وفي مواقف الجهاد الحسّي، وبيع النّفوس من الله، وهو ثمرة الجهاد الأول، ما لا يحتاج عليه إلى دليل، من الجوف إلى حصن أشر، قبل الثغر، والجارح المطلّ على الإسلام، والعزم على افتتاحه، وقد غاب الناس من مساورته، وأعيا عليهم فتحه، فلزمه السلطان بنفسه، بياض يوم القيظ، محرضا للمقاتلة، مواسيا لهم، خالطا نفسه بالمستنفرة، يصابر لهيب النار، ووقع السلاح، وتعميم الدّخان، مفديا للكلمات، محرّضا لذوي الجراح، مباشرا الصلاة على الشهداء، إلى أن فتحه الله على يده، بعزمه وصبره، فباشر رمّ سوره بيده، وتحصين عورته بنفسه، ينقل إليه الصّخر، وينال الطّين، ويخالط الفعلة، لقرب محلّ الطاغية، وتوقع المفاجأة. ثم كان هذا العمل قانونا مطّردا في غيره، وديدنا في سواه، حسبما نذكر في باب الجهاد.
وفي باب النصيحة للمسلمين من مآزق الجهاد الأكبر، ما صدر في هذه الدولة، من مخاطبة الكافة، بلسان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صدعت بذلك الخطباء من فوق أعواد المنابر، وأسمعت آذان المحافل، ما لم يتقدم به عهد في الزمان الغابر.
نص الكتاب: ولمّا صحّت الأخبار بخروج الأمة الإفرنسية إلى استئصال هذه البقيعة، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون، صدر من مخاطبة الجمهور في باب التحريض بما نصّه:
«من أمير المسلمين عبد الله محمد ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد نصر، أيّده الله ونصره، وأوى أمره، وخلّد مآثره، إلى أوليائنا الذين نوقظ من الغفلة أحلامهم، وندعوهم لما يطهّر من الارتياب إيمانهم، ويخلص لله أسرارهم وإعلانهم، يرثي لعدم إحسانهم، وخيبة قياسهم، ويغار من استيلاء الغفلات على أنواعهم وأجناسهم، ونسأل الله لهم ولنا إقالة العثرات، وتخفيض الشدائد المعتورات، وكفّ أكفّ العوادي المبتدرات. إلى أهل فلانة، دافع الله عن فئتهم الغريبة، وعرّفهم في الذراري والحرم عوارف اللطائف القريبة، وتداركهم بالصنائع العجيبة، سلام عليكم أجمعين، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا نشرك به أحدا، ولا نجد من دونه ملتحدا، مبتلي قلوب المؤمنين أيها أقوى جلدا، وأبعد في الصبر مدى، ليزيد الذين اهتدوا هدى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أنقذ من الردى، وتكفل الشفاعة لمن غدا، ضاربا هام العدا، ومجاهدا من اتخذ مع الله ولدا، والرضى عن آله الذين كانوا لسماء ملّته عمدا، فلم ترعهم الكتائب الوافرة وكانوا لهم أقل عددا، ولا هالتهم أمم الكفر وإن كانت أظهر جمعا وأكثر عددا، صلاة لا تنقطع أبدا، ورضى لا يبلغ مدى. فإنا كتبنا إليكم، كتبكم الله فيمن امتلأ قلبه غضبا لأعدائه وحميّة، ورمى بفكره غرض السّداد، فلم يخط منه هدفا ولا رمية. وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذّمام، وما جعل الله تعالى للمأموم على الإمام، فوجب علينا إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المفترقة ، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أنّ كبير النصرانية، الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يبكون ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضما وقضما ، وأوسعتهم هضما فلم تبق لهم عصبا ولا عظما، ونثرت ما كان نظما، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو ما مزّق الشّتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها كالقطر المنثال، والجراد الذي تضرب به الأمثال، وعاهدهم وقد حضر التمثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمنوا لمن ارتضاه الطاعة، ويجمعوا من ملّته الجماعة، ويطلع الكلّ على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام السّاعة، وأقطعهم، قطع الله بهم، العباد والبلاد، والطّارف والتّلاد ، وسوّغهم الحريم المستضعف والأولاد، وبالله نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج، فما سدّت لديه طريقة، إلّا أنّا رأينا غفلة الناس مع تصميمهم مؤذنة بالبوار ، وأشفقنا للذين من وراء البحار، وقد أصبح معظمهم في لهوات الكفّار، وأردنا أن نهزّهم بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، وتلهمكم الاستنصار بالله عند عدم الانتصار، فإن جبر الله الخواطر بالضراعة إليه، والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بانتهاء اليسار، وإلا فقد تعيّن في الدنيا والآخرة حظّ الخسار، فإنّ من ظهر عليه عدوّ دينه ، وهو عن الله مصروف، وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب ملهوف ، فقد تلّه الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ومن نفذ فيه قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وآجر بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطّن النفس عن الشهوات الموبقة في دار الخلود، العائدة بالحياة الدّائمة والوجود، أو الظّهور على عدوّه المحشور إليه المحشود ، صبرا على المقام المحمود، وبيعا تكون الملائكة فيه من الشهود، حتى تعيث يد الله في ذلك البناء المهدوم، بقوة الله المحمود، والسّواد الأعظم الممدود، كان على أمر ربّه بالحياء المردود: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ
(52) . فالله الله في الهمم، فقد خبت ريحها. والله الله في العقائد، فقد خفتت مصابيحها. والله الله في الرّجولة ، فقد فلّ حدّها. والله الله في الغيرة، فقد نعس جدّها، والله الله في الدّين، فقد طمع العدوّ في تحويله. والله الله في الحريم، فقد مدّ إلى استرقاقه يد تأميله. والله الله في المساكن التي زحف لسكناها، والله الله في الملّة التي يريد إطفاء نورها وسناها ، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في القرآن العظيم . والله الله في الجيران. والله الله في الطّارف والتّالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد. اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنزل الصبر والسكينة. اليوم تحتاج الهمم أن ترعى هذه النفوس الكريمة الذّمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشّمم، اليوم يرجع إلى الله تعالى المصرّون، اليوم يفيق من نومه الغافلون والمغترون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحقّ القول، ويسدّ الباب، ويحيق العذاب، ويسترق بالكفر والرّقاب، فالنساء تقي بأنفسهنّ أولادهنّ الصغار، والطّيور ترفرف لتحمي الأوكار ، إذا أحست العياث بأفراخها والإضرار. تمرّ الأيام عليكم مرّ السحاب، وذهاب الليالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كدّ إلّا لزينة يحلّى بها نحر وجيد، ولا سعي إلّا في متاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد. وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمى أو رضى مسخّر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الدّيمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عنكم رحمة السماء؛ واغبرّت جوانبكم المخضرّة احتياجا إلى بلالة الماء وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ
(22) وإليها الأكفّ تمدّون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا للصدقة خبر، وتتوقّون عن إعادة الرغبة إلى الغني الحميد، والولي الذي إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.وأيم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات، وضاقت المتّسعات، وتزاحمت على جماله وغصّت الجماعات . أتعزّزا على الله وهو القوي العزيز؟ وتلبيسا على الله وهو الذي يميّز الخبيث من الطيب والشّبه من الإبريز؟ أمنابذة والنواصي بيده ؟ أغرورا في الشدائد بالأمل والرجوع بعد إليه؟. من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ ثم ينزل الرزق ويفيده؟ من يرجع إليه في الملمّات؟ من يرجّى في الشدائد والأزمات؟ من يوجد في المحيا والممات؟ أفي الله شكّ يختلج القلوب؟ أم غير الله يدفع المكروه، وييسّر المطلوب؟ تفضلون على اللجإ إليه في الشدائد، بواسم الجهل ، وثرّة الأهل وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته، تمدّ إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعزته العقاب، وتستعجل إلى مواعد إجابته الارتقاب، وكأنكم أنتم عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه بنيتم. أما تعلمون كيف كان نبيّكم صلوات الله وسلامه عليه من التبلغ باليسير، والاستعداد إلى دار الرحيل الحقّ والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله والرجوع؛ دخلت عليه فاطمة، رضي الله عنها، وبيدها كسرة شعير، فقال: ما هذه يا فاطمة؟ فقالت: يا رسول الله، خبزت قرصة، وأحببت أن تأكل منها.
فقال: يا فاطمة، أما أنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث؟ وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين مرة، يلتمس رحماه، ويقوم وهو المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، حتى تورّمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجدّ والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الرّبى والوهاد. فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون؟ وإذا لم تهتدوا بهديه فبمن تهتدون؟ وإذا لم ترضوه باتّباعكم فكيف تعتزون إليه وتنتسبون؟ وإذا لم ترغبوا في الاتّصاف بصفاته غضبا لله تعالى وجهادا، وتقللا من العرض الأدنى وسهادا، ففيم ترغبون؟ فابتروا حبال الآمال، فكلّ آت قريب، واعتبروا بمثلات ما دهم من تقدم من أهل البلاد والقواعد، فذهولكم عنها غريب، وتفكّروا في منابرها التي كان يعلوها واعظ أو خطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعدّدة الصفوف، والجماعات المعمورة بأنواع الطّاعات ، وكيف أخذ الله فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغمضوا عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم، ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان. هذا والناس ناس، والزمان زمان.
فما هذه الغفلة عن من إليه الرّجعى وإليه المصير؟ وإلى متى التّساهل في حقوقه وهو السميع البصير؟ وحتى متى مدّ الأمل في الزمن القصير؟ وإلى متى نسيان اللّجإ إلى الولي النصير؟ قد تداعت الصلبان مجلبة عليكم، وتحرّكت الطواغيت من كلّ جهة إليكم. أفيخذلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم؟ وألسنة الآيات تناديكم؟ لم تمح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من افتتحها من عدد قليل، وصابر فيها كلّ خطب جليل، فوالله لو تمحّض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التّثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عزم التأييد. ولكن شمل الداء، وصمّ النداء، وعميت الأبصار، فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح؟ فتعالوا نستغفر الله جميعا، فهو الغفور الرحيم، ونستقبل مقيل العثرات ، فهو الرّءوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدّمت أيدينا، فقبول المعاذير من شأن الكريم. سدّت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلّا منك يا كريم ، يا فتّاح، يا وهّاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) . أعدّوا الخيل وارتبطوها، وروّضوا النفوس على الشهادة واغبطوها ، فمن خاف الموت رضي بالدنيّة، ولا بدّ على كلّ حال من المنيّة، والحياة مع الذلّ ليست من شيم أهل العقول والنفوس السّنيّة، واقتنوا السلاح والعدّة، وتعرّفوا إلى الله في الرّخاء يعرفكم في الشدّة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبنيان المرصوص لحملات العدو النازل بفنائكم، وحطّوا بالتعويل على الله وحدة بلادكم، واشتروا من الله جلّ جلاله أبناءكم .
ذكروا أنّ امرأة احتمل السبع ولدها، وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة فتصدّقت برغيف، فأطلق السبع ولدها. وسمعت النداء: يا هذه، لقمة بلقمة، وإنّا لما استودعناه لحافظون. اهجروا الشهوات، واستدركوا الباقيات من قبل الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصّبر على الأزمات، والمواساة في المهمّات، وأيقظوا جفونكم من السّنات. واعلموا أنكم رضّع ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب، والدّين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص ، فتفقّدوا معاملتكم مع الله تعالى، فمهما رأيتم الصّدق غالبا، والقلب للمولى الكريم مراقبا، وشهاب اليقين ثاقبا، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب، ولا ينالكم من أجلها عدوّ مطالب، وأنكم في السّتر الكثيف، وعصمة الخبير اللّطيف. ومهما رأيتم الخواطر متبدّدة، والظنون بالله متردّدة، والجهات التي تخاف وترجى متعدّدة، والغفلة عن الله ملابسها متجدّدة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، واعلموا أنّ الله منفّذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلّا على الظّالمين. والتوبة تردّ الشارد والله يحبّ التّوّابين، ويحب المتطهّرين، وهو القائل: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ
. وما أقرب صلاح الأحوال، إذا صلحت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون: حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدّنيا الدنيّة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظّنون: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) . وثوبوا سراعا إلى طهارة القلوب، وإزالة الشّوب ، واقصدوا أبواب غافر الذنوب وقابل التّوب، واعلموا أنّ سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسدّ طريق العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلّقوا متابكم بالصّرائر ، فهو علّام السرائر، وإنما علينا معاشر الأولياء أن ننصحكم وإن كنّا أولى بالنّصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة- علم الله- عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة، فقد ناديناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم لدنيا نفس مبذولة في جهاد الكفّار، وتقدّم إلى ربّكم العزيز الغفّار، وتقدّم لديكم إلى مواقف الصّبر التي لا ترتضي بتوفيق الله الفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدّار، والاختيار لله وليّ الاختيار، ومصرّف الأقدار. وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدوّ، ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدّعاء إلى من وعد بإجابته، وتقبّل من صرف إليه وجه إنابته. اللهمّ كن لنا في هذا الانقطاع نصيرا، وعلى أعدائك ظهيرا، ومن انتقام عبدة الأصنام مجيرا . اللهمّ قوّ من ضعفت حيلته، فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلّا أنت، إياك نعبد، وإياك نستعين.
اللهمّ ثبّت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدوّ الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام. اللهمّ دافع بملائكتك المسوّمين، [عمّن ضيّقت أرجاؤه، وانقطع إلّا منك رجاؤه. اللهمّ هيّئ لضعفائنا، وكلّنا ضعيف فقير، إليك، ذليل بين يديك حقير، رحمة تروى بالأزمة وتشبع، وقوة تطرد وتستتبع. يا غلاب الغلّاب، يا هازم الأحزاب، يا كريم العوائد، يا مفرّج الشدائد، ربّنا أفرغ علينا صبرا، وثبّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين ] . اللهمّ اجعلنا ممن تيقّظ فتيقّظ، وذكر فتذكّر، ومن قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(174) . وقد وردت علينا المخاطبات من قبل إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين، أولي الامتعاض لله والحميّة، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحقّ الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنّفرة لانتهاك ذمار نبيّهم المختار، وحركة سلطانهم محلّ أخينا بمن له من الأولياء والأنصار، إلى الإعانة على هؤلاء الكفّار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النّار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضّمين للعزّ والأجر والفخار، والسّلام الكريم يخصّكم أيها الأولياء، ورحمة الله وبركاته . في الثاني عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرّفنا الله خيره، صحّ هذا، فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى. والحمد لله على عوائده الحسنى.
ومن الغيرة على الدين، وتغيّر أحوال الملحدين، من مآزق جهاد النفس، ما وقع به العمل من إخماد البدع، وإذهاب الآراء المضلة، والاشتداد على أهل الزّيغ والزّندقة. وقد أضاقت أرباب هذه الأضاليل الشريعة، وسدّت مضرّهم في الكافّة، فيسلّط عليهم الحكّام، واستدعيت الشهادات، وأخذهم التّشريد، فهل تحسّ منهم أحدا، أو تسمع لهم ركزا؟
وقيّد في ذلك عني مقالات أخرى. منها رسالة «الغيرة على أهل الحيرة» ، ورسالة «حمل الجمهور على السنن المشهور» . ورسالة «أنشدت على أهل الرّد» .
فارتفع الخوض، وكسدت تلك الأسواق الخبيثة، وصمّ منها الصّدى، ووضح نار الهدى، والحمد لله، ولو تتبعت مناقب الهدى، لأخرج ذلك عن الغرض.
الأحداث: وفي غرة ذي الحجة كانت الثورة الشّنعاء المجحفة بالدولة، وقد كان السلطان أنذر بطائفة، تداخل بعض القرابة، فعاجله بالقبض عليه، وهو في محل ولايته، فصفّد وأحمل إلى قصبة ألمريّة، وخاف أرباب المكيدة افتضاح الأمر، فتعجّلوا إبراز الكامن، وإظهار الخبث، وتولّى ذلك جملة من بني غرون ذنابى بيت الإدبار، وقد عابهم من بني مطرون، يدور أمرهم على الدّليل البركي ، فأكذب الله دعوتهم، بعد أن أركبوا الشيخ عليّا بن نصر، ونصبوه تلقاء القلعة بباب البنود ، ودعوا الناس إلى بيعته. وأخذ السلطان حذره، وناصبهم القتال، وأشاع العطا، واستركب الجيش. وعمّر الأسوار، فأخفق القصد، وفرّ الدليل البركي، وتقبّض على الرئيس المذكور، وجعل الله العاقبة الحسنة للسلطان.
وكان ممّا أمليته يومئذ بين يدي السلطان، من الكلام المرسل، ما هو نصه، بعد الصّدر: وإلى هذا فممّا أفادته الفطر السليمة، والحلم والقضاء بالشريعة، والنّقل الشرعي والسّنن المرعي، أنّ مغالب الحقّ مغلوب، ومزاحم الله مهزوم، ومكابر البرهان بالجهل موسوم، ومرتع الغيّ مهجور، وسيف العدوان مفلول، وحظّ الشيطان موكوس، وحزب السلطان منصور. ولا خفاء بنعمة الله علينا، التي اطّردها في المواطن العديدة؛ والهضبات البعيدة، والشّبهات غير المبينة، والظّلمات الكثيفة، معلن بوفور الحظّ من رحمته، وإبراز القداح في مجال كرامته، والاختصاص بسيما اختياره، فجعل العصمة ليلة الحادث علينا من دون مضجع أمانا، ونهج لنا سبيل النّجاة بين يدي كسبه علينا، وسخّر لنا ظهري الطّريف والطريق، بعد أن فرّق لنا بحر الليل، وأوضح لنا خفيّ المسلك، وعبّد لنا عاصي الحزم، ودمّث غمر الشّعراء ، وأوطأنا صهوة المنعة، وضرب وجوه الشّرذمة المتبعة، بعد أن ركضوا قنيب البراذن البادئة، من خزائن إهدائنا، المتجمّلة بحلي ركبنا؛ وتحمّلوا السلاح والرّياش المختار من أثير صلاتنا، وأبهروا الأنفاس التي طال ما رفعها إيناسنا وأبلغها الريق تأميننا، وصبّبوا العرق الذي أفضله طعامنا، شرهين إلى دمنا، المحظور بالكتاب والسّنّة، المحوط بسياج البيعة، المحصّن عنهم بتقديم النّعمة، وحرمة الأب ومتعدّد الأذمّة، فجعل الله بيننا وبينهم حاجزا، وسدّ ليأجوجهم من المردة مانعا، وانقلبوا يعضّون الأنامل الغضّة من سريط جفاننا، ويقلّبون الأكفّ التي أجدبها الدّهر، ترفيعا من المهن المترتّبة في خدمتنا، قد حالهم صغار القدر، وذلّ الخيبة، وكبح الله جماعتهم عن التّنفق بتلك الوسيلة. واحتللنا قصبة وادي آش، لا نملك إلّا أنفسنا، لم يشبها غشّ الملّة، ولا كياد الأمّة، ولا دنّسها والحمد لله عار الفاحشة، ولا وسمها الشّوم في الولاية، ولا أحبط عمل نجابتها دخل العقيدة، ولا مرض السّريرة، مذ سلّمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب، وصيّر إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة، نرى أنّها أملك لحرمتنا، وأعلم بما كنّا، وأرحم بنا، فتشبّثت بها القدم، وحميت لنا من أهلها، رعاهم الله الهمم، وصدقت في الذّبّ عنّا العزائم، وحاصرنا جيش العدو، وأولياء الشياطين، وظهر الباطل، فبان الظّفر والاستقبال، وظهرت الفئة القليلة، والله مع الصابرين، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضّيق، وأهمّنا من الأمر، فلم نطلق به غارة، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة، ولا سرّحنا عنّا اكتساح على هجمة، ولا شعنا لبسا في بيت ولا حلّة، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزائننا من أعشار وزكوات، وحظوظ من زراعات، وارتقبنا الفرج ممّن محّص بالشّدة، والإقالة ممن نبّه من الغفلة، وألهم الإقلاع والتّوبة. ثم وفّقنا سبحانه، وألهمنا من أمرنا رشدا، وسلك بنا طريقا في بحر الفتنة يبسا، فدناه بحقن الدماء، وتأمين الأرجاء، وشكرنا على البلاء؛ كشكرنا إيّاه على الآلاء. وخرجنا على الأندلس، ولقد كاد، لولا عصمته، بأن نذهب مذاهب الزّوراء، ونستأصل الشّأفة ، ونستأصل العرصة ، سبحانه ما أكمل صنعه، وأجمل علينا ستره، إلى أن جزنا البحر، ولحقنا بجوار سلطان المغرب. لم تنب عنّا عين، ولا شمخ علينا أنف، ولا حمل علينا بركب ، ولا هتفت حولنا غاشية، ولا نزع عنّا للتقوى والعفاف ستر، بل كان الناس يوجبون لنا الحقّ الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا، والضّفادع ببركة نعمتنا، حتى إذا الناس عافوا الصّيحة، وتملّوا الحسرة، وسيموا الخسار والخيبة، وسامهم الطّغام الذين يرجون لله وقارا، ولا يألون لشعائره المعظّمة احتقارا، كلاب الأطماع، وعبدة الطاغوت ، ومدبّر وحجون الجهل، ومياسيس أسواق البعد عن الرّب، وعرائس محرم الزينة، ودود القزّ، وثغار النّهم الأعزّة على المؤمنين بالباطل، الأذلّة في أنفسهم بالحق، ممن لا يحسن المحاولة، ولا يلازم الصّهوة، ولا يحمل السلاح، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء، ولا يطعم المسكين، ولا يشعر بوجود الله، جاروا من شقيّهم المحروم، على مضعوف ملتفّ في الحرم المحصور، محتف بلطف المهد، معلّل بالخداع، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم، شؤم على الإسلام، ومعرّة في وجه الدين، أخذ الله منهم حقّ الشريعة، وأنصف أئمّة الملّة، فلم ينشبوا أن تهارشوا، فعضّ بعضهم، واستأصلهم البغي، وألحم للسيف، وتفنن القتل، فمن بين مجدّل يوارى بأحلاس الدّواب الوبرة، وغريق يزفّ به إلى سوء الميتة، واستبينت حرمة الله، واستضيم الدّين، واستبيحت المحرّمات، واستبضعت الفروج في غير الرّشدة، وساءت في عدوّ الدّين الحيلة، فتحرّكنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولي الحريّة، وتحريض من أولي الحفيظة والهمّة، وتداحر من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثّائرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثّأي ، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضرّ والبأساء، أما الحبوة فالتمسها، وجلّ الرّبّ، واستشاط عليها جوّ السماء. وأمّا مرافق البحر ومرافده، فسدّت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحميّة، فبدّدها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأمّا المال، فاصطلم السّفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزائنه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وافتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها، وجردتموا الآلة إلى أعلاها، والدّغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخرّبت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحقّ البهت، وخذل الناصر، وتبرّأت الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النّصفة، ولم نقرّه على الدّنيّة، وباينّاه أحوج ما كنّا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفّار مثله، اعتزازا بالله، وثقة به، ولجأ إليه، وتوكلا عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأوجى أمره، وأشدّ قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة، ونهدنا قدما، لا نهاب الهول ولا نراقبه، وأطللنا على أحواز ريّه في الجمع القليل، إلّا من مدد الصّبر المفرد، إلّا من مظاهرة الله الغفل، إلّا من زينة الحق المظلّل جناح عقابه يجتاح الروح، تسدّ جياده بصهيل العزّ، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلمّا أحسّ بنا المؤمنون المطهّرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدّعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشّرذمة الغاوية، والطّائفة المناصبة لله المحاربة، وأقبلوا ثنيّات وأفرادا، وزرافات ووحدانا، ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيّا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلّقون بأذيالنا تعلّق الغريق، يئنّون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرّفناهم الأمان من الأعداء، وأول عارفة جعلونا عليهم، وصرفنا وجه التّأمين والتّأنيس، وجميل الودّ إليهم، وخارطناهم الإجهاش والرّقعة، ووثّبنا لهم من الذّلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلّفوهم بها، من أخلاف لا يزال تطأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفائهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشمّر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرّ عنها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدّته في الغيّ، وأجرته على حرمة الله. وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة، يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقتياد جيوش الصّلبان، وشدّ الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدّين، وطمس معالم الحق، كيادا لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيّته، وتبديلا لنعمة الله كفرا، ولمعروف الحقّ نكرا، أصبح له الناس على مثل الرّضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظّلّة، وعودة الكرّة، وعقبى المعرّة، والله من ورائهم محيط، وبما يعملون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نقدم مذ حللنا بدار الملك شيئا على مراسلة صاحب قشتالة في أمره، نناشده العهد، ونطري له الوفاء، ونناجزه إلى الحقّ، ونقوده إلى حسن التلطّف، إلى الذي نشاء من الأمن، فحسم الداء، واجتثّ الأعداء، وناصح الإسلام وهو أعدا عدوه، وحزم الدين، وهو المعطل من أدوائه، وصارت صغرى عناية الله بنا، التي كانت العظمى، واندرجت أولاها في الأخرى، وأتت ركائب اليمن واليمين تترى، ورأى المؤمنون أن الله لم يخلق هذا الصّقع سدى ولا هباء عبثا، وأن له فينا خبيئة غيب، وسرّ عناية، يبلّغنا إيّاها، ويطوّقنا طوقها، لا مانع لعطائه، ولا معدّد لآلائه، له الحمد ملء أرضه وسمائه.
فمن اضطردت له هذه العجائب، فحملته عوائق الاستقامة مزية جيوب التقوى، كيف لا يتمنّى، ويدين لله بمناصحته، ويحذر عناد الله بمخالفته، ويخشى عاقبة أمره، إنها لا تعمي الأبصار، ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. فقلّمنا أظفار المطالبة وأغضينا عن البقيّة وسوّغنا من كشف وجهه في حربنا نعمة الإبقاء، وأقطعنا رحم من قطع طاعتنا جانب الصّفح، وأدررنا لكثير ممن شحّ عنّا ولو بالكلمة الطيّبة جورية الرزق، ووهنا ما وجب لنا من الحق، ودنّا له بكظم الغيظ؛ وعمرنا الرّتب بأربابها، وجردنا الألقاب بعد خرابها، وقبضنا الجباية محمّلة كتد العادة، مقودة بزمام الرّفق، ممسوحا عطفها بكفّ الطواعية، فبلّلنا صدأ الجيش الممطول بالأماني، المعلّل بالكذب، المستخدم في الذبّ عن مجاثم الفحشاء، ومراقد العهر، ودارينا الأعداء، وحسمنا الداء، وظهر أمر الله وهم كارهون، إلّا أن تلك الشّر ذمة الخبيثة أبقت جراثيم نفاق، ركبها انحجار الغدر، وبذر بها حصيد الشّرّ، وأخلطوا الحقائب اللّعنة ممن ساء ظنّه، وخبث فكره، وظنّ أن العقاب لا يفلته، والحقّ لا يذره، والسياسة لا تحفزه، فدبّت عقاربهم، وتدارت طوافاتهم، وتأبّت فسادهم، فدبّروا أمرا تبره الله تتبيرا، وأوسعه خزيا وبيلا، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان، من لا يصلح لشيء من الوظائف، ولا يستقلّ ببعض الكلف، فحركوا منهم زاهق زمانه، من شرّ الدّواب الذين لا يسمعون، فأجّرهم رسنه، وتوقف وقفة العين بين الورد والصّدر، بخلال ما أطلعنا الله طلع نيّته، فعاجلناه بالقبض، واستودعناه مصفدا ببعض الأطباق البعيدة، والأجباب العميقة، فخرج أمرهم، وخافوا أن نحترش السعايات، صباب مكرهم، وتتبع نفاقهم، فأقدموا إقدام العير على الأسد، استعجالا للحين، ورجعا لحكم الخيار، وإقداما على التي هي أشدّ، تولّى كبرها، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي حلف التهور والخرق، المموّه بالبسالة وهو الكذوب النّكوث الفلول، تحملنا هفوته، وتغمّدنا بالعفو قديما وحديثا زلّته، وأعرضنا فيه عن النّصيحة، وأبقينا له حكم الولاية، وأنسنا من نفرته، وتعاففنا عن غرّته، وسوّغنا الجرائم التي سبقت، والجرائر التي سلفت، من إفساد العهد وأسر المسلمين، والافتيات على الشرع، والصّدوع بدعوى الجاهلية، فلم يفده إلّا بطرا، ولم يزده إلّا مكرا، والخير في غير أهله يستحيل شرّا، والنفع ينقلب ضرّا. والتفّت عليه طائفة من الخلائق، بنو غرّون قرعاء الجبل والمشأمة، وأذناب بيت الإدبار، ونفاية الشرّار، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس، ابن بطرون، الضعيف المنّة السقيط الهمّة، الخامل التفصيل والجملة، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حمامهم، وأن العدو قد دهمهم، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم، وأنّ رماحهم تنهشهم وتنوشهم، وسرعانهم ترهقهم، كأنهم سقطوا من السماء، أو ثاروا من بين الحصباء، ثم جالوا في أزقّة البلد يقذفون في الصّفاح نار الحباحب ركضا فوق الصّخر المرصوف، وخوضا في الماء غير المرهوف. ثم قصدوا دار الشيخ البائس علي بن أحمد بن نصر، نفاية البيت، ودردى القوم، ممسوخ الشكل، قبيح اللّتغ، ظاهر الكدر، لإدمان المعاقرة، مزنون بالمعاقرة والرّبت على الكبرة، ساقط الهمّة، عديم الدّين والحشمة، منتمت في البخل والهلع، إلى أقصى درجات الخسّة، مثل في الكذب والنميمة، معيّب المثانة، لا يرق بوله، ولا يجفّ سلسه، فاستخرجوه مبايعا في الخلافة، منصوبا بأعلى كرسي الإمامة، مدعوما بالأيدي لكونه قلقا لا يثبت على الصّهوة، مختارا لحماية البيضة، والعدل في الأمة، مغتما للذبّ عن الحنيفية السّمحة، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا، منتترا باب البنود ، مستندا إلى الربض، مطلا على دار الملك، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري، الكسح الدروب برسم المسومة، الحرد، المهين الحجة، فحل طاحونة الغدر، وقدر السّوق والخيانة، واليهودي الشكل والنّحل، وقرعت حوله طبول الأعراس، إشادة بخمول أمره، واستهجان آلته، ونشرت عليه راية فال رأيها، وخاب سعيها، ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصّغير من حيله، وانبثّت في سكك البلد مناديه، وهتف أولياء باطله باسمه وكنيته، وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت، ودعوا سماسير الغرور فصمّت، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنّا بالله وتوكلنا عليه، وفوّضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا: ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند، وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد. وملأنا الأكفّ بالسلاح، وعمرنا الأبراج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الرّبض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فألفيناه متواريا في وكره، مرعيا على دينه، مشفقا من الإخطار برمّه، مشيرا بكمّه. وتفقّدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، وليّ أمرنا، الذي اتخذناه ظهيرا؛ واستنبطناه مشيرا، والتزمناه جليسا وصهيرا، ولم ندخر عنه محلّا أثيرا، الشيخ الأجلّ، أبا سعيد عثمان ابن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحّو، ممهّد الرعب بقدومه، والسّعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الجملة، سابغ العدّة، مزاح العلة، وافر النّاشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولفّ عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلّا كلّا ولا، حتى داسه بالسّنابك، وتخلّفه مجرّ العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السّلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحثّ الفاقرة، ووقعت به الرّزيّة. وفرّ الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيّهم أذلّ من وتد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبّض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعلبان مكيدة، وشكيّة ضلال ومظنّة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرّع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثلّ إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثائرة، والحمد لله من يومها، واجتثّت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتمّ نوره ولو كره الكافرون إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
(139) .وماذا رابهم منّا، أصغر الله منقلبهم، وأخزى مردّهم، واستأصل فلكهم؟ أولا يتبنى أمر وارثه، ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمق الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلّا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوّغا من هدنة، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفّة، وأظهر الله علينا من نعمة. ربّنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهمّ ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنّا أردنا لجماعتهم شرّا، وفي دينهم إغماضا، وعن العدل فيهم عدولا، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعي صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسّلنا طاعتهم، واهد بنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.
ولما أسفر صبح هذا الصّنع عن حسن العفو، واستقرّ على التي هي أزكى، وظهر لنا، لا تخاف بالله دركا ولا تخشى، وأن سبيل الحق أنجى ومحجّته أحجى، خاطبنا كم نجلو نعم الله قبلنا عليكم، ونشيد بتقوى الله بناديكم، وعنايته لدينا ولديكم، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتبارا، فزجّوا الله وقارا، وتزيّدوا يقينا واستبصارا، وتصفّوا العين من اختار لكم اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم. كتب في كذا. والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
الجهاد في شعبان من عام سبعة وستين وسبعمائة: اقتضى نظر الحزم، ورأى الاجتهاد للإسلام إطلاق الغارات على بلد الكفرة من جميع جهات المسلمين، فعظم الأثر، وشهر الذكر، واكتسحت الماشية، وألحم السيف. وكان ثغر برغة، الفائزة به يد الكفرة، لهذه السنين القريبة، قد أهمّ القلوب، وشغل النفوس، وأضاق الصدور، لانبتات مدينة رندة، بحيث لا يخلص الطّيف، ولا تبلغ الرسالة من الطّير وغيرها إلى ناحية العدو، فوقع العمل على قصده واستعانة الله عليه، واستنفر لمنازلته أهل الجهات الغربية من مالقة ورندة، وما بينهما، ويسّر الله في فتحه، بعد قتال شديد، وحرب عظيمة، وجهاد شهير، واستولى المسلمون عليه، فامتلأت أيديهم أثاثا وسلاحا ورياشا وآلة، وطهّرت للحين مساجده، وزيّنت بكلمة الله مشاهده، وأنست بالمؤمنين معاهده، ورتّبت فيه الحماة والرماة، والفرسان الكماة، واتّصلت بفتحة الأيدي، وارتفعت العوائق، وأوضحت بين المسلمين وأخوانهم السبل، والحمد لله. وتوجّهت بفتحه الرسائل، وعظمت المنن الجلائل، وفرّ العدو لهذا العهد عن حصن السهلة، من حصون الحفرة اللّويشيّة، وسدّ الطريق الماثلة، وذلك كله في العشر الأوسط لشعبان من هذا العام. ثم أجلب المسلمون في رندة في أخرياته وقصدوا باغة وجيرة فاستنزلوا أهلها، وافتتحوها، فعظمت النعمة، واطّرد الفتح، واتسعت الجهة.
وكانت مما خوطبت به الجهة المرينيّة من إملائي: المقام الذي نبشره بالفتح ونحيّيه، ونعيد له خبر المسرّة بعد أن نبديه؛ ونسأل الله أن يضع لنا البركة فيه، ونشرك مساهمته فيما نهصره من أغصان الزهور ونجنيه، ونعلم أن عزّة الإسلام وأهله أسنى أمانيه، وإعانتهم أهمّ ما يعنيه. مقام محلّ أخينا الذي نعظم قدره، ونلتزم برّه، ونعلم سرّه في مساهمة المسلمين وجهره؛ السلطان الكذا، الذي أبقاه الله في عمل الجهاد ونيّته؛ متكفلة بنشر كلمة الله طويّته، متممة من ظهور الدين الحنيف أمنيته، معظّم جلاله، ومجزل ثنائه، ومؤمّل عادة احتفاله بهذا الوطن الجهادي واعتنائه، أيّد الله أمره، وأعزّ نصره. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله، واصل سبب الفتوح، ومجزل مواهب النّصر الممنوح، ومؤيد الفئة القليلة بالملائكة والرّوح، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيّه، الآتي بنور الهدى بيّن الوضوح، الداعي من قبوله ورضوانه إلى المنهل المورود والباب المفتوح، والرّضا عن آله وأصحابه، أسود السّروج وحماة السّروح، والمقتفين نهجه في جهاد عدوّ الله بالعين القارّة والصدر المشروح، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصّروح، فإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم سبوغ المواهب، ووضوح المذاهب، وعزة الجانب، وظفرة الكتائب. من حمراء غرناطة حرسها الله، ونعم الله واكفة السحائب، كفيلة بنيل الرغائب، والله يصل لنا ولكم عوارف اللطائف، ويجعل الشّهيد دليلا على الغائب. وإلى هذا وصل الله إعزازكم، وحرس أحوازكم، وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنّا بادرنا تعريفكم بما فتح الله علينا من الثغر العزيز على الإسلام، العائد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام، ركاب الغارات، وممكّن حياة المضرّات، ومخيف الطريق السابلة؛ والمسارح الآهلة، حصن برغة. ويسّر الله في استرجاعه، مع شهرة امتناعه، وتطهّر من دنس الكفّار، وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة الساطعة الأنوار، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها، ووفت الأوتار أوبارها، فسار الكتاب إليكم، وأجير الأجر لم يجفّ عرقه، وعذر الاستعجال لاحبة طرقه. ولما عدنا إلى حضرتنا، بعد ما حصّناه وعمّرناه، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه، لم تكد البنود لمسرّة فتحه أن تعاد إلى أماكن صونها، مرتقبة عادة الله في عونها، حتى طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده، بتشفيع أفراده، وذلك أن أهل رندة، حرسها الله، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة، كان الله لجميعهم، وتولّى شكر صنيعهم، فيما كان من امتيازهم بحصن برغة، الجار المصاقب لها، فحميت هممهم السنيّة، وهانت في الله موارد المنيّة، وتضافر العمل والنيّة، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتوح الهنيّة، فوجهوا نحو حصن وحبر، وهو الداين صحر المدينة ونحرها، والعدوّ الذي لا يفتر عن ضرّها، والحيّة الذكر التي هي مروان أمرها؛ ففتحوه بعون الله وقوته، وتهنّوا بعده سلوك الطريق، وإشاعة الريق، ومراصد الحرس، ومجلوّ الجرس، وأنصفوا، وانصرفوا إلى حصن باغة، من مشاهد تلك الحفرة، فناشبوه القتال، وأذاقوه الوبال، وفوقوا إليه النّبال، ففتحه الله فتحا هينا، لم تفتّ فيه للمسلمين نفس، ولا تطرّق لنصر التيسير لبس، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية، والمنن المتقدّمة والتالية، وأعدنا الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب، والطبول إلى قرعها عملا من الإشارة بالواجب، وشكرنا الله على اتصال المواهب، ووضوح المذاهب، وخاطبنا مقامكم الذي نرى الصّنائع متواترة بنيّته الصالحة وقصده، ويعتد في الحرب والسلم بمجده، علما بأن هذه المسرّات، نصيبكم منها النصيب الأوفى؛ وارتياحكم إلى مثلها لا يخفى. ونحن نرقب ما تنجلي عنه هذه النكايات التي تفتّت كبد العدو تتاليها، وتروع أحوازه وما يليها، ولا بدّ له من امتعاض يروم به صرع المعرّة، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرّة، والله يجعلها محركات لحتفه المرقوب، وحينه المجلوب، ويحقق حقّ القلوب، في نصرة المطلوب، عرّفناكم بما تريدون عملا بواجب برّكم، ومعرفة بقدركم، وما يتزايد نعرفكم به، ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه، والسلام.
الغزاة إلى حصن أشر :
وفي أوائل شهر رمضان بعده، أعمل السلطان الحركة السعيدة إلى حصن أشر، وهو قفل الثغر الذي فضّه الطاغية، وسورها الذي فرغه الكفر، وجارحه المحلّق على البلاد، والمتحكم لولا فضل الله في الأموال والأولاد، فتأذن الله برد مغتصبه، والشّفا من وصبه، وأحاط به وناصبه الحرب، ففتحه الله على يده عنوة، على سموّ ذروته، وبعد صيته وشهرته، واختيار الطاغية في حاميته بعد حرب لم يسمع بمثله، فاز بمزية الحمد فيها السلطان، لمباشرته إياها بنفسه، وحمل كلّها فوق كاهله، واتّقاد ما حمد من الحميّة بتحريضه. ثم لما كان بعد الفتح من استخلاص القصبة وسدّ ثلمها بيده، ومصابرة جو القيظ عامّة يومه، فحاز ذكرا جميلا وحلّ من القلوب محلّا أثيرا، ورحل منها، بعد أن أسكن بها من الفرسان رابطة متخيرة، ومن الرّماة جملة، وتخلّف سلاحا وعدّة، فكان الفتح على المسلمين، في هذا المعقل العزيز عليهم جليلا، والمنّ من الله جزيلا، والصنع كثيرا، وصدرت المخاطبة للمغرب بذلك، على الأسلوب المرسل الخلي من السجع الغني.
الغزاة المعملة إلى أطريرة : في شهر شعبان من عام ثمانية وستين وسبعمائة، كانت الحركة إلى مدينة أطريرة بنت إشبيلية، وبلدة تلك الناحية الآمنة، مهاد الهدنة البعيدة عن الصّرمة، حرك إليها بعد المدى، وآثرها بمحض الرّدى، من بين بلاد العدا، ما أسلف به أهلها المسلمين، من قتل أسراهم في العام قبله. فنازلها السلطان أول رمضان، وناشبها الحرب واستباح المدينة وربضها عنوة، ولجأ أهلها إلى قصبتها المنيعة، ذات الأبراج المشيّدة، وأخذ القتال بمخنّقهم، وأعان الزحام على استنزالهم، فاستنزلوا على حكم المسلمين، فيما يناهز خمسة، بما لم يتقدمه عهد؛ ولا اكتحلت به في هذه المدة عين، ولا تلقته عنها أذن، وامتلأت أيدي المسلمين، بما لم يعلمه إلّا الله، من شتّى الغنائم، وأنواع الفوائد، واقتسم الناس السّبي ربعا على الأكفال والظهور، وتقديرا بقدر الرجال، وحملا فوق الظهور للفرسان، وعمرانا للسروج والأعضاد بالصّبية، وبرز الناس إلى ملاقاة السلطان، في هول من العزّ شهير من الفخر، وبعيد من الصيت، قرّت له أعينهم، وقعد لبيعتهم أياما تباعا، وملأ بهم البلاد هدايا وتحفا والحمد لله، وصدرت المخاطبة بذلك إلى السلطان بالمغرب بما نصه من الكلام المرسل من إنشائي.
الغزاة إلى فتح جيّان: وفي آخر محرم من عام تسعة وستين وسبعمائة، كانت الحركة الكبرى إلى مدينة جيان، إحدى دور الملك، ومدن المعمود، وكرسيّة الإمارة، ولو أن المدن الشهيرة افتتحها الله عنوة، ونقل المسلمون ما اشتملت عليه من النّعم والأقوات والأموال والأنعام والأثواب والدّواب والسّلاح، ومكّنهم من قتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتخريب الديار، ومحو الآثار، واستنساف النّعم، وقطع الأشجار. وهذا الفتح خارق، تعالى أن يحيط به النّظم والنثر. فذكره أطير، وفخره أشهر. وصدرت في ذلك المخاطبة من إملائي إلى ملك المغرب. وأصاب الخلق عقب القفول في هذه الغزاة، مرض وافد، فشا في الناس كافة، وكانت عاقبته السّلامة؛ وتدارك الله بلطفه، فلم يتّسع المجال لإنشاد الشعراء، ومواقف الإطراء، إلى شغل عن ذلك.
الغزاة إلى مدينة أبدة: وفي أول ربيع الأول من هذا العام، كان الغزو إلى مدينة أبدة، واحتلّ بظاهرها جيش المسلمين، وأبلى السلطان في قتالها، وقد أخذت بعد جارتها جيّان أقصى أهبة، واستعدّت بما في الوسع والقوة، وكانت الحرب بها مشهورة. وافتتحها المسلمون فانتهبوها، وأعفوا مساكنها العظيمة البناء، وكنائسها العجيبة المرأى، وألصقوا أسوارها بالثّرى، ورأوا من سعة ساحتها، وبعد أقطارها، وضخامة بنائها، ما يكذّب الخبر فيه المرأى، ويبلّد الأفكار، ويحيّر النّهى. ولله الحمد على آلائه التي لا تحصى. وقفل المسلمون عنها، وقد أخربوها، بحيث لا تعمر رباعها، ولا تأتلف حجورها وجموعها. وصدرت المخاطبة بذلك إلى صاحب المغرب من إنشائي بما نصّه:
وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصّنع للمسلمين، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه، وحياز سبعة من كبار أصحابه، وأهل ملّته إليه، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين، وإجلابهم على من آثر طاعته ضدّه، فانهزم بظاهر حصن منتيل، ومعه عدد من فرسان المسلمين، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة ولا استعداد، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنّقه، وأدار على الحصن البناء، وفرّ جيش المحصور، فاجتمع فلّه بأحواز أبدة، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصا على تخليصه، ليسبّب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر، وتشغل بعض العدو ببعضه.
وفي أثناء هذه المحاولة تباطن الحاين المحصور بمن معه، وبعد عليه الخلاص من ورطته، ومساهمة المسلمين إياه في محنته؛ وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته، فداخل بعض أمراء أخيه وظهرائه، ممن يباشر حصاره، وكان قومسا شهيرا من المدد الذي ظاهره، من أهل إفرنسية، ووعده بكل ما يطمع من مال ومهد، وتوفية عهد، فأظهر له القبول، وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه، سجنه ومن لحق به من الأدلّاء وأولي الحرّة بالأرض وأمسكه، وقد طيّر الخبر إلى أخيه، فأقبل في شرذمة من خواصّه وخدّامه، فهجم عليه وقتله، وأوسع العفو من كان محصورا معه، وطير إلى البلاد برأسه، وأوغر التّبن في جثّته، ولبس ثياب الحزن من أجله، وإن كان معترفا بالصّواب في قتله، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة الجاهر بمظاهرة المسلمين، وما جرّ ذلك من افتتاح بلادهم، وتخريب كنائسهم، والإتيان على نعمهم، فأجابته ضربة، واتفقت على طاعته، فلم يختلف عليه منها اثنان، إلّا ما كان من مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى، ووقع ارتفاع شتاتهم، وصرفوا وجوههم إلى المسلمين، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدوّ الثقيل ببرجلونة ، وعدوّ الأشبونة، والعدو الثّقيل الوطأة بإفرانسيّة. وقد كان الله، جلّ جلاله، ألهم أهل البصائر النظر في العواقب، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان، المخلي بيني وبين النصائح، في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه، والتّفطّن لمكايد من يحطب في حبل أخيه، وأريته اتخاذ معقل يحرز ولده وذخيرته، ويكون له به الخيار على دهره، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة، والتواريخ المعروفة، لتتّصل الفتنة بأرضهم، فقبل الإشارة وشكر النصيحة، واختار لذلك مدينة قرمونة المختصّة بالجوار المكتّب، من دار ملكهم إشبيلية، فشيّد هضابها، وحصّن أسوارها، وملأها بالمخازن طعاما وعدّة، واستكثر من الآلات، واستظهر عليها بالثّقات، ونقل إليها المال والذخيرة، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية، وأسرى المسلمين، وبالغ في ذلك، فيما لا غاية وراءه ولا مطمع، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه، حتى تركها عدّة خلفه، وأودع بها ولده وأهله، ولجأ إليها بعض من خدّامه ممن لا يقبل مهدنة ضدّه، ولا يقرّ أمان عدوه، والتفوا على صغير من ولده كالنّحل على شهده، ولجأوا إلى المسلمين، فبغّض عليهم الكرّة والفتح بقاء هذا الشّجى المعترض في حلقه، وأهمّه تغيير أمره، وجعجع به المسلمون لأجله، وأظهروا لمن انحاز بقرمونة الامتساك بعهده، فعظم الخرق، وأظهر الله نجح الحيلة، وصدّق بها المخيّلة، وتفتّر الأمر، وخمدت نار ذلك الإرجاف، واشتغل الطاغية بقرمونة، بخلال ما خوطب به صاحب الأرض الكبيرة ، فطمّعه في المظاهرة، وتحطّب له ملك قشتالة، وعقد السّلم مع صاحب برطغال والأشبونة، ونشأت الفتن بأرضهم، وخرجت عليهم الخوارج، فأوجب إزعاجه إلى تلك الجهة، وإقرار ما بالبلاد المجاورة للمسلمين من الفرسان والحماة تقاتل وتدافع عن أحوازها، وجعل الخصص موجّهة قرمونة، وانصرف إلى سدّ الفتوق التي عليه بلطف الحيلة، ببواطن أرضه، وأحشاء عمالته، وصار في ملكه أشغل من ذات النّحيين، فساغ الرّيق، وأمكن العذر، وانتهز الغرّة، واستؤنفت الحركة، فكانت إلى حصن منتيل والحويز، ففتحهما الله في رمضان من عام سبعين وسبعمائة، ثم إلى ثغر روطة، ففتحه الله عن جهد كبير، واتصل به حصن زمرة، فأمّن الإسلام عادية العدوّ بتلك الناحية، وكبس أهل رندة بإيعاز من السلطان إليها وإلى من بالجبل، جبل الفتح، حصن برج الحكيم والقشتور، فيسّر الله فتحهما في رمضان أيضا.
ثم كانت الحركة إلى الجزيرة الخضراء ، باب الأندلس، وبكر الفتح الأول، فكانت الحركة إليها شهر ذي الحجة من العام المذكور. ووقع تحريض الناس بين يدي قصدها في المساجد بما نصّه:
معاشر المسلمين المجاهدين، وأولي الكفاية عن ذوي الأعذار من القاعدين، أعلى الله بعلوّ أيديكم كلمة الدين، وجعلكم في سوى الأجر والفخر من الزاهدين، اعلموا، رحمكم الله، أن الإسلام بالأندلس ساكن دار، والجزيرة الخضراء بابه، ومبعد مغار، والجزيرة الخضراء ركابه، فمن جهتها اتصلت في القديم والحديث أسبابه، ونصرته على أعدائه وأعداء الله أحبابه، ولم يشكّ العدو الكافر الذي استباحها، وطمس بظلمة الكفر صباحها، على أثر اغتصابها، واسوداد الوجوه المؤمنة لمصابها، وتبديل محاربها، وعلوق أصله الخبيث في طيّب تراثها، أن صريع الدين الحنيف بهذا الوطن الشريف لا ينتعش ولا يقوم، بعد أن فري الحلقوم، وأن الباقي رمق يذهب، وقد سدّ إلى التّدارك المذهب، لولا أن الله دفع الفاقرة ووقاها، وحفظ المسكنة واستبقاها، وإن كان الجبل عصمة الله نعم البقية، وبمكانه حفّت التقية، فحسبك من مصراع باب فجع بثانيه، ومضايق جوار حيل بينه وبين أمانيه.
والآن، يا عباد الله، قد أمكنكم الانتهاز، فلا تضيّعوا الفرصة، وفتر المخنّق فلا تسوّغه غصّة، واعمروا البواطن بحميّة الأحرار، وتعاهدوا مع الله معاهد الأولياء الأبرار، وانظروا للعون من الذّراري والأبكار، والنشأة الصّغار، زغب الحواصل في الأكوار، والدين المنتشر بهذه الأقطار، واعملوا للعواقب تحمدوا عملكم، وأخلصوا لله الضمائر يبلّغكم من فضله أملكم، فما عذر من سلّم في باب وكره، وماذا ينتظر من أذعن لكيد عدوّه ومكره. من هذه الفرضة، دخل الإسلام تروّع أسوده، ومن هذه الجهة طلع الفتح الأول تخفق بنوده، ومنها تقتحم الطير الغريب، إذا رامت الجواز وفوده، فيبصر بها صافّات والدليل يقوده. الباب المسدود، يا عباد الله، فافتحوه، وجه النّصر تجلّى يا عباد الله فالمحوه، الداء العضال يا عباد الله فاستأصلوه، حبل الله يا رجال الله قد انقطع فصلوه. في مثلها ترخص النفوس الغالية، في مثلها تختبر الهمم العالية، في مثلها تشهر العقائد الوثيقة، وتدسّ الأحباس العريقة، فنضّر الله وجه من نظر إلى قلبه، وقد امتلأته حميّة الدين، وأصبح لأن تكون كلمة الله هي العليا متهلّل الجبين.
اللهمّ إنّا نتوسّل إليك بأسرار الكتاب الذي أنزلته، وعناية النبيّ العربي الذي أوفدت من خصوص الرّحمات وأجزلت، وبكل نبيّ ركع لوجهك الكريم وسجد، وبكل وليّ سدّه من إمدادك كما وجد، ألا ما رددت علينا ضالّتنا الشاردة، وهنّأتنا بفتحها من نعمك الواردة، يا مسهل المآرب العسرة، يا جابر القلوب المنكسرة، يا وليّ الأمة الغريبة، يا منزل اللطائف القريبة، اجعل لنا من ملائكة نصرك مددا، وأنجز لنا من تمام نورك الحقّ موعدا. ربّنا آتنا من لدنك رحمة، وهيّئ لنا من أمرنا رشدا.
فوقع الانفعال، وانتشرت الحميّة، وجهزت الأساطيل. وكانت منازلتها يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور، وعاطاها المسلمون الحرب، فدخلت البنية وهي المدينة الملاصقة لها عنوة، قتل بها من الفرسان الدّارعة عدّة، وصرفت الغنائم إلى المدينة الكبرى، فرأوا من أمر الله، ما لا طاقة لهم به، وخذلهم الله جلّ جلاله، على منعة الأسوار وبعد مهاوي الأغوار، وكثرة العدّ والعدد، وطلبوا الأمان لأنفسهم، وكان خروجهم عنها يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور، السعيد على المسلمين، في العيد والسرور، برد الدين، ولله الحمد على آلائه، وتوالي نعمه وإرغام أعدائه.
وفي وسط ربيع الأول من عام أحد وسبعين وسبعمائة، أعمل الحركة إلى أحواز إشبيلية دار الملك، ومحل الشّوكة الحادّة، وبها نائب سلطان النصارى، في الجمع الخشن من أنجاد فرسانهم، وقد عظم التضييق ببلدة قرمونة، المنفرد بالانتزاء على ملك النصارى، والانحياز إلى خدمة المسلمين، فنازل المسلمون مدينة أشونة ، ودخلوا جفنها عنوة، واعتصم أهلها بالقصبة، فتعاصت، واستعجل الإقلاع منها لعدم الماء المروي والمحلّات، فكان الانتقال قدما إلى مدينة مرشانة وقد أحدقوا بها، وبها العدّة والعديد من الفرسان الصّناديد، ففتحها الله سبحانه، إلّا القصبة، واستولى المسلمون فيها، وفي جارتها، من الدواب والآلات على ما لا يأخذه الحصر، وقتل الكثير من مقاتلتها، وعمّ جميعها العدم والإحراق، ورفعت ظهور دواب المسلمين من طعامها ما تقلّه أظهر مراكب البحار، ما أوجب في بلاد المسلمين التّوسعة، وانحطاط الأسعار، وأوجب الغلاء في أرض الكفّار، وقفل، والحمد لله، في عزّ وظهور، وفرح وسرور.
مولده السعيد النّشيئة ، الميمون الطلوع والجيئة: المقترن بالعافية، منقولا من تهليل نشأته المباركة، وحرز طفولته السعيدة، في نحو ثلث ليلة الاثنين والعشرين من جمادى الآخرة عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. قلت: ووافقه من التاريخ الأعجمي رابع ينير من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وسبعين لتاريخ الصّفر. واقتضت صناعة التعديل بحسب قيمودا وبطليموس، أن يكون الطالع ببرج القمر؛ لاستيلائه على مواضع الاستقبال المتقدم للولادة، ويكون التخمين على ربع ساعة وعشر ساعة، وثلث عشر الساعة السادسة من ليلة الاثنين المذكورة، والطالع من برج السّنبلة، خمس عشرة درجة، وثمان وأربعون دقيقة من درجة. كان الله له في الدنيا والآخرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.