محمد بن محمد بن المبارك الحسني الجزائري الدمشقي
تاريخ الولادة | 1263 هـ |
تاريخ الوفاة | 1330 هـ |
العمر | 67 سنة |
مكان الولادة | بيروت - لبنان |
مكان الوفاة | دمشق - سوريا |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
محمد بن محمد بن المُبارك الحسني الجزائري الدمشقيّ:
فاضل، أصله من الجزائر. انتقلت عائلته إلى دمشق مع الأمير عبد القادر الجزائري. ولد في بيروت وتعلم بدمشق، وأقام وتوفي بها.
له (ست رسائل - ط) في الأدب، اسم الأولى (غناء الهزار) وله (المقامات العشر لطلبة العصر - خ) اختارها من المقامات الحريرية (استدركه عبيد) . وله شعر .
-الاعلام للزركلي-
الشيخ محمد بن الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي الدمشقي
كعبة الأفراد الآتي من الإبداع بما أراد، والناظم لمنثور الأدب والراقم في كتاب دلائله على فضائله ما يقضي له بأسمى الرتب. ولد سنة ثلاث وستين ومائتين وألف، وقرأ على السادة الأفاضل ذوي الفضائل والفواضل، إلى أن برع وفاق، واشتهر في الآفاق، وأتى من المنظوم والمنثور بما يدهش العقول ويشرح الصدور، ومن جملة ذلك مقامته التي توصل بها إلى مديح من كانت ذاته الشريفة مطلعاً للهمم ومشرعاً للكرم، حضرة مولانا الأمير السيد عبد القادر الحسني الجزائري التي سماها غناء الهزار في محاورة الليل والنهار، والسجعة الأولى من التسمية يؤخذ من حساب حروفها تاريخ إنشائها وترصيفها، وهي بحروفها لتدل على قدر مبدعها وموصوفها: حمداً لمن فتح أبياب الخير في جميع الأوقات، ويسر أنواع البر وقد أصناف الأقوات. وصلاة وسلاماً على من واظب على بث الحكمة ودأب، وعلى آله الذين تنافسوا فيما جاء من العلم والأدب، ما تعاقب الغدو والمساء، وضحكت الأرض من بكاء السماء.
وبعد فإني تفكرت ذات يوم في اختلاف الليل والنهار، وما أودع الله فيهما من لطائف الحكم والأسرار، مصغياً لما يترجمه لسان الحال، لأسند ذلك إليه دون انتحال، فرويت عنه من أنبائهما بدائع وغرائب، وقد قيل إن في الليل والنهار عجائب:
من لم يؤدبه والداه ... أدبه الليل والنهار
فصغت تلك المعاني، في مقامة رقيقة المباني، مشحونة بغرر من نتائج الأفكار، ودرر تزهو على البنات الأبكار، يزداد بها الأديب علماً وتبياناً، ويرتاد منها الأريب أدباً وعرفاناً. وأبرزتها في معرض المحاورة، لتجنح إليه أرباب المحاضرة، فهي فكاهة أحلى من عيش الصبا، ونفثة أرق من نفحة نسيم الصبا، وشحنتها بمدح أمير تتحلى بوصفه البراعة، وتنطلق في تقييد شمائله الشريفة أيدي اليراعة. فلله فوائد كفرائد اللؤلؤ في السلك، أو رحيق مختوم ختامه مسك، وذلك أنه أبدى الضياء والدجى ما هو للعين قرة، فكلما أسفر ذاك عن بياض الغرة، قابله هذا بسواد الطرة، ثم استنجد كل منهما صاحبه، بعد أن رشق خصمه بسهام صائبة. وإذا بالليل حمل على النهار، فجعل حمرة وردته كصفرة البهار. وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه، مرصعاً تيجان مفاخره بدرر شهبه، وقد كساه بدر الكمال برد الجمال، ولوائح الهيبة والجلال، تلوح عليه في ذلك المجال، فصدر النقول بأحاسن رواياته، وحير العقول بمحاسن كناياته. ثم قال: " والليل إذا يغشى " " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " ففتح باب المفاضلة في هذا الفصل، وعقد أسباب المناضلة بقوله الفصل، فإن الحرب أولها كلام، ثم تنجلي عن قتيل أو رهين كلام. فانتدب إليه النهار، ممتطياً صهوة الفخار، وقد ازورت مقلتاه، واحمرت وجنتاه، وصاح إذا أديرت كؤوس المنايا، أنا ابن جلا وطلاع الثنايا فأدهش الأفكار بعظيم وثباته، ورسوخ قدمه في الهيجاء وثباته، وتقدم في ذلك الميدان وجلى، مترنماً بقوله تعالى: " والنهار إذا تجلى " واستدل على كماله من الفرقان بسورة النور، والشمس ترسم آية جماله بالذهب على رقه المنشور، ولما استوى على عرش سنائه، واطلع أنوار طلعته في أرضه وسمائه، أعرب عن مكنون الحقائق، وأغرب في كشف الأسرار والدقائق، فابتدر إليه الليل، ومال عليه كل الميل، وجعل النجوم له رجوما، وما غادر من مغانيه إطلالاً ولا رسوما، ثم صعد على منبره ثانياً، وقد أمسى الفخر لعطفه ثانيا، وقال: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً " فأسدى إلي من عوارفه براً ونيلاً، أحمده على أن جعلني خلوة للأحباب، وجلوة لعرائس العرفان بين أولي الألباب، وخلقني مثوى لراحة العباد، ومأوى لخدمة المقربين والعباد، أتردد على أرباب المجاهدة بفنون الغرائب، وأتودد إلى أصحاب المشاهدة بعيون الرغائب، تدور عليه مبدور الإنس والسمر، وتحييهم بشذا نفحاتها نسمات السحر، فأحيان وصلي بالتهاني مقمرة، وأفنان فضلي بالأماني مثمرة:
وما الليل إلا للمجد مطية ... وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى
فوجم النهار لبراعة عبارته، وبلاغة معنى رمزه وإشارته، وتنفس الصعداء بنفح الصبا في الصباح، فأطفأ بأنفاسه العاطرة نور المصباح، ثم خرج للمبارزة من بابها، إذ كان من فرسانها وأربابها، فشمر للحرب العوان، غير ناكل ولا وان، ناشراً راية مجده البيضاء، وأسنته لامعة بين الخضراء والغبراء، وقال له أيها الليل، هلا قصرت من إعجابك الذيل، ولئن دارت رحى الحرب، واستعرت نار الطعن والضرب، فلأبرزن مخدراتك وهي عن الوجوه حاسرة، وأنت تتلو " تلك إذاً كرة خاسرة " وهل دأبك إلا الخداع والمكر، وترقب الفرصة وأنت داخل الوكر، إن كنت تجمع المحب بالحبيب، إذا جار عليه الهوى وحار الطبيب، فكن يقاسي منك في هاجرة الهجر، ويئن أنين الثكلى حتى مطلع الفجر.
ولله در القائل:
اقضّي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
وإن كنت مغنى الأنس والراحة، تفعل بعقول الناس فعل الراحة، فهل حسبت أن السكون خير من الحركة، وقد أجمع العالم أن الحركة بركة، وإن افتخرت ببدرك الباهر الباهي، فإنما تنافس بوزير شمس وتباهي، وهل له عند إشراق بهجتي من نور، أو لطلعته من خدور البطون ظهور، فأنشدك الله أينا أحق بالفخر، فقد حصحص الحق ووضح الفجر، أما لك في قوله تعالى بينة وتبصرة " فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " وهل يستوي الأعمى والبصير والظلمات والنور، أم هل يستوي الأحياء وأصحاب القبور، ولقد أبدع من قال:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ألم تعلم أينا أبهى محيا، وشتان ما بين الثرى والثريا، ولا ريب أن الحسن في الجميل، عنوان على أنه رب الإحسان والجميل، وقد قال من نؤمل بره ونرجوه اطلبوا الخير عند حسان الوجوه فأنا مفتاح خزائن الأرزاق، وبي يستفتح باب المنعم الرزاق، وهل يخفى حسني وجمالي على إنسان، أو يحتاج فضلي وكمالي إلى برهان، وعرضي عار عن الدنية والعار، ونور البدر من ضيائي مستعار، ولولاي ما تميز الحسن من القبح، ولا أحيا ميت الكرى نسيم الصبح، وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وإن ذكرت الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً معرضاً بكل غافل لاه، فلي في كل مجال، " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله "، وأين من احتجب بظلمات بعضها فوق بعض، ممن أضحى ينظر في ملكوت السموات والأرض، فإن أولي الألباب، رأوا الدنيا دار الأسباب، فلزموا الأدب مع الله باستعمالها وقلوبهم عاكفة على الباب، وقد أتحفني بالصلاة الوسطى فأوتر بها صلواتي، وشرع فيها الإسراء لأسرار اختصت بها أهل جلواتي، وكفاني شرفاً شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، فيا له من شهر أيامه للخيرات مواسم، وهي للجباه غرر وللثغور مباسم، فمآثري مشهورة في القديم والحديث، وبها نطق الكتاب العزيز والحديث، ومحاسني واضحة لأولي الأبصار، وهل تخفى الشمس في رابعة النهار؟ ثم انحدر من منبره، وقد أيد حديث خبره بآية مخبره، ولما جن الليل، اجلب عليه بالرجل والخيل، فسد ما بين الخافقين بسواده، وطفق يرمي بسهام جداله وجلاده، مقدماً بين يدي نجواه سورة القدر، آية على ما حازه من كمال الرفعة والقدر، ثم قال سحقاً لك أيها النهار، لقد أسست بنيانك على شفا جرف هار، تناضلني ومني كان انسلاخك وظهورك، وتفاضلني وبي أرخت أعوامك وشهورك، كيف أطعت هواك في عقوقي، وأضعت جميع مطالبي وحقوقي، ألم يأن لك أن تخشع للذكر، فتعترف لي برتبة التقديم في الذكر، وهل الأعمى سوى المحجوب عن المحبوب، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب، كيف تعيرني بلون السواد، وهل يقبح السواد إلا في الفؤاد، أم كيف تعيبني بالخداع والحرب خدعة، مع أنك تعلم أني في عز ومنعة، أما تشهد الأنام من هيبتي حيارى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى فأنا البطل الذي لا يصطلى لي بنار، ولا يؤخذ لقتيلي مدى الدهر بثار، فكم أرقت أسوداً كاسرة، وأرقت دماء ووجوه يومئذ باسرة، وكم أوريت نار الوغى تحت العجاج، وقد اكفهرت الوجوه واغبرت الفجاج، وليت شعري أنى لك بالحياة دون الورى، والحي من أحياه الله ولو كان تحت أطباق الثرى:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً ... كاسفاً باله قليل الرجاء
وافتخارك بالصلاة الوسطى، ليس إنصافاً منك ولا قسطاً، وهب أنك انفردت بتلك الصلاة، فأين أنت مما اشتملت عليه من وافر الصلات، أما علمت أن الركعة في تضاعف أجورها، ويعظم فضلها ويزهو نورها، وهل فرضت في زمنك منها فريضة، حتى تطاولت علي بدعواك الطويلة العريضة:
وما أعجبتني قط دعوى عريضة ... ولو قام في تصديقها ألف شاهد
وأما افتخارك بفضيلة شهر رمضان، وما نزل فيه من السبع المثاني والقرآن، فهل صح لك صيامه إلا بي بدأ وختاماً، وقد اختصصت بإحياء لياليه تهجداً وقياماً، على أني محل النية ونية المرء خير من عمله، لأنها بمثابة الروح له وبها يحظى الراجي ببلوغ أمله، فكيف تدعي التفرد بجمع فنون المجد والفضل. ولم تخف يوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل، هل في مطالع سعودك أشرقت بدور العيدين، أم على جناح جنحك أسرى بنور طلعة الكونين، وهل في أسحارك يقول الرب هل من سائل، ويجود على أهل مناجاته بأعظم الوسائل، أم فيك نزل الكتاب المنزه في فضله عن المشاركة، والحق تعالى يقول: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وحسبي من المفاخر أول ليلة من رجب التي تأكد مبتدأ فضلها بالخبر ووجب، وكيف لا وفيها قد حملت آمنة بمن به الأمة من العذاب آمنة، فهي فاتحة الليالي النيرة الزاهرة، وواسطة عقدها بحسن خاتمة النبوة الباهرة، فاكفف عن الجدال وأمسك، ولا تجعل يومك مثل أمسك، وسالم من ليس لك عليه قدرة، فإنه ما هلك امرؤ عرف قدره، وإني أستغفر الله عز وجل، وأسأله الأمن من كل وجل، فبرز إليه النهار بروز الأسد من غابة، وقد استل سيف سطوته من قرابه، وقال ما كل سوداء تمرة، ولا كل صهباء خمرة، فوالذي كساني حلل الحسن والجمال، وخلع علي خلع الفضل والكمال، لأمحون طرة الدجى بغرة الضياء، ولأثبتن ما خصصت به من السنا والسناء، ألست مظهر الهداية والدلالة، وهو مظهر الغواية والضلالة، فكم أظهرت منه عيباً كان غيباً، فابيضت عينه حزناً واشتعل الرأس شيباً، وما ارعوى عن ظلمة ظلمه، ولا رجع إلى الإنصاف في نثره ونظمه، ثم أقبل عليه، وأنشد مشيراً إليه:
يا مشبهاً في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه
خلقك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمه
كيف تزعم أيها العبد الآبق، أنك لي في حلبة الشرف سابق، وقد قال الواحد القهار: " ولا الليل سابق النهار " متى قام على منابر العلا بنو حام، أن جلس أحدهم في ديوان الفخر بين أبناء سام، إن أنت ورب البيت إلا كافر، وبشموس أنوار الشهادة غير ظافر، لو كنت من السعداء لفزت بدار النعيم، ولولا شقاؤك لما شابهت سواد طبقات الجحيم، فكيف جعلت في الفضل حالي دون حالك، وأي فخر لمن وجهه اسود حالك. لقد سمعت أقاويلك التي قدمتها بين يديك، وأتيت بها حجة لك وهي حجة عليك، ولا جرم أن لسان الجاهل مفتاح حتفه، وكم من باغ قتل بسيف بغيه وحيفه، أما انسلاخي منك فمن أبدع الطرف لي والطرر، وهل يحق للأصداف أن تفتخر على الدرر، وأما تقدمك علي فمن العادة، تقدم الخدم بين يدي السادة. أو ما ترى أن النبي محمداً فاق البرية وهو آخر مرسل. وأما حديث الإسراء ففي مجلسي روته الأمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة، فما لاحت أسراره إلا في مرآة مطالعي، ولا زاحت أستاره إلا بأنوار طوالعي، وما أشرت إليه من بقية لياليك، التي سطعت بها نجوم معانيك ومعاليك، فأين أنت من يوم عرفة، الذي أفرده بالمزايا من عرفه، وأين أنت من يوم عاشوراء، الموسوم بأزكى الفضائل دون مراء، وناهيك بسمو شأن العيدين، فما أعظمهما من موسمين سعيدين، وكيف تباهيني بظهور ليلة القدر منك مرة في كل عام، ولي في كل أسبوع يوم تمتد فيه موائد الجود والإنعام، وهو معلوم شهير، يعرفه الكبير والصغير، وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء، ويستجاد الثناء على رب العزة والسناء، هذا ولو تأملت ما لي من المناقب والمآثر، لما تجارأت على مجاراتي في معترك المفاخر، أفي معاهدك كانت الصحابة تتلقى القرآن، وتتملى بأنوار رسول الله في كل آن، أم في مشاهدك وردت وقائع الجهاد، وعبد الله تعالى على رؤوس الأشهاد، فأحاديث فضلي سارت بها الركبان، وماست بنسيم لطفها معاطف البان، وقدري فوق ما تصفه الألسن، وفي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاضرب صفحاً عن تمويهك وغشك، فإن هذا ليس بعشك، ودع عنك قول الزور والمين، فقد بان الصبح لذي عينين، فوثب إليه الليل، وهجم عليه هجوم السيل، وقد امتطى جواده الأدهم، وتعمم بعمامة سوداء وتلثم، فأنسى بفتكاته عنترة بني عبس، إذ أمسى يتوعد عمارة بالأسر والحبس، ثم ضرب خباء عزه الباذخ، وقدح زناد عزمه الراسخ، وقال: " فلا أقسم بالخنس، الجواري الكنس " لقد تزيا المملوك بزي الملوك، وادعى مقام الوصول صاحب السير والسلوك، طالما منحته جميل ستري، وهو لا يبالي بهتك أستاري، وأودعت سره في خزانة سري، وهو يبوح بمصون أسراري، أف له من فاضح، أما يكفيه ما فيه من الفضائح:
انمّ بما استودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
وعلام جعل السواد على النقص علامة وهو مشتق من السؤدد لدى كل علامة، أما درى أني حزت من الكمال الحظ الأوفر حتى تحلى بوصف العنبر والمسك الأذفر، وهل يزري بالخال سواده البارع، أو يغري بالبرص بياضه الناصع، وفي لون المشيب عبرة وأي عبرة، فكم أجرت من الآماق أعظم عبرة، فما كل بيضاء شحمة، ولا كل حمراء لحمة، على أن السواد حلية أهل الزهد والصلاح، وهل يسترق الأسود أحداق الملاح، بيد أن الحر لا يبالي بالجمال الظاهر، وإنما يباهى بالفعل الجميل والقلب الطاهر، ثم أنشد، وزفيره يتصعد:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
فأفاض النهار، في حديث يفضح الأزهار، وقال ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، كم تدعي يا هذا أعلا المقامات، وأنت كثيف الحجاب أسير المنامات، وهل يقرن أوقات الغفلة بأوقات الحضور، إلا من ليس له في الحقيقة أدنى شعور، إنك لفي واد وأنا في واد، ولكم بين لئيم وجواد، تجمع بين المعشوق والعاشق، وتسترهما بردائك عن الرقيب والطارق، ولقد قال مترجماً عن ذلك من سلكت به هاتيك المسالك:
بتنا على حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح
وهل يترنم بذكرك إلا غافل، وأنى يغتر بك عاقل ونجمك آفل، وقد قدمت أني لك فاضح، وماذا علي في ذلك والحق أبلج واضح، فإني نظرت إليك بنور علام الغيوب، فظهر لي ما بطن في سرك من العيوب، فجعلت مطوي معايبك كتاباً منشوراً، ومنظوم كواكبك هباءً منثوراً، فأنا الناقد البصير، والله الولي لي والنصير، وتعرضي لمحو دعاويك، وإثبات جرائمك ومساويك، من الواجب علي يا حليف الكرى، لخبر من رأى منكم منكراً فإلى متى تتبجح بما لا طائل تحته ولا معنى، اسمع جعجعة ولا أرى طحناً، وحتى متى تعنف من لامك عن اتباع هواك، وأنت تدعي رتبة الكمال فهلا نهاك نُهاك، فتنبه من غفلتك أيها الليل، قبل أن تدعو بالثبور والويل، وإلا فرقت طلائع سوادك في كل طريق، ومزقت سوابغ دروعك أي تمزيق! فاسود وجه الليل، وانقلب بحشف وسوء كيل، وندم على مناقشة النهار، ندامة الفرزدق على النوّار، ولما سقط في يده، ورزئ في عَدَده وعُدده، قال من ينصفني من هذا الجاني، فإنه اضطرني إلى الجهر بالسوء والجأني، حتى يرمقني بلحظه ازوراراً، ويرشقني بسهامه عتواً واستكباراً، وعلام يخفى دلائل فضلي وهي ذات وضوح واشتهار، ولقد صدق من قال كلام الليل يمحوه النهار، وما نم بسره وباح، حتى عطس أنف الصباح، فأسفر عن محاسن غرته، وقد برقت أسارير مسرته، وطلع بين يديه حاجب الشمس، فاستنقذ من الليل ما استأسره من الحواس الخمس، وقال له كم ذا تدعي أنك غبين، وتتشكى مني وأنت المفتري المبين، وهب أني ظلمتك فأنت البادي، وهل قابلتك إلا بما واجهتني به في المبادي، وإن رمت التقاضي، لدى الحاكم أو القاضي، فهلم إلى حضرة الأمير، ولا ينبئك مثل خبير فإنه لا زالت عين العلا به قريرة، موسوم بحسن السيرة وطيب السريرة، فقال له على الخبير سقطت، وضالة الحكمة لقطت، وإني معترف بعدله في فصله، مغترف من بحر جوده وفضله، فهو الإمام العادل، والعالم العامل، فأمليا عليه سورة الواقعة والمجادلة، فحضهما على حسن المعاملة ودوام المجاملة، وقال لهما جانحاً إلى الصلح في جواب سؤاله: بعد حمد الله والصلاة على محمد وآله، إنكما كفتا ميزان أصحاب الرقائق، ودفتا كتاب أرباب الحقائق، بكما يتحلى المرء بحلا سعادته، ويتخلى من فضول طبيعته وعادته، فأنتما في الشرف رضيعا لبان، وفي مضمار المجد والفخر فرسا رهان. هذا وإن كنتما ابني ضرتين ظلمة ونور، فأبيكما هو الزمان الذي عليه أفلاك الوجود تدور، وعليكما باطراح رداء الافتخار، فإن العبد لا يسود إلا بالافتقار، بارك الله فيكما وبلغكما المرام، ومنحكما كمال التوفيق وحسن الختام. ولما أصلح ما بين الليل والنهار، وبوأهما مهاد الألفة بعد الوحشة والنفار، وردا من رشده موارد الائتلاف، وطرحا أعباء التعصب والاختلاف، فقلت مادحاً لحضرته الشريفة، مستمداً من علومه وأسراره المنيفة:
قد أسفرت بين العذيب وحاجر ... خود سبت أهل الهوى بمحاجر
هيفاء طرتها غدت تحكي دجى ... ليل وغرتها كصبح زاهر
يفتر جوهر ثغرها عن لؤلؤ ... أجريت منه عقيق دمع هامر
لله خال عم روضة خدها ... لطفاً على ورد جني عاطر
لما بدت تختال تيهاً خلتها ... بدراً على غصن رطيب ناضر
أسرت فؤادي في الغرام وأطلقت ... دمعي ومالي في الهوى من ناصر
ضنت بحسن وصالها يا ليتها ... منت علي ولو بطيف زائر
أنى يشاهد طرف صب ما درى ... طعم الكرى طيف الغزال النافر
يا عاذلي كن عاذري في حبها ... فالوجد أفنى مهجتي وسرائري
قد طاب فرط تهتكي في الحي بع ... د تنسكي والذل لذ لخاطري
هيهات يصحو من سلافة عشقها ... يا صاح صاح أسكرت بنواظر
أربت على كل الملاح لطافة ... وتفردت ببديع حسن باهر
كالشمس إن سفرت وغصن البان إن ... خطرت وإن نظرت فأخت جآذر
يصفو بطيب وصالها وقتي كما ... يحلو المديح بذكر عبد القادر
مولى حكت أخلاقه في لطفها ... مسرى النسائم في رياض أزاهر
بزغت به شمس المعارف بعد ما ... أفلت فأرشد كل لاه حائر
أكرم به براً غدا بحراً طما ... في كل علم باطن أو ظاهر
إن عدت العلماء فهو إمامهم ... ويرى لدى الأمراء أعظم آمر
إن الكمال بأسره في أسره ... والفضل طوع يديه دون تناكر
إن رمته في حل مشكلة جلا ... سر الحقيقة في أرق مظاهر
وإذا سألت عن السماحة كفه ... أنباك عن قطر وبحر زاخر
ولو اطلعت عليه في يوم الوغى ... لرأيت ليثاً أي ليث كاسر
قد حاز أنواع المعالي جملة ... بوراثة من كابر عن كابر
وعليه أسرار الكتاب تنزلت ... فغدا يحررها بأيدي شاكر
فانظر مواقفه وحسبك أنها ... تروي حديث صحيحه المتواتر
الله أكبر كم بها من آية ... شهدت له بفضائل ومآثر
يا مفرداً في جمع أشتات العلى ... قد فقت كل مفاضل ومفاخر
لله درك سيداً أوصافه ... عزت وجلت عن وجود نظائر
ته يا زمان به وطاول إن تشأ ... نجم السها بمناقب ومفاخر
فهو ابن طه خير من وطئ الثرى ... فبخ بخ شرف وطيب عناصر
سعدت بسيرة فضله أوقاته ... فتقلدت منه عقود جواهر
أيامه جمع كما أمست ليا ... ليه ليالي القدر ذات بشائر
من أمه في حاجة يحظى بوق ... ت إجابة ومديد فضل وافر
لا زال بدراً في سماء المجد محف ... وفاً بغر كالنجوم زواهر
ما قال ممتدحاً مؤرخ شكره ... هام الوجود بسر عبد القادر
وجملة ذلك خمس وتسعون ومائتان وألف.
ومن قوله مهنئاً أخاه الشيخ محمد الطيب بولده جعفر مؤرخاً ولادته:
نجم بدا في طالع الإسعاد من ... أفق الهنا يزهو بأبهى منظر
أم ذا هلال هل أول ليلة ... باليمن من ثاني ربيع الأنور
أم ذا غلام لاح يا بشراي في ... مهد الهنا يرنو بطرف أحور
رشق الحشا بسهام قوس حواجب ... وسطا وصال من القوام بأسمر
وأماط عن وجه البهاء لثامه ... فسبا النهى يا حسنه من جؤذر
وافتر ثغر جماله متبسما ... فروت ثناياه صحاح الجوهر
أفديه من نجل كريم قد زكا ... فرعاً وطاب لطيب ذاك العنصر
فاهنأ به يا ابن المبارك وارتشف ... راح التهاني من لماه الكوثري
وانشق شذاه فإنه ريحانة ... تزري بنشر فتيت مسك أذفر
لا غرو في طيب بدا من طيب ... وهو ابن فاطمة وبضعة حيدر
قد لاح بين الشمس والقمر المن ... ير سناه منجلياً بأبهى مظهر
لا زال قرة أعين لهما ومن ... ية أنفس ما فاح ريا العنبر
وشدا لسان الحال فيه مؤرخا ... نيل المنى في رشف وجنة جعفر
ومن قوله مشطراً أبيات الشاب الظريف، ابن العفيف التلمساني:
للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... ولو أحلهم المحبوب نار غضا
إن العذاب لعذب فيه عندهم ... فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... ميثاق ود عليهم كان مفترضا
ما ضرهم لورثوا لي في الهوى ورعوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... بأسهم ليس يخطي رشقها غرضا
قد كان يرجو بأن يحظى بقربهم ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا ... فبات يشكو زماناً بالبعاد قضى
سقاه كأس النوى رغماً وجرعه ... فسام صبراً فأعيا نيله فقضى
وقد كنت شطرت هذه الأبيات قبله وهي مع التشطير:
للعاشقين بأحكام الغرام رضى ... بما ارتضى لو عليهم بالحمام قضى
والذل في الحب عز عندهم حسن ... فلا تكن يا فتى للعزل معترضا
روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا ... زمام صب لذيذ العيش قد رفضا
ماذا عليهم ترى لو أنهم حفظوا ... عهد الوفي الذي للعهد ما نقضا
قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا ... من غير ذنب سوى حب له وفضا
من بعد ما جرعوا كأس الهوى فطموا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا
رأى فحب فسام الوصل فامتنعوا ... فاستعوض الدمع عند المنع والحرضا
وحاول النفس سلواناً لهم فأبت ... فرام صبراً فأعيا نيله فقضى
وكنت قد نظمت وخمسهما وهما مع التخميس
يا صاح فزت بنجدة ... والأنس جاد بعودة
فأدر كؤوس مودة ... وافى الحبيب بوردة
وغدا يميس بقده
نمت لآلي ومضها ... عن حسن مورد حوضها
وروت شذا في عرضها ... فسألته عن روضها
فأشار لي من بعده
وقد خمسهما الأديب الشيخ محمد بهاء الدين بن أخي عبد الغني أفندي.
حيا بزاهر طلعة ... والخال فاح بندة
لما هممت بشمة ... وافى الحبيب بوردة
وغدا يميس بقده
صوب الحيا من فيضها ... يهمي بعنبر أرضها
لمع السنا من ومضها ... فسألته عن روضها
فأشار لي من خده
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.