يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان الدويني التكريتي
صلاح الدين الأيوبي الملك الناصر
تاريخ الولادة | 532 هـ |
تاريخ الوفاة | 589 هـ |
العمر | 57 سنة |
مكان الولادة | تكريت - العراق |
مكان الوفاة | دمشق - سوريا |
أماكن الإقامة |
|
- أبي النجم بن غالب بن فهد بن منصور النصراني
- أسعد بن إلياس بن جرجيس موفق الدين "ابن المطران"
- عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شاذي الأيوبي تقي الدين "الملك المظفر"
- عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن أبي القتح عماد الدين "الملك العزيز"
- يحيى بن علم الملك الصنهاجي "ابن النحاس"
- سليمان بن جندر علم الدين
- أحمد بن عبد العزيز بن محمد ابن العجمي أبي يوسف كمال الدين
- أحمد بن عبد الرحمن بن المبارك السلمي الدمشقي أبي الفضل بدر الدين "نشء الدولة"
- علي بن يوسف صلاح الدين بن أيوب بن شاذي الأيوبي نور الدين "الملك الأفضل"
- تورانشاه بن يوسف صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أبي المفاخر "الملك المعظم تورانشاه"
- الخضر بن يوسف صلاح الدين بن أيوب بن شاذي بن مروان أبي الدوام "الملك الظافر"
- إسحاق بن يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان أبي يعقوب "الملك المعز"
- يعقوب بن يوسف صلاح الدين بن أيوب شرف الدين "الملك الأعز"
- غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب غياث الدين أبي منصور "الملك الظاهر"
نبذة
الترجمة
يُوسُف بن أَيُّوب بن شاذي بن مَرْوَان الدويني الأَصْل التكريتي المولد
ودوين بِضَم الدَّال وَكسر الْوَاو بعْدهَا آخر الْحُرُوف سَاكِنة ثمَّ نون
بِطرف أذربيجان من جِهَة أران أَهلهَا أكراد
وَهُوَ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر التقى النقي الْعَالم الذكي الْعَادِل الزكي فاتح الْفتُوح بركَة أهل زَمَانه صَلَاح الدّين المظفر ابْن الْأَمِير الْملك الْأَفْضَل نجم الدّين
ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بتكريت إِذْ أَبوهُ واليها
وَسمع الحَدِيث من الْحَافِظ أبي طَاهِر السلَفِي وَأبي طَاهِر بن عَوْف وَالشَّيْخ قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَعبد الله بن بري النَّحْوِيّ وَجَمَاعَة
روى عَنهُ يُونُس بن مُحَمَّد الفارقي والعماد الْكَاتِب وَغَيرهمَا
وَكَانَ فَقِيها يُقَال إِنَّه كَانَ يحفظ الْقُرْآن والتنبيه فِي الْفِقْه والحماسة فِي الشّعْر
وَملك الْبِلَاد ودانت لَهُ الْعباد وأحبه الْخلق وَنصر الْإِسْلَام وغزا الفرنج وكسرهم مَرَّات وَفتح المدن الْكِبَار وَأقَام فِي السلطنة أَرْبعا وَعشْرين سنة يُجَاهد فِي سَبِيل الله بِنَفسِهِ وَمَاله
وَكَانَ ملكا عَظِيما شجاعا مهيبا عادلا يمْلَأ الْعُيُون روعة والقلوب محبَّة قَرِيبا بَعيدا عابدا قَانِتًا لله لَا تَأْخُذهُ لومة لائم مَجْلِسه يجمع الْفُضَلَاء والفقراء وَأَصْحَابه كَأَنَّمَا هم على قلب رجل وَاحِد محبَّة فِيهِ واعتقادا وطواعية
وَلَقَد صنف فِي سيرته القَاضِي ابْن شَدَّاد كتابا مُسْتقِلّا وصنف ابْن وَاصل كتابا فِي سيرته وسيرة أهل بَيته وصنف أَبُو شامة فِي سيرته وسيرة الْملك نور الدّين وصنف الْعِمَاد الْكَاتِب فِي فتوحاته وصنف آخَرُونَ فِي شَأْنه وَمَا عَسى الَّذِي نورده بعد مَا أَطَالَ هَؤُلَاءِ ثمَّ اعْتَرَفُوا بالقصور وَالتَّقْصِير فِي حق هَذَا السَّيِّد الْكَبِير ولنأت بِمَا فِيهِ مقنع وبلاغ
ذكر ابْتِدَاء أمره قبل ملكه: قدم بِهِ أَبوهُ إِلَى دمشق وَهُوَ رَضِيع فناب أَبُو ببعلبك لما أَخذهَا أتابك زنكي فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَقيل إِن أَبَاهُ خرج من تكريت فِي اللَّيْلَة الَّتِي ولد فِيهَا صَلَاح الدّين فتطيروا بِهِ وَقَالَ بَعضهم لَعَلَّ فِيهِ الْخيرَة وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ فَكَانَ كَذَلِك ثمَّ اتَّصل وَالِده نجم الدّين أَيُّوب بِالْملكِ نور الدّين الشَّهِيد فخدمه هُوَ وَولده صَلَاح الدّين هَذَا خدمَة بَالِغَة وَكَانَ أَسد الدّين شيركوه أَخُو نجم الدّين عِنْد نور الدّين قبلهمَا وَكَانَ أرفع عِنْده مِنْهُمَا منزلَة فَإِنَّهُ كَانَ مقدم جيوشه فَلَمَّا تخلخل حَال المصريين الفاطميين وضعفوا عَن مقاواة الفرنج وكادت الفرنج تملك الْقَاهِرَة وملكوا بلبيس وصيروا لَهُم بِالْقَاهِرَةِ شحنة يحكم وَضعف أَمر الْإِسْلَام بديار مصر جدا وَكَانَ الفاطميون قد بلغُوا فِي سوء السِّيرَة إِلَى الْحَد الْمَعْرُوف وَأفْتى عُلَمَاء الْإِسْلَام بِإِبَاحَة دِمَائِهِمْ وَوُجُوب قِتَالهمْ لما هم عَلَيْهِ من الزندقة والإلحاد وَوصل شاور وَزِير العاضد خَليفَة مصر إِلَى دمشق إِلَى نور الدّين يستنجده ثمَّ عَاد إِلَى مصر فَجهز نور الدّين إِلَيْهِم عسكرا أَمر عَلَيْهِم أَسد الدّين شيركوه وجهز مَعَه أَخَاهُ نجم الدّين وَابْن أَخِيه صَلَاح الدّين فدخلو مصر آمِنين وَقتلُوا شاور وَولى شيركوه وزارة الْخَلِيفَة العاضد إِلَى أَن مَاتَ بعد نَيف وَسبعين يَوْمًا فولى بعده صَلَاح الدّين الوزارة وَهِي فِي ذَلِك الْوَقْت كالسلطنة فاستقل بسلطنة مصر ولقب بِالْملكِ النَّاصِر لقبه بذلك الْخَلِيفَة العاضد فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَصَارَ للعاضد مَعَه الِاسْم فَقَط وَصَارَ صَلَاح الدّين هُوَ السُّلْطَان فاستمر إِلَى أول سنة سبع وَسِتِّينَ فَقطع صَلَاح الدّين الْخطْبَة للعاضد وخطب للمستضيء خَليفَة بَغْدَاد واستقل بِالْملكِ وَمَات العاضد وَقبض صَلَاح الدّين على الفاطميين بأسرهم وَاسْتولى على الْقصر وخزائنه وَهِي أَمْوَال لَا تحصى وَلَا تعرف لملك قبل الفاطميين
وَكَانَ صَلَاح الدّين من حِين اتَّصل بِخِدْمَة نور الدّين قد طلق اللَّذَّات وَكَانَ محببا إِلَيْهِ خَفِيفا على قلبه وَلما افْتتح مَعَ عَمه مصر ثمَّ اسْتَقل بالوزارة عظمت سطوته واتفقت لَهُ وقْعَة مَعَ السودَان سنة بضع وَسِتِّينَ وَكَانُوا نَحْو مئتي ألف فنصر عَلَيْهِم وَقتل أَكْثَرهم وهرب الْبَاقُونَ وابنتي سور مصر والقاهرة على يَد قراقوش واستفحل أمره جدا إِلَى أَن أباد بَيت الفاطميين وأهان الرَّفْض وَغَيرهم من بدع المبتدعين
ذكر يسير من أخباره بعد استقلاله بالسلطنة وَمَوْت العاضد
وَقد كَانَ لما قبض على الفاطميين أَخذ فِي نصْرَة السّنة وإشاعة الْحق وإهانة المبتدعة وَالْقَبْض على الفاطمية والانتقام من الروافض وَكَانُوا بِمصْر كثيرين ثمَّ تجردت همته إِلَى الفرنج وغزوهم وَكَانَ من أمره مَعَهم مَا ضَاقَتْ بِهِ التواريخ وَكَانَ من أول فتوحاته برقة ونفوسة افتتحها على يَد أَخِيه شمس الدولة فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ ثمَّ فِي سنة تسع افْتتح الْيمن وَقبض على المتغلب عَلَيْهَا عبد النَّبِي بن مهْدي ثمَّ فِي سنة سبعين سَار من مصر إِلَى دمشق بعد وَفَاة نور الدّين مظْهرا أَنه يُقيم نَفسه أتابكا لولد نور الدّين لكَونه صَبيا فَدَخلَهَا يلاطفه وَنزل بِالْبَلَدِ بدار أَبِيه الْمَعْرُوفَة بدار العقيقي الَّتِي هِيَ الْيَوْم الْمدرسَة الظَّاهِرِيَّة ثمَّ تسلم القلعة وَصعد إِلَيْهَا وَأخرج الصَّبِي من الْملك وَصَارَ هُوَ سُلْطَان مصر وَالشَّام واليمن والحجاز ثمَّ سَار قَاصِدا حماة وحمص وَلم يشْتَغل بِأخذ قلعتها ثمَّ نَازل حلب وَهِي الْوَقْعَة الأولى وفيهَا سير السُّلْطَان غَازِي بن مودود أَخَاهُ عز الدّين مسعودا فِي جَيش كَبِير لحربه وَكَانَ بهَا ولد نور الدّين فترحل عَن حلب وَنزل على قلعة حمص فَأَخذهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يظْهر حسن الْمَقَاصِد وَأَنه قَاصد إعزاز الدّين وإنقاد الْبِلَاد من الفرنج وتسهيل أُمُور الْمُسلمين
وَجَاء عز الدّين مَسْعُود فَأخذ مَعَه عَسْكَر حلب وَصَارَ إِلَى قُرُون حماة وَأخذ صَلَاح الدّين يراسلهم دواما للصلح كَيْلا يَقع سيف بَين الْمُسلمين وهم يراسلونه وَهُوَ يظنون أَنه يطْلب الصُّلْح لضَعْفه عَنْهُم وهم لَا يعْرفُونَ مَا عَلَيْهِ الرجل من حسن النِّيَّة وحقق عِنْدهم مَا ظنوه كَثْرَة عساكرهم وَقلة من كَانَ مَعَ صَلَاح الدّين من الْعَسْكَر فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَمَّا أَبَوا إِلَّا المشاجرة معتقدين أَن المصاف مَعَهم يحصل غرضهم وأعجبتهم كثرتهم لاقاهم صَلَاح الدّين فَكَانَت الْهَزِيمَة عَلَيْهِم وَأسر صَلَاح الدّين مِنْهُم خلقا ثمَّ سَاق وَرَاءَهُمْ وَنزل على حلب ثَانِيًا فَصَالَحُوهُ وَأَعْطوهُ المعرة وَكفر طَابَ وبارين
وَجَاء صَاحب الْموصل غَازِي فحاصر أَخَاهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار لكَونه انْتَمَى إِلَى صَلَاح الدّين ثمَّ صَالحه لما بلغ غَازِي كسر أَخِيه مَسْعُود وَنزل بنصيبين وَجمع العساكر وَأنْفق الْأَمْوَال وَعبر الْفُرَات وَقدم حلب فَخرج إِلَى تلقيه ابْن عَمه الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين وَأقَام على حلب مُدَّة
ثمَّ كَانَت وقْعَة تل السُّلْطَان وَهِي منزلَة بَين حلب وحماة جرت بَين صَلَاح الدّين وَصَاحب الْموصل فِي سنة إِحْدَى وَسبعين فنصر صَلَاح الدّين وَرجع غَازِي وعدي الْفُرَات بَعْدَمَا استأصل صَلَاح الدّين كثيرا من خيامه وأمواله وفرقها فِي جماعته ثمَّ سَار
(وَإِن نثر ... خلت الحبر)
(نهى أَمر ... صم الْبشر)
(كف الْغَيْر ... فكم أسر)
(علجا كفر ... فَلَا مقرّ)
(إِلَّا سقر ... ذَات الشرر)
(ملك بهر ... إِذا اعتكر)
(ليل الْغرَر ... أَو انهمر)
(دم همر ... سَاءَ وسر)
(نفعا وضر ... خيرا وَشر)
(كم اعْتبر ... مِنْهُ النّظر)
(فضل السّير ... إِذا ظهر)
(قَالَ الْبشر ... كم لعمر)
(يَوْم ... أغر)
وَقد قيل أول من أبدع هَذَا الْمَعْنى فنظم قصيدة على حرف وَاحِد أَبُو النَّجْم حَيْثُ يَقُول صَلَاح الدّين فتسلم منبح وحاصر قلعة أعزاز ثمَّ نَازل حلب ثَالِثا وَأقَام عَلَيْهَا مُدَّة فأخرجوا ابْنة صَغِيرَة لنُور الدّين إِلَى صَلَاح الدّين فَسَأَلته أعزاز فَوَهَبَهَا لَهَا ثمَّ عَاد إِلَى الديار المصرية واستناب بِدِمَشْق أَخَاهُ شمس الدولة تورانشاه وَكَانَ قد عَاد من الْيمن وَكَانَت هَذِه السفرة مِنْهُ إِلَى الشَّام مِمَّا نقم عَلَيْهِ ظَاهرا للإساءة فِيهَا إِلَى ولد نور الدّين وَهُوَ ابْن مخدومه الَّذِي انشأه وَأحسن إِلَيْهِ وقيامه على بَيت الْملك والعز قبله وهما صَاحب الْموصل وَأَخُوهُ غير أَن الْحَال بِالآخِرَة تبين أَن الله تَعَالَى قد أَرَادَ إعزاز دينه على يَد هَذَا الرجل وَأَنه لَا يتم للْمُسلمين أَمر بِدُونِ سُلْطَان قاهر قَادر على استئصال شأفة الفرنج فِي ذَلِك الْوَقْت يجْتَمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ وَلَا تتفرق عَنهُ كلمتهم وَيكون هُوَ فِي نَفسه جَدِيرًا بذلك وأبى الله أَن يكون فِي ذَلِك الْعَصْر إِلَّا صَلَاح الدّين
فَلَمَّا وصل إِلَى الْقَاهِرَة عَائِدًا من الشَّام بعد مَا فعل مَا رَأَيْت مجمله دون مفصله وَفِي تفاصيله شرح كَبِير أحلناك على كتبه خرج إِلَى الفرنج فِي سنة ثَلَاث والتقاهم على الرملة فانكسر الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ وَثَبت صَلَاح الدّين وتحيز بِمن مَعَه ثمَّ دخل إِلَى مصر وَلم شعث الْعَسْكَر ثمَّ عَاد إِلَى الشَّام وَملك حلب وَغَيرهَا من الْبِلَاد وعظمت الشَّوْكَة ثمَّ توجه لمحاصرة الفرنج بالكرك وَجَاء أَخُوهُ الْعَادِل من مصر وَكَانَ قد استنابه عَلَيْهَا فسير صَلَاح الدّين تَقِيّ الدّين عمر ابْن أَخِيه ليحفظ مصر وَأعْطى أَخَاهُ الْعَادِل حلب بعد أَن كَانَ بهَا وَلَده الظَّاهِر بن صَلَاح الدّين وَقدم الظَّاهِر من حلب ثمَّ أعَاد الْعَادِل إِلَى مصر وَالظَّاهِر إِلَى حلب ثمَّ نزل على الْموصل وترددت الرُّسُل بَينه وَبَين صَاحبهَا عز الدّين ثمَّ مرض صَلَاح الدّين فَرجع إِلَى حران وَاشْتَدَّ مَرضه بِحَيْثُ أيسوا مِنْهُ وحلفوا لأولاده بإمرة وَالله يُرِيد حَيَاته ليتم إعزاز دينه فَعُوفِيَ وَمر بحمص وَقد مَاتَ بهَا ابْن عَمه مُحَمَّد بن شيركوه فأقطعها لوَلَده شيركوه ثمَّ استعرض التَّرِكَة فَأخذ أَكْثَرهَا وَكَانَ عمر شيركوه اثْنَتَيْ عشرَة سنة ثمَّ إِن شيركوه هَذَا الشَّاب حضر بعد سنة عِنْد صَلَاح الدّين فَقَالَ لَهُ أَيْن بلغت فِي الْقُرْآن فَقَالَ إِلَى قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} فَعجب الْحَاضِرُونَ من ذكائه وَقيل إِن صَلَاح الدّين إِنَّمَا أَخذ الْأَمْوَال ليحفظها لهَذَا الشَّاب
وَفِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ افْتتح صَلَاح الدّين بِلَاد الفرنج وَأسر مُلُوكهمْ وكسرهم على حطين وتوالت عَلَيْهِ الفتوحات وأنقذ الْبَيْت الْمُقَدّس مِنْهُم وافتتحه وأعز الدّين
وَمِمَّا اقتلعه من يَد الفرنج طبرية وَقتل وَأسر فِي ذَلِك الْيَوْم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألفا وتسلم قلعتها وأحضر إِلَيْهِ صَلِيب الصلبوب وَضرب بَين يَدَيْهِ فِي مخيمه أَعْنَاق مِائَتي فَارس من عُظَمَاء الفرنج
ثمَّ افْتتح مَدِينَة عكا وَكَانَت من أعظم حصونهم وَأكْثر مدنهم وَأقَام بهَا الْخطْبَة الإسلامية ثمَّ افْتتح الْبَيْت الْمُقَدّس وَغَيره وأخلى مَا بَين الشَّام ومصر من الفرنج وَهَذَا عداد مَا يحضرنا من فتوحاته من أَيدي الفرنج قلعة أَيْلَة
طبرية عكا الْقُدس الْخَلِيل الكرك الشوبك نابلس عسقلان بيروت صيدا غَزَّة لدحيفا صفورية الفولة معليا لطّور إسكندرونة قلنسوة يافا
أرسوف قيسارية جبلة يَبْنِي صرفند عفربلاد اللجون نجدقاقون مجدل يابا تل الصافية بَيت نوبا النطرون الجيب البيرة بَيت لحم ديخاوزاوا
حصن الدَّيْر دمرا قلقيلية هريث الزيب الوعيرة الهرمز بعلب العازرية نقوع الكرمل مجدل الطار الْمعبر فِي جبل عاملة والشقيف سبسطية
وَيُقَال بهَا قبر زَكَرِيَّا وجبيل وكوكب وأنطرطوس واللاذقية وبكسرائيل وصهيون وحبلة وقلعة الْعِيد وقلعة الجماهرية وبلاطنس والشغر
وبكاس وسرمانية وبرزية ودربساك وبغراس وَكَانَا كالجناحين لأنطاكية ومدينة صفد
وكل هَذِه مَدَائِن منيعة وأكثرها الْيَوْم قرى كبار وَمِنْهَا مَدَائِن كَثِيرَة بَاقِيَة إِلَى الْآن
ونازل صور مُدَّة وَلم يقدر لَهُ فتحهَا وَله مصافات يطول شرحها وافتتح كثيرا من بِلَاد النّوبَة من يَد النَّصَارَى
وَمن تَأمل الرسائل الْفَاضِلِيَّةِ رأى الْعجب من تأثيرات هَذِه الرجل فِي الْإِسْلَام وَمن شدَّة بأسه وشجاعته
وَكَانَت مَمْلَكَته من الغرب إِلَى تخوم الْعرَاق وَمَعَهَا الْيمن والحجاز فَملك ديار مصر بأسرها مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَيْهَا من بِلَاد الْمغرب وَالشَّام بأسرها مَعَ حلب وَمَا والاها وَأكْثر ديار ربيعَة وَبكر والحجاز بأسره واليمن بأسره وَنشر الْعدْل فِي الرّعية وَحكم بِالْقِسْطِ بَين الْبَريَّة مَعَ الدّين المتين والورع والزهد وَالْعلم كَانَ يحفظ الْقُرْآن والتنبيه والحماسة
قَالَ الْمُوفق عبد اللَّطِيف رَأَيْت السُّلْطَان صَلَاح الدّين على الْقُدس فَرَأَيْت ملكا عَظِيما يمْلَأ الْقُلُوب روعة والعيون محبَّة قَرِيبا وبعيدا سهلا محببا وَأَصْحَابه يتشبهون بِهِ يتسابقون إِلَى الْمَعْرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل} وَأول لَيْلَة حَضرته وجدت مَجْلِسا حفلا بِأَهْل الْعلم يتذاكرون فِي أَصْنَاف الْعُلُوم وَهُوَ يحسن الِاسْتِمَاع والمشاركة وَيَأْخُذ فِي كَيْفيَّة بِنَاء الأسوار وحفر الْخَنَادِق ويتفقه فِي ذَلِك وَكَانَ مهتما فِي بِنَاء سور الْقُدس وحفر خندقه يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ وينقل الْحِجَارَة على عَاتِقه ويتأسى بِهِ جَمِيع الْأَغْنِيَاء والفقراء فيركب لذَلِك قبل طُلُوع الشَّمْس إِلَى وَقت الظّهْر وَيَأْتِي دَاره فيمد السماط ثمَّ يستريح ويركب الْعَصْر وَيرجع فِي ضوء المشاعل وَيصرف أَكثر اللَّيْل فِي تَدْبِير مَا يعمله نَهَارا وَكَانَ يحفظ الحماسة ويظن أَن كل فَقِيه يحفظها انْتهى مُخْتَصرا
وَقد وَثَبت عَلَيْهِ الإسماعيلية مرّة فجرحوه وَسلمهُ الله وَهُوَ الَّذِي ابتنى قلعة الْقَاهِرَة على جبل المقطم وَفتح من بِلَاد الْمُسلمين حران وسروج والرها والرقة والبيرة وسنجار ونصيبين وآمد وَملك حلب والبوازيج وشهرزور وحاصر الْموصل إِلَى أَن هادنه صَاحبهَا عز الدّين مَسْعُود وَدخل فِي طَاعَته وَكَانَت هَذِه عَادَته إِذا دخل أحد فِي طَاعَته لَا يُقَابله إِلَّا بِالْإِحْسَانِ
وَفتح أَيْضا من بِلَاد الشرق خلاط على يَد ابْن عَمه تَقِيّ الدّين فَهَذَا مَا افتتحه من بِلَاد الشرق
وَاسْتولى أَيْضا على طَائِفَة وَفتح عسكره مَدِينَة طرابلس الغرب وَكسر عَسْكَر تونس وخطب بهَا لبني الْعَبَّاس وافتتح بِلَاد الْيمن قيل وَلَو لم يَقع الْخلف بَين عسكره الَّذين جهزهم إِلَى الغرب لملك الغرب بأسره
وَلم يخْتَلف عَلَيْهِ مَعَ طول مدَّته أحد عسكره على كثرتهم
وَكَانَ النَّاس يأمنون ظلمه لعدله ويرجون رفده لكثرته
وَلم يكن لمبطل وَلَا لصَاحب هزل عِنْده نصيب
وَكَانَ إِذا قَالَ صدق وإِذا وعد وفى وَإِذا عَاهَدَ لم يخن وَإِذا نَازل بَلَدا وأشرف على أَخذه ثمَّ يطْلب أَهله الْأمان يؤمنهم وَكَانَ جَيْشه يتألمون لذَلِك لفَوَات حظهم وَلَا يسعهم إِلَّا وفاقه وامتثال أمره
وَكَانَ رَقِيق الْقلب جدا وَرُبمَا حلق على مَدِينَة وأحاط بهَا فَسمع بكاء الْحَرِيم فَتَركهَا وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك مَعَ الْمُسلمين
فَمن كتاب فاضلي فِي فتوح حمص لما أحدقت العساكر المنصورة بالسور العاصم إحداق السوار بالمعاصم وطارت السِّهَام إِلَى أوكارها من الضلوع وَبَرقَتْ الأسنة وَكَأَنَّهَا زبد بحار الدُّمُوع حصحص الْحق واتسع الْخرق وَعلم أَن مَا أَرَادَهُ الْخَالِق لَا يردهُ الْخلق فارتفع الضجيج وَعلا تَحت العجاج العجيج وأدركتنا رقة رفضت من أَيْدِينَا الرقَاق وخشية عنت لنا أَعِنَّة الْفُسَّاق فرفعنا على الأسوار أعلاما منشورة بالكف والإمساك مأمورة وَوضعت الْحَرْب أَوزَارهَا وحلت الأمنة أزرارها وشفعنا الْوُجُوه المستورة بالخفر من نسوانها فِي الْوُجُوه المكشوفة بالمعصية من فرسانها
وَرُبمَا حاصر قوما وَلم يمْنَع الْميرَة عَنْهُم وَجرى مَعَهم على كذبهمْ ليأخذهم بالسهولة ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ غدرهم وكذبهم وَهُوَ مَعَ ذَلِك يحلم عَنْهُم ويراعي مصلحَة الدّين كَمَا اتّفق لَهُ فِي حمص وَقد افْتتح الْمَدِينَة وعصت عَلَيْهِ القلعة وَلم يمْنَع الْميرَة عَن أَهلهَا ثمَّ لما تبين لَهُ حَالهم لم يُبَادر إِلَى الْهدم مَعَ مَا فِيهِ من سرعَة نصرته خشيَة على القلعة لكَونهَا من حصون الْمُسلمين وطاول بهم الْأَمر إِلَى أَن تيَسّر لَهُ فتحهَا
فَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان وَهُوَ محاصر قلعة حمص وَقد بلغه أَن أَهلهَا استنجدوا عَلَيْهِ بالفرنج وأمرنا فِي القلعة بِأَن لَا يضيق لَهَا خناق وَلَا يضعف لأَهْلهَا أرماق وَلَا يمْنَع البيع وَالشِّرَاء والانتقال وَيفتح لَهَا مَا لَا يفسح فِيهِ من يُرِيد تثقيل وَطْأَة الْحصار وَكَانَ من استدعائهم الفرنج مَا كَانَ وَهَان بِفضل الله تَعَالَى من أَمرهم ماهان
ثمَّ أَخذ يصف القلعة الْمشَار إِلَيْهَا بِكَوْنِهَا نجما فِي سَحَاب وعقابا فِي عِقَاب وَهَامة لَهَا الغمامة عِمَامَة وأنملة إِذا خضبها الْأَصِيل كَانَ الْهلَال مِنْهَا قلامة عاقدة حبوة صالحها الدَّهْر على أَن لَا يحلهَا بفزعه عاقدة عصمَة صافحها الزَّمن على أَن لَا يروعها بخلعة فاكتنفت بهَا عقارب لَا تطبع طبع حمص فِي العقارب وضربتها بِالْحِجَارَةِ فأظهرت الْعَدَاوَة الْمَعْلُومَة بَين الْأَقَارِب وَلم تكن غير ثالثه من الْجد إِلَّا وَقد أثرت فِيهَا جدريا بضربها وَلم نصل إِلَى السَّابِع إِلَّا وَالْبَحْر أَتَى ينذر بنقبها واتسع الْخرق على الراقع وَسقط سعدها عَن الطالع إِلَى مولد من هُوَ إِلَيْهَا طالع وَفتحت الأبراج فَكَانَت أبوابا وسيرت الْجبَال مِنْهَا فَكَانَت سرابا فهنالك بَدَت نقوب
(يرى قَائِم من دونهَا مَا وَرَاءَهَا ... )
وَمن الْكتب والمراسيم عَنهُ
كتب فِي النَّهْي عَن الْخَوْض فِي الْحَرْف وَالصَّوْت {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} الْآيَة خرج أمرنَا إِلَى كل قَائِم فِي صف أَو قَاعد فِي أَمَام وَخلف أَن لَا يتَكَلَّم فِي الْحَرْف بِصَوْت وَلَا فِي الصَّوْت بِحرف وَمن يتَكَلَّم بعْدهَا كَانَ الجدير بالتكليم {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم}
وَسَأَلَ النواب الْقَبْض على مخالفي هَذَا الْخطاب وَبسط الْعَذَاب وَلَا يسمع لمتفقه فِي ذَلِك تَحْرِير جَوَاب وَلَا يقبل عَن هَذَا الذَّنب متاب وَمن رَجَعَ إِلَى هَذَا الْإِيرَاد بعد الإعلان وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان
رَجَعَ أخسر من صَفْقَة أبي غشبان وليعلن بِقِرَاءَة هَذَا الْأَمر على المنابر ليعلم بِهِ الْحَاضِر البادي وَيَسْتَوِي فِيهِ البادي الْحَاضِر وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل
قلت لَا أَشك أَن هَذَا الْفَصْل من كَلَام القَاضِي الْفَاضِل
وَهَذِه وقائع شَتَّى
من ابْتِدَاء دُخُوله إِلَى مصر قبل أَن يتسلطن وإِلَى أَن اسْتَأْثر الله بِرُوحِهِ الطاهرة مختصرة مُقْتَصرا فِيهَا على عُيُون الْأَخْبَار
فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة كَانَ مسير أَسد الدّين شركوه عَم السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِلَى مصر الْمسير الثَّالِث
وَذَلِكَ أَن الفرنج قصدت الديار المصرية فِي جموع كَثِيرَة وَكَانَ الْملك نور الدّين من جِهَة الشمَال ونواحي الْعرَاق فطلعوا من عسقلان وَأتوا إِلَى بلبيس فحاصروها وملكوها واستباحوها ثمَّ نزلُوا على الْقَاهِرَة فحاصروها فَأحرق شاور مصر خوفًا من الفرنج وَبقيت النَّار فِيهَا أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا فَلَمَّا ضايقوا الْقَاهِرَة وَضعف الْمُسلمُونَ عَنْهُم بعث إِلَى ملكهم يطْلب الصُّلْح على ألف ألف دِينَار يعجل لَهُ بَعْضهَا فَأَجَابَهُ ملك الفرنج واسْمه مري إِلَى ذَلِك وَحلف لَهُ فَحمل إِلَيْهِ شاور مائَة ألف دِينَار وماطله بِالْبَاقِي وَكَاتب فِي ذَلِك الْملك الْعَادِل نور الدّين يستنجد بِهِ وسود كِتَابه وَجعل فِي طيه ذوائب النِّسَاء وواصل كتبه يستحثه وَكَانَ بحلب فساق أَسد الدّين من حمص إِلَى حلب فِي لَيْلَة
قَالَ القَاضِي بهاء الدّين ابْن شَدَّاد قَالَ لي السُّلْطَان صَلَاح الدّين كنت أكره النَّاس لِلْخُرُوجِ إِلَى مصر هَذِه الْمرة وَهَذَا معنى قَوْله {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم}
وَقَالَ ابْن الْأَثِير إِن صَلَاح الدّين قَالَ لما وَردت الْكتب من مصر إِلَى نور الدّين أحضرني وأعلمني الْحَال وَقَالَ تمْضِي إِلَى عمك أَسد الدّين بحمص مَعَ رَسُول إِلَيْهِ تحثونه على الْحُضُور فَفعلت فَلَمَّا سرنا عَن حلب ميلًا لقيناه قادما فَقَالَ لَهُ نور الدّين تجهز فَامْتنعَ للخوف من غدرهم أَولا وَعدم مَا يُنْفِقهُ فِي العساكر آخرا فَأعْطَاهُ نور الدّين الْأَمْوَال وَالرِّجَال وَقَالَ لَهُ إِن تَأَخَّرت عَن مصر سرت أَنا بنفسي فَإِنَّهَا إِن ملكهَا الفرنج لَا يبْقى مَعَهم بِالشَّام مقَام فَالْتَفت إِلَى عمي وَقَالَ تجهز يَا يُوسُف
فَكَأَنَّمَا ضرب قلبِي بسكين فَقلت وَالله لَو أَعْطَيْت ملك مصر مَا سرت إِلَيْهَا فَلَقَد قاسيت بالإسكندرية من المشاق مَالا أنساه
فَقَالَ عمي لنُور الدّين لَا بُد من مسيره معي وارسم لَهُ فَأمرنِي نور الدّين وَأَنا أستقيله
فانفض الْمجْلس
ثمَّ قَالَ نور الدّين لَا بُد من مسيرك مَعَ عمك فشكوت الضائقة فَأَعْطَانِي مَا تجهزت بِهِ وكأنما أساق إِلَى الْمَوْت
وَكَانَ نور الدّين رجلا مهيبا فسرت مَعَ عمي فَلَمَّا توفّي أَعْطَانِي الله من الْملك مَا لَا كنت أتوقعه انْتهى
فَجمع أَسد الدّين الجيوش وَسَار إِلَى دمشق وَعرض بهَا الْجَيْش وَتوجه إِلَى مصر فِي جَيش عَرَمْرَم فَقيل كَانُوا سبعين ألف فَارس وراجل فتقهقر الفرنج لمجيئه وَدخل الْقَاهِرَة فِي سَابِع ربيع الآخر وَجلسَ فِي الدست وخلع عَلَيْهِ العاضد خلع السلطنة وولاه وزارته وَقَامَ شاور بضيافته عسكره وَتردد إِلَى خدمته فَطلب مِنْهُ أَسد الدّين مَالا يُنْفِقهُ على جَيْشه فماطله فَبعث إِلَيْهِ الْفَقِيه ضِيَاء الدّين عِيسَى بن مُحَمَّد الهكاري يَقُول إِن الْجَيْش طلبُوا نَفَقَتهم وَقد مَا ظلتهم بهَا وَقد تَغَيَّرت قُلُوبهم فَإِذا أتيتني فَكُن على حذر مِنْهُم
فَلم يُؤثر هَذَا عِنْد شاور وَركب على عَادَته وأتى أَسد الدّين مسترسلا وَقيل إِنَّه تمارض فجَاء شاور يعودهُ فاعترضه صَلَاح الدّين وَجَمَاعَة من الْأُمَرَاء النورية فقبضوا عَلَيْهِ فَجَاءَهُمْ رَسُول العاضد يطْلب رَأس شاور فذبح وَحمل إِلَيْهِ فِي سَابِع عشر ربيع الآخر ثمَّ لم يلبث أَسد الدّين أَن حَضرته الْمنية بعد خَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا فقلد العاضد السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بن يُوسُف السلطنة ولقب الْملك النَّاصِر وَكتب بتقليده القَاضِي الْفَاضِل بعد مَا كَانَ وَقع خلف كَبِير عِنْد الْفَرَاغ من عزاء أَسد الدّين فِيمَن يكون سُلْطَانا ثمَّ اتّفقت كلمة الْأُمَرَاء النورية على صَلَاح الدّين قَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وألزموا صَاحب الْقصر يَعْنِي العاضد بتوليته
وَقَالَ القَاضِي كَانَت الْوَصِيَّة إِلَى صَلَاح الدّين من عَمه فَلبس خلعة السلطنة بِالْقصرِ بَين يَدي العاضد وَقبل يَده وَجَاء إِلَى دَار الوزارة وَإِن شِئْت قلت دَار السلطنة فَإِن الوزارة عِنْد الفاطميين هِيَ السلطنة اسْما وَمعنى وَجلسَ فِي دست الْملك وَشرع فِي تركيب السلطنة وترتيبها فَأول مَا دهمه أَمر الْخَادِم الْخصي الَّذِي كَانَ يلقب مؤتمن الْخلَافَة فَإِنَّهُ شقّ الْعَصَا بَاطِنا وائتمر وتنمر وانضمت إِلَيْهِ طوائف من أَخبث الروافض وكاتبوا الفرنج خُفْيَة فاتفق أَن تركمانيا عبر بالبئر الْبَيْضَاء فَرَأى نَعْلَيْنِ جديدين مَعَ إِنْسَان فَأَخذهُمَا وَجَاء بهما إِلَى صَلَاح الدّين فَوجدَ فِي البطانة خرقَة مَكْتُوب فِيهَا إِلَى الفرنج من الْقصر فَقَالَ دلوني على كَاتب هَذَا الْخط فَدلَّ على يَهُودِيّ
فَلَمَّا حضر تلفظ بِالشَّهَادَتَيْنِ واعترف أَنه كتب ذَلِك بِأَمْر الطواشي الْمشَار إِلَيْهِ واستشعر الطواشي الْخَبَر فَلَزِمَ الْقصر وَأعْرض عَنهُ صَلَاح الدّين إِلَى أَن خرج إِلَى قَرْيَة لَهُ فأنهض لَهُ السُّلْطَان صَلَاح الدّين من أَخذ رَأسه فِي ذِي الْقعدَة وَقرر مَكَانَهُ بهاء الدّين قراقوش فَصَارَ مَخْتُومًا على الْقصر لَا يدْخل الْقصر شَيْء وَيخرج إِلَّا بمرأى مِنْهُ ومسمع
فَلَمَّا قتل الْخَادِم غَار السودَان وثاروا وَكَانُوا أَكثر من خمسين ألف مقاتلة وَقد قدمنَا أَنهم كَانُوا نَحْو مائَة ألف وكل قَالَه المؤرخون وَلَعَلَّ الْجمع بَينهمَا أَن الْخمسين ألفا كَانُوا مقاتلة فُرْسَانًا وَالْبَاقُونَ كَانُوا رجالة لَا يضمهم ديوَان وَأَقْبلُوا كَقطع اللَّيْل المظلم فَخرج إِلَيْهِم من عَسْكَر صَلَاح الدّين الْأَمِير أَبُو الهيجاء واتصل الْحَرْب بَين القصرين ودأب الْحَرْب بَينهم يَوْمَيْنِ ثمَّ كَانَت الدائرة على السودَان وأخرجوا إِلَى الجيزة وَكَانَت لَهُم محلّة تسمى المنصورة فخربت وَحرقت ثمَّ بلغ نور الدّين نبأ هَذِه الْأَخْبَار الطّيبَة فانشرح صَدره وأمد صَلَاح الدّين بأَخيه شمس الدولة تورانشاه
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وفيهَا نزل الفرنج على دمياط فِي صفر وحاصروها أحدا وَخمسين يَوْمًا ثمَّ رحلوا خائبين لِأَن نور الدّين وَصَلَاح الدّين أجلبا عَلَيْهِم برا وبحرا وَأنْفق صَلَاح الدّين أَمْوَالًا كَثِيرَة وَقَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل لي مُدَّة مقَام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا
وفيهَا دخل نجم الدّين أَيُّوب أَبُو صَلَاح الدّين مصر فَخرج العاضد بِنَفسِهِ إِلَى لِقَائِه وتأدب ابْنه صَلَاح الدّين مَعَه وَعرض عَلَيْهِ منصبه
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وفيهَا عمل صَلَاح الدّين بِمصْر مدرستين للشَّافِعِيَّة والمالكية وَخرج بجيوشه فَأَغَارَ على الرملة وعسقلان وهجم على ربض غَزَّة وَرجع إِلَى مصر وجهز بعض جنده إِلَى قلعة أَيْلَة فغزوها فِي المراكب وافتتحوها واستباحوا الفرنج فِيهَا قتلا وسبيا وَكَانَ فتح هَذِه القلعة واستعادتها من الفرنج أعظم النعم على الْمُسلمين فَإِنَّهَا كَانَت قلعة منيعة وَكَانَت الفرنج قد اتَّخَذُوهَا هِيَ والكرك سَبِيلا إِلَى الْإِحَاطَة بالحرمين الشريفين فَقدر الله فتحهما على يَد هَذَا السُّلْطَان رَحمَه الله
وَمن كتاب فاضلي من السُّلْطَان إِلَى الْخَلِيفَة يعدد فِيهِ مَا للسُّلْطَان من الفتوحات وَمن جِهَاد الفرنج وَمِنْهَا قلعة بثغر أَيْلَة بناها الْعَدو فِي الْبَحْر وَمِنْهَا المسلك إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين بِحَيْثُ كَادَت الْقبْلَة يستولي على أَصْلهَا والمشاعر يسكنهَا غير أَهلهَا ومضجع الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْكفَّار
فِي كَلِمَات قَالَهَا
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
فَاسْتَفْتَحَ السُّلْطَان الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة الأولى مِنْهَا بِجَامِع مصر لبني الْعَبَّاس وأقيمت الْخطْبَة العباسية فِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة بِالْقَاهِرَةِ وأعقب ذَلِك موت العاضد فِي يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَجلسَ السُّلْطَان للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وانقرضت دولة الفاطميين وَكَانَ لَهَا أَكثر من مِائَتي سنة وتسلم السُّلْطَان الْقصر بِمَا فِيهِ من خزائنه وذخائره واحتاط على آل الْقصر فجعلهم فِي مَكَان برسمهم وقررت لَهُم المؤونة وجمعت رِجَالهمْ وَاحْترز عَلَيْهِم وَمنعُوا من النِّسَاء لِئَلَّا يتناسلوا وَذكر المؤرخون من نفائس الْقصر وذخائره مَالا نطيل بِذكرِهِ وانتقل الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر إِلَى الْقصر بمرسوم أَخِيه فاستقر فِي نِيَابَة السُّلْطَان وكتبت الْكتب إِلَى بَغْدَاد بالبشارة وَأعَاد الْجَواب والخلعة الفائقة العباسية إِلَى السُّلْطَان صَلَاح الدّين
وفيهَا قَالَ ابْن الْأَثِير حدث مَا أوجب نفرة نور الدّين عَن صَلَاح الدّين وَذَلِكَ أَن نور الدّين أرسل إِلَيْهِ يَأْمر بِجمع الْجَيْش والمسير لمنازلة الكرك ليجيء هُوَ بجيشه ويحاصرانها فَكتب إِلَى نور الدّين يعرفهُ أَنه قادم فَرَحل على قصد الكرك وأتاها وانتظر وُصُوله فَأَتَاهُ كِتَابه يعْتَذر باختلال الْبِلَاد فَلم يقبل عذره وَكَانَ خَواص صَلَاح الدّين خوفوه من الِاجْتِمَاع بِهِ وهم نور الدّين بِالدُّخُولِ إِلَى مصر وَإِخْرَاج صَلَاح الدّين عَنْهَا فَبلغ ذَلِك صَلَاح الدّين فَجمع أَهله وأباه وخاله الْأَمِير شهَاب الدّين الحارمي وَسَائِر الْأُمَرَاء وأطلعهم على نِيَّة نور الدّين واستشارهم فَسَكَتُوا فَقَالَ ابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِذا جَاءَ قَاتَلْنَاهُ وَوَافَقَهُ غَيره من أَهله فشتمهم نجم الدّين أَيُّوب واحتد وَكَانَ ذَا رَأْي ومكر وَقَالَ لتقي الدّين اسْكُتْ وزبره وَقَالَ لصلاح الدّين أَنا أَبوك وَهَذَا خَالك أتظن أَن فِي هَؤُلَاءِ من يُرِيد لَك الْخَيْر مثلنَا فَقَالَ لَا فَقَالَ وَالله لَو رَأَيْت أَنا وَهَذَا نور الدّين لم يمكنا إِلَّا أَن ننزل ونقبل الأَرْض وَلَو أمرنَا بِضَرْب عُنُقك لفعلنَا فَمَا ظَنك بغيرنا فَكل من ترَاهُ من الْأُمَرَاء لَو رأى نور الدّين لما وَسعه إِلَّا التَّرَجُّل وَهَذِه الْبِلَاد لَهُ وَإِن أَرَادَ عزلك فَأَي حَاجَة لَهُ إِلَى الْمَجِيء بل يطلبك بِكِتَاب
وَتَفَرَّقُوا وَكتب أَكثر الْأُمَرَاء لنُور الدّين بمأتم وَلما خلا بولده قَالَ أَنْت جَاهِل تجمع هَذَا الْجمع وتطلعهم على سرك وَلَو قصدك نور الدّين لم تَرَ أحدا مِنْهُم ثمَّ كتب إِلَى نور الدّين بِإِشَارَة وَالِده نجم الدّين يخضع لَهُ ففتر عَنهُ
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
فَأرْسل السُّلْطَان فِيهَا قراقوش مَمْلُوك ولد أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر إِلَى جبال نفوسه وَمَعَهُ طَائِفَة من الأتراك فَلَمَّا وصل إِلَى الْجبَال استصحب مَعَه مِنْهَا بعض الْمُتَقَدِّمين وَنزل على طرابلس الغرب فحاصرها ثمَّ فتحت فاستولى عَلَيْهَا قراقوش وسكنها وَكَثُرت عساكره
وفيهَا جهز السُّلْطَان شمس الدولة إِلَى برقة فافتتحها على يَد غُلَام لَهُ تركي
ثمَّ بلغ السُّلْطَان أَمر ابْن مهْدي الْخَارِج بِالْيمن وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من اختلال العقيدة فَجهز أَخَاهُ شمس الدولة فَافْتتحَ الْيمن وتملكها
ثمَّ سَار السُّلْطَان بِنَفسِهِ من مصر يُرِيد اقتلاع مَدِينَة الكرك من الفرنج وَبَدَأَ بهَا لقربها إِلَيْهِ وَكَانَ من الوهن فِي الْإِسْلَام وَالْعَظَمَة فِي الدّين اسْتِيلَاء الملاعين على الكرك وعَلى قلعة أَيْلَة فَإِنَّهُم يمْنَعُونَ الْحَاج وَأَشد من ذَلِك مَا يخْشَى على الْحَرَمَيْنِ الشريفين مِنْهُم إِذْ لم يكن بَينهم وَبَينهمَا حاجز غير لطف الله وقصدوهما مَرَّات ثمَّ يندفعون بِمَشِيئَة الله من غير دفاع من الْبشر وَكَانَت الكرك تزيد على قلعة أَيْلَة بِمَنْع القوافل السائرة بَين الشَّام ومصر فَإِنَّهَا كَانَت الدَّرْب وَأما غَزَّة والرملة وَمَا حواليهما فَكَانَ الفرنج لَا يمكنون مُسلما أَن يمر بهما فورد عَلَيْهِمَا وحاصرهما وَقَاتل الفرنج وَلم يفتحهما فِي هَذِه السّنة وَرجع إِلَى مصر
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
قَالَ ابْن الْأَثِير جهز السُّلْطَان أَخَاهُ توران شاه إِلَى بِلَاد النّوبَة فَافْتتحَ مِنْهَا مَا شَاءَ الله فَلَمَّا عَاد جهزه إِلَى الْيمن بِقصد عبد النَّبِي صَاحب زبيد فطرده عَن الْيمن وَملك زبيد وَأسر عبد النَّبِي وَزَوجته الْحرَّة وَكَانَت صَالِحَة كَثِيرَة الصَّدَقَة وعذب عبد النَّبِي واستخرجت مِنْهُ أَمْوَاله
ثمَّ سَار توران شاه إِلَى عدن وملكها يَاسر فَأسر وَهزمَ
ثمَّ سَار فَافْتتحَ من حصون الْيمن قلعة تعرف بقلعة الْجند قَالَ أَبُو المظفر بن الْجَوْزِيّ يُقَال افْتتح ثَمَانِينَ حصنا ومدينة بِالْيمن وَمَا حواليها
وَقد تقدم فِي السّنة قبلهَا إرْسَال تورانشاه وَهُوَ شمس الدولة إِلَى الْيمن ووقعة النّوبَة فَقتل وَالله أعلم فِي أَي السنتين كَانَ إرْسَاله
وَفِي هَذِه السّنة وصل الْمُوفق ابْن القيسراني إِلَى مصر رَسُولا من الْملك نور الدّين يُطَالب السُّلْطَان صَلَاح الدّين بِحِسَاب جَمِيع مَا حصله من أرياع الْبِلَاد وَلم يعلم نور الدّين بتفاصيل علو شَأْن صَلَاح الدّين وَأَنه مستول على أعظم مَا فِي يَد نور الدّين فصعب ذَلِك على صَلَاح الدّين وَقيل إِنَّه أَرَادَ شقّ الْعَصَا ثمَّ ذكر لنُور الدّين حُقُوقه وإحسانه وَأمر النواب بِالْحِسَابِ وَعرضه على ابْن القيسراني وَأرَاهُ جرائد العساكر بالإقطاعات وَأَعَادَهُ إِلَى نور الدّين وَمَعَهُ الْفَقِيه عِيسَى وهدية عَظِيمَة وَهِي ختمة بِخَط ابْن البواب وختمه بِخَط مهلهل وختمه بِخَط الْحَاكِم الْبَغْدَادِيّ وربعة مَكْتُوبَة بِالذَّهَب بِخَط فَارسي وربعة عشرَة أَجزَاء بِخَط رَاشد وَثَلَاثَة أَحْجَار بلخش وَسِتَّة قضبان زمرد وَقطعَة ياقوت وزن سَبْعَة مَثَاقِيل وَحجر أَزْرَق سِتَّة مَثَاقِيل وَمِائَة عقد جَوْهَر وَزنهَا ثَمَانمِائَة وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ مثقالاوخمسون قَارُورَة دهن بِلِسَان وَعِشْرُونَ قِطْعَة بلور وَأَرْبع عشرَة قِطْعَة جزع وإبريق يشم وطشت يشم وصحون صيني وزبادي أَرْبَعُونَ وكرتان عود قماري وزن إِحْدَاهمَا ثَلَاثُونَ رطلا بالمصري وَالْأُخْرَى أحد وَعِشْرُونَ وَمِائَة ثوب أطلس وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ بقيارا مذهبَة وَخَمْسُونَ ثوب حَرِير وحلة فلفي مَذْهَب وحلة مرايش صفراء وَغير ذَلِك من القماش الَّذِي يكثر عده وَقِيمَة القماش على مَا ذكر مِائَتَان وَخمْس وَعِشْرُونَ ألف مِثْقَال ذهب وَمن الْخَيل وَالْبِغَال والجواري وَالسِّلَاح شَيْء كثير وَمن المَال خَمْسَة أحمال وَلم يصل شَيْء من ذَلِك إِلَى نور الدّين لِأَنَّهُ مَاتَ قبل وُصُوله
وَلما مَاتَ نور الدّين طمعت الفرنج وتحركوا بالسواحل وسلطن الشاميون الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن نور الدّين وَكَانَ عمره نَحْو عشر سِنِين فاستنجد بالسلطان صَلَاح الدّين صَاحب مصر وَنزل الفرنج على بانياس وصالحهم أُمَرَاء دمشق على مَال وأسارى يطلقون فَلَمَّا بلغ ذَلِك صَلَاح الدّين انزعج لَهُ وَكتب إِلَى الشاميين يوبخهم وَكتب إِلَى شيخ الشَّافِعِيَّة شرف الدّين ابْن أبي عصرون يُخبرهُ أَنه لما أَتَاهُ كتاب الْملك الصَّالح تجهز للْجِهَاد وَخرج وَسَار أَربع مراحل فَجَاءَهُ الْخَبَر بالهدنة المؤذنة بذل الْإِسْلَام على يَد من اقتلعها من دفع القطيعة وَالْأسَارَى وَسَيِّدنَا الشَّيْخ أول من جرد لِسَانه الَّذِي تغمد لَهُ السيوف وتجرد
وَلما بَالغ صَلَاح الدّين فِي توبيخ الْأُمَرَاء وَكَانَ ابْن الْمُقدم أكبر أُمَرَاء دمشق خشى من قدوم صَلَاح الدّين إِلَى الشَّام وأشاع أَن صَلَاح الدّين يُرِيد انتزاع دمشق من ولد مخدومه نور الدّين وَكتب إِلَى صَلَاح الدّين لَا يُقَال عَنْك إِنَّك طمعت فِي بَيت من غرسك ورباك وأسسك وَفِي دست ملك مصر أجلسك ثمَّ تعطف لَهُ وترفق وَيَقُول وَمَا يَلِيق بحالك غير فضلك واتصالك
فَكتب إِلَيْهِ صَلَاح الدّين إِنَّا لَا نؤثر لِلْإِسْلَامِ وَأَهله إِلَّا مَا جمع شملهم وَألف كلمتهم وَلَا نَخْتَار للبيت الأتابكي أَعْلَاهُ الله إِلَّا مَا حفظ أَصله وفرعه فالوفاء إِنَّمَا يكون بعد الْوَفَاة وَنحن فِي وَاد والظانون بِنَا سوء الظَّن فِي وَاد
ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وَقد تزايد طمع الفرنج فِي دمشق بِمَوْت نور الدّين فَرَأى صَلَاح الدّين من الحزم جمع الْمُسلمين على سُلْطَان وَاحِد يُقيم الْملَّة وينصر الشَّرِيعَة وَإنَّهُ ذَلِك الْوَاحِد الَّذِي تعقد عَلَيْهِ الخناصر وَأَن الْإِسْلَام مُحْتَاج إِلَيْهِ وَصَارَ الحاسدون والجاهلون بِأَحْكَام الشَّرِيعَة يعيبون مِنْهُ قَصده لأخذ دمشق وَيَقُولُونَ كَيفَ يسلب ولد أستاذه نعْمَته وَينْزع ملكه وهم كَمَا قَالَ فِي وَاد فَإِنَّهُ فِيمَا يغلب على الظنون الصادقة إِنَّمَا قصد لم شعث الْإِسْلَام وَقيام الدّين وَظهر ذَلِك على يَده من بعد فَخرج من مصر بجيوش لَا يُحْصى عَددهَا واستخلف أَخَاهُ الْملك الْعَادِل نَائِبا بهَا وَوصل إِلَى بصرى رَابِع عشري ربيع الآخر فَخرج إِلَيْهِ صَاحبهَا منقادا لخدمته ثمَّ تتَابع عَسْكَر الشَّام ملاقين مستبشرين وَنزل بجسر الْخشب فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين وَقد تكاثرت العساكر وازدحم الملاقون وَأصْبح لدُخُول دمشق فعارضه عدد من الرِّجَال فدعستهم عساكره المنصورة وصدمتهم خيوله وعزماته الْمَأْمُورَة وَدخل الْبَلَد وملكها بِلَا قتال ونادى من سَاعَته بإطابة النُّفُوس وَإِزَالَة المكوس وَكَانَت الْولَايَة فِي دمشق قد ساءت والمكوس الَّتِي رَفعهَا نور الدّين قد أُعِيدَت فَأَعَادَ صَلَاح الدّين الْحق إِلَى نصابه وَصَارَت دمشق مثل مصر وَكِلَاهُمَا فِي مَمْلَكَته
ثمَّ خرج إِلَى حمص فنازلها وَنصب المجانيق على قلعتها وَلم يملكهَا وترحل عَنْهَا إِلَى حماة فملكها فِي جُمَادَى الْآخِرَة ثمَّ سَار إِلَى حلب وحاصرها إِلَى آخر الشَّهْر وَبهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل ولد نور الدّين وَاشْتَدَّ بهَا الْحصار وَهَذِه هِيَ الفعلة الَّتِي نقمت على صَلَاح الدّين فَالله أعلم بنيته وَأَنه أَسَاءَ الْعشْرَة فِي حق الصَّالح ابْن نور الدّين بِحَيْثُ اسْتَعَانَ الصَّالح عَلَيْهِ بالباطنية وَوَعدهمْ بالأموال فَقتلُوا من أُمَرَاء صَلَاح الدّين الْأَمِير خمارتكين وخلقا وجرحوا صَلَاح الدّين ثمَّ أمسكهم وقتلهم عَن آخِرهم وَرجع إِلَى حمص فحاصرها بَقِيَّة رَجَب وتسلمها بالأمان فِي شعْبَان ثمَّ عطف إِلَى بعلبك فاستلمها ثمَّ رد إِلَى حمص وَقد اجْتمع عَسْكَر حلب وَكَتَبُوا إِلَى صَاحب الْموصل يستعينون بِهِ على صَلَاح الدّين فَجهز إِلَيْهِم جَيْشه وأمدهم بأَخيه عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي فَأقبل الْكل إِلَى حماة وَقد اسْتَقَرَّتْ لصلاح الدّين فحاصروها فَسَار إِلَيْهِم صَلَاح الدّين
فالتقاهم على قُرُون حماه فكسرهم أقبح كسرة ثمَّ سَار إِلَى حلب فَوَقع الصُّلْح بَينه وَبَين ابْن زنكي على أَن يكون لَهُ آخر بلد حماة والمعرة وَأَن يكون لولد نور الدّين حلب وَجَمِيع أَعمالهَا وتحالفوا ورد إِلَى حماة وجاءته رسل الْخَلِيفَة المستضيء بِالْخلْعِ والهدايا والتهنئة بِالْملكِ ثمَّ سَار إِلَى حصن بارين فحاصره ثمَّ تسلمه
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا كَانَ وقْعَة تل السُّلْطَان بنواحي حلب وَذَلِكَ أَن عَسْكَر الْموصل نكثوا أَيْمَانهم ووافوا تل السُّلْطَان فِي جموع كَثِيرَة وَعَلَيْهِم السُّلْطَان سيف الدّين غَازِي ابْن مودود بن زنكي فالتقاهم السُّلْطَان صَلَاح الدّين فِي جمع قَلِيل فَهَزَمَهُمْ وَأسر كثيرا مِنْهُم وحقن الدِّمَاء ثمَّ أحضر الْأُمَرَاء الَّذين أسرهم فَمن عَلَيْهِم وأطلقهم
ثمَّ سَار صَلَاح الدّين إِلَى منبج وَأَخذهَا فِي شَوَّال من ينَال بن حسان المنبجي وَكَانَ نور الدّين قد أَعْطَاهَا لينال عِنْدَمَا انتزعها من أَخِيه غَازِي بن حسان وَصعد الْحصن وَجلسَ يستعرض أَمْوَال ابْن حسان صَاحبهَا وذخائر فَكَانَت ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار وَمن أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة والذخائر والأسلحة مَا يناهز ألفي ألف دِينَار وَرَأى على بعض الأكياس والآنية مَكْتُوبًا يُوسُف فَسَأَلَ عَن هَذَا الِاسْم فَقيل ولد لَهُ يُحِبهُ اسْمه يُوسُف وَكَانَ يدّخر لَهُ هَذِه الْأَمْوَال فَقَالَ السُّلْطَان أَنا يُوسُف وَقد أخذت مَا خبىء لي
ثمَّ سَار إِلَى عزاز فنازل قلعتها ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وقفز عَلَيْهِ وَهُوَ محاصرها قوم من الفداوية وجرح فِي فَخذه وَأخذُوا فَقتلُوا ثمَّ افْتتح عزاز
وَمن كتاب مِنْهُ إِلَى أَخِيه الْعَادِل وَلم ينلني من الحشيشي الملعون إِلَّا خدش قطرت مِنْهُ دم قطرات خَفِيفَة انْقَطَعت لوَقْتهَا واندملت لسعاعتها
ثمَّ سَار من عزاز فنازل مَدِينَة حلب كرة أُخْرَى فِي نصف ذِي الْحجَّة وَقَامَت القلعة فِي حفظهَا بِكُل مُمكن وصابرها صَلَاح الدّين شهرا
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا ترددت الرُّسُل فِي الصُّلْح بَين السُّلْطَان صَلَاح الدّين وَالْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل ابْن نور الدّين فَرَحل صَلَاح الدّين عَن حلب وأبقاها لِابْنِ نور الدّين ورد عَلَيْهِ عزاز وَتوجه إِلَى مصياف بلد الباطنية فنصب عَلَيْهَا المجانيق وأباح قَتلهمْ وَخرب بِلَادهمْ فتشفعوا بِصَاحِب حماة شهَاب الدّين خَال السُّلْطَان فَسَأَلَ السُّلْطَان الصفح عَنْهُم وَتوجه عَائِدًا إِلَى مصر فوصلها وَأمر بِبِنَاء السُّور الْأَعْظَم الْمُحِيط بِمصْر والقاهرة وَجعل على بنايته الْأَمِير قراقوش وَلم يزل الْعَمَل فِيهِ إِلَى أَن مَاتَ صَلَاح الدّين وصرفت عَلَيْهِ أَمْوَال جزيلة
وفيهَا أَمر بإنشاء قلعة الْجَبَل المقطم الَّتِي هِيَ الْآن دَار سلاطين مصر وَجعل على بنائها أَيْضا قراقوش وَلم يكن السلاطين قبلهَا يسكنون إِلَّا دَار الوزارة بِالْقَاهِرَةِ
ثمَّ سَافر إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَتردد إِلَى السلَفِي فَسمع مِنْهُ الحَدِيث ثمَّ عَاد إِلَى مصر وَبنى تربة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا كَانَت وقْعَة الرملة
سَار السُّلْطَان من الْقَاهِرَة إِلَى عسقلان فسبى من الفرنج كثيرا وغنم وَسَار إِلَى الرملة وَقد تجمعت عَلَيْهِ الفرنج وحملوا على الْمُسلمين فَانْهَزَمُوا وَثَبت السُّلْطَان وَابْن أَخِيه تَقِيّ الدّين عمر وَدخل اللَّيْل واحتوى الفرنج على أثقال الْمُسلمين وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد ولد تَقِيّ الدّين عمر وَلم يبْق للْمُسلمين قدرَة على مَاء وَلَا زَاد وتعسفوا الرمال رَاجِعين إِلَى مصر
وَفِي هَذِه الْوَاقِعَة أسر الْفَقِيه عِيسَى الهكاري أكبر الْأُمَرَاء فافتداه السُّلْطَان بستين ألف دِينَار
وَدخل السُّلْطَان الْقَاهِرَة بعد ثَلَاثَة عشر يَوْمًا وتواصلت خَلفه العساكر ثمَّ عَاد السُّلْطَان إِلَى الشَّام
وَدخلت سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا اجْتمعت الفرنج عِنْد حصن الأكراد فَسَار إِلَيْهِم السُّلْطَان وَلم يَقع قتال ثمَّ أَغَارُوا على أَعمال دمشق وجهز لحربهم فرخشاه ابْن أخي السُّلْطَان فالتقاهم وكسرهم وَقتل من مقدميهم جمَاعَة مِنْهُم هنفري
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمَا أَدْرَاك مَا هنفري بِهِ كَانَ يضْرب الْمثل فِي الشجَاعَة
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا ضربت الطبول بِبَغْدَاد وزفت البشائر بانتصار السُّلْطَان صَلَاح الدّين على الفرنج وأسره لصَاحب الرملة وَصَاحب طبرية الْكَافرين وَهِي وقْعَة مرج الْعُيُون
وَمن حَدِيثهَا أَن صَلَاح الدّين كَانَ نازلا تل بانياس بِبَيْت بسراياه فَلَمَّا اسْتهلّ الْمحرم ركب فَرَأى رَاعيا فَسَأَلَهُ عَن الفرنج فَأخْبرهُ بقربهم فَعَاد إِلَى مخيمه وَأمر الْجَيْش بالركوب فَرَكبُوا وَسَار بهم حَتَّى أشرف على الفرنج وهم فِي ألف قنطارية وَعشرَة آلَاف مقَاتل فَارس وراجل فحملوا على الْمُسلمين فثبتوا لَهُم وحملت الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم فَوَلوا الأدبار فَقتل أَكْثَرهم وَأسر مِنْهُم مِائَتَان وَسَبْعُونَ أَسِيرًا مِنْهُم بادين وأود مقدم الداوية وَابْن القومصة وأخوا صَاحب جبيل وَابْن صَاحب مرقية وَصَاحب طبرية فَأَما بادين بن بيرزان فاستفك نَفسه بمبلغ وبألف أَسِير من الْمُسلمين واستفك الآخر نَفسه بجملة وَأما أود فجن فِي حبس قلعة دمشق وَانْهَزَمَ من الْوَقْعَة ملكهم مجروحا وأبلى فِي هَذِه الْوَقْعَة عز الدّين فرخشاه بلَاء حسنا
وَاتفقَ أَنه فِي يَوْم الْوَقْعَة ظفر أسطول مصر ببطستين وأسروا ألف نفس فَللَّه الْحَمد على نَصره
وَكَانَ قليج أرسلان سُلْطَان الرّوم طلب حصن رعبان وَزعم أَنه من بِلَاده وَإِنَّمَا أَخذه مِنْهُ نور الدّين على خلاف مُرَاده وَأَن وَلَده الصَّالح إِسْمَاعِيل قد أنعم بِهِ عَلَيْهِ فَلم يفعل السُّلْطَان فَأرْسل قليج عشْرين ألفا لحصار الْحصن فالتقاهم تَقِيّ الدّين عمر صَاحب حماة
وَمَعَهُ سيف الدّين عَليّ المشطوب فِي ألف فَارس فَهَزَمَهُمْ لِأَنَّهُ حمل عَلَيْهِم بَغْتَة وهم على غير تعبية فَضربت كوساته وَعمل عسكره كراديس فَلَمَّا سَمِعت الرّوم الضجة ظنُّوا أَنهم قد دهمهم جَيش عَظِيم فَرَكبُوا خيولهم عريا وطلبوا النجَاة وَتركُوا الْخيام بِمَا فِيهَا وَأسر مِنْهُم عددا ثمَّ من عَلَيْهِم بِأَمْوَالِهِمْ وسرحهم وَلم يزل تَقِيّ الدّين يدل بِهَذِهِ النُّصْرَة وَلَا ريب أَنَّهَا عَظِيمَة
وَورد بَغْدَاد رَسُول صَلَاح الدّين وَهُوَ مبارز الدّين كشطغاي وَجلسَ لَهُ ظهير الدّين أَبُو بكر ابْن الْعَطَّار وَبَين يَدَيْهِ أَرْبَاب الدولة فجَاء وَبَين يَدَيْهِ اثْنَا عشر أَمِيرا عَلَيْهِم الخوذ والزرديات وَمَعَ كل وَاحِد قنطارية وعَلى كتفه طارقة ملك الفرنج على القنطاريات سعف الفرنج وَبَين يَدَيْهِ أَيْضا من التحف والنفائس من ذَلِك صنم حجر طَوِيل ذراعين فِيهِ صناعَة عَجِيبَة قد جعل سبابته على شفته كالمتبسم عجبا وَمن ذَلِك صينية ملآنة جَوَاهِر وضلع آدَمِيّ نَحْو سَبْعَة أشبار فِي عرض أَربع أَصَابِع وضلع سَمَكَة طوله عشرَة أَذْرع فِي عرض ذراعين
وفيهَا جهز السُّلْطَان القَاضِي أَبَا الْفَضَائِل بن الشهرزوري إِلَى الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد أَيْضا بجواهر مثمنة وَعشرَة أسرى من الفرنج
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا توجه السُّلْطَان قَاصِدا بِلَاد الأرمن وبلاد الرّوم ليحارب قليج أرسلان بن مَسْعُود ابْن قليج أرسلان عِنْدَمَا استجار مُحَمَّد بن أرسلان بن دَاوُد صَاحب حصن كيفا بالسلطان على حموة قليج الْمَذْكُور ثمَّ صلح الْحَال بَينهمَا فَنزل السُّلْطَان على حصن من بِلَاد الأرمن فَأَخذه وهدمه ثمَّ رَجَعَ فَعِنْدَ وُصُوله إِلَى حمص جَاءَهُ التَّقْلِيد وَالْخلْع من الْخَلِيفَة النَّاصِر فَركب بهَا بحمص وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وَجَاء إِلَى دمشق وَولى عز الدّين فرخشاه
نِيَابَة السلطنة بِالشَّام وَهُوَ ابْن أَخِيه ثمَّ توجه السُّلْطَان إِلَى مصر وَتوجه مِنْهَا إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَشَاهد مَا تجدّد بهَا من السُّور وَسمع بهَا الْمُوَطَّأ على أبي الطَّاهِر ابْن عَوْف
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وفيهَا قصد نَائِب الشَّام عز الدّين فرخشاه بمرسوم السُّلْطَان بِلَاد الكرك بالعساكر فخربها وَذَلِكَ عِنْدَمَا بلغ السطان أَن اللعين صَاحب الكرك سَوَّلت لَهُ نَفسه قصد الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ليتملكها فَمَا نهبت بِلَاده عَاد بالخيبة
وفيهَا ظَهرت الوحشة بَين الْخَلِيفَة النَّاصِر وَالسُّلْطَان وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان لما اشْتهر اسْمه بِالْعَدْلِ وَشدَّة الْوَطْأَة وخافته النُّفُوس الْفَاجِرَة واستبشرت بِهِ الْأَرْوَاح الطاهرة وحسده مُلُوك الْأَطْرَاف وأحبوا أَن يوقعوا بَينه وَبَين الْخَلِيفَة سولوا للخليفة أمورا أوجبت أَن يكْتب للسُّلْطَان يَأْخُذ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاء مِنْهَا تَسْمِيَته بِالْملكِ النَّاصِر مَعَ علمه أَن الإِمَام اخْتَار هَذِه التَّسْمِيَة لنَفسِهِ وَهَذِه الْوَاحِدَة على ندورتها مدفوعة بِأَن السُّلْطَان لقب بالناصر من أَيَّام الْخَلِيفَة المستضيء قبل أَن يَلِي النَّاصِر الْخلَافَة فَكتب لَهُ السُّلْطَان جَوَابا فاضليا مِنْهُ وَالْخَادِم وَللَّه الْحَمد يعدد سوابق فِي الْإِسْلَام والدولة العباسية لَا يعدها أولية أبي مُسلم لِأَنَّهُ وَالِي ثمَّ وارى وَلَا آخرية طغرلبك لِأَنَّهُ نصر ثمَّ حجر
وَالْخَادِم بِحَمْد الله خلع من كَانَ يُنَازع الْخلَافَة رداءها وأساغ الغصة الَّتِي ذخر الله للإساغة فِي سَيْفه ماءها فَرجل الْأَسْمَاء الكاذبة الراكبة على المنابر وأعز بتأييد إبراهيمي فَكسر الْأَصْنَام الْبَاطِنَة بِسَيْفِهِ الظَّاهِر لَا السَّاتِر وَفعل وَمَا فعل للدنيا وَلَا معنى للاعتداد بِمَا هُوَ متوقع الْجَزَاء عَنهُ فِي الْيَوْم الآخر
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة
فِيهَا افْتتح السُّلْطَان حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبيرة وآمد
ونازل الْموصل وحاصرها وبهره مَا رأى من حصانتها وجاءه شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين من قبل الْخَلِيفَة يتشفع فِي صَاحب الْموصل فَرَحل عَنْهَا
وفيهَا بعث السُّلْطَان أَخَاهُ سيف الْإِسْلَام طغتكين على نِيَابَة السلطنة بإقليم الْيمن بأسره وَأمره بِإِخْرَاج نواب أَخِيه توران شاه بهَا فَرَحل إِلَيْهَا وَقبض على مُتَوَلِّي زبيد حطَّان بن منقذ وَأخذ مِنْهُ أَمْوَالًا جزيلة وَسكن سيف الْإِسْلَام فِي الْيمن
وفيهَا مَاتَ عز الدّين فرخشاه بن شاهنشاه ابْن أَيُّوب نَائِب الشَّام فَبعث السُّلْطَان على نِيَابَة دمشق شمس الدّين مُحَمَّد بن الْمُقدم
وفيهَا خرج السُّلْطَان بِنَفسِهِ من مصر غازيا وَمَا تهَيَّأ لَهُ الْعود إِلَيْهَا وَقد عَاشَ بعد ذَلِك اثنتى عشرَة سنة
ثمَّ دخلت سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
ورسل الْخَلِيفَة فِي كل سنة تَجِيء غير مرّة بالتودد ظَاهرا واستعلام أَخْبَار السُّلْطَان بَاطِنا فَلَا يرَوْنَ إِلَّا إِمَامًا عادلا لَا يصطلى لَهُ بِنَار وغضنفرا باسلا لَا يقوم لغضبه إِلَّا الْوَاحِد القهار وَكتب لَهُ السُّلْطَان كتابا فاضليا فِيهِ من أَخْبَار الفرنج كَانَ الفرنج قد ركبُوا من الْأَمر نكرا وافتضوا من الْبَحْر بكراذ وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة آخر الطَّبَقَة الْخَامِسَة
الطَّبَقَة السَّادِسَة فِيمَن توفّي بَين الستمائة والسبعمائة
طبقات الشافعية الكبرى - تاج الدين السبكي
السُّلْطَانُ الكَبِيْرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ، صلاح الدين، أبو المظفر، يوسف بن الأَمِيْرِ نَجْمِ الدِّيْنِ أَيُّوْبَ بنُ شَاذِي بنِ مَرْوَانَ بنِ يَعْقُوْبَ، الدُّوِيْنِيُّ، ثُمَّ التِّكرِيتِيُّ المَوْلِد.
وُلِدَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ إِذْ أَبُوْهُ نَجْم الدِّيْنِ مُتَوَلِّي تِكرِيتَ نِيَابَةً.
وَدُوِيْنُ: بُليدَة بِطرف أَذْرَبِيْجَان مِنْ جِهَةِ أَرَان وَالكَرَجِ، أهلهَا أَكرَادٌ هَذَبَانِيَّة.
سَمِعَ مِنْ أَبِي طَاهِرٍ السِّلَفِيِّ، وَالفَقِيْه عَلِيّ ابْن بِنْت أَبِي سَعْدٍ، وَأَبِي الطَّاهِر بن عَوْف، وَالقُطْب النَّيْسَابُوْرِيّ. وَحَدَّثَ.
وَكَانَ نُوْر الدِّيْنِ قَدْ أَمَّرَه، وَبعثَه فِي عَسْكَره مَعَ عَمّه أَسَد الدِّيْنِ شِيرْكُوْه، فَحكم شِيرْكُوْه عَلَى مِصْرَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ تُوُفِّيَ، فَقَامَ بَعْدَهُ صَلاَح الدِّيْنِ، وَدَانت لَهُ العَسَاكِر، وَقهر بنِي عُبَيْد، وَمحَا دَوْلَتهُم، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْر القَاهِرَة بِمَا حوَى مِنَ الأَمتعَة وَالنّفَائِس، مِنْهَا الْجَبَل اليَاقُوْت الَّذِي وَزنهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَماً؛ قَالَ مُؤلِّف الكَامِل ابْن الأَثِيْر: أنَا رَأَيْتهُ وَوزنته.
وَخلاَ القَصْر مِنْ أَهْلِهِ وَذخَائِره. وَأَقَامَ الدعوَة العَبَّاسِيَّة.
وَكَانَ خليقاً لِلإِمَارَة، مَهِيْباً، شُجَاعاً حَازِماً، مُجَاهِداً كَثِيْر الغَزْو، عَالِي الهِمَّة، كَانَتْ دَوْلَته نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً.
وَتَمَلَّكَ بَعْدَ نُوْر الدِّيْنِ، وَاتَسَعت بلاَده.
وَمنذ تسلطَنَ، طَلّق الخَمْر وَاللَّذَات، وَأَنشَأَ سوراً عَلَى القَاهِرَة وَمِصْر، وَبَعَثَ أَخَاهُ شَمْس الدِّيْنِ فِي سَنَةِ ثمان وستين، فافتتح برقة، ثم افْتَتَحَ اليَمَن، وَسَارَ صَلاَح الدِّيْنِ، فَأَخَذَ دِمَشْق مِنِ ابْن نُوْر الدِّيْنِ.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ حَاصر عَزَاز، وَوَثَبَتْ عَلَيْهِ البَاطِنِيَّة، فَجرحوهُ.
وَفِي سَنَةِ ثَلاَثٍ كَسرته الفِرنْج عَلَى الرَّمْلَة، وَفَرَّ فِي جَمَاعَةٍ، وَنجَا.
وَفِي سَنَةِ خَمْس التقَاهُم وَكسرهُم.
وَفِي سَنَةِ سِتّ أَمر بِبنَاء قَلْعَة الْجَبَل.
وَفِي سَنَةِ ثَمَان عَدَّى الفُرَات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، وَالبِيْرَة، وَآمِد، وَنَصِيْبِيْن، وَحَاصَرَ المَوْصِل، ثُمَّ تَملّك حلب، وَعوّض عَنْهَا صَاحِبهَا زَنْكِي بِسِنْجَار، ثُمَّ إِنَّهُ حَاصر المَوْصِل ثَانِياً وَثَالِثّاً، ثُمَّ صَالَحَه صَاحِبُهَا عِزّ الدِّيْنِ مَسْعُوْد، ثُمَّ أَخَذَ شَهْرزور وَالبوازِيج.
وَفِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَمَانِيْنَ فَتح طبريَّة، وَنَازل عَسْقَلاَن، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَة حِطِّيْن بَيْنَهُ وَبَيْنَ الفِرنْج، وَكَانُوا أَرْبَعِيْنَ أَلفاً، فَحَال بَيْنهُم وَبَيْنَ المَاء عَلَى تلّ، وَسلّمُوا نُفُوْسهُم، وَأُسِرَتْ ملوكهُم، وَبَادر، فَأَخَذَ عكَّا وَبَيْرُوْت وَكَوْكَب، وَسَارَ فَحَاصَر القُدْس، وَجدّ فِي ذَلِكَ فَأَخَذَهَا بِالأَمَان.
وَسَارَ عَسْكَر لابْنِ أَخِيْهِ تَقِيّ الدِّيْنِ عُمَر فَأَخذُوا أَوَائِل المَغْرِب، وَخطبُوا بِهَا لِبَنِي العَبَّاسِ.
ثُمَّ إِنَّ الفِرنْج قَامت قيَامتهُم عَلَى بَيْتِ المقدس، وأقبلوا كقطع اللَّيْل المُظْلِم برّاً وَبَحْراً وَأَحَاطُوا بعكَّا ليستردّوهَا وَطَال حصَارهُم لَهَا، وَبَنَوا عَلَى نُفُوْسهم خَنْدَقاً، فَأَحَاط بِهِم السُّلْطَان، وَدَام الحصَار لَهُم وَعَلَيْهِم نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ شَهْراً، وَجَرَى فِي غُضُون ذَلِكَ ملاَحم وَحُرُوْب تُشيِّب النَّوَاصي، وَمَا فَكُّوا حَتَّى أَخَذُوهَا، وَجَرَتْ لَهُم وَللسُلْطَان حُرُوْب وَسِير. وَعِنْدَمَا ضَرِسَ الفرِيقَان، وَكُلّ الحزبَان، تَهَادن الملتَان.
وَكَانَتْ لَهُ همَّة فِي إِقَامَة الجِهَاد، وَإِبَادَة الأَضدَاد مَا سُمِعَ بِمِثْلِهَا لأَحدٍ فِي دَهْر.
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ فِي حِصَار عزَاز: كَانَتْ لجَاولي خيمَة كَانَ السُّلْطَان يَحضر فِيْهَا، وَيَحضّ الرِّجَال، فَحضر باطنِيَّة فِي زيِّ الأَجْنَاد، فَقفز عَلَيْهِ وَاحِد ضربه بِسكين لَوْلاَ المِغْفَرُ الزَّرَدُ الَّذِي تَحْت القلنسوَة، لِقتله فَأَمسكَ السُّلْطَان يَد البَاطِنِيّ بيدَيْهِ، فَبقِي يَضربُ فِي عُنُق السُّلْطَان ضرباً ضَعِيْفاً، وَالزَّرَدُ تَمنع، وَبَادر الأَمِيْر بَازكوج، فَأَمسك السِّكِّين، فَجرحته، وَمَا سيَّبهَا البَاطِنِيّ حَتَّى بَضَّعُوْهُ، وَوَثَبَ آخر، فَوَثَبَ عَلَيْهِ ابْن منكلاَن، فَجرحَه البَاطِنِيُّ فِي جنبه، فَمَاتَ، وَقُتِلَ البَاطِنِيّ، وَقفز ثَالِث، فَأَمسكه الأَمِيْر عَلِيُّ بن أَبِي الفَوَارِسِ، فَضمَّه تَحْتَ إِبطه، فَطعَنَه صَاحِب حِمْص، فَقَتَلَهُ، وَركب السُّلْطَانُ إِلَى مُخيَّمه، وَدَمُه يَسِيْل عَلَى خَدّه، وَاحتجب فِي بَيْت خشب، وَعرض جُنْده، فَمَنْ أَنْكَره، أَبعدَهُ.
قَالَ المُوَفَّق عَبْد اللَّطِيْفِ: أَتيت، وَصَلاَح الدِّيْنِ بِالقُدْس، فَرَأَيْت ملكاً يَملأَ العُيُون روعَة، وَالقُلُوْب مَحَبَّة، قَرِيْباً بعيداً، سهلاً، محبَّباً، وَأَصْحَابه يَتشبَّهون بِهِ، يَتسَابقُوْنَ إِلَى المَعْرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحِجْرُ: 47] ، وَأَوّل لَيْلَة حضَرتُهُ وَجَدْت مَجْلِسه حَفْلاً بِأَهْلِ العِلْمِ يَتَذَاكَرُوْنَ، وَهُوَ يُحْسنُ الاستمَاع وَالمشَاركَة، وَيَأْخذ فِي كَيْفِيَة بِنَاء الأَسْوَار، وَحفر الخنَادق، وَيَأْتِي بِكُلِّ مَعْنَىً بَدِيْع، وَكَانَ مهتماً فِي بِنَاء سورِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَحفْر خَنْدَقه، وَيَتولَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَيَنْقل الحجَارَة عَلَى عَاتقه، وَيَتَأَسَّى بِهِ الخلقُ حَتَّى القَاضِي الفَاضِل، وَالعِمَاد إِلَى وَقت الظُّهْر، فِيمدُّ السمَاط، وَيسترِيح، وَيَرْكبُ الْعَصْر، ثُمَّ يَرْجِع فِي ضوء المشَاعل، قَالَ لَهُ صَانِع: هَذِهِ الحجَارَة الَّتِي تُقْطَع مِنْ أَسفل الخَنْدَق رخوَة، قَالَ: كَذَا تَكُوْن الحجَارَة الَّتِي تلِي القرَار وَالنّدَاوَة، فَإِذَا ضربَتْهَا الشَّمْس، صَلُبَت. وَكَانَ يَحفظ "الحمَاسَة"، وَيظَنّ أَن كُلّ فَقِيْه يَحفظهَا، فَإِذَا أَنْشَدَ، وَتَوَقَّفَ، اسْتطْعمَ فَلاَ يُطعَم، وَجَرَى لَهُ ذَلِكَ مَعَ القَاضِي الفَاضِل، وَلَمْ يَكُنْ يَحفظُهَا، وَخَرَجَ، فَمَا زَالَ حَتَّى حَفِظهَا، وَكَتَبَ لِي صَلاَح الدِّيْنِ بِثَلاَثِيْنَ دِيْنَاراً فِي الشَّهْر، وَأَطلق أَوْلاَده لِي روَاتب، فَأُشْغلت بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
وَكَانَ أَبُوْهُ ذَا صلاَحٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَلاَح الدِّيْنِ بِأَكْبَر أَوْلاَده.
وَكَانَ صَلاَح الدِّيْنِ شِحْنَة دِمَشْق، فَكَانَ يَشرَب الخَمْر، ثُمَّ تَابَ، وَكَانَ مُحببّاً إِلَى نُوْر الدِّيْنِ يُلاعبُه بِالكُرَة.
وَكَانَتْ وَقعته بِمِصْرَ مَعَ السُّودَان، وَكَانُوا نَحْو مائَتَيْ أَلف، فَنُصِر عَلَيْهِم، وَقَتَلَ أَكْثَرهُم. وَفِي هَذِهِ الأَيَّام اسْتولَى ملك الخَزَر عَلَى دُوِيْن، وَقتلَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً.
حُمَّ صَلاَح الدِّيْنِ، فَفَصده مَنْ لاَ خَبَرَة لَهُ، فَخَارت القُوَّة، وَمَاتَ، فَوَجَد النَّاسُ عَلَيْهِ شبيهاً بِمَا يَجدُوْنَهُ عَلَى الأَنْبِيَاء، وَمَا رَأَيْتُ ملكاً حَزِنَ النَّاس لِمَوْتِهِ سِوَاهُ، لأَنَّه كَانَ مُحببّاً، يُحِبُّه البِرّ وَالفَاجر، وَالمُسْلِم وَالكَافِر، ثُمَّ تَفرّق أَوْلاَده وَأَصْحَابه أَيَادِي سَبَأ، وَتَمزّقُوا. وَلَقَدْ صدق العِمَاد فِي مَدحه حَيْثُ يَقُوْلُ:
وَلِلنَّاسِ بِالمَلِكِ النَّاصِرِ الصَّلاَ ... حِ صلاحٌ ونصرٌ كَبِيْرُ
هُوَ الشَّمْسُ أَفلاَكُهُ فِي البِلاَ ... دِ وَمَطْلَعُهُ سَرْجُهُ وَالسَّرِيْرُ
إِذَا ما سطا أو حبا واحتبى ... فما الليث مِنْ حاتمٍ مَا ثَبِيْرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: بَلَغَنِي أَنّ صَلاَح الدِّيْنِ قَدِمَ بِهِ أَبُوْهُ وَهُوَ رضيعٌ، فَنَاب أَبُوْه بِبَعْلَبَكَّ إِلَى آخذهَا أَتَابك زَنْكِي، وَقِيْلَ: إِنَّهُم خَرَجُوا مِنْ تَكرِيت فِي لَيْلَةِ مَوْلِد صَلاَح الدِّيْنِ، فَتطيَّرُوا بِهِ، فَقَالَ شِيرْكُوْه أَوْ غَيْره: لَعَلَّ فِيْهِ الخَيْر وَأَنْتُم لاَ تَعلمُوْنَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَ شِيرْكُوْه أَرْفَع مَنْزِلَةً عِنْد نُوْر الدِّيْنِ، فَإِنَّهُ كان مقدم جيوشه.
وَوَلِيَ صَلاَح الدِّيْنِ وِزَارَة العَاضد، وَكَانَتْ كَالسلطنَة، فَولِي بَعْد عَمّه سَنَة564، ثُمَّ مَاتَ العَاضد سَنَة67، فَاسْتقلَّ بِالأَمْرِ مَعَ مدَارَاة نُوْر الدِّيْنِ وَمرَاوَغته، فَإِنَّ نُوْر الدِّيْنِ عزم عَلَى قصد مِصْر؛ ليُقيم غَيْر صَلاَح الدِّيْنِ، ثُمَّ فَتَر، وَلَمَّا مَاتَ نُوْر الدِّيْنِ، أَقْبَل صَلاَح الدِّيْنِ ليُقيم نَفْسه أَتَابكاً لولد نُوْر الدِّيْنِ، فَدَخَلَ البَلَد بِلاَ كلفَة، وَاسْتَوْلَى عَلَى الأُمُوْر فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِيْنَ، وَنَزَلَ بِدَارِ العَقِيْقِيّ، ثُمَّ تسلّم القَلْعَة، وَشَال الصَّبيّ مِنَ الْوسط ثُمَّ سَارَ، فَأَخَذَ حِمْص، ثُمَّ نَازل حلب، وَهِيَ الوقعَة الأُوْلَى، فَجَهَّزَ السُّلْطَانُ غَازِي مِنَ المَوْصِل أَخَاهُ عِزّ الدِّيْنِ مسعُوْداً فِي جَيْش، فَرحّله، وَقَدِمَ حِمْص، فَأَقْبَل مَسْعُوْد وَمَعَهُ الْحَلَبِيُّونَ، فَالتقوا عَلَى قرُوْن حَمَاة، فَانْهزم مَسْعُوْد، وَأُسِرَ أُمَرَاؤُهُ، وَسَاقَ صَلاَح الدِّيْنِ، فَنَازل حلب ثَانِياً، فَصَالَحُوْهُ بِبذْلِ المَعَرَّة وَكفرطَاب، وَبلغ غَازِي كَسْرَةُ أَهْله وَأَخِيْهِ، فَعبر الفُرَات، وَقَدِمَ حلب، فَتلقَاهُ ابْن عَمِّهِ الْملك الصَّالِح، ثُمَّ التَقَوا هُم وَصَلاَح الدِّيْنِ، فَكَانَتْ وَقْعَة تلّ السُّلْطَان، وَنُصِرَ صَلاَح الدِّيْنِ أَيْضاً، وَرجع صَاحِب المَوْصِل. ثُمَّ أَخَذَ صَلاَح الدِّيْنِ مَنْبِج وَعزَاز، وَنَازل حلب ثَالِثاً، فَأَخرجُوا إِلَيْهِ بِنْت نُوْر الدِّيْنِ، فَوَهَبهَا عزَاز. وَرد إِلَى مِصْرَ، وَاسْتنَاب عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ صَاحِب اليَمَن تُوْرَانْشَاه، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ سَنَةَ ثَلاَثٍ وَسَبْعِيْنَ، فَالتَقَى الفِرنْج، فَانْكَسَرَ.
ثُمَّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ نَازل حلب، وَأَخَذَهَا، وَعوّض عَنْهَا عِمَاد الدِّيْنِ زَنْكِي بِسِنْجَار وَسَرُوج، وَرتّب بِحَلَبَ وَلده الْملك الظَّاهِر. ثم حاصر الكرك، وجاءت إمدادات الفرنج.
وَفِي شَعْبَان سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِيْنَ نَازل صَلاَح الدِّيْنِ المَوْصِل، وَتردّدت الرُّسُل بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبهَا عِزّ الدِّيْنِ، وَتَمرّض، وَتَأَخّر إِلَى حرَّان، وَاشتدَّ مَرضه، وَحلفُوا لأَوْلاَده بِأَمره، وَأَوْصَى عَلَيْهِم أَخَاهُ العَادل، ثُمَّ مرّ بِحِمْصَ، وَقَدْ مَاتَ صَاحِبهَا نَاصِر الدِّيْنِ مُحَمَّد، ابْن عَمِّهِ، فَأَعْطَاهَا لوَلَده المجاهد شيركوه وله ثنتا عَشْرَةَ سَنَةً.
وَفِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَثَمَانِيْنَ افْتَتَحَ صَلاَح الدِّيْنِ بلاَد الفِرنْج، وَقهرهُم، وَأَبَاد خَضْرَاءهُم، وَأَسَرَ ملوكهُم عَلَى حطّين. وَكَانَ قَدْ نَذر أَن يَقتُل أَرنَاط صَاحِب الكَرَك، فَأَسره يَوْمَئِذٍ، كَانَ قَدْ مرّ بِهِ قَوْم مِنْ مِصْرَ فِي حَال الهُدنَة، فَغَدَرَ بِهِم، فَنَاشدُوْهُ الصُّلح، فَقَالَ مَا فِيْهِ اسْتخفَافٌ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَتَلَهُم، فَاسْتحضر صَلاَح الدِّيْنِ المُلُوْك، ثُمَّ نَاول الْملك جفرِي شربَة جلَّاب ثَلج، فَشرب، فَنَاول أَرنَاط، فَشرب، فَقَالَ السُّلْطَان لِلتَرْجمَان: قل لجفرِي: أَنْتَ الَّذِي سقيتَهُ، وَإِلاَّ أَنَا فَمَا سقَيْتُه، ثُمَّ اسْتحضر البرِنْس أَرنَاط فِي مَجْلِس آخر، وَقَالَ: أَنَا أَنْتصر لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْكَ، ثُمَّ عرض عَلَيْهِ الإِسْلاَم، فَأَبَى، فَحلَّ كتفه بِالنِيمجَاه1. وَافتَتَح عَامَهُ مَا لَمْ يَفتحْهُ ملكٌ، وَطَار صِيْتُهُ فِي الدنيا، وهابته الملوك.
ثُمَّ وَقَعَ النّوح وَالمَأَتم فِي جزَائِر البَحْر وإلى رومية، ونودي بالنفير إلى نُصْرَة الصّليب، فَأَتَى السُّلْطَانَ مِنْ عَسَاكِر الفِرنْج مَا لاَ قِبَلَ لَهُ بِهِ، وَأَحَاطُوا بعكَّا.
وَقَالَ آخر: أَوّل فُتُوْحَاته الإِسْكَنْدَرِيَّة فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ أَهْلُهَا لَمَّا حَاصَرَتْهُم الفِرنْج أَرْبَعَة أَشْهُرٍ، ثُمَّ كشَفَهُم عَنْهُ عَمُّه أَسَد الدِّيْنِ، فَتركهَا، وَقَدِمَا الشَّام. ثُمَّ تَملّك وِزَارَة العَاضد، وَاستتبَّ لَهُ الأَمْرُ، وَأَبَاد آل عُبَيْدٍ وَعَبِيْدَهُم، وَتَملّك دِمَشْق ثُمَّ حِمْص، وَحَمَاة، وَحلب، وَآمِد، وَمَيَّافَارِقِيْن، وَعِدَّة بلاَد بِالجَزِيْرَةِ. وَدِيَار بَكْرٍ. وَبَعَثَ أَخَاهُ، فَافْتَتَحَ لَهُ اليَمَن، وَسَارَ بَعْض عَسْكَره. فَافْتَتَح لَهُ بَعْض المَغْرِب، وَلَمْ يَزَلْ سُلْطَانه فِي ارتقَاء إِلَى أَنْ كَسَرَ الفِرنْج نَوْبَة حطّين. ثُمَّ افْتَتَحَ عكَّا، وَبَيْرُوْت، وَصيدَا، وَنَابُلُس، وَقيسَارِيَّة، وَصَفُّورِيَّة، وَالشَّقِيْف، وَالطُّور، وَحَيْفَا، وَطَبَرِيَّة، وَتبنِيْنَ، وَجُبَيْل، وَعَسْقَلاَن، وَغزَّة، وَالقُدْس، وَحَاصَرَ صُوْر مُدَّة، وَافتَتَح أَنطَرْطُوسَ، وَهُوْنِيْنَ، وَكَوْكَب، وَجَبَلَة، وَاللاَّذِقِيَّة، وَصِهْيَوْن، وَبلاَطُنُس وَالشُّغْرَ، وَبَكَاس، وَسُرمَانِية، وَبُرزَية، وَدربسانَ، وَبَغْرَاس، ثُمَّ هَادن بُرْنُس أَنطَاكيَة، ثُمَّ افْتَتَح الكَرَك بِالأَمَانِ، وَالشَّوْبَك وَصَفَدَ وَشَقِيْف أَرنوْنَ، محضر عِدَّة وَقعَات.
وَخَلَّفَ مِنَ الأَوْلاَدِ: صَاحِبَ مِصْر الْملك العَزِيْز عُثْمَان، وَصَاحِب حلب الظَّاهِر غَازِياً، وَصَاحِب دِمَشْق الأَفْضَل عَلِيّاً، وَالملك المعزَّ فَتح الدِّيْنِ إِسْحَاق، وَالملك المُؤَيَّد مسعُوْداً، وَالملك الأَعزّ يعقوب، والملك المظفر خَضِراً، وَالملك الزَّاهر مُجِيْر الدِّيْنِ دَاوُد، وَالملك المُفَضَّل قُطْب الدِّيْنِ مُوْسَى، وَالملك الأَشرف عزِيز الدِّيْنِ مُحَمَّداً، وَالملك المُحْسِن جمَال المُحَدِّثِيْنَ ظَهِيْر الدِّيْنِ أَحْمَدَ، وَالمُعَظَّم فَخْر الدِّيْنِ تُوْرَانْشَاه، وَالملك الجَوَاد رُكْن الدِّيْنِ أَيُّوْب، وَالملك الغَالِب نصِيْر الدِّيْنِ مَلِكْشَاه، وَعِمَاد الدِّيْنِ شَاذِي، وَنصرَة الدِّيْنِ مَرْوَان، وَالملك المُظَفَّر أَبَا بَكْرٍ، وَالسَّيِّدَة مُؤنسَة زَوْجَة الْملك الكَامِل.
وَحَدَّثَ عَنْهُ: يُوْنُس الفَارِقِيُّ، وَالقَاضِي العِمَاد الكَاتِب.
مرِضَ بِحُمَّى صفرَاوية، وَاحتدّ الْمَرَض، وَحَدَثَ بِهِ فِي التَّاسع رعشَةٌ وَغِيبَة، ثُمَّ حُقِنَ مرَّتين، فَاسْترَاح، وَسرب، ثُمَّ عرق حَتَّى نفذَ مِنَ الفِرَاش، وَقضَى فِي الثَّاني عشر.
تُوُفِّيَ بِقَلْعَة دِمَشْق بَعْد الصُّبْح مَنْ يَوْم الأَرْبعَاء السَّابِع وَالعِشْرِيْنَ مِنْ صفر سَنَة تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
مَحَاسِنُ صَلاَح الدِّيْنِ جَمَّة، لاَ سِيَّمَا الجِهَاد، فَلَهُ فِيْهِ اليَد البيضَاء بِبذل الأَمْوَال وَالخيل المُثَمَّنَة لِجندِه. وَلَهُ عقلٌ جَيِّد، وَفهمٌ، وَحزمٌ، وَعَزَمٌ.
قَالَ العِمَاد: أَطلق فِي مُدَّة حِصَار عكَّا اثْنَيْ عَشَرَ أَلف فَرَس. قَالَ: وَمَا حضَر اللِّقَاء إلَّا اسْتَعَار فَرساً، وَلاَ يَلبس إلَّا مَا يَحلّ لُبْسُهُ كَالكتان وَالقطن، نَزَّه المَجَالِس مِنَ الْهزْل، وَمحَافلُهُ آهلَةٌ بِالفُضَلاَء، وَيُؤثِرُ سَمَاع الحَدِيْث بِالأَسَانِيْد، حليماً، مُقيلاً لِلْعثرَة، تَقيّاً نَقيّاً، وَفِيّاً صفِيّاً، يُغضِي وَلاَ يغضبُ، مَا ردَّ سَائِلاً، وَلاَ خجَّلَ قَائِلاً، كَثِيْرُ البِرِّ وَالصَدَقَات، أَنْكَر عليَّ تحليَةَ دوَاتِي بفِضَّة، فَقُلْتُ: فِي جَوَازه وَجهٌ ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيّ. وَمَا رَأَيْتهُ صَلَّى إلَّا فِي جَمَاعَةٍ.
قُلْتُ: وَحضر وَفَاته القَاضِي الفَاضِل.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ القُرْطُبِيّ إِمَام الكلاّسَة: إِنَّنِي انتهيتُ فِي القِرَاءةِ إِلَى قَوْلِهِ -تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحَشْرُ: 22] ، فَسَمِعْتُ صَلاَح الدِّيْنِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: صَحِيْح. وَكَانَ ذِهْنه قَبْل ذَلِكَ غَائِباً، ثُمَّ مَاتَ، وَغسَّلَه الخَطِيْب الدَّوْلَعِيّ، وَأُخْرِج فِي تَابوت، فَصَلَّى عَلَيْهِ القَاضِي محيي الدين بن الزَّكِيّ، وَأُعيد إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِي البُسْتَان الَّتِي كَانَ مُتَمرِّضاً فِيْهَا، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّة، وَارتفعت الأَصوَات بِالبُكَاء، وَعظُم الضّجيج، حَتَّى إِنَّ العَاقل ليُخيَّل لَهُ أَنَّ الدُّنْيَا كُلّهَا تَصيح صَوْتاً وَاحِداً، وَغَشِي النَّاس مَا شغلهُم عَنِ الصَّلاَة عَلَيْهِ، وَتَأَسَّف النَّاس عَلَيْهِ حَتَّى الفِرنْج لِما كَانَ مِنْ صدق وَفَائِهِ. ثُمَّ بَنَى وَلده الأَفْضَل قُبَّةً شمَالِي الجَامِع، وَنقلَهُ إِلَيْهَا بَعْد ثَلاَث سِنِيْنَ، فَجَلَسَ هُنَاكَ لِلْعزَاء ثَلاَثاً.
وَكَانَ شَدِيد القوَى، عَاقِلاً، وَقُوْراً، مَهِيْباً، كَرِيْماً، شُجَاعاً.
وَفِي "الرَّوْضَتين" لأَبِي شَامَة: أَنَّ السُّلْطَان لَمْ يُخلِّف فِي خزَانته مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّة إلَّا سَبْعَة وَأَرْبَعِيْنَ دِرْهَماً، وَدِيْنَاراً صُوْرِيّاً، وَلَمْ يُخَلِّف مِلْكاً وَلاَ عقَاراً رَحِمَهُ الله، وَلَمْ يَخْتلف عَلَيْهِ فِي أَيَّامِهِ أَحَد مَنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْمنُوْنَ ظلمَه، وَيَرجُوْنَ رِفْدَه، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَصِلُ عطَاؤُه إِلَى الشّجعَانِ، وَإِلَى العُلَمَاءِ، وَأَربَابِ البيوتَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ لمبطلٍ وَلاَ لمزاح عنده نصيب.
قَالَ المُوَفَّق: وُجِدَ فِي خزَانته بَعْد مَوْته دِيْنَارٌ وَثَلاَثُوْنَ دِرْهَماً، وَكَانَ إِذَا نَازل بَلَداً، وَأَشرف عَلَى أَخذهِ، ثُمَّ طلبُوا مِنْهُ الأَمَان، آمنهُم، فِيتَأَلَّم لِذَلِكَ جَيْشه، لفوَات حظِّهم.
قَالَ القَاضِي بَهَاء الدِّيْنِ ابْن شَدَّاد: قَالَ لِي السُّلْطَان فِي بَعْضِ محَاورَاته فِي عقد الصُّلح: أَخَاف أَنْ أصَالِحَ، وَمَا أَدْرِي أَيش يَكُوْن مِنِّي، فِيقوَى هَذَا العَدُوّ، وَقَدْ بقيَتْ لَهُم بلاَدٌ، فِيخرجُوْنَ لاستعَادَة مَا فِي أَيدِي المُسْلِمِيْنَ، وَترَى كُلّ وَاحِد مِنْ هَؤُلاَءِ يَعْنِي أَخَاهُ وَأَولادَهم قَدْ قَعَدَ فِي رَأْس تَلِّهِ يَعْنِي قَلعته وَيَقُوْلُ: لاَ أَنْزِلُ، وَيهلك المُسْلِمُوْنَ.
قَالَ ابْنُ شَدَّادٍ: فَكَانَ -وَاللهِ- كَمَا قَالَ، اخْتلفُوا، وَاشْتَغَل كُلُّ وَاحِدٍ بِنَاحِيَتِه، وَبَعُدَ، فَكَانَ الصُّلحُ مصلحَةً.
قُلْتُ: مِنْ لُطفِ الله لمَا تَنَازع بَنُوْ أَيُّوْب، وَاخْتَلَفُوا يَسَّر الله بِنقصِ همَّة الأَعْدَاء، وَزَالت تِلْكَ الشَّهَامَة مِنْهُم.
وَكَتَبَ القَاضِي الفَاضِل تَعزِيَةً إِلَى صَاحِب حلب: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأَحزَاب: 21] ، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحَجّ: 1] ، كَتَبتُ إِلَى مَوْلاَنَا الْملك الظَّاهِر أَحْسَنَ الله عزَاءهُ، وَجَبَر مُصَابَهُ، وَجَعَلَ فِيْهِ الخلفَ مِنَ السَّلَف فِي السَّاعَة المَذْكُوْرَة، وَقَدْ زُلْزِلَ المُسْلِمُوْنَ زلزَالاً شدِيداً، وَقَدْ حضَرَتِ الدُّمُوعُ المَحَاجر، وَبَلَغتِ القُلُوْبُ الحنَاجر، وَقَدْ وَدَّعتُ أَبَاك وَمخدومِي وَدَاعاً لاَ تلاَقِي بَعْدَهُ، وَقبَّلتُ وَجهَهُ عَنِّي وَعنكَ، وَأَسلَمْتُهُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ مغلوبَ الحيلَةِ، ضَعِيْفَ القُوَّةِ، رَاضياً عَنِ اللهِ، وَلاَ حُوْل وَلاَ قوّة إلَّا بِاللهِ. وَبِالبَاب مِنَ الجُنُوْد المجنّدَة، وَالأَسلحَة المعمدَة مَا لَمْ يَدْفَعِ البَلاَء، وَلاَ مَا يَردُّ القَضَاء، تَدْمَع العينُ، وَيَخشعُ القَلْبُ، وَلاَ نَقُوْل إلَّا مَا يَرضِي الرّبَّ، وَإِنَّا بِك يَا يُوْسُف لمحزونُوْنَ. وَأَمَّا الوصَايَا، فَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَالآرَاءُ، فَقَدْ شَغَلنِي المصَابُ عَنْهَا، وَأَمَّا لاَئِح الأَمْر، فَإِنَّهُ إِن وَقَعَ اتِّفَاقٌ، فَمَا عدِمْتُم إلَّا شَخْصَهُ الكَرِيْم، وَإِنْ كَانَ غَيْر ذَلِكَ، فَالمصَائِبُ المستقبلةُ أَهونُهَا مَوْته.
وَلِلْعَلَم الشَّاتَانِيِّ فِيْهِ قصيدَة مطلعهَا:
أَرَى النَّصْرَ مَقْرُوْناً بِرَايَتِكَ الصَّفْرَا ... فَسِرْ وَاملِكِ الدُّنْيَا فَأَنْت بِهَا أحرى
وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْن التَّعَاوِيْذِيّ بِقَصِيدَتِهِ الطنَّانَة الَّتِي أَوَّلهَا:
إِنْ كَانَ دِيْنُكَ فِي الصَّبَابَةِ دينِي ... فَقِفِ المَطِيَّ برَمْلَتَي يَبرِيْنِ
وَالْثِمْ ثَرَىً لَوْ شَارَفَتْ بِي هُضْبَهُ ... أَيدِي المَطِيِّ لَثَمْتُهُ بِجفُونِي
وَأَنْشَدَ فُؤَادِي فِي الظِّبَاءِ مُعَرِّضاً ... فَبِغَيْر غِزْلاَنِ الصَّرِيْمِ جُنُوْنِي
وَنَشيدَتِي بَيْنَ الخيَامِ وَإِنَّمَا ... غَالَطْتُ عَنْهَا بِالظِّبَاءِ العِينِ
للهِ مَا اشتَمَلَتْ عَلَيْهِ فتاتُهُم ... يَوْمَ النَّوَى مِنْ لؤلؤٍ مَكنُوْنِ
مِنْ كُلِّ تائهةٍ عَلَى أَترَابهَا ... فِي الحُسْنِ غانيةٍ عَنِ التّحْسِيْن
خودٍ يُرَى قَمَرُ السَّمَاءِ إِذَا رَنَتْ ... مَا بَيْنَ سالفةٍ لَهَا وَجَبِيْنِ
يَا سُلْمَ إِنْ ضَاعَت عُهُودِي عِنْدكُم ... فَأَنَا الَّذِي استَوْدَعْتُ غَيْرَ أَمِيْنِ
هَيْهَاتَ مَا لِلبيْضِ فِي وُدِّ امرئٍ ... أربٌ وَقَدْ أَربَى عَلَى الخَمْسِيْنِ
لَيْتَ البَخِيْلَ عَلَى المُحِبِّ بِوَصْلِهِ ... لَقِنَ السّماحة من صلاح الدّين
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.
صلاح الدين الأيوبي
(532 - 589 هـ = 1137 - 1193 م)
يوسف بن أيوب بن شاذي، أبو المظفر، صلاح الدين الأيوبي، الملقب بالملك الناصر:
من أشهر ملوك الإسلام. كان أبوه وأهله من قرية دُوين (في شرقي أذربيجان) وهم بطن من الروادية، من قبيلة الهذانية، من الأكراد. نزلوا بتكريت، وولد بها صلاح الدين، وتوفي فيها جده شاذي. ثم ولي أبوه (أيوب) أعمالا في بغداد والموصل ودمشق. ونشأ هو في دمشق، وتفقه وتأدب وروى الحديث بها وبمصر والإسكندرية، وحدّث في القدس. ودخل مع أبيه (نجم الدين) وعمه (شيركوه) في خدمة نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي (صاحب دمشق وحلب والموصل) واشترك صلاح الدين مع عمه شيركوه في حملة وجهها نور الدين للاستيلاء على مصر (سنة 559 هـ فكانت وقائع ظهرت فيها مزايا صلاح الدين العسكرية. وتم لشيركوه الظفر أخيرا، باسم السلطان نور الدين، فاستولى على زمام الأمور بمصر، واستوزره خليفتها العاضد الفاطمي.
ولكن شيركوه ما لبث أن مات. فاختار العاضد للوزارة وقيادة الجيش صلاح الدين، ولقبه بالملك الناصر. وهاجم الفرنج دمياط، فصدهم صلاح الدين. ثم استقل بملك مصر، مع اعترافه بسيادة نور الدين. ومرض العاضد مرض موته، فقطع صلاح الدين خطبته، وخطب للعباسيين، وانتهى بذلك أمر الفاطميين. ومات نور الدين (سنة 569) فاضطربت البلاد الشامية والجزيرة، ودُعى صلاح الدين لضبطها، فأقبل على دمشق (سنة 570) فاستقبلته بحفاوة. وانصرف إلى ما وراءها، فاستولى على بعلبكّ وحمص وحماة وحلب. ثم ترك حلب للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، وانصرف إلى عملين جديين: أحدهما الإصلاح الداخلي في مصر والشام، بحيث كان يتردد بين القطرين، والثاني دفع غارات الصليبيين ومهاجمة حصونهم وقلاعهم في بلاد الشام. فبدأ بعمارة قلعة مصر، وأنشأ مدارس وآثارا فيها. ثم انقطع عن مصر بعد رحيله عنها سنة 578 إذ تتابعت أمامه حوادث الغارات وصد الاعتداآت الفرنجية في الديار الشامية، فشغلته بقية حياته. ودانت لصلاح الدين البلاد من آخر حدود النوبة جنوبا وبرقة غربا إلى بلاد الأرمن شمالا، وبلاد الجزيرة والموصل شرقا. وكان أعظم انتصار له على الفرنج في فلسطين والساحل الشامي " يوم حطين " الّذي تلاه استرداد طبرية وعكا ويافا إلى ما بعد بيروت، ثم افتتاح القدس (سنة 583) ووقائع على أبواب صور، فدفاع مجيد عن عكا انتهى بخروجها من يده (سنة 587) بعد أن اجتمع لحربه ملكا فرنسا وانكلترة بجيشيهما وأسطوليهما. وأخيرا عقد الصلح بينه وبين كبير الفرنج ريكارد قلب الأسد Richard Coeur de Lion (ملك انكلترة) على أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يسمح لحجاجهم بزيارة بيت القدس وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين. وعاد " ريكارد " إلى بلاده.
وانصرف صلاح الدين من القدس، بعد أن بني فيها مدارس ومستشفيات. ومكث في دمشق مدة قصيرة انتهت بوفاته. وكان رقيق النفس والقلب، على شدة بطولته، رجل سياسة وحرب، بعيد النظر، متواضعا مع جنده وأمراء جيشه، لا يستطيع المتقرب منه إلا أن يحس بحب له ممزوج بهيبة. اطلع على جانب حسن من الحديث والفقه والأدب ولا سيما أنساب العرب ووقائعهم، وحفظ ديوان الحماسة.
ولم يدخر لنفسه مالا ولا عقارا. وكانت مدة حكمه بمصر 24 سنة، وبسورية 19 سنة، وخلف من الأولاد 17 ذكرا وأنثى واحدة. وللمصنفين كتب كثيرة في سيرته، منها: كتاب"الروضتين - ط " ل أبي شامة، في تاريخ دولته ودولة نور الدين، و " النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية - ط " لابن شداد، ويسمى " سيرة صلاح الدين " و " البرق الشامي - خ " سبعة أجزاء، في أخباره وفتوحاته وحوادث الشام في أيامه، لعماد الدين الكاتب، و " النفح القُسى في الفتح القدسي - ط " لعماد الدين أيضا، و " صلاح الدين الأيوبي وعصره - ط " لمحمد فريد أبي حديد، و " حياة صلاح الدين الأيوبي - ط " لأحمد بيلي المصري .
-الاعلام للزركلي-