أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر العتيق الصديق القرشي التيمي
أبي بكر الصديق عبد الله
تاريخ الولادة | -50 هـ |
تاريخ الوفاة | 13 هـ |
العمر | 63 سنة |
مكان الولادة | مكة المكرمة - الحجاز |
مكان الوفاة | المدينة المنورة - الحجاز |
أماكن الإقامة |
|
- عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي "أبو عبد الرحمن"
- يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب القرشي الأموي أبي خالد "يزيد الخير"
- حضين بن المنذر بن الحارث الرقاشي أبي ساسان "أبي محمد"
- سعيد بن سنان البرجمي أبي سنان
- إبراهيم بن محمد بن حاطب الجمحي
- نفيع أبي رافع الصائغ المدني البصري
- قيس بن عوف بن عبد الحارث بن عوف بن حشيش الأحمسي "قيس بن أبي حازم البجلي أبي عبد الله"
- عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي الكناني أبي الطفيل
- عبد العزيز بن جريج القرشي
- شقيق بن سلمة أبي وائل الأسدي الكوفي
- أوسط بن إسماعيل البجلي
- مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله الهمداني الوادعي "أبي عائشة"
- عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق القرشي التميمي "أبي محمد"
- قبيصة بن ذؤيب بن عمرو أبي سعيد الخزاعي المدني الدمشقي "أبي إسحاق"
- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة الكوفي النخعي
- جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي أبي عبد الرحمن
- سعد بن مالك بن سنان أبي سعيد الخدري المخزومي الأنصاري الخزرجي "أبي سعيد الخدري"
- عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل الصنابحي أبي عبد الله
- الأسود بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي أبي عبد الرحمن
- قيس بن أبي حازم الأحمسي أبي عبد الله
- معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب أبي عبد الرحمن الأموي القرشي "الناصر لحق الله"
- أبي حمزة أنس بن مالك بن النضر الخزرجي الأنصاري النجاري "خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم"
- عمرو بن حريث بن عمرو أبي سعيد المخزومي القرشي
- سويد بن غفلة بن عوسجة أبي أمية الجعفي الكوفي
- طارق بن شهاب بن عبد شمس أبي عبد الله الأحمسي البجلي
- نضلة بن عبيد بن الحارث الأسلمي "أبي برزة الأسلمي"
- المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب القرشي الزهري "أبي عبد الرحمن المسور"
- البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الحارثي أبي عمارة
- عبد الله بن الزبير بن العوام أبي بكر القرشي الأسدي "عبد الله بن الزبير بن العوام"
- عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي القرشي أبي نضير
- كثير بن الصلت بن معديكرب الكندي أبي عبد الله
- محمد بن أبي بكر الصديق أبي القاسم
- معاذ بن الحارث بن الأرقم الأنصاري الخزرجي أبي حليمة "القاري معاذ"
- عبد الرحمن بن أبزى الكوفي الخزاعي
- زينب بنت جابر الأحمسية
- حية بنت أبي حية
- زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي أبي مليكة
- سليم بن عامر أبي عامر
- أبي زياد مولى بني جمح
- سعيد بن نمران الهمداني
- فضالة بن أمية
- النعمان بن قيس الحضرمي
- النزال بن سبرة الهلالي
- مرة الطيب بن شراحيل أبي إسماعيل البكيلي الهمداني الكوفي "مرة الخير"
- كثير بن العباس بن عبد المطلب أبي تمام الهاشمي الحجازي
- عبد خير بن يزيد أو يحمد بن خولي أبي عمارة الهمداني الكوفي
- قيس بن ثور بن مازن السلولي أبي عمرو "أبي بكر قيس"
- عبد الله بن أبي الهذيل أبي المغيرة العنزي الكوفي
- يزيد بن عميرة الزبيدي الكندي السكسكي الحمصي
نبذة
الترجمة
أَبُو بكر الصّديق: خَليفَة رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-
واسْمه عبد الله - وَيُقَال: عَتيق بن أبي قُحَافَة - عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي، الْقرشِي التَّيْمِيّ -رَضِي الله عَنهُ-.
توفى أَبوهُ [أَبُو] قُحَافَة بعد وَلَده أبي بكر الصّديق بِسِتَّة أشهر - فِي الْمحرم - عَن بضع وَتِسْعين سنة.
وَقد أسلم أَبُو قُحَافَة يَوْم الْفَتْح؛ فَأتى بِهِ إبنه أَبُو بكر هَذَا يَقُودهُ إِلَى النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- لكبره؛ فَقَالَ النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: ((لم لَا تركت الشَّيْخ حَتَّى آتيه)) - إجلالا لأبي بكر - رَضِي الله عَنْهُمَا -.
بُويِعَ [أَبُو بكر الصّديق - رَضِي لله عَنهُ -] بالخلافة بعد وَفَاة [رَسُول الله]-[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وتمت بيعَته فِيهَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين.
فَائِدَة: قيل: إِن الَّذين أطلق عَلَيْهِم خَليفَة ثَلَاثَة: آدم وَدَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَام - بِلَفْظ الْقُرْآن، وَأَبُو بكر الصّديق بِإِجْمَاع الْمُسلمين. إنتهى. وَأمه - رَضِي الله عَنهُ - أم الْخَيْر، وَاسْمهَا: سلمى. قَالَ [الْحَافِظ] الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخه: كَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَبيض أصفر، لطيفا، جَعدًا، مسيدق الْوَرِكَيْنِ، لَا يلبث أزاره على وركيه.
وَجَاء: أَنه أتجر إِلَى بصرى غير مرّة، وَأَنه أنْفق أَمْوَاله على النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- وَفِي [سَبِيل الله] .
قَالَ رَسُول الله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]-: [مَا نَفَعَنِي مَال] ، ((مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر)) وَقَالَ عُرْوَة: أسلم أَبُو بكر - يَوْم أسلم - وَله أَرْبَعُونَ ألف دِينَار.
وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: يَا رَسُول الله! أَي الرِّجَال أحب إِلَيْك؟ قل: ((أَبُو بكر)) . [و] قَالَ أَبُو سُفْيَان عَن جَابر قَالَ رَسُول لله -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- ((لَا يبغض أَبَا بكر وَعمر مُؤمن وَلَا يحبهما مُنَافِق)) .
وَقَالَ [الشّعبِيّ عَن الْحَارِث] عَن عَليّ: أَن النَّبِي -[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]- نظر إِلَى أبي بكر وَعمر؛ فَقَالَ: ((هَذَانِ سيدا كهول أهل الْجنَّة من الْأَوَّلين والآخرين إِلَّا النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ، لَا تخبرهما يَا عَليّ)) . وروى نَحوه من وُجُوه.
قلت: وَاسْتمرّ فِي الْخلَافَة، إِلَى أَن توفى مسموما فِي يَوْم الثُّلَاثَاء. وَقيل: لَيْلَة الْأَحَد لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة.
وَكَانَت خِلَافَته -[رَضِي الله عَنهُ]- سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام.
وعهد بالخلافة من بعده إِلَى عمر [بن الْخطاب]-[رَضِي الله عَنهُ]-.
وَفِي آخر أَيَّامه كَانَت وقْعَة اليرموك، وَهِي [الْوَقْعَة] الَّتِي فتح الله بهَا الشَّام.
وَكَانَ الْمُتَوَلِي لَهَا خَالِد بن الْوَلِيد وَأَبُو عُبَيْدَة.
قلت: ومناقب الإِمَام كَثِيرَة تضيق المطولات عَن حصرها؛ فَكيف هَذَا الْمُخْتَصر؟ ! .
وَلَيْسَ الْغَرَض هُنَا إِلَّا إِثْبَات وَفَاته وَمُدَّة خِلَافَته - رَضِي الله عَنهُ -.
مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة - يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، أبو المحاسن، جمال الدين.
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنِّي جَالِسَةٌ ذَاتَ يَوْمٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي فِنَاءِ الْبَيْتِ، إِذْ أَقْبَلَ أَبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّ اسْمَهُ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ حِينَ مَوْلِدِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَتِيقِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ صِفَتِهِ وَمَوْلِدِهِ وَوَفَاتِهِ
رُوِيَ عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، كَأَنَّ لِحْيَتَهُ لَهَبُ الْعَرْفَجِ، عَلَى نَاقَةٍ لَهُ أَدْمَاءَ أَبْيَضَ خَفِيفًا.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَخْتَضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ثَلَاثَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَصْبَحُ قُرَيْشٍ وُجُوهًا، وَأَحْسَنُهَا أَحْلَامًا، وَأَثْبَتُهَا حَيَاءً، إِنْ حَدَّثُوكَ لَمْ يَكْذِبُوكَ، وَإِنْ حَدَّثْتَهُمْ لَمْ يُكَذِّبُوكَ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: اسْتَكَمَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخِلَافَتِهِ سِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تَذَاكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِيلَادَيْهِمَا عِنْدِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ، الَّذِي عَاشَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ: تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشَرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، لِثَلَاثٍ بَقَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ وَنِصْفَ، وَغَسَّلَتْهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، بِوَصِيَّتِهِ إِلَيْهَا، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَدَفَنَهُ لَيْلًا، وَنَزَلَ قَبْرَهُ عُمَرُ وَطَلْحَةُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ.
دُفِنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَرَأْسُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّوَارِيخِ: كَانَ أَبْيَضَ نَحِيفًا، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، نَقْشُ خَاتَمِهِ: نِعْمَ الْقَادِرُ اللَّهُ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ إِسْلَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ النَّاسِ إِسْلَامًا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَثَاقُلَ النَّاسِ، قَالَ «أَلَسْتُ أَوَّلَ مِنْ أَسْلَمَ» ؟ .
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ؟ ، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سمعت قَوْلَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ، وَأَوْفَاهَا بِمَا حِمَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَقَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ.
فَصْلٌ فِي وَرَعِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَمْلُوكٌ يَغُلُّ عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ لَيْلَةً بِطَعَامٍ، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ الْمَمْلُوكُ: مَالَكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ وَلَمْ تَسْأَلْنِي اللَّيْلَةَ؟ قَالَ «حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ الْجُوعُ.
مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِهَذَا» ؟ قَالَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَقِيتُ لَهُمْ، فَوَعَدُونِي، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمَ مَرَرْتُ بِهِمْ، فَإِذَا عُرْسٌ لَهُمْ، فَأَعْطُونِي.
قَالَ: «أُفٍّ لَكَ، كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي» ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ، فَجَعَلَ يَتَقَيَّأُ، وَجَعَلَتْ لَا تَخْرُجُ، فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِالْمَاءِ، فَدَعَا بِعَسٍّ مِنْ مَاءٍ، وَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَتَقَيَّأُ، حَتَّى رَمَى بِهَا، فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ، قَالَ: " لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ ".
فَصْلٌ فِي زُهْدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَسْقَى فَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَعَسَلٌ، فَلَمَّا أُدْنِيَ مِنْ فِيهِ بَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَسَكَتَ وَمَا سَكَتُوا، ثُمَّ عَادَ فَبَكَى، حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا يَقْدِرُوا عَلَى مَسْأَلَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ فَأَفَاقَ، فَقَالُوا: مَا أَهَاجَكَ عَلَى هَذَا الْبُكَاءِ؟ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدْفَعُ عَنْهُ شَيْئًا: «إِلَيْكِ عَنِّي، إِلَيْكِ عَنِّي» ، وَلَمْ أَرَ مَعَهُ أَحَدًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَاكَ تَدْفَعُ عَنْكَ شَيْئًا وَلَمْ أَرَ مَعَكَ أَحَدًا! ، قَالَ: " هَذِهِ الدُّنْيَا تَمَثَّلَتْ لِي بِمَا فِيهَا، فَقُلْتُ لَهَا: إِلَيْكِ عَنِّي، فَتَنَحَّتْ "، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ إِنْ أفَلتَّ مِنِّي لَا يُفْلِتْ مِنِّي مَنْ بَعْدَكَ، فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ قَدْ لَحِقَتْ بِي، فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَذًى
رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: أَتَى الصَّرِيخُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا وَإِنَّ لَهُ غَدَائِرَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَهُوَ يَقُولُ: " وَيْلَكُمْ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] "، قَالَتْ: فَلَهَوْا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْبَلُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ إِلَّا جَاءَ مَعَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ إِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَصَدَقَتِهِ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا.
قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» فَقُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ: لَا أُسَابِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
فَصْلٌ فِي كَوْنِهِ فِي الْغَارِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوِقَايَتِهِ إِيَّاهُ بِنَفْسِهِ وَدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ
رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَدْخُلَ قَبْلَكَ، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةٌ أَوْ شَيْءٌ كَانَتْ بِي قَبْلَكَ.
قَالَ: «ادْخُلْ» ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ بِيَدِهِ، فَكُلَّمَا رَأَى جُحْرًا مَالَ بِثَوْبِهِ فَشَقَّهُ ثُمَّ أَلْقَمَهُ الْجُحْرَ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَوْبِهِ أَجْمَعَ فَبَقِيَ جُحْرٌ فَوَضَعَ عَقَبِهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ ثَوْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَبَا بَكْرٍ مَعِيَ فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ خُطَبِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَكَلَامِهِ
رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ «أَيْنَ الْوُضَاةُ الْحَسَنَةُ وُجُوهُهُمْ، الْمُعْجَبُونَ بِشَبَابِهِمْ؟ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ بَنَوْا الْمَدَائِنَ وَحَصَّنُوهَا بِالْحِيطَانِ؟ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُعْطَوْنَ الْغَلَبَةَ فِي مَوَاطِنِ الْحَرْبِ؟ قَدْ تَضَعْضَعَ بِهِمُ الدَّهْرُ، فَأَصْبَحُوا فِي ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ. الْوَحَا الْوَحَا، النَّجَاةَ النَّجَاةَ» .
وَعَنْ أَبِي السَّفْرِ، قَالَ: مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَادُوهُ، فَقَالُوا: أَلَا نَدْعُو لَكَ بِالطَّبِيبِ؟ قَالَ: «قَدْ رَآنِي» ، فَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ؟ قَالَ: " قَالَ: إنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ ".
وَعَنْ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَجْذِبُ لِسَانَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَهْ.
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، قَالَ: «إنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ» .
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «طُوبَى لِمَنْ مَاتَ فِي النَّأْنَأَةِ» .
قِيلَ: وَمَا النَّأْنَأَةِ.
قَالَ: «جِدَّةُ الْإِسْلَامِ» .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُكُمْ فَيُضْرَبُ عُنُقُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْبَحَ فِي غَمْرَةِ الدُّنْيَا» .
وَقِيلَ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَسْتَعْمِلَ أَهْلَ بَدْرٍ؟ قَالَ: «إِنِّي أَرَى مَكَانَهُمْ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُدَنِّسَهُمْ بِالدُّنْيَا» .
وَعَنْ قَيْسٍ، قَالَ: " اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِلَالًا بِخَمْسِ أَوَاقٍ ذَهَبًا، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَبَيْتَ إِلَّا أُوقِيَّةً لَبِعْنَاكَهُ، قَالَ: لَوْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مِائَةَ أُوقِيَّةٍ لَأَخَذْتُهُ.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَجْمَعٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ شَرِبْتَ خَمْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، قِيلَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصُونُ عِرْضِي وَأَحْفَظُ مُرُوءَتِي، لِأَنَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ كَانَ لِعِرْضِهِ وَمُرُوءَتِهِ بِهِ مُضَيِّعًا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ»
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، قَالَ: " لَمَّا حَضَرَ أَبَا بَكْرٍ الْمَوْتُ ذَكَرَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ عَلَى النَّاسِ فَأَتَاهُ نَاسٌ، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا لَقِيتُهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ وَقَدْ عَرَفْتَ شِدَّتَهُ وَفَظَاظَتَهُ، فَقَالَ: أَبِاللَّهِ تُخَوِّفُونِي؟ أَقُولُ: يَا رَبِّ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ، ثُمَّ دَعَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عُمَرُ إِذَا وُلِّيتَ عَلَى النَّاسِ غَدًا، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا، وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ.
وَحُقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ الْحَقُّ غَدًا أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَحُقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ الْبَاطِلُ غَدًا، أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَذَكَرَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئِهِمْ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ: إِنِّي أَخَافُ أَلَّا أَلْحَقَ بِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ فَذَكَرَهُمْ بِأَسْوَءِ أَعْمَالِهِمْ، وَرَدَّ أَعْمَالَهُمْ جَهَنَّمَ، فَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ قُلْتُ: إِنِّي أَرْجُو أَلَّا أَكُونَ مَعَ هَؤُلَاءِ، لِيَكُنِ الْعَبْدُ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَتِهِ فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي، فَلَا يَكُ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَهُوَ آتِيكَ، وَإِنْ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُ غَائِبٌ أبَغْضَ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ ".
فَصْلٌ فِي إِشَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ
رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، قَالَ: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ تُكَلِّمُهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ، تَعْنِي الْمَوْتَ، قَالَ: «فَأْتِ أَبَا بَكْرٍ» .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ: هَلُمَّ أُبَايِعْكَ فَإِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّكَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ؛ أُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَجُلٍ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَا حَتَّى قُبِضَ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتَ أَوْ - أَرَدْتَ - أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَآتِيهِ، فَأَعْهَدُ؛ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُوُنَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ ".
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِيطَ بِأَبِي بَكْرٍ عُمَرُ، وَنِيطَ بِعُمَرَ عُثْمَانُ» فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عَنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا ذِكْرُ نَوْطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ: " هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِي.
فَصْلٌ
رُوِيَ أنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ يَذْكُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ جَمْعًا:
ثَلَاثَةٌ بَرَزُوا بِفَضْلِهِمُ ... نَضَّرَهُمْ رَبُّنَا إِذِ انْتَشَرُوا
فَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ بَصَرٌ ... يُنْكِرُ تَفَضِيلَهُمْ إِذَا ذُكِرُوا
سَارُوا بِلَا فُرْقَةٍ حَيَاتَهُمُ ... فَاجْتَمَعُوا فِي الْمَمَاتِ إِذْ قُبِرُوا
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ لِي هَارُونَ الرَّشِيدُ: كَيْفَ كَانَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِمَا؟ قُلْتُ: كَمَنْزِلَتِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا، قَالَ: يَا مَالِكُ شَفَيْتَنِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] فَهَؤُلَاءِ سَمَّوْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَزْرَى عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
فَصْلٌ فِي إِعْتَاقِ أَبِي بَكْرٍ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ
رُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِبِلَالٍ، وَهُوَ يُعَذَّبُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ يَا بِلَالُ.
ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَيَقُولُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا: أَيْ ذَا حَنَانٍ. وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ حَتَّى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمًا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي جُمَحٍ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذَا الْمِسْكِينِ؟ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ.
عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدٌ، أَجْلَدُ مِنْهُ وَأَقْوَى، عَلَى دِينِكَ، أُعْطِيكَهُ، قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، قَالَ: هُوَ لَكَ، فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلَامَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَّ رِقَابٍ، بِلَالٌ سَابِعُهُمْ: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأُمُّ عُمَيْسٍ وَزُبَيْرَةَ فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا أَذْهَبَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى فَقَالَتْ: كَذَبُوا، وَبَيْتِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، وَلَا يَنْفَعَانِ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا بَصَرَهَا، وَأَعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا وَكَانَتَا لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَمَرَّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا يَطْحَنَانِ لَهَا وَهِيَ تَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حِلًّا يَا أُمَّ فُلَانٍ.
قَالَتْ: أَحِلًّا؟ أَنْتَ أَفْسَدْتُهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا.
قَالَ: فَبِكَمْ هُمَا؟ قَالَتْ: بِكَذَا وَكَذَا.
قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُمَا، وَهُمَا حُرَّتَانِ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا، وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعَذِّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَهُوَ يَضْرِبُهَا حَتَّى إِذَا مَلَّ فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ.
فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَهُوَ يَذْكُرُ بِلَالًا، وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَإِعْتَاقِ أَبِي بَكْرٍ إِيَّاهُمْ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا:
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا عَنْ بِلَالٍ وَصَحْبِهِ ... عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلِ
عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلَالٍ بِسَوْأَةٍ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذَرُ الْمَرْءُ ذُو الْعَقْلِ
بِتَوْحِيدِهِ رَبَّ الْأَنَامِ وَقَوْلِهِ ... شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي عَلَى مَهْلِ
فَإِنْ تَقْتُلُونِي تَقْتُلونِي وَلَمْ أَكُنْ ... لِأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْلِ
فَيَارَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُسَ ... وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لَا تُمْلِي
لِمَنْ ظَلَّ يَهْوَى الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ ... عَلَى غَيْرِ بِرٍّ كَانَ مِنْهُ وَلَا عدْلِ
قَوْلُهُ: لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا: أَيْ ذَا حَنَانٍ، وَالْحَنَانُ الرَّحْمَةُ، أَيْ أَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَأَدْعُو لَهُ.
وَقَوْلُهُ: حِلًّا: أَيْ قَوْلُهُ: إِنَّ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: تَحَلَّلَ: أَيْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ
عَنْ أَبِي الْعَطُوفِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: «مَا قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ، فقُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ» ، فَقَالَ:
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ ... طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إِذْ صَعَّدُوا الْجَبَلَا
وَكَانَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلَا
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ، هُوَ كَمَا قُلْتَ»
فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فُقِدْتَ مِنْ مَجَالِسِ أَهْلِكَ وَاتَّهَمُوكَ بِالْعَيْبِ لِآبَائِهَا وَأُدَبَائِهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي رسولُ اللَّهِ أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ» ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي مِنْ كَلَامِهِ، أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ، وَمَضَى فَرَاحَ بِعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَأَسْلَمُوا، وَجَاءَ مِنَ الْغَدِ بِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَبِي عُبَيْدَةِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ، فَأَسْلَمُوا.
فَلَمَّا أَنِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهُورِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ: إِنَّا قَلِيلٌ "، فَلَمْ يَزَلْ يُلِحُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، وَكُلُّ رَجُلٍ مَعَ عَشِيرَتِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ خَطِيبًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، وَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُونَهُمْ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ، وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا بِوَجْهِهِ، وَأَثَّرَ عَلَى وَجْهِ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى لَا يُعْرَفُ أَنْفُهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَجَاءَتْ بَنُو تَيْمٍ تَتَعَادَى، فَأَجْلُوا الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَمَلُوا أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ، يَعْنِي فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، وَرَجَعُوا فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ، وَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَهُمْ فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَنَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَعَذَلُوهُ، وَقَالُوا لِأُمِّ الْخَيْرِ بِنْتَ صَخْرٍ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا، أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ وَأَلَحَّتْ، جَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ، قَالَ: فَاذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ ابْنَةِ الْخَطَّابِ فَسَلِيهَا عَنْهُ، فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ تُحِبِّي أَنْ أَمْضِي مَعَكَ إِلَى ابْنِكِ فَعَلْتُ، قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَضَيَتَا حَتَّى وَجَدَتَا أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا، فَرَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ، وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: إِنَّ قَوْمًا نَالُوا مِنْكَ هَذَا لَأَهْلُ فِسْقٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ لَكَ.
قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: هَذِهِ أمُّكَ تَسْمَعُ، قَالَ: فَلَا عَيْنَ عَلَيْكِ، قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ قَالَتْ: هُوَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ، قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوقَ طَعَامًا، أَوْ شَرَابًا، أَوْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَأَمْهَلَنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ، أَيْ رِجْلُ النَّاسِ، وَسَكَنَ النَّاسُ، خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَانْكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِقَّةً شَدِيدَةً.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ مَالُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ أَلْفُ أُوقِيَّةٍ فِضَّةً، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا مَالٌ قُرَشِيٌّ قَطُّ، ثُمَّ أَنْفَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي اللَّهِ.
قِيلَ: كَانَ غَايَةُ الْغِنَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَلْفَ أُوقِيَّةٍ فِضَّةٍ، وَفِي الْأَنْصَارِ حَدَادُ أَلْفِ وَسْقٍ، قِيلَ: الْوَسْقُ حِمْلُ بَعِيرٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: «عَائِشَةُ» ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي النِّسَاءَ إِنَّمَا أَعْنِي الرِّجَالَ، فَقَالَ: «أَبُوهَا» .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ أبَا بَكْرٍ، زوّجَنِي ابْنَتَهُ، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَأَعْتَقَ بِلَالًا مِنْ مَالِهِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا، وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ أَحَدُهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، لَنَظَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: " يَا أبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ وُضِعَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى إِيمَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَرَجَحَ بِهَا» .
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَمَّارُ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي بِفَضَائِلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ حدَّثْتُكَ بِفَضَائِلِ عُمَرَ، مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةً إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، مَا نَفِدَتْ فَضَائِلُ عُمَرَ، وَإِنَّ عُمَرَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ ".
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْشِي أَمَامَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " يَا أَبَا الدَّردَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ
مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرُبَتْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَى أَحَدٍ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ لِضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ وَيْوَمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ، هَلْ لَكَ أَنْ أُحَدِّثَكَ بِلَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: أَمَّا لَيْلَتُهُ، لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، خَرَجَ لَيْلًا فَشَيَّعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي مَرَّةً أَمَامَهُ، وَمَرَّةً خَلْفَهُ، وَمَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ، وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ فِعْلِكَ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ الرَّصَدَ، فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ خَلْفَكَ، وَمَرَّةً عَنْ يَمِينِكَ وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِكَ لِآمَنَ عَلَيْكَ، قَالَ: فَمَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَهُ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى حَفِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ حَفِيَتْ حَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ حَتَّى أَتَى بِهِ الْغَارَ، فَأَنْزَلَهُ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تَدْخُلُهُ حَتَّى أَدْخُلَهُ فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ نَزَلَ بِي قَبْلَكَ، فَدَخَلَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَحَمَلَهُ وَأَدْخَلَهُ، وَكَانَ فِي الْغَارِ خَرْقٌ فِيهِ حَيَّاتٌ، فَخَشِيَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَمَهُ قَدَمَهُ فَجَعَلْنَ يَضْرِبْنَهُ أَوْ يَلْسَعْنَهُ وَجَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ لِأَبِي بَكْرٍ.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَا أَرَى رَجُلًا يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَتَيَسَّرُ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: بَرِئَ اللَّهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لَهُ فِي الْفَيْءِ حَقٌّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] الْآيَةَ، هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَالْفَيْءُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ.
وَعَنِ الْأَجْلَحِ، قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهُ مَا سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَحَدٌ إِلَّا مَاتَ قَتْلًا أَوْ فَقْرًا.
فَصْلٌ
قَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا فَتَّشْتُ رَافِضِيًّا قَطُّ، إِلَّا وَجَدْتُهُ زِنْدِيقًا.
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: لَوْلَا أَنِّي عَلَى وُضُوءٍ لَأَخْبَرْتُكَ بِبَعْضِ مَا تَقُولُ الشِّيعَةُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُبْزَى، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: لَوْ أُتِيتَ بِرَجُلٍ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا كُنْتَ صَانِعًا؟ قَالَ: أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: أَضْرِبُ عُنُقَهُ.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَيَتَجَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً» .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: انْظُرُوا مَا زَادَ فِي مُلْكِي مُنْذُ دَخَلْتُ الْإِمَارَةَ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِي، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا مَاتَ نَظَرْنَا فَإِذَا عَبْدٌ نُوبِيٌّ كَانَ يَحْمِلُ صِبْيَانَهُ، وَنَاضِحٌ كَانَ يُسَنِّي عَلَيْهِ، فَبَعَثْنَا بِهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا شَدِيدًا.
فَصْلٌ
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمْسَارُ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّيْمِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ بْنِ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسٍ النَّصِيبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهَرٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ ابْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ إِسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَبِيهًا بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا بِالشَّامِ، فَرَأَى رُؤْيَا، فَقَصَّهَا عَلَى بَحِيرَا الرَّاهِبِ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ مَكَّةَ، قَالَ: مِنْ أَيِّهَا؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: فَإِيشِ أَنْتَ؟ قَالَ: تَاجِرٌ، قَالَ: إِنْ صَدَّقَ اللَّهُ رُؤْيَاكَ فَإِنَّهُ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِنْ قَوْمِكَ تَكُونُ وَزِيرَهُ فِي حَيَاتِهِ وَخَلِيفَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَأَسَرَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ، حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا تَدَّعِي؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتَ بِالشَّامِ» ، فَعَانَقَهُ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ
وَأخبرنا عُمَرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَزَّارُ، بِنَهْرِ الدِّيرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، بِالْأَهْوَازِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَيَاضِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْبَرَنَا عَنْ نَفْسِكَ، هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا قَطُّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَعَمْ، وَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِ قُرَيْشٍ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ فِي نُبُوَّتِهِ حُجَّةٌ وَفِي غَيْرِهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هَدَى مَنْ شَاءَ وَأَضَلَّ مَنْ شَاءَ، بَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ فِي فَيْءِ شَجَرَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ تَدَلَّى عَلَيَّ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا حَتَّى صَارَ عَلَى رَأْسِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَأَقُولُ: مَا هَذَا؟ فَسمعت صَوْتًا مِنَ الشَّجَرَةِ: هَذَا النَّبِيُّ يَخْرُجُ فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، فَكُنْ أَنْتَ مِنْ أَسْعَدِ النَّاسِ بِهِ، قُلْتُ: بَيِّنْهُ، مَا اسْمُ هَذَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَاحِبِي وَأَلِيفِي وَحَبِيبِي، فَتَعَاهَدَتِ الشَّجَرَةُ مَتَى تُبَشِّرُنِي بِخُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَاهُ الْوَحْيُ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ الشَّجَرَةِ: جِدَّ وَشَمِّرْ يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْوَحْيُ، وَرَبِّ مُوسَى لَا يَسْبِقَنَّكَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ لِي: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ» قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَكَ بِالْحَقِّ سِرَاجًا مُنِيرًا، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثَانِ غَرِيبَانِ، حَدَّثَ بِهِمَا أَبُو سَعِيدٍ النَّقَّاشُ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ السِّمْسَارُ، أخبرنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِمَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مُهَاجِرًا قِبَلَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرَكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَّةِ، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخَرَجَنِي قَوْمِي وَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدُ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: مِثْلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، وَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا تَخْرُجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، أتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلْيُصَلِّي فِيهَا مَا شَاءَ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا، وَلَا يَسْتَعْلِنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَصِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَكَادُ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ.
فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، وَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يُفْتَنَ نِسَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُنَا فَأْتِهِ فَأْمُرْهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَ، أَنْ نَخْفِرَ ذِمَّتَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ بِالِاسْتِعْلَانِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهُ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي عَهْدٍ عَقَدْتُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ رَأيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ» ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَرْجُو ذَلِكَ؟ بِأَبِي أَنْتَ.
قَالَ: «نَعَمْ» فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
فَصْلٌ فِي خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
رُوِيَ عَنْ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمٍ، قَالَ: كَانَ فِي خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَمَّا بَعْدُ.
إِنَّكُمْ تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْقَضِي الْأَجَلُ، وَهُوَ فِي عَمَلِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ، وَلَنْ تَنَالُوا ذَلِكَ إِلَّا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ أَقْوَامًا جَعَلُوا آجَالَهُمْ لِغَيْرِهِمْ فَنَهَاكُمُ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أَيْنَ مَنْ تَعْرِفُونَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ؟ قَدِمُوا عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا قدَّمُوا فِي أَيَّامِ سَلَفِهِمْ، وَخَلُّوا فِيهِ بِالشِّقْوَةِ وَالسَّعَادَةِ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ الْأَوَّلُونَ، الَّذِينَ بَنَوْا الْمَدَائِنَ وَحَفَفُوهَا بِالْحَوَائِطِ؟ قَدْ صَارُوا تَحْتَ الصَّحْرَاءِ وَالْآثَارِ، هَذَا كِتَابُ اللَّهِ لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ فَاسْتَضِيئُوا مِنْهُ لِيَوْمِ ظُلْمَةٍ، إِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] لَا خَيْرَ فِي قَوْلٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ فِي مَنْ يَغْلِبُ جَهْلُهُ حِلْمَهُ، وَلَا خَيْرَ فِي مَنْ يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ"
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ وَفَاتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَتْ
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ.
قَالَ: أَرْجُو مِنَ اللَّهِ، فَتُوُفِّيَ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ لَيْلًا قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ، قَالَتْ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالَتْ: قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ.
أخبرنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، أخبرنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ نَصْرٍ الْعَاصِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ السَّاسِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّجَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَقِلْتُ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَمَا مَرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ قَطُّ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً.
قَالَ النُّجَيْرِيُّ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأخبرني عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَّةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ، فَأَعْبُدُ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ وَلَا يَخْرُجُ، أَنْتَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ.
فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيًّا فِي أَسْوَاقِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَيَقْرَأُ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنَ بِهِ.
فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يُفْتَنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا بِصَلَاتِهِ.
وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَتَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ، عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يُفْتَنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ عَلَى أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، فَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ بِالِاسْتِعْلَانِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي عَاقَدْتُ بِهِ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ، وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: «إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ» ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ؟ بِأَبِي أَنْتَ، قَالَ: «نَعَمْ» .
فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْحِنْطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَحْوِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَنَّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا.
قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ - بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ» ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمِنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ.
يَبِيتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بَسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فَهُيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ سَاعَةً مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رُسُلِ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعَقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الذُّئْلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هَادِيًا خِرِّيتًا، وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ حِلْفًا مِنْ آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَآمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَهُمَا وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَ ثَلَاثٍ، فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأخبرني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةً، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي مِنْ وَرَاءِ أَكِمَّةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَدَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، فَقَرُبَ بِي حَتَّى إِذَا قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجْ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ، مِثْلُ الدُّخَانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، فَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَسْأَلَانِي وَلَمْ يَرْزَآنِي إِلَّا أَنْ قَالَ: «أَخْفِ عَنَّا» فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ، فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأخبرني عُرْوَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ، الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ، فَيَنْظُرُوهُمْ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكُ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشَرَةَ لَيْلَةٍ، فَأَسَّسَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ، غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ» ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ يَتَسَاوَمُهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا.
فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقِلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْجَمَالُ لَا جَمَالُ خَيْبَرَ ... هَذَا أَبَرُّ ربَّنَا وَأَطْهَرُ
اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخِرَةْ ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةْ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذِهِ الأَبْيَاتِ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَتَهُ وَأَرْخَى لَهَا الزِّمَامَ، فَجَعَلَتْ لَا تَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا دَعَاهُ أَهْلُهَا إِلَى النُّزُولِ عِنْدَهُمْ، وَقَالُوا: هَلُمَّ إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَيَقُولُ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَلُّوا زِمَامَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ الْيَوْمَ، فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا سَهْلٌ وَلِلْآخَرِ سُهَيْلٌ، ابْنَا عَمْرِو بْنُ عَبَّاسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَلَمَّا بَرَكَتْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا، لَا يُثْنِيهَا بِهِ الْتَفَتَتْ خَلْفَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلُ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، فَدَعَتْهُ الْأَنْصَارُ إِلَى النُّزُولِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ» ، فَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ فِي بَنِي غَنْمِ بْنِ النَّجَّارِ.
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَقَامَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، وَتَوَلَّى بِنَاءَ مَسْجِدِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَأَصْحَابُهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالُوا وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ حِفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ: «نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ أَنْتَ أَحَدُهُمْ» فَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ وَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ} [يس: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] حَتَّى فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكْنُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَا هُنَا؟ قَالُوا مُحَمَّدًا، قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ أَحَدًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ، فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمٌ، عَلَيْهِ بَرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيٌّ مِنَ الْفِرَاشِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ حَدَّثَنَا.
قَالَ أَصْحَابُ التَّارِيخِ: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ نَحْوَ غَارِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْغَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ، قَالُوا: وَأَصْبَحَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْصُدُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلُوا الدَّارَ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي أَمَرْتُمُوهُ بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَ، فَانْتَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحَبَسُوهُ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَكْرِهِمْ وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَتَخَلَّفَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يُعْرَفُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَخَرَجَا مِنْ خُوخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثُمَّ غَدَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ بِجَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ فَدَخَلَاهُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي، قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ لَا نَدْرِي أَيْنَ وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، تَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلاهَا بِالْهُدَى وَاغْتَدَوْا بِهِ ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَاهُ حَيْثُ وُجِّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ دَلِيلُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَصْلٌ
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذُهِبَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذُهِبَ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَغَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ قِيلَ مَاتَ، وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وأَرْجُلِهِمْ، يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ، قَالَ: وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرَ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُ اللَّهِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مُسَجَّىً عَلَيْهِ بِبُرْدَةٍ حَبِرَةٍ فَأَقْبَلَ حَتَّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَدْ ذُقْتَهَا، ثُمَّ لَمْ يُصِبْكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا.
قَالَ: ثُمَّ رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لَا يُنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسَ كَلَامَهُ، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ وَأَخَذَهَا النَّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَاهُوَ إِلَّا أَنْ سمعت أَبَا بَكْرٍ يَتْلُوهَا، فَعُقِرْتُ حَتَّى وَقَعْتَ إِلَى الْأَرْضِ، مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَائِبًا، فَجَاءَ، وَلَمْ يَجْتَرِئْ أَحَدٌ أَنْ يَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا.
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النَّهَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لِثِنْتَيْ عَشَرَةَ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقَالَ غَيْرُهُ وَبُويِعَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، وَهُوَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جِهَازِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ فِي مَسْجِدِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ» فَرُفِعَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَحُفِرَ لَهُ تَحْتَهُ.
فَصْلٌ
حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ الرَّارَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْبَزَّارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشْرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى أَهْلِي، قَالَ: لَا؛ حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ؟ قَالَ: ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَاخْتَفَيْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا بَقِيَّةُ ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهَا، ثُمَّ فَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْتُ: اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا، فَإِذَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أُرِيدُ، يَعْنِي الظِّلَّ، فَسَأَلْتُهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: لِفُلَانٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَمَّاهُ، فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ فَأَمَرْتُهُ بِنَفْضِ ضَرْعِهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَحَلَبَ لِي كَثْبَةً مِنَ اللَّبَنِ، وَمَعِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ، حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَقْتُهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، فَقُلْتُ: آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ، قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» .
فَلَمَّا دَنَا وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، قُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ لَحِقَنَا، وَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟» فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ» فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ فِي الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا، فَوَثَبَ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِكَ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنِ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ عَلَى إِبِلِي وَغَنَمِي مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ» ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ رَاجِعًا إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ لَيْلًا
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّاسِبِيُّ، حَدَّثَنَا الْفُرَاتُ، عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مِحْصَنٍ، قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَمِيرًا بِالْبَصْرَةِ، فَكَانَ إِذَا خَطَبَنَا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَغَاظَنِي ذَلِكَ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ صَاحِبِهِ، تُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَصَنَعَ ذَلِكَ جُمَعًا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، يَقُولُ: إِنَّ ضَبَّةَ بْنَ مِحْصَنٍ يَتَعَرَّضُ لِي فِي خُطْبَتَيِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ أَشْخِصْهُ إِلَيَّ، فَأَشْخَصَنِي إِلَيْهِ فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: ضَبَّةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغَنَوِيُّ.
قَالَ: فَلَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، فَقُلْتُ: فَأَمَّا الْمَرْحَبُ فَمِنَ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَهْلُ فَلَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ، فَبِمَ اسْتَحْلَلْتَ إِشْخَاصِي مِنْ مِصْرِي بِلَا ذَنْبٍ أَذْنَبْتُ وَلَا شَيْءٍ أَتَيْتُ؟ قَالَ: مَا الَّذِي شَجَرَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَامِلَكَ؟ قُلْتُ: الْآنَ أُخْبِرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ كَانَ إِذَا خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو لَكَ فَغَاظَنِي ذَلِكَ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ صَاحِبِهِ تُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْكَ يَشْكُونِي.
قَالَ: فَانْدَفَعَ عُمَرُ بَاكِيًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَوْفَقُ مِنْهُ، وَأَرْشَدُ مِنْهُ، فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِي ذَنْبِي، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، قُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ انْدَفَعَ بَاكِيًا وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَيَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ وَآلِ عُمَرَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ أُحَدِّثَكَ بِلَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أَمَّا لَيْلَتُهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ هَارِبًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، خَرَجَ لَيْلًا فَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ مَرَّةً يَمْشِي أَمَامَهُ، وَمَرَّةً خَلْفَهُ، وَمَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ، وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ؟ مَا أَعْرِفُ هَذَا مِنْ فِعَالِكَ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَكُونُ أَمَامَكَ، وَأَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَكُونُ خَلْفَكَ وَمَرَّةً عَنْ يَمِينِكَ وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِكَ لَا آمَنُ عَلَيْكَ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ حَتَّى حَفِيَتْ رِجْلَاهُ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا قَدْ حَفِيَتْ حَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ حَتَّى أَتَى بِهِ فَمَ الْغَارِ، فَأَنْزَلَهُ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تَدْخُلُهُ أَنْتَ حَتَّى أَدْخُلَهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ بَدَأَ بِي قَبْلَكَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَرِيبُهُ، فَحَمَلَهُ وَأَنْزَلَهُ وَكَانَ فِي الْغَارِ خَرْقٌ فِيهِ حَيَّاتٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْقَمَهُ قَدَمَهُ، فَجَعَلَ يَلْسَعُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ، وَجَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ عَلَى خَدِّهِ مِنْ أَلَمِ مَا يَجِدُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ، - أَيْ طُمَأْنِينَتَهُ - لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَذِهِ لَيْلَتُهُ، وَأَمَّا يَوْمُهُ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُزَكِّي وَلَا نُصَلِّي، فَآتَيْتُهُ لَا آلُو نُصْحًا، فَقُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأَلَّفِ النَّاسَ، وَارْفُقْ بِهِمْ، فَقَالَ لِي: جَبَّارٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَوَّارٌ فِي الْإِسْلَامِ، قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَفَعَ الْوَحْيُ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُعْطُونَهُ رَسُولَ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، فَقَاتَلْنَا مَعَهُ، وَكَانَ وَاللَّهِ رَشِيدَ الْأَمْرِ، فَهَذَا يَوْمُهُ ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى يَلُومُهُ
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو الشَّيْخِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ التَّوْزِيُّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ طَلْحَةَ النَّصْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبِثْتُ مَعَ صَاحِبِي يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضْعَةَ عَشْرَ أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْبَرِيرِ» ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْبَرِيرُ: الْأَرَاكُ
فَصْلٌ
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَبِّ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، قَالُوا: وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمِلَ عَلَى السَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ قَبْرَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحَمْنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ علَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٌ، وَلَا لَاطِيَةٌ مَسْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرَصَةِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَدَّمًا وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَعُمَرُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: رَأْسُ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأْسُ عُمَرَ عِنْدَ حِقْوَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَصْلٌ
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ تَاجِرًا، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنْحِ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ حَبِيبَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرَةً مِنْ شَعْرٍ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَوَّلَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا بُويِعَ لَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَأْتِي إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِالنَّاسِ، فَإِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ، وَكَانَ لَهُ قِطْعَةُ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا كُفِّيهَا فَرُعِيَتْ لَهُ وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الْآنَ لَا تَحْلِبْ لَنَا مَنَايِحَ دَارِنَا، فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: بَلْ لَعَمْرِي لَأَحْلِبَنَّهَا لَكُمْ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خُلُقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ، فَكَانَ يَحْلِبُ لَهُمْ، فَرُبَّمَا قَالَ لِلْجَارِيَةِ مِنَ الْحَيِّ: يَا جَارِيَةُ أَتُحِبِّينَ أَنْ أَرْغِيَ لَكِ، أَوْ أُصْرِحَ فَرُبَّمَا قَالَتْ: ارْغِ، وَرُبَّمَا قَالَتْ: أَصْرِحْ.
فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَتْ فَعَلَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ بِالسُّنْحِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا وَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يُصْلِحُ أَمْرَ النَّاسِ التِّجَارَةُ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا التَّفَرُّغُ لَهُمْ وَالنَّظَرُ فِي شَأْنِهِمْ، وَلَا بُدَّ لِعِيَالِي مِمَّا يُصْلِحُهُمْ، فَتَرَكَ التِّجَارَةَ وَاسْتَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يُصْلِحُهُ وَمَا يُصْلِحُ عِيَالَهُ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ، وَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: رُدُّوا مَا عِنْدَنَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي لَا أُصِيبُ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا، وَإِنَّ أَرْضِي الَّتِي بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمُسْلِمِينَ، بِمَا أَصَبْتُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
فَدُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِقُوحٍ، وَعَبْدِ صَيْقَلٍ، وَقَطِيفَةٍ، لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
سير السلف الصالحين - لإسماعيل بن محمد الأصبهاني الملقب بقوام السنة
عبد الله بن عُثْمَان بن عَامر بن عمر بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي الْقرشِي التَّيْمِيّ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَقيل لَهُ عَتيق وَإِنَّمَا سمي عتيقا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مرّة من سره أَن ينظر الى عَتيق من النَّار فَلْينْظر إِلَى أبي بكر زِيَادَة شهد بَدْرًا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ثَانِيه فِي الْغَار إِذْ قَالَ لَهُ لَا تحزن إِن الله مَعنا شهد لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجنَّةِ قَالَ أَبُو حَفْص عَمْرو بن عَليّ لَيْسَ فِي سنّ أَبُو بكر الصّديق اخْتِلَاف أَنه مَاتَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ وَأَنه مَاتَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لثلاث بَقينَ من جُمَادَى الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَدفن لَيْلًا وَصلى عَلَيْهِ عمر بن الْخطاب وَنزل فِي قَبره عمر وَطَلْحَة وَعُثْمَان وعبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق
روى عَنهُ أَبُو هُرَيْرَة فِي الْإِيمَان وَالْحج وَعَائِشَة فِي الْجِهَاد والبراء بن عَازِب فِي الْأَشْرِبَة وَابْنه عبد الرحمن فِي الْأَطْعِمَة وَأنس فِي الْفَضَائِل وعايذ بن عَمْرو وعبد الله بن عمر وَقَالَ أَبُو نعيم توفّي أَبُو بكر الصّديق لثمان خلون من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة.
رجال صحيح مسلم - لأحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم، أبو بكر ابن مَنْجُويَه.
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ الْوَزَّانُ، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا: نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ , عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ ظَلَمْتُ نَفْسِيَ ظُلْمًا كَثِيرًا , وَلَا يَغْفِرُ الذَّنْبَ إِلَّا أَنْتَ , فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَكَ , وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْمِصِّيصِيُّ، نا ابْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سُبَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ , مِنْ قِبَلِ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ , قَوْمٌ وُجُوهُهُمْ كَالْمَجَانِّ "
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُجَوِّزُ، نا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ، نا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، نا أَسْلَمُ الْكُوفِيُّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الصَّائِغُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، نا أَبِي ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ , مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»
-معجم الصحابة - أبي الحسين عبد الباقي بن قانع البغدادي-
عبد الله بن أبي قُحَافَة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي، أبو بكر: أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرجال، وأحد أعاظم العرب. ولد بمكة، ونشأ سيدا من سادات قريش، وغنيا من كبار موسريهم، وعالما بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش. وحرم على نفسه الخمر في الجاهلية، فلم يشربها. ثم كانت له في عصر النبوة مواقف كبيرة، فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال. وبويع بالخلافة يوم وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم سنة 11 هـ فحارب المرتدين والمتنعين من دفع الزكاة.
وافتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير من العراق. واتفق له قواد أمناء كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبي عبيدة بن الجراح، والعلاء بن الحضرميّ، ويزيد ابن أبي سفيان، والمثنى بن حارثة. وكان موصوفا بالحلم والرأفة بالعامة، خطيبا لسنا، وشجاعا بطلا. مدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر، وتوفي في المدينة.
له في كتب الحديث 142 حديثا. قيل: كان لقبه " الصدّيق " في الجاهلية، وقيل: في الإسلام لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في خبر الإسراء. وأخباره كثيرة أفرد لها صاحب " أشهر مشاهير الإسلام " نحو مئة وخمسين صفحة. وأتى إبراهيم العبيدي في " عمدة التحقيق في بشائر آل الصديق - ط " على كثير منها. ومما كتب في سيرته " أبو بكر الصديق - ط " لمحمد حسين هيكل، وأبو بكر الصديق - ط " للشيخ علي الطنطاوي .
-الاعلام للزركلي-
أبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضه واسمه عبد الله ولقبه عتيق واسم أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو قريش بن مالك بن النضر وأم أبى بكر رضه أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم استخلف رضه في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطبهم اليوم الثاني من بيعته فلما فرغوا من دفن المصطفى صلى الله عليه وسلم بايعه الناس بيعة العام وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقام له الامر في السر والاعلان الا ان على بن أبى طالب وجماعة معه من بنى هاشم تخلفوا عن بيعته إلى ان ماتت فاطمة رضها على رأس ستة أشهر من توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعه على وأولئك النفر على حسب ما ذكرنا في الكتاب الخلفاء.
فمضى أبو بكر رضه على منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم باذلا نفسه وماله في إظهار دين الله والذب عن حرماته والقيام بنا يوجبه الدين إلى ان حلت المنية به ليلة الاثنين لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما وله يوم مات اثنتان وستون سنة ودفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا ونزل قبره عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبى بكر رضهم أجمعين وورثه أبو قحافة السدس.
مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار - محمد بن حبان، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ)