محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري

الإمام البخاري

تاريخ الولادة194 هـ
تاريخ الوفاة256 هـ
العمر62 سنة
مكان الولادةبخارى - أوزبكستان
مكان الوفاةخرتنك-سمرقند - أوزبكستان
أماكن الإقامة
  • بلخ - أفغانستان
  • بخارى - أوزبكستان
  • خرتنك-سمرقند - أوزبكستان
  • الري - إيران
  • خراسان - إيران
  • نيسابور - إيران
  • البصرة - العراق
  • الكوفة - العراق
  • بغداد - العراق
  • واسط - العراق
  • حمص - سوريا
  • دمشق - سوريا
  • عسقلان - فلسطين
  • قيسارية - فلسطين
  • مصر - مصر

نبذة

صاحب صحيح البخاري. محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري(194-156هـ)، ويُكنى بأبو عبد الله، مؤلف الصحيح البخاري، والذي يعتبر من الكتب الصحيحة والموثوقة، فكان أصح كتاب من بين كل الكتب بعد القرآن الكريم.

الترجمة

صاحب صحيح البخاري.

محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري(194-156هـ)، ويُكنى بأبو عبد الله، مؤلف الصحيح البخاري، والذي يعتبر من الكتب الصحيحة والموثوقة، فكان أصح كتاب من بين كل الكتب بعد القرآن الكريم.

نشأته:كان جد البخاري مولى لأمير بُخارى يمان الجعفي، وبعد إسلامه جد البخاري انتسب إليه،

ولد الإمام البخاري في مدينة بخارى، حيث نشأ فيها يتيماً، وقد بدأ في حفظ الحديث وهو دون سن العاشرة، ولما أصبح شاباً قام برحلة قاصداً مكة المكرمة، ثم بقي فيها مدةَ من الزمن يتلقى العلم والفقه على يد علماء وجهابذة مكة، وبعد ذلك بدأ يتنقل من مكان إلى آخر في أرجاء الدولة الإسلامية وعلى مدى ستة عشر عاماً، حيث كان يطوف آخذاً العلم من العلماء والمُحدثين والفقهاء، وكان يقوم بجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جمع مايزيد عن 600000 ألف حديث، وكان يراجع كل مُحدث يأخذ منه الحديث، فكان المُحديث معروفين بالصدق، والتقوى وصحة العقيدة.

تأليف صحيح البخاري:الإمام البخاري قام بجمع الكثير من الأحاديث الصحيحة، ومن هذه الأحاديث، انتقى كتابه الصحيح، فاتبع في وضعه لأي حديث أدق الأساليب العلمية في البحث والجمع والتمييز بين الأحاديث الضعيفة والصحيحة، وانتقى افضل الروة واتقاهم ومن هم مشهورين بصدقهم بين الناس. لقد جمع الإمام البخاري الأحاديث الصحيحة في كتابه، ولكنه لم يستوعبها كلها، واسمى كتابه (الجامع الصحيح المُسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان أمير بُخارى يريد أن يأتي البخاري إلى منزله ليعلم أولاده الحديث، لكن الإمام البخاري قد رفض ذلك وأرسل إليه: (في بيته يؤتى العلم)، بمعنى أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي لأي أحد، وأن الذي يريد أن يجالس العلماء فليذهب إليهم في المساجد أو البيوت، فغضب منه الأمير، وأمر بإخراجه من بُخارى، فذهب الإمام البخاري إلى قرية خرتنك في سمرقند، حيث كان أقاربه فيها، وبقي في هذه القرية حتى وافته المنية سنة 265هـ عن 62 عاماً. رحم الله الإمام البخاري رحمه واسعه، وأسكنه الفردوس الأعلى.

مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة بن بردزبه
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء سَاكِنة ثمَّ دَال مَكْسُورَة مُهْملَة ثمَّ زاى سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ هَاء ابْن بذذبه بباء مُوَحدَة مَفْتُوحَة ثمَّ ذال مُعْجمَة مَكْسُورَة ثمَّ ذال ثَانِيَة مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ بَاء مُوَحدَة مَكْسُورَة ثمَّ هَاء هَذَا مَا كُنَّا نَسْمَعهُ من الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد رَحمَه الله
وَقيل بدل بردزبه الْأَحْنَف وَقيل غير ذَلِك
هُوَ إِمَام الْمُسلمين وقدوة الْمُوَحِّدين وَشَيخ الْمُؤمنِينَ والمعول عَلَيْهِ فى أَحَادِيث سيد الْمُرْسلين وحافظ نظام الدّين أَبُو عبد الله الجعفى مَوْلَاهُم البخارى صَاحب الْجَامِع الصَّحِيح وساحب ذيل الْفضل للمستميح
(علا عَن الْمَدْح حَتَّى مَا يزان بِهِ ... كَأَنَّمَا الْمَدْح من مِقْدَاره يضع)
(لَهُ الْكتاب الذى يَتْلُو الْكتاب هدى ... هذى السِّيَادَة طودا لَيْسَ ينصدع)
(الْجَامِع الْمَانِع الدّين القويم وَسنة ... الشَّرِيعَة أَن تغتالها الْبدع)
(قاصى الْمَرَاتِب دانى الْفضل تحسبه ... كَالشَّمْسِ يَبْدُو سناها حِين ترْتَفع)
(ذلت رِقَاب جَمَاهِير الْأَنَام لَهُ ... فكلهم وَهُوَ عَال فيهم خضعوا)
(لَا تسمعن حَدِيث الحاسدين لَهُ ... فَإِن ذَلِك مَوْضُوع ومنقطع)
(وَقل لمن رام يحكيه اصطبارك لَا ... تعجل فَإِن الذى تبغيه مُمْتَنع)
(وهبك تأتى بِمَا يحْكى شكالته ... أَلَيْسَ يحْكى محيا الْجَامِع البيع)

كَانَ وَالِده أَبُو الْحسن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم من الْعلمَاء الورعين
سمع مَالك بن أنس وَرَأى حَمَّاد بن زيد وَصَالح بن الْمُبَارك
وَحدث عَن أَبى مُعَاوِيَة وَجَمَاعَة
روى عَنهُ أَحْمد بن حَفْص وَقَالَ دخلت عَلَيْهِ عِنْد مَوته فَقَالَ لَا أعلم فى جَمِيع مالى درهما من شُبْهَة
قَالَ أَحْمد بن حَفْص فتصاغرت إِلَى نفسى عِنْد ذَلِك
ولد البخارى سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَنَشَأ يَتِيما
وَأول سَمَاعه سنة خمس وَمِائَتَيْنِ وَحفظ تصانيف ابْن الْمُبَارك وحبب إِلَيْهِ الْعلم من الصغر وأعانه عَلَيْهِ ذكاؤه المفرط
ورحل سنة عشر وَمِائَتَيْنِ بعد أَن سمع الْكثير بِبَلَدِهِ من مُحَمَّد بن سَلام البيكندى وَمُحَمّد بن يُوسُف البيكندى وَعبد الله بن مُحَمَّد المسندى وَهَارُون ابْن الْأَشْعَث وَطَائِفَة
وَسمع ببلخ من مكى بن إِبْرَاهِيم وَيحيى بن بشر الزَّاهِد وقتيبة وَجَمَاعَة
وبمرو من على بن الْحسن بن شَقِيق وعبدان وَجَمَاعَة
وبنيسابور من يحيى بن يحيى وَبشر بن الحكم وَإِسْحَاق وعدة
وبالرى من إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الْحَافِظ وَغَيره
وببغداد من شُرَيْح بن النُّعْمَان وَعَفَّان وَطَائِفَة
وبالبصرة من أَبى عَاصِم النَّبِيل وَبدل بن المحبر وَمُحَمّد بن عبد الله الأنصارى وَغَيرهم
وبالكوفة من أَبى نعيم وطلق بن غَنَّام وَالْحسن بن عَطِيَّة وخلاد بن يحيى وَقبيصَة وَغَيرهم

وبمكة من الحميدى وَعَلِيهِ تفقه عَن الشافعى
وبالمدينة من عبد الْعَزِيز الأويسى ومطرف بن عبد الله
وبواسط ومصر ودمشق وقيسارية وعسقلان وحمص من خلائق يطول سردهم ذكر أَنه سمع من ألف نفس وَقد خرج عَنْهُم مشيخة وَحدث بهَا وَلم نرها
وفى تَارِيخ نيسابور للْحَاكِم أَنه سمع بالجزيرة من أَحْمد بن الْوَلِيد بن الورتنيس الحرانى وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله بن زُرَارَة الرقى وَعَمْرو بن خَالِد وَأحمد بن عبد الْملك بن وَاقد الحرانى
وَهَذَا وهم فَإِنَّهُ لم يدْخل الجزيرة وَلم يسمع من أَحْمد بن الْوَلِيد إِنَّمَا روى عَن رجل عَنهُ وَلَا من ابْن زُرَارَة إِنَّمَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله الذى يرْوى عَنهُ هُوَ إِسْمَاعِيل بن أَبى أويس وَأما ابْن وَاقد فَإِنَّهُ سمع مِنْهُ بِبَغْدَاد وَعَمْرو بن خَالِد سمع مِنْهُ بِمصْر نبه على هَذَا شَيخنَا الْحَافِظ المزى فِيمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ
وَأكْثر الْحَاكِم فى عد شُيُوخه وَذكر الْبِلَاد الَّتِى دَخلهَا ثمَّ قَالَ وَإِنَّمَا سميت من كل نَاحيَة جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين ليستدل بذلك على عالى إِسْنَاده فَإِن مُسلم بن الْحجَّاج لم يدْرك أحدا مِمَّن سميتهم إِلَّا أهل نيسابور
وَاعْتَرضهُ شَيخنَا الذهبى كَمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ بِأَنَّهُ أدْرك أَحْمد وَعمر بن حَفْص يعْنى وهما مِمَّن عد الْحَاكِم
ذكر أَبُو عَاصِم العبادى أَبَا عبد الله فى كِتَابه الطَّبَقَات وَقَالَ سمع من الزعفرانى وأبى ثَوْر والكرابيسى
قلت وتفقه على الحميدى وَكلهمْ من أَصْحَاب الشافعي

قَالَ وَلم يرو عَن الشافعى فى الصَّحِيح لِأَنَّهُ أدْرك أقرانه والشافعى مَاتَ مكتهلا فَلَا يرويهِ نازلا وروى عَن الْحُسَيْن وأبى ثَوْر مسَائِل عَن الشافعى
قلت وَذكر الشافعى فى موضِعين من صَحِيحه فى بَاب فى الرِّكَاز الْخمس وفى بَاب تَفْسِير الْعَرَايَا من الْبيُوع
ورقم شَيخنَا المزى فى التَّهْذِيب للشافعى بِالتَّعْلِيقِ وَذكر هذَيْن المكانين
حدث البخارى بالحجاز وَالْعراق وخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر وَكتب عَنهُ المحدثون وَمَا فى وَجهه شَعْرَة
روى عَنهُ أَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم والترمذى وَمُسلم خَارج الصَّحِيح وَمُحَمّد بن نصر المروزى وَصَالح بن مُحَمَّد جزرة وَابْن خُزَيْمَة وَأَبُو الْعَبَّاس السراج وَأَبُو قُرَيْش مُحَمَّد بن جُمُعَة وَيحيى بن مُحَمَّد بن صاعد وَأَبُو حَامِد بن الشرقى وَخلق
وَآخر من روى عَنهُ الْجَامِع الصَّحِيح مَنْصُور بن مُحَمَّد البزدوى الْمُتَوفَّى سنة تسع وَعشْرين وثلاثمائة
وَآخر من زعم أَنه سَمعه مِنْهُ موتا أَبُو طهير عبد الله بن فَارس البلخى الْمُتَوفَّى سنة سِتّ وَأَرْبَعين وثلاثمائة
وَآخر من روى حَدِيثه عَالِيا خطيب الْموصل فى الدُّعَاء للمحاملى بَينه وَبَينه ثَلَاثَة رجال
وَأما كِتَابه الْجَامِع الصَّحِيح فأجل كتب الْإِسْلَام وأفضلها بعد كتاب الله وَلَا عِبْرَة بِمن يرجح عَلَيْهِ صَحِيح مُسلم فَإِن مقَالَته هَذِه شَاذَّة لَا يعول عَلَيْهَا

قَالَ ابْن عدى سَمِعت الْحسن بن الْحُسَيْن الْبَزَّار يَقُول رَأَيْت البخارى شَيخا نحيفا لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة إِلَّا ثَلَاثَة عشر يَوْمًا
وَقَالَ أَحْمد بن الْفضل البلخى ذهبت عينا مُحَمَّد فى صغره فرأت أمه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ يَا هَذِه قد رد الله على ابْنك بَصَره بِكَثْرَة بكائك أَو دعائك فَأصْبح وَقد رد الله عَلَيْهِ بَصَره
وَعَن جِبْرِيل بن مِيكَائِيل سَمِعت البخارى يَقُول لما بلغت خُرَاسَان أصبت ببصرى فعلمنى رجل أَن أحلق رأسى وأغلفه بالخطمى فَفعلت فَرد الله على بصرى رَوَاهَا غُنْجَار فى تَارِيخه
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم الْوراق قلت للبخارى كَيفَ كَانَ بَدْء أَمرك قَالَ ألهمت حفظ الحَدِيث فى الْمكتب ولى عشر سِنِين أَو أقل وَخرجت من الْكتاب بعد الْعشْر فَجعلت أختلف إِلَى الداخلى وَغَيره فَقَالَ يَوْمًا فِيمَا يقْرَأ على النَّاس سُفْيَان عَن أَبى الزبير عَن إِبْرَاهِيم فَقلت لَهُ إِن أَبَا الزبير لم يرو عَن إِبْرَاهِيم فانتهرنى فَقلت لَهُ ارْجع إِلَى الأَصْل فَدخل ثمَّ خرج فَقَالَ لى كَيفَ يَا غُلَام قلت هُوَ الزبير بن عدى عَن إِبْرَاهِيم فَأخذ الْقَلَم منى وَأَصْلحهُ وَقَالَ صدقت فَقَالَ للبخارى بعض أَصْحَابه ابْن كم كنت قَالَ ابْن إِحْدَى عشرَة سنة
فَلَمَّا طعنت فى سِتّ عشرَة سنة حفظت كتب ابْن الْمُبَارك ووكيع وَعرفت كَلَام هَؤُلَاءِ
ثمَّ خرجت مَعَ أمى وأخى أَحْمد إِلَى مَكَّة فَلَمَّا حججْت رَجَعَ أخى بهَا وَتَخَلَّفت فى طلب الحَدِيث 
فَلَمَّا طعنت فى ثمانى عشرَة سنة جعلت أصنف قضايا الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأقاويلهم وَذَلِكَ أَيَّام عبيد الله بن مُوسَى وصنفت كتاب التَّارِيخ إِذْ ذَاك عِنْد قبر النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

فى الليالى المقمرة وَقل اسْم فى التَّارِيخ إِلَّا وَله عندى قصَّة إِلَّا أَنى كرهت تَطْوِيل الْكتاب
وَقَالَ عمر بن حَفْص الْأَشْقَر كُنَّا مَعَ البخارى بِالْبَصْرَةِ نكتب الحَدِيث ففقدناه أَيَّامًا ثمَّ وَجَدْنَاهُ فى بَيت وَهُوَ عُرْيَان وَقد نفد مَا عِنْده فجمعنا لَهُ الدَّرَاهِم وكسوناه
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد البخارى سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول لقِيت أَكثر من ألف رجل من أهل الْحجاز وَالْعراق وَالشَّام ومصر وخراسان إِلَى أَن قَالَ فَمَا رَأَيْت وَاحِدًا مِنْهُم يخْتَلف فى هَذِه الْأَشْيَاء أَن الدّين قَول وَعمل وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم سمعته يَقُول دخلت بَغْدَاد ثمانى مَرَّات كل ذَلِك أجالس أَحْمد بن حَنْبَل فَقَالَ لى آخر مَا ودعته يَا أَبَا عبد الله تتْرك الْعلم وَالنَّاس وَتصير إِلَى خُرَاسَان فَأَنا الْآن أذكر قَول أَحْمد
وَقَالَ أَبُو بكر الْأَعْين كتبنَا عَن البخارى على بَاب مُحَمَّد بن يُوسُف الفريابى وَمَا فى وَجهه شَعْرَة
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم وراق البخارى سَمِعت حاشد بن إِسْمَاعِيل وَآخر يَقُولَانِ كَانَ البخارى يخْتَلف مَعنا إِلَى السماع وَهُوَ غُلَام فَلَا يكْتب حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَيَّامًا فَكُنَّا نقُول لَهُ فَقَالَ إنَّكُمَا قد أكثرتما على فاعرضا على مَا كتبتما فأخرجنا إِلَيْهِ مَا كَانَ عندنَا فَزَاد على خَمْسَة عشر ألف حَدِيث فقرأها كلهَا على ظهر قلب حَتَّى جعلنَا نحكم كتبنَا من حفظه ثمَّ قَالَ أَتَرَوْنَ أَنى اخْتلف هدرا وأضيع أيامى فَعرفنَا أَنه لَا يتقدمه أحد
قَالَا فَكَانَ أهل الْمعرفَة يعدون خَلفه فى طلب الحَدِيث وَهُوَ شَاب حَتَّى يغلبوه على نَفسه ويجلسوه فى بعض الطَّرِيق فيجتمع عَلَيْهِ أُلُوف أَكْثَرهم مِمَّن يكْتب عَنهُ وَكَانَ شَابًّا لم يخرج وَجهه

قَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم وَسمعت سليم بن مُجَاهِد يَقُول كنت عِنْد مُحَمَّد بن سَلام البيكندى فَقَالَ لى لَو جِئْت قبل لرأيت صَبيا يحفظ سبعين ألف حَدِيث
قَالَ فَخرجت فى طلبه فَلَقِيته فَقلت أَنْت الذى تَقول أَنا أحفظ سبعين ألف حَدِيث قَالَ نعم وَأكْثر وَلَا أجيئك بِحَدِيث عَن الصَّحَابَة أَو التَّابِعين إِلَّا عرفت مولد أَكْثَرهم ووفاتهم ومساكنهم وَلست أروى حَدِيثا من حَدِيث الصَّحَابَة أَو التَّابِعين إِلَّا ولى فى ذَلِك أصل أحفظه حفظا عَن كتاب الله أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ غُنْجَار حَدثنَا أَبُو عَمْرو أَحْمد بن مُحَمَّد المقرى حَدثنَا مُحَمَّد بن يَعْقُوب ابْن يُوسُف البيكندى سَمِعت على بن الْحُسَيْن بن عَاصِم البيكندى يَقُول قدم علينا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَاجْتَمَعْنَا عِنْده فَقَالَ بَعْضنَا سَمِعت إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول كأنى أنظر إِلَى سبعين ألف حَدِيث من كتابى
فَقَالَ مُحَمَّد أَو تعجب من هَذَا لَعَلَّ فى هَذَا الزَّمَان من ينظر إِلَى مائتى ألف حَدِيث من كِتَابه
قَالَ وَإِنَّمَا عَنى بِهِ نَفسه
وَقَالَ ابْن عدى حَدَّثَنى مُحَمَّد بن أَحْمد القومسى سَمِعت مُحَمَّد بن خميرويه يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول أحفظ مائَة ألف حَدِيث صَحِيح وأحفظ مائتى ألف حَدِيث غير صَحِيح
وَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة مَا رَأَيْت تَحت أَدِيم السَّمَاء أعلم بِالْحَدِيثِ من مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل البخارى
وَقَالَ ابْن عدى سَمِعت عدَّة مَشَايِخ يحكون أَن البخارى قدم بَغْدَاد فَاجْتمع أَصْحَاب الحَدِيث فعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث فقلبوا متونها وأسانيدها وَجعلُوا متن هَذَا لإسناد هَذَا

 

وَإسْنَاد هَذَا لمتن هَذَا ودفعوا إِلَى كل وَاحِد عشرَة أَحَادِيث ليلقوها على البخارى فى الْمجْلس فَاجْتمع النَّاس وانتدب أحدهم فَقَالَ وَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْعشْرَة فَقَالَ لَا أعرفهُ فَسَأَلَهُ عَن آخر فَقَالَ لَا أعرفهُ حَتَّى فرغ من الْعشْرَة
فَكَانَ الْفُقَهَاء يلْتَفت بَعضهم إِلَى بعض وَيَقُولُونَ الرجل فهم وَمن كَانَ لَا يدرى قضى عَلَيْهِ بِالْعَجزِ
ثمَّ انتدب آخر فَفعل كَفعل الأول والبخارى يَقُول لَا أعرفهُ إِلَى فرَاغ الْعشْرَة أنفس وَهُوَ لَا يزيدهم على لَا أعرفهُ
فَلَمَّا علم أَنهم قد فرغوا الْتفت إِلَى الأول فَقَالَ أما حَدِيثك الأول فإسناده كَذَا وَكَذَا والثانى كَذَا وَكَذَا وَالثَّالِث إِلَى آخر الْعشْرَة فَرد كل متن إِلَى إِسْنَاده وَفعل بالثانى مثل ذَلِك إِلَى أَن فرغ فَأقر لَهُ النَّاس بِالْحِفْظِ
وَقَالَ يُوسُف بن مُوسَى المروروذى كنت بِجَامِع الْبَصْرَة إِذْ سَمِعت مناديا يُنَادى يَا أهل الْعلم لقد قدم مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى فَقَامُوا فى طلبه وَكنت فيهم فَرَأَيْت رجلا شَابًّا يصلى خلف الأسطوانة فَلَمَّا فرغ أَحدقُوا بِهِ وسألوه أَن يعْقد لَهُم مَجْلِسا للإملاء فأجابهم
فَلَمَّا كَانَ من الْغَد اجْتمع كَذَا وَكَذَا ألف فَجَلَسَ وَقَالَ يَا أهل الْبَصْرَة أَنا شَاب وَقد سألتمونى أَن أحدثكُم وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيث عَن أهل بلدكم تستفيدون الْكل
حَدثنَا عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة بن أَبى رواد بلديكم حَدثنَا أَبى حَدثنَا شُعْبَة عَن مَنْصُور وَغَيره عَن سَالم بن أَبى الْجَعْد عَن أنس أَن أَعْرَابِيًا قَالَ يَا رَسُول الله الرجل يحب الْقَوْم ... الحَدِيث
ثمَّ قَالَ لَيْسَ هَذَا عنْدكُمْ إِنَّمَا عنْدكُمْ عَن غير مَنْصُور وأملى مَجْلِسا على هَذَا النسق

قَالَ يُوسُف وَكَانَ دخولى الْبَصْرَة أَيَّام مُحَمَّد بن عبد الْملك بن أَبى الشَّوَارِب
وَقَالَ الترمذى لم أر أحدا بالعراق وَلَا بخراسان فى معنى الْعِلَل والتاريخ وَمَعْرِفَة الْأَسَانِيد أعلم من مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
وَقَالَ إِسْحَاق بن أَحْمد الفارسى سَمِعت أَبَا حَاتِم يَقُول سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أعلم من دخل الْعرَاق وَمُحَمّد بن يحيى أعلم من بخراسان الْيَوْم وَمُحَمّد بن أسلم أورعهم وَعبد الله الدارمى أثبتهم
وَعَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ انْتهى الْحِفْظ إِلَى أَرْبَعَة من أهل خُرَاسَان أَبُو زرْعَة وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل والدارمى وَالْحسن بن شُجَاع البلخى
وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم كَانَ البخارى أحد الْأَئِمَّة فى معرفَة الحَدِيث وَجمعه وَلَو قلت إنى لم أر تصنيف أحد يشبه تصنيفه فى الْمُبَالغَة وَالْحسن لرجوت أَن أكون صَادِقا
أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ إِذْنا خَاصّا قَالَ قَرَأت على عمر بن القواس أخْبركُم أَبُو الْقَاسِم بن الحرستانى حضورا أخبرنَا جمال الْإِسْلَام أخبرنَا ابْن طلاب أخبرنَا ابْن جَمِيع حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن آدم حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف البخارى قَالَ كنت عِنْد مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بمنزله ذَات لَيْلَة فأحصيت عَلَيْهِ أَنه قَامَ وأسرج ليستذكر أَشْيَاء يعلقها فى ليله ثمانى عشرَة مرّة
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم الْوراق كَانَ أَبُو عبد الله إِذا كنت مَعَه فى سفر يجمعنا بَيت وَاحِد إِلَّا فى القيظ أَحْيَانًا فَكنت أرَاهُ يقوم فى لَيْلَة وَاحِدَة خمس عشرَة مرّة إِلَى عشْرين مرّة فى كل ذَلِك يَأْخُذ القداحة فيورى نَارا ويسرج ثمَّ يخرج أَحَادِيث فَيعلم عَلَيْهَا ثمَّ يضع رَأسه وَكَانَ يصلى وَقت السحر ثَلَاث عشرَة رَكْعَة وَكَانَ لَا يوقظنى فى كل مَا يقوم فَقلت لَهُ إِنَّك تحمل على نَفسك فى كل هَذَا وَلَا توقظنى قَالَ أَنْت شَاب وَلَا أحب أَن أفسد عَلَيْك نومك
وَقَالَ الفربرى قَالَ لى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل مَا وضعت فى الصَّحِيح حَدِيثا إِلَّا اغْتَسَلت قبل ذَلِك وَصليت رَكْعَتَيْنِ

وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن معقل سمعته يَقُول كنت عِنْد إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَقَالَ رجل لَو جمعتم كتابا مُخْتَصرا للسنن فَوَقع ذَلِك فى قلبى فَأخذت فى جمع هَذَا الْكتاب
قَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ روى من وَجْهَيْن ثابتين عَن البخارى أَنه قَالَ أخرجت هَذَا الْكتاب من نَحْو سِتّمائَة ألف حَدِيث وصنفته فى سِتّ عشرَة سنة وَجَعَلته حجَّة فِيمَا بينى وَبَين الله
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن معقل سمعته يَقُول مَا أدخلت فى الْجَامِع إِلَّا مَا صَحَّ وَتركت من الصِّحَاح لأجل الطول
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم قلت لَهُ تحفظ جَمِيع مَا فى المُصَنّف قَالَ لَا يخفى على جَمِيع مَا فِيهِ وَلَو نشر بعض إسنادى هَؤُلَاءِ لم يفهموا كتاب التَّارِيخ وَلَا عرفوه ثمَّ قَالَ صنفته ثَلَاث مَرَّات
وَقد أَخذه ابْن رَاهَوَيْه فَأدْخلهُ على عبد الله بن طَاهِر فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير أَلا أريك سحرًا فَنظر فِيهِ عبد الله فتعجب مِنْهُ وَقَالَ لست أفهم تصنيفه
وَقَالَ الفربرى حَدَّثَنى نجم بن الفضيل وَكَانَ من أهل الْفَهم قَالَ رَأَيْت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى النّوم خرج من قَرْيَة وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل خَلفه فَإِذا خطا خطْوَة يخطو مُحَمَّد وَيَضَع قدمه على قدمه وَيتبع أَثَره
وَقَالَ خلف الْخيام سَمِعت أَبَا عَمْرو أَحْمد بن نصر الْخفاف يَقُول مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أعلم فى الحَدِيث من أَحْمد وَإِسْحَاق بِعشْرين دَرَجَة وَمن قَالَ فِيهِ شئ
فَعَلَيهِ منى ألف لعنة وَلَو دخل من هَذَا الْبَاب لملئت مِنْهُ رعْبًا
وَقَالَ أَبُو عِيسَى الترمذى كَانَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عِنْد عبد الله بن مُنِير فَلَمَّا قَامَ من عِنْده قَالَ لَهُ يَا أَبَا عبد الله جعلك الله زين هَذِه الْأمة
قَالَ أَبُو عِيسَى اسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ

وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد المستغفرى فى تَارِيخ نسف وَذكر البخارى لَو جَازَ لى لفضلته على من لقى من مشايخه ولقلت مَا لقى بِعَيْنِه مثل نَفسه
وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْخَواص رَأَيْت أَبَا زرْعَة كالصبى جَالِسا بَين يدى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يسْأَله عَن علل الحَدِيث
وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الْقطَّان سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول كتبت عَن ألف شيخ أَو أَكثر عَن كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة آلَاف وَأكْثر مَا عندى حَدِيث إِلَّا أذكر إِسْنَاده
قلت فَارق البخارى بُخَارى وَله خمس عشرَة سنة وَلم يره مُحَمَّد بن سَلام البيكندى بعد ذَلِك وَقد قَالَ سليم بن مُجَاهِد كنت عِنْد مُحَمَّد بن سَلام البيكندى فَقَالَ لَو جِئْت قبل لرأيت صَبيا يحفظ سبعين ألف حَدِيث
فَخرجت حَتَّى لحقته فَقلت أَنْت تحفظ سبعين ألف حَدِيث قَالَ نعم وَأكْثر وَلَا أجيبك بِحَدِيث عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَّا عرفت مولد أَكْثَرهم ووفاتهم ومساكنهم وَلست أروى حَدِيثا من حَدِيث الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِلَّا ولى من ذَلِك أصل أحفظه حفظا عَن كتاب أَو سنة
وَقَالَ بَعضهم كنت عِنْد مُحَمَّد بن سَلام البيكندى فَدخل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فَلَمَّا خرج قَالَ مُحَمَّد بن سَلام كلما دخل على هَذَا الصبى تحيرت والتبس على أَمر الحَدِيث وَلَا أَزَال خَائفًا مَا لم يخرج
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم سَمِعت مُحَمَّد بن يُوسُف يَقُول كنت عِنْد أَبى رَجَاء يعْنى قُتَيْبَة فَسئلَ عَن طَلَاق السَّكْرَان فَقَالَ هَذَا أَحْمد بن حَنْبَل وَابْن المدينى وَابْن رَاهَوَيْه قد ساقهم الله إِلَيْك وَأَشَارَ إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ مَذْهَب مُحَمَّد أَنه إِذا كَانَ مغلوب الْعقل لَا يذكر مَا يحدث فى سكره أَنه لَا يجوز عَلَيْهِ من أمره شئ

وَسمعت عبد الله بن سعيد يَقُول لما مَاتَ أَحْمد بن حَرْب النيسابورى ركب مُحَمَّد وَإِسْحَاق يشيعان جنَازَته فَكنت أسمع أهل الْمعرفَة بنيسابور ينظرُونَ وَيَقُولُونَ مُحَمَّد أفقه من إِسْحَاق
وَعَن الفربرى رَأَيْت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْمَنَام فَقَالَ لى أَيْن تُرِيدُ فَقلت أُرِيد البخارى فَقَالَ أقرأه منى السَّلَام
وَكَانَ البخارى يخْتم الْقُرْآن كل يَوْم نَهَارا وَيقْرَأ فى اللَّيْل عِنْد السحر ثلثا من الْقُرْآن فمجموع ورده ختمة وَثلث ختمة
وَكَانَ يَقُول أَرْجُو أَن ألْقى الله وَلَا يحاسبنى باغتياب أحد
وَكَانَ يصلى ذَات يَوْم فلسعه الزنبور سبع عشرَة مرّة وَلم يقطع صلَاته وَلَا تغير حَاله
وَعَن الإِمَام أَحْمد مَا أخرجت خُرَاسَان مثل البخارى
وَقَالَ يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدورقى البخارى فَقِيه هَذِه الْأمة
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرازى وَقد خرج البخارى إِلَى الْعرَاق مَا خرج من خُرَاسَان أحفظ مِنْهُ وَلَا قدم الْعرَاق أعلم مِنْهُ
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله سَمِعت أَبَا نصر أَحْمد بن مُحَمَّد الْوراق يَقُول سَمِعت أَبَا حَامِد أَحْمد بن حمدون يَقُول سَمِعت مُسلم بن الْحجَّاج وَجَاء إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى فَقبل مَا بَين عَيْنَيْهِ وَقَالَ دعنى حَتَّى أقبل رجليك يَا أستاذ الأستاذين ومسند الْمُحدثين وَيَا طَبِيب الحَدِيث فى علله حَدثَك مُحَمَّد بن سَلام حَدثنَا مخلد بن يزِيد الحرانى قَالَ أخبرنَا ابْن جريج قَالَ حَدَّثَنى مُوسَى ابْن عقبَة عَن سُهَيْل بن أَبى صَالح عَن أَبِيه عَن أَبى هُرَيْرَة عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ البخارى وَحدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين قَالَا حَدثنَا حجاج بن مُحَمَّد عَن ابْن جريج قَالَ حَدَّثَنى مُوسَى بن عقبَة عَن سُهَيْل بن أَبى صَالح عَن أَبِيه عَن

أَبى هُرَيْرَة عَن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى كَفَّارَة الْمجْلس أَن يَقُول إِذا قَامَ من مَجْلِسه (سُبْحَانَكَ رَبنَا وَبِحَمْدِك)
فَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل هَذَا حَدِيث مليح وَلَا أعلم بِهَذَا الْإِسْنَاد فى الدُّنْيَا حَدِيثا غير هَذَا إِلَّا أَنه مَعْلُول حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا وهيب حَدثنَا سُهَيْل عَن عون بن عبد الله قَوْله
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل هَذَا أولى وَلَا نذْكر لمُوسَى بن عقبَة مُسْندًا عَن سُهَيْل وَهُوَ سُهَيْل بن ذكْوَان مولى جوَيْرِية وهم إخْوَة سُهَيْل وَعباد وَصَالح بَنو أَبى صَالح وهم من أهل الْمَدِينَة
وَقَالَ نسج بن سعيد كَانَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى إِذا كَانَ أول لَيْلَة من شهر رَمَضَان تَجْتَمِع إِلَيْهِ أَصْحَابه فيصلى بهم وَيقْرَأ فى كل رَكْعَة عشْرين آيَة وَكَذَلِكَ إِلَى أَن يخْتم الْقُرْآن وَكَانَ يقْرَأ فى السحر مَا بَين النّصْف إِلَى الثُّلُث من الْقُرْآن فيختم عِنْد السحر فى كل ثَلَاث لَيَال وَكَانَ يخْتم بِالنَّهَارِ فى كل يَوْم ختمة وَيكون ختمة عِنْد الْإِفْطَار كل لَيْلَة وَيَقُول عِنْد كل ختم دَعْوَة مستجابة
وَقَالَ بكر بن مُنِير سَمِعت البخارى يَقُول أَرْجُو أَن ألْقى الله وَلَا يحاسبنى أَنى اغتبت أحدا
قَالَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ يشْهد لهَذِهِ الْمقَالة كَلَامه فى الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِنَّهُ أبلغ مَا يَقُول فِي الرجل الْمَتْرُوك أَو السَّاقِط فِيهِ نظر أَو سكتوا عَنهُ وَلَا يكَاد يَقُول فلَان كَذَّاب وَلَا فلَان يضع الحَدِيث وَهَذَا من شدَّة ورعه
قلت وأبلغ تَضْعِيفه قَوْله فى الْمَجْرُوح مُنكر الحَدِيث
قَالَ ابْن الْقطَّان قَالَ البخارى كل من قلت فِيهِ مُنكر الحَدِيث فَلَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ

وَقَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب سُئِلَ الْعَبَّاس بن الْفضل الرازى الصايغ أَيهمَا أحفظ أَبُو زرْعَة أَو البخارى فَقَالَ لقِيت البخارى بَين حلوان وبغداد فَرَجَعت مَعَه مرحلة وجهدت أَن أجئ بِحَدِيث لَا يعرفهُ فَمَا أمكن وَأَنا أغرب على أَبى زرْعَة عدد شعرى
وَقَالَ أَبُو عَمْرو أَحْمد بن نصر الْخفاف مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أعلم بِالْحَدِيثِ من إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا بِعشْرين دَرَجَة وَمن قَالَ فِيهِ شَيْئا فمنى عَلَيْهِ ألف لعنة
ثمَّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التقى النقى الْعَالم الذى لم أر مثله
وَقَالَ مُحَمَّد بن يَعْقُوب الأخرم سَمِعت أَصْحَابنَا يَقُولُونَ لما قدم البخارى نيسابور استقبله أَرْبَعَة آلَاف رجل على الْخَيل سوى من ركب بغلا أَو حمارا وَسوى الرجالة
وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم فى الكنى عبد الله بن الديلمى أَبُو بسر وَقَالَ البخارى وَمُسلم فِيهِ أَبُو بشر بشين مُعْجمَة قَالَ الْحَاكِم وَكِلَاهُمَا أَخطَأ فى علمى إِنَّمَا هُوَ أَبُو بسر وخليق أَن يكون مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل مَعَ جلالته ومعرفته بِالْحَدِيثِ اشْتبهَ عَلَيْهِ فَلَمَّا نَقله مُسلم من كِتَابه تَابعه على زلته وَمن تَأمل كتاب مُسلم فى الْأَسْمَاء والكنى علم أَنه مَنْقُول من كتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَا يزِيد عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا مَا يسهل عده وتجلد فى نَقله حق الجلادة إِذْ لم ينْسبهُ إِلَى قَائِله وَكتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فى التَّارِيخ كتاب لم يسْبق إِلَيْهِ وَمن ألف بعده شَيْئا من التَّارِيخ

أَو الْأَسْمَاء أَو الكنى لم يسْتَغْن عَنهُ فَمنهمْ من نسبه إِلَى نَفسه مثل أَبى زرْعَة وأبى حَاتِم وَمُسلم وَمِنْهُم من حَكَاهُ عَنهُ فَالله يرحمه فَإِنَّهُ الذى أصل الْأُصُول
وَذكر الْحَاكِم أَبُو أَحْمد كلَاما سوى هَذَا
وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم رَأَيْت أَبَا عبد الله اسْتلْقى على قَفاهُ يَوْمًا وَنحن بفربر فى تصنيف كتاب التَّفْسِير وأتعب نَفسه يَوْمئِذٍ فَقلت إنى أَرَاك تَقول إنى مَا أتيت شَيْئا بِغَيْر علم قطّ مُنْذُ عقلت فَمَا الْفَائِدَة فى الاستلقاء قَالَ أتعبنا أَنْفُسنَا الْيَوْم وَهَذَا ثغر من الثغور خشيت أَن يحدث حدث من أَمر الْعَدو فَأَحْبَبْت أَن أستريح وآخذ أهبة فَإِن غافصنا الْعَدو كَانَ بِنَا حراك وَكَانَ يركب إِلَى الرمى فَمَا أعلم أَنى رَأَيْته فى طول مَا صحبته أَخطَأ سَهْمه الهدف إِلَّا مرَّتَيْنِ وَكَانَ لَا يسْبق
وسمعته يَقُول مَا أردْت أَن أَتكَلّم بِكَلَام فِيهِ ذكر الدُّنْيَا إِلَّا بدأت بِحَمْد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ
قَالَ وَكَانَ لأبى عبد الله غَرِيم قطع عَلَيْهِ مَالا كثيرا فَبَلغهُ أَنه قدم آمل وَنحن بفربر فَقُلْنَا لَهُ ينبغى أَن تعبر وتأخذه بِمَالك فَقَالَ لَيْسَ لنا أَن نروعه
ثمَّ بلغ غَرِيمه فَخرج إِلَى خوارزم فَقُلْنَا ينبغى أَن تَقول لأبى سَلمَة الكشانى عَامل آمل ليكتب إِلَى خوارزم فى أَخذه فَقَالَ إِن أخذت مِنْهُم كتابا طمعوا منى فى كتاب وَلست أبيع دينى بدنياى
فجهدنا فَلم يَأْخُذ حَتَّى كلمنا السُّلْطَان عَن غير أمره فَكتب إِلَى والى خوارزم
فَلَمَّا بلغ أَبَا عبد الله ذَلِك وجد وجدا شَدِيدا وَقَالَ لَا تَكُونُوا أشْفق على من نفسى وَكتب كتابا وَأَرْدَفَ تِلْكَ الْكتب بكتب وَكتب إِلَى بعض أَصْحَابه بخوارزم أَن لَا يتَعَرَّض لغريمه

فَرجع غَرِيمه وَقصد نَاحيَة مرو فَاجْتمع التُّجَّار وَأخْبر السُّلْطَان فَأَرَادَ التَّشْدِيد على الْغَرِيم فكره ذَلِك أَبُو عبد الله وَصَالح غَرِيمه على أَن يُعْطِيهِ كل سنة عشرَة دَرَاهِم شَيْئا يَسِيرا وَكَانَ المَال خَمْسَة وَعشْرين ألفا وَلم يصل من ذَلِك إِلَى دِرْهَم وَلَا إِلَى أَكثر مِنْهُ
سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول مَا توليت شِرَاء شئ قطّ وَلَا بَيْعه
قلت فَمن يتَوَلَّى أَمرك فى أسفارك
قَالَ كنت أكفى أَمر ذَلِك
وَذكر بكر بن مُنِير أَنه حمل إِلَى البخارى بضَاعَة أنفذها إِلَيْهِ ابْنه أَحْمد فَاجْتمع بِهِ بعض التُّجَّار فطلبوها مِنْهُ بِرِبْح خَمْسَة آلَاف دِرْهَم فَقَالَ انصرفوا اللَّيْلَة فَجَاءَهُ من الْغَد تجار آخَرُونَ فطلبوها مِنْهُ بِرِبْح عشرَة آلَاف دِرْهَم فَقَالَ إنى نَوَيْت البارحة بيعهَا للَّذين أَتَوا البارحة
قلت وَقَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم سَمِعت أَبَا عبد الله يَقُول مَا ينبغى للْمُسلمِ أَن يكون بِحَالَة إِذا دعى لم يستجب لَهُ
قَالَ وسمعته يَقُول خرجت إِلَى آدم بن أَبى إِيَاس فتخلفت عَنى نفقتى حَتَّى جعلت أتناول الْحَشِيش وَلَا أخبر بذلك أحدا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث آتانى أت لم أعرفهُ فناولنى صرة دَنَانِير وَقَالَ أنْفق على نَفسك
وَسمعت سليم بن مُجَاهِد يَقُول مَا رَأَيْت بعينى مُنْذُ سِتِّينَ سنة أفقه وَلَا أورع وَلَا أزهد فى الدُّنْيَا من مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل
وَاعْلَم أَن مَنَاقِب أَبى عبد الله كَثِيرَة فَلَا مطمع فى اسْتِيعَاب غالبها والكتب مشحونة بِهِ وَفِيمَا أوردناه مقنع وبلاغ

قصَّته مَعَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلى
قَالَ الْحسن بن مُحَمَّد بن جَابر قَالَ لنا الذهلى لما ورد البخارى نيسابور اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح فَاسْمَعُوا مِنْهُ فَذهب النَّاس إِلَيْهِ وَأَقْبلُوا على السماع مِنْهُ حَتَّى ظهر الْخلَل فى مجْلِس الذهلى فحسده بعد ذَلِك وَتكلم فِيهِ
وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدى ذكر لى جمَاعَة من الْمَشَايِخ أَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل لما ورد نيسابور واجتمعوا عَلَيْهِ حسده بعض الْمَشَايِخ فَقَالَ لأَصْحَاب الحَدِيث إِن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل يَقُول اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فامتحنوه
فَلَمَّا حضر النَّاس قَامَ إِلَيْهِ رجل فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله مَا تَقول فى اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق هُوَ أم غير مَخْلُوق فَأَعْرض عَنهُ وَلم يجبهُ فَأَعَادَ السُّؤَال فَأَعْرض عَنهُ ثمَّ أعَاد فَالْتَفت إِلَيْهِ البخارى وَقَالَ الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق وأفعال الْعباد مخلوقة والامتحان بِدعَة
فشغب الرجل وشغب النَّاس وَتَفَرَّقُوا عَنهُ وَقعد البخارى فى منزله
قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف الفربرى سَمِعت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل يَقُول أما أَفعَال الْعباد فمخلوقة فقد حَدثنَا على بن عبد الله حَدثنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة حَدثنَا أَبُو مَالك عَن ربعى عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن الله يصنع كل صانع وصنعته) وَسمعت عبيد الله بن سعيد سَمِعت يحيى بن سعيد يَقُول مَا زلت أسمع أَصْحَابنَا يَقُولُونَ إِن أَفعَال الْعباد مخلوقة
قَالَ البخارى حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة فَأَما الْقُرْآن المتلو الْمُثبت فى الْمَصَاحِف المسطور الْمَكْتُوب الموعى فى الْقُلُوب فَهُوَ كَلَام الله لَيْسَ بمخلوق قَالَ الله تَعَالَى {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم}

وَقَالَ يُقَال فلَان حسن الْقِرَاءَة وردئ الْقِرَاءَة وَلَا يُقَال حسن الْقُرْآن وَلَا ردئ الْقُرْآن وَإِنَّمَا ينْسب إِلَى الْعباد الْقِرَاءَة لِأَن الْقُرْآن كَلَام الرب وَالْقِرَاءَة فعل العَبْد وَلَيْسَ لأحد أَن يشرع فى أَمر الله بِغَيْر علم كَمَا زعم بَعضهم أَن الْقُرْآن بألفاظنا وألفاظنا بِهِ شئ وَاحِد والتلاوة هى المتلو وَالْقِرَاءَة هى المقروء
فَقيل لَهُ إِن التِّلَاوَة فعل الْقَارئ وَعمل التالى
فَرجع وَقَالَ ظننتهما مصدرين
فَقيل لَهُ هلا أَمْسَكت كَمَا أمسك كثير من أَصْحَابك وَلَو بعثت إِلَى من كتب عَنْك واسترددت مَا أثبت وَضربت عَلَيْهِ
فَزعم أَن كَيفَ يُمكن هَذَا وَقَالَ قلت وَمضى
فَقلت لَهُ كَيفَ جَازَ لَك أَن تَقول فى الله شَيْئا لَا تقوم بِهِ شرحا وبيانا إِذا لم تميز بَين التِّلَاوَة والمتلو فَسكت إِذْ لم يكن عِنْده جَوَاب
وَقَالَ أَبُو حَامِد الأعمشى رَأَيْت البخارى فى جَنَازَة سعيد بن مَرْوَان والذهلى يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والكنى والعلل ويمر فِيهِ البخارى مثل السهْم فَمَا أَتَى على هَذَا شهر حَتَّى قَالَ الذهلى أَلا من يخْتَلف إِلَى مَجْلِسه فَلَا يأتينا فَإِنَّهُم كتبُوا إِلَيْنَا من بَغْدَاد أَنه تكلم فى اللَّفْظ ونهيناه فَلم ينْتَه فَلَا تقربوه
قلت كَانَ البخارى على مَا روى وسنحكى مَا فِيهِ مِمَّن قَالَ لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق
وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلى من زعم أَن لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ مُبْتَدع لَا يُجَالس وَلَا يكلم وَمن زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق فقد كفر
وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّد بن يحيى وَالْعلم عِنْد الله مَا أَرَادَهُ أَحْمد بن حَنْبَل كَمَا قدمْنَاهُ فى تَرْجَمَة الكرابيسى من النهى عَن الْخَوْض فى هَذَا وَلم يرد مُخَالفَة البخارى وَإِن خَالفه وَزعم أَن لَفظه الْخَارِج من بَين شَفَتَيْه المحدثتين قديم فقد بَاء بِأَمْر عَظِيم وَالظَّن بِهِ خلاف ذَلِك

وَإِنَّمَا أَرَادَ هُوَ وَأحمد وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة النهى عَن الْخَوْض فى مسَائِل الْكَلَام وَكَلَام البخارى عندنَا مَحْمُول على ذكر ذَلِك عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ فَالْكَلَام فى الْكَلَام عِنْد الِاحْتِيَاج وَاجِب وَالسُّكُوت عَنهُ عِنْد عدم الِاحْتِيَاج سنة
فَافْهَم ذَلِك ودع خرافات المؤرخين وَاضْرِبْ صفحا عَن تمويهات الضَّالّين الَّذين يظنون أَنهم محدثون وَأَنَّهُمْ عِنْد السّنة واقفون وهم عَنْهَا مبعدون وَكَيف يظنّ بالبخارى أَنه يذهب إِلَى شئ من أَقْوَال الْمُعْتَزلَة وَقد صَحَّ عَنهُ فِيمَا رَوَاهُ الفربرى وَغَيره أَنه قَالَ إنى لأستجهل من لَا يكفر الْجَهْمِية
وَلَا يرتاب الْمنصف فى أَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلى لحقته آفَة الْحَسَد الَّتِى لم يسلم مِنْهَا إِلَّا أهل الْعِصْمَة
وَقد سَأَلَ بَعضهم البخارى عَمَّا بَينه وَبَين مُحَمَّد بن يحيى فَقَالَ البخارى كم يعترى مُحَمَّد بن يحيى الْحَسَد فى الْعلم وَالْعلم رزق الله يُعْطِيهِ من يَشَاء
وَلَقَد ظرف البخارى وَأَبَان عَن عَظِيم ذكائه حَيْثُ قَالَ وَقد قَالَ لَهُ أَبُو عَمْرو الْخفاف إِن النَّاس خَاضُوا فى قَوْلك لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق يَا أَبَا عَمْرو احفظ مَا أَقُول لَك من زعم من أهل نيسابور وقومس والرى وهمذان وبغداد والكوفة وَالْبَصْرَة وَمَكَّة وَالْمَدينَة أَنى قلت لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ كَذَّاب فإنى لم أَقَله إِلَّا أَنى قلت أَفعَال الْعباد مخلوقة
قلت تَأمل كَلَامه مَا أذكاه وَمَعْنَاهُ وَالْعلم عِنْد الله إنى لم أقل لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق لِأَن الْكَلَام فى هَذَا خوض فى مسَائِل الْكَلَام وصفات الله الَّتِى لَا ينبغى الْخَوْض فِيهَا إِلَّا للضَّرُورَة ولكنى قلت أَفعَال الْعباد مخلوقة وهى قَاعِدَة مغنية عَن تَخْصِيص هَذِه الْمَسْأَلَة بِالذكر فَإِن كل عَاقل يعلم أَن لفظنا من جملَة أفعالنا وأفعالنا مخلوقة فألفاظنا مخلوقة

لقد أفْصح بِهَذَا الْمَعْنى فى رِوَايَة أُخْرَى صَحِيحَة عَنهُ رَوَاهَا حَاتِم بن أَحْمد بن الكندى قَالَ سَمِعت مُسلم بن الْحجَّاج فَذكر الْحِكَايَة وفيهَا أَن رجلا قَامَ إِلَى البخارى فَسَأَلَهُ عَن اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا
وفى الْحِكَايَة أَنه وَقع بَين الْقَوْم إِذْ ذَاك اخْتِلَاف على البخارى فَقَالَ بَعضهم قَالَ لفظى بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق وَقَالَ آخَرُونَ لم يقل
قلت فَلم يكن الْإِنْكَار إِلَّا على من يتَكَلَّم فى الْقُرْآن
فَالْحَاصِل مَا قدمْنَاهُ فى تَرْجَمَة الكرابيسى من أَن أَحْمد ابْن حَنْبَل وَغَيره من السادات الموفقين نهوا عَن الْكَلَام فى الْقُرْآن جملَة وَإِن لم يخالفوا فى مَسْأَلَة اللَّفْظ فِيمَا نظنه فيهم إجلالا لَهُم وفهما من كَلَامهم فى غير رِوَايَة ورفعا لمحلهم عَن قَول لَا يشْهد لَهُ مَعْقُول وَلَا مَنْقُول وَمن أَن الكرابيسى والبخارى وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة الموفقين أَيْضا أفصحوا بِأَن لَفظهمْ مَخْلُوق لما احتاجوا إِلَى الإفصاح هَذَا إِن ثَبت عَنْهُم الإفصاح بِهَذَا وَإِلَّا فقد نقلنا لَك قَول البخارى أَن من نقل عَنهُ هَذَا فقد كذب عَلَيْهِ
فَإِن قلت إِذا كَانَ حَقًا لم لَا يفصح بِهِ
قلت سُبْحَانَ الله قد أنبأناك أَن السِّرّ فِيهِ تشديدهم فى الْخَوْض فى علم الْكَلَام خشيَة أَن يجرهم الْكَلَام فِيهِ إِلَى مَا لَا ينبغى وَلَيْسَ كل علم يفصح بِهِ فاحفظ مَا نلقيه إِلَيْك وَاشْدُدْ عَلَيْهِ يَديك
ويعجبنى مَا أنْشدهُ الغزالى فى منهاج العابدين لبَعض أهل الْبَيْت
(إنى لأكتم من علمى جواهره ... كى لَا يرى الْحق ذُو جهل فيفتتنا)
(يَا رب جَوْهَر علم لَو أبوح بِهِ ... لقيل لى أَنْت مِمَّن يعبد الوثنا)
(ولاستحل رجال صَالِحُونَ دمى ... يرَوْنَ أقبح مَا يأتونه حسنا)
(وَقد تقدم فى هَذَا أَبُو حسن ... إِلَى الْحُسَيْن ووصى قبله الحسنا)

ذكره النبأ عَن وَفَاته رضى الله عَنهُ
قَالَ ابْن عدى سَمِعت عبد القدوس بن عبد الْجَبَّار السمرقندى يَقُول جَاءَ البخارى إِلَى خزتنك قَرْيَة من قرى سَمَرْقَنْد على فرسخين مِنْهَا وَكَانَ لَهُ بهَا أقرباء ينزل عِنْدهم قَالَ فَسَمعته لَيْلَة وَقد فرغ من صَلَاة اللَّيْل يَقُول فى دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنى ضَاقَتْ على الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فاقبضنى إِلَيْك
قَالَ فَمَا تمّ الشَّهْر حَتَّى قَبضه الله وقبره بخرتنك
وَعَن عبد الْوَاحِد بن آدم الطواويسى رَأَيْت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى الْمَنَام وَمَعَهُ جمَاعَة من أَصْحَابه فَسلمت عَلَيْهِ فَرد على السَّلَام فَقلت مَا وقوفك يَا رَسُول الله فَقَالَ (أنْتَظر مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى) فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام بلغنى مَوته فَنَظَرْنَا فَإِذا هُوَ قد مَاتَ فى السَّاعَة الَّتِى رَأَيْت النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله سَمِعت أَبَا صَالح خلف بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى يَقُول سَمِعت أَبَا حسان مهيب بن سليم الكرمانى يَقُول مَاتَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل رَحمَه الله عندنَا لَيْلَة الْفطر أول لَيْلَة من شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ بلغ عمره اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سنة غير ثنتى عشرَة لَيْلَة وَكَانَ مولده فى شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَكَانَ فى بَيت وَحده فوجدناه لم أَصْبَحْنَا وَهُوَ ميت
وَقَالَ بكر بن مُنِير بن خُلَيْد البخارى بعث الْأَمِير خَالِد بن أَحْمد الذهلى متولى بُخَارى إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَن احْمِلْ إِلَى كتاب الْجَامِع والتاريخ وَغَيرهمَا لأسْمع مِنْك
فَقَالَ لرَسُوله أَنا لَا أذلّ الْعلم وَلَا أحملهُ إِلَى أَبْوَاب النَّاس فَإِن كَانَ لَهُ إِلَى شئ مِنْهُ حَاجَة فليحضر فى مسجدى أَو فى دارى وَإِن لم يُعجبهُ هَذَا فَإِنَّهُ سُلْطَان فليمنعنى

من الْجُلُوس ليَكُون لى عذر عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة لِئَلَّا أكتم الْعلم فَكَانَ هَذَا سَبَب الوحشة بَينهمَا
وَقَالَ أَبُو بكر بن أَبى عَمْرو البخارى كَانَ سَبَب منافرة البخارى أَن خَالِد بن أَحْمد خَليفَة الظَّاهِرِيَّة ببخارى سَأَلَهُ أَن يحضر منزله فَيقْرَأ الْجَامِع والتاريخ على أَوْلَاده فَامْتنعَ فراسله بِأَن يعْقد مَجْلِسا خَاصّا لَهُم فَامْتنعَ وَقَالَ لَا أخص أحدا فاستعان عَلَيْهِ بحريث بن أَبى الورقاء وَغَيره حَتَّى تكلمُوا فى مذْهبه ونفاه عَن الْبَلَد فَدَعَا عَلَيْهِم فَلم يَأْتِ إِلَّا شهر حَتَّى ورد أَمر الظَّاهِرِيَّة بِأَن يُنَادى على خَالِد فى الْبَلَد فنودى عَلَيْهِ على أتان وَأما حُرَيْث فَابْتلى بأَهْله وَرَأى فِيهَا مَا يجل عَن الْوَصْف وَأما فلَان فَابْتلى بأولاده
رَوَاهَا الْحَاكِم عَن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الضبى عَن أَبى بكر هَذَا
وحريث بن أَبى الورقاء من كبار فُقَهَاء الرأى ببخارى
قَالَ مُحَمَّد بن أَبى حَاتِم سَمِعت غَالب بن جِبْرِيل وَهُوَ الذى نزل عَلَيْهِ أَبُو عبد الله يَقُول أَقَامَ أَبُو عبد الله عندنَا أَيَّامًا فَمَرض وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَض حَتَّى جَاءَ رَسُول إِلَى سَمَرْقَنْد بِإِخْرَاجِهِ فَلَمَّا وافى تهَيَّأ للرُّكُوب فَلبس خفيه وتعمم فَلَمَّا مَشى قدر عشْرين خطْوَة أَو نَحْوهَا وَأَنا آخذ بعضده وَرجل آخر معى يَقُود الدَّابَّة ليرْكبَهَا فَقَالَ رَحمَه الله أرسلونى فقد ضعفت فَدَعَا بدعوات ثمَّ اضْطجع فَقضى رَحمَه الله فَسَالَ مِنْهُ من الْعرق شئ لَا يُوصف فَمَا سكن مِنْهُ الْعرق إِلَى أَن أدرجناه فى ثِيَابه
وَكَانَ فِيمَا قَالَ لنا وَأوصى إِلَيْنَا أَن كفنونى فى ثَلَاثَة أَثوَاب بيض لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة فَفَعَلْنَا ذَلِك
فَلَمَّا دفناه فاح من تُرَاب قَبره رَائِحَة غَالِيَة فدام على ذَلِك أَيَّامًا ثمَّ علت سوارى بيض فى السَّمَاء مستطيلة بحذاء قَبره فَجعل النَّاس يَخْتَلِفُونَ ويتعجبون
وَأما التُّرَاب فَإِنَّهُم كَانُوا يرفعون عَن الْقَبْر حَتَّى ظهر الْقَبْر وَلم يكن يقدر على حفظ

الْقَبْر بالحراس وغلبنا على أَنْفُسنَا فنصبنا على الْقَبْر خشبا مشبكا لم يكن أحد يقدر على الْوُصُول إِلَى الْقَبْر
وَأما ريح الطّيب فَإِنَّهُ تداوم أَيَّامًا كَثِيرَة حَتَّى تحدث أهل الْبَلدة وتعجبوا من ذَلِك
وَظهر عِنْد مخالفيه أمره بعد وَفَاته وَخرج بعض مخالفيه إِلَى قَبره وَأظْهر التَّوْبَة والندامة
قَالَ مُحَمَّد وَلم يَعش غَالب بعده إِلَّا الْقَلِيل وَدفن إِلَى جَانِبه
وَقَالَ أَبُو على الغسانى الْحَافِظ أخبرنَا أَبُو الْفَتْح نصر بن الْحسن السُّكْنَى السمرقندى قدم علينا بلنسية عَام أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة قَالَ قحط الْمَطَر عندنَا بسمرقند فى بعض الأعوام فَاسْتَسْقَى النَّاس مرَارًا فَلم يسقوا فَأتى رجل صَالح مَعْرُوف بالصلاح إِلَى قاضى سَمَرْقَنْد فَقَالَ لَهُ إنى قد رَأَيْت رَأيا أعرضه عَلَيْك
قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ أرى أَن تخرج وَيخرج النَّاس مَعَك إِلَى قبر الإِمَام مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البخارى ونستسقى عِنْده فَعَسَى الله أَن يسقينا فَقَالَ القاضى نعم مَا رَأَيْت
فَخرج القاضى وَالنَّاس مَعَه واستسقى القاضى بِالنَّاسِ وَبكى النَّاس عِنْد الْقَبْر وتشفعوا بِصَاحِبِهِ فَأرْسل الله تَعَالَى السَّمَاء بِمَاء عَظِيم غزير فَقَامَ النَّاس من أَجله بخرتنك سَبْعَة أَيَّام أَو نَحْوهَا لَا يَسْتَطِيع أحد الْوُصُول إِلَى سَمَرْقَنْد من كَثْرَة الْمَطَر وغزارته وَبَين سَمَرْقَنْد وخرتنك نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال
قلت وَأما الْجَامِع الصَّحِيح وَكَونه ملْجأ للمعضلات ومجربا لقَضَاء الْحَوَائِج فَأمر مَشْهُور وَلَو اندفعنا فى ذكر تَفْصِيل ذَلِك وَمَا اتّفق فِيهِ لطال الشَّرْح

ذكر نخب وفوائد ولطائف عَن أَبى عبد الله
قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله وَمن شعر البخارى قَرَأت بِخَط أَبى عَمْرو المستملى وَأنْشد البخارى
(اغتنم فى الْفَرَاغ فضل رُكُوع ... فَعَسَى أَن يكون موتك بغته)
(كم صَحِيح رَأَيْت من غير سقم ... ذهبت نَفسه الصَّحِيحَة قلته)
قَالَ وَأنْشد البخارى
(خَالق النَّاس بِخلق وَاسع ... لَا تكن كَلْبا على النَّاس تهر)
قَالَ وَأنْشد أَبُو عبد الله
(مثل الْبَهَائِم لَا ترى آجالها ... حَتَّى تساق إِلَى المجازر تنحر)
قَالَ وَأنْشد البخارى
(إِن تبْق تفجع بالأحبة كلهم ... وفناء نَفسك لَا أَبَا لَك أفجع)
قلت هَذَا أحسن وَأجْمع من قَول الْقَائِل
(وَمن يعمر يلق فى نَفسه ... مَا يتمناه لأعدائه)
وَمن قَول الطغرائى
(هَذَا جَزَاء امرىء أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الْأَجَل)
وهى من قصيدته الَّتِى تسمى لامية الْعَجم وهى هَذِه
(أَصَالَة الرأى صانتنى عَن الخطل ... وَحلية الْفضل زانتنى لَدَى العطل)
(مجدى أخيرا ومجدى أَولا شرع ... وَالشَّمْس رأد الضخى كَالشَّمْسِ فى الطِّفْل)

(فى م الْإِقَامَة بالزوراء لَا سُكْنى ... بهَا وَلَا ناقتى فِيهَا وَلَا جملى)
(ناء عَن الْأَهْل صفر الرحل مُنْفَرد ... كالسيف عرى متناه من الْخلَل)
(فَلَا صديق إِلَيْهِ مشتكى حزنى ... وَلَا أنيس لَدَيْهِ مُنْتَهى جذلى)
(طَال اغترابى حَتَّى حن راحلتى ... ورحلها وقرى العسالة الذبل)
(وضج من لغب نضوى وعج لما ... يلقى ركابى ولج الركب فى عذلى)
(أُرِيد بسطة كف أستعين بهَا ... على قَضَاء حُقُوق للعلى قبلى)
(والدهر يعكس آمالى ويقنعنى ... من الْغَنِيمَة بعد الكد بالقفل)
(وذى شطاط كصدر الرمْح معتقل ... لمثله غير هياب وَلَا وكل)
(حُلْو الفكاهة مر الْجد قد مزجت ... بِقُوَّة الْبَأْس مِنْهُ رقة الْغَزل)
(طردت سرح الْكرَى عَن ورد مقلته ... وَاللَّيْل أغرى سوام النّوم بالمقل)
(والركب ميل على الأكوار من طرب ... صَاح وَآخر من خمر الْكرَى ثمل)
(فَقلت أَدْعُوك للجلى لتنصرنى ... وَأَنت تخذلنى فى الْحَادِث الجلل)
(تنام عينى وَعين النَّجْم ساهرة ... وتستحيل وصبغ اللَّيْل لم يحل)
(فَهَل تعين على غى هَمَمْت بِهِ ... والغى يزْجر أَحْيَانًا عَن الفشل)

(إنى أُرِيد طروق الْجزع من إضم ... وَقد حماه رُمَاة الحى من ثعل)
(يحْمُونَ بالبيض والسمر اللدان بِهِ ... سود الغدائر حمر الحلى وَالْحلَل)
(فسر بِنَا فى ذمام اللَّيْل مهتديا ... فنفحة الطّيب تهدينا إِلَى الْحلَل)
(فالحب حَيْثُ العدى والأسد رابضة ... حول الكناس لَهَا غَابَ من الأسل)
(نوم ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل)
(قد زَاد طيب أَحَادِيث الْكِرَام بهَا ... مَا بالكرائم من جبن وَمن بخل)
(تبيت نَار الْهوى مِنْهُنَّ فى كبد ... حرى ونار الْقرى مِنْهُم على القلل)
(يقتلن أنضاء حب لَا حراك بِهِ ... وينحرون كرام الْخَيل وَالْإِبِل)
(يشفى لديغ العوالى فى بُيُوتهم ... بنهلة من غَدِير الْخمر وَالْعَسَل)
(لَعَلَّ إلمامة بالجزع ثَانِيَة ... يدب مِنْهَا نسيم الْبُرْء فى عللى)
(لَا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الْأَعْين النجل)
(وَلَا أهاب الصفاح الْبيض تسعدنى ... باللمح من صفحات الْبيض فى الكلل)

(وَلَا أخل بغزلان أغازلها ... وَلَو دهتنى أسود الغيل بالغيل)
(حب السَّلامَة يثنى هم صَاحبه ... عَن المعالى ويغرى الْمَرْء بِالْكَسَلِ)
(فَإِن جنحت إِلَيْهِ فَاتخذ نفقا ... فى الأَرْض أَو مصعدا فى الجو فاعتزل)
(ودع غمار العلى للمقدمين على ... ركُوبهَا واقتنع مِنْهُنَّ بالبلل)
(رضَا الذَّلِيل بخفض الْعَيْش مسكنة ... والعز عِنْد رسيم الأينق الذلل)
(فادرأ بهَا فى نحور البيد جافلة ... معارضات مثانى اللجم بالجدل)
(إِن العلى حدثتنى وهى صَادِقَة ... فِيمَا تحدث أَن الْعِزّ فى النَّقْل)
(لَو أَن فى شرف المأوى بُلُوغ علا ... لم تَبْرَح الشَّمْس يَوْمًا دارة الْحمل)
(أهبت بالحظ لَو ناديت مستمعا ... والحظ عَنى بالجهال فى شغل)
(لَعَلَّه إِن بدا فضلى ونقصهم ... لعَينه نَام عَنْهُم أَو تنبه لى)
(أعلل النَّفس بالآمال أرقبها ... مَا أضيق الْعَيْش لَوْلَا فسحة الأمل)
(لم أَرض بالعيش وَالْأَيَّام مقبلة ... فَكيف أرْضى وَقد ولت على عجل)
(غالى بنفسى عرفانى بِقِيمَتِهَا ... فصنتها عَن رخيص الْقدر مبتذل)
(وَعَادَة النصل أَن يزهى بجوهره ... وَلَيْسَ يعْمل إِلَّا فى يدى بَطل)

(مَا كنت أوثر أَن يَمْتَد بى زمنى ... حَتَّى أرى دولة الأوغاد والسفل)
(تقدمتنى رجال كَانَ شوطهم ... وَرَاء خطوى لَو أمشى على مهل)
(هَذَا جَزَاء امرىء أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الْأَجَل)
(وَإِن علانى من دونى فَلَا عجب ... لى أُسْوَة بانحطاط الشَّمْس عَن زحل)
(فاصبر لَهَا غير محتال وَلَا ضجر ... فى حَادث الدَّهْر مَا يغنى عَن الْحِيَل)
(أعدى عَدوك أدنى من وثقت بِهِ ... فحاذر النَّاس واصحبهم على دخل)
(وَإِنَّمَا رجل الدُّنْيَا وواحدها ... من لَا يعول فى الدُّنْيَا على رجل)
(وَحسن ظَنك بِالْأَيَّامِ معْجزَة ... فَظن شرا وَكن مِنْهَا على وَجل)
(غاض الْوَفَاء وفاض الْغدر وانفرجت ... مَسَافَة الْخلف بَين القَوْل وَالْعَمَل)
(وشان صدقك عِنْد النَّاس كذبهمْ ... وَهل يُطَابق معوج بمعتدل)
(إِن كَانَ ينجع شىء فى ثباتهم ... على العهود فَسبق السَّيْف للعذل)
(يَا واردا سُؤْر عَيْش كُله كدر ... أنفقت صفوك فى أيامك الأول)
(فى م اعتراضك لج الْبَحْر تركبه ... وَأَنت يَكْفِيك مِنْهُ مصة الوشل)
(ملك القناعة لَا يخْشَى عَلَيْهِ وَلَا ... يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْأَنْصَار والخول)
(ترجو الْبَقَاء بدار لَا ثبات لَهَا ... فَهَل سَمِعت بِظِل غير منتقل)
(أيا خَبِيرا على الْأَسْرَار مطلعا ... اصمت ففى الصمت منجاة من الزلل)

(قد رشحوك لأمر لَو فطنت لَهُ ... فاربأ بِنَفْسِك أَن ترعى مَعَ الهمل)
فى صَحِيح البخارى عَن الْحسن أَن من عَلَيْهِ صَوْم رَمَضَان إِذا مَاتَ فصَام عَنهُ ثَلَاثُونَ رجلا فى يَوْم وَاحِد أَجزَأَهُ
فرع غَرِيب
يَقع تَفْرِيعا على القَوْل بِأَنَّهُ يصام عَن الْمَيِّت وَقد ذكره النووى فى شرح الْمُهَذّب وَقَالَ لم أر لِأَصْحَابِنَا فِيهِ كلَاما قَالَ وَهُوَ الظَّاهِر
وَكَذَلِكَ قَالَ الْوَالِد فى شرح الْمِنْهَاج إِن مَا قَالَه الْحسن هُوَ الظَّاهِر الذى نعتقده
اسْتدلَّ البخارى على جَوَاز النّظر إِلَى المخطوبة بقول النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة رضى الله عَنْهَا (رَأَيْتُك فى الْمَنَام يجىء بك الْملك فى سَرقَة من حَرِير فَقَالَ لى هَذِه امْرَأَتك فَكشفت عَن وَجهك الثَّوْب فَإِذا أَنْت هى)
قَالَ الْوَالِد رَحمَه الله فى شرح الْمِنْهَاج وَهَذَا اسْتِدْلَال حسن لِأَن فعل النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فى النّوم واليقظة سَوَاء وَقد كشف عَن وَجههَا
ذكر أَبُو عَاصِم العبادى أَن الساجى قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن الْحُسَيْن عَن الشافعى أَنه قَالَ يكره أَن يَقُول الرجل قَالَ الرَّسُول بل يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَكُون مُعظما انْتهى
وَالْحُسَيْن هُوَ الكرابيسى وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل هُوَ البخارى فِيمَا ذكر أَبُو عَاصِم

وَرَأَيْت بِخَط ابْن الصّلاح أَحسب أَبَا عَاصِم واهما وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل هَذَا هُوَ السلمى
نقلت من خطّ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله قَالَ ابْن بشكوال فى الصِّلَة فى تَارِيخ الأندلس فى تَرْجَمَة عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْبر وَالِد أَبى عمر وَقد جوز البخارى أَن يحدث الرجل عَن كتاب أَبِيه بتبيين أَنه خطه دون خطّ غَيره
قَالَ الْوَالِد قَوْله دون خطّ غَيره إِن كَانَ المُرَاد بتبين أَن لَيْسَ خطّ غَيره فَهُوَ مُوَافق لما قَالَه النَّاس وَإِن كَانَ المُرَاد أَنه لَا يحدث عَن خطّ غَيره فَغير مَعْرُوف

 

طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي

 

 

البُخَارِيّ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة الْجعْفِيّ مَوْلَاهُم
الْحَافِظ الْعلم صَاحب الصَّحِيح وَإِمَام هَذَا الشَّأْن والمعول على صَحِيحه فِي أقطار الْبلدَانِ
روى عَن الإِمَام أَحْمد وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر وَابْن الْمَدِينِيّ وآدَم بن أبي إِيَاس وقتيبة وَخلق
وَعَن مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن أبي الدُّنْيَا وَأَبُو حَاتِم والمحاملي والفربري وَخلق آخِرهم وَفَاة وَرِوَايَة للصحيح أَبُو طَلْحَة مَنْصُور بن مُحَمَّد النَّسَفِيّ
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن أبي حَاتِم الْوراق قلت لأبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ كَيفَ كَانَ بَدْء أَمرك فِي طَالب الحَدِيث قَالَ ألهمت حفظ الحَدِيث وَأَنا فِي الْكتاب ولي عشر سِنِين أَو أقل ثمَّ خرجت من الْكتاب بعد الْعشْر فَجعلت أختلفت إِلَى الداخلي وَغَيره فَلَمَّا طعنت فِي سِتّ عشرَة سنة حفظت كتب ابْن الْمُبَارك ووكيع وَعرفت كَلَام هَؤُلَاءِ وأقاويلهم ثمَّ خرجت مَعَ أُمِّي وَأخي أَحْمد إِلَى مَكَّة فَأَقَمْنَا بهَا إِلَى طلب الحَدِيث
فَلَمَّا طعنت فِي ثَمَان عشرَة جعلت أصنف قضايا الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأقاويلهم وصنف كتاب التَّارِيخ إِذْ ذَاك عِنْد قبر الرَّسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقل اسْم فِي التَّارِيخ إِلَّا وَله عِنْدِي قصَّة إِلَّا أَنِّي كرهت تَطْوِيل الْكتاب

وروى عَن البُخَارِيّ أَنه قَالَ أخرجت هَذَا الْكتاب يعين الصَّحِيح من زهاء سِتّمائَة ألف حَدِيثه
وَقَالَ الْفربرِي قَالَ لي البُخَارِيّ مَا وضعت فِي كتابي الصَّحِيح حَدِيثا إِلَّا اغْتَسَلت قبل ذَلِك وَصليت رَكْعَتَيْنِ
وَقَالَ بنْدَار حفاظ الدُّنْيَا أَرْبَعَة أَبُو زرْعَة بِالريِّ وَمُسلم بنيسابور والدارمي بسمرقند وَالْبُخَارِيّ ببخارى
وَقَالَ ابْن عدي كَانَ ابْن صاعد إِذا ذكر البُخَارِيّ يَقُول الْكَبْش النطاح
وللبخاري من المؤلفات الْجَامِع الصَّحِيح التَّارِيخ الْكَبِير الْأَدَب الْمُفْرد الْقِرَاءَة خلف الإِمَام
ولد يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة لثلاث عشرَة خلت من شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة وَمَات لَيْلَة عيد الْفطر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ

طبقات الحفاظ - لجلال الدين السيوطي.

 

أبي عبد الله البخاري
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بزدزبه، وَقِيْلَ بَذْدُزْبَه، وَهِيَ لَفْظَةٌ بخَارِيَّةٌ، معنَاهَا الزرَّاعُ.
أَسلَمَ المُغِيْرَةُ عَلَى يَدِي اليَمَان الجُعْفِيِّ وَالِي بُخَارَى، وَكَانَ مَجُوْسِيّاً وَطَلَبَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ العِلْمَ.
فَأَخْبَرَنَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ الهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أبي طَاهِرٍ بنِ سِلَفَةَ، أَخْبَرْنَا أبي عَلِيٍّ البَرْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ الحُسَيْنِ قَالاَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ أَحْمَدَ بنِ خَلَفٍ أَنَّهُ سَمِعَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعَ أَبِي مِنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ، وَرَأَى حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ، وَصَافحَ ابْنَ المُبَارَكِ بكلتَا يَدَيْهِ.
قُلْتُ: وَوُلِدَ أبي عَبْدِ اللهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَةٍ. قَاله أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ البُخَارِيُّ، وَرَّاقُ أَبِي عَبْدِ اللهِ فِي كِتَابِ: "شمَائِلِ البُخَارِيِّ" جَمْعَهُ، وَهُوَ جزءٌ ضخمٌ.
أَنْبَأَنِي بِهِ أَحْمَدُ بنُ أَبِي الخَيْرِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ الطَّرَسُوْسِيِّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ طاهر الحافظ
أَجَازَ لَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ أَخْبَرَنَا أبي طَاهِرٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مِهْرَوَيْهِ الفَارِسِيُّ المُؤَدِّبُ، قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ مَرْو لزيَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ السُّلَمِيِّ، أَخْبَرَنَا أبي مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ، بنِ مَطَرٍ الفِرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ أَبِي حَاتِمٍ فَذَكَرَ الكِتَابَ فَمَا أَنْقُلُهُ عَنْهُ فَبهَذَا السّندِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ فِيْمَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الفَقِيْهُ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقِي أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللهِ بنُ الحَسَنِ الحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَفْصٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ الفَضْلِ البَلْخِيُّ سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: ذهبَتْ عينَا مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فِي صِغَرِهِ فرأَتْ، وَالِدتُهُ فِي المَنَامِ إِبْرَاهِيْمَ الخَلِيْلَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ قَدْ رَدَّ اللهُ عَلَى ابْنِكِ بصرَهُ لكَثْرَةِ بُكَائِكِ، أَوْ كَثْرَةِ دُعَائِكِ شكَّ البَلْخِيُّ فَأَصْبحْنَا، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بصرَهُ.
وبَالسَّندِ المَاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمرِكَ? قَالَ: أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيْثِ، وَأَنَا فِي الكُتَّابِ فَقُلْتُ: كم كَانَ سِنُّكَ? فَقَالَ: عشرُ سِنِيْنَ، أَوْ أَقَلّ ثُمَّ خرجْتُ مِنَ الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف الدَّاخلِيِّ، وَغَيْرِهِ فَقَالَ يَوْماً فِيْمَا كَانَ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ: سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ فَانْتَهَرنِي فَقُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى الأَصْلِ فَدَخَلَ فنظَرَ فِيْهِ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلاَمُ? قُلْتُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ فَأَخَذَ القلمَ مِنِّي، وَأَحْكَمَ كِتَابَهُ وَقَالَ: صدقْتَ فَقِيْلَ لِلْبُخَارِيِّ: ابْنُ كَمْ كُنْتَ حِيْنَ رددتَ عَلَيْهِ? قَالَ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً كُنْتُ قَدْ حفظتُ كتبَ ابْنِ المُبَارَكِ، وَوَكِيْعٍ وَعرفتُ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ ثُمَّ خرجْتُ مَعَ أُمِّي، وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا! وَتخلَّفْتُ فِي طلب الحديث.
ذِكْرُ تسمِيَة شُيوخِهِ وَأَصْحَابِهِ:
سَمِعَ بِبُخَارَى قَبْلَ أَنْ يرتحلَ مِنْ مَوْلاَه مِنْ فَوْقِ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ اليَمَانِ الجُعْفِيِّ المُسْنديِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ البِيْكَنْدِيِّ وَجَمَاعَةٍ ليسُوا مِنْ كِبَارِ شُيُوْخِهِ.
ثُمَّ سَمِعَ ببلخٍ مِنْ مكِّيِّ بنِ إِبْرَاهِيْمَ وَهُوَ مِنْ عَوَالِي شُيوخِهِ وَسَمِعَ بِمَرْوَ مِنْ عبدَانَ بنِ عُثْمَانَ وَعَلِيِّ بنِ الحَسَنِ بنِ شَقِيْقٍ، وَصَدَقَةَ بنِ الفَضْلِ وَجَمَاعَةٍ.
وبِنَيْسَأبيرَ مِنْ يَحْيَى بنِ يَحْيَى وَجَمَاعَةٍ.

وبَالرَّيِّ: إِبْرَاهِيْمَ بنِ مُوْسَى.
وبِبَغْدَادَ إِذْ قَدِمَ العِرَاقَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَمائَتَيْنِ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ عِيْسَى بنِ الطَّبَّاعِ، وَسُرَيْجِ بنِ النُّعْمَانِ وَمُحَمَّدِ بنِ سَابِق وَعَفَّانَ.
وبِالبَصْرَةِ مِنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيْلِ، وَالأَنْصَارِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ حَمَّادٍ الشُّعَيثِيّ صَاحِبِ ابْنِ عَوْنٍ، وَمِن مُحَمَّدِ بنِ عَرْعَرَةَ وَحَجَّاجِ بنِ منهَالٍ وَبَدَلُ بنُ المُحَبَّرِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ رَجَاءَ وَعِدَّةٍ.
وبِالْكُوْفَةِ مِنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى، وَأَبِي نُعَيْمٍ وَخَالِدِ بنِ مَخْلَدٍ وَطَلْقِ بنِ غَنَّامٍ، وَخَالِدِ بنِ يَزِيْدَ المُقْرِئِ مِمَّنْ قَرَأَ عَلَى حَمْزَةَ.
وَبِمَكَّةَ مِنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُقْرِئِ، وَخَلاَّدِ بنِ يَحْيَى وَحَسَّانِ بنِ حَسَّانٍ البَصْرِيِّ، وَأَبِي الوَلِيْدِ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ الأَزْرَقِيِّ وَالحُمَيْدِيِّ.
وبَالمَدِيْنَةِ مِنْ عَبْدِ العَزِيْزِ الأُوَيسِيِّ، وَأَيُّوْبَ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ بِلاَلٍ وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي أُوَيْسٍ.
وبمصرَ: سَعِيْدَ بنَ أَبِي مَرْيَمَ وَأَحْمَدَ بنَ إِشكَابٍ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ يُوْسُفَ وَأَصْبَغَ وَعِدَّةً.
وبَالشَّامِ: أَبَا اليَمَانِ وَآدَمَ بنَ أَبِي إِيَاسٍ وَعَلِيَّ بنَ عَيَّاشٍ وَبِشْرَ بنَ شُعَيْبٍ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي المُغِيْرَةِ عَبْدِ القُدّوس، وَأَحْمَدَ بنِ خَالِدٍ الوهبِيِّ وَمُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرْيَابِيِّ وَأَبِي مُسْهِرٍ وَأُمَمٍ سِوَاهُم.
وَقَدْ قَالَ وَرَّاقُهُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ بلخَ فَسَأَلونِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِم لِكُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيْثاً فَأَمليتُ أَلفَ حَدِيْثٍ لأَلفِ رَجُلٍ ممَّن كَتَبْتُ عَنْهُم.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ قَبْلَ مَوْته بشهرٍ يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْ أَلفٍ وَثَمَانِيْنَ رَجُلاً لَيْسَ فِيْهِم إلَّا صَاحِب حَدِيْثٍ كَانُوا يَقُوْلُوْنَ: الإِيْمَانُ قَوْلٌ، وَعَمَلٌ يَزِيْدُ وَيَنْقُصُ.
قُلْتُ: فَأَعْلَى شُيُوْخهِ الَّذِيْنَ حَدَّثوهُ عَنِ التَّابِعِيْنَ، وَهُم أبي عاصم وَالأَنْصَارِيُّ وَمكِيُّ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، وَعُبَيْدُ اللهِ بنُ مُوْسَى وَأبي المُغِيْرَةِ وَنحوُهُم.
وَأَوْسَاطُ شُيُوْخهِ الَّذِيْنَ رَوَوْا لَهُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَشُعْبَةَ وَشُعَيْبِ بنِ أَبِي حَمْزَةَ وَالثَّوْرِيِّ.
ثُمَّ طَبَقَةٌ أُخْرَى دونَهُم كَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ وَأَبِي عَوَانَةَ.

وَالطَّبَقَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ شُيُوْخِهِ مِثْلُ أَصْحَابِ ابْنِ المُبَارَكِ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَابْنِ وَهْبٍ، وَالوَلِيْدِ بنِ مُسْلِمٍ.
ثُمَّ الطَّبَقَةُ الخَامِسَةُ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ الَّذِي روَى عَنْهُ الكَثِيْرَ وَيُدَلِّسُهُ، وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ المُخَرِّمِيُّ وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ صَاعِقَة، وَهَؤُلاَءِ هُم مِنْ أَقْرَانِهِ وَقَدْ سَمِعَ مِنْ أَبِي مُسْهِرٍ، وَشَكَّ فِي سَمَاعِهِ فَقَالَ فِي غَيْر الصَّحِيْحِ: حَدَّثَنَا أبي مُسْهِرٍ أَوْ حَدَّثَنَا رَجُلٌ عَنْهُ، وَروَى عَنْ أَحْمَدَ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ، وَاقِدٍ الحَرَّانِيِّ لَقِيَهُ بِالعِرَاقِ وَلَمْ يَدْخُلِ الجَزِيْرَةَ وَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَلَّى بنِ مَنْصُوْرٍ الرَّازِيِّ بِبَغْدَادَ سنَةَ عشر.
رَوَى عَنْهُ خلقٌ كَثِيْرٌ مِنْهُم: أبي عِيْسَى التِّرْمِذِيُّ، وَأبي حَاتِمٍ وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ إِسْحَاقَ الحَرْبِيُّ وَأبي بَكْرٍ بنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأبي بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَمْرِو بنِ أَبِي عَاصِمٍ وَصَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَة وَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَضْرَمِيُّ مُطَيَّن، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلٍ النَّسَفيُّ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ نَاجِيَةَ وَأبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ خُزَيْمَةَ، وَعُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ بجير وأبي قريش محمد بن جمعة، وَيَحْيَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَاعِدٍ وَمُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيُّ رَاوِي الصَّحِيْحِ، وَمَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدٍ مِزْبَزْدَة وَأبي بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ، وَالحُسَيْنُ وَالقَاسِمُ ابْنَا المَحَامِلِيِّ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الأَشْقَرِ، وَمُحَمَّدُ بنُ سُلَيْمَانَ بنِ فَارِسٍ وَمَحْمُوْدُ بنُ عَنْبَرٍ النَّسَفيُّ، وَأَممٌ لاَ يُحصَونَ وَرَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ فِي غَيْر صَحِيْحهِ وَقِيْلَ: إِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى عَنْهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ سُنَنِهِ، وَلَمْ يَصِحَّ لَكِن قَدْ حَكَى النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الكُنَى لهُ أَشْيَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ الخَفَّافِ عَنِ البُخَارِيِّ.
وَقَدْ رَتَّبَ شَيْخُنَا أبي الحَجَّاجِ المِزِّيِّ شُيُوْخَ البُخَارِيِّ، وَأَصْحَابَهُ عَلَى المُعْجَمِ كعَادَتِهِ، وَذَكَرَ خَلْقاً سِوَى مَنْ ذكرت.
وَقَدْ أَنْبَأَنَا المُؤَمَّلُ بنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ أبا اليمن البغوي أَخبرَهُم، أَخْبَرَنَا أبي مَنْصُوْرٍ القَزَّازُ أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ الخَطِيْبُ أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ القَاضِي الحَرَشِيُّ بِنَيْسَأبيرَ سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَحْمَدَ البَلْخِيَّ يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: سَمِعَ كِتَابَ الصَّحِيْحِ لِمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ تِسْعُوْنَ أَلفَ رَجُلٍ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِيْهِ غَيْرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ: رَوَى "صَحِيْحَ" البُخَارِيِّ جماعة، منهم: الفربري، وحماد بن شاكر، وإبراهيم بنَ مَعْقِلٍ، وَطَاهرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَخْلَدٍ النَّسَفِيَان.
وَقَالَ الأَمِيْرُ الحَافِظُ أبي نَصْرٍ بنُ مَاكُوْلا: آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ البُخَارِيِّ بـ"الصحيح" أبي

طَلْحَةَ مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ البَزْدِيُّ مِنْ أَهْلِ بَزْدَةَ. وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
أَخْبَرَنَا أبي المَعَالِي أَحْمَدُ بنُ إِسْحَاقَ الأَبَرْقُوْهِيُّ بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ زَيْدُ بنُ هِبَةِ اللهِ البَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ المُبَارَكِ بنُ قَفَرْجَلَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بنُ الحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أبي عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ المَحَامِلِيُّ سَنَة تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ يَعْنِي: الثَّوْرِيَّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَدِّي أبي بردة، عن أبيه أبي مُوْسَى قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً". وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَكَانَ جَالِساً فَجَاءهُ رَجُلٌ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلِيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُوْلِهِ مَا شَاءَ" 1.
أَخْبَرَنَا أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ الهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القَطِيْعِيُّ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ المُجَلِّدُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يُوْنُسَ، وَحَبِيْبٍ وَيَحْيَى بن عَتِيْق وَهِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيْرِيْنَ عَنْ أُمِّ عطيَّةَ قَالَتْ: أَمْرُ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تَخْرُجَ ذَوَاتُ الخُدُورِ يَوْمَ العِيْدِ قِيْلَ: فَالحُيَّضُ? قَالَ: "يَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِيْنَ" 2.
هذَان حَدِيْثَانِ صَحِيْحَانِ مِنْ عَالِي مَا وَقَعَ لَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عبد الله سوى "الصحيح".
وَأَمَّا "الصَّحِيْحُ" فَهُوَ أَعْلَى مَا وَقَعَ لَنَا مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعْتُ الحَدِيْثَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ فَمَا ظَنُّكَ بعلُوِّهِ اليَوْمَ، وَهُوَ سنَة خَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعَ مائَةٍ!! لَوْ رحلَ الرَّجُلُ مِنْ مسيرَةِ سَنَةٍ لسَمَاعِهِ لمَا فَرَّطَ كَيْفَ، وَقَدْ دَامَ عُلُوُّهُ إِلَى عَامِ ثَلاَثِيْنَ وَهُوَ أَعْلَى الكُتُبِ السِّتَّةِ سَنَداً إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَيْءٍ كَثِيْرٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ وَذَلِكَ لأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَسنُّ الجَمَاعَةِ، وَأَقْدَمُهُم لُقِيّاً لِلْكبارِ أَخَذَ عَنْ جَمَاعَةٍ يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
ذِكْرُ رِحلتِهِ وَطَلَبِهِ وَتَصَانِيْفِهِ:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ البُخَارِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: حَجَجْتُ، وَرَجَعَ أَخِي بِأُمِّي وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْث فَلَمَّا طَعنْتُ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ جَعَلتُ أُصَنِّفُ قضَايَا الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِيْنَ وَأَقَاويلَهُم، وَذَلِكَ أَيَّامَ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى.
وصنَّفْتُ كِتَابَ "التَّارِيْخِ" إِذْ ذَاكَ عِنْدَ قَبْرِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اللَّيَالِي المُقْمِرَةِ، وَقَلَّ اسْمٌ فِي التَّارِيْخِ إلَّا وَلَهُ قِصَّةٌ إلَّا أَنِّي كَرِهْتُ تطويلَ الكتاب.
وكُنْتُ أَختلِفُ إِلَى الفُقَهَاءِ بِمَرْوَ وَأَنَا صَبِيٌّ، فإذا جئت أستحيي أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِم فَقَالَ لِي مُؤَدِّبٌ مِنْ أَهلِهَا: كم كتبتَ اليَوْمَ? فَقلتُ: اثْنَيْنِ وَأَرَدْتُ بِذَلِكَ حَدِيْثَيْنِ فَضَحِكَ مَنْ حَضَرَ المَجْلِسَ فَقَالَ شَيْخٌ مِنْهُم: لاَ تضحكُوا فَلَعَلَّهُ يَضْحَكُ مِنْكُم يَوْماً!! وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ عَلَى الحُمَيْدِيِّ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ اخْتِلاَفٌ فِي حَدِيْثٍ فَلَمَّا بَصُرَ بِي الحُمَيْدِيُّ قَالَ: قَدْ جَاءَ مَنْ يفصِلُ بَيْنَنَا فَعَرضَا عَلَيَّ فَقضيتُ لِلْحُمِيديِّ عَلَى مَنْ يُخَالِفُهُ، وَلَوْ أَنَّ مُخَالِفَهُ أَصَرَّ عَلَى خِلاَفِهِ ثُمَّ مَاتَ عَلَى دعوَاهُ لَمَاتَ كَافِراً.
أَخْبَرَنَا أبي عَلِيٍّ بنُ الخلاَّل، أَخْبَرَنَا أبي الفَضْلِ الهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أبي عَلَيٍّ البَردَانِيُّ، وَابْنُ الطُّيوُرِيِّ قَالاَ: أَخْبَرَنَا هَنَّادُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ غُنجَار، أَخْبَرَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ الخَيَّامُ سَمِعْتُ الفَضْلَ بنَ إِسْحَاقَ البَزَّازَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ منهَال العَابِدُ، حَدَّثَنَا أبي بَكْرٍ الأَعْيَنُ قَالَ: كتبنَا عَنِ البُخَارِيِّ عَلَى بَابِ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرْيَابِيِّ، وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ فقُلْنَا: ابْنُ كَمْ أَنْتَ? قَالَ: ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَالَ خَلَفٌ الخيَّامُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مَعْقِلٍ، سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: كُنْتُ عندَ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَوْ جمعتُم كِتَاباً مختصِراً لسُنَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلبِي فَأَخذتُ فِي جمعِ هَذَا الكِتَابِ.
وَعَنْ ... أَنَّ البُخَارِيَّ قَالَ: أَخرجتُ هَذَا الكِتَابَ من زهاء ستمائة أَلْفِ حَدِيْثٍ.
أَنبأَنَا المُؤَمَّلُ بنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، أَنْبَأَنَا أبي اليُمْنِ الكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أبي مَنْصُوْرٍ القَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ الخَطِيْبُ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ العَطَّارُ بِالرَّيِّ، سَمِعْتُ أَبَا الهَيْثَمِ الكُشْمِيهَنِيَّ، سَمِعْتُ الفِرَبْرِيَّ يَقُوْلُ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: مَا وضعتُ فِي كِتَابِي "الصَّحِيْحِ" حَدِيْثاً إلَّا اغتسلتُ قَبْلَ ذَلِكَ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ.

أَخْبَرْنَا ابْنُ الخلاَّلِ، أَخْبَرَنَا الهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أبي عَبْدِ اللهِ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ الوَلِيْدِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ بنِ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَنَا أبي أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ، سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ الحُسَيْنِ البَزَّازَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلٍ، سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: مَا أَدخلتُ فِي هَذَا الكِتَابِ إلَّا مَا صَحَّ، وَتركتُ مِنَ الصِّحَاحِ كِي لاَ يطولَ الكِتَابُ.
وَقَالَ أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ قُلْتُ لأبي عبد الله: تحفظ جَمِيْعَ مَا أَدْخَلْتَ فِي المُصَنَّفِ? فَقَالَ: لاَ يخفَى عليَّ جَمِيْعُ مَا فِيْهِ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: صنفتُ جَمِيْعَ كُتُبِي ثَلاَث مَرَّاتٍ، وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لَوْ نُشِرَ بَعْضُ أُسْتَاذِي هَؤُلاَءِ لَمْ يفهمُوا كَيْفَ صنَّفْتُ "التَّارِيْخَ"، وَلاَ عرفُوهُ ثُمَّ قَالَ: صنَّفْتُهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: أَخذ إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيْه كِتَابَ "التَّارِيْخِ" الَّذِي صنَّفْتُ، فَأَدخلَهُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بنِ طَاهِرٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الأَمِيْرُ، إلَّا أُرِيكَ سِحْراً? قَالَ: فَنَظَرَ فِيْهِ عَبْدُ اللهِ فَتَعَجَّبَ مِنْهُ وَقَالَ لَسْتُ أَفهُمُ تَصْنِيْفَهُ.
وَقَالَ خَلَفٌ الخيَّامُ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ أَحْمَدَ بنِ خَلَفٍ: يَقُوْلُ: دَخَلَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ إِلَى العِرَاقِ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَمائَتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ بَغْدَادَ آخِرَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ أُجَالِسُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ فَقَالَ لِي فِي آخِرِ مَا، وَدَّعْتُهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ تدعُ العِلْمَ، وَالنَّاسَ وَتصِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ?! قَالَ: فَأَنَا الآنَ أَذْكُرُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ أبي عَبْدِ الحَاكِمِ أَوَّل مَا، وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَأبيرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمائَتَيْنِ وَوَرَدَهَا فِي الأَخِيْرِ سنَةَ خَمْسِيْنَ، وَمائَتَيْنِ فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ سنين يحدث على الدوام.
أخرنا أبي حفص بن القوسا، أَخْبَرَنَا أبي القَاسِمِ بنُ الحَرَسْتَانِيِّ قِرَاءةً عَلَيْهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّ مائَةٍ وَأَنَا حَاضِرٌ، أَخْبَرَنَا أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ المُسْلَّم الفَقِيْهُ، أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ الخَطِيْبُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ الغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ البُخَارِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بِمَنْزِلِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَحصيتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ وَأَسْرَجَ يَسْتَذكرُ أَشْيَاءَ يُعَلِّقُهَا فِي لَيْلَةٍ ثَمَانِ عَشْرَةَ مرَّة.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ، كَانَ أبي عَبْدِ اللهِ، إِذَا كُنْتُ مَعَهُ فِي سفرٍ، يَجْمَعُنَا بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلاَّ فِي القيظِ أَحْيَاناً، فَكُنْتُ أَرَاهُ يقومُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ مرَّة إِلَى عِشْرِيْنَ مرَّة، فِي كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارًا، ثُمَّ يُخرجُ أَحَادِيْثَ، فيُعلِّمُ عَلَيْهَا.

وقال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن هَمَّامٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ عِدَّةً مِنَ المَشَايِخِ، يَقُوْلُوْنَ: حَوَّلَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ ترَاجِمَ جَامِعِهِ بَيْنَ قبر سول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْبَرِهِ، وَكَانَ يصلي لكل ترجمة ركعتين.
وَقَالَ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: صنّفْتُ "الصَّحِيْحَ" فِي ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وَبَيْنَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ هَانِئَ بنَ النَّضْر يَقُوْلُ: كُنَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ -يَعْنِي: الفِرْيَابِيَّ- بِالشَّامِ وَكُنَّا نَتَنَزَّهُ فِعْلَ الشَّبَابِ فِي أَكلِ الفِرْصَادِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ مَعَنَا، وَكَانَ لاَ يُزَاحمنَا فِي شَيْءٍ مِمَّا نَحْنُ فِيْهِ، وَيُكِبُّ عَلَى العِلْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّد: سَمِعْتُ النَّجْمَ بنَ الفُضَيْل يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ، كَأَنَّهُ يَمْشِي، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَمْشِي خَلْفَهُ، فَكُلَّمَا رَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدَمَهُ، وضعَ مُحَمَّدُ بنُ إِسمَاعيلَ قدَمَهُ فِي المكَانِ الَّذِي رَفَعَ النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمه.
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: كَانَ شَيْخٌ يَمُرُّ بِنَا فِي مَجْلِسِ الدَّاخلِيِّ، فَأُخْبِرُهُ بِالأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ مِمَّا يُعرِضُ عليَّ، وَأُخْبِرُهُ بِقَولِهِم، فَإِذَا هُوَ يَقُوْلُ لِي يَوْماً، يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رئِيسُنَا فِي أبي جَاد، وَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ شربَ دوَاءَ الحِفْظِ يُقَالُ لَهُ: بَلاَذُر، فَقُلْتُ لَهُ يَوْماً خلوَةً: هَلْ مِنْ دوَاءٍ يشربُهُ الرَّجُلُ، فينتفعُ بِهِ لِلْحفظِ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُ، ثُمَّ أَقبلَ عليَّ، وَقَالَ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئاً أَنْفَعَ لِلْحفظِ مِنْ نَهْمَةِ الرَّجُلِ، وَمُدَاومَةِ النَّظَرِ.
قَالَ: وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ بِنَيْسَأبيرَ مُقيماً، فَكَانَ تَرِدُ إليَّ مِنْ بُخَارَى كُتُبٌ، وَكُنَّ قَرَابَاتٌ لِي يُقرئن سَلاَمهنَّ فِي الكُتُبِ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ كِتَاباً إِلَى بُخَارَى، وَأَرَدْتُ أَنْ أُقرِئَهنَّ سَلاَمِي، فَذَهَبَ عليَّ أساميهن حين كتبت كتابي, لم أُقرِئهنَّ سَلاَمِي، وَمَا أَقَلَّ مَا يَذْهَبُ عَنِّي مِنَ العِلْمِ. وَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لَمْ تكن كِتَابتِي لِلْحَدِيْثِ كَمَا كَتَبَ هَؤُلاَءِ. كُنْتُ إِذَا كَتَبْتُ عَنْ رجلٍ سَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَنِسْبَتِهِ وَحَمْلِهِ الحَدِيْثَ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ فَهماً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلْتُهُ أَنْ يُخْرِجَ إليَّ أَصْلَهُ وَنُسخَتَهُ. فَأَمَّا الآخرُونَ لاَ يُبالُونَ مَا يَكْتُبُونَ، وَكَيْفَ يَكْتُبُونَ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ الدُّوْرِيَّ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً يُحْسِنُ طلبَ الحَدِيْثِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، كَانَ لاَ يدعُ أَصْلاً وَلاَ فرعاً إِلاَّ قَلَعَهُ. ثُمَّ قَالَ لَنَا: لاَ تَدَعُوا مِنْ كَلاَمِهِ شَيْئاً إِلاَّ كَتَبْتُمُوهُ.
وَقَالَ: كَتَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ بَعْضُ السَّلاَطينِ فِي حَاجَةٍ لَهُ، وَدَعَا لَهُ دعَاءً كَثِيْراً. فَكَتَبَ

إِلَيْهِ أبي عَبْدِ اللهِ: سَلاَمٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: وَصَلَ إِلَيَّ كِتَابُكَ وَفَهِمْتُهُ، وفي بيته يؤتى الحَكَمُ وَالسَّلاَمُ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ الخَوَّاصَ، مُستملِي صَدَقَةَ، يَقُوْلُ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ كَالصَّبيِّ جَالِساً بَيْنَ يَدِي مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الحَدِيْثِ.
ذِكْرُ حِفْظِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ وَذَكَائِهِ:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ غُنْجَار فِي "تَارِيْخِ بُخَارَى": سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ المقرئن سمعت مهيب بن سليم، سمعت جعفر القَطَّانَ إِمَامَ كرمِيْنيَةَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْل يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْ أَلفِ شَيْخٍ وَأَكْثَر، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم عَشْرَةُ آلاَفٍ وَأَكْثَر، مَا عِنْدِي حَدِيْثٌ إِلاَّ أَذكُرُ إِسْنَادَهُ.
قَالَ غنجار: وحدثنا محمد بن عمروان الجُرْجَانِيُّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ مُحَمَّدٍ البُخَارِيَّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: لَقِيْتُ أَكْثَرَ مِنْ أَلفِ رَجُلٍ أَهْلِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، لَقِيتُهُم كَرَّاتٍ، أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالجَزِيْرَةِ مرَّتينِ، وَأَهْلِ البَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبَالحِجَازِ سِتَّة أَعْوَامٍ، وَلاَ أُحْصِي كم دَخَلْتُ الكُوْفَةَ وَبَغْدَادَ مَعَ مُحَدِّثِي خُرَاسَانَ، مِنْهُمُ: المَكِّيُّ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، وَيَحْيَى بنُ يَحْيَى، وَابْنُ شَقِيقٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَشِهَابُ بنُ معمرٍ، وَبَالشَّامِ: الفِرْيَابِيُّ، وَأَبَا مُسْهِرٍ، وَأَبَا المُغِيْرَةِ، وَأَبَا اليَمَانِ، وَسَمَّى خلقاً. ثُمَّ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ وَاحِداً مِنْهُم يَخْتلِف فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ أَنَّ الدِّيْنَ قَوْلٌ وَعملٌ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ، وَآخَرَ يَقُوْلاَنِ: كَانَ أبي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ يَخْتلِفُ مَعَنَا إِلَى مَشَايِخِ البَصْرَةِ، وَهُوَ غُلاَمٌ فَلاَ يَكْتُبُ حَتَّى أَتَى عَلَى ذَلِكَ أَيَّامٍ فكنَّا نَقُوْل لَهُ: إِنَّك تختلفُ معنَا، ولاَ تَكْتُبُ فَمَا تصنَعُ? فَقَالَ لَنَا يَوْماً بَعْد ستَّةَ عشرَ يَوْماً: إِنَّكمَا قَدْ أَكْثَرْتُمَا عَلَيَّ، وَأَلْححتُمَا فَاعْرِضَا عَلَيَّ مَا كَتَبْتُمَا فَأَخْرجْنَا إِلَيْهِ مَا كَانَ عِنْدنَا فَزَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلفِ حَدِيْثٍ فَقرأَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهرِ القَلْبِ حَتَّى جَعَلنَا نُحْكِمُ كُتُبَنَا مِنْ حِفْظِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَتَرَوْنَ أَنِّي أَختلِفُ هَدْراً وَأُضَيِّعُ أَيَّامِي?! فَعَرفْنَا أَنَّهُ لاَ يتقدَّمُهُ أَحَدٌ.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُمَا يَقُوْلاَنِ: كَانَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ مِنَ البَصْرِيِّيْنَ يَعْدُوْنَ خَلْفَهُ فِي طلبِ الحَدِيْثِ، وَهُوَ شَابٌّ حَتَّى يغلِبُوهُ عَلَى نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه أَلوفٌ أَكْثَرهُم مِمَّنْ يَكْتُبُ عَنْهُ، وَكَانَ شَابّاً لَمْ يَخْرُجْ وَجْهُهُ.
وَقَالَ أبي أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخٍ يحكُوْن أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ قَدِمَ بَغْدَادَ، فسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ فَاجْتَمَعُوا، وَعَمَدُوا إلى مائة

حَدِيْثٍ فَقلبُوا مُتونهَا، وَأَسَانِيْدَهَا وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ هَذَا، وَإِسْنَادَ هَذَا المَتْنِ هَذَا، وَدفعُوا إلى كل وَاحِدٍ عَشْرَةَ أَحَادِيْثَ ليُلْقُوهَا عَلَى البُخَارِيِّ فِي المَجْلِسِ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَانتَدبَ أَحَدُهُم فَسَأَلَ البُخَارِيَّ عَنْ حَدِيْثٍ مِنْ عَشَرتِهِ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ آخر فَقَالَ: لاَ أَعرِفُهُ، وَكَذَلِكَ حَتَّى فرغَ مِنْ عشرتِهِ فَكَانَ الفقهَاءُ يَلْتَفِتُ بَعْضهُم إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُوْلُوْنَ: الرَّجُلَ فَهِمَ، وَمَنْ كَانَ لاَ يَدْرِي قضَى عَلَى البُخَارِيِّ بِالعجزِ ثُمَّ انتدبَ آخرُ فَفَعَلَ كَمَا فعلَ الأَوَّلُ، وَالبُخَارِيُّ يَقُوْلُ: لاَ أَعرِفُهُ ثُمَّ الثَّالِثَ، وَإِلَى تمَام العشرَةِ أَنفسٍ وَهُوَ لاَ يزيدُهُم عَلَى: لاَ أَعرِفُهُ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُم قَدْ فرغُوا التفتَ إِلَى الأَوَّلِ مِنْهُم فَقَالَ: أَمَّا حَدِيْثُكَ الأَوَّلُ فكذَا، وَالثَّانِي كَذَا وَالثَّالِثُ كَذَا إِلَى العشرَةِ فردَّ كُلَّ متنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَفعلَ بِالآخرينَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالحِفْظِ فَكَانَ ابْنُ صَاعِدٍ إِذَا ذكرَهُ يَقُوْلُ: الكبشُ النَّطَّاحُ.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: حَدَّثَنَا مَنْصُوْرُ بنُ إِسْحَاقَ الأَسَدِيُّ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بن مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الزَّاغُوْنِيَّ، سَمِعْتُ يُوْسُفَ بنَ مُوْسَى المَرْوَرُّوْذِيَّ يَقُوْلُ: كُنْتُ بِالبَصْرَةِ فِي جَامِعِهَا إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيّاً يُنَادِي: يَا أَهْلَ العِلْمِ قَدْ قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ فَقَامُوا فِي طلبِهِ، وَكُنْتُ مَعَهُم فرأَينَا رَجُلاً شَابّاً يُصَلِّي خَلْفَ الأُسْطُوَانَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ أَحَدقُوا بِهِ، وَسأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَ لَهُم مَجْلِسَ الإِملاَءِ فَأَجَابهُم فَلَمَّا كَانَ الغدُ اجْتَمَعَ قَرِيْبٌ مِنْ كَذَا كَذَا أَلفٍ فَجَلَسَ لِلإِملاَءِ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ البَصْرَةِ أَنَا شَابٌّ وَقَدْ سَأَلْتُمونِي أَنْ أُحدِّثَكُم، وَسأُحدِّثكُم بأَحَادِيْثَ عَنْ أَهْلِ بلدِكُم تَسْتفيدُوْنَ الكُلَّ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُثْمَانَ بنِ جَبَلَةَ بنِ أَبِي رَوَّاد بلدِيُّكُم قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُوْرٍ، وَغَيْرِهِ عَنْ سَالِمِ بنِ أَبِي الجَعْدِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَعْرَابِيّاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ........وَذَكَرَ الحَدِيْثَ1 ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ هَذَا عِنْدكُم إِنَّ مَا عِنْدكُم، عَنْ غَيْرِ مَنْصُوْرٍ عَنْ سَالِمٍ، وَأَملَى مَجْلِساً عَلَى هَذَا النَّسَقِ يَقُوْلُ فِي كُلِّ حَدِيْثٍ: رَوَى شُعْبَةُ هَذَا الحَدِيْثِ عندَكُم كَذَا فَأَمَّا مِنْ رِوَايَةِ فُلاَنٍ فَلَيْسَ عندَكُم أَوْ كَلاَماً هَذَا مَعْنَاهُ.
قَالَ يُوْسُفُ: وَكَانَ دُخولِي البَصْرَةَ أَيَّامَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبِي الشّوَاربِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: قَرَأَ عَلَيْنَا أبي عَبْدِ الله كتاب "الهبة" فقال: ليس في
هِبَةِ وَكِيْعٍ إلَّا حَدِيْثَانِ مُسْنَدَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ. وَفِي كِتَابِ عَبْدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ خَمْسَةٌ أو نحوه. وفي كتابي هذا خمسمائة حَدِيْثٍ أَوْ أَكْثَرُ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: تَفَكَّرْتُ أَصْحَابَ أَنَسٍ فَحضرنِي فِي ساعة ثلاثمائة.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا قَدِمْتُ عَلَى أَحَدٍ إلَّا كَانَ انتفَاعُهُ بِي أَكْثَر مِنِ انتفَاعِي بِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ سُلَيْمَ بنَ مُجَاهدٍ، سَمِعْتُ أبا الأزهر يقول: كان بسمرقند أربعمائة مِمَّنْ يطلُبُونَ الحَدِيْثَ فَاجْتَمَعُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَأَحَبُّوا مُغَالطَةَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَأَدخلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ العِرَاقِ، وَإِسْنَادَ اليَمَنِ فِي إِسْنَادِ الحَرَمَيْنِ فَمَا تَعَلَّقُوا مِنْهُ بِسَقْطَةٍ لاَ فِي الإِسْنَادِ، وَلاَ فِي المَتْنِ.
وَقَالَ الفِرَبْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَا اسْتَصغَرْتُ نَفْسِي عِنْدَ أَحَدٍ إلَّا عِنْدَ عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ، وَرُبَّمَا كُنْتُ أُغْرِبُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَحْيَدُ بنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالِي بُخَارَى قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَوْماً: رُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بِالبَصْرَةِ كَتَبْتُهُ بِالشَّامِ، وَرُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بِالشَّامِ كَتَبْتُهُ بِمِصْرَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ بكَمَالِهِ? قال: فسكت.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَا نمتُ البَارِحَةَ حَتَّى عَدَدْتُ كم أَدْخَلْتُ مُصَنَّفَاتِي مِنَ الحَدِيْثِ فَإِذَا نحو مائتي أَلفِ حَدِيْثٍ مُسْنَدَةٍ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا كَتَبْتُ حِكَايَةً قَطُّ كُنْتُ أَتَحَفَّظُهَا.
وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: صنَّفْتُ كِتَابَ "الاعتصَامِ" فِي لَيْلَةٍ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئاً يُحتَاجُ إِلَيْهِ إلَّا وَهُوَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقُلْتُ لَهُ: يُمكنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ كُلِّهُ? قَالَ: نَعَمْ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ بِنَيْسَأبيرَ أَجلسُ فِي الجَامِعِ، فَذَهَبَ عَمْرُو بنُ زُرَارَةَ وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيْه إِلَى يَعْقُوْبَ بنِ عَبْدِ اللهِ وَالِي نَيْسَأبيرَ، فَأَخبروهُ بِمكَانِي فَاعتذرَ إِلَيْهِم وَقَالَ: مذهَبُنَا إِذَا رُفِعَ إِلَيْنَا غَرِيْبٌ لَمْ نَعْرِفْهُ حبسنَاهُ حَتَّى يَظْهَرَ لَنَا أَمرُهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضهُم: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ لَكَ: لاَ تُحْسِنُ تصلِي فَكَيْفَ تَجْلِسُ? فَقَالَ: لَو قِيْلَ لي شيء من هذا ما كنت أَقومُ مِنْ ذَلِكَ المَجْلِسِ حَتَّى أَروِي عَشْرَةَ آلاف حديث في الصلاة خاصة.
وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ الفِرْيَابِيِّ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي

(10/89)

الخَطَّابِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَطُوْفُ عَلَى نسَائِهِ فِي غُسْلٍ، وَاحِدٍ1 فَلَمْ يعرِفْ أَحَدٌ فِي المَجْلِسِ أَبَا عُرْوَةَ، وَلاَ أَبَا الخَطَّابِ فَقُلْتُ: أَمَا أبي عُرْوَةَ فَمَعْمَرٌ، وَأبي الخَطَّابِ قَتَادَةُ قَالَ: وَكَانَ الثَّوْرِيُّ فَعُولاً لِهَذَا يُكَنِّي المَشْهُوْرينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَدِمَ رَجَاءُ الحَافِظُ فَصَارَ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله فَقَالَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: مَا أَعددتَ لِقُدُومِي حِيْنَ بَلَغَكَ? وَفِي أَيِّ شَيْءٍ نظرتَ? فَقَالَ: مَا أَحَدثْتُ نَظَراً، وَلَمْ أَستعِدَّ لِذَلِكَ فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تسأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَافعلْ فَجَعَلَ ينَاظرُهُ فِي أَشْيَاءَ فَبقيَ رَجَاءُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ هُوَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أبي عَبْدِ اللهِ: هَلْ لَكَ فِي الزِّيَادَةِ? فَقَالَ اسْتحيَاءً مِنْهُ، وَخجلاً: نَعَمْ قَالَ: سَلْ إِنْ شِئْتَ? فَأَخَذَ فِي أَسَامِي أَيُّوْبَ فَعدَّ نَحْواً مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، وَأبي عَبْدِ اللهِ سَاكتٌ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ أبي عَبْدِ اللهِ: لَقَدْ جمعتَ فَظنَّ رَجَاءُ أَنَّهُ قَدْ صنعَ شَيْئاً فَقَالَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَاتَكَ خَيرٌ كَثِيْرٌ فزيَّفَ أبي عَبْدِ اللهِ فِي أُوْلَئِكَ سَبْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً وَأَغربَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّيْنَ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجَاءُ: كم رويتَ فِي العِمَامَةِ السَّوْدَاءِ? قَالَ: هَاتِ كم رويت أنت? ثم قال: تروي نحوًا من أربعين حَدِيْثاً فَخَجِلَ رَجَاءُ مِنْ ذَاكَ وَيبِسَ رِيقُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ بَلْخَ فَسَأَلنِي أَصْحَابُ الحَدِيْثِ أَنْ أُمْلِي عَلَيْهِم لِكُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيْثاً فَأَمليتُ ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: قَالَ أبي عَبْدِ اللهِ: سُئِلَ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ عَمَّنْ طلَّقَ نَاسياً فَسَكَتَ سَاعَةً طَوِيْلَةً مُتفكِّراً، وَالتبسَ عَلَيْهِ الأَمْرُ فَقُلْتُ أَنَا: قَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّم" 2، وَإِنَّمَا يُرَادُ مبَاشرَةُ هَذِهِ الثَّلاَث العَمَلِ، وَالقَلْبِ أَوِ الكَلاَمِ وَالقَلْبِ وَهَذَا لَمْ يعتقدْ بِقَلْبِهِ فَقَالَ إِسْحَاقُ: قَوَّيْتَنِي وَأَفْتَى بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّد: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْل يَقُوْلُ: كَانَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ إِذَا انتخبْتُ مِنْ كِتَابِهِ نَسَخَ تِلْكَ الأَحَادِيْثِ، وَقَالَ: هَذِهِ الأَحَادِيْثُ انْتَخَبَهَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل من حديثي.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ الفِرَبْرِيَّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ عَبْدَ الله بن منير يكتب عن البخاري.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: أَنَا مِنْ تلاَمِيذِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، وَهُوَ مُعَلِّمٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ أَحَادِيْثَ فِي "صَحِيْحِهِ" عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُنير عَنْ يَزِيْدَ بنِ هَارُوْنَ وَجَمَاعَةٍ، وَكَانَ زَاهِداً عَابِداً حَتَّى قَالَ البُخَارِيُّ: لَمْ أَرَ مِثْلَهُ.
قُلْتُ: وَتُوُفِّيَ هُوَ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي سَنَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ المَدِيْنِيَّ بِالشَّاشِ زَمَنَ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي عَرَابَةَ يَقُوْلُ: كُنَّا بِنَيْسَأبيرَ عِنْدَ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَأبي عَبْدِ اللهِ فِي المَجْلِسِ فَمَرَّ إِسْحَاقُ بِحَدِيْثٍ كَانَ دُوْنَ الصَّحَابِيِّ عَطَاءَ الكَيْخَارَانِيِّ فَقَالَ إِسْحَاقُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَيش كَيْخَارَان? فَقَالَ: قَرْيَةٌ بِاليَمَنِ كَانَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ بعثَ هَذَا الرَّجُلَ، وَكَانَ يُسَمِّيهِ أبي بَكْرٍ فَأُنْسِيتُهُ إِلَى اليَمَنِ فَمَرَّ بكَيْخَارَان فسَمِعَ مِنْهُ عَطَاءُ حَدِيْثَيْنِ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَأَنَّكَ شَهِدْتَ القَوْمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القُومسِيُّ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ خميرويه سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: أَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ صَحِيْحٍ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الكَلْواذَانِيَّ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ كَانَ يَأْخُذُ الكِتَابَ مِنَ العُلَمَاءِ فيطَّلِعُ عَلَيْهِ اطِّلاعَةً فيحْفَظُ عَامَّةَ أَطرَافِ الأَحَادِيْثِ بِمَرَّةٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقَ يَقُوْلُ فِي الزِّيَادَاتِ المذيَّلَةِ عَلَى شمَائِلِ أَبِي عَبْدِ اللهِ قُلْتُ: وَلَيْسَتْ هِيَ دَاخلَةً فِي رِوَايَةِ ابْنِ خَلَفٍ الشِّيرَازيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: مَا جلَسْتُ لِلْحَدِيْثِ حَتَّى عرفْتُ الصَّحِيْحَ مِنَ السَّقيمِ، وَحَتَّى نظرتُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الرَّأْي، وَحَتَّى دَخَلْتُ البَصْرَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَوْ نحوهَا فَمَا تركتُ بِهَا حَدِيْثاً صَحِيْحاً إلَّا كَتَبْتُهُ إلَّا مَا لَمْ يَظهر لِي.
وَقَالَ غُنْجَارٌ فِي "تَارِيْخِهِ": حَدَّثَنَا أبي عمْروٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ المُقْرِئُ، حَدَّثَنَا أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ يُوْسُفَ البِيْكَنْدِيُّ سَمِعْتُ عَليَّ بنَ الحُسَيْنِ بنِ عَاصِمٍ البِيْكَنْدِيَّ يَقُوْلُ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ قَالَ: فَاجْتَمَعنَا عِنْدَهُ فَقَالَ بَعْضنَا: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه يَقُوْلُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سَبْعِيْنَ أَلفِ حَدِيْثٍ مِنْ كِتَابِي فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: أَو تَعْجَبُ مِنْ هَذَا?! لَعَلَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يَنْظُرُ إلى مائتي أَلفِ حَدِيْثٍ مِنْ كِتَابِهِ وَإِنَّمَا عَنَى بِهِ نفسه.

ذكر ثناء الأئمة عليه:
قال أبي جعفر مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِي يقول: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ: كُلَّمَا دَخَلَ عليَّ هَذَا الصَّبِيُّ تحيَّرْتُ وَألبسَ عليَّ أَمر الحَدِيْثِ، وَغَيْرِهِ وَلاَ أَزَالُ خَائِفاً مَا لَمْ يَخْرُجْ.
قَالَ أبي جعفرٍ: سَمِعْتُ أَبَا عُمُرَ سُلَيمُ بنُ مُجَاهِدٍ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ البِيْكَنْدِيِّ فَقَالَ: لَوْ جِئْتَ قَبْلُ لرَأَيْتَ صَبِيّاً يَحْفَظُ سَبْعِيْنَ أَلفِ حَدِيْثٍ قَالَ: فَخَرَجتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى لَحِقْتُهُ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي يَقُوْلُ: إِنِّي أَحْفَظُ سَبْعِيْنَ أَلفَ حَدِيْثٍ? قَالَ: نَعَمْ، وَأَكْثَر وَلاَ أَجيئُكَ بِحَدِيْثٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِيْنَ إلَّا عَرَّفْتُكَ مولِدَ أَكْثَرِهِم وَوَفَاتَهُم، وَمسَاكنِهِم وَلَسْتُ أَروِي حَدِيْثاً مِنْ حَدِيْثِ الصَّحَابَةِ، أَوِ التَّابِعِيْنَ إلَّا وَلِي مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ أَحْفَظُهُ حِفْظاً عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أبي جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ البُخَارِيَّ صَارَ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ السُّرْمَارِيِّ عَائِداً فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ أبي إِسْحَاقَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَقِيْهٍ بحقِّهِ، وَصدقِهِ فلينظُرْ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى حِجْرِهِ.
وَقَالَ أبي جَعْفَرٍ: قَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِي: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ حِيْنَ قَدِمَ مِنَ العِرَاقِ فَأَخبرَهُ بِمِحْنَةِ النَّاسِ، وَمَا صنعَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الأُمُورِ فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَلاَم لِمَنْ حضَرَهُ: أَترُوْنَ البِكْرَ أَشَدَّ حيَاءً مِنْ هَذَا? وَقَالَ أبي جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: لَوْ قَدرْتُ أَنْ أَزيدَ فِي عُمُرِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مِنْ عُمُرِي لفعلْتُ فَإِنَّ مَوْتِي يَكُوْنُ مَوْتَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَموتُهُ ذهَابُ العِلْمِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ جَعْفَرٍ، وَهُوَ البِيْكَنْدِيُّ يَقُوْلُ لمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ: لَوْلاَ أَنْتَ مَا اسْتطبتُ العيشَ بِبُخَارَى.
وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يُوْسُفَ يَقُوْلُ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي رَجَاء هُوَ قُتَيْبَةُ فسُئِلَ عَنْ طلاَقِ السَّكرَانِ فَقَالَ: هَذَا أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ المَدِيْنِيِّ، وَابْنُ رَاهْوَيْه قَدْ سَاقهُمُ اللهُ إِلَيْكَ وَأَشَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ وَكَانَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَغْلُوْبَ العقلِ حَتَّى لاَ يَذْكُرُ مَا يُحدثُ فِي سُكْرِهِ أَنَّهُ لاَ يجوزُ عليهِ مِنْ أَمرِهِ شَيْءٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ سَعِيْدِ بنِ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: لَمَّا مَاتَ أَحْمَدُ بنُ حَرْبٍ النَّيْسَأبيرِيُّ ركبَ مُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ يُشَيِّعَانِ جِنَازَتَهُ فكُنْتُ أَسْمَعُ أَهْلَ المَعْرِفَةِ بِنَيْسَأبيرَ ينظرون ويقولون: محمد أفقه من إسحاق.

وَقَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ حَفْصٍ الأَشْقَرَ سَمِعْتُ عبدَانَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ بعينِي شَابّاً أَبصرَ مِنْ هَذَا، وَأَشَار بِيَدِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ صَالِحَ بنَ مِسْمَارٍ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ نُعَيْمَ بنَ حَمَّادٍ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ فَقِيْهُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ خَالِدٍ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: قَالَ مُسَدَّدٌ: لاَ تختَارُوا عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ يَا أَهْلَ خُرَاسَان.
وَقَالَ: سَمِعْتُ مُوْسَى بنَ قُرَيْش يَقُوْلُ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْسُفَ لِلْبُخَارِيِّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ انظُرْ فِي كُتُبِي، وَأَخْبِرْنِي بِمَا فِيْهِ مِنَ السَّقْطِ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ قَالَ: كُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ حَرْبٍ يَقُوْلُ: بَيِّنْ لَنَا غَلَطَ شُعْبَةَ.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ فَسَأَلونِي أَنْ أُكلِّمَ إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي أُوَيْسٍ ليزيدَهُم فِي القِرَاءةِ فَفَعَلْتُ فَدَعَا إِسْمَاعِيْلُ الجَارِيَةَ، وَأَمرَهَا أَنْ تُخْرجَ صرَّةَ دَنَانِيْرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فرِّقْهَا عَلَيْهِم.
قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادُوا الحَدِيْثَ قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى مَا طلبْتَ مِنَ الزِّيَادَةِ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ يُضَمَّ هَذَا إِلَى ذاك ليظهر أثرك فيهم.
وَقَالَ: حَدَّثَنِي حَاشِدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ حَرْبٍ نظرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَذَا يَكُوْنُ لَهُ يَوْماً صوتٌ.
وَقَالَ خَلَفٌ الخَيَّامُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ أَحْمَدَ بنِ خَلَفٍ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ السَّلاَمِ قَالَ: ذَكَرْنَا قَوْلَ البُخَارِيِّ لِعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ يَعْنِي: مَا اسْتصغرتُ نَفْسِي إلَّا بَيْنَ يَدِي عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ فَقَالَ عَلِيٌّ: دعُوا هَذَا فَإِنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ لَمْ يَرَ مِثْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: ذَاكرنِي أَصْحَابُ عَمْرِو بنِ عَلِيٍّ الفَلاَّسِ بِحَدِيْثٍ فَقُلْتُ: لاَ أَعْرِفُهُ فَسُرُّوا بِذَلِكَ وَصَارُوا إِلَى عَمْرٍو، فَأَخبروهُ فَقَالَ: حَدِيْثٌ لاَ يَعْرِفُهُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ لَيْسَ بِحَدِيْثٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: قَالَ لِي أبي مُصْعَبِ الزُّهْرِيُّ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أَفقَهُ عِنْدنَا وَأَبصرُ بِالحَدِيْثِ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَقِيْلَ لَهُ: جَاوزتَ الحدَّ فَقَالَ لِلرَّجُلِ: لَوْ أَدْرَكْتَ مَالِكاً وَنظرتَ إِلَى وَجْهِهِ وَوجهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ لقُلْتَ: كِلاَهُمَا واحد في الفقه والحديث.

قَالَ: وَسَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه يَقُوْلُ: اكتُبُوا عَنْ هَذَا الشَّابِّ يَعْنِي: البُخَارِيّ فَلَو كَانَ فِي زَمَنِ الحَسَنِ لاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ لمَعْرِفَتِهِ بِالحَدِيْثِ، وَفقهِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ حُجْرٍ يَقُوْلُ: أَخرجَتْ خُرَاسَانُ ثَلاَثَةً: أبي زُرْعَةَ، وَمُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَمُحَمَّدُ عِنْدِي أَبصرُهُم، وَأَعْلَمُهُم وَأَفْقَهُهُم.
قَالَ: وَأَوردتُ عَلَى عَلِيِّ بنِ حُجْرٍ كِتَابَ أَبِي عَبْدِ اللهِ فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ: كَيْفَ خَلَّفْتَ ذَلِكَ الكبْش? فَقُلْتُ: بِخَيْرٍ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُ مِثْلَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ الضَّوْءِ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بن نُمَيْرٍ يَقُوْلاَنِ: مَا رأَينَا مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: مَا أَخرجتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ البُوْشَنْجِيُّ: سَمِعْتُ بُنْدَاراً مُحَمَّدَ بنَ بَشَّارٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِيْنَ وَمائَتَيْنِ يَقُوْلُ: مَا قَدِمَ عَلَيْنَا، مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسمَاعيلَ.
وَقَالَ حَاشِدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: كُنْتُ بِالبَصْرَةِ فَسَمِعْتُ قُدُومَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ بُنْدَارٌ: اليَوْمَ دَخَلَ سَيِّدُ الفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ: إِنَّ ثوبِي لاَ يَمَسُّ جلدِي مَثَلاً مَا لَمْ ترجعْ إِلَيَّ أَخَافُ أَنْ تجدَ فِي حَدِيْثِي شَيْئاً يُسَقِّمُنِي، فَإِذَا رجعت فَنَظَرت فِي حَدِيْثِي طَابتْ نَفْسِي وَأَمِنْتُ مِمَّا أَخَافُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ خَالِدٍ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ أَبَا عَمَّارٍ الحُسَيْنَ بنَ حُرَيْثٍ يُثْنِي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ، وَيَقُوْلُ: لاَ أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِثْلَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِلْحَدِيْثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ النَّضْرِ أَبَا سهلٍ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَالشَّامَ، وَالحِجَازَ وَالكُوْفَةَ وَرأَيتُ علمَاءهَا كُلَّمَا جرَى ذكرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنفُسِهِم.
وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يُوْسُفَ يَقُوْلُ: لَمَّا دَخَلْتُ البَصْرَةَ صِرتُ إِلَى بُنْدَارٍ فَقَالَ لِي: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ? قُلْتُ: مِنْ خُرَاسَانَ قَالَ: مِنْ أَيُّهَا? قُلْتُ: مِنْ بُخَارَى قَالَ: تَعْرِفُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ? قُلْتُ: أَنَا مِنْ قَرَابَتِهِ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْفَعُنِي فوق الناس.

قَالَ مُحَمَّدُ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: لَمَّا دَخَلْتُ البَصْرَةَ صِرتُ إِلَى مَجْلِسِ بُنْدَارٍ فَلَمَّا وَقَعَ بصرُهُ عليَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ الفَتَى? قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ بُخَارَى فَقَالَ لِي: كَيْفَ تركتَ أَبَا عَبْدِ اللهِ? فَأَمسكتُ فَقَالُوا لَهُ: يرحمُكَ اللهُ هُوَ أبي عَبْدِ اللهِ فَقَامَ، وَأَخَذَ بِيَدِي وَعَانقَنِي وَقَالَ: مَرْحَباً بِمَنْ أَفتخِرُ بِهِ مُنْذُ سِنِيْنَ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ بَشَّارٍ يَقُوْلُ: لَمْ يَدْخُلْ البَصْرَةَ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالحَدِيْثِ مِنْ أَخينَا أَبِي عَبْدِ اللهِ قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ الخُرُوجَ، وَدَّعَهُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ موعِدُنَا الحَشْرُ أَنْ لاَ نلتقِي بَعْدُ.
وَقَالَ أبي قُرَيْشٍ مُحَمَّدُ بنُ جمعَةَ الحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ بَشَّارٍ يَقُوْلُ: حفَاظُ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: أبي زُرْعَةَ بِالرَّيِّ، وَالدَّارِمِيُّ بسمرقند ومحمد ابن إِسْمَاعِيْلَ بِبُخَارَى، وَمُسْلِمٌ بِنَيْسَأبيرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ الأَشْعَثِ البِيْكَنْدِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْديِّ وَالحَسَنِ بنِ شُجَاعٍ البَلْخِيِّ.
قَالَ ابْنُ الأَشْعَثِ: فحكيتُ هَذَا لِمُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ البَلْخِيِّ فَأَطرَى ذكرَ ابْنِ شُجَاعٍ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ لَمْ يَشْتَهرْ? قال: لأنه لم يمتع بالعمر.
قُلْتُ: هَذَا ابْنُ شُجَاعٍ: رحلَ وَسَمِعَ مَكِّيَّ بن إبراهيم، وعبيد الله بن موسى أبا مُسْهِرٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِيْنَ.
وَقَالَ نَصْرُ بن زكريا المروزي: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: شباب خراسان أربعة: محمد بن إسماعيل، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الدَّارِمِيّ وَزَكَرِيَّا بنُ يَحْيَى اللُّؤْلُؤِيُّ وَالحَسَنُ بنُ شُجَاعٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ جَعْفَراً الفِرَبْرِيَّ يَقُوْلُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ مُنيرٍ يَقُوْلُ: أَنَا مِنْ تلاَمِيذِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ وَهُوَ مُعَلِّمِي، وَرَأَيْتُهُ يَكْتُبُ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا حَاشِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ سَمِعْتُ يَعْقُوْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الدَّوْرَقِيَّ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ فَقِيْهُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ المُسْنِديِّ قَالَ: حُفَّاظُ زَمَانِنَا ثَلاَثَةٌ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ وَحَاشِدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ وَيَحْيَى بنُ سَهْلٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الفِرَبْرِيُّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ بنِ مُنِيْر رَحِمَهُ اللهُ إِلَى بُخَارَى فِي حَاجَةٍ لَهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ ابْنُ مُنِيْرٍ: لقيتَ أَبَا عَبْدِ اللهِ? قَالَ: لاَ فطردَهُ، وَقَالَ: مَا فيكَ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ إِذْ قدِمْتَ بُخَارَى وَلَمْ تَصِرْ إِلَى أَبِي عبد الله محمد بن إسماعيل.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ يَقُوْلُ: حضَرتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَبِي شَيْبَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلاً يَقُوْلُ فِي مَجْلِسِهِ: نَاظرَ أبي بَكْرٍ أَبَا عَبْدِ اللهِ فِي أَحَادِيْثِ سُفْيَانَ فَعَرفَ كُلَّهَا ثُمَّ أَقبلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ فَأَغربَ عَلَيْهِ مَائَتَي حَدِيْثٍ فَكَانَ أبي بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُوْلُ: ذَاكَ الفَتَى البَازِلُ -وَالبَازلُ الجمل المسن- إلَّا أنه يريد هاهنا البصيرُ بِالعِلْمِ الشجَاعُ.
وَسَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ يَقُوْلُ: إِنَّ الرُّتُوتَ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيْثِ، مِثْلَ سَعِيْدِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ وَنُعَيْمِ بنِ حَمَّادٍ، وَالحُمَيْدِيِّ وَحَجَّاجِ بنِ مِنْهَالٍ، وَإِسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَالعَدَنِيِّ، وَالحَسَنِ الخلاَلِ بِمَكَّةَ وَمُحَمَّدِ بنِ مَيْمُوْنٍ صَاحِبِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُحَمَّدِ بنِ العَلاَءِ وَالأَشَجِّ وَإِبْرَاهِيْمَ بنِ المُنْذِرِ الحِزَامِيِّ، وَإِبْرَاهِيْمَ بنِ مُوْسَى الفَرَّاءِ كَانُوا يهَأبينَ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ وَيَقْضُونَ لَهُ عَلَى أَنفُسِهِم فِي المَعْرِفَةِ، وَالنَّظَرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنِي حَاتِمُ بنُ مَالِكٍ الوَرَّاقُ قَالَ: سَمِعْتُ عُلَمَاءَ مَكَّةَ يَقُوْلُوْنَ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ إِمَامُنَا، وَفَقِيْهُنَا وَفَقِيْهُ خُرَاسَانَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللهُ يَقُوْلُ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَخْتَلِفُ إِلَى أَبِي حَفْصٍ أَحْمَدَ بنِ حَفْصٍ البُخَارِيِّ، وَهُوَ صَغِيْرٌ فسمعت أبا حَفْصٍ يَقُوْلُ: هَذَا شَابٌّ كَيِّسٌ أَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ لَهُ صِيتٌ، وَذِكْرٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ أَبَا سهلٍ محموداً الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِيْنَ عَالِماً مِنْ عُلَمَاءِ مِصْرَ يَقُوْلُوْنَ: حَاجَتُنَا مِنَ الدُّنْيَا النَّظَرُ فِي "تَارِيْخِ" مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بنُ يُوْنُسَ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي: الدَّارِمِيّ عَنْ حَدِيْثِ سَالِمِ بنِ أَبِي حَفْصَةَ فَقَالَ: كتبنَاهُ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ يَقُوْلُ: سَالِمٌ ضَعِيْفٌ فَقِيْلَ لَهُ: مَا تَقُوْلُ أَنْتَ? قَالَ: مُحَمَّدٌ أَبْصَرُ مِنِّي.
قَالَ: وَسُئِلَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَدِيْثِ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ: "لاَ يَكْذِبُ الكَاذِبُ إلَّا مِنْ مَهَانَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ" وَقِيْلَ لَهُ: مُحَمَّدٌ يزعُمُ أَنَّ هَذَا صَحِيْحٌ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ أَبصرُ مِنِّي لأَنَّ همَّهُ النَّظَرُ فِي الحَدِيْثِ، وَأَنَا مَشْغُوْلٌ مريضٌ ثُمَّ قَالَ: مُحَمَّدٌ أَكْيَسُ خلقِ اللهِ إِنَّهُ عَقَلَ

عَنِ اللهِ مَا أَمرَهُ بِهِ، وَنَهَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ إِذَا قَرَأَ مُحَمِّدٌ القُرْآنَ شَغَلَ قَلْبَهُ، وَبصرَهُ وَسَمْعَهُ وَتَفَكَّرَ فِي أَمْثَالِهِ، وَعرفَ حلاَلَهُ وَحرَامَهُ.
وَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ سُلَيْمَانُ بنُ مُجَالدٍ إِنِّي سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْديًّ عَنْ مُحَمَّدٍ فقال: محمد بن إسماعيل أعلمنا، وأفقهنا وَأَغْوَصُنَا وَأَكْثَرُنَا طلباً.
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيْدٍ المُؤَدِّبَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُوْلُ: لَمْ يَكُنْ يُشْبِهُ طلبُ مُحَمَّدٍ لِلْحَدِيْثِ طلبَنَا كَانَ إِذَا نظَرَ فِي حَدِيْثِ رَجُلٍ أَنْزَفَهُ.
وَقَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، وَرَّاقُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ عَنْ كِتَابِ "الأَدبِ" مِنْ تَصْنِيْفِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَقَالَ: احمِلْهُ لأَنْظُرَ فِيْهِ فَأَخَذَ الكِتَابَ مِنِّي وَحَبَسَهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ فَلَمَّا أَخذتُ مِنْهُ قُلْتُ: هَلْ رَأَيْتَ فِيْهِ حَشْواً أَوْ حَدِيْثاً ضَعِيْفاً? فَقَالَ: ابْنُ إِسْمَاعِيْلَ لاَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ إلَّا الحَدِيْثَ الصَّحِيْحَ، وَهَلْ يُنْكَرُ عَلَى مُحَمَّدٍ?! وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطَّيِّبِ حَاتِمَ بنَ مَنْصُوْرٍ الكِسِّيَّ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي بصرِهِ، وَنفَاذِهِ مِنَ العِلْمِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو المستنيرَ بنَ عَتِيْقٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ رَجَاءَ الحَافِظَ يَقُوْلُ: فَضْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ عَلَى العُلَمَاءِ كفضلِ الرجال على النِّسَاءِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كُلُّ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ?! فَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَمْشِي عَلَى ظَهرِ الأَرْضِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يُوْسُفَ يَقُوْلُ: سَأَلَ أبي عبد الله أبا رجاء البَغْلاَنِيَّ يَعْنِي: قُتَيْبَة إِخْرَاجَ أَحَادِيْثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: مُنْذُ كَتَبْتُهَا مَا عرضتُهَا عَلَى أَحَدٍ فَإِنِ احتسبتَ وَنظرتَ فِيْهَا وَعلَّمتَ عَلَى الخطأِ مِنْهَا فعلتُ، وَإِلاَّ لَمْ أُحَدِّثْ بِهَا لأَنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَكُوْنَ فِيْهَا بَعْضُ الخطأِ، وَذَلِكَ أَنَّ الزِّحَامَ كَانَ كَثِيْراً، وَكَانَ النَّاسُ يُعَارِضونَ كُتُبَهُم فيُصحِّحُ بَعْضُهُم مِنْ بَعْضٍ، وَتركتُ كِتَابِي كَمَا هُوَ فَسُرَّ البُخَارِيُّ بِذَلِكَ، وَقَالَ: وُفِّقْتَ ثُمَّ أَخذَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ صَلاَةَ الغدَاةِ فينظُرُ فِيْهِ إِلَى وَقْتِ خُرُوْجِهِ إِلَى المَجْلِسِ، وَيُعَلِّم عَلَى الخطأِ مِنْهُ فَسَمِعْتُ البُخَارِيَّ رَدَّ عَلَى أَبِي رَجَاء يَوْماً حَدِيْثاً فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ هَذَا مِمَّا كَتَبَ عَنِّي أَهْلُ بَغْدَادَ، وَعَلَيْهِ علاَمَةُ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ وَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَلاَ أَقدِرُ أُغَيِّرُهُ فَقَالَ لَهُ أبي عَبْدِ اللهِ: إِنَّمَا كتبَ أُوْلَئِكَ عَنْكَ لأَنَّكَ كُنْتَ مُجْتَازاً، وَأَنَا قَدْ كَتَبْتُ هَذَا عَنْ عِدَّةٍ عَلَى مَا أَقُوْلُ لَكَ كَتَبْتُهُ عَنْ يَحْيَى بنِ بُكَيْرٍ، وَابْنِ أَبِي مَرْيَمَ وَكَاتِبِ اللَّيْثِ عَنِ اللَّيْثِ فَرَجَعَ أبي رَجَاءَ، وَفَهِمَ قَوْلَهُ وَخضَعَ لَهُ.

قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يُوْسُفَ يَقُوْلُ: كَانَ زكريا اللؤلئي، وَالحَسَنُ بنُ شُجَاعٍ ببلخَ يمشيَانِ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ إِلَى المَشَايِخِ إِجْلاَلاً لَهُ، وَإِكرَاماً.
قَالَ: وَسَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه جَالِساً عَلَى السَّرِيْرِ، وَمُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ مَعَهُ وَإِسْحَاقُ يَقُوْلُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَتَّى مرَّ عَلَى حَدِيْثٍ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ محمد فرجع إلى قول محمد.
ثُمَّ رَأَيْتُ عَمْرَو بنَ زُرَارَةَ، وَمُحَمَّدَ بنَ رَافِعٍ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ يَسْأَلاَنِهِ عَنْ عِلَلِ الحَدِيْثِ فَلَمَّا قَامَا قَالاَ لِمَنْ حَضَرَ: لاَ تُخْدَعُوا عَن أَبِي عَبْدِ اللهِ فَإِنَّهُ أَفْقَهُ مِنَّا، وَأَعْلَمُ وَأَبصرُ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: كُنَّا عِنْدَ إِسْحَاقَ، وَعَمْرُو بنُ زُرَارَةَ ثَمَّ وَهُوَ يَسْتَملِي عَلَى البُخَارِيِّ، وَأَصْحَابُ الحَدِيْثِ يَكْتُبُوْنَ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ يَقُوْلُ: هُوَ أَبصرُ مِنِّي وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَوْمَئِذٍ شَابّاً.
وَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ بَشَّارٍ فَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ عَنْ حَدِيْثٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ: هَذَا أَفقَهُ خلقِ اللهِ فِي زَمَانِنَا، وَأَشَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ سُلَيْمَ بنَ مُجَاهدٍ يَقُوْلُ: لَوْ أَنَّ وَكِيْعاً وَابْنَ عُيَيْنَةَ وَابْنَ المُبَارَكِ كَانُوا فِي الأَحيَاءِ لاحْتَاجُوا إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: قَالَ لِي إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ: انْظُرْ فِي كُتُبِي، وَمَا أَملِكُهُ لَكَ وَأَنَا شَاكرٌ لَكَ مَا دمتُ حيّاً.
وَقَالَ: قَالَ لِي أبي عَمْرٍو الكَرْمَانِيُّ: سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيَّ يَقُوْلُ: أبي عَبْدِ اللهِ صَدِيْقِي ليسَ بِخُرَاسَانَ مِثْلَهُ.
فحكيتُ لمهيَارٍ بِالبَصْرَةِ عَنْ قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: رُحِلَ إِلَيَّ مِنْ شرقِ الأَرْضِ، وَغربِهَا فَمَا رحلَ إِلَيَّ مِثْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَقَالَ مهيَارٌ: صَدَقَ أَنَا رَأَيْتُهُ مَعَ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ وَهُمَا يَخْتَلِفَانِ جَمِيْعاً إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَرَأَيْتُ يَحْيَى ينقَادُ لَهُ فِي المَعْرِفَةِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيْدٍ الأَشَجَّ، وَخَرَجَ إِلَيْنَا فِي غدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَهُوَ يرتعدُ مِنَ البَرْدِ فَقَالَ: أَيَكُوْنُ عندَكُم مِثْلُ ذَا البَرْدِ? فَقُلْتُ: مِثْلُ ذَا يَكُوْنُ فِي الخريفِ، وَالرَّبِيْعِ وَرُبَّمَا نُمسِي وَالنَّهْرُ جَارٍ فنصبحُ، وَنَحتَاجُ إِلَى الفَأَسِ فِي نَقْبِ الجَمَدِ فَقَالَ لِي: مِنْ أَيِّ خُرَاسَان أَنْتَ? قُلْتُ: مِنْ بُخَارَى فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: هُوَ مِنْ، وَطَنِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَقَالَ لَهُ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْك مَنْ يُتوسَّلُ بِهِ فَاعرفْ لَهُ حقَّهُ فَإِنَّهُ إمام.

وَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ ثَابِتٍ الشَّاشِيَّ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيْلَ بنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُوْلُ: مَا أَخذَ عَنِّي أَحَدٌ مَا أَخذَ عَنِّي مُحَمَّدٌ نظرَ إِلَى كُتُبِي فرآهَا دَارسَةً فَقَالَ لِي: أَتَأْذنُ لِي أَنْ أُجدِّدَهَا? فَقُلْتُ: نَعَمْ فَاسْتَخرجَ عَامَّةَ حَدِيْثِي بِهَذِهِ العِلَّةِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بنِ حُجْرٍ سَاعَةَ، وَدَّعَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: قُلْ فِي أَدبِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا شِئْتَ وَقُلْ فِي علمِ مُحَمَّدٍ مَا شِئْتَ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ اللَّيْثِ يَقُوْلُ: وذُكِرَ عِنْدَه عَبْدُ اللهِ وَمُحَمَّدٌ فسَمِعَ بَعْضَ الجَمَاعَةِ يُفضِّلُ عَبْدَ اللهِ عَلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِذَا قَدمتوهُ فَقَدِّمُوهُ فِي الشِّعْرِ، وَالعَرَبِيَّةِ وَلاَ تقدّمُوهُ عَلَيْهِ فِي العِلْمِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَدُسُّ إِلَيَّ أَحَادِيْثَ مِنْ أَحَادِيْثِهِ المُشْكِلَةِ عَلَيْهِ يَسْأَلُنِي أَنْ أَعرِضَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَشتهِي أَنْ لاَ يَعْلَمَ مُحَمَّدٌ فَكُنْتُ إِذَا عَرضْتُ عَلَيْهِ شَيْئاً يَقُوْلُ: مِنْ ثَمَّ جَاءتْ? وَعَنْ قُتَيْبَةَ قَالَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ فِي الصَّحَابَةِ لكَانَ آيَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الهَمَذَانِيُّ: كُنَّا عِنْدَ قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيْدٍ فَجَاءَ رَجُلٌ شَعْرَانِيٌّ يُقَالُ لَهُ: أبي يَعْقُوْبَ فَسَأَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فنكسَ رَأْسَهُ ثُمَّ رفعَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا هَؤُلاَءِ نظرْتُ فِي الحَدِيْثِ، وَنظرتُ فِي الرَّأْيِ وَجَالَسْتُ الفُقَهَاءَ وَالزُّهَادَ، وَالعُبَّادَ مَا رَأَيْتُ مُنْذُ عقلْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسمَاعيلَ.
وَقَالَ حَاشِدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: سَمِعْتُ قُتَيْبَةَ يَقُوْلُ: مَثَلُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ فِي صدقِهِ، وَوَرَعِهِ كَمَا كَانَ عُمَرُ فِي الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ حَاشِدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ يَقُوْلُ: لَمْ يجئْنَا مِنْ خُرَاسَانَ مِثْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وروينَا عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ قَالَ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ العِرَاقَ.
وَقَالَ أبي عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيْثِ سَمِعَ بِبُخَارَى هَارُوْنَ بنَ الأَشْعَثِ وَمُحَمَّدَ بنَ سَلاَمٍ، وَسَمَّى خَلْقاً مِنْ شُيُوْخِهِ.
ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطَّيِّبِ مُحَمَّدَ بنَ أَحْمَدَ المُذَكِّرَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بنَ إِسْحَاقَ بنِ خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَديمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْ محمد بن إسماعيل.

ثُمَّ قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوْبَ الحَافِظَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ بَيْنَ يَدِي البُخَارِيِّ يَسْأَلُهُ سُؤَالَ الصَّبِيِّ.
ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيَّ المُعَدَّلَ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ حمدُوْنَ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ فِي جِنَازَةِ سَعِيْدِ بنِ مَرْوَانَ، وَمُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسَامِي، وَالكُنَى وَالعِلَلِ وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَمُرُّ فِيْهِ مِثْلَ السَّهمِ كَأَنَّهُ يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإِخلاَص: 1] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَالِدٍ المُطوّعِيّ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا مُسَبِّحُ بنُ سَعِيْدٍ البُخَارِيُّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيَّ يَقُوْلُ: قَدْ رَأَيْتُ العُلَمَاءَ بِالحِجَازِ، وَالعِرَاقَينِ فَمَا رَأَيْتُ فِيْهِم أَجمعَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ حمدُوْن بنِ رُسْتُمَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى البُخَارِيِّ فَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلْ رجليكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِين، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِيْنَ، وَطبيبَ الحَدِيْثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ أبي عِيْسَى التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ بِالعِرَاقِ وَلاَ بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى العِلَلِ وَالتَّارِيْخِ، وَمَعْرِفَةِ الأَسَانِيْدِ أعلم من محمد بن إسماعيل.
وَقَالَ أبي عِيْسَى التِّرْمِذِيُّ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بنِ مُنِيْرٍ فَلَمَّا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ جَعَلَكَ اللهُ زَيْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: اسْتُجِيْبَ لَهُ فِيْهِ.
قُلْتُ: ابْنُ مُنِيْرٍ مِنْ كِبَارِ الزُّهَّادِ قَالَ.......قِيْلَ: إِنَّ البُخَارِيَّ لَمَّا قَدِمَ مِنَ العِرَاقِ، قَدْمَتَهُ الآخِرَة وَتلقَّاهُ النَّاسُ، وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ وَبَالغُوا فِي بِرِّهِ قِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ لَوْ رَأَيْتُم يَوْمَ دُخُوْلِنَا البَصْرَةَ? وَقَالَ أبي عَلِيٍّ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَة: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَجْلِسُ بِبَغْدَادَ، وَكُنْتُ أَستملِي لَهُ وَيجتمعُ فِي مَجْلِسِهِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِيْنَ أَلْفاً.
وَقَالَ عَبْدُ المُؤْمِنِ بنُ خَلَفٍ النَّسَفِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَلِيٍّ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الدَّارِمِيِّ وَمُحَمَّدِ بن إسماعيل وأبي زُرْعَةَ فقَالَ: أَعْلَمُهُم بالحَدِيْثِ مُحَمِّدٌ، وأَحْفَظُهُم أبي زُرْعَةَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بنُ زبركٍ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِدْرِيْسَ الرَّازِيَّ يَقُوْلُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ، وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ: يقدَمُ عَلَيْكُم رَجُلٌ مِنْ خُرَاسَانَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَحْفَظُ مِنْهُ وَلاَ قَدِمَ العراق أعلم منه فقدم علينا البخاري.

وَقَالَ أبي سَعِيْدٍ حَاتِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ الحَافِظُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الإِسْلاَمِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُنَصِّبُوا آخَرَ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبي العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الفَقِيْهُ الدَّغُوْلِيُّ: كتبَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى البُخَارِيِّ:
المُسْلِمُوْنَ بِخَيْرٍ مَا بَقِيْتَ لَهُم ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِيْنَ تُفْتَقَدُ
وَقَالَ أبي بَكْرٍ الخَطِيْبُ: سُئِلَ أبي زُرْعَةَ عَنِ ابْنِ لَهِيْعَةَ فَقَالَ: تَرَكَهُ أبي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، وَسُئِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ حُمَيْدٍ فَقَالَ: تركَهُ أبي عَبْدِ اللهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: بِرُّهُ لَنَا قَدِيْمٌ.
قَالَ الخَطِيْبُ: وَسُئِلَ العَبَّاسُ بنُ الفَضْلِ الرَّازِيُّ الصَّائِغُ: أيُّهُمَا أَفْضَلُ أبي زُرْعَةَ، أَوْ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ? فَقَالَ: التقيتُ مَعَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بَيْنَ حُلْوَانَ، وَبَغْدَادَ فَرَجَعتُ مَعَهُ مَرحلَةً، وَجَهِدْتُ أَنْ أَجِيءَ بِحَدِيْثٍ لاَ يَعْرِفُهُ فَمَا أَمكنَنِي، وَأَنَا أُغْرِبُ عَلَى أَبِي زُرْعَةَ عَدَدَ شَعْرِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ فِي "تَارِيْخِهِ": مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ الجُعْفِيُّ طَلَبَ العِلْمَ، وَجَالَسَ النَّاسَ وَرَحَلَ فِي الحديث ومهر فيه، وأبصر وَكَانَ حَسَنَ المَعْرِفَةِ، وَالحِفْظِ وَكَانَ يتفقَّهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: رَأَيْتُ أَبِي يُطْنِبُ فِي مدحِ أَحمدَ بنِ سَيَّارٍ، وَيذكرُه بِالعِلْمِ وَالفِقْه.
وَذكر عَمَرُ بنُ حَفْصٍ الأَشْقَرُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَجَاءُ بنُ مُرَجَّى بُخَارَى يُرِيْد الخُرُوجَ إِلَى الشَّاشِ نَزَلَ الرّباطَ، وَسَارَ إِلَيْهِ مَشَايِخنَا وَسِرْتُ فِيْمَنْ سَارَ إِلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَأَخبرتُهُ بسَلاَمَتِهِ، وَقُلْتُ: لَعَلَّهُ يَجِيْئُكَ السَّاعَةَ فَأَملَى عَلَيْنَا وَانقضَى المَجْلِسُ وَلَمْ يَجِئْ فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي لَمْ يَجِئْهُ فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّالِث قَالَ رَجَاءُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ لَمْ يَرَنَا أَهْلاً لِلزِّيَارَةِ فمُرُّوا بِنَا إِلَيْهِ نقضِ حقَّهُ فَإِنِّي عَلَى الخُرُوجِ وَكَانَ كَالمُتَرَغّمِ عَلَيْهِ فَجِئْنَا بجمَاعتِنَا إِلَيْهِ فَقَالَ رَجَاءُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كُنْتُ بِالأَشواقِ إِلَيْكَ وَأَشْتَهِي أَنْ تذكرَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْث فَإِنِّي عَلَى الخُرُوج قَالَ: مَا شِئْتَ فَأَلقَى عَلَيْهِ، رَجَاءُ شَيْئاً مِنْ حَدِيْثِ أَيُّوْبَ، وَأبي عَبْدِ اللهِ يُجِيْبُ إِلَى أَنْ سكتَ رَجَاءُ عَنِ الإِلقَاءِ فَقَالَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: ترَى بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ نذكرْهُ فَأَخَذَ مُحَمَّدٌ يُلْقِي وَيَقُوْلُ رَجَاءُ: مَنْ رَوَى هَذَا? وَأبي عَبْدِ اللهِ يَجِيْءُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنْ أَلقَى قَرِيْباً مِنْ بِضْعَة عشر حَدِيْثاً وَتَغَيَّرَ رَجَاءُ تغيُّراً شَدِيْداً، وَحَانَتْ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ نظرَةٌ إِلَى وَجْهِهِ فَعَرفَ التَّغَيُّرَ فِيْهِ فَقطَعَ الحَدِيْثَ فَلَمَّا خَرَجَ رَجَاءُ قَالَ مُحَمَّدٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَبلغَ بِهِ ضِعْفَ مَا أَلقَيْتُهُ إلَّا أَنِّي خشيتُ أَنْ يدخُلَهُ شَيْءٌ فَأَمسكتُ.

وَقَالَ خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ نَصْرٍ الخَفَّافَ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أَعْلَمُ بِالحَدِيْثِ مِنْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه وأحمد بن حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا بِعِشْرِيْنَ دَرَجَةٍ، وَمَنْ قَالَ فِيْهِ شَيْئاً فمنِّي عَلَيْهِ أَلفُ لعنَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ التَّقيُّ النَّقيُّ العَالِمُ الَّذِي لَمْ أَرَ مِثْلَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ الحُسَيْنِ بنِ مُحَمَّدٍ المَعْرُوْفِ بعُبَيْدِ العِجْلِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ يبلغُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ، وَرَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ، وَأَبَا حَاتِمٍ يَسْتَمَعَانِ إِلَى مُحَمَّدٍ أَيَّ شَيْءٍ يَقُوْلُ يجلسُونَ إِلَى جَنْبِهِ فَذُكِرَ لعُبَيْدِ العِجْلِ قِصَّةُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى فَقَالَ: مَا لَهُ وَلِمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ? كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بكذَا، وَكَذَا وَكَانَ دَيِّناً فَاضِلاً يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقَالَ أبي حَامِدٍ أَحْمَدُ بنُ حمدُوْن القصَّارُ: سَمِعْتُ مسلم بن الحجاج، وجاء إلى البخاري فقيل بَيْنَ عينيهِ، وَقَالَ: دعنِي أُقَبِّلُ رِجْليكَ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثكَ مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بنُ يَزِيْدَ الحَرَّانِيُّ أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوْسَى بنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كَفَّارَةِ المَجْلِسِ، فَمَا عِلَّتُهُ? قال محمد بن إِسْمَاعِيْلَ: هَذَا حَدِيْثٌ مَلِيْحٌ، وَلاَ أَعْلَمُ بِهَذَا الإِسْنَادِ فِي الدُّنْيَا حَدِيْثاً غَيْرَ هَذَا الحَدِيْثِ الوَاحِدِ فِي هَذَا البَابِ إلَّا أَنَّهُ معلولٌ حَدَّثَنَا بِهِ مُوْسَى بنُ إِسْمَاعِيْلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حدثنا سهيل عن عون بن عبد
اللهِ قَوْلَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا أَوْلَى، فَإِنَّهُ لاَ يُذكَرُ لمُوْسَى بنِ عُقْبَةَ سَمَاعٌ مِنْ سُهَيْلٍ فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لاَ يُبْغِضُكَ إلَّا حَاسِدٌ وَأَشهدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ الأَخْرَمِ: سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: لَمَّا قَدِمَ البُخَارِيُّ نَيْسَأبيرَ اسْتَقبَلَهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ رَجُلٍ رُكْبَاناً عَلَى الخيلِ سِوَى مِنْ ركبَ بغلاً أَوْ حِمَاراً وَسوَى الرَّجَّالَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ: وَددْت أَنِّي شَعْرَةٌ فِي صَدْرِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ، وَآخَرَ يَقُوْلاَنِ: كَانَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالبَصْرَةِ يَعْدُونَ خَلْفَ البُخَارِيِّ فِي طلبِ الحَدِيْثِ، وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم مِمَّنْ يَكْتُبُ عَنْهُ قَالاَ: وَكَانَ أبي عَبْدِ اللهِ عِنْدَ ذَلِكَ شَابّاً لَمْ يخرجْ، وَجْهُهُ.
أَخبرنَي الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بنُ عِيْسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ المهدوِيُّ، سَمِعْتُ خَالِدَ بنَ عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا سهلٍ مُحَمَّدَ بنَ أَحْمَدَ المَرْوَزِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا زيدٍ المَرْوَزِيَّ الفَقِيْهَ يَقُوْلُ: كُنْتُ نَائِماً بَيْنَ الرُّكْنِ، وَالمقَامِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: يَا أَبَا زيدٍ إِلَى مَتَى تدرسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ، وَلاَ تدرُسُ كِتَابِي? فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، وَمَا كِتَابُكَ? قَالَ: "جَامِعُ" مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وجدْتُ فَائِدَةً مَنْقُوْلَةً عَنْ أَبِي الخَطَّابِ بنِ دِحْيَةَ أَنَّ الرَّمْلِيَّ الكَذَّابَةَ قَالَ: البُخَارِيُّ مَجْهُوْلٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى الفِرَبْرِيُّ قَالَ أبي الخَطَّابِ: وَاللهِ كذبَ فِي هَذَا، وَفَجَرَ وَالتقمَ الحَجَرَ بَلِ البُخَارِيُّ مَشْهُوْرٌ بِالعِلْمِ وَحَمْلِهِ مجمعٌ عَلَى حِفْظِهِ، وَنُبْلِهِ جَابَ البِلاَدَ وَطَلَبَ الرِّوَايَةَ، وَالإِسْنَادِ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا كِتَابُهُ فَقَدْ عرضَهُ عَلَى حَافِظِ زَمَانِهِ أَبِي زُرْعَةَ فَقَالَ: كِتَابُكَ كُلُّهُ صَحِيْحٌ إلَّا ثَلاَثَةُ أَحَادِيْث.
ذِكْرُ عِبَادَتِهِ وَفَضْلِهِ وَوَرَعِهِ وَصَلاَحِهِ:
قَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَالِدٍ المُطَّوِّعِيُّ، حَدَّثَنَا مسبح بن سعيد قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يختمُ فِي رَمَضَانَ فِي النَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً وَيقومُ بَعْدَ التّروَايحِ كُلَّ ثَلاَثِ لَيَالٍ بخَتْمَةٍ.
وَقَالَ بَكْرُ بنُ مُنِيْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: أَرْجُو أَنْ أَلقَى اللهَ وَلاَ يحَاسبنِي أَنِّي اغتبتُ أَحَداً.

قُلْتُ: صَدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ- وَمَن نظَرَ فَى كَلاَمِهِ فِي الجرحِ وَالتعديلِ عَلِمَ وَرعَهُ فِي الكَلاَمِ فِي النَّاسِ، وَإِنصَافَهُ فِيْمَنْ يُضَعِّفُهُ فَإِنَّهُ أَكْثَر مَا يَقُوْلُ: مُنْكَرُ الحَدِيْثِ سَكَتُوا عَنْهُ فِيْهِ نظرٌ وَنَحْو هَذَا، وَقَلَّ أَنْ يَقُوْلَ: فلان كَذَّابٌ أَوْ كَانَ يَضَعُ الحَدِيْثَ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِذَا قُلْتُ فُلاَنٌ فِي حَدِيْثِهِ نَظَرٌ فَهُوَ مُتَّهَمٌ، وَاهٍ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ يُحَاسبُنِي اللهُ أَنِّي اغتبْتُ أَحَداً، وَهَذَا هُوَ وَاللهِ غَايَةُ الوَرَعِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: سَمِعْتُهُ يَعْنِي البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: لاَ يَكُوْنُ لِي خصمٌ فِي الآخِرَةِ فَقُلْتُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ فِي كِتَابِ "التَّارِيْخ" وَيَقُوْلُوْنَ: فِيْهِ اغتيَابُ النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّمَا روينَا ذَلِكَ رِوَايَةً لَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِئْسَ مَوْلَى العَشِيْرَةِ" 1 يَعْنِي: حَدِيْث عَائِشَةَ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا اغتبْتُ أَحَداً قَطُّ مُنْذُ عَلِمتُ أَنَّ الغِيبَةَ تَضُرُّ أَهْلَهَا.
قَالَ: وَكَانَ أبي عَبْدِ اللهِ يُصَلِّي فِي، وَقْتِ السَّحَرِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَكَانَ لاَ يُوقظنِي فِي كُلِّ مَا يقوم فَقُلْتُ: أَرَاكَ تحمِلُ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَمْ توقظْنِي قَالَ: أَنْتَ شَابٌّ وَلاَ أُحِبُّ أَنْ أُفْسِدَ عَلَيْكَ نَومَكَ.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: حَدَّثَنَا أبي عَمْرٍو أَحْمَدُ بنُ المُقْرِئِ سَمِعْتُ بَكْرَ بنَ مُنِيْرٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ فلسعَهُ الزُّنْبُورُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً فَلَمَّا قضَى الصَّلاَةَ قَالَ: انْظُرُوا أَيش آذَانِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: دُعِيَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ إِلَى بُسْتَانِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى بِالقَوْمِ الظُّهْرَ، قَامَ يتطوَّعُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ رفعَ ذيلَ قمِيصِهِ فَقَالَ لبَعْضِ مَنْ مَعَهُ: انظُرْ هَلْ تَرَى تَحْتَ قمِيصِي شَيْئاً فَإِذَا زنبورٌ قَدْ أَبَرَهُ فِي ستِّةِ عشر، أو سبعة عشر موضعًا،
وَقَدْ تورمَ مِنْ ذَلِكَ جَسَدُهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ القَوْمِ: كَيْفَ لَمْ تخرجْ مِنَ الصَّلاَةِ أَوَّلَ مَا أَبَرَكَ? قَالَ: كُنْتُ فِي سُوْرَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا!!
وَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ سَعِيْدِ بنِ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ العُلَمَاءَ بِالبَصْرَةِ يَقُوْلُوْنَ: مَا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فِي المَعْرِفَةِ، وَالصَّلاَحِ.
وَقَالَ أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الوَرَّاقُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي صَدْرِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ أبي عَمْرٍو أَحْمَدُ بنُ نَصْرٍ الخَفَّافُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ التَّقيُّ النَّقيُّ العَالِمُ الَّذِي لَمْ أَرَ مِثْلَهُ.
أَعدْتُ هَذَا لِلتَّبويبِ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَامِدٍ البَزَّازُ، سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ جَابِرٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ لَمَّا وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَأبيرَ يَقُوْلُ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَاسْمَعُوا منه.
وقال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عَبْدِ الجَبَّارِ السَّمَرْقَنْديَّ يَقُوْلُ: جَاءَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَقربَائِهِ بخَرْتَنْك فسَمِعْتُهُ يدعُو لَيْلَةً إِذْ فرغَ مِنْ وِرْدِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فما تم الشَّهر حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ ذكرنَا أَنَّهُ لَمَّا أَلَّفَ "الصَّحِيْحَ" كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَرْجَمَةٍ.
وَرَوَى الخَطِيْبُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الفِرَبْرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي: أَيْنَ تُرِيْدُ? فَقُلْتُ: أُرِيْدُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ فَقَالَ: أَقْرئْهُ مِنِّيَ السَّلاَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: ركبنَا يَوْماً إِلَى الرَّمْيِ وَنَحْنُ بِفِرَبْر فَخَرَجْنَا إِلَى الدَّربِ الَّذِي يُؤدِّي إِلَى الفُرْضَةِ1 فجعلنَا نَرمِي، وَأَصَابَ سَهْمُ أَبِي عَبْدِ اللهِ، وتِدَ القنطرَةِ الَّذِي عَلَى نهرِ وَرَّادَةَ فَانْشَقَّ الوَتِدُ فَلَمَّا رَآهُ أبي عَبْدِ اللهِ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فَأَخْرَجَ السَّهمَ مِنَ الوَتِدِ، وَتركَ الرَّمْيَ وَقَالَ لَنَا: ارجِعُوا وَرجَعْنَا مَعَهُ إِلَى المَنْزِلِ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا جَعْفَرٍ لِي إِلَيْك حَاجَةٌ تقضيهَا? قلتُ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ قَالَ: حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهُوَ يتنفَّسُ الصُّعَدَاءَ فَقَالَ لِمَنْ مَعَنَا: اذهبُوا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ حَتَّى تُعِينوهُ عَلَى مَا سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: أَيَّةُ حَاجَةٍ هِيَ? قَالَ لِي: تضمن قضاءها?
قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى الرَّأْسِ وَالعَيْنِ. قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَصِيرَ إِلَى صَاحِبِ القنطرَةِ، فَتَقُوْلَ لَهُ: إِنَّا قَدْ أَخللنَا بِالوَتِدِ فَنُحِبُّ أَنْ تَأَذَنَ لَنَا فِي إِقَامَةِ بَدَلِهِ، أَوْ تَأَخُذَ ثَمَنَهُ، وَتجعلنَا فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ منَّا، وَكَانَ صَاحِبَ القنطرَةِ حُمَيْدُ بنُ الأَخضرِ الفِرَبْرِيُّ، فَقَالَ لَي: أَبلغْ أَبَا عَبْدِ اللهِ السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنْكَ، وَقَالَ: جَمِيْعُ مُلْكِي لَكَ الفدَاءُ، وَإِنْ قُلْتُ: نَفْسِي أَكُوْنُ قَدْ كذبْتُ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ أَنْ تحتَشِمنِي فِي، وَتِدٍ أَوْ فِي مُلكِي فَأَبلغتُهُ رسَالَتَهُ فَتهلَّلَ، وَجْهُهُ وَاسْتنَارَ وَأَظْهَرَ سُرُوْراً وَقَرَأَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ عَلَى الغرباء نحوًا من خمسمائة حديث وتصدق بثلاثمائة دِرْهَمٍ.
قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ لأَبِي مَعْشَرٍ الضَّرِيْرِ: اجعلنِي فِي حلٍّ يَا أَبَا مَعْشَرٍ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ? قَالَ: رويتُ يَوْماً حَدِيْثاً فَنَظَرْتُ إِلَيْكَ وَقَدْ أُعْجِبتَ بِهِ، وَأَنْتَ تُحرِّكُ رأْسَكَ، وَيَدَكَ فَتبسَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: أَنْتَ فِي حِلٍّ رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ.
قَالَ: وَرَأَيْتُهُ اسْتلقَى عَلَى قَفَاهُ يَوْماً وَنَحْنُ بِفِرَبْر فِي تَصْنِيْفِهِ كِتَابِ "التَّفْسِيْرِ" وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ ذَلِكَ اليَوْمِ فِي كَثْرَةِ إِخْرَاجِ الحَدِيْثِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تَقُوْلُ: إِنِّي مَا أَثْبَتُّ شَيْئاً بِغَيْرِ علمٍ قَطُّ مُنْذُ عَقَلْتُ فَمَا الفَائِدَةُ فِي الاسْتلقَاءِ? قَالَ: أَتعبْنَا أَنفُسَنَا اليَوْمَ، وَهَذَا ثغرٌ مِنَ الثُّغُوْرِ خَشِيْتُ أَنْ يَحْدُثَ حَدَثٌ مِنْ أَمرِ العدوِّ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْتريحَ وَآخُذَ أُهبَةً فَإِن غَافَصَنَا1 العَدُوُّ كَانَ بِنَا حَرَاكٌ.
قَالَ: وَكَانَ يَرْكَبُ إِلَى الرَّمْي كَثِيْراً، فَمَا أَعْلَمُنِي رَأَيْتُهُ فِي طولِ مَا صحِبْتُهُ أَخْطَأَ سهمُهُ الهَدَفَ إلَّا مرَّتينِ فَكَانَ يُصِيْبُ الهدفَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَكَانَ لاَ يسبق.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا أَكلْتُ كُرَّاثاً قَطُّ، وَلاَ القَنَابَرَى قُلْتُ: ولِمَ ذَاكَ: قَالَ: كرِهْتُ أَنْ أُوذِيَ مَنْ مَعِي مِنْ نَتَنِهِمَا قُلْتُ: وكذلك البصل النيئ? قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ العَبَّاسِ الفِرَبْرِيُّ، قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ بِفِرَبْر فِي المَسْجَدِ فَدَفَعْتُ مِنْ لِحْيَتِهِ قَذَاةً مِثْلَ الذَّرَّةِ أَذْكُرُهَا فَأَردْتُ أَنْ أُلقِيهَا فِي المَسْجَدِ فَقَالَ: أَلقِهَا خَارجاً مِنَ المَسْجَدِ.
قَالَ: وَأَملَى يَوْماً عليَّ حَدِيْثاً كَثِيْراً فَخَافَ مَلاَلِي فَقَالَ: طِبْ نَفْساً فإِن أَهْلَ الملاَهِي فِي ملاَهِيهِم، وَأَهْلَ الصّنَاعَاتِ فِي صنَاعَاتِهِم، وَالتُّجَّارَ فِي تجَارَاتِهِم، وَأَنْتَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ فَقُلْتُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا يرحمُكَ اللهُ إلَّا وَأَنَا أَرَى الحظ لنفسي فيه.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَا أَردْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بكَلاَمٍ فِيْهِ ذكرُ الدُّنْيَا إلَّا بدأَتُ بحمدِ اللهِ، وَالثنَاءِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَقُوْلُوْنَ: إِنَّكَ تَنَاولْتَ فُلاَناً. قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، مَا ذكرْتُ أَحَداً بسوءٍ إلَّا أَنْ أَقُوْلَ سَاهِياً، وَمَا يَخْرُجُ اسْمُ فُلاَنٍ مِنْ صحيفَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ.
قَالَ: وضيَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي بستَانٍ لَهُ وضيَّفَنَا مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْنَا أَعجبَ صَاحِبَ البُسْتَانِ بُستَانُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَمِلَ مجالس فيه وأجرى المَاءَ فِي أَنْهَارِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَيْفَ تَرَى? فَقَالَ: هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا.
قَالَ: وَكَانَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ غَرِيمٌ قَطَعَ عَلَيْهِ مَالاً كَثِيْراً فَبلغَهُ أَنَّهُ قَدِمَ آمُل، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِفِرَبْر فَقُلْنَا لَهُ: يَنْبَغِي أَنْ تعبُرَ، وَتَأْخُذَهُ بِمَالِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لَنَا أَنْ نُرَوِّعَهُ ثُمَّ بَلَغَ غريْمُهُ مَكَانَهُ بِفِرَبْر فَخَرَجَ إِلَى خُوَارزمَ فَقُلْنَا: يَنْبَغِي أَنْ تَقُوْلَ لأَبِي سَلَمَةَ الكُشَانِيِّ عَاملِ آمُل ليكَتَبَ إِلَى خُوَارزمَ فِي أَخذِهِ، وَاسْتخرَاجِ حقِّكَ مِنْهُ فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتُ مِنْهُم كِتَاباً طمِعُوا مِنِّي فِي كِتَابٍ، وَلَسْتُ أَبيعُ دينِي بدُنيَاي فَجَهِدْنَا فَلَمْ يَأْخُذْ حَتَّى كلَّمْنَا السُّلْطَانُ عَنْ غَيْرِ أَمرِهِ فَكَتَبَ إِلَى، وَالِي خُوَارزمَ فَلَمَّا أُبلِغَ أَبَا عَبْدِ اللهِ ذَلِكَ وَجَدَ، وَجْداً شَدِيْداً وَقَالَ: لاَ تكونُوا أَشفقَ عليَّ مِنْ نَفْسِي، وَكَتَبَ كِتَاباً وَأَرْدَفَ تِلْكَ الكُتُبَ بكُتُبٍ، وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ بخُوَارِزْمَ أَنْ لاَ يُتَعرَّضَ لغريمِهِ إلَّا بِخَيْرٍ فَرَجَعَ غريمُهُ إِلَى آمُل وَقصَدَ إِلَى نَاحِيَةِ مَرْو فَاجْتَمَعَ التُّجَّارُ، وَأُخْبِرَ السُّلْطَانُ بِأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ خَرَجَ فِي طَلَبِ غريمٍ لَهُ فَأَرَادَ السُّلْطَانُ التَّشديدَ عَلَى غريمِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ أبي عَبْدِ اللهِ، وَصَالَحَ غريمَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ سَنَةٍ عَشْرَةُ دَرَاهِم شَيْئاً يَسِيْراً، وَكَانَ المَالُ خَمْسَةً وَعِشْرِيْنَ أَلْفاً، وَلَمْ يصِلْ مِنْ ذَلِكَ المَالِ إِلَى دِرْهَمٍ وَلاَ إِلَى أَكْثَرِ مِنْهُ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَا تولَّيْتُ شِرَاءَ شَيْءٍ وَلاَ بَيْعَهُ قَطُّ. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ وَقَدْ أَحلَّ اللهُ البيعَ? قَالَ: لِمَا فِيْهِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقصَانِ وَالتخليطِ فَخشيتُ إِنْ تولّيتُ أَنْ أَستوِي بغَيرِي قُلْتُ فَمَنْ كَانَ يَتَوَلَّى أَمرُكَ فِي أَسفَارِكَ وَمُبَايَعَتِكَ? قَالَ: كُنْتُ أُكْفَى ذَلِكَ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ خِدَاشٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ حَفْصٍ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الحَسَنِ يَعْنِي: إِسْمَاعِيْل وَالِدِ أَبِي عَبْدِ اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُ مِنْ مَالِي دِرْهَماً مِنْ حرَامٍ، وَلاَ دِرْهَماً مِنْ شُبْهَةٍ قَالَ أَحْمَدُ: فَتصَاغَرَتْ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ أبي عَبْدِ اللهِ: أَصْدَقُ مَا يَكُوْنُ الرَّجُلُ عِنْدَ المَوْتِ.
قَالَ: وَكَانَ أبي عَبْدِ اللهِ اكترَى مَنْزِلاً فلبِثَ فِيْهِ طَوِيْلاً فَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لَمْ أَمسحْ ذَكَرِي بِالحَائِطِ، وَلاَ بِالأَرْضِ فِي ذَلِكَ المَنْزِلِ فَقِيْلَ لَهُ: لِمَ? قَالَ: لأَنَّ المَنْزِلَ لغَيرِي.

قَالَ: وَقَالَ لِي أبي عَبْدِ اللهِ يَوْماً بِفِرَبْر: بَلَغَنِي أَنَّ نَخَّاساً قَدِمَ بجَوَارِي، فَتصيرَ مَعِي? قُلْتُ: نَعَمْ، فصِرنَا إِلَيْهِ فَأَخْرَجَ جَوَارِيَ حِسَاناً صِبَاحاً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ خِلاَلِهنَّ جَارِيَةٌ خَزَرِيَّةٌ دمِيمَةٌ عَلَيْهَا شحمٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فمسَّ ذَقْنَهَا فَقَالَ: اشترِ هَذِهِ لَنَا مِنْهُ فَقُلْتُ: هَذِهِ. دمِيمَةٌ قبيحَةٌ لاَ تَصْلُحُ، وَاللاَتِي نظرْنَا إِليهنَّ يُمْكِنُ شِرَاءهُنَّ بثمنِ هَذِهِ. فَقَالَ: اشترِ هَذِهِ فَإِنِّي قَدْ مَسِسْتُ ذَقْنَهَا، وَلاَ أُحبُّ أَنْ أَمسَّ جَارِيَةً ثُمَّ لاَ أَشْتَرِيهَا فَاشْترَاهَا بغلاء خمسمائة دِرْهَمٍ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ، ثُمَّ لَمْ تزلْ عِنْدَهُ حَتَّى أَخرَجَهَا مَعَهُ إِلَى نَيْسَأبيرَ.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: أَنْبَأَنَا أبي عَمْرٍو أَحْمَدُ بن محمد المقرئ: سمعت بكر بن منير، وَقَدْ ذكرَ معنَاهَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّفْظُ لبَكْرٍ قَالَ: كَانَ حُمِلَ إِلَى البُخَارِيِّ بِضَاعَةٌ أَنفذَهَا إِلَيْهِ ابْنُهُ أَحْمَدُ فَاجْتَمَعَ بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَيْهِ فَطَلَبُوهَا بربحِ خَمْسَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: انْصَرَفُوا اللَّيْلَةَ فَجَاءهُ مِنَ الغَدِ تُجَّارٌ آخرُوْنَ فَطَلَبُوا مِنْهُ البِضَاعَةَ بربحِ عَشْرَةِ آلاَفٍ فَقَالَ: إِنِّي نَوَيْتُ بيعَهَا للَّذين أَتَوا البَارِحَةَ.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ حمدٍ المُلاَحِمِيُّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ صَابرِ بنِ كَاتِبٍ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ حَفْصٍ الأَشْقَرُ قَالَ: كُنَّا مَعَ البُخَارِيِّ بِالبَصْرَةِ نكتبُ فَفَقدنَاهُ أَيَّاماً ثُمَّ، وَجدنَاهُ فِي بَيْتٍ، وَهُوَ عُريَانٌ وَقَدْ نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَجَمَعنَا لَهُ الدَّرَاهِمَ، وَكسونَاهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكُوْنَ بحَالَةٍ إِذَا دَعَا لَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ أَخِيْهِ بحضرتِي: فَهَلْ تبيَّنْتَ ذَلِكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ مِنْ نَفْسِكَ، أَوْ جرَّبْتَ? قَالَ: نَعَمْ دعوتُ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- مرَّتينِ فَاسْتجَابَ لِي فَلَنْ أُحِبَّ أَنْ أَدْعُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَعَلَّهُ يَنْقُصُ مِنْ حسنَاتِي أَو يُعَجِّلَ لِي فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: مَا حَاجَةُ المُسْلِمُ إِلَى الكذِبِ وَالبُخْلِ?!!
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: خَرَجتُ إِلَى آدَمَ بنِ أَبِي إِيَاسٍ، فَتخلَّفَتْ عَنِّي نَفَقَتِي، حَتَّى جَعَلتُ أَتنَاولُ الحشيشَ، وَلاَ أُخْبِرْ بِذَلِكَ أَحَداً فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ أَتَانِي آتٍ لَمْ أَعرِفْهُ فَنَاولَنِي صُرَّةَ دَنَانِيْر، وَقَالَ: أَنْفِقْ عَلَى نَفْسِكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ الحُسَيْنَ بنَ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْديَّ يَقُوْلُ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ مخصوصاً بِثَلاَثِ خِصَالٍ مَعَ مَا كَانَ فِيْهِ مِنَ الخِصَالِ المحمودَةِ: كَانَ قَلِيْلَ الكَلاَمِ، وكان لا يطمع فيما عند الناس وَكَانَ لاَ يشتغِلُ بِأُمُورِ النَّاسِ كُلُّ شُغْلِهِ كَانَ فِي العِلْمِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَ بنَ مُجَاهدٍ يَقُوْلُ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ الحَدِيْثَ حِسْبَةً غَيْرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، وَرَأَيْتُ سُلَيْمَ بنَ مُجَاهدٍ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَنْ يُحَدِّثَهُ كُلَّ يَوْمٍ بِثَلاَثَةِ أَحَادِيْثَ،وَيُبَيِّنَ لَهُ مَعَانِيهَا وَتفَاسِيرِهَا وَعِلَلِهَا. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ قدرَ مُقَامِهِ. وَكَانَ أَقَامَ فِي تِلْكَ الدفعَةِ جُمْعَةً.
وَسَمِعْتُ سليماً يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ بعينِي مُنْذُ سِتِّيْنَ سَنَةً أَفْقَهَ، وَلاَ أَوْرَعَ وَلاَ أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
قَالَ عَبْدُ المَجِيْدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ القَوِيِّ، وَالضَّعيفِ.
ذِكْرُ كَرَمِهِ وَسَمَاحَتِهِ وَصِفَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: كَانَتْ لَهُ قِطْعَةُ أَرْضٍ يَكْرِيهَا كُلَّ سَنَةٍ بسبعمائة دِرْهَمٍ. فَكَانَ ذَلِكَ المُكْتَرِي رُبَّمَا حملَ مِنْهَا إِلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ قِثَّاةً أَوْ قِثَّاتَينِ؛ لأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ كَانَ مُعْجَباً بِالقِثَّاءِ النَّضيجِ، وَكَانَ يُؤْثِرُهُ عَلَى البطيخِ أَحْيَاناً فَكَانَ يَهَبُ لِلرَّجُلِ مائَةَ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ لحملِهِ القِثَّاءَ إِلَيْهِ أَحْيَاناً.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: كُنْتُ أستغل كل شهر خمسمائة دِرْهَمٍ، فَأَنفقْتُ كُلَّ ذَلِكَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَقُلْتُ: كم بَيْنَ مَنْ ينفقُ عَلَى هَذَا الوَجْهِ، وَبَيْنَ مَنْ كَانَ خِلْواً مِنَ المَالِ فَجَمَعَ وَكسبَ بِالعِلْمِ حَتَّى اجْتَمَعَ لَهُ فَقَالَ أبي عَبْدِ اللهِ: {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى: 36] .
قَالَ: وَكُنَّا بِفِرَبْر وَكَانَ أبي عَبْدِ اللهِ يبنِي رِباطاً مِمَّا يلِي بُخَارَى، فَاجْتَمَعَ بَشَرٌ كَثِيْرٌ يُعينونَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ ينقُلُ اللَّبِنَ فَكُنْتُ أَقُوْلُ لَهُ: إِنَّكَ تُكْفَى يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَيَقُوْلُ: هَذَا الَّذِي يَنْفَعُنَا ثُمَّ أَخذَ ينقلُ الزَّنْبَرَاتِ1 مَعَهُ، وَكَانَ ذَبَحَ لَهُم بَقَرَةً فَلَمَّا أَدْرَكَتِ القدورُ دَعَا النَّاسَ إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ بِهَا مائَةُ نَفْسٍ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّهُ يجتمعُ مَا اجْتَمَعَ وَكُنَّا أَخرجْنَا مَعَهُ مِنْ فِرَبْر خُبزاً بِثَلاَثَةِ درَاهمَ، أَوْ أَقَلَّ فَأَلقينَا بَيْنَ أَيديهِم فَأَكَلَ جَمِيْعُ مَنْ حضَرَ وَفضلتْ أَرغفَةٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ الخبزُ إِذْ ذَاكَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ بِدِرْهَمٍ.
قَالَ: وَكَانَ أبي عَبْدِ اللهِ رُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِ النَّهَارُ فَلاَ يَأْكُلُ فِيْهِ رُقَاقَةً، إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ أَحْيَاناً لوزتين أَوْ ثَلاَثاً وَكَانَ يجتنِبُ توَابِلَ القُدورِ مِثْلَ الحِمّصِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ لِي يَوْماً شبهَ المُتفرِّجِ بصَاحِبِهِ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ نَحْتَاجُ فِي السَّنَةِ إِلَى شَيْءٍ كَثِيْرٍ قُلْتُ لَهُ: قَدْرُ كَمْ? قَالَ: أَحتَاجُ فِي السَّنَةِ إِلَى أَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، أَوْ خَمْسَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ قَالَ: وَكَانَ يتصدَّقُ بِالكَثِيْرِ يَأْخُذُ بِيَدِهِ
صَاحِبَ الحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ فيُنَاوِلُهُ مَا بَيْنَ العِشْرِيْنَ إِلَى الثَّلاَثِيْنَ، وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَن يَشْعُرَ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَكَانَ لاَ يُفَارِقُهُ كِيْسُهُ، وَرَأَيْتُهُ نَاولَ رَجُلاً مِرَاراً صُرَّةً فيها ثلاثمائة دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ أَخْبَرَنِي بعَدَدِ مَا كَانَ فِيْهَا مِنْ بَعْدُ فَأَرَادَ أَنْ يدعُوَ فَقَالَ لَهُ أبي عَبْدِ اللهِ: ارفُقْ وَاشتغلْ بِحَدِيْثٍ آخرَ كيلاَ يعلمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ.
قَالَ: وكنت اشتريت منزلًا بتسعمائة وعشرين درهمًا فقال: لي إِلَيْكَ حَاجَةٌ تَقْضِيهَا? قُلْتُ: نَعَمْ، وَنُعْمَى عينٍ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تصيرَ إِلَى نُوْحِ بنِ أَبِي شدَّادٍ الصَّيْرَفِيِّ وَتَأْخُذَ مِنْهُ أَلفَ دِرْهَمٍ، وَتَحْمِلَهُ إِلَيَّ فَفَعَلتُ فَقَالَ لِي: خُذْهُ إِلَيْكَ فَاصرِفْهُ فِي ثمنِ المَنْزِلِ فَقُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُهُ مِنْكَ، وَشكرتُهُ وَأَقبلنَا عَلَى الكِتَابَةِ وَكُنَّا فِي تَصْنِيْفِ "الجَامِعِ" فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ قُلْتُ: عَرَضَتْ لِي حَاجَةٌ لاَ أَجْتَرِئُ رفعَهَا إِلَيْكَ فَظنَّ أَنِّي طَمِعْتُ فِي الزِّيَادَةِ فَقَالَ: لاَ تحتشمْنِي، وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَحْتَاجُ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُوْنَ مأَخوذاً بِسببِكَ قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ? قَالَ: لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ فذكرَ حَدِيْثَ سَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ جَعَلتُكَ فِي حِلٍّ مِنْ جَمِيْعِ مَا تَقُوْلُ، وَوهبْتُ لَكَ المَالَ الَّذِي عرضتَهُ عليَّ عَنَيْتُ المُنَاصفَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: لِي جَوَارٍ وَامْرَأَةٌ وَأَنْتَ عَزَبٌ فَالَّذِي يَجِبُ عليَّ أَنْ أُنَاصِفَكَ لنستوِي فِي المَالِ، وَغَيْرِهِ وَأَربحُ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ فعلْتَ رَحِمَكَ اللهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِذْ أَنْزَلْتَنِي مِنْ نَفْسِكَ مَا لَمْ تُنْزِلْ أَحَداً، وَحللتُ مِنْكَ محلَّ الوَلَدِ ثُمَّ حَفِظَ عليَّ حَدِيْثِي الأَوَّل وَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ? قُلْتُ: تَقْضِيهَا? قَالَ: نَعَمْ وَأُسَرُّ بِذَلِكَ قُلْتُ: هَذِهِ الأَلفُ تَأْمُرُ بِقَبُولِهِ، وَاصْرِفْهُ فِي بَعْضِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَقَبِلَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ ضَمِنَ لِي قَضَاءَ حَاجَتِي ثُمَّ جلسْنَا بَعْدَ ذَلِكَ بيومِيْنِ لتَصْنِيْفِ "الجَامِعِ" وَكَتَبْنَا مِنْهُ ذَلِكَ اليَوْمَ شَيْئاً كَثِيْراً إِلَى الظُّهْرِ ثُمَّ صَلَّينَا الظُّهرَ وَأَقبلْنَا عَلَى الكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نكُوْنَ أَكلْنَا شَيْئاً فرآنِي لَمَّا كَانَ قُرْبَ العصرِ شِبْهَ القَلِقِ المستوحشِ فَتوهَّمَ فِيَّ ملاَلاً وَإِنَّمَا كَانَ بِيَ الحصرُ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَكنْ أَقدرُ عَلَى القِيَامِ، وَكُنْتُ أَتَلَوَّى اهتمَاماً بِالحصرِ فَدَخَلَ أبي عَبْدِ اللهِ المَنْزِلَ وَأَخْرَجَ إِلَيَّ كَاغدَةً فِيْهَا ثلاثمائة دِرْهَمٍ وَقَالَ: أَمَا إِذْ لَمْ تقبلْ ثمنَ المَنْزِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تصرِفَ هَذَا فِي بَعْضِ حَوَائِجِكَ فجهَدَنِي فَلَمْ أَقبلْ ثُمَّ كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ كتبنَا إِلَى الظُّهرِ أَيْضاً فَنَاوَلَنِي عِشْرِيْنَ دِرْهَماً فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تصرِفَ هَذِهِ فِي شرَاءِ الخُضرِ، وَنحوِ ذَلِكَ فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مَا كُنْتُ أَعلَمُ أَنَّهُ يلاَئِمُهُ، وَبعثْتُ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَتيتُ فَقَالَ لِي: بَيَّضَ اللهُ وَجْهَكَ لَيْسَ فيكَ حِيْلَةٌ فَلاَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نُعَنِّي أَنْفُسَنَا فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ جمعتَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَأَيُّ رَجُلٍ يَبَرُّ خَادِمَهُ بِمثلِ مَا تَبَرُّنِي إِنْ كُنْتُ لاَ أَعرِفُ هَذَا فلَسْتُ أَعرِفُ أَكْثَرَ مِنْهُ.
سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ مُحَمَّدٍ الصَّارفيَّ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ فَى مَنْزِلِهِ، فَجَاءتْهُ

جَارِيَةٌ، وَأَرَادَتْ دُخُوْلَ المَنْزِلِ فعثرَتْ عَلَى محبرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ تمشينَ? قَالَتْ: إِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيْقٌ، كَيْفَ أَمْشِي? فَبسط يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهَا: اذهبِي فَقَدْ أَعتقْتُكِ قَالَ: فَقِيْلَ لَهُ فِيْمَا بَعْدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَغضبتْكَ الجَارِيَةُ? قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَغضبتْنِي فَإِنِّي أَرضيْتُ نَفْسِي بِمَا فعلْتُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ الحُسَيْنِ البَزَّازُ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ شَيْخاً نحيفَ الجسمِ لَيْسَ بِالطَّوِيْلِ، وَلاَ بِالقَصِيْرِ.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حُسَيْنٍ التَّمِيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أبي يَعْلَى التَّمِيْمِيُّ، سَمِعْتُ جِبْرِيْلَ بنَ مِيكَائِيلَ بِمِصْرَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: لَمَّا بَلَغْتُ خُرَاسَانَ أُصِبْتُ ببَعْضِ بَصْرِي فعَلَّمَنِي رَجُلٌ أَنْ أَحْلِقَ رَأْسِي، وَأُغَلِّفَهُ بِالخِطْمِيِّ ففعلت فرد الله علي بصري.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ الوَرَّاقُ: دَخَلَ أبي عَبْدِ اللهِ بِفِرَبْر الحَمَّامَ، وَكُنْتُ أَنَا فِي مَشْلَحِ الحَمَّامِ أَتعَاهَدُ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ فَلَمَّا خَرَجَ نَاوَلْتُهُ ثِيَابَهُ فلبِسَهَا ثُمَّ نَاوَلْتُهُ الخُفَّ فَقَالَ: مَسِسْتَ شَيْئاً فِيْهِ شعرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: فِي أَيِّ مَوْضِعٍ هُوَ مِنَ الخُفِّ? فَلَمْ يُخْبِرْنِي فتوهَّمْتُ أَنَّهُ فِي سَاقِهِ بَيْنَ الظِّهَارَةِ وَالبِطَانَةِ.
ذِكْرُ قِصَّتِهِ مَعَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ رحِمَهُمَا اللهُ:
قَالَ الحَاكِمُ أبي عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ حَامِدٍ البَزَّازَ قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ جَابِرٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى قَالَ لَنَا لَمَّا، وَرَدَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ نَيْسَأبيرَ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَاسْمَعُوا مِنْهُ فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَقبلُوا عَلَى السَّمَاعِ مِنْهُ حَتَّى ظَهرَ الخَلَلُ فِي مَجْلِسِ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى فَحَسَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَكَلَّمَ فِيْهِ.
وَقَالَ أبي أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ ذَكَرَ لِي جَمَاعَةٌ مِنَ المَشَايِخِ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ لَمَّا وَردَ نَيْسَأبيرَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ حَسَدَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مِنْ مَشَايِخِ نَيْسَأبيرَ لَمَّا رَأَوا إِقبالَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَاجْتِمَاعَهُم عَلَيْهِ فَقَالَ لأَصْحَابِ الحَدِيْثِ: إِنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: اللَّفْظُ بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَامتحنُوهُ فِي المَجْلِسِ فَلَمَّا حضَرَ النَّاسُ مَجْلِسَ البُخَارِيِّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ مَا تَقُوْلُ فِي اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ? فَأَعرَضَ عَنْهُ البُخَارِيُّ، وَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ فَأَعَادَ عَلَيْهِ القَوْلَ فَأَعرضَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ في الثالثة فالتفت إليه البخاري، وقال: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَأَفْعَالُ العبَادِ مَخْلُوْقَةٌ وَالامْتِحَانُ بِدْعَةٌ فشَغَبَ الرَّجُلُ وَشَغَبَ النَّاسُ وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَقَعَدَ البُخَارِيُّ فِي مَنْزِلِهِ.

أَنْبَأَنَا المُسَلَّمُ بنُ مُحَمَّدٍ القَيْسِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بنُ الحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ الخَطِيْبُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ غَالِبٍ أبي بَكْرٍ البَرْقَانِيُّ أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ الإِسْمَاعِيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سيَّارٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ مُسْلِمٍ خشنَام قَالَ: سُئِلَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بِنَيْسَأبيرَ عَنِ اللَّفْظِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بنُ سَعِيْدٍ يَعْنِي أَبَا قُدَامَةَ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ هُوَ القَطَّانُ قَالَ: أَعْمَالُ العبَادِ كُلُّهَا مَخْلُوْقَةٌ فمَرَقُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ترجِعُ عَنْ هَذَا القَوْلِ حَتَّى نعُودَ إِلَيْكَ? قَالَ: لاَ أَفعلْ إلَّا أَنْ تَجِيئُوا بحجَّةٍ فِيْمَا تقولُونَ أَقْوَى مِنْ حُجَّتِي، وَأَعجبَنِي مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ ثَبَاتُهُ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الهَيْثَمِ المُطَّوِّعِيُّ بِبُخَارَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيُّ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: أَمَّا أَفْعَالُ العِبَادِ فمَخْلُوْقَةٌ فَقَدْ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا أبي مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ".
وَبِهِ قَالَ: وَسَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بنَ سَعِيْدٍ يَقُوْلُ: سمعت يحيى بن سعيد يَقُوْلُ: مَا زِلْتُ أَسمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: إِن أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ.
قَالَ البُخَارِيُّ: حَرَكَاتُهُم، وَأَصْوَاتُهُم وَاكتِسَابُهُم وَكِتَابَتُهُم مَخْلُوْقَةٌ. فَأَمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبَيَّنُ المُثْبَتُ فِي المَصَاحِفِ المسطورُ المَكْتُوْبُ المُوعَى فِي القُلُوْبِ فَهُوَ كَلاَمُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} [الْعَنْكَبُوت: 49] .
وَقَالَ أبي حَامِدٍ الأَعمَشِيُّ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ فِي جنَازَةِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيْدِ بنِ مَرْوَانَ، وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسَامِي وَالكُنَى وَعِلَلِ الحَدِيْثِ، وَيمرُّ فِيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ مِثْلَ السَّهْمِ فَمَا أَتَى عَلَى هَذَا شَهْرٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: إلَّا مَنْ يَخْتلِفُ إِلَى مَجْلِسِهِ فَلاَ يَخْتَلِفْ إِلَيْنَا فَإِنَّهُم كَتَبُوا إِلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي اللَّفْظِ وَنهينَاهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَلاَ تقربوهُ، وَمَنْ يقربْهُ فَلاَ يقربْنَا فَأَقَامَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ هَا هُنَا مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بُخَارَى.
وَقَالَ أبي حَامِدٍ بنُ الشَّرْقِيِّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير
مَخْلُوْقٍ مِنْ جَمِيْعِ جهَاتِهِ، وَحَيْثُ تُصُرِّفَ فَمَنْ لزمَ هَذَا اسْتغنَى عَنِ اللَّفْظِ، وَعمَّا سِوَاهُ مِنَ الكَلاَمِ فِي القُرْآنِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوْقٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَخَرَجَ عَنِ الإِيْمَانِ وَبَانتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَجُعِلَ مَالُهُ فَيْئاً بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِهِم، وَمَنْ وَقَفَ فَقَالَ: لاَ أَقُوْلُ مَخْلُوْق، وَلاَ غَيْر مَخْلُوْق فَقَدْ ضَاهَى الكُفْرَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ لاَ يُجَالَسْ، وَلاَ يُكَلَّمْ وَمِنْ ذهبَ بَعْدَ هَذَا إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ فَاتَّهِمُوهُ فَإِنَّهُ لاَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مذهَبِهِ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الهَيْثَمِ بِبُخَارَى أَخْبَرَنَا الفِرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا البُخَارِيُّ قَالَ: نظرتُ فِي كَلاَمِ اليَهُوْدِ، وَالنَّصَارَى وَالمَجُوْسِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً أَضَلَّ فِي كُفْرِهِم مِنَ الجَهْمِيَّةِ، وَإِنِّي لأَستجهلُ مَنْ لاَ يُكَفِّرُهُم.
وَقَالَ غُنْجَارٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَاضِرٍ العَبْسِيُّ حَدَّثَنَا الفِرَبْرِيُّ سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ، وَمَنْ قَالَ مَخْلُوْقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ شَاذِلٍ يَقُوْلُ: لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، وَالبُخَارِيِّ دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَيْشٍ الحِيلَةُ لنا فيما بينك، وبين محمد بن يَحْيَى كُلُّ مَنْ يَخْتلِفُ إِلَيْكَ يُطْرَدُ? فَقَالَ: كم يَعْتَرِي مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الحسدُ فِي العِلْمِ، وَالعِلْمُ رِزْقُ اللهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَقُلْتُ: هَذِهِ المَسْأَلَةُ الَّتِي تُحْكَى عَنْكَ? قَالَ: يَا بنِي هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَشْؤُوْمَةٌ رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَمَا نَالَهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لاَ أَتَكَلَّمَ فِيْهَا.
قُلْتُ: المَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ اللَّفْظَ مَخْلُوْقٌ، سُئِلَ عَنْهَا البُخَارِيُّ فَوَقَفَ فِيْهَا فَلَمَّا وَقَفَ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَفْعَالَنَا مَخْلُوْقَةٌ وَاسْتدلَّ لِذَلِكَ فَهِمَ مِنْهُ الذُّهْلِيُّ أَنَّهُ يُوَجِّهُ مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ فَتَكَلَّمَ فِيْهِ، وَأَخَذَهُ بلاَزِمِ قَوْلِهِ هُوَ، وَغَيْرهُ وَقَدْ قَالَ البُخَارِيُّ فِي الحِكَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا غُنْجَارٌ فِي "تَارِيْخِهِ": حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ نَصْرٍ النَّيْسَأبيرِيَّ الخَفَّافَ بِبُخَارَى يَقُوْلُ: كُنَّا يَوْماً عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ القَيْسِيِّ، وَمَعَنَا مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ فجَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ نصرٍ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: مَنْ زَعَمَ أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي هَذَا، وَأَكْثَرُوا فِيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ إلَّا مَا أَقُوْلُ قَالَ أبي عَمْرٍو الخَفَّافُ فَأَتَيْتُ البُخَارِيَّ فَنَاظرتُهُ في شي مِنَ الأَحَادِيْثِ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ فَقُلْتُ: يَا أبا عبد الله ههنا أَحَدٌ يحكِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ هَذِهِ المَقَالَة فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو احْفَظ مَا أَقُوْلُ لك: من زعم من أهل نيسأبير، وقومس

وَالرَّيِّ، وَهَمَذَان وَحلوَانَ، وَبَغْدَادَ وَالكُوْفَةِ وَالبَصْرَةِ، وَمَكَّةَ وَالمَدِيْنَةِ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ إلَّا أَنِّي قُلْتُ: أَفْعَالُ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ.
وَقَالَ أبي سَعِيْدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ الكِنْدِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُوْلُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ نَيْسَأبيرَ مَا رَأَيْتُ، وَالِياً وَلاَ عَالِماً فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيْسَأبيرَ مَا فعلُوا بِهِ اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَيْنِ، وَثَلاَثَة فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي مَجْلِسِهِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقبلَ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ غَداً فليستقبِلْهُ فَاسْتقبلَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى، وَعَامَّةُ العُلَمَاءِ فَنَزَلَ دَارَ البُخَاريّينَ فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بن يحيى: لا تسألوه عن شي مِنَ الكَلاَمِ فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلاَفِ مَا نَحْنُ فِيْهِ، وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ وَكُلُّ رَافضيٍّ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ قَالَ: فَازدحمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ حَتَّى امتلأَ السّطحُ وَالدَّارُ فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي، أَوِ الثَّالِثِ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنِ اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ فَقَالَ: أَفْعَالُنَا مَخْلُوْقَةٌ، وَأَلفَاظُنَا مِنْ أَفْعَالِنَا فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ حَتَّى توَاثَبُوا فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم.
وَقَالَ الحَاكِمُ: أَخْبَرَنَا أبي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ الأَخْرَمِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَلِيٍّ المَخْلَديَّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى يَقُوْلُ: قَدْ أَظهرَ هَذَا البُخَارِيُّ قَوْلَ اللفظيَّةِ وَاللفظيَّةُ عِنْدِي شرُّ مِنَ الجَهْمِيَّةِ.
وَقَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ صَالِحِ بنِ هَانِئ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ سَلَمَةَ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ هَذَا رَجُلٌ مَقْبُوْلٌ بِخُرَاسَانَ خصوصاً فِي هَذِهِ المَدِيْنَةِ وَقَدْ لَجَّ فِي هَذَا الحَدِيْثِ حَتَّى لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ منَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيْهِ فَمَا تَرَى? فَقبضَ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} [غَافر: 44] ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ المقَامَ بِنَيْسَأبيرَ أَشَراً وَلاَ بَطراً، وَلاَ طَلباً للرِّئاسَةِ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عليَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ المُخَالِفينَ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَداً لَمَّا آتَانِي اللهُ لاَ غَيْر ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ إِنِّي خَارجٌ غَداً لتتخلَّصُوا مِنْ حَدِيْثِهِ لأَجلِي.
قَالَ: فَأَخبرْتُ جَمَاعَةَ أَصْحَابِنَا فَوَاللهِ مَا شَيَّعَهُ غَيْرِي كُنْتُ مَعَهُ حِيْنَ خَرَجَ مِنَ البلدِ، وَأَقَامَ عَلَى بَابِ البلدِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لإِصْلاَحِ أَمرِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوْبَ الحافظ يقول: لما استوطن البُخَارِيُّ نَيْسَأبيرَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلاَفَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ البُخَارِيِّ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَنَادَى عَلَيْهِ وَمنعَ النَّاسَ عَنْهُ انْقَطَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَقَالَ الذُّهْلِيُّ يَوْماً: إلَّا مَنْ

قَالَ بِاللَّفْظِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَنَا. فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رِدَاءً فَوْقَ عِمَامَتِهِ، وَقَامَ على رءوس النَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى الذُّهْلِيِّ مَا كتبَ عَنْهُ عَلَى ظَهرِ جَمَّالٍ. وَكَانَ مُسْلِمٌ يُظْهِرُ القَوْلَ بِاللَّفْظِ وَلاَ يَكْتُمُهُ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يُوْسُفَ المُؤَذِّنَ، سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ بنَ الشَّرْقِيِّ يَقُوْلُ: حضَرْتُ مَجْلِسَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ فَقَالَ: أَلاَ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَلاَ يَحْضُرْ مَجْلِسَنَا فَقَامَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ مِنَ المَجْلِسِ.
رَوَاهَا أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الشِّيْرَازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوْبَ، فَزَادَ: وَتَبِعَهُ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الشِّيرَازيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوْبَ الأَخْرَمَ، سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: لَمَّا قَامَ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ مِنْ مَجْلِسِ الذُّهْلِيِّ، قَالَ الذُّهْلِيُّ: لاَ يُسَاكِننِي هَذَا الرَّجُلُ فِي البلدِ فَخَشِيَ البُخَارِيُّ وَسَافَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ البُخَارِيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ إِنَّ فُلاَناً يُكَفِّرُكَ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيْهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا".
وَكَانَ كَثِيْرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُوْلُوْنَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقَعُ فيكَ فَيَقُوْلُ: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النِّسَاء: 76] ، وَيتلو أَيْضاً: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه} [فَاطِر: 43] . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ المَجِيْدِ بنُ إِبْرَاهِيْمَ: كَيْفَ لاَ تدعُو اللهَ عَلَى هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ يظلِمُونَكَ، وَيتنَاولونَكَ وَيَبْهَتُونَكَ? فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ" 2 وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ: "مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ فَقَدِ انْتَصَرَ"3.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لَمْ يَكُنْ يَتَعرَّضُ لَنَا قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَفنَاءِ النَّاسِ إلَّا رُمِيَ بِقَارعَةٍ، وَلَمْ يَسْلَمْ وَكُلَّمَا حَدَّثَ الجُهَالُ أَنفسَهُم أَنْ يَمْكُرُوا بِنَا رَأَيْتُ مِنْ ليلتِي فِي المَنَامِ نَاراً تُوَقَدُ ثُمَّ تُطفَأُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتفَعَ بِهَا فَأَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} [المَائِدَة: 64] . وَكَانَ هِجِّيرَاهُ1 مِنَ اللَّيْلِ إِذَا أَتيتهُ فِي آخِرِ مَقْدَمِهِ مِنَ العِرَاقِ: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِه} [آل عِمْرَان: 160] ، الآيَة.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الشِّيْرَازِيُّ: سَمِعْتُ القَاسِمَ بنَ القَاسِمِ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ وَرَّاقَ أحمد بن سيار يقول لنا قَدِمَ البُخَارِيُّ مَرْوَ اسْتَقبلَهُ، أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ فِيْمَنْ اسْتَقبَلَهُ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ نَحْنُ لاَ نُخَالِفُكَ فِيْمَا تَقُوْلُ، وَلَكِنَّ العَامَّةَ لاَ تحملُ ذَا مِنْكَ فَقَالَ البُخَارِيُّ: إِنِّي أَخشَى النَّارَ أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ أَعْلَمُهُ حقاً أَنْ أَقُوْلَ غَيْرَهُ فَانْصَرَفَ عَنْهُ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي "الجرحِ وَالتعديلِ": قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ الرَّيَّ سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَسَمِعَ مِنْهُ أَبِي وَأبي زُرْعَةَ، وَتركَا حَدِيْثَهُ عِنْدَمَا كَتَبَ إِليهِمَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى أَنَّهُ أَظهرَ عندهم بنيسأبير أن لفظه بالقرآن مخلوق.
قُلْتُ: إِنْ تركَا حَدِيْثَهُ أَوْ لَمْ يَتْرُكَاهُ البُخَارِيُّ ثِقَةٌ مَأْمُوْنٌ مُحتجٌّ بِهِ فِي العَالَمِ.
ذِكْرُ مِحْنَتِهِ مَعَ أَمِيْرِ بُخَارَى:
رَوَى أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الشِّيرَازيُّ قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُوْلُ: لَمَّا قَدِمَ أبي عَبْدِ اللهِ بُخَارَى نُصِبَ لَهُ القبَابُ عَلَى فرسخٍ مِنَ البلدِ، وَاسْتقبلَهُ عَامَّةُ أَهْلِ البلدِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَذْكُوْرٌ إلَّا اسْتَقبَلَهُ، وَنُثِرَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيْرُ وَالِدَرَاهِمُ وَالسُّكَّرُ الكَثِيْرُ فَبقيَ أَيَّاماً قَالَ: فَكَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ إِلَى خَالِدِ بنِ أَحْمَدَ أَمِيْرِ بُخَارَى: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَظهرَ خِلاَفَ السُّنَّةِ فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى فَقَالُوا: لاَ نُفَارِقُهُ فَأَمرَهُ الأَمِيْرُ بِالخُرُوجِ مِنَ البلدِ فَخَرَجَ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ: فحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَعْقِلٍ النَّسفيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ فِي اليَوْمِ الَّذِي أُخرِجَ فِيْهِ مِنْ بُخَارَى فَتقدَّمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، كَيْفَ تَرَى هَذَا اليَوْمَ مِنَ اليَوْمِ الَّذِي نُثِرَ عَلَيْكَ فِيْهِ مَا نُثِرَ? فَقَالَ: لا أبالي إذا سلم
دينِي. قَالَ: فَخَرَجَ إِلَى بِيْكَنْد، فَسَارَ النَّاسُ معه حزبين: حزب معه، وحزب عليه إِلَى أَنْ كتبَ إِلَيْهِ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ فَسَأَلُوْهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِم فَقَدِمَ إِلَى أَنْ، وَصلَ بَعْضَ قُرَى سَمَرْقَنْدَ فَوَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فِتْنَةٌ مِنْ سَبَبِهِ قَوْمٌ يُرِيْدُوْنَ إِدخَالَهُ البلَدَ، وَقَوْمٌ لاَ يُرِيْدُوْنَ ذَلِكَ إِلَى أَنِ اتَّفقُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِم فَاتَّصلَ بِهِ الخَبَرُ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُم بِسَبِبِهِ فَخَرَجَ يُرِيْدُ أَنْ يَرْكَبَ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي ثَلاَثاً فَسقَطَ مَيْتاً فَاتَّصل بِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَحضروهُ بِأَجمعهِم.
هَذِهِ حِكَايَةٌ شَاذَّةٌ مُنْقَطِعَةٌ وَالصَّحِيْحُ مَا يَأْتِي خِلاَفهَا.
قَالَ غُنْجَارٌ فِي "تَارِيْخِهِ": سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ المُقْرِئَ، سَمِعْتُ بَكْرَ بنَ مُنِيْرِ بنِ خُليدِ بنِ عَسْكَرٍ يَقُوْلُ: بعثَ الأَمِيْرُ خَالِدُ بنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ، وَالِي بُخَارَى إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ أَنِ احملْ إِلَيَّ كِتَابَ "الجَامِعِ" وَ"التَّارِيْخِ" وَغَيْرِهِمَا لأَسْمَعَ مِنْكَ فَقَالَ لِرَسُوْلِهِ: أَنَا لاَ أُذِلُّ العِلْمَ وَلاَ أَحْمِلُهُ إِلَى أبيابِ النَّاسِ فَإِنْ كَانَتْ لَكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ حَاجَةٌ فَاحضُرْ فِي مَسْجِدِي أَوْ فِي دَارِي وَإِنْ لَمْ يُعجبْكَ هَذَا فَإِنَّكَ سُلْطَانٌ فَامنعنِي مِنَ المَجْلِسِ ليَكُوْنَ لِي عذرٌ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَنِّي لاَ أَكتُمُ العِلْمَ لقولِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" 1 فَكَانَ سَبَبُ الوحشَةِ بَيْنَهُمَا هَذَا.
وَقَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ العَبَّاسِ الضَّبِّيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أبا بَكْرٍ بنَ أَبِي عَمْرٍو الحَافِظَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: كَانَ سَبَبُ مُنَافرَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنَّ خَالِدَ بنَ أَحْمَدَ الذُّهْلِيَّ الأَمِيْرَ خَلِيْفَةَ الطَّاهريَّةِ بِبُخَارَى سَأَلَ أَنْ يَحْضُرَ مَنْزِلَهُ فيقرأَ "الجَامِعَ" وَ "التَّارِيْخَ" عَلَى أَوْلاَدِهِ فَامْتَنَعَ عَنِ الحُضُوْرِ عِنْدَهُ فرَاسلَهُ بِأَنْ يعقِدَ مَجْلِساً لأَوْلاَدِهِ لاَ يَحْضُرُهُ غَيْرهُم فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: لاَ أَخُصُّ أَحَداً فَاسْتعَانَ الأَمِيْرُ بحريثِ بنِ أَبِي الوَرْقَاءِ، وَغَيْرِهِ حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ، وَنَفَاهُ عَنِ البلدِ فَدَعَا عَلَيْهِم فَلَمْ يَأْتِ إلَّا شَهْرٌ حَتَّى، وَرَدَ أَمْرُ الطَّاهريَّةِ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدٍ فِي البلدِ فَنُوْدِيَ عَلَيْهِ عَلَى أَتَانٍ، وَأَمَّا حُريثٌ فَإِنَّهُ ابْتُلِيَ بِأَهْلِهِ فَرَأَى فِيْهَا مَا يَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ، وَأَمَّا فُلاَن فَابْتُلِيَ بِأَوْلاَدِهِ، وَأَرَاهُ اللهُ فِيْهِمُ البلاَيَا.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا خَلَفٌ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بنُ شَاذَوْيه قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَسْكُنُ سِكَّةَ الدَّهْقَانِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ يَخْتَلِفونَ إِلَيْهِ، يُظْهِرُونَ شِعَارَ أَهْلِ الحَدِيْثِ مِنْ إِفرَادِ الإِقَامَةِ، وَرَفْعِ الأَيدِي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَالَ حُريثُ بنُ أبي الورقاء وغيره: هذا
رَجُلٌ مُشغِبٌ، وَهُوَ يُفْسِدُ عَلَيْنَا هَذِهِ المَدِيْنَةَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى مِنْ نَيْسَأبيرَ، وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيْثِ فَاحتَّجُوا عَلَيْهِ بِابْنِ يَحْيَى، وَاسْتعَانُوا عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ فِي نَفْيِهِ مِنَ البلدِ فَأُخْرَجَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ وَرِعاً يتجنَّبُ السُّلْطَانَ، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِم.
قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ، وَاصلٍ البِيْكَنْدِيَّ سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بخُرُوْجِ أَبِي عَبْدِ اللهِ وَمقَامُهُ عِنْدنَا حَتَّى سَمِعْنَا مِنْهُ هَذِهِ الكُتُبَ، وَإِلاَّ مَنْ كَانَ يصلُ إليه وبمقامه في هذه النواحي: فربر وَبِيْكَنْد بقيَتْ هَذِهِ الآثَارُ فِيْهَا، وَتخرَّجَ النَّاسُ بِهِ.
قُلْتُ: خَالِدُ بنُ أَحْمَدَ الأَمِيْرُ قَالَ الحَاكِمُ: لَهُ بِبُخَارَى آثَارٌ محمودَةٌ كُلُّهَا إلَّا مَوْجِدَتَهُ عَلَى البُخَارِيِّ فَإِنَّهَا زَلَّةٌ وَسببٌ لزوَالِ مُلْكِهِ.
سَمِعَ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه، وَعُبَيْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ القَوَارِيْرِيَّ، وَطَائِفَةً.
حَدَّثَنَا عَنْهُ بهمذَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الجَلاَّبُ، وَبمروَ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الأَزْرَقُ وَكَانَ قَدْ مَالَ إِلَى يَعْقُوْبَ بنِ اللَّيْثِ فَلَمَّا حَجَّ حبسوهُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ لسنتِهِ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ:
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ عَبْدَ القدُّوسِ بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بنُ إِسْمَاعِيْلَ إِلَى خَرْتَنْك -قَرْيَةٌ عَلَى فَرْسَخيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْد- وَكَانَ لَهُ بِهَا أَقربَاء فَنَزَلَ عِنْدَهُم فسَمِعْتُهُ لَيْلَةً يدعُو، وَقَدْ فرغَ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فما تم الشَّهْرُ حَتَّى مَاتَ، وَقبرُهُ بِخَرْتَنْك.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُوْرٍ غَالِبَ بنَ جِبْرِيْلَ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ أبي عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: إِنَّهُ أَقَامَ عِنْدنَا أَيَّاماً فمَرِضَ، وَاشتدَّ بِهِ المَرَضُ حَتَّى، وَجَّهَ رَسُوْلاً إِلَى مَدِيْنَةِ سَمَرْقَنْدَ فِي إِخْرَاجِ مُحَمَّدٍ فَلَمَّا، وافى تَهَيَّأَ للرُّكُوبِ فلبسَ خُفَّيْهِ، وَتعمَّمَ فَلَمَّا مَشَى قدرَ عِشْرِيْنَ خطوَةً أَوْ نحوَهَا، وَأَنَا آخِذٌ بَعْضُدِهِ، وَرَجُلٌ أَخذَ مَعِي يقودُهُ إِلَى الدَّابَّةِ ليركبَهَا فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أَرسلونِي فَقَدْ ضَعُفْتُ فَدَعَا بدعَوَاتٍ ثُمَّ اضطجعَ فَقَضَى رَحِمَهُ اللهُ فسَالَ مِنْهُ العرَقُ شَيْءٌ لاَ يُوْصَفُ فَمَا سَكَنَ مِنْهُ العرَقُ إِلَى أَنْ أَدرجنَاهُ فِي ثِيَابِهِ، وَكَانَ فِيْمَا قَالَ لَنَا وَأَوْصَى إِلَيْنَا أَنْ كَفِّنُونِي فِي ثَلاَثَةِ أَثوَابٍ بِيْضٍ لَيْسَ فِيْهَا قَمِيْصٌ، وَلاَ عِمَامَةٌ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ فَلَمَّا دَفَنَّاهُ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ غَاليَةٌ أَطيبُ مِنَ المِسْكِ فَدَام ذَلِكَ أَيَّاماً ثُمَّ علَتْ سوَارِيُّ بِيْضٌ فِي السَّمَاءِ مستطيلَةٌ بحِذَاءِ قَبْرِهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَخْتَلِفونَ وَيتعجَّبُوْنَ، وَأَمَّا التُّرَابُ فَإِنَّهُم كَانُوا يَرْفَعُوْنَ عَنِ القَبْرِ حَتَّى ظَهرَ القَبْرُ، وَلَمْ نكنْ نقدِرُ عَلَى حفظِ القَبْرِ بالحراس، وغلبنا

عَلَى أَنفُسِنَا، فنصبنَا عَلَى القَبْرِ خَشَباً مُشَبَّكاً، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى الوُصُوْلِ إِلَى القَبْرِ، فَكَانُوا يَرْفَعُوْنَ مَا حولَ القَبْرِ مِنَ التُّرَابِ، وَلَمْ يَكُوْنُوا يخلصُوْنَ إِلَى القَبْرِ وَأَمَّا رِيْحُ الطِّيبِ فَإِنَّهُ تدَاومَ أَيَّاماً كَثِيْرَةً حَتَّى تَحَدَّثَ أَهْلُ البَلْدَة، وَتعجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ وَظهرَ عِنْدَ مُخَالِفِيهِ أَمرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَخَرَجَ بَعْضُ مُخَالِفِيهِ إِلَى قَبْرِهِ وَأَظهرُوا التَّوبَةَ، وَالنَّدَامَةَ مِمَّا كَانُوا شرعُوا فِيْهِ مِنْ مذمومِ المَذْهَبِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَلَمْ يعِشْ أبي مَنْصُوْرٍ غَالِبُ بنُ جِبْرِيْلَ بَعْدَهُ إلَّا القَلِيْلَ، وأوصى أن يدفن إلى جنبه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مكِّي الجُرْجَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الوَاحِدِ بنَ آدَمَ الطَّواويسِيَّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ وَاقفٌ فِي مَوْضِعٍ فسلَّمْتُ عَلَيْهِ فردَّ عليَّ السَّلاَمَ فَقُلْتُ: مَا، وُقُوفُكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ? قَالَ: أَنتَظِرُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَلَغَنِي مَوْتَهُ، فَنَظَرتُ فَإِذَا قَدْ مَاتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيْهَا.
وَقَالَ خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ الخَيَّامُ: سَمِعْتُ مَهِيبَ بنَ سُلَيْمٍ الكرْمِيْنِيَّ يَقُوْلُ: مَاتَ عِنْدنَا البُخَارِيُّ لَيْلَةَ عيدِ الفِطرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ، وَقَدْ بَلَغَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ سَنَةً، وَكَانَ فِي بَيْتٍ وَحدَهُ فَوَجَدنَاهُ لَمَّا أَصْبَحَ، وَهُوَ مَيِّتٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ الحُسَيْنِ البَزَّازَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: تُوُفِّيَ البُخَارِيُّ لَيْلَةَ السَّبْتِ لَيْلَةَ الفِطْرِ عِنْدَ صَلاَةِ العشَاءِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الفِطْرِ بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَعَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ سَنَةً إلَّا ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْماً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ حَاتِمٍ الخَلْقَانِيَّ فِي المَنَامِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بنِ حَفْصٍ، فَسَأَلْتُهُ وَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ مَيِّتٌ عَنْ شَيْخِي -رَحِمَهُ اللهُ- هَلْ رَأَيْتَهُ? قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُهُ، وَهُوَ ذَاكَ يشيرُ إِلَى نَاحِيَةِ سطحٍ مِنْ سطوحِ المَنْزِلِ. ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ. فَقَالَ: رَأَيْتُهُ وَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ إِشَارَةً كَادَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا لعلوِّ ما يشير.
وَقَالَ أبي عَلِيٍّ الغَسَّانِيُّ: أَخْبَرَنَا أبي الفَتْحِ نَصْرُ بنُ الحَسَنِ السَّكتِيُّ السَّمرقندِيُّ، قَدِمَ عَلَيْنَا بلنسية عام أربعين وستين وأربعمائة قَالَ: قَحطَ المَطَرُ عِنْدنَا بِسَمَرْقَنْدَ فِي بَعْضِ الأَعْوَامِ فَاسْتسقَى النَّاسُ مِرَاراً فَلَمْ يُسْقَوا فَأَتَى رَجُلٌ صَالِحٌ مَعْرُوْفٌ بِالصَّلاَحِ إِلَى قَاضِي سَمَرْقَنْدَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رأْياً أَعرضُهُ عَلَيْكَ قَالَ: وَمَا هُوَ? قَالَ: أَرَى أَنْ تخرجَ، ويخرج الناس

مَعَكَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ، وَقبرُهُ بخَرْتَنْك وَنستسقِي عِنْدَهُ فعسَى اللهُ أَنْ يَسْقِينَا قَالَ: فَقَالَ القَاضِي: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ فَخَرَجَ القَاضِي، وَالنَّاسُ مَعَهُ وَاسْتسقَى القَاضِي بِالنَّاسِ، وَبَكَى النَّاسُ عِنْدَ القَبْرِ وَتشفَّعُوا بصَاحِبِهِ فَأَرسلَ اللهُ تَعَالَى السَّمَاءَ بِمَاءٍ عَظِيْمٍ غَزِيْرٍ أَقَامَ النَّاسُ مِنْ أَجلِهِ بِخَرْتَنْك سَبْعَةَ أَيَّامٍ، أَوْ نحوَهَا لاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ الوُصُوْلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ، مِنْ كَثْرَةِ المَطَرِ وَغزَارتِهِ وَبَيْنَ خرتنك، وَسَمَرْقَنْد نَحْوَ ثَلاَثَةَ أَمِيَالٍ.
وَقَالَ الخَطِيْبُ فِي تَارِيْخِهِ: أَخْبَرَنَا أبي بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ القَاضِي الحرشِيُّ بِنَيْسَأبيرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمَ بنَ أَحْمَدَ الفَقِيْهَ البَلْخِيَّ "ح"، قَالَ الخَطِيْبُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ اللهِ الصَّفَّارَ البَلْخِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ المُسْتَمْلِي يَرْوِي عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: سَمِعَ كِتَابَ "الصَّحِيْحِ" لِمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ تِسْعُوْنَ أَلفَ رَجُلٍ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِيْهِ غيري.
ذِكْرُ الصَّحَابَةِ الَّذِيْنَ أَخْرَجَ لَهُم البُخَارِيُّ، وَلَمْ يروِ عَنْهُم سِوَى وَاحِدٍ:
مِرْدَاسٌ الأَسْلَمِيُّ؛ عَنْهُ قَيْسُ بنُ أَبِي حَازِمٍ، حَزْنٌ المَخْزُوْمِيُّ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ أبي سَعِيْدٍ المُسَيَّبُ بنُ حَزْنٍ زَاهِرُ بنُ الأَسْوَدِ عَنْهُ ابْنُهُ مَجْزَأَةُ عَبْدُ اللهِ بنُ هِشَامِ بنِ زُهْرَةَ القُرَشِيُّ عَنْهُ حَفِيْدَهُ زُهْرَةُ بنُ مَعْبَدٍ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ عَنْهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ ثَعْلَبَةَ بنُ صُعَيْرٍ، رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ قَوْلَهُ سُنَيْنٌ أبي جَمِيْلَةَ السُّلَمِيُّ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ أبي سَعِيْدٍ بنُ المُعَلَّى، تَفَرَّدَ عَنْهُ حَفْصُ بنُ عَاصِمٍ سُوَيْدُ بنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ شَجَرِيٌّ تَفَرَّدَ بِالحَدِيْثِ عَنْهُ بُشَيْرُ بنُ يَسَارٍ خولَةُ بِنْتُ ثَامرٍ عنها النعمان ابن أَبِي عَيَّاشٍ فَجملتُهُم عَشْرَةٌ.
فصل:
"تَارِيْخُ" البُخَارِيِّ، يَشْتَمِلُ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِيْنَ أَلفاً، وَزيَادَةً وكتابه في "الضعفاء" دون السبعمائة نَفْسٍ وَمَنْ خَرَّجَ لَهُم فِي "صَحِيْحِهِ" دُوْنَ الأَلفينِ قَالَ ذَلِكَ أبي بَكْرٍ الحَازمِيُّ فـ"صحيحه" مختصر جدًا، وقد نقل الإِسْمَاعِيْلِيُّ عَمَّنْ حَكَى عَنِ البُخَارِيِّ قَالَ: لَمْ أَخرِّجْ فِي الكِتَابِ إلَّا صَحِيْحاً قَالَ: وَمَا تركتُ مِنَ الصَّحِيْحِ أَكْثَرُ.
لِبَعْضِهِم:
صَحِيْحُ البُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ ... لَمَا خُطَّ إلَّا بمَاءِ الذَّهَبْ
هُوَ الفَرْقُ بَيْنَ الهُدَى وَالعمَى ... هُوَ السَّدُّ بَيْنَ الفَتَى وَالعَطَبْ
أَسَانِيْدُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ ... أَمَامَ مُتُوْنٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ
بِهِ قَامَ مِيْزَانُ دِيْنِ الرَّسُوْلِ ... وَدَانَ بِهِ العُجْمُ بَعْدَ العَرَبْ
حِجَابٌ مِنَ النَّارِ لاَ شَكَّ فِيْهِ ... تَمَيَّزَ بَيْنَ الرِّضَى وَالغَضَبْ
وَسِتْرٌ رَقِيْقٌ إِلَى المُصْطَفَى ... وَنصٌّ مُبِيْنٌ لِكَشْفِ الرِّيَبْ
فَيَا عَالِماً أجمع العالمون ... على فضل رتبته في الريب
سَبَقْتَ الأَئِمَّةَ فِيْمَا جَمَعْتَ ... وَفُزْتَ عَلَى رَغْمِهِمْ بِالقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيْفَ مِنَ النَّاقِلِيْنَ ... وَمَنْ كَانَ مُتَّهَماً بِالكَذِبْ
وَأَبْرَزْتَ فِي حُسْنِ تَرْتِيْبِهِ ... وَتَبْوِيْبِهِ عَجَباً لِلْعَجَبْ
فَأَعطَاكَ مَولاَكَ مَا تَشْتَهِيْهِ ... وَأَجْزَلَ حظك فيما وهب

سير أعلام النبلاء: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن  قايمازالذهبي

 

مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة الْجعْفِيّ البُخَارِيّ صَاحب الْجَامِع الصَّحِيح والتاريخ وَغَيرهمَا رَحل فِي طلب الْعلم إِلَى أَكثر محدثي الْأَمْصَار سمع مكي بن إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي وعبدان بن عُثْمَان الْمروزِي وَأَبا عَاصِم الشَّيْبَانِيّ وَأَبا بكر الْحميدِي وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وإمامنا أَحْمد وَحدث عَن رجل عَنهُ
ورد إِلَى بَغْدَاد مَرَّات وروى عَنهُ من أَهلهَا إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَعبد الله بن مُحَمَّد بن نَاجِية وروى البُخَارِيّ حَدِيث أنس (فَكَانَ نقش خَاتمه ثَلَاثَة أسطر مُحَمَّد سطر وَرَسُول سطر وَالله سطر) قَالَ البُخَارِيّ وَزَادَنِي أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ حَدثنَا الْأنْصَارِيّ حَدثنَا أبي عَن تمامة عَن أنس قَالَ كَانَ خَاتم النَّبِي فِي يَده وَفِي يَد أبي بكر من بعده وَفِي يَد عمر بعد أبي بكر فَلَمَّا كَانَ عُثْمَان جلس ببئر أريس قَالَ فَأخْرج الْخَاتم يعبث فَسقط قَالَ فانتقلنا ثَلَاثَة أَيَّام مَعَ عُثْمَان فنزح الْبِئْر فَلم نجده وَقَالَ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَقَالَ لنا أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان حَدثنَا حبيب عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس حرم من النّسَب سبع وَمن الصهر سبع ثمَّ قَرَأَ (حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم) الْآيَة وَقَالَ البُخَارِيّ سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ والْحميدِي وَإِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده يحتجون بحَديثه فَمن النَّاس بعدهمْ وَقَالَ عبد الله بن أحْمد بن حَنْبَل سَمِعت أبي يَقُول مَا أخرجت خُرَاسَان مثل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ
وَنقل عَنهُ مُحَمَّد بن نصر أَنه قَالَ من زعم أَنِّي قلت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ كَذَّاب فَإِنِّي لم أَقَله وَقَالَ البُخَارِيّ قلت لأبي عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل أَنا رجل مبتلى قد ابْتليت أَن لَا أَقُول لَك وَلَكِن أَقُول فَإِن أنْكرت شَيْئا فردني عَنهُ الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره كَلَام الله لَيْسَ مِنْهُ شَيْء مَخْلُوق وَمن قَالَ إِنَّه مَخْلُوق أَو شَيْء مِنْهُ مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن لَفظه بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي كَافِر قَالَ توفّي لَيْلَة السبت لَيْلَة عيد الْفطر

 وَدفن يَوْم عيد الْفطر بعد صَلَاة الظّهْر غرَّة شَوَّال سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وعمره اثْنَان وَسِتُّونَ سنة إِلَّا ثَلَاثَة عشر يَوْمًا

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين.

 

 

ترجمة موجزة للإمام البخاري

(194 -256)

هو الإمام العلم الفرد، تاج الفقهاء، عمدة المحدثين، سيد الحفاظ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجُعْفِيُّ مولاهم البخاري.

كان والده أبو الحسن إسماعيل بن إبراهيم من العلماء الورعين، سمع مالك بن أنس.

روى عنه أحمد بن حفص، وقال: دخلت عليه عند موته، فقال: لا أعلم في جميع مالي درهماً من شُبهة.

قال أحمد بن حفص: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك.

ولد الإمام البخاري بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى، ونشأ يتيماً، وأضرّ في صغره.

قال محمد بن الفضل البلخي: كان محمد بن إسماعيل قد ذهب بصره في صباه، وكانت له والدة متعبّدة، فرأت إبراهيمَ خليل الرحمن عليه السلام في المنام، فقال لها: إن الله تبارك وتعالى قد ردَّ بصر ابنك عليه بكثرة دعائك. قال: فأصبحت وقد ردَّ الله عزّ وجلّ عليه بصره.

وأول سماعه سنة خمسٍ ومئتين، وحفظ تصانيف ابن المبارك، وحبِّبَ إليه العلم من الصغر وأعانه عليه ذكاؤه المفرط.

ورحل في آخر سنة عشرٍ ومئتين، بعد أن سمع الكثير ببلده.

قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري: قلتُ لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم كان سنك؟ فقال: عشر سنين أو أقل.

ثم خرجتُ من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلتُ أختلف إلى الداخِلِّي (قال الحافظ ابن حجر: الداخليُّ المذكور لم أقف على اسمه، ولم يذكر السمعاني ولا الرُّشاطيُّ هذه النسبة، وأظن أنها نسبة إلى المدينة الداخلة بنيسابور. (تغليق التعليق 5/387) وغيره، فقال يوماً فيما كان يقرأ على الناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ فقال له: ابن إحدى عشرة سنة. قال: فلما طعنت في ستِّ عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء (يعني أصحاب الرأي. (هدي الساري ص 478)، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلفت بها في طلب الحديث.

 فلما طعنت في ثماني عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك في أيام عبيد الله بن موسى وصنفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة، وقل اسم في (التاريخ) إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب.

وقال ورّاق البخاري سمعت البخاري يقول: كنت أختلف إلى الفقهاء بمَرْوَ وأنا صبي فإذا جئت استحيي أن أُسلِّم عليهم، فقال لي مؤدِّبٌ من أهلها: كم كتبت اليوم؟ قلت: اثنتين، وأردت بذلك حديثين، فضحك من حضر المجلس، فقال شيخ منهم: لا تضحكوا منه فلعله يضحك منكم يوماً. فكان كما قال الشيخ.

وقال أبو بكر الأعين: كتبنا عن محمد بن إسماعيل، على باب محمد بن يوسف الفِرْيابي وما في وجهه شعرة، فقلنا: ابن كم كنت؟ قال: ابن سبعَ عشرة سنة.

وقال أبو جعفر الورّاق: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: قال لي محمد بن سلام البيكَنْدِيُّ: انظر في كتبي، فما وجدت فيها من خطأ فاضرب عليه كي لا أرويه، قال ففعلت ذلك. وكان محمد بن سلام كتب عند الأحاديث التي أحكمها محمد بن إسماعيل: (رضي الفتى)، وفي الأحاديث الضعيفة: (لم يرض الفتى) . فقال له بعض أصحابه: من هذا الفتى؟ فقال: هو الذي ليس مثله! محمد بن إسماعيل.

قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي: وقد بلغنا أن البخاري فعل هذا بكتب البيكَنْدِيُّ، وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها، ولم يزل رحمه الله مجتهداً

كانت رحلة الإمام البخاري في طلب الحديث إلى معظم البلاد، وكتب بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر، وأخذ عن الحفّاظ النّقاد.

لقي مكيَّ بن إبراهيم بخراسان، وأبا عاصم بالبصرة، وعّبيد الله بن موسى بالكوفة، وأبا عبد الرحمن المقرئ بمكة، ومحمد بن يوسف الفريابي بالشام، وكتب عن خلقٍ حتى عن أقرانه كأبي محمد الدارِميّ، وأبي زُرعة وأبي حاتم الرّازِيَيْن، وأشباههم، حنى كتب عمّن هو دونه.

قال أبو حاتم سهل بن السري: قال محمد بن إسماعيل البخاري: لقيتُ أكثر من ألف شيخ من أهل الحجاز ومكة والمدينة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم قرناً بعد قرن، وذكر أنه رحل إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقام بالحجاز ستة أعوام، قال: ولا أُحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدّثي خراسان.

وقال ورّاق البخاري: سمعته يقول: دخلت بلخ فسألني أصحاب الحديث أن أملي عليهم لكل من لقيت حديثاً عنه فأمليت ألف حديث لألف شيخ ممن كتبت عنهم ثم قال كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث.

وقال البخاري مرة لورّاقه: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحَملِه الحديث إن كان الرجل فهماً فإن لم يكن سألته أن يخرج لي أصله ونسخته وأما الآخرون فلا يبالون ما يكتبون ولا كيف يكتبون.

وقال جعفر بن محمد القطّان إمام كَرْمِينيَة: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف شيخ وأكثر عن كلِّ واحد منهم عشْرة آلاف وأكثر ما عندي حديث إلا أذكر إسناده، وقال العباس الدوري يقول ما رأيت أحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل، كان لا يدع أصلاً ولا فرعاً إلا قَلَعه، ثم قال لنا: لا تدعوا من كلامه شيئاً إلا كتبتموه.

وقال التاج السبكي: وأكثَرَ الحاكم في (تاريخ نيسابور) في عدّ شيوخ البخاري وذكْر البلاد التي دخلها، ثم قال: وإنما سَمّيْت من كل ناحية جماعة من المتقدمين ليُستَدل بذلك على عالي إسناده(طبقات الشافعية الكبرى 2/ 214).

أخذ الحفّاظ عن الإمام البخاري، وسمعوا منه، وكتبوا عنه وما في وجهه شعرة.

روى عنه مسلم خارج الصحيح، والترمذي في جامعه، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، ومحمدُ بن عبد الله الحضرمي مُطَيَّن، وابنُ خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، وصالح بن محمد جزرة، وأبو بكر بن أبي الدنيا، ويحيى بن محمد بن صاعد، وأمم لا يحصون.

كان أهل المعرفة من البصريين يَعْدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه، وكان شاباً لم يخرج وجهُه.

وقال أبا معشر حمدويه بن الخطاب: لما قدم أبو عبد الله بن محمد بن إسماعيل من العراق قدمته الأخيرة، وتلقاه من تلقاه من الناس، وازدحموا عليه وبالغوا في بره، فقيل له في ذلك، وفيما كان من كرامة الناس وبرِّهم له، فقال: فكيف لو رأيتم يوم دخولنا البصرة؟!

وقال أبو علي صالح بن محمد جزرة: كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد، وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفاً.

وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركبانا على الخيل، سوى من ركب بغلاً أو حماراً وسوى الرّجّالة.

وقال سليم بن مجاهد: سمعت أبا الأزهر يقول: كان بسمرقند أربع مائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تَعَلّقوا منه بسّقْطة لا في الإسناد، ولا في المتن.

وقال محمد بن يوسف البخاري: كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلة، فأحصيت عليه أنه قام وأسرج يستذكرُ أشياء يُعَلِّقها في ليلةٍ: ثمان عشرة مرة.

وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: كان أبو عبد الله إذا كنتُ معه في سفر، يجمعنا بيتٌ واحدٌ إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلةٍ واحدةٍ خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كُلِّ ذلك يأخذ القداحة، فيُوري ناراً ويسرِج، ثم يُخرج أحاديث، فيعلّم عليها.

وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت هانئ بن النضر يقول: كنا عند محمد بن يوسف الفريابي بالشام وكنّا نَتَنَزَّه فِعْل الشباب في أكل الفِرصاد ونحوه، وكان محمد بن إسماعيل معنا، وكان لا يُزاحمنا في شيءٍ مما نحن فيه، ويُكِبُّ على العلم.

وقال ابن عدي: وكان ابن صاعد إذا ذكر محمد بن إسماعيل يقول: الكبش النطاح.

وقال الترمذي: لم أرَ أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.

وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت محمود بن النضر أبا سهل الشافعي يقول: دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها كلّها، فكلما جرى ذِكَرَ محمد بن إسماعيل فضلوه على أنفسهم.

وقال حاتم بن مالك الوراق : سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان.

وقال خلف بن محمد: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر الخفّاف يقول: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أرَ مثله.

وقال أبو أحمد الحاكم: كان البخاري أحد الأئمة في معرفة الحديث وجَمْعِه، ولو قلت إني لم أر تصنيفَ أحدٍ يشبه تصنيفه في المبالغة والحسن، لرجوت أن أكون صادقاً.

وقال الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة. قال الترمذي: استجيب له فيه.

وقال حاشد بن إسماعيل: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل.

وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.

وقال أبو عبد الله الحاكم: محمد بن إسماعيل البخاري إمام أهل الحديث.

وقال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ﷺ وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.

وقال الحاكم: سمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجّاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي.

وقال أحمد بن حمدون القصّار: سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى البخاري فقال: دعني أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيّد المحدّثين، وطبيب الحديث في عِلَلِه.

وقال إبراهيم الخواص: رأيت أبا زرعة كالصبي جالساً بين يدي محمد بن إسماعيل، يسألُه عن عِلَل الحديث.

وقال الإمام أبو العباس القرطبي: وهو العَلَم المشهور، والحامل لواء علم الحديث المنشور، صاحب التاريخ والصحيح، المرجوع إليه في علم التعديل والتجريح، أحد حفاظ الإسلام، ومن حفظ الله به حديث رسوله عليه الصلاة والسلام.

شهد له أئمة عصره بالإمامة في حفظ الحديث ونقله، وشهدت له تراجم كتابه بفهمه وفقهه.

وقال الإمام النووي: واعلم أن وصف البخاري رحمه الله بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران، متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان، ويكفي في فضله أن معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخه الأعلام المبرّزون، والحُذَّاق المتقنون.

وقال الحافظ الْمِزي: إمام هذا الشأن، والمُقتدى به فيه، والمعوّل على كتابه بين أهل الإسلام.

وقال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي: تخرّج به أهل الدّراية، وانتفع به أهل الرواية، وكان فرد زمانه، حافظاً للسانه، ورعاً في جميع شأنه، هذا مع علمه الغزير، وإتقانه الكثير، وشدة عنايته بالأخبار، وجودة حفظه للسنن والآثار، ومعرفته بالتاريخ وأيام الناس ونقدهم، مع حفظ أوقاته وساعاته، والعبادة الدائمة إلى مماته.

وقال أيضاً: ولقد كان كبير الشأن، جليل القدر، عديمَ النظر، لم يرَ أحدٌ شكله، ولم يُخلف بعده مثله.

وقال الحافظ ابن حجر: جبل الحفظ، وإمام الدنيا في فقه الحديث.

وقال الحافظ السخاوي: ومن تأمل اختياراته الفقهية في جامعه علم أنه كان مجتهداً موفقاَ مسدّداً، وإن كان كثير الموافقة للشافعي.

توفي الإمام البخاري ليلة السبت عند صلاة العشاء، ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر، يوم السبت مستهلّ شوال من شهور سنة ست وخمسين ومئتين، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشرة يوماً ولم يُعقب ذكراً، ودفن بخرْتنْك قريةٍ على فرسخين من سمرقند.

 

2 - سبب تصنيف الإمام البخاري ((الجامع الصحيح))

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

 أعلم علمني الله وإياك أن آثار النبي ﷺ لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:

 أحدهما: إنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.

 وثانيهما: لسَعة حفظهم وسيلان أذهانهم ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة.

 ثم حدَث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الاقدار.

 فأول من جمع ذلك: الربيع بن صَبِيح، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام فصنف الإمام مالك ((الموطأ)) وتوخّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.

 وصنّف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عَمْرو عبد الرحمن بن عمْرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة.

 ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا، وصنف مُسَدَّد بن مُسرْهَد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنداً.

 ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم فقل إمام من الحفاظ الا وصنف حديثه على المسانيد كالامام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة.

 فلما رأى البخاري رضي الله عنه هذه التصانيف ورواها وانتشق رَيَّاها واستجلى محياها، وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لِغَثِّه سمين فحَرَّك همَّته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، وقوَّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، وذلك فيما رواه إبراهيم بن معقل النسفي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يقول: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع (الجامع الصحيح).

 ورُوِّينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال: سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة اذب بها عنه، فسألت بعض المعبّرين، فقال لي أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج (الجامع الصحيح).

 وقال أبو الهيثم الكُشْمِيهَني: سمعت الفربري يقول: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتاب (الصحيح) حديثًا الا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.

 وروي عنه أنه قال: صنّفت كناب الصحيح لست عشْرة سنة، خرّجته من ست مئة ألف حديث، وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله تعالى.

وفي رواية أخرجت هذا الكتاب - يعني (الصحيح) – من زهاء ست مئة ألف حديث.

 وروى الاسماعيلي عنه قال لم أخرج في هذا الكتاب الا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر. قال الاسماعيلي: لأنه لو أخرج كل صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ولذكر طريق كل واحد منهم إذا صحت فيصير كتابا كبيرًا جدًا.

وقال إبراهيم بن مَعْقِل النسفي: يقول سمعت البخاري يقول ما أدخلت في كتابي (الجامع) الا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول الكتاب. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

وقال عُمر بن مُحمد بن بُجير البُجيري: سمعت محمد بن إسماعيل يقول صنفت كتابي (الجامع) في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى وصلِّيت ركعتين، وتيقنتُ صحته.

قال الحافظ ابن حجر: (الجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه كان يصنفه في البلاد أنه ابتدأ تصنيفه وترتيبه وأبوابه في المسجد الحرام ثم كان يُخرج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها ويدل عليه قوله إنه أقام فيه ست عشرة سنة فإنه لم يجاور بمكة هذه المدة كلها.

 وقد روى بن عدي عن جماعة من المشايخ أن البخاري حول تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين.

 قلت: ولا ينافي هذا أيضا ما تقدم، لأنه يحمل على أنه في الأول كتبه في المسودة، وهنا حوله من المسودة إلى المبيضة.

وقال الفَرَبْرِي: سمعت محمد بن حاتم ورّاق البخاري يقول: رأيت البخاري في المنام خلف النبي ﷺ والنبي ﷺ يمشي، فكلما رفع النبي ﷺ قدمه وضع أبو عبد الله قدمه في ذلك الموضع.

وقال الفَرَبْرِي: سمعت النّجم بن فُضيل -وكان من أهل الفهم- يقول رأيت النبي ﷺ خرج من قرية والبخاري يمشي خلفه، فكان النبي ﷺ إذا خطا خطوة يخطو محمد ويضع قدمه على خطوة النبي ﷺ ويتبع أثره).

وقال أبو سهل محمد بن أحمد المروزي: سمعتُ أبا زيد المروزي الفقيه يقول: كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي ﷺ في المنام فقال لي: يا أبا زيد! إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟! فقلت يا رسول الله وما كتابك؟ قال: جامع محمد بن إسماعيل.

قال الحافظ ابن حجر: إسناد هذه الحكاية صحيحٌ، ورواتُها ثقاتٌ أئمة، وأبو زيد من كبار الشافعية له وجهٌ في المذهب وقد سمع (صحيح البخاري))من الفَرَبْرِي وحدّث به عنه، وهو أجلُّ من حدث به عن الفَرَبْرِي.

 

3- بيان شرط البخاري وموضوعه وعدد أحاديثه

قال الحافظ السيوطي رحمه الله:

(اعلم أنّ البخاريّ لم يوجد عنده تصريحٌ بشرطٍ معيّن، وإنما أُخِذ ذلك من تسميته للكتاب، والاستقراء من تصرُّفه.

فأمَا أولاً فإنه سماه: (الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه).

فعُلِم من قوله (الجامع): أنه لم يخص بصنف دون صنف ولهذا أورد فيه الأحكام والفضائل والإخبار عن الأمور الماضية والآتية، وغير ذلك من الآداب والرقائق.

ومن قوله (الصحيح): أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده، وإن كان فيه مواضع قد انتقدها غيره، فقد أجيب عنها، وقد صح عنه أنه قال: ما أدخلت في الجامع إلا ما صح.

ومن قوله (المسند): أن مقصوده الأصلي الأحاديث التي اتصل إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت من قوله أم فعله أم تقريره وأما ما وقع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع تبعا وعرضا لا أصلا مقصودا.

 وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه: فهو أنه يخرج الحديث الذي اتصل إسناده وكان كل من رواته عدلا موصوفا بالضبط فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير.

 وخلا عن أن يكون معلولا أي فيه علة خفية قادحة أو شاذا أي خالف رواته من هو أكثر عددا منه أو أشد ضبطا مخالفة تستلزم التنافي ويتعذر معه الجمع الذي لا يكون متعسفاً.

وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه وإن أخرج في حديث من لا يكون بهذه الصفة فإنما يخرج في المتابعات أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي فبمجموع ذلك، وصف الأئمة كتابه قديما وحديثا بأنه أصح الكتب المصنفة في الحديث.

وأكثر ما فضل كتاب مسلم عليه بأنه يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب ويسوقها تامة ولا يقطعها في التراجم ويفردها ولا يخلط معها شيئا من أقوال الصحابة ومن بعدهم.

وأما البخاري فإنه يفرقها في الأبواب اللائقة بها لكن ربما كان ذلك الحديث ظاهرا وربما كان خفيا فالخفي ربما حصل تناوله بالاقتضاء أو باللزوم أو بالتمسك بالعموم أو بالرمز إلى مخالفة مخالف أو بالإشارة إلى أن في بعض طرق ذلك الحديث ما يعطي المقصود).

وقال الإمام النّووي رحمه الله تعالى: (أعلم أن البخاري كانت له الغاية المرضية من التمكن في أنواع العلوم، وأما دقائق الحديث واستنباط اللطائف منه فلا يكاد أحدٌ يقاربه فيها، وإذا نظرت في كتابه جزمت بذلك بلا شك.

ثم ليس مقصوده بهذا الكتاب الاقتصار على الحديث وتكثير الُمُتون، بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها من الأصول والفروع والزهد والآداب والأمثال وغيرها من الفنون، ولهذا المعنى أخلى كثيراً من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر على قوله: فيه فلان الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيه حديث فلان ونحو ذلك ...

وإذا عرفت أن مقصوده ما ذكرناه، فلا حجر في إعادة الحديث كثيرة لائقة به ، وقد أطبق العلماء من الفقهاء وغيرهم على مثل هذا، فيحتجّون بالحديث الوارد  في أبوابٍ كثيرة مختلفة، روِّينا عن الحافظ أبي الفضل المقدسي قال: كان البخاري رحمه الله يذكر الحديث في مواضع يستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد بل يورده ثانياً من طريق صحابي آخر أو تابعي أو غيره ليقوى الحديث بكثرة طُرُقِهِ أو مختلف لفظه، أو تختلف الرواية في وصله ، أو زيادة راوٍ في الإسناد أو نقصه، أو يكون في الإسناد الأول مُدلّسٌ أو غيره لم يذكر لفظ السماع فيعيده بطريق فيه التصريح بالسماع، أو غير ذلك، والله أعلم).

وقال الإمام ابن الصلاح: جملة ما في كتابه الصحيح سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة.

قال العلامة الزركشي: هذا الذي جَزَمَ به من العدد المذكور صحيحٌ بالنسبة إلى رواية الفَرَبْرِي. وأمّا رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمئتي حديث ودون هذه بمئة حديث رواية إبراهيم بن معقل. نقل ذلك من خطّ الشيخ أبي محمد عبد الملك بن الحسن بن عبد الله الصقلي.

وقال الإمام النّووي: جملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث المسندة سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة، وبحذف المكررة نحو أربعة آلاف.

وقد رأيت أن أذكرها مفصلة لتكون كالفهرست لأبواب الكتاب، ويسهل معرفة مظانّ أحاديثه على الطلاب.

ثم أورد عدّها بالإسناد الصحيح عن الحمُّوي، وقال:

وقد روِّينا عن الحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي بإسناده عن الحمُّوي أيضاً هكذا. وهذا فصلٌ نفيس يغتبط به أهلُ العناية، والله أعلم.

وقال الحافظ الذهبي في ترجمة (عبد الله بن أحمد بن حَمُّويه الحَمُّوي):

لهُ جُزءٌ مفردٌ، عدّ فيه أبواب الصحيح وما في كل باب من الأحاديث فأورد ذلك الشيخ محي الدين النَّوَاوِيُّ في أول شرحه لصحيح البخاري.

وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى باباً باباً محَرّراً ذلك، وقال: فجميع أحاديثه بالمكرّر سوى المعلّقات والمتابعات على ما حرَّرْتُه وأتقنتُه: سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثاً. فقد زاد على ما ذكروه مائة حديث واثنان قرة حديثاً. على أنني لا أدّعي العصمة ولا السلامة من السهو ولكن هذا جهد مَنْ لا جهدَ له والله الموفق.

 

4- مرتبة (الجامع الصحيح) ومكانته

قال الإمام النّووي رحمه الله تعالى:

واتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم. واتفق الجمهور على أن (صحيح البخاري) أصحهما صحيحًا، وأكثرهما فوائد...  

وقال الحافظ أبو على النيسابوري شيخ الحاكم أبو عبد الله: صحيح مسلم أصحُّ، ووافقه بعض علماء المغرب، وأنكر العلماء ذلك عليهم، والصواب ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم).

وقد قرر الإمام الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه (المدخل) ترجيح (صحيح البخاري) على (صحيح مسلم)، وذكر دلائله.

وقال النسائي: ما في هذه الكتب أجود من كتاب البخاري.

قلت: ومن أخص ما يرجّح به اتفاق العلماء أنَّ البخاريَّ أجلُّ من مسلمٍ وأصدق بمعرفة الحديث ودقائقه، وقد انتخب علمه ولخّص ما ارتضاه في هذا الكتاب(.

وقال الحافظ ابن حجر: (لم يُصَرِّح أبو عليّ بأنّ كتاب مسلم أصحّ من كتاب البخاري، بل المنقول عنده ما قدمناه بلفظه .... ثم ظهر لي مرادُ أبي عليّ، وهو أنّ مسلماً لما صنّف كتابه صنَّفَه ببلده من كُتُبه فألفاظ المتون التي عنده محررة. والبخاري صنَّفه في بلادٍ كثيرةٍ في سنين عديدة، وكتب منه كثيراً من حفظه، فوقع في بعض المتون رواية بالمعنى (؟!) واختصارٌ وحذفٌ، فلذا قال أبو علي ما قال.

 مع أن قوله معارضٌ يقول الحاكم أبي أحمد الكرابيسي أستاذ الحاكم أيضاً، فإنه قال: رحم الله محمد بن إسماعيل الإمام، فإنه الذي ألَّف الأصول، وبيَّنَ للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم بن الحجَّاج، فرَّقَ أكثر كتابِه في كتابه، وتجلَّد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إليه. ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه إلى نفسه، كأبي زرعة وأبي حاتم، فإن عَانَد الحق مُعاندٌ فيما ذكرت فليس يخفى صورة ذلك على ذوي الألباب.

وقد قال الإمام الحافظ الناقد الذي لم تُخرج بغدادُ مثله أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء، هذا مع اعتراف مسلم للبخاري بالفضل والتقدُّم في الفن ومسألته إياه عن العلل ورجوعه إليه فيها، ومعاداته لمحمد بن يحيى الذهلي شيخ بلده لأجله).

وقال أيضاً رحمه الله تعالى: (واقتضى كلام ابنِ الصلاح أن العلماء متفقون على القول بأفضلية البخاري في الصحة على كتاب مسلم الا ما حكاه عن أبي على النيسابوري من قوله المتقدِّم، وعن بعض شيوخ المغاربة أن كتابَ مسلمٍ أفضلُ من كتاب البخاري من غير تعرُّضٍ للصحة، فنقول: رُوِّينا بالإسناد الصحيح عن أبي عبد الرحمن النَّسائي، وهو شيخُ أبي علي النيسابوري، أنه قال: ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل. والنسائيُّ لا يعني بالجودة الا جودة الأسانيد كما هو المتبادرُ إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث.

ومِثْلُ هذا من مِثْل النسائي غاية في الوصف مع شدّة تحرِّيه وتوقِّيه وتثبُّته في نَقْد الرجال وتقدُّمِه في ذلك على أهل عصره حتى قدَّمه قومٌ من الحُذَّاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدَّمه الدارقطنيُّ في ذلك وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خُزيمة صاحب (الصحيح).

وقال الدارقطنيُّ لما ُذكِر عنده (الصحيحان): لولا البخاريُّ لما ذَهَبَ مسلمٌ ولا جاء. وقال مرةً أخرى: وأيُّ شيءٍ صنع مسلمٌ؟! إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجاً وزاد فيه زيادات.

 وهذا الذي حكيناه عن الدارقطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه (المفهم في شرح صحيح مسلم).

والكلام في نقل كلام الأئمة في تفضيله كثيرٌ، ويكفي منه اتفاقهم على أنه كان أعلم بهذا الفن من مسلم، وأن مسلماً كان يشهد له بالتقدُّم في ذلك والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره حتى هَجَر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذُّهلي في قصة مشهورة. فهذا من حيث الجملة، وأمَّا من حيث التفصيلُ فقد قررنا أن مدارّ الحديثِ الصحيحِ على الاتصالِ وإتقانِ الرجال وعدمِ العلَل، وعند التأمُّل يظهرُ أنَّ كتاب البخاريِّ أتقنُ رجالاً، وأشدُّ اتصالاً.

وإذا تقرَّرَ ذلك فليُقابَل هذا التفضيل بحهةٍ أخرى من وجوه التفضيل غير ما يرجع إلى نفس الصحيح وهي ما ذكره الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري، قال: قال لي من لقيتُه من العارفين عمَّن لقِيَ من السادة المُقَرِّ لهم بالفضل: إن صحيح البخاري ما قُرِئ في شدَّةِ إلا فُرّجت، ولا رُكِب به في مَركَبٍ فغرق. قال: وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه رحمه الله تعالى.

وكذلك الجهة العظمى الموجبة لتقديمه، وهي ما ضمَّنَه أبوابَه من التراجم التي حيّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه الرتبة وفازت بهذه الحظوة لسبب عظيم أوجب عظمها، وهو ما رواه أبو أحمد بن عَدِيّ عن عبد القدُّوس بن همَّام قال سمعتُ عدَّةً من المشايخ يقولون: حوَّل البخاريُّ تراجم جامعه –يعني بيّضها- بين قبر النبي ﷺ ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين).

وقال الإمام أبو العباس القرطبي: (وأما انعقاد الإجماع على تسميتهما بالصحيحين فلا شكّ فيه، بل قد صار ذكر الصحيح عَلَماً لهما، وإن كان غيرهما بعدهما قد جمع الصحيح واشترط الصحة كأبي بكر الإسماعيلي الجرجاني، وأبي الشيخ ابن حيّان الأصبهاني، وأبي بكر البَرْقاني، والحاكم أبي عبد الله، وأبي ذرٍّ الهروي، وغيرهم، لكن الإمامان أحرزا قصب السباق، ولقب كتابهما بالصحيحين بالاتفاق.

قال أبو عبد الله الحاكم: أهل الحجاز والعراق والشام يشهدون لأهل خُراسان بالتقدٌّم في معرفة الحديث لسبق الإمامين البخاري ومسلم إليه وتفردهما بهذا النوع.

وقال التاج السبكي: وأما كتابه (الجامع الصحيح) فأجلُّ كُتُب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله، ولا عِبْرة بمن يرجِّح عليه (صحيح مسلم) فإن مقالته هذه شاذة لا يعوّل عليها.

وقال الحافظ الْمِزّي: وأما السنة، فإن الله تعالى وفّق لها حُفّاظاً عارفين، وجهابذةً عالمين، وصيارفةً ناقدين، ينفون عنها تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، فَتَنوَّعوا في تصنيفها، وتفنَّنُوا في تدوِينِها على أنحاءٍ كثيرة وضروب عديدة، حِرصاً على حفظها، وخوفاً من إضاعتها.

وكان من أحسنها تصنيفاً، وأجودها تأليفاً، وأكثرها صواباً، وأقلها خطأ، وأعمها نفعا، وأعودها فائدة، وأعظمها بركة، وأيسرها مؤونة، وأحسنها قبولاً عند الموافق والمخالف وأجلِّها موقعاً عند الخاصّة والعامة: صحيح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري....

وقال الحافظ ابن حجر: كتاب ( الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور سيدنا رسول الله ﷺ وسُنَنِه وأيامه ) تأليف الإمام الأوحد، عُمدة الحُفَّاظ تاج الفقهاء أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري رحمه الله, وشَكَرَ سَعيَه, قد اختص بالمرتبة العليا, ووُصِف بأنه لا يوجد كتاب بعد كتاب الله مُصَنَّفٌ أصحّ منه في الدنيا, وذلك لما اشتمل عليه من جمعِ الأصحِّ والصحيحِ, وما قُرِنَ بأبوابه من الفقه النافع, الشاهد لمؤلفه بالترجيح, إلى ما تَمَيَّز به مؤلفه عن غيره بإتقان معرفة التعديل والتجريح.

وقال القاسم بن يوسف التُّجيبـي: وهذا الجامع الصحيح أحد كتب الإسلام المعتمدة، وهو أصحها وأكثرها فوائد وأعظمها نفعًا، وأشهرها بركة، فقد صح وثبت أنه إذ قرئ لشدة رجاء تفريجها يفرجها الله عز وجل، ورأيت أهل العلم والخير يقصدون ذلك بقراءته عند الشدائد شرقًا وغربًا.

وقال الحافظ الذهبي: وأما "الصحيح" فهو أعلى ما وَقَعَ لنا من الكتب الستة في أول ما سمعت الحديث، وذلك في سنة اثنتين وتسعين وست مائة، فما ظنّك بِعُلُوِّه اليوم، وهو سنة خمس عشرة وسبع مائة! ولو رَحَل الرجل من مسيرة سنة لسماعه لما فَرَّط، كيف وقد دام عُلُوُّه إلى عام ثلاثين. وهو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي ﷺ في شيء كثير من الأحاديث، وذلك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لُقِيّاً للكبار، أخذ عن جماعةٍ يروي الأئمةُ الخمسة عن رجلٍ عنهم.

 

5 – أهم روايات (الجامع الصحيح)

قد أسلفنا أن الناس كتبوا عن البخاري على باب الفِرْيابي وهو أمرد، وكان محمد بن يوسف الفَرَبْرِي يقول: سمع كتاب (الصحيح) لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل، فما بقي أحدٌ يرويه غيري.

فأشرهم بالرواية عن محمد بن يوسف الفَرَبْرِي، وروايته للصحيح أتم الروايات، قال الحافظ ابن حجر: وليس هو آخر من يروي الصحيح عن البخاري ، كما أطلق ذلك بناء على ما في علمه ، فقد تأخر بعده بتسع سنين أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البَزْدَوِي وكانت وفاته سنة تسع وعشرون وثلاث مئة ، ذكر ذلك من كونه روى (الجامع الصحيح) عن البخاري : أبو نصر بن ماكولا وابنُ نقطة وغيرهما.

ومن رواة (الجامع) أيضاً: إبراهيم بن معقل النَّسفي، وفَاتَهُ منه قطعةٌ من آخره، رواها بالإجازة. وكذلك حماد بن شاكر النَّسوي روى عنه الصحيح إلا أوراقا من آخره.

وأطلق جعفر المستغفري الحافظ أنه آخر من حدث عن البخاري وليس جيدا لأن الحسين بن إسماعيل المحاملي عاش بعده مدة ولكن لم يكن عنده عن البخاري (الجامع الصحيح)، وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد في آخر قدمةٍ قدمها البخاري، وقد غلط من روى الصحيح من طريق المحاملي المذكور غلطاً فاحشاً.

وقال التاج السبكي: وآخر من زعم أنه سمع منه موتاً: أبو ظهير عبد الله بن فارس البلخي، المتوفى سنة ست وأربعين وثلاثة مئة. وآخرُ من روى حديثه عالياً خطيبُ الموصل في (الدعاء) للمحاملي، بينه وبينه ثلاثة رجال.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فاتحه (فتح الباري) من الروَاة الذين رَوَوْا (الجامع الصحيح) عن الإمام  البخاري وسمعوه منه : أربعة، وهم:

1- أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفَرَبْرِي .

2- وأبو إسحق إبراهيم بن معقل بن الحجاج النَّسفي.

3- وأبو محمد حماد بن شاكر النَّسوي.

4- وأبو طلحة منصور بن محمد بن علي البَزْدَوِي.

 

من مقدمة صحيح البخاري للمحقق الدكتور الشيخ محمد زهير بن ناصر الناصر.

 

 

محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله:
حبر الإسلام، والحافظ لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، صاحب (الجامع الصحيح - ط) المعروف بصحيح البخاري، و (التاريخ - ط) أجزاء منه، و (الضعفاء - ط) في رجال الحديث، و (خلق أفعال العباد - ط) و (الأدب المفرد - ط) . ولد في بخارى، ونشأ يتيما، وقام برحلة طويلة (سنة 210) في طلب الحديث، فزار خراسان والعراق ومصر والشام، وسمع من نحو ألف شيخ، وجمع نحو ست مئة ألف حديث اختار منها في صحيحه ما وثق برواته. وهو أول من وضع في الإسلام كتابا على هذا النحو. وأقام في بخارى، فتعصب عليه جماعة ورموه بالتهم، فأخرج إلى خَرْتنْك (من قرى سمرقند) فمات فيها. وكتابه في الحديث أوثق الكتب الستة المعول عليها، وهي: صحيح البخاري (صاحب الترجمة) وصحيح مسلم (201 - 261 هـ وسنن أَبي داوُد (202 - 275 هـ وسنن الترمذي (209 - 279 هـ وسنن ابن مَاجَهْ (209 - 273 هـ وسنن النسائي (215 - 303 هـ ولشيخنا محمد جمال الدين القاسمي (حياة البخاري - ط) .

-الاعلام للزركلي-

أبو عبد اللَّه، محمدُ بنُ أبي الحسنِ، إسماعيل بنِ إبراهيم بنِ المغيرة بن الأحنفِ، الجعفيُّ بالولاء، البخاريُّ.
الحافظ الإمام في علم الحديث، صاحب "الجامع الصحيح"، و"التاريخ" (التاريخ المذكور قد طبع، وسمي: "التاريخ الكبير" في ثمانية أجزاء، وقامت بطبعه دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1379 هـ 1959 م).) ".

رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدِّثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال، ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.
حكى أبو عبد اللَّه الحميديُّ في كتاب "جذوة المقتبس"، والخطيبُ في "تاريخ بغداد": أن البخاريَّ لما قدم بغداد، سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا مُتونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسناد آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس: أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلسَ جماعةٌ من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها من البغداديين، فلما اطمئن المجلس بأهله، انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض؛ ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضد ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم.
ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن الآخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه.
فلما علم البخاري أنهم فرغوا، التفتَ إلى الأول منهم، فقال: أما حديثُك الأول، فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فردّ كلَّ متن إلى إسناده، وكلَّ إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين كذلك، ورد متونَ الأحاديث إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل، وكان ابنُ صاعد إذا ذكره، يقول: الكبش النطاح.
ونقل عنه محمدُ بن يوسف الفربريُّ أنه قال: ما وضعت في كتابي "الصحيح" حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك، وصليت ركعتين. وعنه أنه قال: صنفت كتابي "الصحيح" لستَّ عشرةَ سنة، خرَّجته من ست مئة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين اللَّه.
وقال الفربريُّ: سمع "صحيح البخاري" تسعون ألفَ رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري، وروى عنه أبو عيسى الترمذي.
وكانت ولادته يوم الجمعة، بعد الصلاة لثلاثَ عشرةَ ليلةً خلت من شوال سنة 194. وقال أبو يعلى الخليلي في كتاب "الإرشاد": إن ولادته كانت لاثنتي عشرة ليلة خلت من الشهر المذكور.
وتوفي ليلة السبت بعد صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة 256 بخرتنك - رحمه اللَّه تعالى -.
وكان خالد بن أحمد بن خالد الذهلي أميرُ خراسان قد أخرجه من بخارى إلى خرتنك، ثم حج خالد المذكور، فوصل إلى بغداد، فحبسه الموفق بن المتوكل أخو المعتمد الخليفة، فمات في حبسه.
وكان البخاري نحيفَ الجسم، لا بالطويل ولا بالقصير.
والبخاري: نسبة إلى بخارى، وهي من أعظم مدن ما وراء النهر، بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام.
وخرتنك: قرية من قرى سمرقند، ونسبته إلى سعيد بن جعفر الجعفي، والي خراسان، وكان له عليهم الولاء، فنسبوا إليه - رضي الله عنه -.

التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.