عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبد الله بن جنكي الحسني الجيلي أبي محمد محيي الدين

عبد القادر الجيلاني الكيلاني

تاريخ الولادة470 هـ
تاريخ الوفاة561 هـ
العمر91 سنة
مكان الولادةجيلان-المدائن - العراق
مكان الوفاةبغداد - العراق
أماكن الإقامة
  • بغداد - العراق

نبذة

عبد القادر الجيلاني 470 - 561 للهجرة عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، قطب العارفين. ولد سنة سبعين وأربعمائة، ومات سنة أحدى وتسعين وخمسمائة. وقد أفردت ترجمته في مجلدات. اعتنى بها الشيخ نور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن حريز بن معضاد، الشافعي اللخمي.

الترجمة

عبد القادر الجيلاني 470 - 561 للهجرة

عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، قطب العارفين. ولد سنة سبعين وأربعمائة، ومات سنة أحدى وتسعين وخمسمائة.

وقد أفردت ترجمته في مجلدات. اعتنى بها الشيخ نور الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن حريز بن معضاد، الشافعي اللخمي.

طبقات الأولياء - لابن الملقن سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري.

 

 

 

 

 

سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني (رحمه الله تعالى)

المولد   470 هـ جيلان ، الدولة العباسية.

الوفاة    10 ربيع الثاني 561 هـ

العقيدة  أهل السنة

المذهب حنبلي

وإليه تنتسب الطريقة القادرية

تأثر بـ  أبو حامد الغزالي أبو سعيد المخرمي

تأثر به  صلاح الدين الأيوبي، شهاب الدين عمر السهروردي، معين الدين الجشتي

عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ - 561 هـ)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبدالله، يعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب"سلطان الأولياء"، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه بـ "باز الله الاشهب" و "تاج العارفين" و"محيي الدين" و"قطب بغداد". وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.

 

مولده ونشأته

ولد في 11 ربيع الثاني وهو الاشهر سنة 470 هـ الموافق 1077م، وهناك خلاف في محل ولادته حيث توجد روايات متعددة ،أهمها القول بولادته في جيلان في شمال إيران حالياً على ضفاف بحر قزوين، والقول أنه ولد في جيلان العراق وهي قرية تاريخية قرب المدائن 40 كيلو متر جنوب بغداد، وهو ما أثبتته الدراسات التاريخية الأكاديمية وتعتمده الاسرة الكيلانية ببغداد، وقد نشأ عبد القادر في أسرة وصفتها المصادر بالصالحة، فقد كان والده أبو صالح موسى معروفا بالزهد وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الصالحة ولذا كان لقبه "محب الجهاد".

 

أسرته

هو: أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبدالله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

أنجب عبد القادر عدداً كبيراً من الأولاد، وقد عنى بتربيتهم وتهذيبهم على يديه واشتهر منهم عشرة:

عبد الوهّاب: وكان في طليعة أولاده، والذي درس بمدرسة والده في حياته نيابة عنه، وبعد والده وعظ وأفتى ودرس، وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف فصيحاً ذا دعابة وكياسة، ومروءة وسخاء، وقد جعله الإمام الناصر لدين الله على المظالم فكان يوصل حوائج الناس اليه، وقد توفي سنة 573 هـ ودفن في رباط والده في الحلبة.

عيسى: الذي وعظ وأفتى وصنف مصنفات منها كتاب "جواهر الأسرار ولطائف الأنوار" في علم الصوفية، قدم مصر وحدث فيها ووعظ وتخرج به من أهلها غير قليل من الفقهاء، وتوفي فيها سنة 573 هـ.

عبد العزيز: وكان عالماً متواضعاً، وعظ ودرّس، وخرج على يديه كثير من العلماء، وكان قد غزا الصليبين في عسقلان وزار مدينة القدس ورحل جبال الحيال وتوفي فيها سنة 602 هـ، وقبره في مدينة "عقرة" من أقضية لواء الموصل في العراق.

عبد الجبار: تفقه على والده وسمع منه وكان ذا كتابة حسنة، سلك سبيل الصوفية، ودفن برباط والده في الحلبة.

الشيخ عبد الرزاق: وكان حافظا متقنا حسن المعرفة بالحديث فقيها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ورعا منقطعاً في منزله عن الناس، لايخرج إلا في الجمعات، توفي سنة 603 هـ، ودفن بباب الحرب في بغداد.

إبراهيم: تفقه على والده وسمع منه ورحل إلى واسط في العراق، وتوفي بها سنة 592 هـ.

يحيى: وكان فقيها محدثا انتفع الناس به، ورحل إلى مصر ثم عاد إلى بغداد وتوفي فيها سنة 600 هـ، ودفن برباط والده في الحلبة.

موسى: تفقه على والده وسمع منه ورحل إلى دمشق وحدّث فيها واستوطنها، ثم رحل إلى مصر وعاد إلى دمشق وتوفي فيها وهو آخر من مات من أولاده.

صالح : وبه يكنى في أغلب البلدان وذكرته أغلب المصادر المتخصصة في سيرته وهو مدفون قرب والده في بغداد.

 

سفره إلى بغداد

كان عبد القادر الجيلاني قد نال قسطاً من علوم الشريعة في حداثة سنه على أيدي أفراد من أسرته، ولمتابعة طلبه للعلم رحل إلى بغداد ودخلها سنة 488 هـ الموافق 1095م وعمره ثمانية عشر عاماً في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله. وبعد أن استقر في بغداد انتسب إلى مدرسة الشيخ أبو سعيد المخرمي التي كانت تقع في حارة باب الأزج، في أقصى الشرق من جانب الرصافة، وتسمى الآن محلة باب الشيخ.

وكان العهد الذي قدم فيه الشيخ الجيلاني إلى بغداد تسوده الفوضى التي عمت كافة أنحاء الدولة العباسية، حيث كان الصليبيون يهاجمون ثغور الشام، وقد تمكنوا من الاستيلاء على أنطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلقا كثيرا من المسلمين ونهبوا أموالاً كثيرة. وكان السلطان التركي "بركياروق" قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره "ابن جهير" فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي "محمد بن ملكشاه" ودارت بين السلطانين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا، وكلما انتصر احدهما على الآخر كانت خطبة يوم الجمعة تعقد باسمه بعد اسم الخليفة.

وكانت فرقة الباطنية قد نشطت في مؤامراتها السرية واستطاعت أن تقضي على عدد كبير من أمراء المسلمين وقادتهم فجهز السلطان السلجوقي جيشاً كبيراً سار به إلى إيران فحاصر قلعة "أصفهان" التي كانت مقراً لفرقة الباطنية وبعد حصار شديد استسلم أهل القلعة فاستولى عليها السلطان وقتل من فيها من المتمردين، وكان "صدقة بن مزيد" من أمراء بني مزيد من قبيلة بني أسد قد خرج بجيش من العرب والأكراد يريد الاستيلاء على بغداد فتصدى له السلطان السلجوقي بجيش كبير من السلاجقة فتغلب عليه. وكان المجرمون وغيرهم من العاطلين والأشقياء ينتهزون فرصة انشغال السلاطين بالقتال فيعبثون بالأمن في المدن يقتلون الناس ويسلبون أموالهم فإذا عاد السلاطين من القتال انشغلوا بتأديب المجرمين.

وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر يطلب العلم في بغداد، وتفقه على مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ أبوسعيد المُخَرِمي، فبرع في المذهب والخلاف والأصول وقرأ الأدب وسمع الحديث على كبار المحدثين. وقد أمضى ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة أصولها وفروعها.

 

جلوسه للوعظ والتدريس

عقد الشيخ أبو سعيد المُخَرِمي لتلميذه عبد القادر مجالس الوعظ في مدرسته بباب الأزج في بداية 521 هـ، فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل أسبوع، بكرة الأحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء. واستطاع الشيخ عبد القادر بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم وأن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، حيث كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشد تأثراً بوعظه، فقد تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة الآف من اليهود والمسيحيين. وبحسب بعض المؤرخين، فإن الجيلاني ألتقى و تأثر ب الغزالي حتى أنه ألف كتابه "الغنية" على نمط كتاب "إحياء علوم الدين". وكان الشيخ عبد القادر يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائهم وطواقيهم تقليداً له وهم لايشعرون.

وبعد أن توفي أبو سعيد المبارك المخزومي فوضت مدرسته إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس فيها للتدريس والفتوى، وجعل طلاب العلم يقبلون على مدرسته إقبالا عظيما حتى ضاقت بهم فأضيف إليها من ما جاورها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها وبذل الأغنياء أموالهم في عمارتهم وعمل الفقراء فيها بأنفسهم حتى تم بناؤها سنة 528 هـ الموافق 1133م. وصارت منسوبة إليه.

وكان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علماً من علوم اللغة والشريعة، حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والحديث والمذهب والخلاف والأصول واللغة، وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وهناك روية تقول أنه أفتى على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان .

 

مؤلفاته

صنف عبد القادر الجيلاني مصنفات كثيرة في الأصول والفروع وفي أهل الأحوال والحقائق والتصوف، منها ما هو مطبوع ومنها مخطوط ومنها مصوّر، منها:

إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين.

أوراد الجيلاني.

آداب السلوك والتوصل إلى منازل السلوك.

تحفة المتقين وسبيل العارفين.

جلاء الخاطر في الباطن والظاهر.

حزب الرجاء والانتهاء.

الحزب الكبير.

دعاء البسملة.

الرسالة الغوثية: موجود منها نسخة في مكتبة الأوقاف ببغداد.

رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله.

الغُنية لطالبي طريق الحق: وهو من أشهر كتبه في الأخلاق والآداب الإسلامية وهو جزءان.

الفتح الرباني والفيض الرحماني: وهو من كتبه المشهورة وهو عبارة عن مجالس للشيوخ في الوعظ والإرشاد.

فتوح الغيب : وهو عبارة عن مقالات للشيخ في العقائدوالإرشاد ويتألف من 78 مقالة.

الفيوضات الربانية: وهكذا الكتاب ليس له ولكنة يحتوي الكثير من أوراده وأدعيته وأحزابه.

معراج لطيف المعاني.

يواقيت الحكم.

سر الأسرار في التصوف: وهو كتاب معروف وتوجد نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد وفي مكتبة جامعة إسطنبول.

الطريق إلى الله: كتاب عن الخلوة والبيعة والأسماء السبعة.

رسائل الشيخ عبد القادر: 15 رسالة مترجمةللفارسية يوجد نسخة في مكتبة جامعة إسطنبول.

المواهب الرحمانية: ذكره صاحب روضات الجنات.

حزب عبد القادر الجيلاني: مخطوط توجد نسخة منه في مكتبة الأوقاف ببغداد.

تنبيه الغبي إلى رؤية النبي: نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان بروما.

الرد على الرافضة: منسوب له وهو لمحمد بن وهب نسخة مخطوطة في المكتبة القادرية ببغداد.

وصايا الشيخ عبد القادر: موجود في مكتبة فيض الله مراد تحت رقم 251.

 

بهجة الأسرار ومعدن الأنوار في مناقب الباز الأشهب: مواعظ للشيخ جمعها نور الدين أبو الحسن علي بن يوسف اللخمي الشطنوفي.

تفسير الجيلاني: في مكتبة رشيد كرامي في طرابلس الشام ويقول عفيف الدين الجيلاني أنه مطبوع في تركيا.

الدلائل القادرية.

الحديقة المصطفوية: مطبوعة بالفارسية والأردية.

الحجة البيضاء.

عمدة الصالحين في ترجمة غنية الصالحين.

بشائر الخيرات.

ورد الشيخ عبد القادر الجيلاني.

كيمياء السعادة لمن أراد الحسنى وزيادة.

المختصر في علم الدين.

مجموعة خطب.

 

قال العلماء عنه

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية.

قال الإمام النووي : ما علمنا فيما بلغنا من التفات الناقلين وكرامات الأولياء أكثر مما وصل إلينا من كرامات القطب شيخ بغداد محيي الدين عبد القادر الجيلاني، كان شيخ السادة الشافعية والسادة الحنابلة ببغداد وانتهت إليه رياسة العلم في وقته, وتخرج بصحبته غير واحد من الأكابر وانتهى إليه أكثر أعيان مشايخ العراق وتتلمذ له خلق لا يحصون عدداً من أرباب المقامات الرفيعة, وانعقد علية إجماع المشايخ والعلماء بالتبجيل والإعظام, والرجوع إلى قولة والمصير إلى حكمه, وأُهرع إليه أهل السلوك - التصوف - من كل فج عميق. وكان جميل الصفات شريف الأخلاق كامل الأدب والمروءة كثير التواضع دائم البشر وافر العلم والعقل شديد الاقتفاء لكلام الشرع وأحكامه معظما لأهل العلم مُكرِّماً لأرباب الدين والسنة, مبغضاً لأهل البدع والأهواء محبا لمريدي الحق مع دوام المجاهد ولزوم المراقبة إلى الموت. وكان له كلام عال في علوم المعارف شديد الغضب إذا انتهكت محارم الله سبحانه وتعالى سخي الكف كريم النفس على أجمل طريقة. وبالجملة لم يكن في زمنه مثله.

قال الإمام العز بن عبد السلام : إنه لم تتواتر كرامات أحد من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر فإن كراماته نقلت بالتواتر.

قال الذهبي : الشيخ عبد القادر الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة، شيخ الإسلام، علم الأولياء، محيي الدين، أبو محمد، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكي دوست الجيلي الحنبلي، شيخ بغداد.

قال أبو أسعد عبد الكريم السمعاني: هو إمام الحنابلة وشيخهم في عصره فقيه صالح، كثير الذكر دائم الفكر, وهو شديد الخشية, مجاب الدعوة، أقرب الناس للحق، ولا يرد سائلا ولو بأحد ثوبيه.

قال الإمام ابن حجر العسقلاني الكناني : كان الشيخ عبد القادر متمسكاً بقوانين الشريعة, يدعو إليها وينفر عن مخالفتها ويشغل الناس فيها مع تمسكه بالعبادة والمجاهدة ومزج ذلك بمخالطة الشاغل عنها غالبا كالأزواج والأولاد، ومن كان هذا سبيله كان أكمل من غيره لأنها صفة صاحب الشريعة صلى الله علية وسلم.

قال ابن قدامة المقدسي: دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة فإذا الشيخ عبد القادر بها انتهت إليه بها علما وعملا وحالا واستفتاء, وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر. كان ملئ العين وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة, وما رأيت بعده مثله ولم أسمع عن أحد يحكي من الكرامات أكثر مما يحكى عنه, ولا رأيت احداً يعظمه الناس من أجل الدين أكثر منه.

قال ابن رجب الحنبلي : عبد القادر بن أبي صالح الجيلي ثم البغدادي, الزاهد شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ وسيد أهل الطريقة, محيي الدين ظهر للناس, وحصل له القبول التام, وانتصر أهل السنة الشريفة بظهوره, وانخذل أهل البدع والأهواء, واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته, وجاءته الفتاوى من سائر الأقطار, وهابه الخلفاء والوزراء والملوك فمن دونهم.

قال الحافظ ابن كثير : الشيخ عبد القادر الجيلي، كان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات.

قال الإمام اليافعي : قطب الأولياء الكرام، شيخ المسلين والإسلام ركن الشريعة وعلم الطريقة, شيخ الشيوخ, قدوة الأولياء العارفين الأكابر أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي قدس سره ونور ضريحه, تحلى بحلي العلوم الشرعية وتجمل بتيجان الفنون الدينية, وتزود بأحسن الآداب وأشرف الأخلاق, قام بنص الكتاب والسنة خطيبا على الأشهاد, ودعا الخلق إلى الله سبحانه وتعالى فأسرعوا إلى الانقياد, وأبرز جواهر التوحيد من بحار علوم تلاطمت أمواجها, وأبرأ النفوس من أسقامها وشفى الخواطر من أوهامها وكم رد إلى الله عاصياً, تتلمذ له خلق كثير من الفقهاء.

قال الإمام الشعراني : طريقته التوحيد وصفاً وحكما وحالا وتحقيقه الشرع ظاهرا وباطناً.

قال الإمام أحمد الرفاعي : الشيخ عبد القادر من يستطيع وصف مناقبه, ومن يبلغ مبلغة, ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه, وبحر الحقيقة عن يساره من أيهما شاء اقترف, لا ثاني له في وقتنا هذا.

قال الشيخ بقا بن بطو : كانت قوة الشيخ عبد القادر الجيلاني في طريقته إلى ربة كقوى جميع أهل الطريق شدة ولزوما وكانت طريقته التوحيد وصفا وحكما وحالاً.

قال ابن السمعاني عنه: إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح، ديِّن خيِّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة.

قال عنه محيي الدين ابن عربي: وبلغني أن عبد القادر الجيلي كان عدلاً قطب وقته.

 

وفاته

توفي الإمام الجيلاني ليلة السبت 10 ربيع الثاني سنة 561 هـ،جهزه وصلي عليه ولده عبد الوهّاب في جماعة من حضر من أولاده وأصحابه، ثم دفن في رواق مدرسته، ولم يفتح باب المدرسة حتى علا النهار وهرع الناس للصلاة على قبره وزيارته، وبلغ تسعين سنة من عمره. ذكر العلامة سالم الالوسي، ان الرئيس أحمد حسن البكر في بداية حكمه، طالب إيران باسترجاع رفات الخليفة هارون الرشيد، كونه رمز لبغداد في عصرها الذهبي، وذلك بدعوة وحث من المرحوم عبد الجبار حامد الجومرد وزير الخارجية العراقي السابق في عهد عبد الكريم قاسم، ولكن إيران امتنعت ،وبالمقابل طلبت استرجاع رفات الشيخ عبد القادر الكيلاني ،كونه من مواليد كيلان في إيران ،وعندها طلب الرئيس من العلامة مصطفى جواد ،بيان الامر ،فاجاب مصطفى جواد : ان المصادر التي تذكر ان الشيخ عبد القادر مواليد كيلان في إيران ،مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها بدون دراسة وتحقيق ،اما الاصوب فهو من مواليد قرية تسمى (جيل) قرب المدائن، ولاصحة كونه من إيران أو ان جده اسمه جيلان، وهو ما اكده العلامة حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي اقامه اتحاد المؤرخين العرب وكان الالوسي حاضرا أيضا سنة 1996، وفعلا اخبرت مملكة إيران بذلك ولكن بتدخل من دولة عربية اغلق الموضوع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

نسب الشيخ عبد القادر الجيلاني

هو شيخ الاسلام تاج العارفين و سيد الطوائف أبو محمد محيي الدين عبد القادر الجيلاني الحسني الصديقي بن أبي صالح موسى جنكى دوست بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن أبي محمد الحسن المثنى بن سيدنا الإمام الحسن السبط بن الإمام الهمام الغالب فخر بنى غالب أمير المؤمنين سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجههورضى الله عنهم أجمعين وهو صاحب الطريقة القادرية بشارتها الخضراء التى ترمز إلى حب آل البيت الطيبين الطاهرين.

وكان الامام عبد الله المحض، ولد بالمدينة المنورة ونشأ فيها بين أهل البيت وهم أهل العلم والفضل والتقوى،وبعد ان نبغ واشتهر التف حوله عدد كبير من الناس ينتهلون من علمه وفضله، فوشى به بعض اهل الفتنة لدى الخليفة العباسي (ابي جعفر المنصور) فاسقدمه مع اسرته الى بغداد سنة (144-ه) وحبسهم في سجن فيها وعذ بهم ومات بعضهم بالتعذ يب ، ومات الامام عبد الله المحض في الحبس ودفن في ضاحية من ضواحي بغداد الجنوبية. وقبره هنالك يزار وقد انتشئ عنده مسجد صغير يسمى مزار السيد عبدالله وهو يقع على الضفة الجنوبية من قناة اليوسفية وعلى بعد عشر كليومترات الى الغرب من قرية ( اليوسفية) الكائنة على مسافة (20) كيلو مترا الى الجنوب من (جسر الخر) حيث يمر فيها الطريق الموصل بين بغداد والحلة.

ولقد اقامت ذرية الامام عبد الله المحض في بغداد حتى زال الاضطهاد عن العلويين في عهد الخليفة العباسي (المأمون) حيث تفرق العلويون في الامصار ومنهم ذرية الامام عبد الله المحض ، فقد هاجر بعضهم الى الحجاز واليمن وقامت لهم امارات فيها وهم السليمانيون اولاد سليمان بن عبد الله المحض ، وهاجر بعضهم الى الغرب وقامت لهم فيه امارات لازالت قائمة وهم (الادارسة) ، اولاد ادريسى بن عبدالله المحض . وهاجر بعضهم الى بلاد فارس ومنهم من سكن جيلان وكانت لهم الامارة الروحية فيها وهم (الجونيون) اولاد موسى الجون بن عبد الله المحض.

سميت الاسرة العلوية التي نشأت في جيلان باسم اشراف جيلان ، وقد نشأ الشيخ عبد القادر رحمه الله في كنف هذه الاسرة الطيبة ، فكان هذا المنشأ الكريم قاعدة لشخصية هذا الشيخ الجليل .

 

مولده ونشأته

ولد العارف بالله تعالى الشيخ عبد القادر الجيلاني في نيف وهي قصبة من جيلان سنة 470ه-1077م تقرأ بالجيم العربية كما تقرأ بالكاف الفارسية فيقال لها جيلان أو كيلان ، وهي اسم لبلاد كثيرة من وراء طبرستان ، ليس فيها مدن كبيرة وانما هي قرى ومروج بين الجبال.

ولاتزال كيلان محتفظة باسمها القديم وهي ولاية ايرانية تقع في جبال البروز المتدة من الشرق الى الغرب موازية للساحل الجنوبي من بحر قزون.

وقد نشأ الشيخ عبد القادر في اسرة كريمة جمعت شرف التقوى ، فقد كان والده ابو صالح موسى على جانب كبير من الزهد وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالاعمال الصالحة ولذا كان لقبه بالفارسية جنكي دوست اي محب الجهاد.

وكانت للشيخ موسى اخت صالحة اسمها عائشة ، كان الناس يستسقون بها اذا حبس عنهم المطر ، وكان جده عبدالله بن يحى الزاهد من أهل الارشاد ، وينتهي نسب هذه الاسرة الى الامام عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم.

 

سفره الى بغداد

وكان الشيخ الجيلاني رحمه الله قد نال قسطاً من علوم الشريعة في حداثة سنه على ايدي افراد من اسرته،فنشأ مولفا في طلب العلم وصار يبحث عن منهل عذب ينتهل منه زيادة المعرفة،فلم يجد خيرا من بغداد ، التي كانت عامرة بالعلماء ومعاهد العلم،وكانت محط انظار المسلمين في مشارقهم ومغاربهم،وكان رحمه الله قد عقد العزم على المضي في طلب العلم رغم الصعوبات التي كانت تكلف الطلاب في ذلك العهد.

 

دخوله بغداد

وكان الشيخ عبد القادر قدس الله سره ، قد وصل بغداد سنة 488ه-1095م في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله ابو العباس أحمد بن المقتدي بأمرالله أبو القاسم عبد الله العباسي .

وبعد أن استقر الشيخ عبد القادر في بغداد انتسب الى مدرسة( الشيخ أبو سعيد الُمُخَِرمي) التي كانت تقع في حارة باب الازج، في اقص الشرق من جانب الرصافة، وتسمى الأن محلة باب الشيخ.وكان العهد الذي قدم فيه الشيخ الجيلاني الى بغداد تسوده الفوضى شملت كافة انحاء الدولة العباسية، حيث كان الصليبيون يهاجمون ثغور الشام،وقد تمكنوا من الاستيلاء على انطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلفا كيثرا من المسلمين ونهبوا اموال كثيرة.وكان السلطان التركي (بركياروق) قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره (ابن جهير) فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي (محمد بن ملكشاه) . ودارت بين السلطانين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا، وكلما انتصر احدهما على الآخر كانت خطبة يوم الجمعة تعقد باسمه بعد اسم الخليفة.

وكانت فرقة الباطنية التي الفه ( الحسن بن الصباح) قد نشطت في مؤامراتها السرية واستطاعت ان تقضي على عدد كبير من امراء المسلمين وقادتهم فجهز السلطان السلجوقي جيشا كبيرا سار به الى ايران فحاصر (قلعة اصفهان) التي كانت مقرا لفرقة الباطنية وبعد حصار شديد استسلم اهل القلعة فاستولى عليها السلطان وقتل من فيها من المتمردين ، وكان (صدقة بن مزيد) من امراء قبيلة بني اسد قد خرج بجيش من العرب والاكراد يريد الاستيلاء على بغداد فتصدى له السلطان السلجوقي بجيش كبير من السلاجقة فتغلب عليه .

وكان المجرمين وغيرهم من العاطلين والاشقياء ينتهزون فرصة انشغال السلاطين بالقتال فيعبثون بالامن في المدن يقتلون الناس ويسلبون اموالهم فاذا عاد السلاطين من القتال انشغلوا بتأديب المجرمين.

 

طلبه للعلم

وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر قدس الله سره يطلب العلم في بغداد،وتفقه على مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ ابوسعيد المُخَرِمي ، فبرع في المذهب والخلاف والاصول وقرأ الادب وسمع الحديث على ايدي كبار المحد ثين.

ولقد قاس الشيخ عبد القادر ماكان يقاسيه الغرباء من طلبة العلم في ذلك العهد المضطرب من شظف العيش.

وكان قدس الله سره قد امض من عمره النفيس ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة اصولها وفروعها ، وقد كايد خلال هذه الفترة الطويلة ضيق العيش ومرارة الحرمان، بيد ان العناية الالهية كانت قد منحته عقلا راجحا وصبرا جميلا وهمه عالية،فاستطاع بهذه السجايا ان يحتمل الشدائد ويذلل الصعاب،فلم تجزع نفسه من الشدة ولم تفتر عزيمته عن المثابرة في طلب العلم .

 

جلوسه للوعظ

وحينما انس الشيخ ابو سعيد المُخَرِمي من تلميذه عبد القادر غزارة العلم ووفرة الصلاح عقد له مجالس الوعظ في مدرسته بباب الازج في بداية (521-ه) فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل اسبوع،بكرة الاحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء.وحينما تصدى الشيخ عبد القادر للوعظ كانت الخلافة العباسية قد آلت الى المسرشد بن المستظهر، وكان شجاعاً بعيد الهمة،محباً للخير،اراد ان يظهر هيبة الخلافة فدعا الناس الى الجهاد وجمع جيشا كبيرا من المتطوعين أهل الفتوة وخرج بهم لمحاربة الامراء الاتراك الذين عاثوا في الارض فسادا،وكاد ان يخضع بشوكتهم لولا خيانة قائده السلجوقي (مسعود بن ملكشاه) الذي خرج عليه وهدد مؤخرته فأضطر الخليفة ان يعود بجيشه الى بغداد، بينما كان في الطريق اغتاله احد الباطنية فأفضت الخلافة الى ابنه الراشد، وزحف الامراء الاتراك بجيوشهم نحو بغداد.

فحاصروها واستولوا عليها بعد قتال شديد واجتمعوا على خلع الراشد وتولية الخلافة من بعده الى عمه (المقتفي) ونهب الاتراك دار الخلافة وتنازعوا على السلطة فدب الشقاق بينهم ونشب بينهم معارك طاحنة أضرت بالبلاد.

وكانت الاضطرابات التي اجتاحت ارجاء الدولة العباسية قد اسقطت هيبتها فكثر قطاع الطرق وانتشر السلب والنهب وتنافس الامراء على الملك، وكانت المؤمرات والدسائس تدبر في البلاط العباسي وفي قصور الامراء وفي سائر انحاء الدولة،وانتشرت الفرقة والبغضاء بين الناس وصاروا يتحيزون للامراء المتنازعين،وكلما انتصر أمير على أمير ساروا في ركاب المنتصر يمدحونه ويشتمون خصمه, وأستشرى بين الناس النفاق وضعف الوازع الديني في نفوسهم.

وظهر عدد من دعاة الخير يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر،وكان في طليعتهم الشيخ عبد القادر الذي استطاع بالموعظة الحسنة ان يرد كثيرا من الحكام الظالمين عن ظلمهم وان يرد كثيرا من الضالين عن ضلالتهم،حيث كان الوزراء والامراء والاعيان يحضرون مجالسه،فيشتد في موعظتهم حتى تنتبه افئدتهم وتستيقظ ضمائرهم،فيتوبوا الى الله تعالى ويقلعوا عن المظالم، وكانت عامة الناس اشد تأثراً بوعظه،فقد تاب على يديه اكثر من مائة الف من قطاع الطرق واهل الشقاوة،واسلم على يديه مايزيد على خمسة الآف من اليهود والنصارى.

وكان الشيخ عبد القادر رحمه الله قد حباه الله تعالى بشخصية فذة ونفوذ روحي فكان يسيطر على قلوب المستمعين الى وعظه ويستهوى نفوسهم في التذذ بحديثه،حتى انه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لايدري فألقى الحاضرون عمائهم وطواقيهم تقليداً له وهم لايشعرون.

 

تصديه للتدريس

وبعد ان توفي الشيخ ابي سعيد المبارك المخزومي فوضت مدرسته الى خليفته بالحق الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس فيها للتدريس والفتوى،وكانت شخصيته الفذة وحبه للتعليم وصبره على المتعلمين جعلت طلاب العلم يقبلون على مدرسته اقبالا عظيما حتى ضاقت بهم فاضيف اليها ما جاورها من المنازل والامكنة ما يزيد على مثلها وبذل الاغنياء أموالهم في عمارتهم وعمل الفقراء فيها بانفسهم حتى تم بناؤها سنة528 (ه)-1133(م). وصارت منسوبة اليه وتصدر بها للتدريس والفتوى والوعظ مع الاجتهاد في العلم والعمل.

 

وكان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علما من علوم اللغة والشريعة،حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والحديث والمذهب والخلاف والاصول واللغة، وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الامام الشافعي والامام أحمد رحمهم الله تعالى.

 

تضلعه في الكتاب والسنة

وكان الشيخ عبد القادر رحمه الله في طليعة الداعين الى التوسع في الفهم القران الكريم والاحاديث النبوية والتفهم على استنباط الدلائل المتعلقة بالعقائد والاحكام الفقهية منها ولذا كان على جانب كبير من المعرفة في علوم القران وعلوم الحديث حتى انه فاق علماء عصره في هذه العلوم الشريفة.

ومما يدل على سعة معرفة الشيخ بالكتاب الكريم.مااخبره به الشيخ يوسف بن الامام ابي الفرج الجوزي العلامة البغدادي الشهير فقال:-

قال لي الحافظ احمد البندلجي حضرة ووالدك رحمة الله تعالى يوما مجلس عبد القادر رحمه الله ، فقرأ القارئ آية،فذكر الشيخ في تفسيرها وجها فقلت لوالدك اتعلم هذا الوجه؟ قال نعم،ثم ذكر الشيخ وجها اخر،فقلت لوالدك اتعلم هذا الوجه؟قال نعم،فذكر الشيخ فيها احد عشر وجها،وانااقول لوالدك اتعلم هذا الوجه؟وهو يقول نعم.ثم ذكر الشيخ وجها آخر،فقلت لوالدك أتعلم هذا الوجه قال لا حتى ذكر فيها كمال اربعين وجها يعزو كل وجه الى قائله ووالدك يقول لااعرف هذا الوجه واشتد تعجبه من سعة علم الشيخ.

وكان الشيخ عبد القادر قدس الله سره لايروي في كتبه وخطبه غير الاحاديث الصحيحة وكان له باع طويل في نقد الحديث وكان يشرح الحديث في معناه اللغوي،ثم ينتقل الى شرح مغزاه ، ثم ينتقل الى استنباط المعاني الروحية منه، وهكذا كان قد جمع بين ظاهرية المحدثين وروحانية الصوفية.

وكان الشيخ عبد القادر قدس الله سرهلايشجع طلابه على دراسة الفلسفة او علم الكلام، لانه لا يرى انهما ليسا من العلوم الموصلة الى الله تعالى ، ثم انه يخشى ان ينصرف طلابه اليهما فيقعوا في مهاوي الاراء الفلسفية او الكلامية البعيدة عن العقيدة الشرعية.

قال الشيخ منصور بن المبارك الواسطي الواعظ دخلت وانا شاب على الشيخ عبد القادر قدس الله سرهومعي كتاب يشتمل على شيئ من الفلسفة وعلوم الروحانيات فقال لي من دون الجماعة وقبل ان ينظر الى كتاب او يسألني عنه ،يا منصور بئس الرفيق كتابك قم فاغسله وناولني بدله كتاب فضائل القرآن لمحمد بن العريس.

ولقد روى الشيخ تقي الدين بن تيمية عن الشيخ احمد الفاروقي انه سمع الشيخ شهاب الدين عمر السهرودي يقول:

كنت قد عزمت ان اقرأ شيأ من علم الكلام وانا متردد هل اقرأ كتاب الارشاد الامام الحرمين او نهاية الاقدام للشهرستاني او كتاب اخر،فذهبت مع خالي ابي النجيب وكان يصلي بجنب الشيخ عبد القادر،فالتفت الي الشيخ عبد القادر وقال ياعمر ماهو من زاد القبر.فعلمت انه يشير الى دراسة علم الكلام فرجعت عنه.

 

مؤلفات الشيخ عبد القادر الجيلاني

ان تأليف الشيخ عبد القادر الكيلاني في الغالب كتب مواعظ وارشاد والموجود منها في المكتبة القادرية

 

المطبوعات

الغنية لطالبي طريق الحق عز و جل.

فتوح الغيب: وهو يحتوي على ثمان وسبعين موعظة مختلفة جمعت من قبل ولده الشيخ عبد الرزاق وفيها بعض المعلومات التي استخلصها من أبيه الشيخ عبد القادر الجيلاني لما كان على فراش الموت، ومنها مايخص نسبه من أبيه.

الفتح الرباني: وهو يحتوي على اثنتين وستين موعظة ألفت خلال سنة 545ه وسنة 546ه -1150م وسنة 1152م.

سر الاسرار فيما يحتاج اليه الابرار- في التصوف.

الدلائل القادرية.

الحديقة المصطفوية-مطبوعة بالفارسية والاردية.

الحجة البيضاء.

الرسالة الغوثية.

عمدة الصالحين في ترجمة غنية الصالحين- بالتركية.

الفيوضات الربانية في المأثر والاوراد القادرية.

بشائر الخيرات.

 

المخطوطه

الغنية لطالبي طريق الحق عز و جل.

ورد الشيخ عبد القادر الجيلاني.

حزب الابتهال.

كيمياء السعادة لمن أراد الحسنى وزيادة.

جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر.

سر الاسرار فيما يحتاج اليه الابرار.

تنبيه الغبي في رؤية النبي-نسخة مصورة بالفوتوغراف من مخطوطات مكتبة الفاتيكان.

المختصر في علم الدين-نسخة مصورة بالفوتوغراف.

مجموعة خطب.

 

أما مؤلفاته الاخرى التي وردت في كشف الظنون وهدية العارفين ومعجم المؤلفين وايضاح المكنون وغيرها من المراجع الاخرى فهي :

تفسير القرآن بخط يده.

تحفة المتقين وسبيل العارفين.

الكبريت الاحمر في الصلاة على النبي .

مراتب الوجود.

مواقيت الحكم.

الطقوس اللاهوتية.

 

وفاته ومرقده

واستمر الشيخ عبد القادر قدس الله سرهمثابرا في دعوته الى الله تعالى وجهاده في سبيله،حتى وافاه الاجل المحتوم ليلة السبت العاشر من ربيع الاخر سنة (561ه)،فرغ من تجهيزه ليلا وصلي عليه ولده عبد الوهاب في جماعة من حضر من اولاده واصحابه، ثم دوفن في رواق مدرسته، ولم يفتح باب المدرسة حتى علا النهار واهرع الناس للصلاة على قبره وزيارته وكان يوما مشهودا، وبلغ تسعين سنة من عمره .

 

أولاده

كان الشيخ عبد القادر قدس الله سره قد انجب عددا كبيرا من الاولاد ، وقد عنى بتربيتهم وتهذيبهم،وتخرجوا على يديه في العلم وكان معظمهم من اكابر الفقهاء والمحدثين ، واشتهر منهم ثمانية، وكان في طليعتهم الشيخ عبد الوهاب الذي درس بمدرسة والده في حياته نيابة عنه ،وبعد والده وعظ وافتى وتخرج عليه جماعة من الفقهاء،وكان عالما كبيرا حسن الكلام في مسائل الخلاف له لسان فصيح في الوعظ وكان ظريفا لطيفا ذا دعابة وكياسة وكانت له مرؤة وسخاء وقد جعله الامام الناصر لدين الله على المظالم فكان يوصل حوائج الناس اليه،وقد توفي سنة (573ه) ودفن في رباط والده في الحلبة.

وكان منهم الشيخ عيس الذي وعظ وافتى وصنف مصنفات منها كتاب ((جواهر الاسرار ولطائف الانوار)) في علم الصوفية ، قدم مصر وحدث فيها ووعظ وتخرج به من اهلها غير قليل من الفقهاء ، وتوفي فيها سنة (573ه) ومنهم الشيخ عبد العزيز وكان عالما بهيا متواضعا وعظ ودرس وخرج على يديه كثير من العلماء وكان قد غزا الصلبين في عسقلان وزار القدس الشريف ورحل جبال الحيال وتوفي فيها سنة (602ه) وقبره في مدينة (عقره) من اقضية لواء الموصل في العراق.

ومنهم الشيخ عبد الجبار تفقه على والده وسمع منه وكان ذا كتابة حسنة سلك سبيل الصوفية ودفن برباط والده في الحلبة.

ومنهم الشيخ عبد الرزاق وكان حافظا متقنا حسن المعرفة بالحديث فقيها على مذهب الامام احمد بن حنبل ورعا متدنيا منقطعاً في منزله عن الناس،لايخرج الا في الجمعات مقتنعا باليسير منتفعا عما في أيدي الناس، وتوفي سنة (603ه). ودفن بباب الحرب في بغداد.

ومنهم الشيخ ابراهيم تفقه على والده وسمع منه ورحل الى واسط في العراق وتوفي بها سنة (592ه).

ومنهم الشيخ يحيى وكان فقيها محدثا انتفع الناس به،ورحل الى مصر ثم عاد الى بغداد وتوفي فيها سنة (600ه) ودفن برباط والده في الحلبة.

ومنهم الشيخ موسى تفقه على والده وسمع منه ورحل الى دمشق وحدث فيها واستوطنها وعمر بها على يديه غير واحد من الفقهاء، ثم انه رحل الى مصر وعاد الى دمشق وتوفي فيها وهو اخر من مات من اولاده .

 

المدرسة القادرية والمسجد الجامع

ولقد امتدت ايدي التخريب والتعمير الى مدرسة باب الازج ومسجدها مرارا عديدة خلال العصور المتعاقبة ، فقد نالها التخريب على ايدي المغول عند غزو بغداد من قبلهم في القرن السابع الهجري، وعمرت بعد ذلك على ايدي من اسلم من سلاطين المغول،ونالها التخريب مرة أخرى على ايدي الصفويين من شاهات ايران بعد استيلائهم على بغداد في القرنين العاشر والحادي العشر الهجريين وعمرت بعد ذلك على ايدي السلاطين العثمانين بعد استعادتهم لبغداد من ايدي الصفويين.

وقد بنيت المدرسة والمسجد مجددا واتخذا وضعهما الاخير في عهد السلطان مراد الرابع العثماني سنة (1048-ه) واطلق عليها اسم جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني.

 

المكتبة القادرية

مكتبة المدرسة القادرية العامة ، خزانة من خزائن كتب العهد العباسي في بغداد ، يرتقي تاريخها الى أوائل القرن السادس الهجري وأوائل القرن الثاني عشر الميلادي ، حيث انشئت لاول مرة ضمن مدرسة علمية على المذهب الحنبلي ، وكان قد وضع نواتها الاولى مؤسس المدرسة أبوسعيد المَخُرِمي وعرفت باسم (مدرسة المَخُرِمي) ثم زاد عليها أهل العلم من بعده ، منهم أبوالحسن علي بن عساكر بن المرحب بن العوام البطائحي الذي عاش مابين سنة 489وسنة 572ه ومابين سنة 1095و1176م.

وفعل مثله الشيخ أبو الحسن أيوب الحارثي المتوفي سنة 572ه-1176م.وهذه المدرسة هي أقدم مدارس الحنابلة ببغداد ، وأعظمها شأناً ، وأكثرها أوقافا ، وأطولها عمرا.

وبهذا يمكننا القول بأن أول من وضع نواة هذه المكتبة هو المبارك بن علي بن الحسن أبوسعيد المَخُرِمي ولد سنة 446ه-1054م ، سمع الحديث من أبي الحسين ابن المهتدي وافتى ودرس وجمع كتباً كثيرة لم يسبق ان جمع مثلها وناب في قضاء بغداد كان حسن السيرة ، جميل الطريقة شديد الأقضية ، بنى مدرسة بباب الأزج شرقي بغداد ثم عزل عن القضاء سنة 511ه-1117م وتوفي في 12 محرم سنة513ه-1119م وصلي عليه في عدة مواضع ودفن قبل صلاة الجمعة الى جانب أبي بكر الخلال قرب تربة الامام أحمد بن حنبل بباب حرب بالجانب الغربي من بغداد.

برغم اننا قلنا بأن وا ضع نواة المكتبة القادرية هو المبارك بن علي المخرمي-الا ان الشيخ عبد القادر قدس الله سرهليعتبر المؤسس الحقيقي لهذه المكتبة لهذه المكتبة لما كان له من أثر بالغ ي نفوس الناس واقبالهم على رفد هذه المكتبة بما لديهم من الكتب والمؤلفات والوقفيات في حياته وبعد وفاته.

 

مما أثر عنه قدس الله سره

كان يقول ياربى كيف أهدى إليك روحى وقد صح بالبرهان أن الكل لك...وكان يقرأ القرآن بالقراءات بعد الظهر...وكان يفتى على مذهب الإمام الشافعى والإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنهما...وكانت فتواه تعرض على العلماء بالعراق وتعجبهم أشد الاعجاب ويقولون سبحان من أنعم عليه، ورفع إليه سؤال فى رجل حلف بالطلاق أن يعبد الله عز وجل عباده ينفرد بها دون جميع الناس فى وقت تلبسه بها فماذا يفعل من العبادات...فأجابه على الفور بأن يأتى مكة ويخلى له المطاف ويطوف سبع وحده وينحل يمينه...فأعجب علماء العراق وكانوا قد عجزوا عن الجواب عنها.

وكان يقول لأصحابه اتبعوا ولا تبتدعوا وأطيعوا ولا تخالفوا واصبروا ولا تجزعوا واثبتوا ولا تتمزقوا وانتظروا ولا تيأسوا واجتمعوا على الذكر ولا تتفرقوا وتطهروا من الذنوب ولا تتلطخوا وعن باب مولاكم لا تبرحوا.توفى سنة 561 هـ ودفن ببغداد.

من حكمه ومواعظه :"إذا علم المريد الخطأ على الشيخ فلينبهه، فإن رجع عن خطئه فذاك الأمر، وإلا ترك قوله واتبع الشرع" ذكره في كتابه أدب المريد.وقال:يا غلام:اشتغل بنفسك ثم غيرك، لاتكن كالشمعة تحرق هي نفسها وتضيء لغيرها.

 

المصدر : من اعلام الاسلام سلطان العارفين الشيخ عبد القادر الكيلاني

تاليف : صلاح الدين عبد القادرمحمد فائز

مطبعة دار السلام بغداد

المصدر : منتدى الطريقة القادرية البودشيشية .

 

 

عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي:
مؤسس الطريقة القادرية. من كبار الزهاد والمتصوفين. ولد في جيلان (وراء طبرستان) وانتقل إلى بغداد شابا، سنة 488 هـ فاتصل بشيوخ العلم والتصوف، وبرع في أساليب الوعظ، وتفقه، وسمع الحديث، وقرأ الأدب، واشتهر. وكان يأكل من عمل يده. وتصدر للتدريس والإفتاء في بغداد سنة 528 هـ وتوفي بها.
له كتب، منها " الغنية لطالب طريق الحق - ط " و " الفتح الرباني - ط " و " فتوح الغيب - ط " و " بالفيوضات الربانية - ط " وللمسشرق مرجليوث الإنجليزي رسالة في ترجمته نشرها ملحقة بالمجلة الأسياوية الانكيزية. ولموسى بن محمد اليونيني كتاب " مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني - خ " ولعلي بن يوسف الشطنوفي " بهجة الأسرار - ط " في مناقبه، ولمحمد بن يحيى التاذفي " قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر - ط " وترجم عبد القادر بن محيي الدين الإربلي عن الفارسية " تفريج الخاطر في مناقب الشيخ عبد القادر - ط " .

-الاعلام للزركلي-

 

 

 

 

عبد الْقَادِر بن صَالح بن عبد الله بن جنكى دوست الجيلى الْبَغْدَادِيّ شيخ الْعَصْر وقدوة العارفين وسلطان الْمَشَايِخ

سيد أهل الطَّرِيقَة فِي وقته أبي مُحَمَّد محيى الدّين صَاحب المقامات والكرامات والعلوم والمعارف وَالْأَحْوَال الْمَشْهُورَة وَبَعض المؤرخين يرفع نسبه إِلَى عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ سمع بِبَغْدَاد من أبي غَالب ابْن الباقلاني وجعفر السراج وَغَيرهمَا وتفقه على القَاضِي أبي سعيد المخرمى وَأبي الْخطاب الكلوذاني وبرع فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف وَالْأُصُول وَقَرَأَ الْأَدَب على أبي زَكَرِيَّا التبريزي وَصَحب الشَّيْخ حَمَّاد الدباس الزَّاهِد ودرس بمدرسة شَيْخه المخرمي وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ وَدفن بهَا وَظهر للنَّاس وَجلسَ للوعظ بعد الْعشْرين وَخَمْسمِائة وَحصل لَهُ الْقبُول التَّام واعتقد النَّاس ديانته وصلاحه وانتفعوا بِكَلَامِهِ ووعظه وانتصر أهل السّنة بظهوره واشتهرت أَحْوَاله وأقواله وكراماته ومكاشفاته وهابه الْمُلُوك فَمن دونهم قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين لم أسمع عَن أحد يحْكى عَنهُ من الكرامات أَكثر مِمَّا يحْكى عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَلَا رَأَيْت أحدا يعظم فِي أصل الدّين أَكثر مِنْهُ وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام إِنَّه لم تتواتر كرامات أحد من الْمَشَايِخ إِلَّا الشَّيْخ عبد الْقَادِر فَإِن كراماته نقلت بالتواتر وَذكر الشَّيْخ نَاصح الدّين ابْن الْحَنْبَلِيّ أَنه حكى لَهُ الشَّيْخ ابْن غَرِيبَة أَن الْوَزير ابْن هُبَيْرَة قَالَ لَهُ الْخَلِيفَة يُرِيد المقتفى وَقد شكى من الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَقَالَ إِنَّه يستخف بِي ويذكرني وَله نَخْلَة فِي رباطه تَتَكَلَّم وَيَقُول يَا نَخْلَة لَا تتعدي أقطع رَأسك إِنَّمَا يُشِير إِلَيّ تمْضِي إِلَيْهِ وَتقول لَهُ فِي خلْوَة مَا يحسن بك أَن تتعرض للْإِمَام أصلا وَأَنت تعرف حُرْمَة الْخلَافَة قَالَ الشَّيْخ أبي الْحسن فَذَهَبت إِلَيْهِ فَوجدت عِنْده جمَاعَة فَجَلَست أنْتَظر خلْوَة مِنْهُ فَسَمعته يتحدث وَيَقُول فِي أثْنَاء كَلَامه نعم أقطع رَأسهَا فَعرفت أَن الْإِشَارَة إِلَيّ فَقُمْت وَذَهَبت فَقَالَ لي الْوَزير بلغت فَأَعَدْت عَلَيْهِ مَا جرى فَبكى الْوَزير وَقَالَ لَا نشك فِي صَلَاح الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَحكى أَن فتيا جَاءَت من الْعَجم إِلَى بَغْدَاد بعد أَن عرضت على عُلَمَاء العراقين فَلم يَتَّضِح لأحد فِيهَا جَوَاب شاف وَهِي أَن رجلا حلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَنه يعبد الله عبَادَة ينْفَرد بهَا دون جَمِيع النَّاس فِي وَقت تلبسه بهَا فَمَا يفعل من الْعِبَادَات فَلَمَّا رفعت إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر كتب عَلَيْهَا على الْفَوْر يَأْتِي مَكَّة ويخلى لَهُ المطاف وَيَطوف أسبوعا وَحده وتنحل يَمِينه والحكاية الشهيرة عَنهُ أَنه قَالَ قدمي هَذِه على رَقَبَة كل ولي لله وَأحسن مَا قيل فِيهَا مَا ذكره الشَّيْخ أبي حَفْص السهروردي فِي عوارفه أَنه من شطحات الشُّيُوخ الَّتِي لَا يَقْتَدِي بهم فِيهَا وَلَا تقدح فِي مقاماتهم ومنازلهم وكل وَاحِد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا الْمَعْصُوم توفّي لَيْلَة السبت ثامن ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَدفن من وقته فِي مدرسته وَقد بلغ تسعين سنة

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين.

 

 

 

 

الشَّيْخُ الإِمَامُ العَالِمُ الزَّاهِدُ العَارِفُ القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَلَمُ الأَوْلِيَاءِ، مُحْيِي الدِّينِ، أَبُو مُحَمَّدٍ، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله ابن جنكِي دَوَّسَتْ الجِيْلِيُّ الحَنْبَلِيُّ، شَيْخُ بَغْدَادَ.
مَوْلِدُهُ بِجيلاَنَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَقَدِمَ بَغْدَادَ شَابّاً، فَتفقَّهَ عَلَى أَبِي سَعْدٍ المخرمي.
وَسَمِعَ مِنْ: أَبِي غَالِبٍ البَاقِلاَّنِيِّ، وَأَحْمَدَ بنِ المُظَفَّرِ بنِ سُوسٍ، وَأَبِي القَاسِمِ بنِ بَيَانٍ، وَجَعْفَرِ بنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجِ، وَأَبِي سَعْدٍ بنِ خُشَيْشٍ، وَأَبِي طَالِبٍ اليُوْسُفِيِّ، وَطَائِفَةٍ.
حَدَّثَ عَنْهُ: السَّمْعَانِيُّ، وَعُمَرُ بنُ عَلِيٍّ القُرَشِيُّ، وَالحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ، وَالشَّيْخ مُوَفَّق الدِّيْنِ ابْن قُدَامَةَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُوْسَى وَلَدَاهُ، وَالشَّيْخُ عَلِيُّ بنُ إِدْرِيْسَ، وَأَحْمَدُ بنُ مُطِيْعٍ البَاجِسْرَائِيُّ، وَأَبُو هريرة، محمد ابن لَيْثٍ الوسْطَانِيُّ، وَأَكْمَلُ بنُ مَسْعُوْدٍ الهَاشِمِيُّ، وَأَبُو طَالِبٍ عَبْدُ اللَّطِيْفِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ القُبَّيْطِيِّ، وَخَلْقٌ، وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ الرَّشِيْدُ أَحْمَدُ بنُ مَسْلَمَةَ.
أَخْبَرَنَا القَاضِي تَاجُ الدِّين عَبْدُ الخَالِقِ بنُ عُلْوَانَ بِبَعْلَبَكَّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الله بن أَحْمَدَ الفَقِيْهُ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ، أَخْبَرَنَا شَيْخُ الإِسْلاَمِ عَبْدُ القَادِرِ بنُ أَبِي صَالِحٍ الجيلي، أخبرنا أحمد ابن المُظَفَّرِ التَّمَّارُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ بنُ شَاذَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ العَبَّاسِ بنِ نَجِيْحٍ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوْبُ بنُ يُوْسُفَ القَزْوِيْنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ سَعِيْدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدٍ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيْلَ اسْتخلفُوا خَلِيْفَةً عَلَيْهِم بَعْدَ مُوْسَى، فَقَامَ يُصَلِّي فِي القَمَرِ فَوْقَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَذَكَرَ أُمُوْراً كَانَ صَنَعَهَا، فَخَرَجَ، فَتَدَلَّى بِسَبَبٍ، فَأَصْبَحَ السَّبَبُ مُعلَّقاً فِي المَسْجَدِ، وَقَدْ ذَهَبَ، فَانْطَلقَ حَتَّى أَتَى قَوْماً عَلَى شطِّ البَحْرِ، فَوَجَدَهُم يَصنعُوْنَ لَبِناً، فَسَأَلَهُم: كَيْفَ تَأَخذُوْنَ هَذَا اللَّبِنَ? فَأَخبروهُ، فَلَبَّنَ مَعَهُم، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَملِ يَدِهِ، فَإِذَا كَانَ حِيْنَ الصَّلاَةِ، تَطهَّرَ فَصَلَّى، فَرَفَعَ ذَلِكَ العُمَّالُ إِلَى قَهْرَمَانِهِم، أنَّ فِيْنَا رَجُلاً يَفعلُ كَذَا وَكَذَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ إِنَّهُ جَاءهُ بِنَفْسِهِ يَسِيرُ عَلَى دَابَّتِهِ، فَلَمَّا رَآهُ فَرَّ، وَاتَّبعَهُ فَسَبَقَهُ، فَقَالَ: أَنظِرْنِي أُكلِّمْكَ. قَالَ: فَقَامَ حَتَّى كَلَّمَهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ مَلِكاً، وَأَنَّهُ فَرَّ مِنْ رَهِبَةِ اللهِ، قَالَ: إِنِّيْ لأَظُنُّ أَنِّي لاَحِقٌ بِكَ. فَلَحِقَهُ، فَعَبَدَا اللهَ حَتَّى مَاتَا برملَةِ مِصْرَ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لاَهتديتُ إِلَى قَبْرَيهِمَا مِنْ صفَةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي وَصفَ.
هَذَا حَدِيْثٌ غَرِيْبٌ عَالٍ.
قَالَ السَّمْعَانِيُّ: كَانَ عَبْدُ القَادِرِ مِنْ أَهْلِ جيلاَنَ إِمَامَ الحَنَابِلَةِ وَشيخَهُم فِي عصرِهِ، فَقِيْهٌ صَالِحٌ دَيِّنٌ خَيِّرٌ، كَثِيْرُ الذِّكْرِ، دَائِمُ الفِكْرِ، سرِيعُ الدَّمْعَةِ، تَفَقَّهَ عَلَى المُخَرِّمِيِّ، وَصَحِبَ الشَّيْخَ حَمَّاداً الدَّبَّاسَ، وَكَانَ يَسكنُ بِبَابِ الأَزَجِ فِي مَدْرَسَةٍ بُنِيَتْ لَهُ، مَضَيْنَا لزِيَارتِهِ، فَخَرَجَ وَقَعَدَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَخَتمُوا القُرْآنَ، فَأَلقَى دَرْساً مَا فَهِمْتُ مِنْهُ شَيْئاً، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ أَصْحَابَهُ قَامُوا وَأَعَادُوا الدَّرسَ، فَلعلَّهُم فَهِمُوا لإِلفهِم بكَلاَمِهِ وَعبَارَتِهِ.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: كَانَ أَبُو سَعْدٍ المُخَرِّمِيُّ قَدْ بَنى مَدْرَسَةً لطيفَةً بِبَابِ الأَزَجِ، فَفُوِّضَتْ إِلَى عَبْدِ القَادِرِ، فَتكلَّمَ عَلَى النَّاسِ بِلِسَانِ الوعظِ، وَظهرَ لَهُ صِيْتٌ بِالزُّهْدِ، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ وَصَمْتٌ، وَضَاقَتِ المَدْرَسَةُ بِالنَّاسِ، فَكَانَ يَجلسُ عِنْدَ سورِ بَغْدَادَ مُسْتَنِداً إِلَى الرِّباطِ، وَيَتوبُ عِنْدَهُ فِي المَجْلِسِ خَلْقٌ كَثِيْرٌ، فَعُمِّرَتِ المَدْرَسَةُ، وَوُسِّعَتْ، وَتعصَّبَ فِي ذَلِكَ العوَامُّ، وَأَقَامَ فيها يدرس ويعظ إلى أن توفي.
أَنبَأَنِي أَبُو بَكْرٍ بنُ طَرْخَانَ، أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّيْنِ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ قُدَامَةَ وَسُئِلَ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ فَقَالَ: أَدْرَكْنَاهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَأَسْكَنَنَا فِي مدرستِهِ، وَكَانَ يُعنَى بنا، وربما أَرْسَلَ إِلَيْنَا ابْنَهُ يَحْيَى، فَيُسْرِجَ لَنَا السِّرَاجَ، وَرُبَّمَا يُرْسِلُ إِلينَا طَعَاماً مِنْ مَنْزِلِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي الفرِيضَةَ بِنَا إِمَاماً، وَكُنْتُ أَقرَأُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِي مِنْ كِتَابِ الخِرَقِيِّ غُدْوَةً، وَيَقرَأُ عَلَيْهِ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ مِنْ كِتَابِ الهِدَايَةِ فِي الكِتَابِ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقرَأُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ سِوَانَا، فَأَقمنَا عِنْدَهُ شَهْراً وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ مَاتَ، وَصلَّيْنَا عَلَيْهِ ليلاً فِي مدرستِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ يُحْكَى عَنْهُ مِنَ الكَرَامَاتِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحَكَى عَنْهُ، وَلاَ رَأَيْتُ أَحَداً يُعَظِّمُهُ النَّاسُ لِلدِّينِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَسَمِعنَا عَلَيْهِ أَجزَاءَ يَسِيْرَةً.
قَرَأْتُ بِخَطِّ الحَافِظِ سَيْفِ الدِّينِ ابْنِ المَجْدِ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ مَحْمُوْدٍ المَرَاتِبِيَّ، سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا بَكْرٍ العمَادَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُوْلُ: كُنْتُ قَرَأْتُ فِي أُصُوْلِ الدِّينِ، فَأَوقع عِنْدِي شَكّاً، فَقُلْتُ: حَتَّى أَمضِي إِلَى مَجْلِسِ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى الخوَاطِرِ، فَمضَيْتُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: اعْتِقَادُنَا اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالصَّحَابَةِ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذَا قَالَهُ اتِّفَاقاً، فَتكلَّمَ ثُمَّ التَفَتَ إِلَى نَاحِيَتِي، فَأَعَادَهُ، فَقُلْتُ، الوَاعِظُ قَدْ يَلتَفِتُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ ثَالِثَةً، وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، فَأَعَادَ القَوْلَ: ثُمَّ قَالَ: قُمْ قَدْ جَاءَ أَبُوْكَ. وَكَانَ غَائِباً، فَقُمْتُ مُبَادراً، وَإِذَا أَبِي قَدْ جَاءَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ بنُ مُحَمَّدٍ الفَقِيْهُ، حَدَّثَنِي شَيْخُنَا جَمَالُ الدِّيْنِ يحيى ابن الصَّيْرَفِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا البقَاءِ النَّحْوِيَّ قَالَ: حضَرتُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَقَرَؤُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالأَلحَانِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: تُرَى لأَيِّ شَيْءٍ مَا يُنكِرُ الشَّيْخُ هَذَا? فَقَالَ: يَجِيْءُ وَاحِدٌ قَدْ قرَأَ أَبْوَاباً مِنَ الفِقْهِ يُنكِرُ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ أَنَّهُ قَصَدَ غَيْرِي، فَقَالَ: إِيَّاك نَعنِي بِالقَوْلِ، فَتُبْتُ فِي نَفْسِي مِنْ اعترَاضِي، فَقَالَ: قَدْ قَبِلَ اللهُ تَوبَتَكَ.
وَسَمِعْتُ الإِمَامَ أَبَا العَبَّاسِ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ الحَلِيْمِ، سَمِعْتُ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّيْنِ الفَارُوثِيَّ، سَمِعْتُ شَيْخَنَا شِهَابَ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيَّ يَقُوْلُ: عزمْتُ عَلَى الاشتغَالِ بِأُصُوْلِ الدِّينِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَسْتشيرُ الشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ، فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ أَنْطقَ: يَا عُمَرُ، مَا هُوَ مِنْ عُدَّةِ القَبْرِ، يَا عُمَرُ، مَا هُوَ مِنْ عُدَّةِ القَبْرِ.
قَالَ الفَقِيْهُ مُحَمَّدُ بنُ مَحْمُوْدٍ المَرَاتِبِيُّ: قُلْتُ لِلشَّيْخِ الموفَّقِ: هَلْ رَأَيتُم مِنَ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ كرَامَةً? قَالَ: لاَ أَظُنُّ، لكنْ كَانَ يَجلسُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَكُنَّا نَتْرُكُهُ وَنَمضِي لِسَمَاعِ الحَدِيْثِ عِنْدَ ابْنِ شَافعٍ فُكُلُّ مَا سَمِعْنَاهُ لَمْ نَنتفِعْ بِهِ. قَالَ الحَافِظُ السَّيْفُ: يَعْنِي لِنُزولِ ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخُنَا الحَافِظُ أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ عَبْدَ العَزِيْزِ بنَ عَبْدِ السَّلاَمِ الفَقِيْهَ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: مَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا كَرَامَاتُ أَحَدٍ بِالتَّوَاتُرِ إلَّا الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ، فَقِيْلَ لَهُ: هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ، فَكَيْفَ هَذَا ? فَقَالَ: لاَزِمُ المَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ.

قُلْتُ: يُشِيْرُ إِلَى إِثبَاتِهِ صِفَةَ العُلُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ مَعْلُوْمٌ، يَمشُوْنَ خَلْفَ مَا ثَبَتَ عَنْ إِمَامِهِم -رَحِمَهُ اللهُ- إلَّا مَنْ يَشِذُّ مِنْهُم، وَتَوَسَّعَ فِي العِبَارَةِ.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَارِيْخِهِ: دَخَلَ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِر بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، فَتفقَّهَ عَلَى ابْنِ عَقِيْلٍ، وَأَبِي الخَطَّابِ، وَالمُخَرِّمِيِّ، وَأَبِي الحُسَيْنِ بنِ الفَرَّاءِ، حَتَّى أحكم الأصول والفروع وَالخلاَفَ، وَسَمِعَ الحَدِيْثَ، وَقرَأَ الأَدبَ عَلَى أَبِي زَكَرِيَّا التِّبْرِيْزِيِّ، وَاشْتَغَلَ بِالوَعظِ إِلَى أَنْ برَّزَ فِيْهِ، ثُمَّ لاَزَمَ الخَلْوَةَ وَالرِّيَاضَةَ وَالمُجَاهِدَةَ وَالسِّيَاحَةَ وَالمقَامَ فِي الخرَابِ وَالصَّحرَاءِ، وَصَحِبَ الدَّبَّاسَ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَظَهْرَهُ لِلْخَلْقِ، وَأَوقَعَ لَهُ القبولَ العَظِيْمَ، فَعَقَدَ مَجْلِسَ الوعظِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ، وَأَظهرَ اللهُ الحِكْمَةَ عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ درس، وأفتى، وصار يقصد بالزيار وَالنُّذُورِ، وَصَنَّفَ فِي الأُصُوْلِ وَالفُرُوْعِ، وَلَهُ كَلاَمٌ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ عَالٍ. وَكَتَبَ إِلَيَّ عبد الله بن أبي الحسن الجبائي: قال لِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ: طَالَبَتْنِي نَفْسِي يَوْماً بِشَهْوَةٍ، فَكُنْتُ أُضَاجِرُهَا، وَأَدخُلُ فِي دَرْبٍ، وأَخرُجُ مِنْ آخرَ أَطلُبُ الصَّحرَاءَ، فَرَأَيْتُ رُقعَةً مُلْقَاةً، فَإِذَا فِيْهَا: مَا لِلأَقْوِيَاءِ وَالشَّهوَاتِ، وَإِنَّمَا خُلِقَتِ الشَّهوَاتُ لِلضُّعَفَاءِ. فَخَرَجَتِ الشَّهْوَةُ مِنْ قَلْبِي. قَالَ: وَكُنْتُ أَقتَاتُ بِخَرُّوبِ الشَّوْكِ وَوَرَقِ الخَسِّ مِنْ جَانِبِ النَّهْرِ.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللهِ بنِ نَصْرِ بنِ حَمْزَةَ التَّيْمِيِّ، سَمِعْتُ الشَّيْخَ عَبْدَ القَادِرِ يَقُوْلُ: بَلغَتْ بِي الضَّائِقَةُ فِي الغِلاَءِ إِلَى أَنْ بَقِيْتُ أَيَّاماً لاَ آكُلُ طَعَاماً، بَلْ أَتَّبَّعُ المَنبُوذَاتِ، فَخَرَجتُ يَوْماً إِلَى الشَّطِّ، فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي الفُقَرَاءُ، فَضَعُفْتُ، وَعَجَزْتُ عَنِ التَّمَاسُكِ، فَدَخَلتُ مَسْجِداً، وَقعدتُ، وَكِدْتُ أُصَافِحُ المَوْتَ، وَدَخَلَ شَابٌّ أَعْجَمِيٌّ وَمَعَهُ خُبْزٌ وَشِوَاءٌ، وَجَلَسَ يَأْكُلُ، فَكُنْتُ أَكَادُ كُلَّمَا رَفَعَ لُقْمَةً أَنْ أَفتحَ فَمِي، فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ: بِاسمِ اللهِ، فَأَبَيْتُ، فَأَقسمَ عَلَيَّ، فَأَكَلتُ مُقَصِّراً، وَأَخَذَ يَسْأَلُنِي، مَا شُغْلُكَ، وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ? فَقُلْتُ: متفقِّهٌ مِنْ جيلاَنَ. قَالَ: وَأَنَا مِنْ جيلاَنَ، فَهَلْ تَعرفُ لِي شَابّاً جَيلاَنِيّاً اسْمُهُ عَبْدُ القَادِر، يُعرَفُ بِسِبْطِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصَّوْمعِيِّ الزَّاهِدِ? فَقُلْتُ: أَنَا هو. فاضطرب لذلك، وتغير وَجهُهُ، وَقَالَ: وَاللهِ يَا أَخِي، لَقَدْ وَصلتُ إِلَى بَغْدَادَ وَمعِي بَقِيَّةُ نَفَقَةٍ لِي، فَسَأَلتُ عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نَفَقَتِي، وَبقيتُ بَعْدهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ أَجِدُ ثَمَنَ قُوتِي إلَّا مِنْ مَالِكَ، فَلَمَّا كَانَ هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أَيَّامٍ، وَحَلَّتْ لِي المَيْتَةُ، فَأَخَذتُ مِنْ وَدِيعَتِكَ ثمنَ هَذَا الخبزِ وَالشِّوَاءِ، فُكُلْ طَيِّباً، فَإِنَّمَا هُوَ لَكَ، وَأَنَا ضَيفُكَ الآنَ. فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ? قَالَ: أُمُّكَ وَجَّهَتْ مَعِي ثَمَانِيَةَ دَنَانِيْرَ، وَاللهِ مَا خُنْتُكَ فِيْهَا إِلَى اليَوْمِ، فَسَكَّنْتُهُ، وَطَيَّبْتُ نَفْسَهُ، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِ شَيْئاً مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: كَتَبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي الحَسَنِ الجُبَّائِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ: كُنْتُ فِي الصَّحرَاءِ أُكَرِّرُ فِي الفِقْهِ وَأَنَا فِي فَاقَةٍ، فَقَالَ لِي قَائِلٌ لَمْ أَرَ شَخْصَهُ: اقتَرِضْ مَا تَسْتعينُ بِهِ عَلَى طلبِ الفِقْهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَقترِضُ وَأَنَا فَقيرٌ وَلاَ وَفَاءَ لِي? قَالَ: اقترِضْ وَعَلَيْنَا الوَفَاءُ. فَأَتيتُ بَقَّالاً، فَقُلْتُ: تُعَامِلُنِي بِشَرْطٍ إِذَا سَهَّلَ اللهُ أَعْطيتُكَ، وَإِن مُتُّ تَجعَلْنِي فِي حِلٍّ، تُعطِيَنِي كُلَّ يَوْمٍ رَغِيْفاً وَرشَاداً. فَبَكَى، وَقَالَ: أَنَا بِحُكْمِكَ. فَأَخَذتُ مِنْهُ مُدَّةً، فَضَاقَ صَدْرِي، فَأَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ: فَقِيْلَ لِي: امضِ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، فَأَيَّ شَيْءٍ رَأَيْتَ عَلَى الدِّكَّةِ، فَخُذْهُ، وَادفعْهُ إِلَى البَقَّالِ. فَلَمَّا جِئْتُ رَأَيْتُ قطعَةَ ذَهَبٍ كَبِيْرَةً، فَأَعْطيتُهَا البَقْلِي.
وَلَحِقَنِي الجُنُوْنُ مرَّةً، وَحُمِلْتُ إِلَى المَارستَان، فَطَرَقَتْنِي الأَحْوَالُ حَتَّى حَسِبُوا أَنِّي مُتُّ، وَجَاؤُوا بِالكَفَنِ، وَجَعَلونِي عَلَى المُغْتَسَلِ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنِّي، وَقُمْتُ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنْ أَخرجَ مِنْ بغداد لكثرة الفتن، فَخَرَجتُ إِلَى بَابِ الحَلَبَةِ، فَقَالَ لِي قَائِلٌ: إِلَى أَيْنَ تَمْشِي?! وَدَفَعَنِي دفعَةً خَرَرْتُ مِنْهَا، وَقَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِيكَ مَنْفعَةً. قُلْتُ: أُرِيْدُ سَلاَمَةَ دِينِي. قَالَ: لَكَ ذَاكَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ طَرَقَتْنِي الأَحْوَالُ، فَكُنْتُ أَتَمنَّى مَنْ يَكشِفُهَا لِي، فَاجتزْتُ بِالظَّفَرِيَّةِ، فَفَتَحَ رَجُلٌ دَارَهُ، وَقَالَ: يَا عَبْدَ القَادِرِ، أَيشٍ طلبتَ البَارِحَةَ? فَنَسيتُ، فَسَكَتُّ، فَاغتَاظَ، وَدفعَ البَابَ فِي وَجْهِي دفعَةً عَظِيْمَةً، فَلَمَّا مَشيتُ ذَكَرْتُ، فَرَجَعتُ أَطلبُ البَابَ، فَلَمْ أَجِدْهُ، قَالَ: وَكَانَ حَمَّاداً الدَّبَّاسَ، ثُمَّ عَرَفْتُهُ بَعْدُ، وَكشفَ لِي جَمِيْعَ مَا كَانَ يُشكِلُ عَلَيَّ، وَكُنْتُ إِذَا غبتُ عَنْهُ لِطلبِ العِلْمِ وَجِئْتُ، يَقُوْلُ: أَيشٍ جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا، أَنْتَ فَقِيْهٌ، مُرَّ إِلَى الفُقَهَاءِ، وَأَنَا أَسكتُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ جُمُعةٍ خَرَجتُ مَعَ الجَمَاعَةِ فِي شِدَّةِ البَرْدِ، فَدَفَعنِي أَلقَانِي فِي المَاءِ، فَقُلْتُ: غُسْلُ الجُمُعَةِ، بِاسمِ اللهِ، وَكَانَ عَلَيَّ جُبَّةٌ صُوْفُ، وَفِي كُمِّي أَجزَاءٌ، فَرفعتُ كُمِّي لِئَلاَّ تَهلِكَ الأَجزَاءُ، وَخَلَّوْنِي، وَمَشَوا، فَعصَرْتُ الجُبَّةَ، وَتَبِعْتُهُم، وَتَأَذَّيْتُ بِالبَردِ كَثِيْراً، وَكَانَ الشَّيْخُ يُؤذِينِي وَيَضربُنِي، وَإِذَا جِئْتُ يَقُوْلُ: جَاءنَا اليَوْمَ الخُبْزُ الكَثِيْرُ وَالفَالوذَجُ، وَأَكلنَا ومَا خَبَّأْنَا لَكَ وَحشَةً عَلَيْكَ، فَطمِعَ فِيَّ أَصْحَابُهِ، وَقَالُوا: أَنْتَ فَقِيْهٌ، أَيشٍ تَعْمَلُ مَعَنَا? فَلَمَّا رَآهُم يُؤذُونَنِي، غَارَ لِي؛ وَقَالَ: يَا كِلاَبُ لِمَ تُؤْذُونَهُ? وَاللهِ مَا فِيْكُم مِثْلُهُ، وَإِنَّمَا أُوذِيْهِ لأَمتحِنَهُ، فَأَرَاهُ جبلاً، لاَ يَتحرَّكُ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ، قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ هَمَذَانَ يُقَالَ لَهُ: يُوْسُفُ الهَمَذَانِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، فلم أَرَهُ، وَقِيْلَ لِي: هُوَ فِي السِّرْدَابِ، فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي قَامَ، وَأَجلسنِي، فَفَرشنِي، وَذَكَرَ لِي جَمِيْعَ أَحْوَالِي، وَحلَّ لِي المُشْكِلَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ لِي: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَقُلْتُ: يا سيدي، أنا رجل أَعْجَمِيٌّ قُحٌّ أَخرسُ، أَتكلَّمُ عَلَى فُصَحَاءِ بَغْدَادَ؟! فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَفِظتَ الفِقْهَ وَأُصُوْلَهُ، وَالخلاَفَ وَالنَّحْوَ وَاللُّغَةَ وَتَفسيرَ القُرْآنِ لاَ يَصلُحُ لَكَ أَنْ تَتكلَّمَ؟! اصعَدْ عَلَى الكُرْسِيِّ، وَتَكلَّمْ، فَإِنِّي أَرَى فِيكَ عِذْقاً سيصِيْرُ نَخْلَةً.

قَالَ الجُبَّائِيُّ: وَقَالَ لِي الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ: كُنْتُ أُومَرُ وَأُنْهَى فِي النَّوْمِ وَاليقظَةِ، وَكَانَ يغلبُ عَلَيَّ الكَلاَمُ، وَيزدحِمُ عَلَى قَلْبِي إِنْ لَمْ أَتكلَّمْ بِهِ حَتَّى أَكَادُ أَخْتنقُ، وَلاَ أَقدرُ أَسكتُ، وَكَانَ يَجلسُ عِنْدِي رَجُلاَنِ وَثَلاَثَةٌ، ثُمَّ تَسَامعَ النَّاسُ بِي، وَازدحَمَ عَلَيَّ الخَلْقُ، حَتَّى صَارَ يَحضرُ مَجْلِسِي نَحْوٌ مِنْ سَبْعِيْنَ أَلْفاً. وَقَالَ: فَتَّشْتُ الأَعْمَالَ كُلَّهَا، فَمَا وَجَدْتُ فِيْهَا أَفْضَلُ مِنْ إِطعَامِ الطَّعَامِ، أَودُّ لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِيَدِي فَأُطعِمَهَا الجيَاعَ، كَفِّي مثقوبَةٌ لاَ تضبطُ شَيْئاً، لَوْ جَاءنِي أَلفُ دِيْنَارٍ لَمْ أُبَيِّتْهَا، وَكَانَ إِذَا جَاءهُ أَحَدٌ بِذَهَبٍ، يَقُوْلُ: ضَعْهُ تَحْتَ السَّجَّادَةِ، وَقَالَ لِي: أَتَمَنَّى أَنْ أَكُوْنَ فِي الصَّحَارَى وَالبَرَارِي كَمَا كُنْتُ فِي الأَوّلِ لاَ أَرَى الخَلْقَ وَلاَ يَرُوْنِي. ثُمَّ قَالَ: أَرَادَ اللهُ مِنِّي مَنْفعَةَ الخلقِ، فَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيَّ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ مائَةٍ، وَتَابَ عَلَى يَدَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مائَةِ أَلْفٍ، وَهَذَا خَيْرٌ كَثِيْرٌ، وَتَرِدُ عَلَيَّ الأَثقَالُ الَّتِي لَوْ وُضِعَتْ عَلَى الجِبَالِ تَفَسَّخَتْ، فَأَضعُ جَنْبِي عَلَى الأَرْضِ، وَأَقُوْلُ: إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، ثُمَّ أَرْفَعُ رَأْسِي وَقَدِ انفرَجَتْ عَنِّي. وَقَالَ: إِذَا وُلِدَ لِي وَلدٌ أَخذتُهُ عَلَى يَدِي، وَأَقُوْلُ: هَذَا مَيِّتٌ، فَأُخْرِجُهُ مِنْ قَلْبِي، فَإِذَا مَاتَ لَمْ يُؤثِّرْ عِنْدِي مَوْتُهُ شَيْئاً.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ابْنُ الشَّيْخِ: وُلِدَ لأَبِي تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُوْنَ وَلداً، سبعة وعشرون ذكرًا، والباقي إناث.
وَقَالَ الجُبَّائِيُّ: كُنْتُ أَسْمَعُ فِي الحِلْيَةِ عَلَى ابْنِ نَاصرٍ، فَرَقَّ قَلْبِي، وَقُلْتُ: اشتهيتُ لَوِ انْقَطَعْتُ، وَأَشتغلُ بِالعِبَادَةِ، وَمضيتُ، فَصَلَّيْتُ خلفَ الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَلَمَّا جَلَسْنَا، نَظَرَ إِلَيَّ، وَقَالَ: إِذَا أَردتَ الانقطَاعَ، فَلاَ تَنقطِعْ حَتَّى تَتَفَقَّهَ وَتُجَالِسَ الشُّيُوْخَ وَتتَأَدَّبَ، وَإِلاَّ فَتنقطِعُ وَأَنْتَ فُرَيخٌ مَا رَيَّشْتَ.
وَعَنْ أَبِي الثَّنَاءِ النَّهْرملكِي قَالَ: تَحدَّثْنَا أَنَّ الذُّبَابَ مَا يَقعُ عَلَى الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، فَأَتَيْتُهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، وَقَالَ: أَيشٍ يَعملُ عِنْدِي الذُّبَابُ، لاَ دِبْسَ الدُّنْيَا، وَلاَ عَسَلَ الآخِرَةِ.
قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبَرِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ نَجَاحٍ الأَدِيْبَ يَقُوْلُ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: أُرِيْدُ أنْ أُحصيَ كَمْ يَقصُّ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ شعرَ تَائِبٍ، فَحَضَرتُ المَجْلِسَ وَمعِي خَيْطٌ، فَلَمَّا قصَّ شَعْراً، عقدتُ عُقدَةً تَحْتَ ثِيَابِي مِنَ الخيطِ وَأَنَا فِي آخِرِ النَّاسِ، وإذا به يقول: أنا حل وَأَنْتَ تَعقدُ؟!
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: سَمِعْتُ شَيْخَ الصُّوْفِيَّةِ عُمَرَ بنَ مُحَمَّدٍ السُّهْرَوَرْدِيَّ يَقُوْلُ: كُنْتُ أَتفقَّهُ فِي صِبَايَ، فَخطرَ لِي أَنْ أَقرَأَ شَيْئاً مِنْ عِلمِ الكَلاَمِ، وَعزمتُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتكلَّمَ بِهِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ عَمِّي أَبِي النَّجِيْبِ، فَحضرَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ مُسلِّماً، فَسَأَلَهُ عمِّي الدُّعَاءَ لِي، وَذَكَرَ لَهُ أَنِّي مُشْتَغِلٌ بِالفِقْهِ، وَقُمْتُ فَقبَّلْتُ يَدَهُ، فَأَخَذَ يَدِي، فَقَالَ: تُبْ مِمَّا عزَمْتَ عَلَيْهِ مِنَ الاشتغَالِ بِهِ، فَإِنَّكَ تُفْلِحُ، ثُمَّ سكتَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَزمِي عَنِ الاشتغَالِ بِالكَلاَمِ حَتَّى شُوِّشَتْ عَلَيَّ جَمِيْعُ أَحْوَالِي، وَتَكدَّرَ وقتي، فعلمت أن ذلك بمخالفة الشيخ.
ابْنُ النَّجَّارِ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ بنَ الأَخْضَر يَقُوْلُ: كُنْتُ أَدخل عَلَى الشَّيْخ عَبْد القَادِر فِي وَسط الشِّتَاء وَقُوَّةِ بَرْدِهِ وَعَلَيْهِ قَمِيْصٌ وَاحِد، وَعَلَى رَأْسه طَاقيَّة، وَحَوْلَهُ مَنْ يُروحهُ بِالمِرْوَحَة. قَالَ: وَالعرق يَخْرُج مِنْ جَسَدِه كَمَا يَكُوْن فِي شِدَّةِ الحَرِّ.
ابْنُ النَّجَّارِ: سَمِعْتُ عَبْدَ العَزِيْز بنَ عَبْدِ المَلِكِ الشَّيْبَانِيّ، سَمِعْتُ الحَافِظُ عَبْد الغَنِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ بنَ الخَشَّاب النَّحْوِيّ يَقُوْلُ: كُنْتُ وَأَنَا شَابّ أَقرَأُ النَّحْو، وَأَسْمَعُ النَّاس يَصفُوْنَ حسن كَلاَم الشَّيْخ عَبْد القَادِر، فَكُنْت أُرِيْد أَنْ أَسْمَعه وَلاَ يَتَّسِع وَقتِي، فَاتَّفَقَ أَنِّي حضَرت يَوْماً مَجْلِسه، فَلَمَّا تَكَلَّمَ لَمْ أَسْتحسن كَلاَمه، وَلَمْ أَفهمه، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ضَاع اليَوْم مِنِّي. فَالْتَفَت إِلَى نَاحِيَتِي، وَقَالَ: وَيْلَك تُفضِّلُ النَّحْو عَلَى مَجَالِس الذِّكرِ، وَتَختَارُ ذَلِكَ؟! اصحَبْنَا نُصَيِّرْكَ سِيبَوَيْه.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ ظفر بن هُبَيْرَةَ: سَأَلت جَدِّي أَنْ أَزور الشَّيْخ عَبْد القَادِر، فَأَعْطَانِي مبلغًا من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المِنْبَرِ سلمت عَلَيْهِ، وَتحرجتُ مِنْ دفع الذَّهَبِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْجمع، فَقَالَ: هَاتِ مَا مَعَكَ وَلاَ عَلَيْك مِنَ النَّاس، وَسلِّمْ عَلَى الوَزِيْرِ.
قَالَ صَاحِب "مِرْآة الزَّمَان": كَانَ سكُوت الشَّيْخ عَبْد القَادِر أَكْثَرَ مِنْ كَلاَمه، وَكَانَ يَتَكَلَّم عَلَى الخوَاطر، وَظهر لَهُ صيت عَظِيْم وَقبول تَامّ، وَمَا كَانَ يَخْرُج مِنْ مَدْرَسَته إلَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوْ إِلَى الرِّبَاط، وَتَاب عَلَى يَده مُعْظَم أَهْل بَغْدَادَ، وَأَسْلَمَ خلق، وَكَانَ يَصدع بِالْحَقِّ عَلَى المِنْبَرِ، وَكَانَ لَهُ كرامات ظاهرة.
قُلْتُ: لَيْسَ فِي كِبَارِ المَشَايِخ مَنْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ أَكْثَر مِنَ الشَّيْخ عَبْد القَادِر، لَكِن كَثِيْراً مِنْهَا لاَ يَصحُّ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ أَشيَاءُ مُسْتحيلَة.
قَالَ الجُبَّائِيّ: كَانَ الشَّيْخ عَبْد القَادِر يَقُوْلُ: الخَلْقُ حِجَابُكَ عَنْ نَفْسِكَ، وَنَفْسُكَ حِجَابُكَ عَنْ رَبِّكَ.
عَاشَ الشَّيْخ عَبْد القَادِر تِسْعِيْنَ سَنَةً، وَانْتَقَلَ إِلَى اللهِ فِي عَاشر رَبِيْع الآخر سَنَة إِحْدَى وَسِتِّيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَشيَّعه خلق لاَ يُحصَوْنَ، وَدُفِنَ بِمَدرسَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَفِيْهَا مَاتَ أَبُو المَحَاسِنِ إِسْمَاعِيْل بن عَلِيِّ بنِ زَيْدِ بنِ شَهْرَيَارَ الأَصْبَهَانِيّ -سَمِعَ مِنْ رِزْق اللهِ التَّمِيْمِيّ، وَالمُحَدِّثُ العَلاَّمَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ الأَشِيْرِيّ المَغْرِبِيّ وَدُفِنَ بِظَاهِر بَعْلَبَكَّ، وَالإِمَام الرَّئِيْس أَبُو طَالِبٍ عَبْد الرَّحْمَنِ بنِ الحَسَنِ ابْن العَجَمِيّ وَاقف المَدْرَسَة بحلب، وعلي ابن أَحْمَدَ الحَرَسْتَانِيّ رَاوِي جُزْء الرَّافقِي، وَأَبُو رَشِيْدٍ مُحَمَّد بن عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ الأَصْبَهَانِيّ البَاغْبَانُ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الرُّسْتَمِيّ، وَأَبُو طَاهِرٍ إِبْرَاهِيْم بن الحَسَنِ ابْنُ الحصنِي الشَّافِعِيّ بِدِمَشْقَ، وَالقَاضِي مُهَذَّب الدِّيْنِ الحَسَنُ بن عَلِيِّ بنِ الرَّشِيْد ابْنُ الزُّبَيْرِ الأُسْوَانِي الشَّاعِر أَخُو الرَّشِيْد أَحْمَدَ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بنُ الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي المقرىء الشاعر، والمسند ابن رفاعة، والفقيه المقرىء عبد الصمد ابن الحُسَيْنِ بنِ أَحْمَدَ بنِ تَمِيْمٍ التَّمِيْمِيّ الدِّمَشْقِيّ، وَشيخ القُرَّاء أَبُو حُمَيْدٍ عَبْد العَزِيْزِ بن عَلِيٍّ السُّمَانِيّ الإِشْبِيْلِيّ وَالشَّيْخ عَلِيّ بن أَحْمَدَ الحَرَسْتَانِيّ رَاوِي جُزْء الرَّافقِي.
وَفِي الجُمْلَة الشَّيْخ عَبْد القَادِر كَبِيْرُ الشَّأْنِ، وَعَلَيْهِ مَآخِذ فِي بَعْضِ أَقْوَالِه وَدَعَاويه، وَاللهُ المَوْعِدُ، وَبَعْضُ ذَلِكَ مكذوب عليه.

سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.