الفنان العبقري الخالد المرحوم عمر البطش الحلبي
أصله ونشأته: هو المرحوم عمر بن إبراهيم البطش، وهذه الأسرة حلبية الأصل، تكنّت بالبطش لقوة أجساد وقصر قامات أفرادها، ولد في مدينة حلب سنة (1885) ميلادية، تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب الأهلية، ولما ترعرع أخذه خاله الفنان المشهور الحاج بكري القصير وعلّمه مهنة بناء البيوت، فأصبح أستاذاً ماهراً في علم البناء، وبقي في هذه الصنعة الشاقة حتى الثلاثين من عمره، وكان والده إبراهيم يحرق الأحجار لإخراج الكلس، فتعلم من والده هذه الصنعة.وكان رحمه الله منذ صغره متعلقاً بالفن الموسيقي يسير على خطى خاله الفنان، وكان ذا صوت حسن، ومنشداً ماهراً في حلقات الأذكار، ورئيساً لنوبة مشايخ الطرق، فأحاطه بعناية وعطفه.
الفن الأصيل: وتلقى البطش رحمه الله الفن الأصيل من مورده الصافي، فأخذ من الفنانين الحلبيين المشهورين أحمد عقيل وأحمد المشهدي وأحمد الشعار والشيخ صالح الجذبة ومصطفى المعظم الموشحات وعلم النغمة والأوزان ورقص السماح، فبـرع وفـاق، وكـان يـلازم حلقـة فنيـة مؤلفـة من أشهر الفنانين، وقد فتح الله عليه بمواهب التلحين فتفوق على فناني حلب، فبايعوه بالزعامة عليهم.ولما كانت حلقات الأذكار هي سؤرة الفن فقد كان ينشد في جميع زوايا حلب لقاء تعويض يتقاضاه من مشايخ الطرق.
في الخدمة الإجبارية: وفي سنة 1905م التحق بالجندية الإجبارية، واستخدم في الفرقة الموسيقية، وكان يعزف بآلة (البكلة) وتعلم النوطة، ولما انتهت مدة خدمته عاد إلى حلب فاشتغل ضابطاً للإيقاع في أكبر مسارح حلب، فكان بقوة فنه وكثرة محفوظاته المرجع المكين لأبناء الفن.
ولما وقعت الحرب العامة الأولى استخدم في الجندية بدمشق، فأخذ عنه كثير من فناني دمشق الموشحات وضروب والأوزان ورقص السماح.
سفره إلى العراق: وسافرت جوقة فنية مؤلفة من أشهر الفنانين الحلبيين إلى بغداد، وكان المترجم رئيسها، فمكث في بغداد مدة شهرين، ثم ذهبت إلى المحمرة ومكثت مدة سنتين عند الأمير خزعل، وعاد أفراد الفرقة بثروات مادية حسنة، منهم من اشترى عقارات فجنى فوائد مادية منها، ومنهم من أفرط بالسرف والبذخ فبدّد ثروته ومات فقيراً معدماً كالمرحوم عبدو بن عبدو رحمه الله.
عودته إلى حلب: وفي حلب عاد للاشتغال ضابطاً للإيقاع في مسارحها الكبيرة، وهي بحاجة إلى خبرته والاعتزاز بفنه، وقبل وفاته بخمس عشرة سنة ترك المسرح وفتح دكانة من داره لبيع البقالة، وصار يلازم حلقات الأذكار للإنشاد، وخصص في بيته غرفة خاصة لتعليم الطلاب الموشحات ورقص السماح والأوزان.
في المعهد الموسيقي بدمشق: وذاع صيته الفني في الأقطار العربية فدعي في عهد حكومة الشيخ تاج الدين الحسني لتدريس الموشحات ورقص السماح في المعهد الموسيقي، ثم أغلق المعهد وأعيد فتحه للمرة الثالثة، ولما صدر القانون بفتحه وكان مزمعاً على الرحيل إلى دمشق لأداء رسالته الفنية وافاه الأجل المحتوم، فتحطمت الأماني والآمال، والفن بحاجة إلى مثله، وترك رحمه الله خلفه فنوناً تبكيه وتلامذة ترثيه.
فنه وعبقريته: لقد مارس هذا الفنان الخالد الفن الموسيقي علماً وعملاً أكثر من ستين سنة، وتلقى على أفحل الأساتذة، وحلب هي مهبط الوحي والإلهام الفني، وقبلة المجتمع الفني في الشرق، وكان الفنانون يقصدون حلب لتلقي الموشحات على بطلها الفقيد البطش.
لقد ابتكر البطش وصلات مشبكة من رقص السماح من مقامات الراست والحجاز والبيات على أوزان المحجر والمربع والمدور والمخمس والسماعي الثقيل والدرج، ولم يسبق لأحد من أعلام رقص السماح أن ابتكر مثل هذه الوصلات البديعة، وقال بأن ابتكاره هذا سيكون تذكاراً خالداً لفنونه، وقام بتعليم (24) بنتاً من فتيات الجامعة رقص السماح من مقامي البياتي والحجاز، واشتهرت حفلات رقص السماح الرائعة عند زيارة المغتربين لوطنهم.
لقد بلغ إنتاجه الفني في مدة حياته الفنية أكثر من (134) موشحاً من مختلف النغمات والأوزان، منها (80) موشحاً نوطت في المعهد الموسيقي، والباقي حفظته الفرق الموسيقية.
أما قوته الفنية في التلحين، فتلك موهبة عز نظيرها، ويكفي للاستدلال على عبقريته أن الفنان المصري المشهور الشيخ سيد درويش كان لحن موشحاته الخالدة دون خانات، فصاغ البطش خانات لها تعتبر من معجزات الفن، وجاءت أروع وأقوى من الأصل بشكل يجتذب الألباب ويستلب النفوس، وكم من مجتهد كان أفضل من المخرج بما تهيئه له مواهبه من مواد الابتداع، ورب فنان مستكبر لا يقرّ لإنسان بفضل أو مدّع لا يفقه من الفن إلا الغرور والفضول يقول: إن من لحن الأصل لا يعجز عن تلحين الفرع في الموشحات.
والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن تلحين الخانات أصعب منالاً من تلحين الأصل، لأن الدخول في الخانات يجب أن يكون من طبقة أعلى من الأصل، ومقروناً بالانسجام الفني بين النغمات ضمن حدود الإيقاع، وعلى كل فلا مجال للشك بأني أقصد من هذا التحليل انتقاص مواهب النابغة سيد درويش الفنية، كلا... فالفن أرفع ما في الوجود، وأنا من عشاق فنونه، وتحليل ذلك يعود إلى أمرين: إما أن الشيخ سيد درويش قد عجز فعلاً عن صياغة خانات موشحاته، وإما أن تكون جهوده الفنية ووفرة إنتاجه للأوبريت الغنائي وانهماكه بشذوذه الذي كان سبب موته قد حال دون تلحين الخانات لموشحاته الخالدة، فلحنها البطش، وأخذها الفنانون وانتشرت بين الركبان، وشاطره عبقريته في هذا الميدان.
وفاته: وفي يوم الإثنين الثاني من شهر ربيع الأول سنة 1370ﻫ و11 كانون الأول سنة 1950م طوى الردى عبقرية خالدة في شخص عمر البطش، وقد كان أينما حل كالثريا وللفن كنزاً لا يفنى.
وتنتاب نفسي عوامل السعادة والحسرة عندما أتذكر مراحل حياة هذا الفنان الخالد، وأرى الإشادة بتراثه الفني أمر واجب، وتفيض نفسي أسى وحرقة عندما أتذكر أنه قضى نحبه ولم تسجل روائع فنونه الشامخة.
إن في الذكريات ما يثير الشجون ويدمي القلوب، فقد نقل إلي أقرب الناس إلى البطش أنه بكى لما قرأ كتابي، وبه أعلمه بأن ولدي البكر قد حمل اسم عمر العزيز، وحضر رحمه الله إلى دمشق لتهنئتي، وبارك ولدي عمر وأجهش في البكاء، وكأنه شعر بدنو أجله، فكان يردد أنشودة الموت، وهو على أتم صحة وقوة، وطلب مني أن تؤخذ لنا صورة تذكارية، وهي التي ترونها في أول المقال، وكنت أراقب حركاته، فإذا به يغمض عينيه ويعد بأصابع يديه كأنه يستجمع أوزان موشحات مرت بخاطره، فكان هذا الاستجماع هو فيض العبقرية والمواهب الأصلية، ثم أسمعني هذا الموشح الذي آثرت نشره للذكرى والخلود، وهو من نظم الأستاذ الغاوي محمود نديم الحريري الحلبي، ويتضمن أربعة عشرة مقاماً، وهو آية في إعجازه الفني:
رحت (بالرصد) أغني | من مقام (الساذكار) |
مذ بدا حلو التثني | حاملاً كأس العقار |
عندما (العشاق) هاموا | في نغيمات (البيات) |
سكروا شوقاً وقاموا | يرقصون للهزار |
لحنوا (السيكاه) وارووا | للنوى حبي (نوى) |
فعذولي راح يشدو | فرحاً (بالمستعار) |
طال هجري قل صبري | زاد وجدي ذاب قلبي |
فهل المحبوب يدري | وهو في (أوج) النفار |
لكن الفقر تغير | نحو هجري والوصال |
وبقي ردحاً محير | وانتهى عهد الشجار |
ثم (بالماهور) غنى | فأزال الكرب عنا |
لما نادى ادن منا | صفق القلب وطار |
سمع الدهر وجدد | فرحتي (بالنواثر) |
ومع النهوند ردد | وصلة الحجاز كار |
بالجلا آن الآوان | للسرور والأمان |
فعزفت (الزنجران) | مطرباً (بالساذكار) |
وهكذا طوى الموت ألمع ملحن في الموشحات، وأقدر متفنن في علم الإيقاع والنغمة وأوزان رقص السماح، وألحد الثرى مع أسرار فنونه، مات عقيماً كالعباقرة الذين كتب لهم الخلود دون ذرية، رحمه الله بقدر ما أسدى إلى الفن من خدمات.
أنظر كامل الترجمة في كتاب أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 284 - 289.