ترجمة المؤلف أدهم الجندي - بقلمه
أصعب الاشياء ان يكتب الانسان ترجمة حياته ويصف بقلمه روحه وشعوره، ليس في تاريخ حياتي من الحوادث ما يستحق التنويه سوى ذكريات نكبات وأهوال مرت وفواجع تدمي القلوب وتثير الشجون.
مولدي - ولدت بحمص بحي (ابي الهول)، سنة 1902 م من والدين هما محمد بن سليمان الجندي واصلان بنت محمد وهي من أصل شركسي، توفيت والدتي وانا في المهد ثم تبعها والدي، وربتني عمتي المرحومة اسماء بنت سليمان الجندي مع شقيقتي الصغيرتين.
دراستي - درست في مدرسة الاستاذ حنا خباز الانجيلية، ثم في كلية الاتحاد الوطني الأهلية الثانوية، وكنت تحت رعاية اخي المرحوم الدكتور عزت الجندي، وكان رحمه الله مع حزمه وصرامته يغمرني بفيض من حنانه ويعتني بتثقيفي وتأهيلي للحياة.
النكبة الدامية. وبينما كنت استعد للسفر إلى الآستانة لمتابعة دراستي العالية في أول الحرب العالمية الأولى، حلت بنا النكبة الكبرى باغتيال جمال باشا السفاح التركي لأخي الدكتور عزت بصورة لم تعرف اسرارها حتى الآن، ثم توالت تحريات الجيش التركي لبيوت الأسرة، فتغير مجرى حياتي وعدلت عن السفر إلى الآستانة مكتفياً بدخول مدرسة دار المعلمين بدمشق.
نفي الاسرة الى الاناضول - ثم فوجئ اخوتي وبعض ابناء عمي بالنفي الى بلاد الأناضول دون اعطاء مهلة لتصفية علاقاتهم، وفي هذه الفترة الرهيبة ورد نعي اخي المرحوم صادق الجندي وكان ضابطاً كبيراً في الجيش التركي، فقد استشهد في معركة (كوت العمارة) التي دارت رحاها بين الجيشين التركي والانكليزي.
رحلاتي -. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى: تاقت نفسي الى الرحلات، فسافرت الى فرنسا وايطاليا والولايات المتحدة في رحلة دامت تسعة أشهر، وكان اول وجه استقبلني في مرفأ نيويورك هو شاعر العاصي الملهم المرحوم ندره حداد الحمصي وشقيق صاحب جريدة السائح الغراء.
ولما عدت من رحلتي وجدت عمتي التي ربتني قد توفيت فكان حزني لفقدها عظيم الأثر في حياتي.
رحلتي الأولى الى البرازيل - وفي عام 1923 قمت برحلة الى البرازيل واعانني المال الذي كنت احمله على العمل بتوجيه بعض المغتربين المخلصين، الا ان ثورة جامحة قامت هناك قضت على آمالي، فعدت الى الوطن بعد غياب عام ونيف.
في خدمة الدولة: وتضجر اخوتي وانا أصغرهم من هذه الرحلات فحملوني على التوظف، فعينت منشئاً في محافظة الفرات وبقيت هناك سبع سنوات مات خلالها شقيقي جودة وكان عازباً، ثم تنقلت في محافظات حلب وحمص وحوران، ولما وقعت الحرب بين الفيشيين والديغوليين وجعلوا ازرع ساحة حرب اضطررت للنزوح عنها فنهب الحوارنة بيتي وكانت نكبة فادحة.
في وزارة الداخلية - وبعد زوال الانتداب نقلت إلى الإدارة المركزية في وزارة الداخلية متنقلا بين دوائر المحافظات والبلديات والجوازات والاحوال المدنية، ثم اشغلت رئاسة ديوان وزارة الداخلية في أحرج عهود الانقلابات السورية وتقلبت بعدها بوظائف ادارية
نكبة مادية كبرى - وشاءت الاقدار ان اضع ثروة مالية قدرها (54) ألف ليرة سورية لدى بنك فريد بن جرجس سلوم واخوانه في حمص، فأعلن المصرف المذكور افلاسه وثبت بعدئذ انه كان افلاساً احتيالياً، وانتهى الأمر بالمصالحة فخسرت (34) ألف ليرة سورية وكان تأثيرها شديد الوطأة علي.
رحلني الثانية الى البرازيل - وفي 7 كانون الثاني 1954، قمت برحلة جوية إلى البرازيل استغرقت ثلاثة أشهر، فاحتفت بي الجالية السورية في مدينة سان باولو، وألقيت بعض المحاضرات واكتتب بعض ذوي الأريحية لمساعدتي بطبع هذا السفر التاريخي، وكانت رحلة لم تخل من حساد ومعارضين، وقد بلغ الاكتاب كما هو مدرج في الصفحة (182) من هذا المؤلف.
اسير وظل البؤس يسري جانبي | كأني وإياه حليف على العمر |
وخسرت نصف الاكتتاب بسبب شراء شك مزور من نصاب محتال يدعى فارس زهير اللبناني لا رصيد له في البنوك، ثم هرب وما زال ملاحقاً فكانت هذه النكبة مريرة ارتبكت بسببها احوالي المادية لارتباطي بمسؤوليات ادبية لا مناص منها نحو المكتبيين قامت على أساس متين من الشرف والوفاء بالوعد.
ميولي الفنية - أنا أحد افراد الأسرة التي رضعت ثدي الفن والأدب في مهدها، تلقيت الفن على فطاحل المتفننين منهم المرحوم عمر البطش الفنان الحلبي الأشهر.
اما أحاسيسي وشعوري الفنيان وخاصة في المغنى التركي فإنها من النوع المرهف الحاد المقرون بالوجد والهيام والدموع وأرى في سماع الأصوات المنسجمة مع آلات الطرب واجادة العازفين متعة تفوق كل شيء في الوجود، كما اني ارى في العطف على الفنانين خدمة اجتماعية كبرى، وفي احتقار الفن جريمة لا تغتفر تدل على تدني العقلية الاجتماعية والذوق.
مؤلفاتي - لقد أصدرت هذا الجزء (الأول من اعلام الأدب والفن) ويليه جزءآن الثاني والثالث ومؤلف أعذب الالحان
أسرتي - اقترنت بتاريخ 31 آب 1931م بالآنسة حكمة بنت نوري بك بن زاهد باشا الشيخ فضلي وانعم الله علي بوحيدي
(عمر) بعد سبع عشرة سنة من زواجي وقد اعتدل مجرى حياتي ونسيت كل خسارة ونكبة، الا فقد شقيقي الشهيد عزت فقد امضني أكثر من فقدي ابي، فهي نكبة مازالت ماثلة امامي بالغدو والاصال، وأن راتبي من الوظيفة وما ورثته من مال ونشب كفل لي حياة هنيئة تحديت بها الدهر وعبوسه، ولولاها لما رأى القراء هذا المؤلف بين ايديهم الذي يعجز أكبر ثري متمول عن القيام بنفقاته. وقد هنأني كثير من الشعراء مؤرخين ولادة عمر منهم الشاعر العبقري الملهم الاستاذ محمد علي الحوماني الذي تفضل بهذه القلادة:
من قلب أدهم اخلصت الحياة لنا | فياضة النور من عينيك يا عمر |
امنت أنك (جندي) يمت به | الى كنانة، بحر ملؤه دور |
يا طالعاً في سماء المجد ترمقه | زهر النجوم ويقضى دونه القمر |
اثلجت صدر اب بر ينوء به | عبء الستين ويحني ظهره الكبر |
حتى إذا لحت في آفاقه قمراً | رف الشباب عليه وازدهى العمر |
بوركت من وافد وافي وقد صدئت | ابصارنا وتلاشت دونها الصور |
فكت ابهر ما يجلو بصائرنا | وكنت أنضر ما يندى به البصر |
رياك يا، عمر الجندي، أسبغها | من الجنان علينا باسم عطر |
انى عرضنا شمعنا منك غالية | في مفرق الدهر من عياقها اثر |
جدد، ابا عمر عهد الشباب به | لا الظل يعوز مجناه ولا الثمر |
اغناك مولده عن كل اغنية | في كل قيثارة من لحظها وتر |
أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 405 - 406.