الشيخ عباس يوسف قطان
متوسط القامة، ممتلىء الجسم قمحى اللون واسع العينين يضع على عينيه نظارة طبية له لحية خفيفة كان يرتدي العباءة والعقال المقصب في العهد الهاشمي ثم أصبح يرتدي العباءة والعقال العادي في العهد السعودي.
ولد الشيخ عباس قطان بمكة المكرمة سنة 1313 هـ وتلقى تعليمه الابتدائي في الكتاب، والكتاب عبارة عن مدرسة صغيرة يتلقي فيها الأولاد مبادئ القراءة والكتابة على يد أحد المشايخ وبعد فترة قصيرة انتقل الى المدرسة الصولتية وهي من أوائل المدارس الخيرية الخاصة التي أنشئت بمكة المكرمة في أوائل القرن الهجري الرابع عشر من قبل بعض أثرياء الهنود المسلمين، وكانوا يتولون الإنفاق عليها وهي لا تزال قائمة حتى الآن وهي تقوم على تعليم العلوم الدينية وكان لها دور بارز في هذا المجال وخاصة قبل انتشار المدارس الحكومية في العهد السعودي، وكان الشيخ يوسف قطان وهو من أثرياء مكة وأعيانها المعروفين قد عني عناية خاصة بتعليم ابنه البكر الشيخ عباس قطان فكان يحضر له بعض المشايخ في الدار لتجويد القرآن الكريم ولتلقى بعض دروس الفقه واللغة كما كان يرسله لحضور حلقات الدرس في المسجد الحرام بين العشاءين فكان يحضر حلقات الدروس التي يعقدها علماء مكة المكرمة في ذلك الزمان أصحاب الفضيلة الشيخ عباس مالكي والشيخ سعيد يماني والسيد المرزوقي والشيخ عمر باجنيد والشيخ عمر حمدان وجميعهم من أعلام العلماء في مكة المكرمة في النصف الأول من القرن الرابع عشر رحمهم الله وهكذا تزود الشيخ عباس قطان من العلم بقدر ما كان يسمح به الزمن الذي نشأ فيه.
وقد نشأ الشيخ عباس قطان في ظل والده الشيخ يوسف قطان الذي كان من أكبر أعيان مكة المكرمة وأثريائها وكان وزيرا للنافعة - وزارة النافعة هي وزارة الأشغال العامة - في عهد الملك الشريف الحسين بن علي كما كان على صلة تامة بأمراء مكة قبل ذلك ولقد قيل لي أنه هو الذي أشرف على بناء قصر شبرا في الطائف للشريف على باشا أمير مكة الأسبق في العهد العثماني، كما أنه كان من المقربين لجلالة المرحوم الملك عبدالعزيز بعد فتح الحجاز وقد زاره جلالته في داره حينما مرض فهو إذا من أولئك الرجال الذين تظهر شخصياتهم في مختلف العهود، نقول إن الشيخ عباس قطان نشأ في ظل والده الذي أسلفنا ذكره وكان هذا الوالد عظيم الثراء فلم يهيئ ابنه للوظائف الحكومية ولعله كان منشغلا بأعمال والده ولكنه على أي حال أصبح عضوا في المجلس البلدي بمكة المكرمة في أوائل العهد السعودي وفي عام 1347 هـ عينه جلالة الملك عبد العزيز أمينا للعاصمة - وكانت مكة المكرمة هي عاصمة الدولة منذ أوائل العهد السعودي واستمرت كذلك طيلة عهد الملك عبد العزيز وفي عهد الملك سعود تم نقل العاصمة إلى الرياض وأصبحت مكة المكرمة هي العاصمة المقدسة فيقال الآن عن رئيس بلدية مكة المكرمة أمين العاصمة المقدسة للتفريق بينها وبين العاصمة الرياض وقد استمر الشيخ عباس قطان أمينا للعاصمة بمكة المكرمة من عام 1347 هـ إلى نهاية عام 1364 هـ وبعدها عين عضوا في مجلس الشورى إلا أنه طلب من جلالة الملك عبدالعزيز إعفاءه من هذا العمل حيث كان راغبا في التفرغ للأعمال الخيرية التي كان ينوي القيام بها.
ولقد كان الشيخ عباس قطان موضع ثقة جلالة الملك عبدالعزيز فكان يكلفه بمهام الأمور في عهد رئاسته لأمانة العاصمة فحينما انتهت إمارة الأمير عبدالعزيز ابن إبراهيم على المدينة المنورة كلف جلالته الشيخ عباس قطان بالسفر إلى المدينة المنورة وتصريف شؤونها إلى حين تولى الأمير عبدالله السديري إمارة المدينة المنورة، كما كان يعهد إليه بالعمل في بعض الأمور التي تطرأ والتي يرغب جلالته اتخاذ إجراء معين فيها، وكانت دار الشيخ عباس قطان في مكة المكرمة وفي الطائف أيام الصيف مفتوحة للناس تخص بروادها من أهل العلم والفضل ومن الضيوف الذين كانت تنصب لهم الموائد صباح مساء وكانت هذه الدار تستقبل الضيوف من كبار الحجاج في موسم الحج، من كل عام وحينما قدم الدكتور محمد حسين هيكل باشا الكاتب المصري المعروف ورئيس مجلس الشيوخ المصري إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج نزل بدار الشيخ عباس قطان بمكة المكرمة بالشامية وفي هذه الرحلة رغب التعرف على آثار مكة ومعالمها فطلب من الشيخ عباس قطان أن يختار له مرافقا ملما بهذه الآثار فاختار له المرحوم الشيخ عبد الحميد حديدي العضو بأمانة العاصمة ومن أبرز رجالات مكة العارفين بتاريخها وآثارها وقد صحب الشيخ عبدالحميد رحمه الله الدكتور محمد حسين هيكل إلى زيارة آثار مكة المكرمة ومن أبرزها غار حراء وقد كتب الدكتور هيكل عن ذلك بالتفصيل في كتابه المشهور في منزل الوحى الذي ألفه بعد كتابه (حياة محمد) ﷺ ومما أذكره عن رحلة الدكتور هيكل هذه إلى مكة المكرمة أنه كان أحد الخطباء في الحفل الذى كان يقيمه شباب مكة وأدباؤها في كل عام في منى في أيام التشريق ولم يكن قد أعد نفسه للخطابة ولكنه استجاب للطلب وألقى خطابا جيدا في ذلك الحفل نشرته جريدة صوت الحجاز فيما بعد وأشرف على تصحيحه الشاعر والكاتب الكبير الأستاذ محمد حسن فقي بطلب من الدكتور هيكل نفسه كما علمت منه في ذلك الزمان.
مولد النبي ﷺ
ولد النبي ﷺ بمحلة شعب علي المعروفة بمكة المكرمة والتي تسمى في الوقت الحاضر سوق الليل وكان الشيخ عباس قطان يتمنى أن يقيم في هذا المكان مكتبة عامة واتفق مع أصهاره آل الكردي أن يشتري منهم مكتبة المرحوم الشيخ ماجد كردي الشهيرة بالمكتبة الماجدية وهي من أثمن المكتبات الخاصة وينقل محتوياتها إلى هذه الدار صيانة للموضع الذي ولد فيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من أن يبقى معرضا للإهمال وتكريما له بإقامة عمل نافع للناس فيه، وكانت العقبات التي واجهها الشيخ عباس قطان لتحقيق هذه الأمنية الكبيرة كثيرة ولكنه استمر في محاولاته تلك دون كلل أو ملل فاستطاع بعد سنوات طويلة من الصبر وتصيد الفرص المناسبة أن يحظى بموافقة جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز للسماح له بإقامة المبنى الذي يريد وما أن حصل على الإذن من جلالته بإقامة المبنى حتى سارع باتخاذ الاجراءات اللازمة لذلك عام 1370 هـ وكان يشرف على البناء بنفسه في كل يوم راغبا في سرعة إنجازه وتحقيق الأمنية التي كان ينشدها برؤية المكتبة العامة مشيدة في موضع مولد النبي ﷺ وفي يوم من أيام شهر رجب 1370 هـ ذهب كعادته لرؤية العمارة مصطحبا بعض أصدقائه ولكنه شعر بألم مفاجئ وهـو واقف في الموقع فقد فاجأته نوبة قلبية حادة فأمسك به الحاضرون من أبنائه وأصدقائه واستدعى له أحد الأطباء ثم نقل إلى بيته وفى اليوم التالي فارق الحياة فكانت هذه العمارة التي تمنى أن ينشئها هي الخاتمة السعيدة لحياته ولقد قام أبناؤه من بعده بإكمال العمل الطيب الذى بدأه والدهم العظيم كما نقلوا إليها المكتبة الماجدية وسلمت إلى وزارة الحج والأوقاف وهي مفتوحة للجميع
دار السيدة خديجة
حينما تزوج النبي ﷺ أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد كان يسكن في منزلها في زقاق الحجر المعروف بزقاق الصوغ وفي هذا المنزل نزل القرآن الكريم على رسول الله ﷺ وفيه ولدت السيدة خديجة رضوان الله عليها أولاد النبي ﷺ من ذكور وإناث وبعد وفاة السيدة خديجة رضوان الله عليها استمر النبي ﷺ ساكنا هذه الدار الى حين هجرته إلى المدينة المنورة فأخذ الدار عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وباعها إلى الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان فجعلها مسجدا، ولقد عدت على هذه الدار عوادي الزمن فأصبحت خرابا وكان الشيخ عباس قطان قبل وفاته قد استأذن من جلالة الملك عبد العزيز في إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن في هذا المكان الذى نزل فيه القرآن والذي كان مسكنا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه لسنوات طويلة وكما حصل على الإذن ببناء موضع ولادته ﷺ حصل على الإذن بتشييد المدرسة المطلوبة في دار السيدة خديجة والتي أصبحت تسمى أخيرا (مولد السيدة فاطمة) نسبة الى السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد باشر الشيخ عباس قطان عمارة هذا المكان عام 1368 هـ مبتدئا به قبل عمارة مولد النبي ﷺ، وحينما توفي أكمل أبناؤه من بعده إتمام العمارة المذكورة وسلمت إلى وزارة المعارف لافتتاحها للغرض الذي بنيت من أجله وقد تم افتتاح المدرسة لهذه الغاية وهي مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ولا تزال باقية حتى اليوم، إن هذا العمل العظيم الذي قام به المرحوم الشيخ عباس قطان هو من الأعمال الجليلة دون شك فعلاوة على ما بذله من المال في تشييد المكتبة والمدرسة وافتتاحها للإفادة منهما فإنه صان بذلك المكان الذى ولد فيه النبي ﷺ كما صان المكان الذي نزل فيه القرآن على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، ولقد كانت محاولة الحصول على الإذن ببناء هذين المكانين في حد ذاتها تتسم بالإخلاص والشجاعة لأن بعض الناس كانوا يتخذون من بعض الأماكن الكريمة مقرأ للشعوذة والضحك على بسطاء العقول وخاصة من الحجاج والجهلة ولقد أدركت الناس في جدة في العهد الهاشمي وهم يتخذون من مقبرة حواء مكانا للشعوذة ويدخل إليها الحجاج للتبرك ويستدرون منهم الأموال بهذه الوسيلة ولست أشك أن جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله كان يعرف أولا إخلاص الشيخ عباس قطان وصفاء عقيدته ولهذا سمح له بإقامة المدرسة والمكتبة في المكانين المشار إليهما ولم يكن من السهل على غير الشيخ عباس قطان في ذلك الزمن الوصول إلى ما وصل اليه وقد أعانه الله على ذلك فكانت له هذه الحسنة الجارية في بلد الله الأمين تقبل الله منه وجزاه أفضل الجزاء.
القِرى لقاصِدِ أمّ القُرى
ومما يذكر للشيخ عباس قطان رحمه الله أنه قام على طبع القرى لقاصد أم القرى لمؤلفه محب الدين الطبري وهو كتاب جليل في تاريخ مكة المكرمة فكلف بعض النساخين بنسخ أصل الكتاب المذكور وطبع منه ألفي نسخة على نفقته الخاصة قام بإهدائها إلى العلماء والأدباء وإلى أصدقائه من محبي المعرفة والاطلاع وهي مأثرة حسنة تضاف إلى مأثره الكثيرة.
إصلاح ذات البين
حينما كنت أقيم بمكة المكرمة في الفترة ما بين 1355 - 1364 هجرية كان الشيخ عباس قطان مشهورا بإصلاح ذات البين وكان يتحرى الاصلاح بين العائلات التي يطول بينها الجفاء أو يستقر بينها العداء أو الأفراد الذين تشتد بينهم البغضاء فتقطع أواصر المودة ويحل الكره محل الحب ولقد كان قضاة مكة يحيلون إليه من القضايا التي تعرض عليهم ما يرون أن من المصلحة تدخله فيها حفظا لصلة الرحم وحسن الجوار وكان الشيخ عباس قطان رحمه الله يبذل جهده ووقته للإصلاح ما وسعه ذلك مستعينا بمن يتوسم فيهم الخير من الرجال لتحقيق هذه الغاية باذلا في ذلك جاهه وماله وربما اقتضى الأمر مراجعة المسؤولين في دوائر الحكومة لتذليل العقبات التي تعترض سبيله حتى إذا أثمر ذا أثمر سعيه سعيه جمع المتخاصمين في داره المضيافة على مائدة العشاء أو الغداء مع من اشترك معه في الاصلاح ليذهبوا في اليوم التالي إلى المحكمة فيطلبون من القضاة إلغاء القضايا التي كانوا يقيمونها معلنين تصالحهم وتراضيهم ولاشك أن هذا العمل من أجل الأعمال التي لا يقوم بها إلا أولئك الرجال الكبار الذين اتسعت صدورهم لمشاكل الناس فرأبوا الصدع وأقاموا المودة مقام العداوة وسعدوا بما رأوا من ثمار سعيهم الطيب بين الناس.
وفاته
لقد ذكرت أن الشيخ عباس قطان فاجأه المرض وهو يقف على العمارة التي أنشأها في مولد النبى ﷺ وقد توفي في اليوم التالي بداره بالشامية صباح الاثنين 16 رجب 1370 هـ عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاما بعد حياة قضاها في العمل الطيب تغمده الله برحماته الواسعة وأحسن جزاءه في دار الخلود.
أعلام الحجاز، تأليف محمد علي مغربي الجزء الأول – ص 76 - 87.