الشيخ أبو عبد الله محمد بن عَبْدَوَيْه النهرواني، فإنه من أبناء التجار المسافرين في البحار، وكان تفقه بالإمام أبي إسحاق الشيرازي بكتاب «المهذب» و «بمسائل الخلاف» وبكتب الشيخ أبي إسحاق في الأصول والجدل، وسكن عدن مدة، ثم انتقل إلى زبيد، وملوكها الحبشة يومئذ، فدخلها الأمير مفضل بن أبي البركات بالعسكر الجرّار من العرب، فانتهب مالَ هذا الفقيه وتجارته، وكان كثير المال، وأظنها في الوقعة الأولى، سنة سبع وتسعين وأربعمائة، ثم خرج فسكن جزيرة كَمَران في البحر، وسافر عبيده وجُلّابه إلى الحبشة ومكة والهند وعدن، فأخلف الله عليه أموالاً كثيرة، فكان ينفق على طلبة العلم ويكرمهم.
أخبرني الفقيه الفاضل أحمد بن عمر بن علي السِّلالي كتابة، عن الفقيه عبد الله بن مسعود المدرس في الجبابي، عن الفقيه عمر بن علي السِّلالي، وهو من تلاميذ الشيخ ابن عَبْدَوَيْه، أنه كان يتجر للشيخ ابن عَبْدَوَيْه بستين ألف دينار في البحار، وكانت النواخيذ والتجار وأهل الحالات يأتون للسلام عليه، فيقبلون رأسه وهو قاعد، وكان كثير المال والزهد والورع، متحرياً، في المطعم لا يأكل إلا الأرز من بلاد الهند والكفار وكان قد ابتُلي بالعمى، فرد الله عليه بصره، وفي ذلك قال لما عمَى مخاطباً نفسه:
وقالوا قد دهى عينيك سوء … فلو عالجته بالقَدْحِ زالا
فقلت الربُّ مختبري بهذا … فإن أصبر أنل منه الجلالا
وإن أجزع حرمت الأجر منه … وكان خَصِيصَتي منه الوبالا
وإني صابرٌ راضٍ شكورٌ … ولست مغيراً ما قد أنالا
صنيع مليكنا حسنٌ جميلٌ … وليس لصنعه شئ مثالا
وربي غيرُ متصفٍ بحيفٍ … تعالى ربّنا عن ذا تعالى
فصبراً معشر العميان صبراً … فليس الأجر عند الله محالا
وله أيضاً في المناجاة:
ليتني مت قبل ذنبي فإني … كلما قلت قد قَرُبْتُ بَعُدْتُ
ليتني عندما عصيت ربي … لهواني على الرماد ذُبِحْتُ
ليتني عندما هممت بذنبٍ … بوقود الحصى حُرِقْتُ فَفُتُّ
يا رحيم العباد إن لم تُجِرني … فلنفسي إذن خسرتُ خسرتُ
يا رحيم العباد طرّاً أجرني … وأغثني فقد هلكت هلكت
يا رحيم العباد اجعل جوابي يا عُبَيْدي فقد رحمت رحمتُ
يا رحيم العباد كن لي مجيباً … لا تُخفني وقل غفرت غفرتُ
يا رحيم العباد فارحم خضوعي … وندائي وقل عفوت عفوتُ
يا رحيم العباد ظهري ثقيل … من ذنوبي فقد ضعفت ضعفت
وكان هذا الشيخ الفقيه ظاهر التقوى، مؤالفاً للمسلمين من كل أفق، وله تصنيف مليح في أصول الفقه، سماه «بالإرشاد» وكان له ولدٌ عالم بعلم الكلام والأصول، مع تبريزه في الفقه، يسمى عبد الله، تفقه بأبيه ومات قبله في هذه الجزيرة سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، ومات الشيخ رحمه الله ليلة الخميس لعشر ليال خلون من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وخمسماية وله ثمان وثمانون سنة، وقبراهما هنالك تحت المسجد، يزورهما الصالحون، ويُتبرك بقبريهما، وله ذرية فقراء في هذه الجزيرة إلى اليوم، وهم ذووا مروءة ودين.
قلت: ولما قَضَى الله سفري إلى مكة ومَنَّ عليّ بذلك، واختار لي الطريق في البحر من عدن، سنة أربع وسبعين وخمسمائة، في صحبة الشيخ مُدافع ابن أسعد الزُّقَيْريّ، وعلي بن أحمد بن عبد الله القاضي القُرَيْظي، خطيب عدن، وغيرهما من التجار، إلى أن رقيت سفينتنا في هذه الجزيرة واردين وصادرين، فتبَركتُ بزيارة هذا المسجد والقبرين، وآثار الفقيهين ومواضع التدريس، وأخرج إلىّ رجل اسمه صالح، وهو من ذريته، خَتْمَةً موقوفة في المسجد، ذكر أنها بخط جدّه.
ثم لما مات الفقيه عبد الله بن الشيخ محمد بن عبدويه، كتب إليه الفقيه عمر بن علي بن أسعد السلالي ثم الكناني، قصيدة يرثي فيها ولده المذكور، ويصف جودة علمه ويمدحه بالمعرفة والكمال، فقال في بعضها:
أمِن بعد عبد الله نجل محمد … يصون دموع العين من كان مسلما
وقد غاض بحر العلم مذ غاب شخصه … ولكنّ بحر الوجد من بعده طما
تضعضع بنيان العلوم لفقده … وأصبح وجه الدرس أرمد أقتما
غدا كل نور في الجزيرة خامداً … فأصبح ركن العلم ثَمَّ مهدما
فيا منهلاً تُروى القلوب بِوِرْدِهِ … شهدت لقد أورثتها بعدك الظما
فيا أيها الشيخ الإمامُ تصبُّرا … وإن كنتَ أهدَى من سواكا وأحلما
هو الدهر لا يبقي على حالةٍ معاً … يُدير على أهلِه بؤساً وأنعُما
فحيناً تراه بأسر الوجه عابساً … وحيناً تراه ضاحكاً متبسما
وما أبقت الدنيا مطاعا مسوّدا … ولا مَلِكاً في السالفين مكرما
فأين جُدَيْسٌ أين طَسْمٌ وجُرْهُمٌ … ألم تطمس الأيام طسْماً وجُرهما
أَما أهلكت عاداً ومنْ كان قبلَها … ومَن بَعْدَها مَنْ ذا مِنَ القَدَرِ أحتمى
والمرثية طويلة تزيد على خمسين بيتاً، ويقال أنه كان على هذا الفقيه الفتى ألف دينار، قضاها عنه هذا الشيخ والده رحمهما الله.
وكان الشيخ محمد بن عبدويه مفخماً عند الناس، معظماً كثير المال كبير الجاه، كريم النفس، غزير العلم، فارتحل إليه الناس وكبار فقهاء اليمن، لكثرة علمه وجودة إتقانه وفهمه، كالفقيه عبد الله بن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله الهمداني من زَبَران، ورفيقه عبد الله بن يحيى الصعبي من سَهْفَنَه، وكانت رحلتهما سنة خمس وخمسمائة، وزيد بن الحسن بن محمد الفايشي من بلد أحاظة وعمر بن علي بن أسعد السلالي من نخلان، ومحمد وخير ابنا أسعد بن الهيثم المقدم ذكرهما، وتأريخ قراءتهما عليه سنة تسع عشرة وخمس مائة، وعيس بن عبد الملك المعافري، ويحيى بن محمد بن عمر بن محمد بن أبي عِمران من شواحِط، وعمر بن عبد العزيز بن أبي قرّة، وأخوه عبد الله، من أهل أبين ولحج، وراجح بن كهلان من أهل زبيد، وأسعد بن أبي زيد التباعي وغيرهم، (أخبرني به الفقيه أحمد بن عمر بن علي بن أسعد السلالي كتابة) فأخذو عنه «المهذب» وتصانيف الشيخ أبي إسحاق في أصول الفقه وبعضهم روى عنه «إرشاده» في أصول الفقه، وتفقه به خلق كثير.
ومن أصحابه، الفقيه حسن بن أبي بكر الشيباني، قرأ عليه بعض «التنبيه» فسألته عن ذلك فقال: إلى النكاح، والله أعلم.
طبقات فقهاء اليمن، تأليف: عمر بن علي بن سمرة الجعدي من ص: 144 وحتى ص: 149