سليم بك تقلا
سليم بك تقلا 1849م – 1892م.
مؤسس جريدة الأهرام
في سفح لبنان مما يلي ساحل مدينة بيروت قرية حسنة الموقع، جيدة الهواء والماء، كثيرة البساتين والغياض، اسمها كفر شيما، نبغ فيها جماعة كبيرة من العلماء، ملأت شهرتهم الأسماع؛ منهم اللغوي المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي، وسائر آل اليازجي، والعلماء الأفاضل آل شميل الكرام، ومنهم المرحوم أمين شميل وشقيقه الدكتور شبلي شميل، وغيرهم من الأطباء والشعراء والأدباء. ومن هذه القرية نبغ صاحب الترجمة المرحوم سليم بك تقلا مؤسس جريدة الأهرام.
ولد (رحمه الله) في أواسط سنة 1849م، وربي في حجر والديه على الصلاح والتقوى وحسن السيرة، وظهرت عليه مخائل النجابة منذ نعومة أظفاره، فتلقى مبادئ العلوم في مدرسة تلك القرية، ففاق أقرانه، فلما رأى والده فيه ذلك سعى في إدخاله مدرسة عبيه بلبنان، ولكن المدرسة لم تكن تقبل في صفوفها من كان دون الخامسة عشرة من عمره، فاستنجد الدكتور فان ديك فأنجده وتوسط في إدخاله، فقبلته المدرسة واغتفرت صغر سنه بما توسمته من توقد ذهنه واستعداده، فأقام في المدرسة يتلقى علومها ومعارفها، حتى أعجب أساتذتها بذكائه وتعقله على صغر سنه، مع سهولة في خلقه، ولين في طبعه، وهمة في الدرس، واجتهاد في مسابقة أقرانه.
وما زال مكبا على كتابه وكتابته حتى كانت سنة 1860م، فانتشبت في ربوع الشام الثورة المعلومة، فاتصل لهيبها بعبيه وما جاورها، فبرح المدرسة ونزل مدينة بيروت، ودخل المدرسة الوطنية التي أنشأها الطيب الذكر المرحوم المعلم بطرس البستاني.
وعكف على الدرس والمطالعة مجدا ساهرا حتى أصبح مثالا بين أقرانه التلامذة بالثبات والاجتهاد؛ لأنه كان يعمل ساعات الفراغ أعمالا يستعين بها على نفقات التعليم، شأن من يلتمس العلى بجده واجتهاده.
فلما أتم دروسه تعين أستاذا في المدرسة البطريركية في بيروت، يعلم بها ما أتقنه، ويتقن ما فاته؛ وخصوصا الفنون العربية، فإنه كان يتلقاها على الشيخ ناصيف اليازجي، وكان الشيخ (رحمه الله) معجبا بذكائه وحدة ذهنه، وكان يعتمد عليه أحيانًا في شرح بعض الدروس على طلبته؛ دلالة على ثقته به وركونه إلى صحة مباديه وسمو مداركه، ولم يمض عليه في المدرسة البطريركية مدة حتى صار رأس أساتذتها، ووكيل أعمالها، ومدير شئونها، وألف في أثناء ذلك كتابًا في النحو والصرف على أسلوب مبتكر طبع ونشر، وكان الاعتماد عليه في تلقي هذين العلمين في المدرسة البطريركية.
وكان (رحمه الله) مفطورا على حب الرفعة والسعي في طلب العلى، فلما رأى أنه بلغ من مهنة التدريس أعلى درجاتها مال إلى التماس مهنة تروي مطامعه، فلاح له أن يقدم إلى الديار المصرية، وهي إذ ذاك في عصر المغفور له الخديوي الأسبق إسماعيل باشا الذي كان يُحبِّب إلى السوريين وغيرهم من جالية الإفرنج الإقامة في مصر؛ لما يبذله في صلاتهم وتنشيط مشروعاتهم، وخصوصا المشروعات الأدبية؛ فنظم قصيدة تاريخية رنانة في مدح الخديوي إسماعيل، وغادر ربوع الشام قاصدا للقطر المصري حتى جاء القاهرة، فرفع قصيدته - المشار إليها - إلى الخديوي الأسبق، وتعرف بجماعة من أهل الفضل وذوي المناصب، فقربوه منهم، فلاح له أن ينشئ جريدة عربية، والجرائد العربية لا تزال إلى ذلك العهد جرثومة لا تكاد تنقف عن جنينها، والناس لا يعرفون من الجرائد إلا اسمها، مع تردد الحكومة في الإذن بنشرها، فقضى سنة يتردد بين مصر والإسكندرية يجاهد في الحصول على امتياز الجريدة، فمنحته الحكومة امتياز جريدة الأهرام سنة 1875م، فأصدرها بالإسكندرية وليس لديه من معدات التحرير والتحبير والنشر والطبع إلا ما فطر عليه من الثبات وحسن التصرف والاستقامة، وما اكتسبه من العلم والاختبار، مع شيء يسير من المعدات المادية؛ فقاسى في سبيل نشر الأهرام مشقات جسيمة، مع علمك باستهجان الناس إذ ذاك للجرائد؛ لحداثة عهدها، مع قلة وسائل النشر لديه؛ ولكنه ذلل كل تلك الصعاب بثباته وحسن سياسته.
ومما قاله لنا مرة في سياق حديث دار بيننا عن الجرائد العربية وتاريخ نشأتها قوله: أنشأت الأهرام وأنا عالم بما يحول دون نشرها من المصاعب، فكنت أقضي النهار والليل عاملا بدنا وعقلا، فكنت أحررها وأديرها وألاحظ عملتها وأكتب أسماء مشتركيها وأتولى أعمالها مما يقوم به الآن عشرة من العمال.
وصدرت الأهرام أولا مرة في الأسبوع، ولم يستطع نشرها يومية إلا بعد زمن طويل؛ وذلك أنه بعد إصدار الأهرام ببضع سنوات أصدر جريدة يومية سماها صدى الأهرام، والأهرام تصدر أسبوعية كالعادة، فلاقى في إصدار الصدى فوق ما لاقاه في إصدار الأهرام.
ومما يحكى من هذا القبيل، وفيه دليل على ثباته، أنه طبع من صدى الأهرام لعدده الأول أربعة آلاف نسخة وزعها على نخبة أهل القطر وأعيانه، كجاري العادة في الجرائد عند أول صدورها، فرجعت إليه إلا بضع عشرات منها، على أن ذلك لم يثن عزمه، بل ما انفك مواظبًا على إصداره حتى صدر أمر الحكومة بإلغائه وإقفال المطبعة؛ لأنه درج أمرا ساء الخديوي الأسبق، فاستتر صاحب الترجمة من وجه الحكومة مدة، وسجن أخوه المرحوم بشارة باشا، ثم توسط بعض أهل النفوذ فأفرج عن المطبعة وأصحابها، فأصدر (رحمه الله) جريدة الوقت يومية، ولكنها لم تعش طويلا، فصدر الأمر بإقفالها، ثم عادت فظهرت حالا، وأخيرا استبدلها بجريدة الأهرام فصارت من ذلك الحين يومية.
وما زالت الأهرام آخذة في العمل لا تزداد إلا انتشارا ورفعة، حتى كانت الحوادث العرابية سنة 1882م؛ فاضطر (رحمه الله) للمهاجرة إلى سوريا كما فعل سائر نزالة هذا القطر غير المصريين.
فلما احترقت الإسكندرية أصابت النيران مطبعة الأهرام، فأحرقت شيئًا كثيرًا من أعماله وكتاباته ومؤلفاته، فلما انقشعت غياهب تلك الثورة عاد إلى الإسكندرية وأعاد إصدار الأهرام، وعوض عما فات.
وما زالت تصدر إلى الآن، وخطتها وطنية عثمانية منتصرة لفرنسا ومجاهرة بالمقاومة للاحتلال الإنكليزي.
وفي سنة 1886م سافر إلى دمشق، واقترن بسيدة من كرام الدمشقيين اشتُهرت بالجمال واللطف، ثم عاد إلى الإسكندرية يمارس أعمال الجريدة ويعاني تحريرها، وفي سنة 1891م سافر إلى فرنسا، فزار عاصمتها وكثيرا من مدنها وقراها، وكان يكاتب الأهرام منها، وفي السنة التالية (1892م) أصيب بألم في القلب، فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى سوريا لتبديل الهواء، فسار ولكن القضاء المبرم كان في انتظاره هناك، فقضى وطار نعيه في الآفاق، ودفن بما لاق بمقامه من التجلة والإكرام، ولم يخلف ذرية.
وكان (رحمه الله) هماما حازما، مخلصا مسالما، سهل الأخلاق، وديعا، رقيق الجانب، ما عاشره أحد أو عامله إلا وأثنى على رقة جانبه، ودماثة أخلاقه، وحبه للمسالمة، ورغبته في إرضاء الناس ولو تحمل منهم ضيما أو تكبد خسارة؛ وقد كان ذلك من أهم الوسائل التي ساعدت على نشر الأهرام وإقبال الناس على مطالعتها حتى بلغت ما بلغت من سعة الانتشار، على أننا لو دققنا البحث في العوامل الأساسية التي أيدت الأهرام ونشرتها لرأيناها ثلاثة:
1 حسن سياسة صاحب الترجمة وميله إلى المسالمة.
2 نشاط شقيقه المرحوم بشارة باشا، وكان مدير الأهرام إذ ذاك، ثم قام بعده بكل شئونها حتى توفاه الله سنة 1901م، فصارت الأهرام إلى نجله جبرائيل.
3 مساعدة بعض أرباب المناصب العالية؛ فإنهم كانوا ينشطونها إلى درجة لا تكاد تقل عن حمل الناس على الاشتراك فيها، فضلا عن اشتراكات الحكومة نفسها؛ فإنها كانت تعد بالمئات.
وكان حائزا لرضاء الدولة العلية، متمتعا بإنعاماتها وإنعامات الدول الأخرى، وبعض المجامع العلمية، وحاز من الرتب العليا الرتبة الأولى من الصنف الأول، ونال من النياشين النيشان المجيدي الثاني، ونيشان اللجيون دونور من رتبة شفاليه، ونيشان الافتخار التونسي من رتبة كومندور، ونيشان الشمس والأسد من تلك الرتبة، ونيشان المجتمع العلمي الفرنساوي من رتبة أوفيسيه، وغير ذلك.
وكان سليم الذمة صادق الوعد، ومما يذكره العارفون من هذا القبيل أن والده توفي عن دين عليه، ولم يكن أصحاب الدين ينتظرون الوفاء من أولاده، فلما أنعم الله عليهم وسهل لهم أبواب الرزق اتفق الإخوة، وصاحب الترجمة في مقدمتهم، على وفاء ما في ذمة والدهم من أموال الناس، فسافر هو بنفسه إلى بلاد الشام، ولاقى الدائنين ودفع إليهم أموالهم.
وكان محبٍّا للأخذ بناصر الشبان الذين يلتمسون الأشغال، ولا سيما أبناء وطنه، فيبذل كل مرتخص وغال في سبيل مساعدتهم أدبيا وماديا.
وكان كاتبا فاضلا، وشاعرا مجيدا، تشهد بذلك مقالاته وقصائده في صفحات الأهرام، وقد جمعت منتخبات أشعاره ومقالاته بعد وفاته وطبعت على حدة في ديوان ضخم، وجمعت أقوال الجرائد وقصائد الأصدقاء ومقالاتهم في تأبينه ورثائه في كتاب آخر.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 113 – 118.