اليازِجي
(1214 - 1287 هـ = 1800 - 1871 م)
ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط، الشهير باليازجي:
شاعر من كبار الأدباء في عصره. أصله من حمص (بسورية) ومولده في (كفرشيما) بلبنان، ووفاته ببيروت. استخدمه الأمير بشير الشهابي في أعماله الكتابية نحو 12 سنة، انقطع بعدها للتأليف والتدريس في بعض مدارس بيروت، وتوفي بها.
له كتب، منها (مجمع البحرين - ط) مقامات و (فصل الخطاب - ط) في قواعد اللغة العربية، و (الجوهر الفرد - ط) في فن الصرف، و (نار القرى في شرح جوف الفرا - ط) في النحو، و (مختارات اللغة - خ) بخطه، و (العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب - ط) هذبه وأكمله إبراهيم، و (ثلاثة دواوين شعرية) سماها: (النبذة الأولى - ط) و (نفحة الريحان - ط) و (ثالث القمرين - ط) ولعيسى ميخائيل سابا كتاب (الشيخ ناصيف اليازجي - ط) في أدبه وسيرته .
-الاعلام للزركلي-
الشيخ ناصيف اليازجي
1800 – 1871م
ترجمته.
هو الشاعر المطبوع، واللغوي المدقق، والنحوي المحقق أحد أركان النهضة اللغوية في بلاد الشام، ابن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي، اللبناني المولد، الحمصي الأصل، هاجر جده سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذويه نحو سنة 1690م؛ لحَيْفٍ لحقهم في تلك الديار، فتوطّن أناس منهم في ساحل لبنان في الجهة المعروفة بالغرب، وآخرون في وادي التيم، وتفرّق بعضهم في مواطن أخرى، ولا تزال بقية أسرتهم في حمص ونواحيها، وهم عشيرة كبيرة من ذوي الوجاهة واليسار.
وكان مولد صاحب الترجمة في قرية كفر شيما، من قرى الساحل المذكور، في 25 مارس سنة 1800م، وكانت وسائل التعليم إذ ذاك محصورة في جماعة الإكليروس، فتلقى القراءة البسيطة على يدي القس متَّى من قرية بيت شباب، وكان والده من الأطباء المشهورين في وقته على مذهب ابن سيناء، وكان مع ذلك أديبا شاعرا، إلا أنه كان قلما يتعاطى النَّظم؛ لقلة الدواعي إليه إذ ذاك، ومن شعره أبيات قرظ بها ديوان الخوري حنانيا المنير أحد شعراء ذلك العصر، لم يحفظ منها إلا بيتان رواهما لنا حضرة حفيده اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء، وقد اعتمدنا عليه في تحقيق أكثر ما أثبتناه في هذه الترجمة؛ أما البيتان فهما قوله في مطلع ذلك التقريظ:
عش بالهنا والخير والرضوان يا من عُنيت بنظم ذا الديوان.
إني لقد طالعته فوجدتُه نظمًا فريدًا ما له من ثان.
فنشأ ولده على الميل إلى الأدب والشعر، وأقبل على الدرس والمطالعة بنفسه، وتصفّح ما تصل إليه يده من كتب النحو واللغة ودواوين الشعراء، ونظم الشعر وهو في العاشرة من عمره، ومن نظمه في الصبا قوله:
ولمَّا تثنَّى وهو ريان معطف يميل على سفح العقيق ويخطرُ
تذكَّرت أغصان الرياض يهزّها نسيم الصبا والشبه بالشبه يذكر
ومن ذلك قوله أيضا:
كفًّ عني لا أبا لك قد تبينَّا محالك
وعرفناك وإلا فمتى نعرف حالك
قد مضى لي بك عصر حاملًا فيه ملالك
حسب قلبي منك جورٌ کاد منه يتهالك
وكفانا ما احتملنا منك فاستدع احتمالك
سنرى النادم منَّا ويسيء الله فالك.
وما لم تكن الكتب لذلك العهد ميسورة - لقلة المطبوع منها - إذ لم يكن في البلاد السورية ولا المصرية إلا مطابع نادرة قلما كانت تشتغل بطبع الكتب العلمية؛ كان جُلَّ معتمده على كتب يستعيرها من بعض الأديار والمكاتب القديمة، فمنها ما يقرأها مرة فيحفظ زبدتها، ومنها ما ينسخها بخطه، ولا يزال كثير من تلك الكتب باقيًا إلى اليوم محفوظا عند أُسرته، وهي جميلة الخط على القاعدة الفارسية، وبعضها يبلغ عدة مئات من الصفحات.
وقد بلغ من كل علم من علوم العربية لبابه، ودرس أشهر مصنفاته، وله في جميعها تأليف مشهورة، هي اليوم عمدة التدريس في أكثر المدارس المسيحية، وله ثلاثة دواوين شعرية تعدُّ من عيون الشعر، كثير منها محفوظ على الألسنة؛ ولا سيما الأبيات الحكمية منها، وهي في شعره أكثر من أن تُحصى.
وله المقامات المشهورة باسم مجمع البحرين، وهي ستون مقامة أودعها من فنون الإنشاء وصناعات البديع ومن غريب اللغة وألفاظها المنتقاة وأمثال العرب والآيات الشريفة؛ ما دلَّ على طول باعه وغزارة محفوظه وذلك فضلا عما أودعها من المسائل العلمية في كل فن وما ضمن شرحها من تواريخ العرب وأنسابهم ووقائعهم.
ثم إنه لما بلغ أشده اتصل بالأمير بشير الشهابي الشهير (راجع ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب)، فقرَّبه إليه وجعله كاتبًا ليده، فلبث في خدمته اثنتي عشرة سنة، وما كانت سنة1840م - وهي السنة التي خرج فيها الأمير بشير من البلاد الشامية انتقل صاحب الترجمة بأهل بيته إلى بيروت فأقام بها وتفرغ للمطالعة والتأليف والتدريس ونظم الشعر ومراسلة الأدباء، حتى لهج بذكره القُطران؛ الشامي والمصري.
وكانت تتوارد إليه ركائب الزائرين من كل صقع وفيهم العلماء والوزراء، وفي جملة من زاره منهم محمد عزت باشا أحد قواد الجنود السلطانية، فمدحه بأبيات ارتجالية، يقول في مطلعها:
أعطى محمد عزة من فضله شرفًا لساحتنا بوطأة نعله.
ومنها يقول:
يا زائرا بيتي أراك فتنتهُ فعليك بيت غيره من مثله
أجللته عني فصرت أهابه حتى كأني لم أكن من أهله
وأقبل أكابر الشعراء من جميع الأنحاء العربية على مراسلته، ومدحوه بما دلّ على وفور فضله وعلو كعبه في الشعر والأدب، ومما قال فيه الشيخ عبد الباقي العمري البغدادي، حين وقف على النبذة الأولى من ديوانه:
على نبذة من شعر ناصيف ذي الفضل وقفت ومني العين في موضع الرجل
وطأطأت إجلالاً لها رأس شامخ لأخمصه هام العلى موطئ النعل.
وهي قصيدة طويلة يقول منها:
إذا أنكرت دعواه في الشعر فتيةٌ أقام عليها شاهد العقل والنقل
وإن رام شعري أن يباري شعره يقول شعوري إنني عنك في شغل
وقرَّظ هذه النبذة أيضًا الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري بقصيدة مطلعها:
هكذا تنسق اللآلي وتنضد هكذا تجمع المعاني وتحشد
هكذا هكذا الكلام كلامٌ صيغ درًّا بفكرة تتوقد
ومن هذه القصيدة يقول:
ما سمعنا بمثله عيسويًّا يتحدى بمثل معجز أحمد
ألمعي لكنه عيسوي كان أولى بفضل دين محمد
ومما قال فيه الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي:
ورا معانيه يصلي الورى إذا جرى الفرسان يوم الرهان
صرح بأن الفضل أمسى له ودع أحاديث فلٍ أو فلان
وكفى بهذا القدر شاهدًا على منزلته في عيون جلَّة العلماء من أهل عصره، وهي أول مرة مدح فيها مسيحي بمثل هذا الكلام، وأجمع مثل هذه الطبقة على إطرائه وتفضيله، ومن رام الوقوف على سائر أقوالهم فيه فليطالع ذلك في مجموعة هذه المراسلات المسماة بفاكهة الندماء.
ثم إنه ما زال عاكفا على التعليم والتصنيف والنظم والنثر حتى أصيب بمرض عضال سنة 1869م، فانفلج فالجًا نصفيًّا عطّل شطره الأيسر، فلزم داره، ولكنه ما برح ينظم الشعر ويتلقى السائلين والمستفيدين، إلى أن فاجأه القدر بوفاة بكره المرحوم الشيخ حبيب، فوقع ذلك الحادث عليه وقوع الصاعقة، ولم يعش بعد ذلك إلا أربعين يومًا، وكان قد بدأ بنظم قصيدة يرثيه بها، ثم غلب عليه الحزن حتى لم يعد يملك عنان قريحته؛ ومما نظم في هذه القصيدة قوله:
ذهب الحبيب فيا حشاشة ذُوبي أسفًا عليه ويا دموع أجيبي
ربيته للبين حتى جاءه في جنح ليل خاطفًا كالذيب
يا أيها الأم الحزينة أجملي صبرًا فإن الصبر خير طبيب
إني وقفت على جوانب قبره أسقي ثراه أسقي ثراه بمدمعي المصبوب
ولقد كتبت له على صفحاته يا لوعتي من ذلك المكتوب
لكَ يا ضريح محبة وكرامة عندي لأنك قد حويت حبيبي
وهي آخر ما نظمه، وبعد أيام عاودته السكتة الدماغية فمات فجأة، وكانت وفاته في 8 شباط (فبراير) سنة 1871م بعدما لزمه الداء ما يقرب من سنتين، فعظم خطبه عند كل من عرف فضله أو سمع بذكره، وكان له مأتم حافل شهده الكبراء والعظماء من بيروت ولبنان ومشى في جنازته ما ينيف عن عشرة آلاف نفس.
وولد له 12 ولدًا ورثوا ذكاءه وسرعة خاطره، ولم يخلفه منهم في خدمة اللغة وآدابها إلا الشيخ إبراهيم صاحب الضياء.
صفاته
وكان (رحمه الله) معتدل القامة فوق الربعة، أسمر اللون حنطيه، أسود الشعر، أجش الصوت، مهيبًا، وقورًا، شهمًا كاملًا، متواضعًا، متأنيًا في حديثه، قليل الضحك، عفيف اللسان، لم تُسمع له كلمة بذيئة قط؛ لا في حديثه ولا في كتابته، ولم يهجُ أحدًا ولا هجاه أحدٌ في زمانه غير بيتين قالهما على سبيل الفكاهة في بخيل؛ وهما:
قد قال قوم إن خبزك حامض والبعض أثبت بالحلاوة حكمه
كذب الجميع بزعمهم في طعمه من ذاقه يومًا ليعرف طعمه
وكان إذا ذُكر أحد أمامه بسوء أطرق وأغضى كأنه لا يسمع، وكان ودودًا مخلصا، سريع الفهم، قوي الذاكرة، متسع المدارك، إذا حدث أخذ بمجامع القلوب لكثرة رواياته ونكاته وكان يروي القصة بتواريخها وأسماء أصحابها وأسماء بلدانهم، ولم يكن على شيء من التأنق في اللفظ، ولكن حديثه كان كأبسط أهل وقته.
ومن غريب ذاكرته أنه كان إذا نظم الشعر لا يكتبه بيتًا بيتًا، ولكنه كان ينظم الأبيات ثم يكتبها، حتى إنه في مدة اعتلاله نظم مرة ثمانية عشر بيتًا ثم أملاها دفعة واحدة، وقد ألف إحدى مقاماته، وهي المقامة اليمامية، على ظهر الفرس، وكان مسافرًا بأهل بيته من بيروت إلى بحمدون سنة 1853 بقصد الاصطياف، فلما انتهى إليها أخذ قرطاسًا فعلقها، وكان يحفظ القرآن بتمامه، ويعي من الشعر شيئًا كثيرًا؛ ولا سيما شعر المتنبي؛ لشدة إعجابه به، وكان يقول: كأن المتنبي يمشي في الجو وسائر الشعراء يمشون على الأرض.
شعره:
أما شعره فهو النهاية في السلاسة والانسجام وحسن اختيار الألفاظ والتراكيب، فضلًا عما له من المعاني المبتكرة، والإكثار من الحكمة، وضرب الأمثال، ومع قلة رغبته في الغزل فإن الغزل القليل الذي له في منتهى الرقة، مثل قوله:
وقوله:
يا ناحل الأعطاف معشوقا تُرى أتلوم مثلي عاشقًا أن ينحلا
حاولت سفك دمي بعينك ثانيًا هيهات قد سفكته عيني أولا
وقوله:
حواك وقد حللت بكل قلب فؤاد فؤاد لـم يـحـل بـه سـواك
نزلت به على طلل تفانی ولست بمن على طلل تباكى
أطعت العاذلين بقتل صب يريد القتل لكن عن رضاكا
تعز كرامة ويهون ذلا فتأنف أن يقولدمي فداكا
وقوله:
أخاف إذا أشار براحتيه لعلمي أن روحي في يديه
ويخفق عند نظرته فؤادي لأن سواده من مقلتيه
وقوله:
إن كان يلبس ما أفاد تجملا فبياض هذا الجيد تلبسه الحلى
وإذا تزيَّنت العيون بكحلها فلقد نراه بمقلتيك تكحلا
يا ناحل الأعطاف معشوقا تُرى أتلوم مثلي عاشقًا أن ينحلا
وقوله - وهو مما نظمه في صباه:
ألوى عليَّ فضمني وضممته وصدورنا بصدورنا لم تعلم
أهوي عليه وفيَّ عفة يوسف حتى يميل وفيه عفةمريم
ومن نظمه في المديح قصيدة مدح بها أسعد باشا قائد جيش البلاد العربية، قال
إذا قام من تحت السرادق راكبًا أقام عجاجـا فـوقـه كـالسرادق
ولما رأينا كيف تنقضُّ خيله علمنا بها كيف انقضاض الصواعق
تفارق أطراف البلاد خيوله وأصواتها في قلبها لم تفارق
وله في الحِكَم شيء كثير، منه قصيدة جرت أبياتها مجرى الأمثال، مطلعها:
لعمرك ليس فوق الأرض باق ولا مما قضاه الله واق
ومنها:
أضلُّ الناس في الدنيا سبيلا محبٌّ بات منها في وثاق
وأخسر ما يضيع العمر فيه فضول المال تُجمع للرفاق
ومنها:
ألا يا جامع الأموال هلَّا جمعت لها زمانًا لافتراق
رأيتك تطلب الإبحار جهلا وأنت تكاد تغرق في السواقي
إذا أحرزت مال الأرض طرًّا فما لك فوق عيشك من تراق
أتأكل كل يوم ألف كبشٍ وتلبس ألف طاق فوق طاق
فضول المال ذاهبة جزافا كماء صُب في كأس دهاق
وله من قصيدة
متى ترى الكلب في أيام دولته فاجعل لرجليك أطواقًا من الزرد
واعلم بأن عليك العار تلبسه من عضة الكلب لا من عضة الأسد
وله في صناعة التاريخ الشعري اليد الطولى والتفنُّن الغريب، ولم يحدث حادث هام في أواسط القرن الماضي يستحق حفظ تاريخ حدوثه إلا نَظَمَ الشيخ اليازجي أبياتًا في تاريخه، ومن أشهر ما نظمه في هذا الباب بيتان قالهما في فتح عكاء، يتضمنان 28 تاريخًا، وبيتان آخران نظمهما في السلطان عبد العزيز، وله من هذا القبيل قصيدة هنأ بها إبراهيم باشا المصري بفتح عكا، ضمَّن كل بيت منها تاريخين لسنة 1248ه، يقول في مطلعها:
الزهر تبسم نورًا عن أقاحيها إذا بكى من سحاب الفجر باكيها.
ومع التزامه التاريخ فيها لا ترى تكلُّفا في تركيبها مطلقا.
ومن مديحها قوله:
كل البلايا من الدنيا متى نزلت بنا فنيران إبراهيم تطفيها
نار ونور متى قال النزال له والجود هات يدا لم يلق ثانيها
وله قصيدة من هذا النوع في مدح السلطان عبد العزيز، وقد أمر له بالإنفاق على طبع بعض كتبه من الخزينة الخاصة، مطلعها:
قف بالمطايا على اتحاد ذي سلم وقل سلام على من دام في الخيم
ومن مخترعاته في فن النظم عاطل العاطل؛ وهو أن تكون أحرف الكلمة خالية من النقط، وإذا تهجأت اسم الحروف كان هجاؤه أيضًا خاليًا من النقط، وهذه الأحرف ثمانية فقط؛ وهي الحاء والدال والراء والصاد والطاء واللام والهاء والواو، وقد نظم من هذا الجناس أربعة أبيات في مقاماته مجمع البحرين، وهي هذه:
حول درٍّ حلَّ ورد هل له للحر وردُ
لحصور حلو وصل ورده للصحو طردُ
وله حولٌ وطولٌ ولــه صـــد ورد
دهره حرٌّ صدور هل له لله حدُّ
وقد نظم من جناس ما لا يستحيل بالانعكاس أربعة عشر بيتًا، وهي أيضًا في مقاماته، ولم يُسمع بهذا المقدار الشاعر قبله، ونظم بيتين طردهما مديح وعكسهما هجاء، وهذا من مبتكراته، وهما في المقامات أيضًا، وله فيها غير ذلك من الفنون مما نستغني عن سرده بشهرتها.
مؤلفاته
وأما مؤلفاته - سوى ما تقدم ذكره من دواوينه ومقاماته - فمعظمها من الكتب المدرسية لتلقي العلوم الأدبية، وقد سلك فيها؛ ولا سيما في الصرف والنحو، مسلكا تدريجيًّا يناسب حالة الطالب في كل سن؛ فمنها المختصر الذي لا اختصار بعده؛ کالرسالة المسماة بالجوهر الفرد، وقد جمع فيها الصرف والنحو في ست صفحات؛ ومنها المطوّل الذي أتى فيه على أشهر أقوال المصنفين في هذين العلمين، مع الإحاطة بجميع قواعدهما وتعليل أحكامها؛ كالأرجوزتين اللتين سمَّى إحداهما الجُمانة في علم الصرف، والأخرى جوف الفرا في علم النحو، تشتملان على ما يزيد عن ألف وخمسمائة بيت، وكل واحدة منهما مشروحة بقلمه شرحًا مستوفيًا، وله بين ذلك تآليف أُخر منهابالنثر، وهي فصل الخطاب في الصرف والنحو أيضًا، وهو جامع لأصول هذين العلمين، وقد وقع إجماع المدرسين على أنه أفضل متن وضع فيهما، وقد جمع فيه بين الإحاطة والاختصار، حتى لا يمكن أن يُحذف منه كلمة ولا يزاد عليه كلمة.
وفي طبقته وعلى أسلوبه عقد الجمان في علم البيان، ونقطة الدائرة في العروض والقوافي، وقطب الصناعة في المنطق، وهذه الكتب الأربعة مشروحة بقلمه. ومن ذلك أرجوزتان مختصرتان في الصرف والنحو، مشروحتان بقلمه أيضًا، سمَّى الأولى لمحة الطرف في أصول الصرف، والثانية الباب في أصول الإعراب، ومختصر آخرُ في النحو سمَّاه طوق الحمامة، وهو نثر. وله في البيان أرجوزة مختصرة سماها الطراز المعلم، وأرجوزة أُخرى في النطق سماها التذكرة، وشرح كلا منهما شرحًا موجزا، وله أرجوزة مطولة في فن العروض والقافية، وهذه شرحها ولده المرحوم الشيخ وهذه التآليف كلها مطبوعة.
ومن مؤلفاته التي لم تُطبع، رسالة في التوجيهات النحوية، سماها عمود الصبح، انتهى فيها إلى المفعول فيه، ولم يُفسح له في الأجل لإتمامها، وأرجوزة مختصرة في الطب القديم سماها الحجر الكريم، وشرحها بقلمه، ومعجم في أعضاء الإنسان والصفات التي على أفعل سمَّاه بجمع الشتات في الأسماء والصفات، وشرح لبديعيته سماه القطوف الدانية، استوفى فيه جميع الجناسات والأنواع البديعية.
وكان قد شرع في وضع شرح لديوان المتنبي، وكان يعلق عليه الحين بعد الحين بما يعن له من التفاسير؛ ولا سيما للأبيات الغامضة، فأتمه من بعده ولده الشيخ إبراهيم وسماه العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، وقد طبع هذا الشرح سنة 1882م.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 19 – 30.
الشيخ ناصيف اليازجي
(1800 ـ 1871م)
مولده ونشأته: هو ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي اللبناني المولد، الحمصي الأصل، هاجر جده سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذويه نحو سنة 1690م، فتوطن أناس منهم في ساحل لبنان، وآخرون في وادي التيم، وتفرق بعضهم في مواضع أخرى، ولا تزال بقية أسرتهم في حمص ونواحيها، وهم عشيرة كبيرة من ذوي الوجاهة واليسار، وأكثرهم من طائفة الروم الأرثوذكس، أما فرع الشيخ ناصيف فإنه ينتمي إلى الروم الكاثوليك.
كان مولده في قربة كفرشيما من قرى لبنان في 25 آذار سنة 1800م، وتلقى مبادىء القراءة على راهب من بيت شباب، وكان والد المترجم من الأطباء المشهورين في عصره على مذهب ابن سينا، وكان مع ذلك أديباً وشاعراً، إلا أنه كان قل ما يتعاطى النظم لقلة المناسبات إليه إذ ذاك.
نشأ المترجم على الميل إلى الشعر، وأقبل على الدرس والمطالعة بنفسه وتصفح ما تصل اليه يده من كتب النحو واللغة ودواوين الشعر، ونظم الشعر وهو في العاشرة من عمره، وكان يستعير الكتب من الأدباء والمكاتب القديمة فيقرأها ويحفظ زبدتها لقلة الكتب المطبوعة في عهده، وقد بلغ من كل علم لبابه ودرس أشهر مصنفاته.
مؤلفاته: له تآليف مشهورة بين مختصر ومطول، هي اليوم عمدة التدريس في أكثر المدارس السورية والمصرية، لما هي عليه من الوضوح وحسن الترتيب، أشهرها: 1 ـ(فصل الخطاب في أصول لغة الإعراب)، 2 ـ (الجوهر الفرد) في موجز الصرف، 3 ـ (طوق الحمامة) في مبادىء النحو، 4 ـ أرجوزة «لمحة الطرف في أصول الصرف»، 5 ـ أرجوزة «الباب في أصول الإعراب» في النحو، 6 ـ (الجمانة في شرح الخزانة) وهو مطول في الصرف، 7 ـ (نار القرى في شرح جوف الفرا)، 8 ـ (عقد الجمان في المعاني والبيان)، 9 ـ (الطراز المعلم)، 10 ـ (نقطة الدائرة) في العروض والقافيـة، 11 ـ (اللامعـة فـي شرح الجامعة)، 12 ـ (قلب الصناعة)، 13 ـ (التذكرة) وهي أرجوزة في أصول المنطق، 14 ـ (القطوف الدانية) وهو شرح طويل على بديعيته، 15 ـ (مجموع الأدب في فنون العرب) وهي مجموعة في المعاني والبيان والبديع والعروض، 16 ـ أرجوزة مختصرة سماها (الحجر الكريم في الطب القديم)، 17 ـ معجم بعنوان (جمع الشتات في الاسماء والصفات) لم ينشر بالطبع.
وقد ساعد المرسلين الأميركيين في ترجمة الكتاب المقدس، ونظم لهم المزامير وبعض الأغاني الدينية، وكان قد شرع في وضع شرح لديوان المتنبي لم يستوفه، فأتمه بعده ولده الشيخ إبراهيم وسماه (العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب)، وذيله بنقد مطول على شعر المتنبي.
18 ـ وأشهر تآليفه وأعظمها مقاماته المعروفة باسم (مجمع البحرين) التي عارض فيها مقامات الحريري، وهي ستون مقامة ضمنها من بلاغة الإنشاء والفوائد اللغوية والعلمية وتواريخ العرب وأمثالهم، وأودعها من الفنون البديعية الصعبة المرتقى في بعض منظوماته كالجناسات الخطية وجناس ما لا يستحيل بالانعكاس وغيرها.
وقد تفنن في صناعة التاريخ الشعري تفنناً غريباً يقضي له بالسبق في هذا المضمار على الشعراء قاطبة، ووقف على طبع «مواعظ القديس يوحنا فم الذهب»، وله الفضل بتأسيس (الجمعية العلمية السورية).
شعره: ألف ثلاثة دواوين شعرية تعد من عيون الشعر، ولا سيما في الأبيات الحكمية، ويسمى أقدم دواوينه 19 ـ (النبذة الأولى)،20 ـ (نفحة الريحان) 21 ـ (ثالث القمرين).
ونظم التواريخ الكثيرة التي نقشت على القبور أو علقها على الكنائس والقصور، ومع أنه لا يبلغ طبقة المشهورين في شعره، فإن الإجادة ظاهرة فيه، مما يدل على أنه كان مطبوعاً على الشعر، لم يكن يتكلفه، مع حسن اختياره للألفاظ الجامعة، وقد انفرد بأمور لا تجدها مجموعة في غيره.
كاتب الأمير الشهابي: مدح الأمير بشير الشهابي وإبراهيم باشا المصري والسلطان عبد العزيز، واتصل بالأمير الشهابي فقربة إليه وجعله كاتبه، ولبث في خدمته نحواً من اثنتي عشرة سنة إلى سنة 1840م، وهي السنة التي خرج فيها الأمير بشير من البلاد اللبنانية، وكان شاعر الأمير الشهابي الخاص المعلم بطرس كرامة الحمصي، فلم يشأ أن يزاحمه.
في بيروت: وبعد أن ارتحل الأمير الشهابي انتقل المترجم إلى بيروت، وأقام فيها منقطعاً للمطالعة والتأليف والتدريس في المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، والمدرسة الوطنية للبستاني، والمدرسة الكلية للأميركان، فاشتهر ذكره في جميع البلاد العربية، وراسلته أكابر الشعراء من العراق ومصر وغيرها، وقد طبع ما داربينه وبينهم في ديوان خاص عنوانه: 22 ـ فاكهة الندماء في مراسلات الأدباء، وهو فريد في بابه.
صفاته: كان معتدل القامة، فوق الربعة، ممتلئ الأعضاء، أسمر اللون، أجش الصوت، مهيباً وقوراً شهماً، كاملاً متواضعاً، متأنيًّا في حديثه وحركاته، قليل الضحك، عفيف اللسان، لم يهجُ أحداً ولا هجاه أحد في زمانه، وكان ودوداً مخلصاً، رقيق القلب، حسن التدين، مبالغاً في اجتناب السحت، لا يعطي مالاً ولا يأخذ مالاً بالربا، كثير النكات والنوادر، وقد ألف إحدى مقاماته وهي المقامة اليمامية على ظهر الفرس وكان مسافراً بأهل بيته من بيروت إلى بحمدون سنة 1853م بقصد الاصطياف، وكان حافظاً القرآن الكريم بتمامه، ويعي من الشعر شيئاً كثيراً، ولاسيما شعر المتنبي لشدة إعجابه به، وكان يقول: (كان المتنبي يمشي في الجو وسائر الشعراء على الأرض).
وكان يلبس العمامة في رأسه والجبة والقفطان على بدنه، ويضع الداواة تحت منطقته، وقد اشتهر بصناعة الخط الذي أتقنه كثيراً، وله ولع باستعمال التبغ، ويكثر من تناول القهوة.
وفاته: وفي عام 1869م أصيب بمرض عضال فانفلج فالجاً نصفيًّا عطل نصفه الأيسر، ثم أصابته سكتة دماغية، فتوفي فجأة بتاريخ 8 شباط 1871م في منزله الكائن في زقاق البلاط بالقرب من المدرسة الوطنية البستانية سابقاً في بيروت، واحتفل المشيعون على اختلاف طوائفهم بجنازته، ودفن في مقبرة الروم الكاثوليك في الزيتونة، وكتب على صورته:
أمضي وتبقى صورتي فتعجبوا
تمضي الحقائق والرسوم تقيم
والموت تجلبه الحياة فلو حوى
روحاً لمات الهيكل المرسوم
وأعقب من زوجته (اليصابات الشامي) الدمشقية الأصل من أسرة الطويل المتوفية عام (1881م) وردة الشاعرة العبقرية، وقد درجت ترجمتها في حلقة الشاعرات والأديبات العربيات، وساره، الشيخ إبراهيم، فارس، عبد الله، مريم، حنة، والشيخ حبيب، ونصار المتوفى عام 1876م، وآسين، وراحيل المتوفية عام 1879م، والشيخ خليل.
أعلام الأدب والفن لأدهم الجندي ج 2 ص 279