رفاعة بك رافع الطهطاوي
1216 - 1290 هـ
هو السيد رفاعة بك بن بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع، ويلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء.
وُلد في طهطا بمديرية جرجا من صعيد مصر، ويؤخذ مما كتبه عن نفسه في رحلته - التي سيأتي ذكرها - أن أجداده كانوا من ذوي اليسار، وأخنى الدهر عليهم وقعد بهم كما هو شأنهفي بني الزمان، فلما ولد المترجم كانت عائلته في عسر، فسار به والده إلى منشأة النيدة بالقرب من مدينة جرجا، وأقام بين قوم كرام يُقال لهم بيتُ أبي قطنة، من أهل اليسار والمجد، فأقاما هناك مدة ثم نزحا إلى قنا، ولبثا بها حتى ترعرع الغلام فأخذ يقرأُ القرآن، ثم نقل إلى فرشوط، وأخيرًا عاد إلى طهطا وكان قد حفظ القرآن، وقرأ كثيرًا من المتون المتداولة على أخواله، وفيهم جماعة كبيرة من العلماء الأفاضل؛ كالشيخ عبد الصمد الأنصاري، والشيخ أبي الحسن الأنصاري، والشيخ فراج الأنصاري، وغيرهم.
ثم تُوفي والده فجاء رفاعة إلى القاهرة وانتظم في سلك الطلبة بالجامع الأزهر سنة 1223هـ، وجاهد في المطالعة والدرس جهادًا حسنًا حتى نال من العلم شيئًا كثيرًا، ولم تمض عليه بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء الأعلام في الفقه واللغة والحديث وسائر علوم المعقول، وكان في جملة مَنْ تلقَّى العلم عليهم من العلماء الشيخ حسن العطار، المتوفى سنة 1250هـ، شيخ الجامع الأزهر، فَأَحَبَّ صاحب الترجمة وميَّزه عن سائر أقرانه التلامذة، وخصَّه بالتقرُّب منه؛ لِمَا آنس فيه من الذكاء والاجتهاد، فكان يتردد إلى منزل الشيخ يأخذ عنه بعضَ العلوم، أو يستشيره في أمر، أو ما شاكل ذلك.
وقضى صاحب الترجمة بمجاورة الأزهر زهاء ثماني سنوات، وكان - كما قدمنا - في عسر، وكانت والدته تنفق عليه مما تبيعه من بقايا حُليّها ومصاغها، فلما أتمدروسه تعيَّن سنة 1240هـ إمامًا في بعض آليات الجند براتب يساعده على القيام بأودحياته.
وكان ذلك العصر زاهيًا بالمغفور له محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية الكريمة، وكان (رحمه الله) آخذا في مشروعاته تعزيزًا لشأن هذا القُطر السعيد، وفي جملتها نشر العلوم، فأحب إرسال جماعة من شبان هذا القطر إلى أوروبا لتلقي العلوم الحديثة؛ ليكونوا له أعوانًا في فتح المدارس، وبثَّ تلك العلوم في أبناء البلاد، فأمر بتعيين صاحب الترجمة إمامًا لهم للوعظ والصلاة، فسارت الإرسالية المشار إليها من مصر سنة1241هـ، وهي أول إرسالية مصرية إلى فرنسا، فتاقت نفس المترجم إلى عُلُوم المغرب، فعكف على درس اللغة الفرنساوية من تلقاء نفسه؛ رغبة منه في تحصيل العلوم بها، أو نقله منها إلى العربية لعله يتخلص من مهنة الإمامة.
وكان معظم درسه اللغة بنفسه، فلم يتقن التلفظ بها، ولكنه تمكن من فهم معانيها فهما جيدًا، وأخذ يُطالع العلوم الحديثة، فأتقن التاريخ والجغرافيا وعلومًا أُخرى، وكان ميَّالًا إلى التأليف والترجمة، فترجم وهو في باريس كتابا سماه (قلائد المفاخر في غرائب عوائد الأوائل والأواخر) وغيره، فبلغ المغفور له محمد علي باشا ماأظهره السيد رفاعة من النباهة والرغبة في العلم من تلقاء نفسه، فسر به سرورًا عظيمًا واستبشر بطالعه.
وفي سنة 1247هـ عاد - رحمه الله - إلى الديار المصرية بعد أن نال الشهادات الناطقة بدرجته من العلم والفضل، فولاه محمد علي منصب الترجمة في المدرسة الطبية التي كان أنشأها سنة 1242هـ في قرية أبي زعبل قُرب القاهرة برئاسة كلوت بك الشهير، وكان متوليًا رئاسة الترجمة بها قبله المرحوم يوحنا عنحوري، من أبناء سورية، وله فيها خدمات جليلة، وشهد لصاحب الترجمة بقصب السبق فولوه الترجمة، وعمل على خدمة البلاد؛ ولا سيما وأن عارفي اللغات الأجنبية إذ ذاك كانوا يعدون على الأصابع.
ومما يعدُّ له فضلًا جزيلا أنه أول من باشر إنشاء جريدة عربية في سائر المشرق، وهي (الوقائع المصرية)؛ فإنها أُنشئت بمساعيه ومساعدته سنة 1248هـ، ولا تزال إلى الآن وهي الجريدة الرسمية المصرية.
وفي سنة 1249هـ انتقل من مدرسة أبي زعبل إلى مدرسة الطوبجية في طرا؛ لترجمة الكتب الهندسية والفنون العسكرية، وفي سنة 1251هـ افتتح المغفور له عزيز مصر مدرسة للألسن الأجنبية، وعهد بإدارتها إلى صاحب الترجمة، وسميت – عند فتحها - مدرسة الترجمة، فقام الشيخ رفاعة إذ ذاك حق القيام بإدارة هذه المدرسة، واختار لها التلامذة من مدارس الأرياف بسائر جهات القطر، فبلغ عدد تلامذتها في أول الأمر خمسين تلميذا، ثم زاد حتى صار250، وكان في أبي زعبل مدرسة تجهيزية للطب فنُقلت إلى جهات الأزبكية، فعهدت إدارتها إليه فضلًا عن مدرسة الألسن ومدارس أُخرى فرعية، منها مدرسة للفقه والشريعة، وأخرى للمحاسبة، وأخرى للإدارة والأحكام الإفرنجية.
وفي سنة 1258هـ تشكّل قلمُ الترجمة من أول فرقة خرجت من مدرسة الألسن، وبعد سنة ونصف من تشكيله نال رتبة قائمقام، وكان قد نال ما يتقدمها من الرتب تدريجيًا في أوقات متتابعة، وفي سنة 1262هـ نال رتبة أميرالاي، فصار يدعى رفاعة بك بدلا من الشيخ رفاعة.
وما زال رفاعة بك ناظرًا لمدرسة الألسن حتى أُقفلت على عهد المغفور له عباس باشا الأول، فأمر بإرساله إلى السودان لنظارة مدرسة الخرطوم، وما زال هناك حتى توفي عباس باشا المشار إليه سنة 1270هـ، وتولى المرحوم سعيد باشا، فعاد يشكر الله على نجاته من تلك الأقطار، فمَثْل بين يدي سعيد باشا، فعهد إليه سنة 1281هـ وكالة مدرسة الحربية بجهات الصليبة، تحت رئاسة المرحوم سليمان باشا الفرنساوي، وبعد قليل أُنشئت مدرسة الحربية بالقلعة، فأُحيلت إليه نظارتها مع نظارة قلم الترجمة ومدرسة المحاسبة والهندسة الملكية والتفتيش والمعمارجية، وعند ذلك نالالرتبة الممايزة.
وفي سنة 1277هـ أُلغيت كل هذه المدارس، فبقي رفاعة بك بغير منصب إلى سنة 1280هـ، فأعيد إلى نظارة قلم الترجمة وتعيَّن عضوًا من قومسيون المدارس، وتولى إدارة جريدة (روضة المدارس) مع مثابرته على التأليف.
وما زال قائمًا بهذه المهام حتى تَوَفَّاهُ الله سنة 1290هـ بداء النزلة المثانية، وله من العمر75 سنة، وقد ملأ الديار المصرية من المترجمين والأساتذة والمهندسين وغيرهم، ممن استفادوا من مؤلفاته وتعاليمه، وقد اطلعنا على كتاب خطي اسمه (حلية الزمن بمناقب خادم الوطن) تأليف صالح بك مجدي، عَدَّدَ فيه مناقب صاحب الترجمة، وعنه أخذنا معظم ما ذكرناه هنا، وقد ذكر فيه أيضًا عددًا كبيرًا من الذين أخذوا العلم عنه ونبغوا واشتهروا، وذكر مناصبهم ووظائفهم وأعمالهم مما لا محل لذكره هنا.
وكان رحمه الله قصير القامة، واسع الجبين، متناسب الأعضاء، أسمر اللون، حازمًا، مقدامًا، على ذكاء وحدة، وهذا ما نهض به من حضيض العسر إلى مراتب المجد والفخر، حتى أصبح ممن يُشار إليهم بالبنان ويقتدي بأعمالهم بنو الإنسان.
وكان في أوائل حياته، إلى أن عاد من الديار الإفرنجية يلبس اللباس العربي الخاص من الجُبَّة والعمامة والقفطان - كما ترى رسمه في صدر هذه المقالة - ثم بدله باللباس الإفرنجي المشهور.
نختم ترجمة حاله بذكر مؤلفاته الواحد بعد الآخر، مع وصفها بقدر الإمكان:
- خلاصة الإبريز والديوان النفيس: وهو رحلته إلى فرنسا، ذكر فيه ما شاهده من العادات، والأخلاق، والأزياء، وآثار التمدُّن الحديث، وكل ما يتعلق بذلك، وقد حازت من القبول لدى المغفور له محمد علي باشا، حتى أمر أن تُتلى في قصوره، ثم أمر بطبعها وتفريقها في الدواوين وبين الوجهاء والأعيان.
- التعريبات الشافية لمريد الجغرافية: وهو مجلد ضخم ترجمه من الفرنساوية إلى العربية لتدريس الجغرافية في المدارس المصرية، وقد طُبع غير مرة في مجلد كبير.
- جغرافية ملطبرون: وهو كتاب مؤلف من عدة مجلدات كبيرة، يبحث في الجغرافية بحثًا تاريخيًّا مطوَّلًا، ترجم منه المؤلف أربعة مجلدات كبيرة طبعت في مطبعة بولاق، ويظهر من مطالعتها أنه ترجمها على عَجَل، والواقع يؤيد ذلك؛ لأننا علمنا أنه ترجم مجلدًا منها في ستين يومًا سنة 1265هـ.
- كتاب قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر ترجمه في باريس – وقد تقدم ذكره.
- كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين: وهو مجلد واحد ألفه للتعليم في مدرسة البنات.
- كتاب التحفة المكتبية في النحو: ألَّفه لتعليم قواعد النحو في المدارس الابتدائية، مطبوع طبع حجر.
- مواقع الأفلاك في أخبار تليماك: وهو تعريب وقائع تليماك الفرنساوية، ترجمه يوم كان في الخرطوم - مع بعض التصرف - وهو مطبوع في بيروت.
- مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية: وهو بحث عن آداب العصر وسياسته وصنائعه وعلومه وفنونه، ومطبوع بمطبعة بولاق الأميرية.
- مختصر معاهد التنصيص: وهو اختصار المعاهد مع بعض الزيادات إلى الأصل ولم يطبع.
- المذاهب الأربعة: وهو بحث في المذاهب الأربعة، ألَّفه أثناء رئاسته لمدرسة الألسن.
- شرح لامية العرب.
- القانون المدني الإفرنجي – مطبوع.
- كتاب توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل: وهو تاريخ لمصر، طبع ونشر.
- كتاب هندسة ساسير: ترجمه من الفرنساوية إلى العربية، وقد طبع ببولاق.
- رسالة في الطب لم تطبع.
- جمال الأجرومية: وهو منظومة سهلة في الأجرومية مطبوعة.
- نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز: وهو آخر مؤلفاته، طبع في روضة المدارس بمطبعة المدارس الملكية.
وله رحمه الله غير ما تقدم ذكره من المآثر العلمية بين منظومات ورسائل ومقالات؛ شيء كثير لم يُطبع، وقد وقفنا على بعضه.
وأما خدماته في التعليم والتهذيب فغنية عن البيان، ويُقال بالإجمال إن رفاعة بك رافع خدم خدمة كبرى في نشر العلوم الحديثة بنقلها إلى اللغة العربية، وتسهيل تناول اللغات الأجنبية بمدرسة الألسن وقلم الترجمة وغيرهما.
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 31 – 35.