أبي أحمد عبد الرحمن بن أحمد الثغوري الأواري
تاريخ الوفاة | 1299 هـ |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
(الشيخ الشهير علم الاسلام ومرشد الأنام الحاج عبد الرحمن أبو أحمد بن أحمد الثغورى الأوارى) كان حصّل العلوم عن علماء عصره، وكان عالما علامة وعارفا فهّامة، ورحل فى ابان شبابه لدي الشيخ جمال الدين القموقى حال كونه فى (غازى قموق) وجلس عنده وسلك الطريقة وصار منه مجازًا فى اجراء الطريقة النقشبنديّة وارشاد الناس اليها.
ثم انه اجتمع أيضا مع الشيخ محمد اليراغى حين وصل الشيخ الى قرية (ثغور) فى عصر الإمام شامل أفندى وصار منه أيضا مجازا ويقال أنه لقى الشيخ اسماعيل الكرردميرى فى سفر الحج وصار منه مجازًا للإرشاد رضي الله عنم.
كان الشيخ أبو أحمد الثغورى متبحّرًا فى جميع العلوم وحافظا لكلام الله المجيد، ومراقبا عابدا ناسكا، كان لا يخرج إلاّ لصلاة الجمعة وكان لا يمكن الدخول اليه أحدًا إلاّ بعد وقت الضحى الى وقت العصر، كان يوم الجمعة يؤمّ ويخطب وينصح ويلقنهم كلمة الشهادة مع تحرير معناها ويجهر بكلمة لا اله الا الله عشر مرّات وبعد الصلاة كان يشتغل بذكر الله جهرًا ويصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ومعه الناس وأتباعه الى قرب االعصر فينتفع به الناس ويحصّلون النفع والبركة.
ولمّا وقع الاختلال والاغتشاش فى داغستان فى الدّولة الروسية السابقة من جهة الحاج (على بيك الجاجانى) كان ابنه امام أهل الاغتشاش يقال أن والده الشيخ كان ينكر على ذلك لكنه لم يمتنع منه حبسته الدّولة مع أبيه فى جملة من حبست وعزمت الدّولة نفي الشيخ الى الرّوسية فطلبه ضابط من ضباط الدّولة من أهل (غزانيش الكبرى) من الدّولة أن تعفى عنه فعفت عنه و تكفل لها الضابط فى حفظه ومكث الشيخ فى بلدة غزانيش مدة من السنوات كان لا يخرج الا لصلاة الجمعة حتى توفاه الله فيها.
وللشيخ أيضا على ما يقال اجازات من مشايخ سائر الطرائق كالقادرية وغيرها.
وكان الشيخ لا ينهى عن الذكر الجهرى كما كان كذلك الشيخ شامل أفندى مع أتباعه حيث كانوا يذكرون الله تعالى ركبانا ومشاة وللشيخ آثار مهمّة ومن تأليفه (المشرب النقشبندى) وله حاشية على كتاب آداب البحث فى المناظرة.
وهذه الأبيات من كلامه رضي الله عنه:
وحبّ طه يحمى محبّه من لظى ـ كذا من شديد الزمهرير اذا بدا
اذا مسّنى كربٌ غدًا من كِليْهما ـ انادى طبيبى وحبيبى محمّدا
ويقولون: انه كان بارعًا فى العلوم الاصوليّة والفروعيّة ولا سيّما فى كتاب التحفة لابن حجر الهيتمى ومدحه العلماء الأعلام وجعلوه شيخ الاسلام ورئيس الأنام، وكان من قواد الامام شامل أفندى فى عصره ومن علمائه المؤتمنين خرج عليه المشائخ الأعلام كالشيخ المجاهد فى سبيل الله (الحاج اوزم السلطى الأوارى) و الشيخ (محمّد الككنىّ الأوارى) والشيخ (الياس الزدقارى الدركى) و (الحاج موسى القكنى الغازى قموقى) وغيرهم رضي الله عنهم.
قال الشيخ شعيب أفندى الباكنى الأوارى فى ثنائه فى (المخمسة الفريدة):
والألمَعِى الأوحدى فى العلم والزّمن
الواعظِ النّاصحِ الفصيحِ ذى اللُّسُنِ
الحائزِ الفضلِ والشّتاتِ الضّنَنِ
الحاج عبدٍ لرحمنٍ وفى الأنَنِ
الشيخ فى دَهْرِه حَاوِى البَلِيّاتِ.
توفى سنة 1299 ودفن فى طرف مقبرة غزانيش ومزاره مشهور يزار رضي الله عنه وكتب على ضريحه هكذا (هذا مرقد القطب الربانى ومضجع العارف الصّمدانى، مقتفى العلمآء العاملين ومصطفى السالكين، الكبريت المرشد الخامس والثلاثين من السلسلة النقشبنديّة والستة الطريقة العليّة المحمّديّة الحافظ الحاج عبد الرحمن بن العالم الزاهد المرحوم أحمد الثغورى فى ربيع الأخير سنة 1299).
ولما توفى رثاه الشيخ الياس الزدقارى بقصيدة تائية، ورثاه أيضا العلامة المشتهر نجم الدين الحزى الأوارى بهذه القصيدة البليغة الرائيّة:
تَزَعْزَعَتِ الأكْوانُ وَاضْطَرَبَ الدَّهْرُ ـ ولمْ أدْرِ هلْ خيرٌ هنالك أمْ شرٌّ
إلى أنْ أتانى بَغْتَةً نَعْيُ مرشِدٍ ـ هُمامٍ وهِجيرَاهُ مُذْ بَلَغَ الذِّكْرُ
حَوَى سَبْعَةً مِنْ أبْحُرِ العِلْمِ والَّذِى ـ حَوَاهُ سِواهُ فَهْوَ مِنْ بَحْرِهِ قَطْرُ
إمامٌ هُمامٌ لا يُظَنُّ بِرَيْبَةٍ ـ تَقَدَّسَ بَيْنَ الأصْفِياءِ لَهُ السِّرُّ
وَغَوْثٌ شَدِيدٌ فى التَّصَرُّفِ عَزْمُهُ ـ يُشَدُّ لأقْطابِ البِلاَدِ بِهِ الأزْرُ
لَهُ هِمَمٌ صُغْرَى وَكُبْرَى قِياسُها ـ كَفَى النَّاسَ عَمَّا يُنْتجُ الْبَحْرُ وَالدَّهْرُ
وَرُتْبَتُهُ الشمَّاء فَوْقَ الذُّرَى إلَى ـ بُلُوغِ مَدَى عَلْيائِها يَهْرِمُ النَّسْرُ
سَرَى ذِكْرُهُ فى الْخَافِقَيْنِ وَطُيِّرَتْ ـ إلى الْمَلإ الأعْلَى مَناقِبُهُ الْغُرُّ
وشهْرَتُهُ تُفْنَى عَنِ الْوَصْفِ إنَّمَا ـ ثَنائِى سَوآءٌ فِيهِ طَيُّهُ وَالنَّشْرُ
يَسُوسُ جُنودَ الْعارِفِينَ فَمَا لَهُمْ ـ إذا انْكَسَرُوا إلاّ بِتَدْبِيرِهِ جَبْرُ
تَصَرَّفَ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَرُفْرِفَتْ ـ على أرْؤُسِ الأبْدالِ أعْلامُهُ الْخُضْرُ
سَرَتْ أوْلِياءُ اللهِ تَحْتَ لِوائِهِ ـ إلى عَالَمِ اللاَّهُوتِ يَقْدُمُها النَّصْرُ
يَلُوذُ إلَيْهِ العَارِفُونَ فَما لَهُمْ ـ سِواهُ مَلاذٌ كُلَّمَا أمَرَ الأمْرُ
فَراحَتُهُمْ فى قُرْبِهِمْ كَيْفَ لا وَهُمْ ـ بِراحَتِهِ أبْرَاهُمُ الْعُسْرُ وَالْيُسْرُ
لَهُمْ حَوْلَهُ عِنْدَ الْمُهِمَّاتِ هَالَةٌ ـ تُحيطُ بِهِ وَالشَّيْخُ وَسطَهُمُ الْبَدْرُ
لَهُ خُطبُ تُبْكِى الْجَمادَ رَقائِقُ ـ وَمَوْعِظَةٌ ذابت لِتَأثِيرِهَا الصَّخْرُ
إلى اللهِ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَرَدَّهُ ـ وَراحَتُهُ مِنْ بَحْرِ رَحْمَتِهِ صِفْرُ
فَدَعْوَتُهُ مَقْبولَةٌ كُلَّمَا دَعَى ـ إلى رَبِّهِ فى حَاجَةٍ أسْرَعَ الظَّفْرُ
وَكَيْفَ يَرُدُّ اللهُ مَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ـ إلى زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَلَوْ خَطَأ نَظْرُ
وَمَنْ صَامَ فى دُنْياهُ عَنْ شَهَواتِهِ ـ صِيامًا بِنَعْماءِ الْجِنانِ لهُ فِطْرُ
وَمُسْتَغْرِقُ الأوْقاتِ فى اللهِ ما جَرَى ـ على قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِهِ أبَدًا خَطْرُ
وَعَمَّرَ بِالْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ عُمْرَهُ ـ فَلَمْ يُلْهِهِ فى عُمْرِهِ عَنْهُمَا الغَيْرُ
يُقَطِّعُ بِالتَّسْبيحِ والْحَمْدِ لَيْلَهُ ـ وَلَمْ يُقْطِعاهُ عَنْهما الكَسْبُ والأجْرُ
خُصُوصًا بِعَصْرٍ مُضْمَحِلٍّ بِهِ الهُدَى ـ وَراجَ رَواجَ الخَيْرِ فى أهْلِهِ الشَّرُّ
وأصْبَحَ كَالْعَنْقاءِ بَينَهُمُ الهُدَى ـ فَما ثَمَّ إلاَّ إسْمُهُ المَحْضُ وَالذِّكْرُ
ولَمْ يَبْقَ لِلإسْلامِ إلاَّ طُلُولُهُ ـ وَأوْطانُ شَرْعِ اللهِ عَنْ أهْلِهِ قَفْرُ
وَأصْبَحَ قَبْضُ الدِّينِ فِيهِمْ لِعُسْرِهِ ـ وَأيْسَرُ قَبْضًا مِنْهُ لِلْقابِضِ الجَمْرُ
يا أحْمَد عمرتَ فى النَّاسِ طاهِرًا ـ وَمُتَّ وَلَمْ يَمْسَسْكَ وَمَسْخُ وَلا قَذْرُ
فَما فَرِحَ الشَّيْطانُ مِنْكَ بِشَهْوَةٍ ـ وَمَا غَرَّكَ الدُّنْيَا وَلا مَالُهَا الوَفْرُ
قَطَرْتَ بِعَيْنِ الزُّهْدِ زَهْرَتَهَا فَمَا ـ تَفَاوَتَ مِنْهَا عِنْدَكَ التُّرْبُ وَالتِّبْرُ
وَمَا خَدَعَتْكَ النَّفْسُ عَنْ أمْرِ رَبِّهَا ـ وَغَيْرُكَ كَمْ أرْدَاهُ مِنْ نَفْسِهِ المَكْرُ
وَلَمْ تَذُقِ النَّفْسُ الأبِيَّةُ رَاحَةً ـ وَمَا سَرَّهَا مُذْ سُمْتَهَا الكُلْفَةُ واليُسْرُ
وَلَقَّنْتَهَا يَوْمَ الْبُلُوغِ بِأنَّ مَا ـ لَدَى رَبِّهَا مِمَّا سِواهُ لَهَا خَيْرُ
فَعاشَتْ بِمَا قَدْ رُضْتَهَا وَتَذَلَّلَتْ ـ وَسِيَّانِ فِى الفَانِى لَهَا الرِّبْحُ وَالخُسْرُ
وَمُتَّ وَ فاتَ الناسُ مِنكَ غَنِيمَةً ـ وَذُخْرٌ وَمَا يَدْرُونَ مَا ذَلِكَ الذُّخْرُ
فَمَوْتُكَ فِيهِمْ ثُـلْمَةٌ لا نَسُدُّهَا ـ بِشَيْءٍ وَكَسْرٌ فَاحِشٌ مَا لَهُ جَبْرُ
أنَّ رِيَاضَ الْعِلْمِ بَعدَ فِراقِكُمْ ـ لَمَجْهولَةُ الأصْواءِ مُوحَشَةٌ غَبْرُ
وَكَمْ مَجْلِسٍ لِلْوَعْظِ عُطِّلَ بَعْدَكُمْ ـ وَحِلْقَةِ ذِكْرٍ وَهْيَ مِنْ بعدِكمْ قَفْرُ
تَواجَدَ فيهِ الحاضِرونَ كَأنَّهُمْ ـ سُكَارَى وَلا كَأسٌ هُناكَ وَلا خَمْرُ
سَقاهُمْ بِحَارًا مِنْ شَرابٍ لَرُبَّمَا ـ كَفَى مِنْهُ فى إسْكارِ كُلِّ الوَرَى قَطْرُ
صَحَوْا بَعْدَهُ مِنْ بَعْدِ ما قدْ تَمَايَلُوا ـ سُكارَى وَمَا أدْراكَ مَا ذَلِكَ السَّكْرُ
سُكَارَى ولا لَفْظٌ نَدَامَى وَلا لَغْوٌ ـ وَخَمْرٌ وَلا غُولٌ وَسَكْرٌ وَلا وِزْرُ
وَفِى الصَّحْوِ نِعْمَ الْمُطْرِقُونَ كَأنَّمَا ـ عَلى هَامِهِمْ مِنْ هَيْبَةِ الْمُرْشِدِ الطَّيْرُ
فَمَا غَشَّ تِلمِيذًا وَما عِنْدَهُ كَمَا ـ لَدَى غَيْرِهِ غَبْنُ الْمُريدِ وَلا غَدْرُ
يُعِينُ الْمُعَنَّى لا يُخَيِّبُ آمِلاً ـ إلى بَابِهِ يَأوِى الَّذِى مَسَّهُ الضُّرُّ
فَكَمْ مُدَّعٍ فِينَا تَمَشْيَخَ بَعْدَهُ ـ فَلا زَيْدُهُمْ يَحْكِيهِ سَعْيًا وَلا عَمْرُو
نُمَيِّزُهُ بِالزَّيِّ لا بِمَزِيَّةٍ ـ عَلى غَيْرِهِ إلاّ التَّصَنُّعُ وَالسِّحْرُ
وَإلاّ إصْطِيَادُ الْمَالِ مِنْ أيِّ وَجْهَةٍ ـ بِشَبْكَةِ زُهْدٍ بِئْسَ ذَلِكُمُ الْمَكْرُ
وَإلاّ بَيَاضُ الثَّوْبِ أوْ طُول لِحْيَةٍ ـ وَتَحْتَ طَوَايَاهُ الخِيَانَةُ وَالْجَوْرُ
يَغرّ الْوَرَى مِنْهُ التَّوَاضُعُ ظَاهِرًا ـ وَفِى بَطْنِهِ يُطْوَى التَّجَبُّرُ وَالْكِبْرُ
لَهُ أعْيُنٌ عُمْيٌ عَنِ الْخَيْرِ لا تَرَى ـ كَمَا عَنْ سَماعِ الْحَقِّ فِى أذْنِهِ وَقْرُ
إذا كانَ فِيهِمْ عِوَجٌ وَإسْتِقَامَةٌ ـ فَمَا فِيكَ إلاّ الإسْتِقَامَةُ وَالْبِرُّ
وَلَكِنَّ فِيهِمْ عُصْبَةٌ تَقْتَدِى بِكُمْ ـ فَعِنْدَهُمْ يُرْجَى السَّعَادَةُ وَالْخَيْرُ
عَلى أنَّهُمْ فِى الدِّينِ وَالزُّهْدِ دُونَكُمْ ـ لأنَّكَ فَرْدٌ لا يُقَاسُ بِكَ الغَيْرُ
سَتَرْتُهُمْ عَمْدًا كمَا هُوَ مُقْتَضَى ـ زَمَانٍ فَشَى فِيهِ الشَّقَاوَةُ وَالْكُفْرُ
رَحَلْتَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أهْلِ ظاهِرٍ ـ لِذاتِكَ إلاّ بَعْدَ رِحْلَتِكَ القَدْرُ
هُمُ الْيَوْمَ أبْكَوْا فى الضّمَارِ جَمِيعُهُمْ ـ عُيُونًا عَلَيْهَا الأمْسِ قد خَفِيَ الفَجْرُ
ألا فَـليُرِيقوا فِيكَ مَحْزُونَ دَمْعِهِمْ ـ فَمَا لِعُيُونٍ لَمْ تُرِقْ دَمْعَهَا عَذْرُ
إذا كانَ هَذِى النَّاسُ شَتًى عُلُومُهُمْ ـ وَ فِى عِلْمِهِمْ لِلذَّائِقِ الْحُلْوُ وَالْمُرُّ
فَدَوْحَتُكُمْ فِى العِلْمِ أسْبَقُ دَوْحَةٍ ـ وَثَمْرَتُهَا حُلْوٌ لَهَا اللُّبُّ وَالْقَشْرُ
وَأبْنائُكَ الْغُرُّ الثَّلَثَةُ أبْحُرٌ ـ وَنَاهِيكَ هُمْ فَخْرًا إذا ذُكِرَ الْفَخْرُ
فَهُمْ أشْرَقُوا الدُّنْيَا بِأنْوَارِ عِلْمِهِمْ ـ كمَا أشْرَقَتْ لَيْلَ الدُّجَى الأنْجُمُ الزُّهْرُ
اما طَاهِرًا قد طَهَّرَ اللهُ نَسْلَهُ ـ وَهَذَّبَهُمْ مِنْ عِنْدِكَ الأمْرُ وَالزَّجْرُ
بِهِ طَهِّرُوا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُشِينُهُمْ ـ أيَنْجُسُ مَنْ رَبَّاهُمُ ذَلِكَ الْحَجْرُ
إذا طِبْتَ أصْلاً طَابَ فَرْعُكَ إنَّمَا ـ يَتِمُّ صَلاحُ الزَّرْعِ إنْ صَلَحَ الْبَذْرُ
فَذَرُّوا شُمُوسًا ثُمَّ غَابُوا وَلَمْ يَغِبْ ـ عَلى حَالَتَيْهِمْ مِنْكَ شُكْرٌ وَلا صَبْرٌ
وَلَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ نَسْلِكَ العِلْمُ بَلْ هُمُ ـ إذا غَابَ حِبْرٌ مِنْهُمْ جَائَهُمْ حِبْرٌ
وَذَلِكَ أجْرُ الله أوتِيتَهُ عَلى ـ مَحَبَّةِ أهْلِ الْعِلْمِ يَا حَبَّذَا الأمْرُ
ألا هَذِهِ بَعْضُ السَّجَايَا وَكُلُّهَا ـ فَقَدْ يَنْتَهِى مِنْ دُونِ تَعْدَادِهَا الْعُمْرُ
وَإنِّى وَإنْ أطْنَبْتُ فِى ذِكْرِ وَصْفِكُمْ ـ فَإنَّهُ مِنْ بَحْرٍ وُصِفْتَ بِهِ قَطْرُ
وَهَبْتَا مَدَحْنَاكُمْ بِألْفِ قَصِيدَةٍ ـ فَذَلِكَ فِى جَنْبِ الَّذِى فِيكُمْ نَزْرُ
أتَا مَرْيَمَ إشْفَعْ لِى إلى اللهِ كُلَّمَا ـ أنَادِيهِ يَا دَيَّانُ قد مَسَّنِى الضُّرُّ
وَخُذْ بِيَدِى فِى كُلِّ أمْرٍ أهَمَّنِى ـ وَكُنْ لِى نَصِيرًا حَيْثُ أعْوَذَنِى النَّصْرُ
وَلا تَطْرُدنى عَنْ فُيُوضِكَ خَائِبًا ـ وَهَلْ يَطْرُدُ الْعَطْشَانَ عَنْ شَطِّهِ الْبَحْرُ
وَلا تَقْطَعَنَّ النَّظْرَ عَنْ مُتَحَيِّرٍ ـ إلى بَابِكَ الْمَفْتُوحِ ألْجَأهُ الْفَقْرُ
فتمخض عَنْ حُكْمِ الْقَضَآءِ فِراقُهُ ـ وَلَمْ يُتَسَبَّبْ فِيهِ بُغْضٌ وَلا هجْرُ
فَخَفَّ عَلى ظَهْرِى بِهِ وَقْرُ مَوْتِهِ ـ وَشَيْئًا تَسَلَّى الْقَلْبُ وَانْشَرَحَ الصَّدْرُ
فَمَا حَيُّنَا إلاّ سَيُحْمَلُ نَعْشُهُ ـ وَيُحْضَرُ فِى بَعْضِ الْبِقَاعِ لَهُ قَبْرُ
و اعْتَاقُ عَنْ دَارِ الْفَنَاءِ وَإنَّنَا ـ جَمِيعًا إلى دَارِ الْبَقَاءِ غَدًا سَفْرُ
وَإنْ يَكُ حَتْمُ المَوْتِ فَرَّقَ شَمْلَنَا ـ فَعَمَّا قَلِيلٍ سَوْفَ يَجْمَعُنَا الحَشْرُ
سَلامٌ عَلى ذَاكَ الضَّرِيحِ الَّذِى إذا ـ ثَوَى الْغَيْثُ فِيهِ فَاحَ مِنْ تُرْبِهِ العِطر
(انتهت)
وقال بعضهم فى بعض شمائل الثغورى رحمه الله كان معتدل القامة ذا لحية بيضآء أبيض اللون جدّا وعيناه مائلتان الى الحمرة وصورته رفيعة لا مثل له فى رفعته الا أبو اسحاق اليراغى وكان يفصل كلام بحيث لا يحتاج السامع الى إعادته ثانيا انتهى.
ومن أولاده وأبنائه (أحمد، والحاج محمّد، ومحمّد حاجى) كانوا علمآءً أبرارًا من خيار المسلمين.
أما (محمّد حاجى) فصلبته الدّولة الرّوسية السابقة بأمر الكنرال (ملكوف) فى وقعة الحاج على بيك الجاجانى فى سنة 1294 رحمه الله تعالى.
وأما (الحاج محمّد) كان عالما علامة بارعا فى العلوم أديبًا شاعرًا مفلقًا، ولما رأى المحيط مظلمًا مكسفًا من كثرة الفتن وتوالى الظلمات من جهة الدّولة الرّوسية الظالمة خطر على قلبه الرحلة الى الديار التركيّة العثمانيّة فوصل الى (قارص) وغيرها وعاش فيها الى أن توفى هنالك رحمه الله، وكان سفره وهجرته فى قيد حياة والده وأهله الكرام وسيأتى مكتوبه المرسل الى والده وأهله.
ولهذه الفتن وتراكم البليات أنشأ الشيخ الحاج محمّد هذه ا لقصيدة الميميّة فى الزمانيات بشكوى الحال وهي هذه:
زمان منه أيام الزنام ـ عظام بل تحزّ الى العظام
وقد صرفت الينا قوس صرف ـ فقوس ظهرنا وقع السّهام
وقد عظمت حوادثها علينا ـ خطوب فوق خطب كالرضام
زمانا جود دهر بالصروف ـ ومرمى صرفه صف الكرام
أتانا العصر يعصر البؤس ـ ويسقينا الكؤس من السّمام
فأمسينا سكارى من كروب ـ وما كنا شربنا من مُدَام
أتتنا دولة الكفار تعلو ـ وتستولى على دار المقام
فمن ذا أظلم الأيام حتى ـ يعود اليوم أليل من ظلام
وقد ضاقت علينا رحب أرض ـ من الأحزان دون الإزدحام
وضاقت منه أنفسنا علينا ـ لأهوال وأخطار عظام
فما عيش هنيئًا فى النهار ـ ولا فى الليل من طيب المنام
إذ الكفار فى كبر وفخر ـ على الأبرار فى دار السّلام
فكيف لهم منام مستطاب ـ وأنى طيب طعم من طعام
وكيف يطيب عيش المسلمين ـ وهم فى ظلّ ذلّ وانفصام
وماذا يصنعون بطيب عيش ـ وأهل الحرب فى دار المقام
تراهم يبرزون على جبال ـ على خيلاء عند الإقتحام
وتلقاهم بأودية السباع ـ وهم عرضوا الرّماح بلا اهتمام
ولم يسعوا كذلك فى ديار ـ لهم إلاّ بروع واعتصام
وكانوا زلزلوا مستضعفين ـ وما أمنوا من الرعب اللّزام
وقد فقدوا السكينة والسكون ـ لما وجدوا الحسام بانحسام
فكم من قبل صادهم الغزاة ـ كما صاد البزاة إلى الحمام
وكم هجموا عليهم باغتيال ـ كما هجم الأسود على النعام
سوى ان التّلوّن فى زمان ـ يذلّ العز يعلى للمضام
أتانا قبل بالسعد السعيد ـ فأعقبنا بِنَجْسٍ مستدام
وعاد لنا بنائبة وخطب ـ يعادينا خصوما من أنام
وجرّد سيف عدوان علينا ـ وفرّغ وسعه فى الإهتزام
وأفعم دار اسلام بكفر ـ وأفعمنا بسهم واغتنام
ديار فى جبال راسيات ـ وأقطار على تلك الاكام
وتلك قرى محصنة وغور ـ شواهق بين اعلام سوام
نعم لا سيّما جبل غُنِى ـ غنيّ عن حصون الإعتصام
هو المخلوق مسدود الثغور ـ مسدود السبيل الى السّنام
أحاط به السرادق من صخور ـ على أطرافه مثل الغمام
هو العلم العلىّ الإرتفاع ـ حوى كل المرافق بالتمام
به اعتصم الامام وأهل دين ـ لدى الايقان من ضعف القوام
وما أغناه عن سوء القضاء ـ وهل يغنى عن القدر واللزام
فقد صعدوا عليه من اختيال ـ على حين الذهول من الأنام
ولولا حصرهم بلا احتيال ـ لما فتحوا بحرب ألف عام
وان تسئلن عن صبح الحصار ـ فلا تسأل فذا يوم القيام
فكم من معسر فى الحرب أضحى ـ صريعا فى قتال الاضطرام
فآلاف التحية والسلام ـ على الشهدآء فى دار السلام
قد ابتغوا الثواب ووجه ربّ ـ وقد عضوا عن الأهل الكرام
قد اختاروا على طيب الحياة ـ بدولة كافر سكر الحمام
وما للمرء ان يختار موتا ـ على عيش بظل الانفصام
فوا أسفا على تلك الديار ـ ديار المسلمين كدار شام
عليها يستولى الكفار قهرًا ـ عليهم بالجلاء وبالضرام
ولم يظفر بها من قبل هذا ـ أولو بطش وبأس واحتشام
لقد كانت مساكن طيبات ـ لأبطال واخوان التزام
وهم كانوا بنى ثقة وصدق ـ وتجربة لحرب واضطرام
هم الشاكو السلاح هم الأسود ـ هم الحاموا الزمار لفقد حام
قد انشرحت صدورهم لغزو ـ لإعلاء الشريعة والكلام
أعدوا ما استطاعوا للجهاد ـ ببذل الوسع فى هذا المرام
وقد سدّوا ثغورا يقعدون ـ لهم كل المراصد باهتمام
تصدوا للملاحم والحروب ـ وقد نشطوا لأهوال التحام
وعادوا للملاحم أو يعودوا ـ لطول العدو فى ضعف القوام
فوا أسفا عليهم من غزاة ـ تصدوا للجهاد الى الإنفحام
وقاموا بالتزام الحرب حتى ـ يقلّ القتل قومًا عن قوام
فكم إستشهد الأبطال منهم ـ وكم وسطوا جموعا بالحسام
لقد فقد الأفاضل أهل صدقٍ ـ وقد بقي الأراذل كالرسام
قد استولى عليهم أهل كفر ـ على ارغامهم بالإهتزام
وهم قد سخروا للكفر قوما ـ أطالوا السعى فى دين الاسلام
روينا فى أحاديث الصحيح ـ يعود الدين كالشيء الرمام
امن هذا يزيد الضعف فيه ـ يصير حباله للإنصرام
ألا يا ليتنا متنا جميعًا ـ وكنا قبل هذا فى الرغام
ولو عاينت ما أوضحت صبحا ـ لصحت من البكاء بلا اتهام
لئن تعجب فاعجب محدثات ـ حديثى فاستمع له باهتمام
أبلغكم غرائب واقعات ـ لأبرار وأحرار كرام
لقد عقدوا الامامة بانقياد ـ على الغازى محمّد الامام
بدى يهدى الأنام الى إقام ـ الشرائع والشعائر باهتمام
أعزّ الدّين فى تلك الدّيار ـ أعاد الشرع بعد الإنعدام
وأحيى السنّة البيضآء مجده ـ وبنيان الهدى بعد الإنهدام
وأسّسها على تقوى وهدى ـ وصدق واحتسام واعتصام
ففاحت فى الورى نفحات فيض ـ وعرفان واسرار المقام
وكان هو الامام الحق قطعا ـ وقام بحقها حقّ القيام
رأى كفرًا يلوح على البلاد ـ فلاح له فلاح فى القوام
وأيده عليهم ربّ نصر ـ وثبّت خلده عند الصدام
وشتت يوم دولته جنودًا ـ لكفار الى غير التئام
وقاتل أو يموت على القتال ـ شهيدًا فى وطيس الإلتحام
جزاه الله جنات النعيم ـ وتوجه بتاج الإبتسام
وبعد وفاته اتفق الرجال ـ لحمزة الفخيم ابن الفخام
هو البطل المجرب فى الحروب ـ أخو ثقة لأيام الازام
وجاهد فى الهدى حق الجهاد ـ وأحسن سعيه بين الأنام
هو الثانى على تلك الديار ـ من الخلفاء والهام العظام
سعى فى قتله اخوان فسق ـ بجامعهم لوقت الإزدحام
رجال ما وفوا بالعهد قط ـ وهم أهل المظالم والظلام
ويومئذ تشتت شمل قوم ـ وأهريقت دماءٌ من كرام
وبويع بالخلافة بعد هذا ـ باجماع (لشمويل) الهمام
بدا هذا أشد الناس غيظا ـ وعدوانا لأعداء الاسلام
ولم يرغب بغلظته عليهم ـ وان أمسى على حدّ الحسام
غدا يزداد عزّا واعتضادًا ـ ويظهر أمره بعد انكتام
سعى فى الله فى حزم وعزم ـ الى ان يرتقى أعلى المقام
فاكرمه بنظم شمل قوم ـ فجائه بوصل وانتظام
أتاه الناس فوجًا بعد فوج ـ بطوع أو بكره أو غرام
فجدد كل بنيان لسلم ـ وأحكمه بسدّ الإنثلام
وإذ لم يرتضى دينا سواه ـ لأهل الأرض اذن باصطدام
وقد هانت عليه نفوس قوم ـ عليهم هان أنفاس التهامى صلى الله اه
إذ لم يعتصم شخص برب ـ اكان من افتراسه ذا اعتصام
وكم نادى على اشهاد خلق ـ باعلان النداء بلا انتكام
يقول لربّ عرش يوم عرض ـ اذا برز الورى للإختصام
أولئك قد تولوا أهل كفر ـ بهم خرجوا علينا كلّ عام
فاذ هتكوا لنا حرمات دين ـ قتلناهم بهتك الاحترام
وقد خفض الجناح لأهل خير ـ كما هزّ الحسام لأهل ذام
وقد ملأ الجهات الست صيتا ـ وأثر عند اقبال فخام
بدت أيامه أيام سعد ـ وجاءت بالفتوحات العظام
فكم من قلعة عظمت وعالت ـ بناها أهل كفر لإعتصام
مشيدة بأيدى الإحتياط ـ على ايوان كسرى فى احتكام
ومن عَدد ومن عُدد اعدت ـ وفيها كل مرمىّ ورام
فجهّز جيشه يومًا عليها ـ فاوهت أصلها أيدى الحسام
ونال جميع ما فيها بقهر ـ وأصبح أهل كفر فى انخرام
واذ سعد الزمان له قديما ـ تلقاه المنايا بالإبتسام
تصدّى باجتهاد للجهاد ـ وتجهيز الجيوش على النظام
وحينئذ جيوش المسلمين ـ لقد عَزّوا على يد الامام
فكم ردّوا جيوش الكفر قهرا ـ بغيظهم وذل الانقصام
وكم خرجوا بمال أو جموع ـ ففرّوا عن كنوز بانهزام
وكم أسرت سراياهم سراة ـ وباعوهم لكفر باهتضام
وكم جلبوا كرائمهم فرقق ـ عزائزهم لأسر واغتنام
أرى هذا الزمان له انقلاب ـ وأسرع الانقلاب فى الكرام
أتاه صباح الخس مستمرّ ـ فأحرمه مساعدة احترام
وقد هدأت صبا نصر لديه ـ فهبّ اذًا دبور الاصطلام
وقد دارت رحى حرب عليه ـ اذا حميت وطيس الالتحام
ولاحت فتنة الاحلاس ثم ـ قفتها فتنة ذات الدهام
وقد خرجت ملاحمها عليه ـ تخرُّجَ كل عظم عن لحام
كأنّ الدّهر غضبان عليه ـ فيسعى خلفه بالانتقام
فقطع حبله من بعد وصل ـ وشتت شمله بعد انتظام
وابعد فى ديار الكفر قهرًا ـ على ارغام أنف وانقصام
وخادعه أخلاء اللئام ـ وعاد صديقه أعدى الخصام
فكم من كاذب فى الودّ أبدى ـ مودّته لجاه او حكام
ودار عليه يدرى أو يدارى ـ اذا دارت رحاه على المرام
فاذ هدأت نسيم صباه عنه ـ فقد ارتدّ عن دين اهتمام
واذ ضاقت مذاهبه عليه ـ تلقى كنزه بالاغتنام
وكم من عصبة اخذت عليهم ـ عهودًا اكدت للإلتزام
وهم عمّاله عمّال سوء ـ وهم غدروا له يوم اضطرام
وكم حلفوا على موت وفوت ـ لأيام الكريهة للامام
فلما جاء ما حلفوا عليه ـ فقد مدّوا اليه يد اصطدام
بدا نوابه نواب سوء ـ نعم كانوا نوائب الامام
وولاهم عليهم كالرعاة ـ فكانوا كالذباب على النعام
ووصاهم بعدل وانتصاف ـ فزادوا فى اعتساف واهتزام
فضاقت من مظالمهم عليه ـ وجوه الأرض من طول انتقام
وهم قد عجزوا عن الجهاد ـ وهم قد أضعفوهم عن قوام
وقد سماهم الامناء لما ـ تصامم عن تظلم ذى اضطلام
وكم ردّوا الأذلّة يشتكون ـ وأعينهم تفيض على انسجام
لقد وكلوا الأمور لغير أهل ـ فطنوا الأمن فى غير المقام
وهم قد ضيعوا الامنية ـ الرعية والرعاية للذمام
نسوا تغليظ ايمان عليهم ـ وتثليث الطلاق بلا انضمام
ولما غاب عن تلك الدّيار ـ تغيرت الطباع من الأنام
فكم من متق من قبل زعْمًا ـ فلما غاب يفترق فى الاجترام
وكم من عالم أو ذى عمامة ـ يلاهى وهو يشرب من مدام
هم لا يتقون ولاحياء ـ من الجبّار او تلك العمام
اليس الموت أحرى ثم أحرى ـ من العصيان أو عار الحرام
واذ قد غاب عن تلك العيون ـ بدا للبعض ابراز الملام
فكم من مطرىّ بالمدح قبلا ـ فيأكل لحمه حتى العظام
فلما غاب أمسوا كالنجوم ـ اذا غاب الأيا بين الظلام
فتـبّا ثم تـبّا ثم سحقا ـ لأوباش أولئك اللئام
ولست بمدعى شعر بهذا ـ ولو أبديت من سحر الكلام
ولكنى شهدت صروف دهرى ـ فأخبرت الامور الى التمام
وان فسد الزمان وأهل عصرى ـ وأمسى الناس مختل النظام
فها حاجى محمّد الثغورىّ ـ يرجو الله احسان الختام
(انتهت قصيدته رحمه الله تعالى).
وهذه القصيدة الرائية قالها حاجى محمّد حين اسر الرّوس ابن الامام شمويل أفندى فى التسلية عليه:
من ذا الذى لم تؤثر فيه أسحار ـ ولم تبينه بالاعصار أعصار
بلى ودمّره دهر وأسهره ـ حزنٌ وأسكره خطب وأخطار
ما ان صفا العيش للانسان منتظما ـ الاّ ويعقب اخلال واكدار
ما ذاق مرأ من الدنيا حلاوتها ـ الاّ وجرّعه الغصّات امرار
أما وقى أحد منها بلذّتها ـ الاّ ويغشاه آلام وأسهار
ان أقبلت نحوه الدنيا بكلّ منى ـ فعن قريب يرى يتلوه ادبار
كلّ النّعيم وان طالت نعومته ـ لا بدّ أن ينتهى فالكلّ أغرار
فلا سرور لأهل العزم فى النعم ـ اذ فى نهايتها بأس واسكار
ولا أسى في بؤس بل لهم جلل ـ والصّبر أسنى على علياه اذكار
فان تأسو بهم فى حسن سيرتهم ـ فكيف تأسى على ما اختار قهّار
بالابن مَنّ عليكم ثم متعكم ـ فى غبطة بعد ما أبان كفّار
على ما تأسى ولا بؤس تسوء بها ـ وقبضةٌ عنكم فى الأجر اكثار
فما لشمويل حين البأس من جزع ـ والصبر أربابه لا ريب أبرار
حاشاه أن يبتغى فى كلّ عارضه ـ لغير ما يرتضى ربٌّ وجبّار
فكم اذاقته نفسا اضاقتها ـ فى الله من بعد ما قد غرّ صبّار
وكم شكايته فى الكافرين ـ وأولياؤهم حيثما قد قلّ أنصار
وكم معارفه فيما يعارفه ـ ومن يخالفه بالغيظ قد ثاروا
شمس الضّيا والهدى بحر العطا والندى ـ سيف الردى للعدا فى الحرب كرّار
درّ الصّفا والنقا من اقتدى ارتقى ـ افق العلى والتقى للنفع جرّار
بدر الورى فى الدجى روض المنى والرّجا ـ لمن اليه التجى بالجود مدرار
الله سوّده والجاه قلّده ـ لا غيّروا مجده فى الناس قد حاروا
يا ربّ كُنْ عضدًا انزل له مددًا ـ فيمن طغى أو بغى وأنت قهّار
سدّدْه فى حكمه نزّلْ على سِلمه ـ من كان فى خصمه يتلوه اقطار
وصِنْهُ فى حيفه صيّرْ الى سيفه ـ من جال فى خلفه يعلوه أفكار
يا من بحمدٍ علا صلِّ وسلّم على ـ محمّد أوّلا يتلوه أخيار
ما أطرب النغم أو فطارت النقم ـ أو طابت النعم أو طال اسهار
انتهى.
وهذا مكتوبه المرسل الى والده الشيخ الحاج عبد الرحمن الثغورى وأهله حين وصل الى الديار التركية: (بسم الله الرحمن الرحيم من حضرة حاجى محمد الكاتب ابنكم العاصى ومحمد الطالب قرّة عينكم العاصى الى حضرة الوالد الكريم صاحب الفيض والفوز والمقام العظيم الشيخ المرشد الناقد تصرّفه، والشمس المشرق المنتشر تعرفه، من سبقت علىّ نعمه، ورتبنى معارفه وحكمه، فإلى الوالدة الحليمة الكريمة العظيم برّها وخيرها، الدائم حلمها وصبرها، ثم الى قرة عينى وسرّة ذهنى وثمرة نفسى وزهرة انسى ربيع فؤادى ثلاثة أولادى، والى الأخ العزيز الأمين، صاحب الكرم المبين، الطالب المعروف سبقه، والماهر الموصوف حذقه، مع كرمه وحسن خلقه وعظمه وطول رفقه، والأختين العفيفتين الشريفتين، سلام قولا من رب رحيم، عليكم أهل البيت على التعميم.
(أما بعد) فأولا نهدى اليكم أصناف الدعوة والسلام، وندعو لكم بألطاف الرحمة والإنعام، ونخاطبكم على ألسنة الأقلام، بآلاف التّحية والاكرام، عن صدق الرغبة فى صلتى الأصليّة والفرعيّة والأرحام، وخلوص النّية على المحافظة على الآداب والاحترام، مع الندم على قصرنا فى جنبكم فى سالف الأيام، والعزم على تدارك ما فات من ذلك المقام.
ثم تلوح على حبّ دينكم فى معرض الاعتذار، عن عدم استيذان صريح فى الخروج عن تلك الدّيار، بعد أن طالت الأوقات فى مقام التفكر والاعتبار، وتحقـقـت المصلحة فى التربص والانتظار، فالعفو والصفح منكم حسن الظّنّ وغاية العمل، والاستئذان الصّادق قد سمع وان كان بعد العمل، على أن سائق ارتكاب الأمر سابق القضاء، فشأن أهل التقوى بعد الوقوع جميل الصّبر وصادق الرضآء، ثم انا نبشركم بأنا فى ثوب عفّة وعافية، وطيب حال صافية، وسعة نعمة وافية، وسعة عيشة راضية، لم نزل بعد بكرة الرحيل فى سلامة الجوارح وخفتها، واعتدال مزاج النفس وعفتها، فأحمد اليكم الله الذى بيده مقاليد الامور، وبين اصبعين من أصابعه التى فى الصدور، فسبحان الذى أسرى بعبده، أتى فى كل نزول ورحيل بسعده، ورزقه كل صباح ومساء من عنده، وأكرم نزله أيضا يأت من بلاده، وحبّبه حيثما توجّه الى قلوب عباده، كل ذلك كغيره من فواضل بركاتكم، وفضائل حركاتكم، فوالذى نفسى بيده ولا غنى لى عن مدده لأتيقن أن آثار أنظار لحظك تسعى خلفى وحولى، وفيوض نفحات توجهاتك تلحقنى فى مقامى ورحلى، فأنشدكم بالله الذى حرّم العقوق على الأولاد، وأعظم الحقوق للآبآء والأجداد، أن لا تمنعونى عفو بركات أنظاركم المستطابة، ولا تقطعوا صفو صالح دعواتكم المستجابة، ولا تحسبوا بأنا نبيح عقوقكم، أو ننسى ولو لحظة حقوقكم، أنتم على ذكر منا دائما، تـتمثـلون لهذا الكاتب قاعدًا وقائمًا، ولا تغيبون عنه يقظانا ونائما، كيف مع أن آثار تربيتكم عندى باقية، وأنهار معارف افادتكم معى صافية، وقد أحسنتم تعليمه وأتممتم تكريمه وأدّبتم نفسه، وهذّبتم خلقه وطيّبتم رزقه، وتصدّيتم لإرشاده، وتمحلتم لإسعاده، فجزاكم الله عنى خير ما جزا والد عن ابنه، وادامكم فى ظلّ عنايته وأمنه، ربّى أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت عليّ، وان كنت أضعت عمرى بحق بعض ما أحسنتم اليّ، ثم انا فى سعد هذه الأيام، بحول ذى الجلال والاكرام، وليّ التوفيق والانعام، بعد ما كانت رياح الأقدار تغلبنا فى نواحى الأقطار، وتحملنا فى البحار والقفار، وتبلغنا الى البلاد والأمصار، وتحوّلنا من ديار الى ديار، وتأتينا بجوار بعد جوار، رمتنا عن قوس نسيم الصّبا محروسة (قارص)، ووجدناها معمورة بحسن تصرّف واليها السيد الأمين الخالص، فرأيت صفوه وقصدت نحوه، فإذا دخلت عليه، وتمثـلت بين يديه، عرف مقامى وسمع كلامى، وأحسن اكرامى واكرم احترامى، فقربنى فى حضرته، وقدّمنى على زمرته، وأسكننى فى حجرته، وأباح لى جل نصرته، فانا فى النهار جليسه ومقعد سريره، وفى الليالى أنيسه وبالحوادث سميره، فكلانا فى داخل تلك العفة العالية، فى تلك العيشة الراضية، فى لباس الصّحة والعافية، بحمد الله تعالى على نعمه المتوالية، ولا يهمّنا إلاّ طول افتراقكم، ولا يبكينا إلاّ حرارة اشتياقكم، وما لنا إلاّ وصالكم ضرورة، وليس فى قلوبنا بغير ذلك كدرة، أصلح الله تعالى بالفضل أمورنا، وشرح بالوصل صدورنا، وحقّق بالفضل سرورنا، فان الله يجمع بيننا فى نعمة وخيور، ثم يمتعنا فى غبطة وسرور، ويعصمنا عن كل فرطة وغرور، ويحفظنا عن ورطة وشرور، ثم أنتم تعلمون بأنا إنما فرقنا عن تلك الديار، وكرهنا ذلك الجوار، تلك النزغات الشيطانية، والتدبرات الطفلانية، وتغير الأحوال علينا، وانعكاس الآمال لدينا، وإساءة الأيام الينا، وظهور الشنائع التلبيسيّة والتلبيسات الابليسيّة بين يدينا، فهنالك ضاقت المذاهب، وتعذرت المطالب، وساء العيش، وسلّ العرش، ومات الحُسْن، وجاء الحزن، وطال السهر، واستولى القهر، فضاق النفس، وعظم البأس، ولم يبق الأنس، وظهر علوّ الأشرار، وعلا علوّ الفجار، حتى ضاق على أمثالنا النطاق، وضاقت تلك الديار على الإطلاق، ونحتم الانتقال منها بحكم الاتفاق، واذ قد تغيم ثمّة هواء الرشد والهداية، وغشيت سحابة الجهل والغواية، وتغير رواء أزهار أنوار الحق والحكمة، واضطرمت نار الظلم والظلمة، حتى احتجبت علوم أكمام الجلالة، تحت رسوم محدثات الضلالة، وبقى أمر الإله فى استهزاء لاعب ولاه، وتحوّلت الأوامر بالمناهى، واستحالت المجالس بالملاهى، وصار أهل الله فى تلك الدواهى، لا ريب أن سماء الدين والتقى مصحبة فى هذه الممالك، وشموس اليقين والهدى مشرقة فى هذه المسالك، فان دولة الإسلام احبت، والخلافة فى الدين ربت، أعلامها منشورة، وأيامها منصورة، وديارها معمورة، وقلوب أهلها مسرورة، وأركانها مشيدة، وعساكرها مؤيدة، وسلطنتها مؤبدة، فهى الحجة البيضآء الدائمة الى يوم الدين، والحجة العليآء الغالبة القائمة على رقاب العالمين بالنصر العزيز والفتح المبين، ولقد زيّن طبقات مملكته بأنفاس حملة العلوم، وأضاءت أقطارها بأضواء تلك النجوم، ورتّبهم على وظائف التدريس والوعظ، وأقامهم فى مقامات القرائة والحفظ، ونصبهم على الارشاد والتربية والخط، وكذلك طيب دياره بآثار أنظار توجهات أرباب التصرف، حتى انشقت أهاليها من نسيم فيوض نفحات تجليات أهل التصوّف، فتقلبوا فى ذوات القبض والبسط، والحل والربط، وباهوا فى صحرآء الوصول والشهود، والاطلاق والقيود، ثم أغرق الكلّ فى بحار انعامه، وأبرز من عيون اكرامه، وطواهم فى ذلك على مقاماتهم، وأنزلهم على حسب منازل كراماتهم، فهم يعيشون فى ظل فضله، ويتناولون من عظم نيله، بل عامة الناس متشبثون بأذياله، ومستريحون تحت أظلاله، ومستمدّون من أفضاله، ومحيطون باقباله، ينتفعون فى خدمته، فيتنعّمون فى نعمته، بين داع بنصره، وساع فى أمره، ومستغرق فى خيره، ومستغرف من بحره، وخواصّهم خاصّة محفوظون بكفالته، كأنهم المخصوصون بجلالته، من خزائنه جوائز واردة، ومن حسن تربيته كفايات زائدة، فان أمور الدّولة عجيبة، وفتوحها قريبة، ومنافعها عامة، وفوائدها تامّة، طويل ذيلها، جزيل قيلها، مفعم سيلها، موف كيلها، أطال الله تعالى بقاءه، وأدام وفاءه، ووصل حبله، ونظم شمله، وعمّم على جميع طبقات الأرض ولايته ورياسته، وأجرى على كافة الخلائق رعايته وسياسته، وألهمه فى كل أمره رشده، وأكرم له في كل خير سعده، وأعظم له لسان صدق بعده، ثم بعد ما رأيت أحوال الورى، وكانت الأمور كما ترى، وتفطنت لما فى ضمن هذه الاشارات، وأخذت جلّ رموز ما فى تلك العبارات، تحققت بمساعدة ديّار لأمور الله تعالى وان كانت ديارتنا فيها حتى نودى شرّه، ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فتارعون لكم فى الخيرات، وتدركون الأمر قبل الفوات، وتقطعون الوقت بسيف العزم والعزيمة، وتعملون بالحزم والهمة العظيمة، حتى يتم العصر قبل مغيب الشمس، ويؤخذ العهد قبل حلول البأس، جعلنا الله تعالى فى لطفه، وأخرجنا من خلفه، وقتل أعدائنا بسيفه، وعصمنا الله من جور الزّمان وحيفه، ثم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
كتبت الطرس والأنفاس تجرى ـ كغيم فى ليالى الريح يسرى
تسيل العين دمعًا بالبكاء ـ يكاد الدّمع يمحو رسم سطرى
ونار الشوق توقد فى فؤادى ـ فتحرق بعض ما يبدو لصدرى
وأضحى بين املاء بجسمى ـ وأخلو بينهم فيكم بفكرى
وان أصبحت فى بين وبعد ـ فأمسى بينكم فى كل عصر
وأسهر طول ليل كلّ ليل ـ وأطوى هائما أيام شهرى
فعبد الله المسعود طيفى ـ وطيف خديجة فى القلب يسرى
وطيف الوالدين يدوم عندى ـ وطيف أخى واختى بعض سرّى
ان امتدت لنا أيام عمر ـ فربّ الخير يجمعنا بخير
وان جاءت بحق قبل وصل ـ فوصلٌ بعد ذلك يوم حشر
فان عشنا بطيب العيش وصلا ـ بالأهل الكرام يشد أزرى
ويَحْكمُ ذو الجلال بما يشآء ـ الى ربّ الورى تفويض أمرى
أبو مسعود يرجو سعد عيش ـ من الدارين رب اشرح لى صدرى
(وقال أيضًا)
سلام الله ألفا كلّ يوم ـ عليكم يا أحِبائى وقومى
جرى قلم القضاء بطول بعدى ـ فأفنى سرّ وجدى رسم جسمى
بقلبى دام طيفكم نهارًا ـ وليلا حال يقظاتى ونومى
فحال فى الليالى طول يسرى ـ أقاسى فيكم أفكار همّى
وفى الأيام دوران بحزن ـ فقلبى هائم والعين تهمى
فصغرى حبكم ايجاب قلبى ـ وكبرى شوقكم كلّىّ حكمى
فان ينتج وصالا فهو حقى ـ والاّ فالزمان قضى بظلمى
تناهت شدّتى واشتدّ حزنى ـ وصار القلب فى قلق وسقمى
كأنى مسّنى قرحٌ وجرحٌ ـ تكسر فيه سَهْمٌ بعد سهم
فكدت لأجله يختل رأيى ـ وقد جمدت قريحة حسن فهمى
وخَلاّقِى يعافى ويشفى ـ ويعفو ثم يغفر كلّ جرمى
ويكرمنى بطيب العيش وصلا ـ بأولادى واخوانى وقومى
ويجمعنى بأهلى فى سرورٍ ـ وغبطات بخير لا بشوم
نزهة الاذهان فى تراجم علماء داغستان - نذير بن محمد حاج الدركيلى الداغستانى