(الشيخ جمال الدين بن عبد الرّحمن الغازى قموقى) حصّل علومه عن علماء عصره وكان عالما فاضلا ومحرّرًا بالغا كاملا وفى الأخير كان كاتبا ومحرّرًا لدى الأمير (اصلان خان) من امراء غاز قموق فى ناحية كوره من جهة الدولة الروسية، ولما سمع خبر الشيخ محمد اليراغى الكورىّ رحل اليه وسلك الطريقة النقشبنديّة لديه ثم رجع الى مأواه واستعفى عن وظيفته واشتغل لعبادة الله وذكره تعالى، ثم أجاز له الشيخ محمد اليراغى لارشاد الناس وتسليك الطريقة ولما علم شأنه هذا (اصلان خان) اتّهمه وهدّده بالقـتـل فهرب الشيخ جمال الدين خوفا من سوء سيرتهم لدى الامام شمويل فوصل الى بلدة (زودقار) يجوب البلاقع والقرى ثم منه وصل لدى الامام شمويل فتلقاه بقبول حسن واكرم نزله وزوّج ابنته (نفيسة) لابنه (عبد الرحمن) فوقع المصاهرة والمودة بينهم. ثم ان الشيخ جمال الدين كان لا يفتر عن خدمة الامام ومعاونته فى شؤونه ومغازيه فعاش بينهم سالمًا مبرورا من الصالحين المجاهدين، ولما استسلم الامام الى الرّوسية رحل الشيخ جمال الدين الى الدولة العثمانية فوصل الى استانبول ومكث فيه مدّة ثم توفى سنة 1283 فى اسكدار رضى الله عنه. وله آثار مهمّة وقصائد بليغة ومن تأليفه (التحفة المرضية، فى آداب الطريقة النقشبنديّة).
وهذا ما كتبه الشيخ محمد اليراغى الى الشيخ جمال الدين القموقى يجيزه فيه:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد اليراغى الى ولده العزيز جمال الدين القموقى السلام التام الخ.
فقبّ وصول رسولكم الفخيم، مع كتابكم الميمون الكريم، واطلاعنا على معانيه المحبوبة المرغوبة ومعانيه المقصودة المطلوبة، وبعد أن شممنا منه روائح الفيوض المجذوبة، حمدنا على ذلك حمدًا كثيرًا، الله الذى كان بعباده خبيرًا بصيرًا. فيا أيّها العالم الأخ الكريم، عليك بحقّ الله العظيم، التثبت بدين الله القويم المستقيم، فى كل الحركات والسكنات فى كل وقت وحين، والنصح لجميع المسلمين، بأن تحبّ لهم ما تحبّ لك وتكره عليهم ما تكره عليك كما هو الايمان الكامل المتين. ثم عليك اخفاء أمرك وأمر أتباعك ما استطاع لك وملاطفة الخلق طرًّا، وتعليم من أراد السلوك سرًّا، وتأديب العوام بالوعظ والنصح جهرًا، وفوّض أمرك الى الله تعالى وخف منه أشدّ الخوف ولا تخف من غيره وان كان كبيرًا، وأمُلْ من الله تعالى أكمل الأمل ولا ترج من الغير وان صرت فقيرًا، والسلام وباقى الثنآء والكلام فى فم حامل السلام:
وأسنى تحيات الى كل مسلم ـ ومسلمة صونا لحق الجميع
خصوصًا أكابر البرايا حيازة ـ بمنقبة خُصَّتْ بوصف بديع
سلامٌ على من ينتمى لطريقنا ـ سلوكا بإذعانٍ لأخذ شفيع
فيا أيّها الاخوان قوموا بسلككم ـ على ساق سوْرة وصوْل الشجيع
ودوموا على نهج الشريعة كلّها ـ بلا نظر شيء من كشوف الخديع
وخلوا قلوبكم وكل الجوارح ـ من الزيغ مما فى طريق الشفيع
وحلوا جميعها بوشى الولاية ـ تثابوا بعقباكم بضعف المطيع
سقاكم اله العالمين بفضله ـ حميًّا ودادٍ من جمال السميع
عليكم ثناء الله ثم سلامه ـ الى يوم عرضٍ للستور الفظايع
ثم الإعلام الى كل من سلك ويسلك فى الطريقة النقشبنديّة ان الواجب عليهم سلوكها على يد مرشد وكيل من طرف الحضرات ذو النفوس الزكيّة دون من يدعى كشوفا لا تطابق الشريعة الغراء العليّة، وكل من سلك على يد المدعى الباطل فيصير غبه العاطل فى العاجل والآجل) الخ انتهى.
وهذا مكتوب الشيخ جمال الدين الى الشيخ محمد اليراغى رضى الله عنهم:
(بسم الله الرحمن الرحيم:
ممن هجره الاخوان، وتركه الخلان، وتغيّر عليه الزمان، فصار كالطير المَنْـتوف ريشه، والمنكسر جناحاه، جمال الدين، الى ثمرة الفؤاد، قطب الأمجاد، أعز أهل الوداد، العالم العامل، والولىّ الكامل، مرشد السالكين، ومنقذ الهالكين، الذى طلب الدّرّ وشرب الاجاج المرّ، ألف المكاره، وقطع المهامة، وأيقن أن لا وصول الى مقامات الولاء، الا بمقاسات البلاء، فتجرع كؤس العناء، كما قال الله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأسآء والضرآء"، سيدى ومولاى الشيخ (محمّد اليراغى) متعنا الله تعالى من شميم روائح عطراته فى بركات أنفاسه ولحظاته، السلام الكثير، والثناء الغفير، والتحية والاكرام، والتبجيل والاعظام، عدّ الحصى والثرى الخ
(أما بعد) فيا أيها الوالد، الأبرّ الأكرم، والمرشد المطاع الأعزّ الأفخم، وفّقكم الله تعالى لمرضاته، وأسبغ عليكم مهاطل جوده وهباته، اعلام لجنابكم العالى، حاوى المحامد والمعالى، انى حين كنت فى وطنى الأصلى فارغ البال، منبسط الحال، رافلا فى ذيل نظركم، مترقبا يومًا فيومًا ببركات أنفاسكم، وقد سعى بعض الحساد اليكم الباغين بالفساد بما يورث خشونة حالك، ويكدر صفوة بالك، فغيّرتَ بذلك قلبك الصّفيّ، وقطعتَ عنى نظرك الوفيّ، فصار به أمرى معكوسا، وسعدى منحوسًا، وأيم الله ذى الجلال، والعظمة والجمال، انى كنت بعيدًا فى ذلك الوقت مما رَمَوْنى عندك بمراحل وأميال، ولم يختلج ذلك فى طيّ الجنان، فضلا عن التكلم باللسان، فبما رحمة من البر الجواد، نظرتم اليّ بعين الوداد، وما جفوتمونى بالطرد والطرح، بل عاملتمونى بالعفو والصفح، ثم زدتم النعمة، واسبغتم المنة، فجعلتموني فى ارشاد الخلائق مأذونًا، ومن الخيانة فى نصيحتهم واتعاظهم مأمونًا، وبعد ذلك كان أخونا سيّد الأبطال، والسيف المسلول على أهل الضلال، مع كمال فضله، ووفور علمه و عقله أخلص لى الودّ، وأخذ منى العهد، وسمّانى استاذا، وجعلنى ملجأً وملاذا، وان لم أكن أهلا لذلك، وكنت بعيدًا من ذلك، فبذلت فى حقه حسب الطاقة جهدى، ليتأكد بذلك ميثاقى وعهدى، ونصبته قدام عينى ليلا ونهارا، وجعلت قلبى له مسكنا وقرارا، فصار من أقدم الخلان، وأودّ الأقران، ومضى بذلك برهة من الزمان، ثم لما حرّكه الشوق لجمع الجنود، لنصب قتال أهل الانكار والجحود، وكنتُ أيّها الكريم كالأسير، بين الكفّار والأمير، وكان ولداك وقرة عينيك فى تلك الأيام هناك، وخفتُ أن يروا تحريك الجيوش من جنابك، لما أن جامعهم وقائدهم من أصحابك، فيلقوك فى سجن العطب، ويحرقوك بجمرة الغضب، أمَرْتُهُ بالتأنى فيه والصبر، والتفكر فى عاقبة الأمر، وبِنَشْرِ الشّرع الشريف بقدر الطاقة فى جميع البلاد، وتعميم بركات الحضرات الأئمة الأوتاد، على جميع العباد، بنصائحٍ ومواعظ السّنة والكتاب، والمشوّقة للقلوب والألباب، وقلتُ ان كان لا بدّ لك من الجيوش ونصب المقاتلة فشَاوِرْ لِمولاك فتفعل ما بدى لك بعد المشاورة، فأخذ قولى ظهريّا، ولاحظه شيئًا فريّا، فجمع الجنود ودار بها حوالى قرى (اوار)، ورجع من هناك بالبوار والخسار، فظهر ما ظننته فى حقّـك كفلق الصّبح، ونجوتَ من البلآء والترح، فحمدًا على خلاصك لواهب المنح، ثم لم يصبر الا قليلا أن تحرك لجمع الجنود، فأرسل فى القريات حاشرين، ونادى القتال للكافرين، فدعوته الى الصبر والترك جهارا، وأسررتُ له فى ذلك اسرارا، واكثرت الكلام فيه اكثارًا، وما ذاك منّى الا ارادة الخير والنفع للمسلمين، وخوفًا عليهم من غلبة الملحدين، نظرًا الى باهر شوكتهم فى المال، والله أعلم ما يجىء فى المآل، فاذا لم يجر قولى على سنن هواه، ولم يره ممّا يهواه، طرح خلّة الاخوة من البين وسمّانى بجبان الدين وضعف اليقين، وجعلنى من ناقصى الشريعة الغرآء، ومعينى الكفرة ومحبى الأعدآء، وصادّ الخلق عن الجهاد، الموصل الى رضاء رب العباد، فسبحانه جلّ جلاله وعمّ نواله، وعزّ شأنه وكبريائه، انْ هذا الا بهتانٌ عظيم، وافْكٌ بيّنٌ فخيم، كيف لا مع انّى والله العظيم انما تركت الأقارب والأصحاب، وقاسيت مشقة الهجرة والاغتراب، وارتكبت الأمور الصّعاب، لارضاء رب الأرباب، وهو لا يكون الا بالتقى، والاستمساك بالحبل الوثقى، لابصدّ الناس عن فعل الخيرات، ولا باقتراف المعاصى والسيئات، ثم لم يكتف بذلك، بل شكى اليك بجميع ذلك، فكدّرتَ عليّ قلبك الصّافى، وقطعتَ عنّى نظرك الوافى، فانكسر عند ذلك قلبى، وانطفأ بذلك نار شوقى، فلا يؤاخذه الملك العلام، بما قاله من قبيح الكلام، بل يغمسه فى العفو والغفران، ويجزيه عنّى جزاء الخير والاحسان، ثم بعد ذلك لما وصل الينا رسولكم الكريم (محمد خان)، والأخ الفاضل العلىّ الشان، مأمورًا من جنابكم العالى، مصدر المحاسن والمعالى، الى حضرة ذلك المقدام البازى، المجاهد الغازى، ورأى الطريق بعيدًا، والحرّ شديدًا، تردّد فى الذهاب، وقصد الى الاياب، ودخل فى الأعذار وآل أمره الى الاضطراب، فلمّا صار يقدّم رجلا ويؤخر اخرى، ورأى الذهاب اليه أمرا مرّا، أمرته بالرجوع والاياب، وضمنت فى ايصال مرامه الى ذلك الجناب، وايم الله ما صدر منّى ذلك، الاّ بظن أنك لا تعيب عليّ بل ترضى منّى ذلك، فصار ظنى فيه أيضا معكوسا، وخيالى منكوسا، حيث صرمتَ عنّى قلبك، وقطعتَ عنّى نظرك، فضاقت لى المسالك، ودنت منّى المهالك، فعاملْتنى عن قريب باليسر والفرج، وأخرجْتنى من لجّة الهرج، وكم مرّة أخذتنى الامور الممرّضة، والكلوم المرمّضة، تشويش صفاوة حالك، وتكدير حلاوة بالك، بسبب الأباطل والترهات، الناشئة عن أرباب السفليات، وكم مرّة أنقذتنى عن تراكم الاتراح، وأخرجتنى الى رياض الطرب والأفراح، فالحمد لله على ذلك لفالق الاصباح، وخالق الأشباح. ثم بعد ذلك لمّا كنت فى آخر الأمر سالمًا، من المكاره والضير متمتّعا، بشمّ عطراتكم الغاشية، متفرّحًا فى روض أزهاركم الفائحة، اذ شممت من جهتكم الجميلة ريح الكدرة، ووقوع الخلل فى صفاء المودّة، بعد الحضور الى خدمتكم العليّة أوّلا الى (قوبه)، وبفقدان الورود الى سدتكم السنية ثانيا الى (كيمره)، اعلم يا سيّدى مولاى وقرّة عينى، أنّى كنت فى تلك الأيام، سقيم الجسم ضعيف الحال، بحيث لا أقدر الذهاب على الجماعات، مع كونها من أقرب القربات وأفضل الطاعات، وكذا أيضا على قدم الخروج من هنا فى ذلك اليوم بالاضطرار لا بالاختيار، لما فهمنا من فساد نيتهم وسوء طويّتهم وقصدهم علينا بالاضرار، امّا بتسليمهم ايانا ان قدروا لأيدى الكفار، أو باخراجنا من عندهم بالخزى والخسار، لما أنهم يعتقدون مجيئكم اليهم بأمرنا، وبارسال كتاب اليكم من عندنا، ولو لم ترجعوا فى ذلك اليوم بالصلح، لوقعنا بلا ريب فى البلاء والتّرح، فلما رجعتم بذلك ورجع ضيفنا من هنالك لم يأذن للانتقال، واقعدنا عن الارتحال، فوالله العظيم ذى الجلال والاكرام، لو لم أكن اولئك الأيام أخذتنى العلّة المانعة عن اتمام أهمّ المرام، لأداوى عينى الرمداء، بكحل زيارتكم الشريفة اللقاء، فكيف لا مع أنّ الزيارة الى الأحبة، ممّا يورث اصناف البهجة وأنواع المسرّة، ويذهب الكروب والكدور، من صفحات الصدور، وتنشرح بالنور، وهو لمثلى من عزم الامور. وأمّا عدم الحضور الى خدمتكم الكريم، مع رسولكم الفخيم، فلأنه وصل الينا وقت نداء المغرب من ليلة الخميس كتابكم، وكان فيه الأمر بالاسراع الى يوم الجمعة لجنابكم، ففى تلك الساعة قرأت الكتاب على ضيفى بحضرة رسولكم، وعلّمته ارادة الذهاب الى خدمتكم، فولّى مدبّرا وكاد الى القرار، وعبس وتولّى وآل الى الاضطرار، وقال يا ولدى ان شئت فاذهب انت مع العيال، ولا ترجع الينا لا فى الحال ولا في المآل، وان شئت فاقعد فى بيتى فارغا ودَعِ القول مع اولئك الرّجال، فاننى أخاف من هؤلاء القوم الظالمين، وسائر الأمراء الكفرة الملحدين، لأني رجلٌ فقير لا أقدر على ترك السهل والسّوق بسببك، ولا على القتال والجدال معهم لأجلك، فعند ذلك خرس لسانى، وانقطع جوابى، ولم أجد بدّا من الورود، ولم أقدر المجيئ اليكم فى اليوم الموعود، وأيضا لم يكن لى فى ذلك اليوم وفى تلك الساعة من الزمان، فرسا مسرّجا ولم أقدر على الطيران، ثم اعترانى أمرٌ أصعب وأشق عليّ من خرط القتاد، ومن انتهاب النار واشتعالها على الفؤاد، بما رميتمونى خلال ذلك من سهم اللوم والعتاب، على ترك الجهاد الموعود بجزيل الثواب، فأنبأك أيها المولى الأعزّ من الروح، عن حال هذه البأس المطروح، انه قد تركه الرفقاء، ورفضه الأصدقاء، وهجره الاخوان، وتغيّر عليه الزمان، وبقى بين قوم عتاة وتوالت عليه أسهم المصائب من كل الجهات، تارة بتواتر الرسائل من (الرّوس) و (الشمخال)، الى هؤلاء الطغاة أهل البغى والضلال، وتارة من عند (أصلان خان)، أصلحه الملك المنان، فاتخذوه هدفا للمعائب، ومرمًى للمصائب، قصدهم ايقاعهم ايّاه فى المهالك، وسدتهم عليه سبيل المسالك، ولولا عون الضيف وأتباعه المؤمنين، بعْد لطف الملك المعين، لنفوه من القرية بلا حين، ولم يتركوه فيها طرفة عين، فاذا كان الحال على هذا المنوال، لاريب أهمّنى أمر الأهل والعيال، بفقدان من يقوم مقامى فى الحفظ والتربية من وثقاء الرجال، غير من يشمت بهم ويجرّهم الى الأذى والوبال، مطلبهم السّكون فى وطنهم الأصلىّ والى ذلك لا يصلون، ولو أمرتهم بالتنقل اليكم الى قرية اخرى ليسكنوا فيها يأبون عنه ولا يقبلون، أو استأذنتهم فى مفارقتى ولا حافظ لهم غيرى يبكون، ويصرخون على أن الضّيف لا يقبل أن أخرج من عنده إلاّ بهم جميعًا، ولو انفردت منهم لأخرجهم من بيته بلا اهمال ولم يخف منهم ضياعًا، ومع ذلك كنت مبتلى بحرقة البول وشدّة الوجع وفساد المزاج، بحيث لا صبر لى ولا قرار ولا أجد لذلك علاج، وكنت أحتاج الى تجديد الوضوء فى اليوم والليلة عشرين مرّة بلا مرية ولا مزاح، ولا أطيق على المشى وليس لى فرس ولا سلاح، فسدّت عنّى تلك الضرورات باب الجهاد، الداعى الى الفوز بالمنى والمراد، مع علمى بأن الأفضل منه فى سنة خير العباد، وانه أجل مرتقى يرتقى به الى رضاء الربّ الجواد، وصدّتنى أيضا عن وصول الأعزّة الأوتاد، الأجلة البررة الأمجاد، أهل الوداد بصميم الفؤاد، مع توفر الشوقات وتزايد الرغبات، الى المواصلة والملاقات، ولولا ذلكم لما تعدمون منا اللحوق والاجتماع بكم فى جميع الحركات والسكون، الى أن فرّق بيننا أيدى المنون، ولا تظننكم عدم مجيئى اليكم خوفا من الناس، وتدبّرا فى الامور الدنياوية الفانية الأنجاس، فتحملونى بذلك على الخوف والجبان، وعدم الاخلاص والتوكل على الملك الدّيان، فهيهات هيهات ليس الأمر كذلك لعلمى أن مالك الأمر وخالق الخير والشّرّ ليس الا الله الواحد الأحد الضار الصمد، بل المانع كل المانع عدم الاذن من ضيفى، وعدم خروجى من عنده مع أهل بيتى، وأنا متردد فى هذا الأمر، وأرجو من الله أن يصرف عاقبتى الى الخير، فأسئلك ببارئ البريّة، وبالحضرات الأحبة، ذى الشيم المرضية، والمناقب العلية، أن تقبل عذرى ولا تكدر علىّ بذلك خاطرك الميمون المبارك، فانى أراه من أدهى المهالك، فانى احبّ رؤية وجهكم المنير من ملأ الأرض ذهبا، ان وجدت الى ذلك طريقًا وسببًا، ولا توقعنى فى المهامه الفيحآء، مظلمة الأرجآء، التى يحار فيها الطائر، ويضلّ فيها السائر، بأن تخلينى عن امداد تلك البهية، وفيوضاتك الشهيّة، التى دون قطعها عنّى سكرات المنية، بوثاقة النمامين الباطلة المزخرفة، قبل ادراك حقيقة الحال، بالاستخبار ممن يخبر المقال، فإنا نجد بيقين وعيان، اكثر أنباء الزمان بعد التجربة والامتحان، من الزور والكذب والبهتان، على أنك علمتَ أن قبول السّعيات شرّ من السّعيات، فأدِمْ عليّ يا عضدى بمنّ اقبالك، واحمنى من شوم ادبارك، واسترنى فى ظلّ جناحك، ولا تخلعنى من سِمْتِ مَنْ امطروا من سحاب فيضك ونظرك، وأمّا أنا فكلّما قطعتَ عنّى نظرك، وأعرضتَ منّى قلبك، لم يزدد لى الاّ قربًا منك وزلفًا، ولا أفارق منك أبدًا، ولو جعلتَنى إرْبا وطردتنى بعيدًا، ولا تقطع عنّى حينًا فحينًا كريم كتابك، المشحون بلذيذ خطابك، فان ليالى الهموم تجلى بمحاسن غرر ألفاظك، وأيّام السرور تشرق ببدائع درر أقوالك، ولا تجعَلْ نصيبى منك صدّا وهجرًا، ولا ترهقنى من أمرى عسرًا، أبقاك الله للدّنيا والدّين، ولا يخلبك من عزّ وتمكين، روحى بروحك ممزوج ومتصل، فكلّ عارضة تؤذيك وتؤذينى، نسأل الله الكريم المنان، ذا الفضل والطّول والجود والاحسان، أن يعاملنا بلطفه وكرمه العميم، ولا تؤاخذنا بما صدر خطأً ونسيانًا فى حقك وفى حقه العظيم، انّه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.) انتهى مكتوبه الشريف بحروفه رضى الله عنه.
وهذه القصيدة الآتية من مناجات الشيخ جمال الدّين قدّس سرّه:
الهى بحقّ الهاشمىّ محمّدٍ ـ وحرمةِ أزواجٍ وآلٍ وعِتْرَةِ
وبالخلفاء المُرشدين لامّةٍ ـ وأصحابه الأبرار سرج الهداية
وبالأنبياء والمرسلين جميعهم ـ وبالأولياء الصّابرين ببلوة
وبالعلماء العاملين بعلمهم ـ وبالشهداء الباذلين لمهجة
باسمائك الحسنى وأوصافك العلى ـ بإنْجيلِ زابور وقرآن تورة
بعرش وكرسىّ وبالأرض والسماء ـ وما فيهما من أهل برّ وطاعة
بحرمة أملاك حوامل عرشه ـ ولوح وأقلام وصور ونفخة
بحرمة جبريل الأمين وكرمه ـ وصاحب صور ثم خازن جنّة
بقابض أرواح الخلائق كلّهم ـ بقاسم أرزاق العباد بجملة
وبالمسجد الأقصى وبالصخرة التى ـ عليها ينادى يوم حشر الخليقة
وبالكعبة البيت الحرام ومسجد ـ وما فيهما من كلّ شىءٍ شريفة
بمسجد ابراهيم والمسجد القبا ـ ومسجد خير الخلق شافع امّة
بحرمة عرفاتٍ وحجٍّ وعُمْرة ـ وما فيهما من كلّ نسكٍ جليلة
وبالطور والغار المنيف ومكّة ـ وبالأحُد العَالِى ويثرب طيبة
بأهل بقيع ثم بَدْرٍ وروضة ـ ومنبره ثم القبور الثلثة
بحرمة أصحاب الرقيم وكهفهم ـ وحرمة أرباب الشرائع خمسة
خصوصًا بصدّيق وسلمان قاسم ـ وجعفر طيفور ولاة الأئمة
أبى حسن ثم الامام أبى على ـ بيوسف همدانٍ هداة لأمّةِ
بمرشدِ حقٍّ فائقٍ عبد الخالق ـ بعارفِ رِوْكِيرٍ عظيم العناية
بمحمود أنجبرٍ وقطبِ عَزِيزَانٍ ـ ببابا محمّد امام الأئمة
بصانع فخار ومعدِنِ حكمةٍ ـ ومهبط اسرارٍ ونور الولاية
بحرمة قطب الأولياء جميعهم ـ ومنبع انوارٍ امام الطّريقة
بحرمة عطارٍ وحرمة يعقوبٍ ـ عبيدك احرارٍ حماةٍ لسنّه
بحرمة غوث الزّاهدين محمّدٍ ـ وحرمة دَرْويشٍ شهير الولاية
بخاجكنا ثم الامام محمّد ـ حليمٍ كريمٍ كاملٍ فى الحبيكة
بحرمة قطب العارفين مجدّد ـ لدين شفيع الخلق يوم القيمة
بحرمة معصومٍ نجابة مُحْسِنٍ ـ بسبط رسول الله خير الخليفة
بحقّ حبيب الله حامى حدوده ـ وحرمة عبد الله عين العناية
بحرمة سيف الله سابق حزبه ـ بحقّ ذبيح الله زين الولاية
بسيّدنا قطب الأنام وغوثهم ـ سمّي حبيب الله نور البريّة
بحرمة سادات البقية كلّهم ـ وغوْثٍ أقطابٍ وأبدال جمّة
وسائر أهل العلم والحلم التقى ـ ومَنْ عنده علم الكتاب وسنة
وأنْ تعفو عنّى وتغفر زلّتى ـ وتنجينى من هول يوم القيامة
وترضى خصمائى وتقبل توبتى ـ وتقضى حاجاتى وتجبر كسرتى
وتنقذنى من نار الجحيم وحرّها ـ وتُدْخلنى دار النعيم وجَنَّةِ
وأن تدفع عنّى المصائب كلّها ـ وتحفظنى من شرّ انسٍ وجِنّة
كذلك إخوانى وأخواتى التى ـ لَهُنّ رجاءٌ فى استجابة دعوتى
ومن كان أوصانى بصالح دعوة ـ وأمّى وأولادى واهلى وعترتى
ومن كان بالله المهيمن مؤمنا ـ وأهل قرابات وجمع أحبّتى
وصلّ على خير الأنام محمّد ـ وآلٍ وأصحابٍ وسائر امّة
انتهت رحمه الله.
وللشيخ جمال الدين هذا من أولاده ثـلاثة أبناء أحدهم (عبد الرحمن) كان عالما فاضلا وصهر الشيخ شاميل أفندى كان قد تزوّج ابنته (نفيسة) ولمّا استسلم الامام الى الروسية وأرسلتْه الى (كالوكا) كان عبد الرحمن معه وأهله وتوفيت هنالك بنته (نفيسة) زوجة عبد الرحمن فطلب الامام من الدّولة الاذن أن تحمل جنازتها الى ولاية (داغستان) فعملت الدولة ذلك وحملوها الى (داغستان) ثم ان الدولة خيّرت لعبد الرحمن أفندى أن يقيم فى بلدة (تمير خان شوره) مركز (داغستان) سابقا وبعد ذلك صار قاضيا فى بلدته غاز قموق رضى الله عنه ومن مؤلفاته فى سيرة الامام (خلاصة التفصيل، فى مناقب الشيخ شاميل) رحمهم الله تعالى.
واسم الآخر (عبد الرحيم) كان ناظر الخزينة فى زمن الدّولة الروسية السابقة.
وأمّا ابنه (محمّد) كان نائبا فى ولاية (قارص) فى زمن الدّولة الرّوسية كان عالمًا أديبًا شاعرًا مجيدًا بالخط رضى الله عنه.
نزهة الاذهان فى تراجم علماء داغستان - نذير بن محمد حاج الدركيلى الداغستانى