(الامام الثالث شامل بن دِنْكَاوْ محمّد الكمراوىّ الأوارىّ الداغستانى الشهير بامام شامل) ولد فى حدود سنة 1212 ه فى قرية كيمرة من مديرية خونزاخ على نهر قُويْسُوْ قرية ذات ثمار وعـنب ورطب، أخذ فى حداثة سنّه عن العالم المتبحّر الهركانى سعيد صاحب النبيذ المشهور وصَاحَبَ المقدام الغازى محمد الشهيد وسافر معه الى يراغ العليا فى ناحية كوره لتلقى الطريقة النقشبنديّة عن الشيخ محمد أفندى عن الشيخ خاص محمد الشروانى عن اسماعيل الكوردميرى عن البغدادى خالد الشهير فأجازهما اليراغى وكرّا راجعين الى كيمرة.
فاختفى البطلان مع حداثة سنّهما عن أعين النّاس وعكفا على العلم والعبادة لبثا عليه برهة، ثم ظهرا يعظان الناس ويجاهدان العادات الموروثة عن الآباء التى لا يتزن عليها الكتاب والسنّة ولا توافقها المصالح من شرب الخمر الشائع حينئذ واتيان الفحش والظلمات التى لا يكاد النور والهدى من بينها يبين، حتى جلبا قلوب الناس اليهما واحبّوهما، فتصدّى المقدام الشجيع (الغازى محمد) للإمامة وحشد الجموع لنصرة الدّين وأخذ البطلَ (شاملا) عضدًا له وعونًا وشامل لا يفتر عن أوامره حتى عهد الغازى محمد قيادة الجيش حين ما هاجم قريتى (اونصوكول) و (خونزاخ) شاملاً وأظهر البطل شامل فى تلك المصادمات شهامته ونجابته، فحاصرت الدّولة الرّوسيّة بعساكرها الكليّة الامام الغازى محمد ومعه أتباعه وأشياعه فى مضيق (كيمرة) فاستشهد الغازى محمد وأصيب شامل جراحة وصرع بين القتلى متماوتا حتي اذا أظلم تمشّى رويدًا الى حرج قريب ومنه الى اونصوكول فاندمل جرحه وبرء ولحق بالامام الثانى حمزة واشترك فى نحر امراء (أوا ر).
وألقى الصّبىّ (بولاج) فى نهر قُويْسُوْ وجعل قصور امراء أوار الذين لا يراعون فى الله الاًّ ولا يراقبون فى الله ذمّة أطلالاً وأوكارًا لِلْبُومِ والغِربان.
ثم بعد استشهاد الامام حمزة احتشد أهل الحلّ والعقد من جميع قرى أوار فى بقعة (عالادا) التابعة لبوزره وأقاموا شاملاً امامًا وقائدًا عامًّا لطرد الرّوس عن داغستان واحياء الدين الاسلامىّ ونشر العلم واقامة العدل والميزان، فأخذ البطل على عاتقه جميع شؤون الملّة وهجر الكرى وأقام القضاة والقواد وجمع الجنود وأيّدهم ونظمهم وفق الزّمان والمكان وألف شملهم وألغى جميع الرسوم الباطلة الزائغة حينئذ وحارب أوّلا جميع المتغلبين الذين صالحوا الرّوس وشايعواهم حتى أقصاهم وفتك بهم فصفى له (أوارستان) فبث الجهاد وهاجم الرّوس حتى اضطرّهم للجلاء عن معظم جبال داغستان بعد ما كانوا أقاموا بها حصونا وشيّدوا بها بروجًا لا يرام لها.
فلمّا أحسّتْ دولة الرّوس فتكات شامل تألّـبَتْ بعساكره من كلّ وجه وحاصرت بجنوده دولة شامل حتى الجأته أخيرًا الى (احول كوح) (تل النقير) فأبرز أشياع شامل فى هذه المعركة من الشجاعة ما يدهش الأبطال وداموا على هذا الحصار مدّة مديدة الى أن انسل شامل وعدّة من شيعته وولده من التَّـلِّ خفيّة الى جاجان فقوى هناك عضده وجمع شمله.
ولمّا قوى أمر شامل وهابت الدّولة الرّوسية مِنْ نُمُوِّ نفوذه هيأت القائد (وورونسف) وأيدته بزخائر وأسلحة وجنود كثيرة ووجهته الى (ويدانو) يباغت شاملا ويفاجئه فقابل هناك شامل وعساكره كالليوث العوابس وهزم الرّوس شر هزيمة حتى ناف عدد القتلى فى هذه المعركة من الرّوسيين ستّة آلاف نفس.
وهذه الغلبة هى فاتحة اقبال شامل وحركاته، ودام شامل يدافع عن وطنه بعزم لا يطرأ عليه ضعف ولا يعتريه وهن خمسة وعشرين سنة وذلك دليل لا يحتاج الى برهان آخر على مهارته فى تدبير الحروب واضطلاعه في فنون السياسة ناهيك بمدافعه وبيوت زخائره وأسلحته ومعامل البارود ومناجم الفحم والكبريت وغيرها.
كان له جند منظم يبلغ عدده زهاء ستين ألف مقاتل مسلّح، وكان له معمل مدافع استخدم به أحد المتخرجين فى مدارس (مصر) داغستانى، وبيت مال منتظم بغاية الاتقان، ومعامل كثيرة للبارود، ومعامل الأسلحة البارودة أيضا، وقسم شامل جميع ولايته الى النواحى وعيّن لها نوابا وقضاة ومعلّمين علماء، وجمع حوله العلماء والقواد والشجعان وأبرز فى جميع أفعاله التفوق التامّ والاستعداد.
من دلائل نجابة ومهارة شامل أنه ألّف من الأقوام الجبلية المختلفى الألسن والطبائع جندا منظما وقام به الدّولة الرّوسية مدة سنة 25 بلا فتور بحيث اندهش له العالم الغربىّ وتذاكر اسمه فى صفحات الجرائد وندوات السياسية، ولكنّه رغمًا عن الموفقيات التى منحها الله ايّاه ركن بعض من قواده وشيعته الى الوهن والفشل وأوجس فى قلوبهم الحقد والكسل فضعف به أمر شامل ووهنت شوكته وصار أخيرًا طعمة للرّوسيا الهلوع واضطرّ بخيانة أصدقائه وقواده الى التسليم فى (غونيب) لدى القائد (بارياتينسكى) سنة 1276 ه 1859 م.
بعد ما لبث شامل مع عائلته فى روسيا تحت طاعته عشر سنين سافر الى الحجّ وتوفى فى المدينة سنة 1287 ه فى ذى القعدة و 1871 ميلادية ودفن فى البقيع رحمه الله.
كذا ذكره الأديب الشابّ محمد سيّد الأوارى.
وسيرته وترجمته كثيرة شهيرة تغنى عن الاطالة والاسهاب وقد أفرد النّاس فى ذلك وترجموا الى لغات اخرى وقد أثنى عليه جميع الناس من علماء الأقطاع وأعيان الأمصار وجعلوه شيخ الاسلام وامام الدّين ومجدّده وان ما جرى عليه فى حروبه كلّها حقّ مطابق للشريعة العادلة.
وقد أثنى عليه العالم العلامة ابراهيم الباجورى من علماء مصر والعلامة المحقق شهاب الدّين المرجانى القزانى وغيرهم.
قال العلامة حسن الدمياطى الشافعى المدرس فى مكّة المكرّمة فى رسالته التى ألّفها فى سيرة الامام شامل أفندى ما نصّه: "وبالجملة فما عليه الشيخ شمويل هو الصواب وأحق بأن يتبع له من غير شكّ ولا ارتياب ومخالفه مفتر كذّاب ومعاندٌ غرّار" اه، وهذه رسالة صغيرة أرسل مؤلّفه المذكور الي الإمام شامل حين كان حيًّا فى المعركة التى وقعت فى قلعة (جوخ) سنة 1265 وقرظها علماء مكة كالعلامة أحمد بن محمد الدمياطى الشافعىّ المدرّس بالمسجد الحرام والعلامة أحمد بن السيّد بثى الشافعى المدرّس بالمسجد الحرام، ومنهم كثير شهير.
وقد عاند العالم يوسف اليخساوى على الامام وأتباعه وقابل عليهم بالنـثر والشعر وقد حطّ أيضا معاصروه بالنقص والملام وكذا من بعده.
قال العالم النجم الحزى يهجوه:
وازمع وانظر اذا هل محدثٌ دنسا ـ فى عـرض ليث الشرى أن تنهق الحمرُ
والليث يشمله حد الاسود وان ـ خرّت وخارت على انكاره البقرُ
أنّى يبالى وان لجّت مقوقية ـ هَذَى الدجاج عقاب الجوّ والصّقر
نباح مثـلك هل تجنى مضرّة من ـ يتلو التراب له الأمداح والحجرُ
تراب أرض من الحمرآء ألبسها ـ ما خاطه السيف لا ما خاطه الابرُ
يا يوسف الذمّ كذبٌ ما تقول ولا ـ بالهجو قولك فى الأقوال يعتبرُ
لذكره أسْتُكْ وبَسْمَلْ لن يحلّ ولو ـ ثناؤه لمعادٍ فمه قذرُ
واختم يا منكرا أسر الامام وقل ـ هل يكسف النجم الا الشمس والقمر
انتهى رحه الله تعالى.
نزهة الاذهان فى تراجم علماء داغستان - نذير بن محمد حاج الدركيلى الداغستانى