(الشيخ الغازى محمد الأوارى الداغستانى) وهو الشيخ الشهير العلامة المجاهد فى سبيل الله الغازى محمد ولد محمد ابن اسماعيل الأوارى الهزالى كان أبوه من قرية كيمرة ثم هاجر منها الى قرية (اونصوكول) وتوطّن فيها وولد هنالك الشيخ محمّد فلمّا ترعرع وبلغ الرشد أخذ يحصّل العلوم والفنون وقرأ على الأعلام المشهورين كالعلامة الشهير سعيد الهركانى وغيره وخرج عالما محققا وفاضلاً وآوى بعده الى قرية أبيه كيمره وصار فيها امامًا وصدرًا وشرع يدرس المحصّلين ويفيد الطالبين حتى اجتمع لديه جمّ غفير وكان فيما بينهم من تلاميذه (الشيخ شامل أفندى). ولما قرع سمعهم صيت الشيخ محمّد اليراغى شيخ الطريقة النقشبنديّة قدس سره أخذا أىْ الشيخ الغازى محمد والامام شامل يتأهبان حتى وصلا لديه وأخذا عنه الطريقة وصارا منه مجازين فى الارشاد والتسليك فلما رجعا من عنده باشرا لارشاد الناس الى الدّين والشريعة فانخرط فى سلكهما كثير من الناس من أهل الجبل، ثم ان الشيخ الغازى محمد أراد قطع سلطنة الدّولة الروسيّة عن هذه البلاد الداغستانيّة وتوسيع دائرة الاسلام فجاهد الكفار وقابلهم بالعساكر التى تبلغ قدر ثمانية آلاف حتى وصلوا الى بلدة (تارغو) وهجموا الروس الذين يسكنون فى الاستحكامات التى فوق جبل تارغو فتلف من عساكره خلق كثير بسبب وقوع النار على مخزن البارود ومن بقى منهم بعده ذهبوا الى ناحية جاجان (شيشان) فدخل منهم خلق كثير تحت اطاعته حتى وصلوا الى ناحية (طبسران) وحاصروا بلدة (دربند) وبعد مدّة رجعوا الى ناحية أوار.
ثم تحركوا ثانيا الى قلعة (قيزلار) ونهبوا وأغاروا أموال الكفار ثمّ وصلوا أيضا الى ناحية جاجان فقابلهم الرّوس الذين فى قرية (بيان) فتلف من عساكر الشيخ قدرٌ ورجع بعده الى ناحيته أوار وكان ذلك سنة 1247.
ثمّ ان الرّوس فى الأخير حاصروهم فى قرية كيمرة بعساكر جرّارة تحت قيادة (بارون روزين) فاستشهد الغازى محمد هنالك رحمه الله تعالي وبقى رفيقه الشيخ شاميل بين القتلى حيّا كما سيأتى وكان ذلك سنة 1248 فى جمادى الاخرى بُعَيْدَ عصر يوم الاثنين منه.
ولمّا قتلوه حملوا جسده وطرحوه فوق جبل تارغو وجففوه وحفظوه مدة مديدة ثمّ دفنوه، وفى زمن الامام شامل أفندى أرسل من ينبش قبره وحملوه الى كيمره ودفنوه فيه رضى الله عنه ذكره العالم الشهير محمد طاهر القراخى فى كتابه (بارقة السيوف الجبليّة).
وكان ظهور الشيخ الغازى محمد بُعَيْدَ وقعة (سورخاى خان) ودعا الناس على احياء الشريعة ونصرة الدين ومهّد لمن بعده سبيل الجهاد ووسّعه وسعى سعيا بليغا على محو الرّسوم الباطلة والعادات المخالفة للشريعة العادلة حتى اجتهد على كسر شوكة امراء أوار الذين يوالون الكفار ولا ينقادون للحق والشريعة ويقدّمون فى المحاكمة الطاغوت والعادات دون تحكيم الشرع، ولقد ألّف فى ذلك الشان كتابا صغيرًا سمّاه (اقامة البرهان، على امتداد عرفاء داغستان) وقرظه علماء عـصره ولا سيّما استاذه سعيد الهركانى.
وكتب الشيخ الغازى محمد علي ظهر كتابه هكذا:
واما تواريخ الرسوم فانها ـ دواوين عباد الرجيم المغادر
سيحكم ربّ الحكم بين محمّدٍ ـ ومن أسّس الرّسم الخسيس المكابر
غدا يعلمون المنجز الوعد منهما ـ اذا عاينوا يومًا عبوس المناظر
اذا فاز بالحبل المتين المتابع ـ لأحمد ما فازوا بأضعف ناصر
لقد أبعد الرّحمن قومًا يحبه ـ عن الكوثر البيضآء يوم السّرائر
اذا كان ذو رسم عديلاً لشارع ـ فلا فرق فينا بين برّ وفاجر
فلم بُعِثَتْ رُسُلٌ وسنّتْ شرائعُ ـ وانزل القرآن بهذى الزواجر
وكان الشيخ الغازى محمد أديبا مقتدرا فى الكلام المنظوم والمنثور وقد اعترف على ذلك معاصره العلامة يوسف اليخساوى ومن قصائده هذه القصيدة:
أيا غربة الاسلام قد رحت راحلا ـ فسلّم على من فى التراب ملحّدا
نبىّ كريم هاشمىّ مشفع ـ رسول عظيم القدر أعنى محمّدا
لقد كان هذا الخلق كلا ترحلوا ـ الى الآن من جهد البلاء ومن عدا
فطافت بهم أحوالهم وفعالهم ـ خلاف فروض الله والنهى والهدى
فبالخلق والأوزار صاروا مبدّدا ـ تولى عليهم أهل كفر ومن عدا
وانى اعزى أهل نجد وشفعة ـ بما حلّ فى هام الرؤس من الرّدا
اذا لم تروا خيرًا اطاعة ربّكم ـ فكونوا عبيدًا للذى قد تكائد
ومنها:
كيف المقام بدارٍ ما استراح بها ـ قلبٌ وما كان حكم الله مقبولا
وصارت السّمحة البيضآء منكرة ـ فيها وقد حكم الملعون مخذولا
وعد أرذلها كعبا وفاسقها ـ عدلا وقد عكس المعلوم مجهولا
وظن آمرها بالعرف مفسدها ـ والنهى عن منكر تلقاه معلولا
لو مدّ للمصطفى عمرًا الى الأمد ـ هذا لكان له الهندىّ مسلولا
ان رد قائمهم هذا فقلت له ـ ليس البداهى عند الجحد معقولا
(ومنها) فى مدح الطريقة النقشبنديّة وأهلها:
قومٌ حسبتهم والله قد هطلت ـ عليهم من جناب الحق أنهارُ
هم الرجال رجال الحق قد سعدوا ـ هاك حروفا لها الأخبار أبصارُ
اذ ليس يلهيهم بيع ولا لعب ـ عن ذكر خالقهم فالكلّ أبرار
فالقول قولهم والفعل فعلهم ـ فلا عفى عن مهين القوم قهّار
اذ هم على درج والناس فى درك ـ فلا يرى لكبير القوم عيّار
سادوا بدينهم فى الله قد رغبوا ـ أنّى يساويهم فى الخلق ديّار
وكنت فى جدل والقلب فى قلق ـ حتى يرى من سحاب الخير أمطار
وبعد أن ظهرت أنوار بهجتهم ـ لم يبق فى القلب غير الطوع أخطار
ان كان ينكرهم من ليس بعرفهم ـ فلا هدى لضرير العين أنوار
هذا الذى قلته ما كنت اكتمه ـ اذ قد بدى فى القلوب الغلق انكار
(والحاصل) انه كان رجلا عالما علامة بارعا فى العلوم وعارفا ربّانيا مكاشفا مستقيما فى دين الله وهو المجاهد فى سبيل الله لمحض اعلاء كـلمة الله القائم على الحق الآمر بالمعروف الناهى عن المنكر المجدد المجتهد الباهر لم يخف فى الله لومة لائم كان مصيبًا فى جميع اموره وشؤونه لم يصدر منه ما يخالف شريعة الاسلام يشهد به علماء عصره ومن بعده وليس له ذنبٌ غير أنه كان ممّن يريد كسر شوكة امراء داغستان ولا سيّما امراء (أوار) الذين يوالون الكفار ويسعون فى الأرض بالفساد واهلاك الحرث والنسل وقد عاب عليه من عاب من العلماء إمّا للعناد والحسد والتكبر وإمّا لتعصبهم على الرّوس وإمّا لغير ذلك فلا يلتفت لقولهم بعد أن كان أمر الغازى محمد فى أعلى الثريا وأمر أعدائه تحت الثرى رضى الله عنه.
وهذا مكتوب الامام الغازى محمّد الى القرى والنواحى حين الخروج الى الغزوة:
(بسم الله الرّحمن الرّحيم هو البارى تعالى والمستعان:
جرى أمرنا ونحن عباد الله تعالى اولو بأس شديد قاهرون فوق كل جبار عتيد الى كل من يعاند شريعة المختار ويخالف سيرة الأبرار سلام على من يستمعون فيتّبعون أحسنه ويتّخذون الاسلام دينه آمين
(أمّا بعد) فيا أيّها النفوس الخبيثة اعلموا انا بذلنا أرواحنا ومهجنا لإعلاء كلمات الله وشرفنا نفوسنا ابتغاء مرضاة الله، فان كان لكم كيد فكيدون، ثمّ لا يكن أمركم غمة ولا تنظرون، واذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، فان تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، والاّ فاذا خلعت البردة جلبابها لبست الحرارة أثوابها فلنأتينّكم بجنود لا قبل لكم بها ولنخرجنّكم من قراكم أذلّة وأنتم صاغرون، ولنذيقنّكم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّكم ترجعون، خرجنا ونحن قوم اذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، لإعانة اخواننا المؤمنين التائبين العابدين سلام عليكم الى يوم الدين.
(أمّا بعد) فيا أيّها الاخوان الكرام، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوى الله لعلّكم تفلحون، عسى الله أن يكفّ بأس الذين ظلموا انّ الله لا يصلح أمر المفسدين، واصبروا حتى نأتى اليكم ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون والسلام على من اتبع الهدى وترك الباطل فمن وجدناه لا يعلم الفاتحة والتشهد وسائر أركان وشروط الصلاة ومعنى كلمتى الشهادة والايمان والاسلام والأقوال والأفعال المكفرة والكبائر السبعة والستين والاربعمائة فذلك نجزيه بما يليق هذا والسلام الى يوم الحشر والقيام) انتهى.
نزهة الاذهان فى تراجم علماء داغستان - نذير بن محمد حاج الدركيلى الداغستانى