عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الحضرمي
تاريخ الولادة | 732 هـ |
مكان الولادة | تونس - تونس |
أماكن الإقامة |
|
- محمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغستاني أبي عبد الله "ابن العربي"
- محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن جابر شمس الدين الوادي آشي "أبي عبد الله"
- محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري التلمساني أبي عبد الله "الأبلي"
- محمد بن عبد السلام بن يوسف بن كثير أبي عبد الله
- عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن الحضرمي "أبي محمد"
- عبد الواحد بن محمد بن سعد بن محمد بن برال الأنصاري
- محمد بن علي بن سليمان السطي أبي عبد الله
نبذة
الترجمة
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن ابن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي
من ذرّية عثمان أخي كريب المذكور في نبهاء ثوار الأندلس. وينتسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف .
أوليته: قد ذكر بعض منها. وانتقل سلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعيّن وشهرة عند الحادثة بها، أو قبل ذلك، واستقرّ بتونس منهم ثالث المحمدين؛ محمد بن الحسن، وتناسلوا على سراوة وحشمة ورسوم حسنة، وتصرّف جدّ المترجم به لملوكها في القيادة.
حاله: هذا الرجل الفاضل حسن الخلق، جمّ الفضائل باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصّيّ الزّيّ، عالي الهمّة، عزوف عن الضّيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقنن الرئاسة، خاطب للحظّ، متقدّم في فنون عقلية ونقلية، متعدّد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التّصوّر، بارع الخطّ، مغرى بالتجلّة، جواد الكفّ ، حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسوم التّعين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخرة من مفاخر التّخوم المغربية.
مشيخته: قرأ القرآن ببلده على المكتّب ابن برال، والعربية على المقرئ الزواوي ، وابن العربي، وتأدّب بأبيه، وأخذ عن المحدّث أبي عبد الله بن جابر الوادي آشي. وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام، وروى عن الحافظ عبد الله السّطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلي، وانتفع به.
توجّهه إلى المغرب: انصرف عن إفريقية منشئه، بعد أن تعلّق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة. وعرف فضله، وخطبه السلطان منفّق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن علي بن عثمان، واستقدمه ، واستحضره بمجلس المذاكرة، فعرف حقّه، وأوجب فضله، واستعمله في الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصّة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأنّي، وشفوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، فأغروا به السلطان إغراء عضّده ما جبل عليه عندئذ من إغفال التّحفّظ، ممّا يريب لديه، فأصابته شدّة تخلّصه منها أجله؛ كانت مغربة في جفاء ذلك الملك، وهناة جواره، وإحدى العواذل لأولي الهوى في القول بفضله، [واستأثر به الاعتقال باقي أيام دولته على سنن الأشراف من الصّبر] »
وعدم الخشوع، وإهمال التوسّل، وإبادة المكسوب في سبيل النّفقة، والإرضاخ على زمن المحنة، وجار المنزل الخشن، إلى أن أفضى الأمر إلى السّعيد ولده، فأعتبه قيّم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه. ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال، قبل تسوّغ المحنة، بما أكد حظوته، فقلّده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات، محرّر السّهام، نبيه الرّتبة، إلى آخر أيامه. ولمّا ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله، مدبّر الأمر، وله إليه قبل ذلك وسيلة، وفي حليه شركة، وعنده حقّ، رابه تقصيره عمّا ارتمى إليه أمله، فساء ما بينهما إلى أن آل إلى انفصاله عن الباب المريني.
دخوله غرناطة: ورد على الأندلس في أوائل شهر ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعمائة، واهتزّ له السلطان، وأركب خاصّته لتلقّيه، وأكرم وفادته، وخلع عليه، وأجلسه بمجلسه الخاص ، ولم يدّخر عنه برّا ومؤاكلة ومطايبة وفكاهة.
وخاطبني لما حلّ بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن، فأجبته عنها بقولي : [الطويل]
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرّحب والسّهل
يمينا بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشّيخ والطفل المهدّإ والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسّي اغتباطي بالشّبيبة والأهل
أقسمت بمن حجّت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمّة الأحياء لميته، [ونور ضربت الأمثال بمشكاته وزيته، لو خيّرت أيها الحبيب] الذي زيارته الأمنية السّنيّة، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشّباب يقطر ماء، ويرفّ نماء، ويغازل عيون الكواكب، فضلا عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلمّ بسياج لمّته، أو يقدح ذبالة في ظلمته، أو يقوم حواريّه في ملّته ، من الأحابش وأمّته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النّعيم ومراح، وقصف صراح ، [ورقّى وجراح،] وانتحاب واقتراح، وصدور ما بها إلّا انشراح، ومسرّات تردفها أفراح. وبين قدومك خليع الرّسن، ممتّعا والحمد لله باليقظة والوسن، محكما في نسك الجنيد أو فتك الحسن، ممتعا بظرف المعارف، مالئا أكفّ الصّيارف، ماحيا بأنوار البراهين شبه الزّخارف- لما اخترت الشّباب وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملّكني أزمة آرابي، وغبّطني بمائي وترابي، [ومألف أترابي،] وقد أغصّني بلذيذ شرابي، ووقّع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجّلت هذه مغبّطة بمناخ المطيّة ، ومنتهى الطّيّة، وملتقى السّعود غير البطيّة، وتهنّي الآمال الوثيرة الوطيّة، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريّك، متجمّلة بزيّك، عاقلة خطى مهريّك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظانّ مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلّف عن الإصحار ، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسّلام.
ولما استقرّ بالحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات أقطعها الظّرف جانبه، وأوضح الأدب فيها مذاهبه. فمن ذلك ما خاطبته به، وقد تسرّى جارية روميّة اسمها هند صبيحة الابتناء بها: [السريع]
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشّكّ إذا جئته ... جنّبك الرحمن ما تكره
سيدي، لا زلت تتّصف بالوالج، بين الخلاخل والدّمالج ، وتركض فوقها ركض الهمالج أخبرني كيف كانت الحال، وهل حطّت بالقاع من خير البقاع الرّحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسّقيا الإمحال، وصحّ الانتحال، وحصحص الحقّ وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفّت هند منك إلى بشر، فلله من عشيّة تمتّعت من الربيع بفرش موشيّة، وابتذلت منها أي وساد وحشية، وقد أقبل ظبي الكناس، من الدّيماس، ومطوق الحمام، من الحمّام، وقد حسّنت الوجه الجميل التّطرية ، وأزيلت عن الفرع الأثيث الإبرية ، وصقلت الخدود فهي كأنها الأمرية ، وسلّط الدّلك على الجلود، وأغريت النّورة بالشّعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللّمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسّحنة يجول في صفحتها الفضّيّة ماء النعيم، والمسواك يلبّي من ثنيّة التّنعيم والقلب يرمي من الكفّ الرّقيم بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول: إني سقيم. وقد تفتّح ورد الخفر، وحكم لزنجي الظّفيرة بالظّفر، واتّصف أمير الحسن بالصّدود المغتفر، ورشّ بماء الطّيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرّطيب. وأقبلت الغادة، يهديها اليمن وتزقّها السعادة، فهي تمشي على استحياء وقد ذاع طيب الريّا، وراق حسن المحيّا، حتى إذا نزع الخفّ، وقبّلت الأكفّ، وصخب المزمار وتجاوب الدّف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوّز اللّوا والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزّت الأرض وربت، وعوصيت الطّباع البشرية فأبت. ولله درّ القائل : [المتقارب]
ومرّت فقالت : متى نلتقي؟ ... فهشّ اشتياقا إليها الخبيث
وكاد يمزّق سرباله ... فقلت: إليك يساق الحديث
فلمّا انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام ، وخاطت خيوط المنام، عيون الأنام، تأتّى دنوّ الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضّة النهد، وقبلة الفم والخدّ، وإرسال اليد من النّجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القليلة قبل المدّ، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوّش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السّرير : [الطويل]
وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا ... ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال
هذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في حلّ التّكة، ونزع الشّكة، وتهيئة الأرض العزاز عمل السّكة، ثم كان الوحي والاستعجال، وحمي الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطّبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النّبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السّبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطّع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق، وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانعة، وطال التّراوغ والتّزاور، وشكي التجاور ، وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أو تربح الأموال، فمن عصا تنقلب ثعبانا مبينا، ونونة تصير تنينا، وبطل لم يهله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرّته الحائل، فتعدّى فتكة السّليك إلى فتكة البرّاض، وتقلّد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض، ثم شقّ الصفّ، وقد خضّب الكفّ، بعد أن كاد يصيب البريّ بطعنته، ويبوء بمقت الله ولعنته : [الطويل]
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقّع فاستراح البال، وتشوّف إلى مذهب الثنوية من لم يكن للتّوحيد بمبال، وكثر السؤال عن البال، بما بال، وجعل الجريح يقول: وقد نظر إلى دمه، يسيل على قدمه: [البسيط]
إنّي له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول: حمّلته في سفكه تعبا
ومن سنان عاد عنانا، وشجاع صار هدانا جبانا، كلما شابته شائبة ريبة، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحيّة، وماتت الغريزة الحيّة، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأسر، ويغلب الحصر، ويجفّ اللّباب ، ويظهر العاب ، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق، ويشتدّ الكرب والأرق، وينشأ في محلّ الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق، ويقوى اللّجاج ويعظم الخرق. فلا تزيد الحال إلا شدّة، ولا تعرف تلك الجارحة المؤمنة إلّا ردّة: [الطويل]
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
فكم مغرى بطول اللّبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرّة، ليزيل المعرّة، ويستنصر الخيال، ويعمل باليد الاحتيال: [الرجز]
إنك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثّقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه، جرّعه أوصابه ، ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحيانا، فقال: سيحدث الله بعد عسر يسرا وبعد عيّ بيانا، اللهمّ إنّا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها، ولم تسم بالنّجيع أغفالها ، ومن معرّات الأقذار ، والنكول عن الأبكار، ومن النّزول عن البطون والسّرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدّرر، ولا تجعلنا ممن يستحي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أوجال، وأعملت رويّة وارتجال. فمن قائل: [السريع]
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطرب أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله
أو قائل : [السريع]
عدمت من أيري قوى حسّه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خرّ على أسّه
وقائل: [الطويل]
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي ورأسي دمّلا وزكاما؟
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يريد قياما
وقائل: [الطويل]
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به: خبت من أير وعالتك داهيه
إذا لم يك للأير بخت تعذّرت ... عليه وجوه النيك من كلّ ناحيه
وقائل: [الطويل]
تعقّف فوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركيّة ملتفّ
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضّعف
وقائل: [الطويل]
تكرّش أيري بعدما كان أملسا ... وكان غنيّا من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي ... «مضى الوصل إلّا منية تبعث الأسى»
وقائل: [الطويل]
بنفسي من حيّيته فاستخفّ بي ... ولم يخطر الهجران منه على بالي
وقابلني بالغور والنّجد بعدما ... حططت به رحلي وجرّدت سربالي
وما أرتجي من موسر فوق دكّة ... عرضت له شيئا من الحشف البالي
علل لا تزال تبكى، وعلل على الدهر تشكى، وأحاديث تقصّ وتحكى، فإن كنت أعزّك الله من النّمط الأول، ولم تقل: [الطويل]
وهل عند رسم دارس من معوّل
فقد جنيت الثّمر، واستطبت السّمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزّينة ، واستبشر بالوفود، وعرّف المسمع عازفة الجود، وتبجّح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمّان النّهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللّثم أقاح الثّغور وورد الخدود، وإن كانت الأخرى، فأخف الكمد، وارض الثمد، وانتظر الأمد، وأكذب التوسّم، واستعمل التّبسّم، واستكتم النّسوة، وأفض فيهنّ الرّشوة، وتقلّد المغالطة وارتكب، وجىء على قميصك بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمورك بالكتمان:
[الكامل]
لا تظهرنّ لعاذل أو عاذر ... حاليك في السّرّاء والضّرّاء
فلرحمة المتفجّعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج، فكم غمام طبّق وما همى ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
، واملك بعدها عنان نفسك حتى تمكّنك الفرصة، وترفع إليك القصّة، ولا تشتره إلى عمل لا تفيء منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله درّ عروة بن حزام : [الكامل]
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم ... أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي
ففررت منهم والأحبّة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
واللّبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح ، وكم من شجاع خام ، ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضلّ الفريق، والله عزّ وجلّ يجعلها خلّة موصولة، وشملا أكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركاب اليمن مأمولة، حتى يكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتضفو عليه نعمة باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عيص ، وأدرك مرام عويص ، وأعطي زاهد وحرم حريص، والسّلام.
تواليفه: شرح القصيدة المسماة بالبردة شرحا بديعا، دلّ فيه على انفساح ذرعه، وتفنّن إدراكه، وغزارة حفظه. ولخّص كثيرا من كتب ابن رشد.
وعلّق للسلطان أيام نظره في العلوم العقلية تقييدا مفيدا في المنطق، ولخّص محصّل الإمام فخر الدين ابن الخطيب الرازي. وبذلك داعبته أول لقية لقيته [ببعض منازل الأشراف، في سبيل المبرّة بمدينة فاس،] فقلت له:
لي عليك مطالبة، فإنك لخّصت «محصّلي» . وألّف كتابا في الحساب. وشرع في هذه الأيام في شرح الرّجز الصادر عني في أصول الفقه، بشيء لا غاية وراءه في الكمال. وأمّا نثره وسلطانيّاته، مرسلها ومسجعها ، فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع.
وأما نظمه، فنهض لهذا العهد قدما في ميدان الشّعر، وأغري نقده باعتبار أساليبه؛ فانثال عليه جوّه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة. من ذلك قوله يخاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة : [الكامل]
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف عبرتي وتحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
لله عهد الظّاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي
يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصّبّ الملام وإنني ... ماء الملام لديّ غير شريب
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكّر منزل وحبيب
أهفو إلى الأطلال كانت مطلعا ... للبدر منهم أو كناس ربيب
عبثت بها أيدي البلى وتردّدت ... في عطفها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإنّ عهودها ... ليجدّها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرّضت لمتيّم ... هزّته ذكراها إلى التّشبيب
إيه على الصّبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغضّ طرفي حاسد ورقيب
والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كلّ قشيب
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الإسآد بالتّأويب
متهافتا عن رحل كلّ مذلّل ... نشوان من أين ومسّ لغوب
تتجاذب النّفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صبا وجنوب
إن هام من ظمإ الصّبابة صحبه ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب
في كلّ شعب منية من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلّا عطفت صدورهنّ إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤمّ من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوّة آيها مجلوّة ... تتلو من الآثار كلّ غريب
سرّ غريب لم تحجّبه الثّرى ... ما كان سرّ الله بالمحجوب
يا سيّد الرّسل الكرام ضراعة ... تقضي منى نفسي وتذهب حوبي
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعلّلني بكل كذوب
لا كالألى صرفوا العزائم للتّقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب
لم يخلصوا لله حتى فرّقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحا جميلا عن قبيح ذنوبي
إنّ النجاة وإن أتيحت لامرىء ... فبفضل جاهك ليس بالتّسبيب
إني دعوتك واثقا بإجابتي ... يا خير مدعوّ وخير مجيب
قصّرت في مدحي فإن يك طيّبا ... فبما لذكرك من أريج الطّيب
ماذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كلّ مطيب
يا هل تبلّغني الليالي زورة ... تدني إليّ الفوز بالمرغوب؟
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحطّ أوزاري وإصر ذنوبي
في فتية هجروا المنى وتعوّدوا ... إنضاء كلّ نجيبة ونجيب
يطوي صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب
إن رنّم الحادي بذكرك ردّدوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرّد الرّكب الخليّ بطيبة ... حنّوا لمغناها حنين النّيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النّقع كلّ سبيب
والواهبون المقربات هواتنا ... من كلّ خوّار العنان لعوب
والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حلمهم ... والعزّ شيمة مرتجى ومهيب
ومنها بعد كثير :
سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح» العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنّة وعزائم ... يصدعن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلم الضّلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب
يا ابن الألى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... كرموا بها في مشهد ومغيب
لله مجدك طارفا أو تالدا ... فلقد شهدنا منه كلّ عجيب
كم رهبة أو رغبة لك والعلا ... تقتاد بالتّرغيب والتّرهيب
لا زلت مسرورا بأشرف دولة ... يبدو الهدى من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غاديا أو رائحا ... وجديد سعدك ضامن المطلوب
وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هديّة ملك السودان ، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزّرافة : [الكامل]
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت سلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولربّ وصل كنت آمله ... فاعتضت منه مؤلم الصّدّ
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إنّ الغرام أضاع من عهدي
يلحى العذول فما أعنّفه ... وأقول: ضلّ فأبتغي رشدي
وأعارض النّفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعلّلي بضعيف ما تهدي
يا سائق الوجناء معتسفا ... طيّ الفلاة لطيّة الوجد
أرح الرّكاب ففي الصّبا نبأ ... يغني عن المستنّة الجرد
وسل الرّبوع برامة خبرا ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلّا الرّشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرّشد
نعم الخليفة في هدى وتقى ... وبناء عزّ شامخ الطّود
نجل السّراة الغرّ شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصه إليه، وما ارتكبه فيه :
لله منّي إذ تأوّبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفلّ بواترا قضبا ... وجموع أقيال أولي أيد
أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حقّ المجد من قصدي
ووردت عن ظمإ مناهلة ... فرويت من عزّ ومن رفد
هي جنّة المأوى لمن كلفت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعلّ بورد كوثرها ... ما قلت: هذي جنّة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النّوى وتنوفة البعد
أني أنفت على رجائهم ... وملكت عزّ جميعهم وحدي
ومنها:
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشيّة بوشائح البرد
وحشيّة الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقود
تسمو بجيد بالغ صعدا ... شرف الصّروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفا وصلت ... آسادها بالنّصّ والوخد
تخدي على استصعابها ذللا ... وتبيت طوع القنّ والقدّ
بسعودك اللائي ضمنّ لنا ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلّبهم ... أيدي السّرى بالغور والنّجد
كالطّيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسلّ من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخرا على الأتراك والهند
يا مستعينا جلّ في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربّك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما يسدي
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزّة أبدا وفي سعد
وقال يخاطب صدر الدولة فيما يظهر من غرض المنظوم : [الكامل]
يا سيّد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البثّ خير سميع
ما لي وللإقصاء بعد تعلّة ... بالقرب كنت لها أجلّ شفيع
وأرى الليالي رنّقت لي صافيا ... منها فأصبح في الأجاج شروعي
ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأيّ وعد صادق ... إني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي
رغمت نفوسهم بنجح وسائلي ... وتقطّعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموا عليّ خلائقي ... حسدا فراموني بكلّ شنيع
لا تطمعنّهم ببذل في التي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوعي
أنّى أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيّعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمك ذاك من تفريعي
قسما بمجدك وهو خير أليّة ... أعتدّها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفا عليّ بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي
أغدو إذا باكرتهم متجلّدا ... وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسرّ في الأوهام كلّ مروع
أطوي على الزّفرات قلبا إدّه ... حمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع
مهلا عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له أجنّ دروع
إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذّ الجميع بفضله المجموع
وأنشد السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله ابن أمير المسلمين أبا الحجاج، لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم، من عام أربعة وستين وسبعمائة : [البسيط]
حيّ المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إنّ الألى نزحت داري ودارهم ... تحمّلوا القلب في آثارهم دوني
وقفت أنشد صبرا ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسما لا يناجيني
أمثّل الرّبع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد منّي كلّ لؤلؤة ... ما زال جفني عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الرّبع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أنّ قلبي إلى السّلوان يدعوني
أحبابنا، هل لعهد الوصل مدّكر ... منكم وهل نسمة منكم تحيّيني؟
ما لي وللطّيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلا لا يداويني
يا أهل نجد، وما نجد وساكنها ... حسنا سوى جنّة الفردوس والعين
أعندكم أنّني ما مرّ ذكركم ... إلّا انثنيت كأنّ الرّاح تثنيني
أصبو إلى البرق من أنحاء أرضكم ... شوقا، ولولاكم ما كان يصبيني
يا نازحا والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قربا يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوما بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادّكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في ذكر التفريط:
أبعد مرّ الثلاثين التي ذهبت ... أولي الشّباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيسا ما وردت به ... إلّا سراب غرور ليس يروّيني
وا حسرتا من أمان كلّها خدع ... تريش غيّي ومرّ الدّهر يبريني
ومنها في وصف المشور المبتنى لهذا العهد:
يا مصنعا شيّدت منه السّعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطّرف مفتتنا ... فما يروقك من شكل وتلوين
بعدا لإيوان كسرى إنّ مشورك السّ ... امي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... «أشهى إلى القلب من أبواب جيرون»
ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه من المغرب لأجله :
من مبلغ عنّي الصّحب الألى جهلوا ... ودّي وضاع حماهم إذ أضاعوني
أني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحيّيني
وإنني ظاعن لم ألق بعدهم ... دهرا أشاكي ولا خصما يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلّب الطّرف بين الخوف والهون
سقيا ورعيا لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظّ غير مغبون
أرتاد منها مليّا لا يماطلني ... وعدا وأرجو كريما لا يعنّيني
وهاك منها قواف طيّها حكم ... مثل الأزاهر في طيّ الرياحين
تلوح إن جليت درّا، وإن تليت ... تثني عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كلّ شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنها ما تقسّمه ... من كلّ حزن بطيّ الصّدر مكنون
لكن بسعدك ذلّت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين
وهو الآن قد بدا له في التّحول طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله ابن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص، لما عاد إليه ملك بجاية، وطار إليه بجناح شراع تفيّأ ظلّه، وصكّ من لدنه رآه مستقرّا عنده، يدعّم ذلك بدعوى تقصير خفيّ أحسّ به، وجعله علّة منقلبة، وتجنّ سار منه في مذهبه وذلك في ... من عام ثمانية وستين وسبعمائة. ولما بلغ بجاية صدق رأيه، ونجحت مخيّلته، فاشتمل عليه أميرها، وولّاه الحجابة بها. ولم ينشب أن ظهر عليه ابن عمّه الأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، وتملّك البلدة بعد مهلكه، وأجرى المترجم به على رسمه بما طرق إليه الظّنّة بمداخلته في الواقع. ثم ساء ما بينه وبين الأمير أبي العباس، وانصرف عنه، واستوطن بسكرة، متحوّلا إلى جوار رئيسها أبي العباس بن مزنى، متعلّلا برفده إلى هذا العهد.
وخاطبته برسالة في هذه الأيام، تنظر في اسم المؤلّف في آخر الديوان.
مولده: بمدينة تونس بلده، حرسها الله، في شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة .
الإحاطة في أخبار غرناطة - لسان الدين ابن الخطيب.