الشيخ أمين بن محمد الجندي الحمصي الشافعي ابن خالد بن عبد الرزاق
الشاعر اللبيب، والماهر الأديب، والكامل الأريب، والفاضل النجيب، من اشتهر برقة المعاني كلامه الفائق، ورقى فوق ذروة الفصاحة حسن انسجامه الرائق، قد حضر دروس العلماء الدمشقيين، وشهدوا له بالفضل والقدر المكين، وابتهج به ذوو المعارف، وأقروا له بالفضائل والعوارف، وكان حسن النظم والنثر، قد فاق أهل زمانه بما ألقاه من بديع الشعر، وله المقطعات العجيبة المباني، التي لم يسبق لها مثيل في جزالة الألفاظ ولطافة المعاني، استعمل فيها الكلمات المألوفة في هذا الزمان، التي تطرب لسماعها القلوب والآذان، ولا بدع فناظمها هو العالم النحرير، والشاعر الشهير، لبيب عصره، وأديب قطره فضلاً عن مصره، منور الأفكار ببلاغته، ومزين الألفاظ ببراعته، قد خلع عليه الصفي صفاه، وتبعه المتنبي ورجع عن مدعاه، ولد بمدينة حمص الشهيرة، ونشأ بها في طلب العلوم، وتحقيق المنطوق والمفهوم، ثم صار يتردد إلى دمشق الشام، ويقرأ على علمائها الأعلام، وأخذ وتلقى وقرأ على قطب زمانه، ومرشد أقرانه، السيد الشيخ عمر اليافي، قدس الله سره الوافي، فحل عليه نظره التام، حتى قال له اذهب فأنت أشعر أهل الغرام، فصار الشعر فيه سجيه، والبلاغة له عطية، ينظم القصائد المفيدة، والقدود الفريدة، والموشحات النضيدة، والمقاطيع السديدة، والمواليات العديدة، فسارت الركبان بكلامه، وتزينت المجالس بنظامه، فيا له من ماهر ألبس الدهر أحسن أثوابه، وأنفق الدر الثمين على أقرانه وأحبابه، فصار مفرداً في نظامه، معدولاً إلى بديع كلامه. وفي سنة ست وأربعين ومائتين وألف أتى إلى حمص عامل من قبل السلطان محمود خان، وما لبث أن وشى إليه بصاحب الترجمة بعض أعوانه أنه هجاه، وقال عليه ما لا يرضاه، فأمر بنفيه وإخراجه من حمص بحال الذل والقهر، وبلغ الشيخ أمين خبر هذا الأمر، ففر هارباً إلى مدينة حماه، وظن أنها تكون مكان حفظه وحماه، وعلم العامل بفراره، فأرسل في طلبه جماعة من أنصاره، فقبضوا عليه في الطريق، وأرسلوا الخبر إلى العامل، فأمر بأن يضيق عليه أشد التضييق، وأن يحبس في اسطبل الدواب، ويسد عليه الباب، وأن يعطى له في اليوم والليلة قرص شعير، وشربة ماء مع غاية التكدير، ففعلوا به ذلك، وأوردوه موارد المهالك، فاشتغل بنظم قصيدة يمدح بها النبي ﷺ ويتوسل به في خلاصه. ففي اليوم الرابع من حبسه دخل سليم بن باكير الدنادشة حمص قهراً، ومعه مايتا فارس فقتلوا العامل المرقوم شر قتلة، وخرج المترجم من الحبس وفرج الله عنه ببركة النبي ﷺ هذه القصيدة:
توسلت بالمختار أرجى الوسائل ... نبي لمثلي خير كاف وكافل
هو الرحمة العظمى هو النعمة التي ... غدا شكرها فرضاً على كل عاقل
هو المصطفى المقصود بالذات ظاهراً ... من الخلق فانظر هل ترى من مماثل
نجي إله العرش بل وحبيبه ... وخيرته من خير أزكى القبائل
شمائله تنبيك عن حسن خلقه ... فقل ما تشا في وصف تلك الشمائل
وأخلاقه فاه الكتاب بمدحها ... ولاسيما الإعراض عن كل جاهل
نبي هدى سن التواضع عن علا ... فحل من العليا بأعلى المنازل
تقي تردى الجود والحلم حلة ... تجسم فيها المجد بعد التكامل
وفي الحرب والمحراب نور جبينه ... يريك شعاع الشمس من غير حائل
له النسب الوضاح والسؤدد الذي ... تسامى على هام السهى بالتطاول
يقولون لي هلا ابتهجت بمدحه ... فإنك ذو فهم كفهم الأوائل
فقلت لهم هل بعد مدحة ربنا ... وخدمة جبريل مجال لقائل
وأين الثنا ممن رأى الله يقظة ... وقام يناجي ربه غير ذاهل
ولكنه بحر البحور تواصلت ... لأفضاله بالمدح كل الأفاضل
دعوتك يا الله مستشفعاً به ... فكن منجدي يا منتهى كل آمل
سألتك كشف الضر عني بجاهه ... وحاشاك أن لا تستجيب لسائل
إلهي قد اشتدت كروبي وليس لي ... سواك مغيث في الخطوب الغوائل
إلهي تدارك ضعف حالي برحمة ... ولطف خفي عاجل غير آجل
وفي علتي حار الطبيب فكدت أن ... أجاوز حد اليأس من ذي العواضل
وبالسقم أعضائي اضمحلت جميعها ... فلم يبق مني مفصل غير ناحل
ومن فرط ما بي من نحول ولوعة ... بكت رحمة لي حسدي وعواذلي
فمن لا سير الذنب من ورطة البلا ... بفك قيود أو بقد سلاسل
كأني غريب بين قومي وما لهم ... شعور بأشعاري ولا في رسائلي
أنادي فلا ألقى مجيباً سوى الصدى ... فأحسب أن الحي ليس بآهل
وإني إذا ما رمت خلاً موافياً ... فقد رمت شيئاً عز عن كل نائل
وهل مشفق ألقاه أرحم من لظى ... حشائي ومن قاني دموعي الهوامل
ألا ليت شعري هل تفردت في الورى ... بكسب الخطايا وارتكاب الرذائل
ومن دون كل الخلق عولجت بالأسى ... قصاصاً وحسبي زلتي ونصائلي
فإن كان هذا بالذنوب وليس لي ... شفاء وجسمي داؤه غير ناصلي
فإني بطه مستغيث وراغب ... إلى الله فهو الغوث في كل هائل
وإخوانه الرسل الكرام جميعهم ... وباقي النبيين البدور الكوامل
وبالخلفاء الراشدين وآله ... وأصحابه الغر الثقات الأماثل
خصوصاً رفيق الغار ذي الرأي والحجى ... أبي بكر الصديق صدر المحافل
إمام فدى خير الأنام بنفسه ... وفي ماله ما كان قد بباخل
وفي درء تلك الفتنة اختص وحده ... ولولاه لارتدت جميع القبائل
كذاك أمير المؤمنين وعزهم ... أبي حفص الفاروق محيي النوافل
فتى أيد الإسلام فيه وأقمعت ... به البدعة السوداء رغماً لناكل
بعثمان ذي النورين من جمعت به ... بجمع كتاب الله كل الفضائل
ومن لزم المحراب طول حياته ... ومات شهيداً صابراً غير صائل
بقالع باب الخيبري الذي اغتدى ... لراية نصر الجيش أعظم حامل
علي أبي السبطين في صدرة الوغى ... مبيد العدى ليث الحروب المداحل
بطلحتهم ثم الزبير وسعدهم ... كذاك سعيد من سما بالفضائل
بصدق أبي عوف بذي الهمة التي ... يدك لها في البأس صم الجنادل
يفاتح قطر الشام سيدنا أبي ... عبيدة كشاف الحروب العواضل
بحمزة بالعباس عمي نبينا ... بسبطيه بالزهراء عين الأماثل
بمن شهدوا بدراً وقد أثخنوا العدى ... ببيض حداد أو بسمر ذوابل
بسطوة سيف الله ذي البأس خالد ... فتى الحزم ماضي العزم زاكي الخصائل
أمير بني مخزوم الشهم من غدا ... ببر يمين المصطفى خير حافل
ومن ثم يوم الفتح سبعون سيداً ... سقاها كؤوس الحتف بين الجحافل
وعاد كأكباد البخاتي دم العدا ... على درعه لاسي فوق الكواهل
وما كان هذا منه إلا برؤية ... بأمر إلهي بعيد التناول
بسائر حفاظ الحديث بمن غدا ... بتفسيره للحبر أو لمقاتل
بأحمد بالنعمان ثم بمالك ... وبالشافعي بحر الندى والمسائل
وبالعلماء العاملين ذوي الهدى ... وأتباعه من كل حبر وفاضل
وبالأولياء العارفين وبازهم ... أبي صالح من قال ما في المناهل
بمن لزموا بر الشريعة فانجلى ... لهم بحر قدس الذات من غير ساحل
أجرني وأنقذني من الهم والعنا ... فغيرك مالي ملجأ في النوازل
وهذا ختام الصوم تصطنع الجدى ... به الأسخيا مع كل سام وسافل
وفي العيد عادات الكرام لقد جرت ... ببر اليتامى وافتقاد الأرامل
وها أنا محتاج فلا تك قاطعاً ... حبال رجائي منك يا خير واصل
فإنك أولى بالمكارم منهم ... وأجدر بالإحسان من كل باذل
فحاشا ظنوني أن ترد بخيبة ... وفي بابك المأمول حطت رواحلي
فإن كان في العمر انفساح فشافني ... من السقم وارحم يا رحيم تناحلي
وإن تك قد حانت وفاتي فآوني ... لدار نعيم عزها غير زائل
وثبت على التوحيد قلبي ومن لي ... بخاتمة الإيمان من غير فاضل
وكن لي رحيماً في البلاء وفي البلا ... بدنيا وأخرى يا رجا كل سائل
ودم راضياً عني كذاك ومرضياً ... خصومي ويوم العرض لا تك خاذلي
فإني أرى الدنيا سراباً وأهلها ... أحاديث يرويها الزمان لناقل
وما الكون إلا كالهباء لناظر ... أو الحظ في مستبحر ذي جداول
وإني لراض بالقضا وبما تشا ... وعندي يقين أن لطفك شاملي
ولكنني أشكو البلالك لا القضا ... لأنك أنت الحق أعدل عادل
وللغير لا أشكو وإن سامني الردى ... وفصل فصال المنايا مفاصلي
وعن رتبة التسليم في كل حالة ... فؤادي وإن ناجاك ليس بنازل
وحبة قلبي في معانيك أنبتت ... بقدس سواد الليل سبع سنابل
تعرفت لي من قد ألست بزرعها ... فلم أسقها غير الدموع الهواطل
وبالكتم من بعد الحصاد درستها ... بلب خلا عن فكرة وتخايل
ولا برحت قوتي مع الفقر والغنى ... وقوت عيالي في الضحى والأصائل
ألا ما ألذ القرب بعد النوى وما ... أمر الجفا والهجر بعد التواصل
تبرأت من حولي إليك وقوتي ... ومن عملي والعلم ثم التفاضل
لتقطعني بالقرب عن كل قاطع ... وتشغلني في الحب عن كل شاغل
أشاع الورى عني عداتي وأظهروا ... الشماتة فيما بينهم بالتداول
وبالموت لم يشمت بمثلي تشفياً ... من الناس إلا كل باغ وباسل
أليس الوجود الحق ذاتي بلا مرا ... وهذي البرايا كلها محض باطل
فلا يحسب المغرور أني مضيع ... زماني سدىً ما بين هاز وهازل
فدع عصبة البهتان تفعل ما تشا ... فما الله عما يفعلون بغافل
فمن أين للخفاش أن يبصر الضيا ... وهل يألف الجعلان ورد الخمائل
ومني على روحي الصلاة مسلماً ... وأصحابه والآل مع كل كامل
مدى الدهر ما الجندي أنشد قائلاً ... توسلت بالمختار أرجى الوسائل
وله أيضاً مخمساً
أرى قلبي بليلى زاد ميلاً ... وما جرت بربعي قط ذيلا
فقلت لبعلها إذ زار ليلاً ... بحقك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
فعني أن تسل فأنا فتاها ... تملك حبها قلبي فتاها
فقل لي هل دنت لك وجنتاها ... وهل رفت عليك ذؤابتاها
رفيف الأقحوانة في نداها
وقال أيضاً مخمسا
أفدي التي لو رآها الغصن مال لها ... شوقاً وإن قتلت صبا لحل لها
حورية لو رآها عابد للها ... مرت بحارس بستان فقال لها
سرقت رمانتي نهديك من شجري
قالت وقد بهتت من قوله خجلاً ... فتش قميصي لكي أن تذهب الوجلا
فهم أن يقبض النهدين ما مهلا ... فصاح من وجنتيها الجلنار على
قضيب قامتها لا بل هما ثمري
وقال أيضاً مخمسا
أهيم إذا أثنى الأنام بشكركم ... وأكتم أمري لا أبيح بسركم
أحبتنا من طيب نشأة خمركم ... إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم
أنوح كما ناح الحمام المطوق
عسى ولعل الدهر يأتي بهم عسى ... أشاهدهم عند الصباح وفي المسا
وقلبي من فقد الأحبة قد قسا ... وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى
وتحتي بحار بالجوى تتدفق
إذا ترب غيد فاح منها عبيرها ... وفيهن خود ليس يلفى نظيرها
بأحشاء صب زاد فيها سعيرها ... سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها
تفك الأسارى دونه وهو موثق
أسير سبته أعين وملاحة ... لمدمعه فوق الخدود سباحة
جريح له في كل عضو جراحة ... فلا هو مقتول ففي القتل راحة
ولا هو ممنون عليه فيطلق
وقال مشطراً
مازال يرشف من كأس الطلا قمر ... يبدو لنا من سحاب الشعر في غسق
أمنه في الثغر شمس الراح قد غربت ... حتى بدت شفتاه اللعس كالشفق
وقام يخطر والأرداف تقعده ... نشوان لم يبق فيه السكر من رمق
فقلت ذا ملك للشهب يحمل أم ... غزال أنس يحاكي البدر في الأفق
ضممته لعناق فانثنى خجلاً ... وفاح من خاله مسك لمنتشق
وعندما بالحيا صينت محاسنه ... وكللت وجنتاه الحمر بالعرق
أشار لي برموز من لواحظه ... منها عن القدح استغنيت بالحدق
وقال إنسانها لي وهو مبتسم ... إن العناق حرام قل في عنقي
وقال أيضاً مشطراً
يا ناقل المصباح لا تمرر على ... ربع به صبح المحاسن أسفرا
واحذر بأن تغشى أشعة نوره ... وجه الحبيب وقد تكحل بالكرى
أخشى خيال الهدب بجرح خده ... فيبث مسك الخال منه العنبرا
أو أن يدب لفيه نمل عذاره ... فيقوم من سنة الكرى متذعرا
وقال
يا در ثغر حبيبي ... دم بالعذيب مقيما
ويا جمال الثنايا ... كن بالعقيق رحيما
ولا تشق عليه ... فتتركنه هشيما
وكن له خير جار ... ألم يجدك يتيما
وقال مشطراً
سألت أحبتي ما كان ذنبي ... وهل لي عندهم حدثت عيوب
وكررت السؤال لهم إلى أن ... أجأبيني وأحشائي تذوب
إذا كان المحب قليل حظ ... ونجم السعد يعلوه الغروب
ومن يرمي الزمان لقوم سوء ... فما حسناته إلا ذنوب
وقال
يقول لي العذول وقد رآني ... كئيت الجسم منتحباً عليلا
أتسلو يا معنى قلت أسلو ... عن الدنيا ولكن عن علي لا
وقال
وحمام رأيت به غزالاً ... كبدر التم في غصن قويم
فقلت تعجبوا من صنع ربي ... رأيت الحور في وسط الجحيم
وقال في قصاب
يا واضع السكين بعد ذبيحه ... في فيه يسقيها رحيق لهاته
عدها على المذبوح ثاني مرة ... وأنا الضمين له برد حياته
وقال
مهفهف لو أماط السجف لاختلجت ... شمس الضحى وبضوء السحب تحتجب
كأنما أوجد الرحمن صورته ... من مغنطيس لها الأبصار تنجذب
وقال مخمساً
جبينك كالهلال أضا لدينا ... وجيدك كالصباح كسي لجينا
وخدك روضة منها رأينا ... نجوم الورد قد وردت علينا
ونحن من المدام على ورود
أرى الندمان تسفر عن بدور ... وتبرز كالعرائس من خدور
ونجم الكاس يطلع في سرور ... وشمس الراح تغرب في ثغور
وتشرق بعد ذلك بالخدود
وساقينا رشا باهي المحيا ... إذا ما عاد ميتاً عاد حيا
فما أحلاه إذ بالكأس حيا ... فقد عقد الحباب على الحميا
فهل لك أن تكون من الشهود
وقال أيضاً مخمساً
ما للهموم أخا الصفاء وحزنها ... إلا ثلاث ويح من لم يجنها
صهباء تجلى كالعروس بدنها ... وبديعة تسبي العقول بحسنها
ومهفهف يزري الغصون بقده
خودخبت شمس النهار ببردها ... واستطلعت نجم السهى من نهدها
ومذ استفز الحب كامل وجدها ... غنت فأطربت الغلام بنشدها
ولنشدها لعب الغلام ببنده
أفدي التي لما استهام حبيبها ... في قبلة كالمسك يعبق طيبها
قالت له ادنو عساك تصيبها ... فدنا يقبلها فمر رقيبها
خافت عليه فأسرعت في رده
وغدت تقول له بحسن كناية ... لا صادفت عيناك عين عناية
من خوفها سوء اتهام زناية ... لطمت عوارضه بغير جناية
منها فأثر نقشها في خده
حتى إذا عطفت عليه بعطفها ... وأضاء وجه من مهند طرفها
مسحت مدامعه براحة لطفها ... فاخضر آس عذاره من كفها
واحمر باطن كفها من خده
وله قصائد كثيرة، وموشحات وقدود شهيرة، قد رقمت في عدة دفاتر، واشتهرت اشتهار البدر السافر وقد توفي في حمص سنة ست وخمسين ومائتين وألف ودفن في خارج المدينة قريباً من جامع سيف الله سيدنا خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وقد أرخ وفاته الأديب الفاضل السيد عمر المعري بأبيات وبيت التاريخ:
دعيت لساحة الإحسان أرخ ... أمين الحب في عدن تقرر
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
الشيخ أمين الجندي الْحِمْصِي
هو أشهر من نظم المقطعات أو الأدوار الغنائية في سورية ووقَّعها على الألحان. وُلد في مدينة حِمْص في أوائل القرن الثالث عشر للهجرة، ونشأ فيها وطلب العلم على علمائها، وتردد إلى دمشق وقرأ على أئمتها، وفي جملتهم الشيخ عمر اليافي الشهير، ثم عاد إلى موطنه وأقام فيه ومارس الشعر فنبغ به.
وفي سنة ١٢٤٦ﻫ جاء إلى حِمْص عاملٌ من قبل المغفور له السلطان محمود الثاني، فوشى إليه بعض أعوانه أن الشيخ أمين الجندي هجاه وطعن فيه، وبلغ ذلك الشيخ ففر إلى حماه، فبعث العامل في طلبه بعض رجاله، فقبضوا عليه، وحبسوه في إصطبل الدواب، ومنعوا عنه الطعام إلا قليلًا من خبز الشعير وبعض الماء، واتفق بعد أيام قليلة أن رجلًا من قبيلة الدنادشة يقال له سليم بن باكير غشي مدينة حِمْص بمائتي فارس من عشيرته ودخلها عَنْوة، وقتل عاملها، وأخرج الشيخ من السجن بعد أربعة أيام من سجنه، وفرح به الناس، وظل موقرًا محترمًا حتى توفاه الله سنة ١٢٥٦ﻫ/١٨٤١م، ودفن في حمص.
وقد عني بعضهم في جمع منظوماته في كتاب يعرف بديوانه، جمع فيه كثيرًا من القصائد والمقامات والموشحات، ننقل بعض الأغاني على سبيل المثال؛ لأن أهل الشام ومصر ظلوا يتغنون بمنظوماته معظم القرن الماضي، ومن ذلك قوله على نغم أبيات:
يا بدر حسنٍ تبدَّى من ورا الحجب يفترُ ياقوته عن لؤلؤ رطب
ويا غزالًا زها بالتيه والعجب أراش عمدًا لقتلي أسهم الهدب
سل بنديه. عن عطفيه في برديه ليلًا إذا بانا
من جفنيه. أم لحظيه أم كفيه. دارت حميانا
دور
يا ذا الرضاب الشهبي والمبسم الحالي سَلْ كل من تشتهي في الحي عن حالي
يا بدر لا أنتهي إن لامني الخالي حيرت للمنتهي في نقطة الخالي
خف مولاك. في أهلاك. من يهواك. وارفق بمفتونك
من أفتاك. يا فتاك. أو أغراك. في قتل محزونك
وله من عروض حجاز:
هيَّمتني تيَّمتني عن سواها أشغلتني
أخت شمس ذات أنس لا بكاسٍ أسكرتني
لست أسلوها ولو في نار هجرانٍ سلتني
كعبة لبَّيت أسعى للصفا لما دعتني
لنظام الحسن أبدت طرَّة فيها سبتني
أم رماح من لجينٍ تحت رايات غزتني
جدل الشال السليمي فوق أعطاف شجتني
وله من عروض صبا:
إن أنعمت ليلايا بالقرب يا بشرايا
دور
شمسٌ إلى الأقمار تهدي سنا الأنوار
يا نسمة الأسحار أبدي لها شكوايا
دور
سلَّت على العشاق سيفًا من الأحداقِ
لا تنكروا أشواقي فيها ولا بلوايا
وله من قدِّ لحنه رصد:
أقبل الساقي علينا وهو كالبدر التمام
وانثنى عجبًا لدينا حاملًا كأس الْمُدام
كالفرقد
بالخد المورَّد والثغر المنضد
ولديه ايه ايه ايه قم واطرب واسكر ولديه ايه ايه ايه كم بدر أسفر
دور
تحسد الأغصان طولك كلما حيت طلولك
والهوا يثني قوامك والصفا يجلو شموسك
يا أغيد
يا ذا القد الأملد واللحظ المهند
بجمال خال حال عال في روضِ الزهرِ وبشال سال طال مال يزهو بالجرِّ
وقال مخمسًا:
أفدي التي لو رآها الغصن مال لها شوقًا ولو قتلتْ صبًّا لحلَّ لها
حوريةٌ لو رآها عابدٌ للها مرَّت بحارس بستان فقال لها
سرقتِ رمانتي نهديك من شجري
قالت وقد بهتت من قوله خجلًا فتش قميصيَ حتى تذهب الوجلا
فهم أن يقبض النهدين ما مهلا فصاح من وجنتيها الجلنار على
قضيب قامتها لا بل هما ثمري
وقال مشطرًا:
يا ناقل المصباح لا تمرر على ربع به صبح المحاسن أسفرا
واحذر بأن تغشى أشعة نوره وجه الحبيب وقد تكحل بالكرى
أخشى خيال الهدب يجرح خده فيبث مسك الخال منه العنبرا
أو أن يدبَّ لفيه نمل عذراه فيقوم من سنة الكرى متذعرا
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 307 – 310.