عثمان بن عبد الله بن فتحي بن عليويّ، المنسوب إلى بيت الطحان، الموصلي المولوي:
قارئ، عالم بفنون الموسيقى، له شعر حسن. ولد في الموصل، وكفّ بصره صغيرا، وانتقل إلى بغداد، وزار دمشق والقسطنطينية ومصر. وحج وعاد إلى بغداد، فتوفي فيها.
كن يجيد القراآت العشر، وأصدر في مصر مجلة سماها " المعارف "لم تطل حياتها. وكانت له مواقف وطنية محمودة في الثورة العراقية، شعراً وخطابة. كان يجيد الضرب على العود والعزف ببعض آلات الطرب، واللعب بالشطرنج. له " الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان - ط " و " تخميس لامية البوصيري - ط " و " مجموعة سعادة الدارين - ط "و " المراثي الموصلية - ط " .
-الاعلام للزركلي-
الحاج عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان ويشتهر بالحافظ عثمان الموصلي المولوي
ترجمه أحمد عزت باشا العمري الموصلي في كتابه العقود الجوهرية في مدائح الحضرة الرفاعية، فقال: ولد في بلدة الموصل الخضراء سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، وقبل أن يبلغ من العمر سبع سنين توفي أبيه وبقي يتيماً وفقد نور بصره على صغره، فرآه والدنا المرحوم محمود أفندي الفاروقي وكان إذ ذاك طفلاً، وتغرس به أن يكون للتربية أهلاً ومحلاً، أخذه إلى بيته العامر، وأعطاه منها إلى أحد الدوائر، وخصص له فيها من يحفظه القرآن، بصورة الإتقان، مع ما ينضم إلى ذلك من طيب الألحان، فأتقنها كلها، وحفظ أيضاً جانباً وافراً من الأحاديث النبوية، والسير المصطفوية، ورتب له من يلقي عليه علم الموسيقى حيث أنه قد رزق الصوت الحسن، وحفظ إذ ذاك من رقائق الأشعار، وغرائب الآثار، ما جمع فأوعى لأنه كان سريع الحفظ، لكيف اللفظ، فنشأ قطعة من أدب، وفرز دقة من لباب العرب، لأنه في الحقيقة ضرير، لكنه بكل شيء بصير، ينظر بعين الخاطر، ما يراه غيره بالناظر، وبقي بخدمة المرحوم الوالد إلى أن توفاه الله، وجعل الجنة مثواه، فتوجه إذ ذاك إلى بغداد، وكنت إذ ذاك فيها فنزل عندي، يعيد ويبدي، وفاء للحقوق التي لا زال يبديها، ولا يخفيها، متردياً بظاهرها وخافيها، فتلقيته ملاقاة الأب والأخ، وقلت له بخ بخ، فتهادته فيها أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، فأصبح في بغداد فاكهة الأدباء، ونقل الظرفاء، وشمامة الأوداء، واشتهر بحسن قراءة المولد الكريم، على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم، فأومض فيها برق اسمه، وعلا مبارك كعبه ورسمه، فتركته على هذه الصورة في الزوراء، تهب عليه ريح الرخاء، حيث يشاء، وأمسى عند كل ذي عين، جلدة ما بين الأنف والعين، وحفظ فيها نصف صحيح الإمام البخاري على المرحوم الشيخ داود أفندي، وبعد وفاته أكمل حفظ النصف الثاني على بهاء الحق أفندي الهندي مدرس الثاني في الحضرة الأعظمية. ثم أنه بعد ما قضى الحج، وفاز بالعج والثج، رجع إلى مسقط رأسه الموصل الخضراء وقرأ فيها القراءات السبع على حيدرة الوطن، محمد أفندي الحاجي حسن، وأخذ الطريقة القادرية من حضرة المرشد الكامل العارف الفاضل المرحوم السيد محمد أفندي النوري، وبرخصته بل بعد استشارته واستخارته توجه راحلاً منها إلى مركز الخلافة العظمى وخصص له ببلدته خير معاش، يستوجب الانتعاش، وأخذ فيها الطريقة الرفاعية، من حضرة صاحب السماحة الصارم الهندي، الشيخ أبي الهدى السيد محمد أفندي، وهو لم يزل إلى الآن، على ما عليه كان، من انقياده في زمام الوفا، واستناده لسواري الأنس والصفا، تتجاذبته أيدي الكبراء، وتتهاداه قلوب الأوداء، وتتلاعب به أفكار الشعراء، وترتاح معه أذهان البلغاء، وتصغي إلى نغماته أسماع الخطباء، فهو بالليل أريب، وبالنهار خطيب، يرقى ذروة المنابر، فتهرع إليه الأكابر والأصاغر، فيسيل جامد دموعها، ويهيج كامن ولوعها، ويمنعها لذيذ هجوعها، خوفاً من رجوعها، وأما شعره فمثل شعوره، يتساقط فراش المضامين على مشكاة نوره، يذوب نظمه حلاوة، ويكتسي نشره طلاوة، فليس على عينه غشاوة، وإذا غنى ظننت الموصلي إبراهيم، أو قرأ حزباً من القرآن الكريم، تخيلت أبياً يترنم بصوته الرخيم، وبالجملة فهو نسخة جامعة، وكرة لامعة، مع ما ينضم إلى ذلك من الوفاء، وكرم الطبع والصفاء،
ومن نظمه يمدح السيد الرفاعي:
بباب الرفاعي بت أستبق الركبا ... ليصبح جفني لاثماً ذلك التربا
إمام له في الخافقين مفاخر ... بها امتاز بين الأولياء ولا ريبا
فمنها إذا نادى محبوه باسمه ... على النار أطفوها ولو أوقدت لهبا
ومنها سيوف الهند تنبو لبأسه ... وأسد الشرى ترتاع من ذكره رعبا
وأعظمها تقبيل يمنى نبينا ... بها لم يكن من قومه غيره يحبى
أمدت له في محفل خير محفل ... وقد صيرت كل الكرام له حزبا
تردى بأثواب المحبة والحجا ... ومن شرع طه المصطفى أخذ اللبا
أرى ذل حالي فيه خير معزتي ... وأبكي وتعذيبي أراه به عذبا
لقد جئته مستبقياً سبب جوده ... أناديه يا من قد شغفت به حبا
بجدك ذي الخلق العظيم ومن سما ... على الرسل إذ كل لدعوته لبا
بوالدك الكرار باب علوم من ... أماط عن التوحيد في بعثه الحجبا
بريحانتي خير الوجود وفاطم ... وما قد حواه ذلك البيت من قربى
أتيتك يا شيخ العواجز راجيا ... منائحك العليا التي تنعش القلبا
أيدعشني يا آل طه بحيكم ... خطوب وإني قد عرفت بكم صبا
أحبة قلبي ما لعثمان ملجأ ... سواكم وأنتم ملجأ الكون في العقبى
عليكم صلاة الله ما انهل وابل ... بواسط أو هبت بأرجائها النكبا
وأبياته كثيرة، وقصائده شهيرة، أطال الله بقاه آمين انتهى. هذا ولما سافرت إلى الآستانة العلية، في أوائل ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وست هجرية، اجتمعت بهذا المترجم ذي الشمائل البهية، فرأيته شاعر الزمان، وناثر الأوان، يصبو القلب إليه ويحن، وينثني له غصن البراعة ويرجحن، ففي أوصافه للروح عبق، ومن ألطافه يروق كأس المصطبح والمغتبق، وله أخلاق أقطعها الروض أنفاسه، وشيم يتنافس بها المتنافسون لطافة ونفاسة، وقد أنشدني أفانين من غزلياته، تعزل برونق الصدغ في لباته، وأطربني في ألحانه، ولا إطراب الخمار بحانه، يتلاعب بصوته تلاعب الأنامل بالأوتار، ويحرك القلوب إلى أن تكشف عن محيا غرامها حجب الأستار، وكانت أريحيات غرامه تستفزه وصبوة مدامه تستهزه، فلا يزال، هائماً بغزال، ولا يريم، عن عشق ريم، وشعره يشعر بأنه حليف الجوى، ويعرب عن حاله إعراب الدمع عن مكتوم سر الهوى، ولطفه أرق من العتاب بين الصحاب، وأوقع من الراح ممزوجاً بماء السحاب، ولله در حينما شكالي العذول والهجر والصدود وشداني على صوت الكمام وصوت العود:
لو أن بالعذال ما بي ... ما عنفوني بالتصابي
كلا ولو ذاقوا الهوى ... مثلي لما ملكوا خطابي
ويلاه من بعد المزا ... ر فإنه شر العقاب
قسماً بخلوات الحبيب ... وطيب وقفات العتاب
وتذللي يوم النوى ... لمنيع ذياك الجناب
وبوقفتي أشكو هوا ... ي له بألفاظ عذاب
أبكي وأسرق أدمعي ... خوف العواذل في تباب
ما للمحب أشد من ... نار التباعد من عذاب
بأبي غزال لين الأ ... عطاف معسول
مياس غصن قومه ... يزري ببانات الروابي
ريان من ماء الصبا ... سكران من خمر الشراب
جعل التجافي دأبه ... وجعلته وهواه دابي
قال العواذل عندما ... أبصرن بالأشواق ما بي
قد كنت من أهل الفصا ... حة لا تحول عن الصواب
فأجبتهم والقلب من ... نار الصبابة في التهاب
الحب قد أعيا فصيح القول عن رد الجواب
وتراه إن حضر الحبيب لديه يأخذ في اضطراب
وغير هذا كثير، لا يكاد يحصيه قلم التحبير، وعلى كل حال فهو حلية العصر، ونادرة الدهر، قضي له بالأدب الوافر منذ طلع من مهده طلوع البدر السافر، فظهر رشده قبل أوانه، ولا ريب أن الكتاب يعرف بيانه من عنوانه.
وقد أسمعني من نثره خطبته التي ابتدأ بها تخميسه لقصيدة المرحوم عبد الباقي أفندي العمري المسماة بالباقيات الصالحات وهي:
أحمد من أسبغ علينا من سوابغ المانحات نشبا، وبلغنا بالباقيات الصالحات أربا، ونظمنا في سلك مدائح أهل العبا، وأصلي وأسلم على حبيبه المجتبى، وآله الذين تمدهت بهداهم فدافد وربا، وصحبه الذين بمجاراتهم جواد الضلال كبا، وبعد فيقول العبد العاجز الفقير، ذو الباع القصير، المتوسل لعلاه بحب آل علي، عثمان بن الحاج عبد الله الرفاعي الموصلي: لما كانت مدائح آل المصطفى هي من أعظم الوسائل، للنجاة يوم العرض والمسائل، وكان ممن أحرز قصب السبق في هذا المضمار، الجدير بأنواع الفضائل والفخار، فاروقي الأرومة والنجار الذي اشتهر بالآفاق، وفاق أدباء عصره على الإطلاق، المرحوم عبد الباقي أفندي الموصلي وذلك في قصيدته البائية الموسومة بالباقيات الصالحات التي تنشر لديها برود القصائد، وتنثر عندها أفئدة الفرائد، وكانت كالعروس العذراء، ما اقتضها شاعر، ولا اقتحمها ناثر، لما تحصنت به من حسن السبك والإنشاء، خصوصاً فيما أثارته من مؤثرات الرثاء، والمعفر بغباره وجه الغبراء، قدمت على تخميسها مقراً بعدم استطاعتي، وقلة بضاعتي، وذلك لكوني محب بيتهم، ومقتبساً من نور زيتهم، فهذا شمرت ساعد الجد لتسميطها طلباً للثواب، ومحبة لآل النبي الأواب، وأسأل المولى جل وعلا، أن يتقبل منا قولاً وعملاً، ويجعلنا مظهر قوله تعالى: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً "، ثم قال التخميس العبهري على بائية العمري، وهو:
مذ شب زند الفكر بعد أن خبا ... قمت لمدح آل طه معربا
مسمطاً أوصافهم فيما احتبى ... هذا الكتاب المنتقى والمجتبى
في نهت آل البيت أصحاب العبا
تجلب للكونين أوفى غيرة ... بشرح رزء نال خير عترة
من قبل أن تحويه أغلى فكرة ... بالقلم الأعلى بيمنى قدرة
في لوح عزة بنور كتبا
روض معانيه غدا مؤرجاً ... مذ جدولت أسطره نهر الحجا
جبينه بالحسن قد تبلجا ... لاح به فرق العلا متوجا
مرصعاً مكللاً مذهبا ... وقد غدا حاجبها مزججا
وطرفها أمسى كحيلاً أدعجا ... وثغرها أضحى بسيما أفلجا
وكمهاً مطرزاً مدبجا ... وعقدها منقحاً مهذبا
عذب على التالي يسوغ حفظه
يلتذ مهما جال فيه لحظه ... صفا وطاب واستلان غلظه
فرق معناه وراق لفظه ... يحكي صفا الودق إذا ما انسكبا
حور معانيه الحسان لم تزل ... تلبس من مدائحي أبهى الحلل
إذ صغت من تفصيل هاتيك الجمل ... ثنا إذا أنشدته له ثنى ال
وجود عطفاً وتهادى طربا ... غصن مديحي ماس في رطيبه
كأنما نشر الكبا يسري به ... مذ فاح نفح الطيب من ترتيبه
ريح الصبا تضمخت بطيبه ... بطيبه تضمخت ريح الصبا
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.
شيخ قراء العراق، وشيخ مادحي الجناب النبوي، وأحد مؤرخي الأزهر: العلامة الرحالة الأديب الشيخ الملا عثمان بن الحاج عبد الله بن فتحي بن عليوي - المنسوب إلى بيت الطحان - المولوي الموصلي
ولد في الموصل سنة 1271ه، وفقد بصره صغيرا، وتوفي أبوه وهو في نحو السابعة من عمره، فتفرس فيه السري الفاضل محمود أفندي العمري أن يكون أهلا للتربية والتثقيف، فأخذه إلى بيته، وخصص له من يحفظة القرآن الكريم، فحفظه حفظا متقنا، وحفظ السيرة النبوية، وطرقا من الأحاديث، وجانبا من الشعر.
ثم رتب له من يدربه على اللحن والإيقاع والموسيقى ، لما حباه الله به من صوت ينعش الأرواح ، فلم يزل يعاني هذه الصنعة حتى جاءت منه آية نسخت آية إبراهيم بن میمون الموصلي ، وصار حديث المحافل والآفاق .
وله من التأليف خلاف ما سبق: (الأبكار الحسان ، في مدح سيد الأكوان)، طبع خمس مرات ، ونشر دیوان عبد الباقي العمري الشاعر الشهير ، ونشر كتبا لإمام العراق وأستاذ المفسرين الشهاب أبي الثناء محمود الآلوسي ، منها: (الطراز المذهب)، و(الأجوبة العراقية ، على الأسئلة الإيرانية).
وفجع العراق بوفاته يوم 15 جمادى الثانية ، سنة 1341ه، الموافق 2فبراير ، سنة 1923م، وكان يوما شديد المطر ، كثير الرعد والبرق ، فلم يسمع كثير من الناس بوفاته إلا بعد دفنه ، رحمه الله تعالى .
أنظر كامل الترجمة في كتاب : جمهرة أعلام الأزهر الشريف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين للشيخ أسامة الأزهري.
لكل عبقري آية وعبقرية الضرير الجبار المرحوم ملا عثمان الموصلي العراقي انبثقت عنها آيات بينات من المواهب الشامخة
أصله ونشأته: هو الحاج عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن عليوي المنسوب إلى بيت الطحان، ولد في بلدة الموصل سنة (1271) هجرية ـ (1854) ميلادية، وشاء القدر أن يعيش يتيماً، فتوفي والده قبل أن يبلغ السبع سنين، وقسى عليه الدهر ففقد بصره على صغره، ولما ترعرع تولته عناية الإلهية، فرآه المرحوم السيد محمود العمري وتفرس به النجابة والذكاء وأنه أهل للتربية والعطف، فأخذه إلى بيته وخصص له من يحفظه القرآن الكريم بصورة الإتقان مع ما ينضم إلى ذلك من طيب الألحان، فأتقنها كلها، وحفظ أيضاً جانباً وافراً من الأحاديث النبوية الشريفة، والسيرة المحمدية، ورتب له من يلقي عليه علم الموسيقى للاستفادة من مواهبه وصوته الحسن، وحفظ من رقائق الأشعار وغرائب الآثار ما جمع فأوعى، كان سريع الحفظ لطيف اللفظ، فنشأ قطعة من أدب وفرزدقة من لباب العرب.لقد كان رحمه الله ضريراً لكنه بكل شيء بصير، ينظر بعين الخاطر ما يراه غيره بالناظر، وبقي في خدمة مربية المرحوم السيد محمود العمري إلى أن توفاه الله.
ذهابه إلى بغداد: وكان المرحوم أحمد عزت باشا العمري بن السيد محمود العمري إذ ذاك في بغداد، فزارها ونزل عنده يعيد ويبدي وفاء للحقوق التي يبديها ولا يخفيها متردياً بظاهرها وخافيها، فتلقاه ملاقاة الأب والأخ، فتهادته أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، وتجلت آيات نبوغه الكامن للعيان، فأصبح في بغداد فاكهة الأدباء والظرفاء، واشتهر أمره وذاع صيته بحسن صوته وقراءة المولد الكريم، فأومض فيها برق اسمه، وبقي في الزوراء تهب عليه ريح النعمة والرخاء حيث يشاء، وأمسى عند كل ذي جلدة ما بين الأنف والعين، وخلال مدة وجوده في بغداد حفظ صحيح الإمام البخاري على المرحومين الشيخ داود وبهاء الحق الهندي المدرس الثاني في الحضرة العلوية، فكان يتقاضى على قراءة المولد النبوي مبلغ (50) ليرة عثمانية، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لذاك العهد، وينفقها بأجمعها على أصحابه والفقراء والمعوزين من الفنانين، وتحدث الناس بسخائه، فكانوا يصفونه بأنه أكرم من الغيث المنهمل على البطاح الظمأى.
وسافر إلى الديار المقدسة فأدى فريضة الحج، ثم عاد إلى مسقط رأسه الموصل وقرأ فيها القراءات السبعة على حيدرة العراق المرحوم محمد السيد الحاج حسن، وأخذ الطريقة القادرية من المرشد المرحوم السيد محمد النوري.
سفره إلى الأستانة: وكانت نفسه صراعاً بين القناعة والعيش في مجتمع محدود وبين الطموح للعيش في مجتمع أوسع مدى وحياة أفضل تظهر فيها آيات مواهبه وعبقريته، فتوجه من الموصل راحلاً إلى الأستانة، ونزل بغرفة في جامع نور العثمانية الكائن بحي (شنبرلي طاش)، وقرأ في جامع أياصوفيا الشهير جزءاً من القرآن الكريم، وكان من أعظم القراء المجيدين الذين أوجدهم الله في خلقه على الإطلاق، فأثر جمال صوته وورعة تجويده على مشاعرهم فأبكاهم، وهرع إليه عظماء الأستانة من فضلاء وأدباء وفنانين يستطلعون خبر هذا القارئ الضرير، فطارت شهرته في الآفاق، وأصبح قبلة المجتمع العلمي والفني، وكان أول من التف حوله قراء الأتراك، فأخذوا عنه علم التجويد، وتاق لرؤياه أكابر الأمراء والعلماء والفنانين، وغدوا يتهادونه ويدعونه إلى حفلاتهم للاستمتاع بروائع فنونه، ولما رأى ما وصل إليه حاله من عز وتقدير لمواهبه طابت له الإقامة، واستحضر عائلته من الموصل، واستأجر داراً صغيرة واقعة بجوار جامع نور العثمانية، وأقام مدة طويلة في الأستانة، كانت أيام عهده من غرر الدهر.
رحلة الشتاء والصيف: ولما برزت آيات نبوغه تولع به عظماء العراق ونوابها في مجلس المبعوثين أمثال محمد وشاكر وعلاء الدين وحسام الدين من أسرة الألوسـي المشـهورة، والشـيخ يوسـف السويدي، وآل الحيدري، والسيد محمد السكوتي، والسيد إبراهيم الراوي شيخ الطريقة الرفاعية في بغداد رحمهم الله، وهاموا بمواهبه وفنونه افتتاناً، فكانوا يأخذونه معهم إلى استانبول في الصيف ويعودون به إلى العراق عند موسم الزيارة في كربلاء ليقرأ لهم المراثي في أهل السبط الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويرون بوجوده بالقرب منهم نعمة أنعم الله بها على المجتمع، ويتمتعون بروائع فنونه ومواهب صوته الشجي وبلاغة شعره ونثره وطرائف نكاته وأفانين أحاديثه.
فنونه: لقد صدق المثل القائل: (كل ذي عاهة جبار)، فقد تعلق هذا النابغة الضرير بالفن الموسيقي، فتعلم من تلقاء نفسه العزف على آله القانون، وهي كثيرة الأوتار صعبة المنال في ضبط مقاماتها، ثم تعلم العزف على الناي، فأتى بغرائب الإعجاز، فكان لا يستعمل في قانونه العربات التي تستعمل عادة لإخراج أنصاف الأرباع، بل كان يتلاعب بأنامله وأطراف أظافره، فيخرج النغمات سليمة شجية مما لم يسبق لغيره أن أتى بمثله.
وتطاولت عبقريته على فناني الأتراك اللامعين، فكانوا يرون أنفسهم لا شيء بالنسبة لفنون هذا الضرير الجبارة، ويتسابقون لزيارته ويستقون من ورده الصافي أعذب الموشحات والألحان، ويشهدون بأنه تحفة عجيبة وهبها الدهر للناس لينعم بعبقريته البشر.
ولما كان الفقيد النابغة شاعراً ضليعاً باللغتين التركية والفارسية فقد شهد له شعراء الأتراك والعجم بأنه أعجوبة الدهر.
علاقته بالشيخ الصيادي الرفاعي: وتعرف في الأستانة على رجل الدولة وواحدها الصارم الهندي المرحوم الشيخ أبي الهدى الصيادي الرفاعي، ونال حظًّا وافراً من عطفه، وأخذ عنه الطريقة الرفاعية، وكان الصيادي رحمه الله يهيم حبًّا وإعجاباً بفنونه وعلمه، ويجل قدره ويعظم مواهبه، ولا يسمح لأحد مهما علا شأنه مـن ضيوفـه العظام بالتدخين فـي حضرتـه إلا للضرير العبقري، فقد (عرف الحبيب مكانه)، فكان يتيه عجباً ودلالاً، ويدخن في حضرته ويتبسط بالحديث معه للاستمتاع بفصاحته وخفة روحه وفنونه ودرر طرائفه، ويستوحش لفراقه، وينتظر زياراته له بفارغ الصبر.
وزار مرة الفقيد المترجم الصيادي في تكيته، وذلك سنة 1903م، وفوجده قد انتهى من تأليف رسالة اسمها (خلاصة البيان) فوجم قليلاً يستوحي النظم، وقال مرتجلاً يؤرخها:
(والموصلي مرتجلاً أرخها | خلاصة البيان مجدنا بها) |
سنة 1320ﻫ
واجتمع الموصلي بالصيادي في مجلس أنس وطرب، فجادت قريحة الصيادي بنظم بيتين من الشعر الارتجالي، فقال:
قلت لما خفق القلب جوى | حين شامت قرطك الخفاق عيني |
كنت لا تملك إلا خافقا | فهنيئاً لك ملك الخافقين |
وقد لحنها الموصلي على البداهة وغناها من مقام الحجاز كار، فبكى الصيادي من روعة صوته الرخيم ولحنه البديع.
فاجعته بولده: لقد ابتلى الدهر الفنانين واكتنف حياتهم بنكباته ومآسيه، ومن درس تاريخ حياة النوابغ والعباقرة تحقق أن التنكيل بهم كان بالنسبة إليهم فواجع وأسى وحسرة، وإلى البشرية نعمة وهدى ورحمة، إذ لولا تلك الفواجع لما كانت هناك أجفان مقرحة وقلوب ممزقة، فعصرت الآلام قرائحهم فجادت بمعجزات بينات.
ومن هؤلاء العباقرة صاحب هذه الترجمة، فقد أبى الدهر إلا أن يمعن بالقسوة عليه، فعكر صفو حياته وهو في ذروة عزه ومجده الفني، فاختطف الموت فلذة كبده الوحيد (يونس) وهو في ريعان شبابه، وقد ذهبت الفاجعة بلبه وبقي ساكناً لا تدمع له عين، ورثاه بالمراثي المؤثرة المبكية، وقد ظفر بقلوب عطوفة ومشاعر كريمة، فكان الناس إذا شاهدوا قسمات وجهه وقد اكتست بانطباعات الأسى والحزن شاطروه أساه، وكأن الأقدار التي لا ترحم قد استحالت إلى أرواح حساسة، فابتلته بهذه المصيبة ليحزن قلبه وتأتي قريحته ومواهبه بالخوارق.
بدائع ألحانه: هناك طائفة من الفنانين جهلتهم أجيالهم، وبعد وفاتهم عرف الناس أقدارهم فغمروهم بالثناء والإجلال، لقد اشتهر هذا العبقري الخالد، ولكن أحداً لم يكتب عنه ونسيه الناس، أما الدهر الذي اعتاد التنكيل بالفنانين ليجودوا بنفائسهم فهو لا ينساهم ويخلدهم بآثارهم ومآثرهم.
لقد أكد الذين عاشروا هذا الجبار المارد في الأستانة أن الوسط الفني فيها كان أوج عظمته في عهده، وقد تطاول هذا الضرير الغريب بعبقريته على فطاحل الفنانين الأتراك، واستصغروا شأن أنفسهم وفنهم بالنسبة لجبروته الفني، فقد تجمعت في هذا النابغة مواهب عز نظيرها بغيره كما سأوضح ذلك عند المقارنة بين أفضلية عباقرة الفن ومواهبهم.
لقد كانت آيات صوته الشجي الرخيم وبلاغة نظمه وقوة ألحانه وبراعة إنشاده وعزفه على القانون والناي مضرب الأمثال، وقد التف حوله مشاهير الفنانين الأتراك، وفي طليعتهم سامي بك صاحب أكبر جوقة تركية شهيرة، والمغنية الذائعة الصيت بصوتها وفنها (نصيب)، وأخذوا عنه الكثير من الموشحات والغزل التركي، وافتتن الأتراك بفنونه، فدانت لعبقريته المواهب.
وقد رأيت للذكرى والتاريخ إثبات بعض موشحاته وألحانه التركية ليطلع عليها عشاق الفن، وهي أشهر من أن تذكر، ويكفي الاستدلال على عظمة فنونه أن أبا خليل القباني الفنان الشرقي الأعظم والفنان المصري عبده الحمولي أخذا عنه الموشحات والنغمات التركية في استانبول، ومزجاها بالموشحات والأدوار العربية، فقد كانت نغمات الحجاز كار والنهوند وفرعهما مجهولة في مصر والبلاد العربية.
وفاته: وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر جمادى الثاني 1341ﻫ الموافق 30 كانون الثاني 1923م استأثرت المنون بروحه الطاهرة في بغداد، فخبأ أعظم بركان أتقدت نيران نبوغه فأضاء الشرق إلى يوم يبعثون، فكان نفحة الزمان وأعجوبة الدهر، ودفن في جامع الخفاقين في بغداد، واشترك أهلها بتوديع الراحل العظيم بمأتم عز نظيره، وأفاض الشعراء في رثائه وتعداد مواهبه ومآثره الخالدة، وألحد الثرى من كان فنه وصوته الرخيم وعبقريته الشامخة بلسماً للقلوب، وكانت مدة حياته سبعين سنه، (من سنة 1271ﻫ إلى سنة 1241ﻫ)، وارتفعت روح هذا القارئ العظيم والمادح للرسول الكريم ﷺ ليكون عندليب أرواح أهل السبطين في دار الخلود، رحمه الله وطيب ثراء.
أنظر كامل الترجمة في كتاب أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 203 - 208.