أحمد بن المستضئ بأمر الله الحسن بن المستنجد العباسي

الناصر لدين الله

تاريخ الولادة553 هـ
تاريخ الوفاة622 هـ
العمر69 سنة
مكان الوفاةبغداد - العراق
أماكن الإقامة
  • بغداد - العراق

نبذة

النَّاصِرُ لِدِيْنِ الله: الخَلِيْفَةُ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ المُسْتَضِيْءِ بِأَمْرِ الله أبي مُحَمَّدٍ الحَسَنُ ابْنُ المُسْتَنْجِدِ بِاللهِ يُوْسُفَ ابْنِ المُقْتَفِي مُحَمَّدُ ابنُ المُسْتَظْهِر بِاللهِ أَحْمَدَ ابْن المقتدِي الهَاشِمِيُّ، العَبَّاسِيُّ، البَغْدَادِيُّ. مَوْلِدُهُ فِي عَاشرِ رَجَبٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَخَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.

الترجمة

النَّاصِرُ لِدِيْنِ الله
الخَلِيْفَةُ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ المُسْتَضِيْءِ بِأَمْرِ الله أبي مُحَمَّدٍ الحَسَنُ ابْنُ المُسْتَنْجِدِ بِاللهِ يُوْسُفَ ابْنِ المُقْتَفِي مُحَمَّدُ ابنُ المُسْتَظْهِر بِاللهِ أَحْمَدَ ابْن المقتدِي الهَاشِمِيُّ، العَبَّاسِيُّ، البَغْدَادِيُّ.
مَوْلِدُهُ فِي عَاشرِ رَجَبٍ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَخَمْسِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ.
وَبُوْيِعَ فِي أَوَّلِ ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ، وَكَانَ أَبْيَضَ، مُعْتَدِلَ القَامَةِ، تُرْكِيَّ الوَجْهِ، مليحَ العَينَيْنِ، أَنورَ الجبهَةِ، أَقنَى الأَنفِ، خفِيفَ العَارضَينِ، أَشقرَ، رقيقَ المَحَاسِنِ، نَقْشَ خَاتَمِهِ: رجَائِي مِنَ اللهِ عَفْوُهُ.
وأَجَاز لَهُ أَبُو الحُسَيْنِ اليُوْسُفِيُّ، وَعَلِيُّ بنُ عَسَاكِرَ البَطَائِحِيُّ، وَشُهْدَةُ الكَاتِبَةُ، وَطَائِفَةٌ.
وَقَدْ أَجَازَ لجَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ وَالكُبَرَاءِ، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ عَنْهُ فِي أَيَّامِهِ، وَيَتنَافسُوْنَ فِي ذَلِكَ، وَيَتفَاخرُوْنَ بِالوَهْمِ.
وَلَمْ يَلِ الخِلاَفَةَ أَحَدٌ أَطولَ دَوْلَةٍ مِنْهُ، لكم صَاحِبَ مِصْرَ المُسْتَنْصِرَ العُبَيْدِيِّ وَلِيَ سِتِّيْنَ سَنَةً، وَكَذَا وَلِيَ الأَنْدَلُسَ النَّاصِرُ المَرْوَانِيُّ خَمْسِيْنَ سَنَةً.
كَانَ أَبُوْهُ المُسْتَضِيْءُ قَدْ تَخوَّفَ مِنْهُ، فَحَبَسَهُ، ومال إلى أخيه أبي مَنْصُوْرٍ، وَكَانَ ابْنُ العَطَّارِ وَكُبَرَاءُ الدَّوْلَةِ مَيْلُهُم إِلَى أَبِي مَنْصُوْرٍ، وَكَانَتْ حَظِيَّةُ المُسْتَضِيْءِ بَنَفْشَا وَالمَجْدُ ابْنُ الصَّاحِبِ وَطَائِفَةٌ مَعَ أَبِي العَبَّاسِ، فَلَمَّا بُوْيِعَ قُبِضَ عَلَى ابْنِ العَطَّارِ، وَأُهْلِكَ فسحب في الشوارع مَيْتاً، وَطَغَى ابْنُ الصَّاحِبِ إِلَى أَنْ قُتِلَ.
قَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: كَانَ النَّاصِرُ شَابّاً مَرِحاً عِنْدَهُ مَيْعَةُ الشَّبَابِ، يَشقُّ الدُّروبَ وَالأَسواقَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَالنَّاسُ يَتهيَّبُوْنَ لُقيَاهُ، وَظَهرَ الرَّفضُ بِسَبَبِ ابْنِ الصَّاحبِ ثُمَّ انْطفَأَ بِهَلاَكِه وَظهرَ التَّسَنُّنُ، ثُمَّ زَالَ، وَظَهرتِ الفُتوّةُ وَالبُندق وَالحَمام الهادي، وتفنن الناس في ذلك، ودخل في الأَجلاَّء ثُمَّ المُلُوْكُ، فَأُلْبِسَ العَادلُ وَأَوْلاَده سرَاويل الفُتوّة، وَشِهَاب الدِّيْنِ الغُوْرِيّ صَاحِب غَزْنَةَ وَالهِنْد وَالأَتَابَك سَعْد صَاحِب شيرَاز، وَتَخوّف الدِّيْوَان مِنَ السُّلْطَانِ طُغْرِيْلَ، وَجَرَتْ مَعَهُ حُرُوْبٌ وَخُطُوبٌ، ثُمَّ اسْتدعُوا خُوَارِزْمشَاه تُكُش لِحَرْبِهِ، فَالتقَاهُ عَلَى الرَّيِّ، وَاحتزَّ رَأْسَه، وَنفذه إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ تَقدّمَ تُكُشُ نَحْوَ بَغْدَادَ يَطلبُ رُسُومَ السَّلطنَةِ، فَتحرّكتْ عَلَيْهِ أُمَّةُ الخَطَا، فَردّ إِلَى خُوَارِزْم وَمَاتَ. وَقَدْ خطبَ النَّاصِر بِوِلاَيَةِ العَهْد لوَلَده الأَكْبَر أَبِي نَصْرٍ، ثُمَّ ضيّق عَلَيْهِ لِما اسْتشعر مِنْهُ وَعيّن أَخَاهُ، وَأُخِذَ خطّ بِاعترَاف أَبِي نَصْرٍ بِالعجز، أفسد مَا بَيْنهُمَا النّصيْر بن مَهْدِيٍّ الوَزِيْر، وَأَفسد قُلُوْب الرَّعِيَّة وَالجُنْد عَلَى النَّاصِر وَبغّضه إِلَى المُلُوْك، وَزَادَ الفسَاد، ثُمَّ قُبِض عَلَى الوَزِيْر، وَتَمَكَّنَ بِخُرَاسَانَ خُوَارِزْمشَاه مُحَمَّدُ بنُ تَكِشّ وَتَجبّر وَاسْتَعْبَد المُلُوْك وَأَبَاد الأُمَم مِنَ التّرك وَالخَطَا، وَظلم وَعسف، وَقطع خطبَة الناصر من بلاده، ونال منه، وَقصد بَغْدَاد، وَوصل بوَادره إِلَى حُلْوَان فَأَهْلكهُم بِبَلْخَ، دَام عِشْرِيْنَ يَوْماً وَاتعظُوا بِذَلِكَ، وَجَمَعَ النَّاصِر الجَيْش، وَأَنفق الأَمْوَال، وَاسْتعدّ، فَجَاءتِ الأَخْبَار أَنَّ التّرك قَدْ حشدُوا، وَطمعُوا فِي البِلاَد، فَكرّ إِلَيْهِم وَقصدهُم فَقصدُوْهُ وَكثروهُ إِلَى أَنْ مزّقوهُ، وَبلبلُوا لُبّه وَشتّتُوا شَمله، وَملكُوا الأَقطَار، وَصَارَ أَيْنَ تَوجّه وَجد سيوفهُم متحكمَةً فِيْهِ، وَتَقَاذفتْ بِهِ البِلاَد، فَشرّق وَغرّب، وَأَنجد وَأَسهل، وَأَصحر وَأَجبل، وَالرّعب قَدْ زَلْزَلَ لُبَّهُ، فَعند ذَلِكَ قَضَى نَحْبَه.
قُلْتُ: جَرَى لَهُ وَلابْنِهِ منكوبرتي عَجَائِب وَسيرٌ، وَذَلِكَ عِنْدِي فِي مُجَلَّد أَلّفه النَّسَوِيّ كَاتِب الإِنشَاء.
قَالَ المُوَفَّقُ: وَكَانَ الشَّيْخ شِهَاب الدِّيْنِ السُّهْرَوَرْدِيّ لَمّا ذهب فِي الرِّسَالَة خَاطب خُوَارِزْم شَاه مُحَمَّداً بِكُلِّ قَوْل، وَلاَطفه، وَلاَ يَزدَاد إلَّا عتُوّاً، وَلَمْ يَزَلِ النَّاصِر فِي عزّ وَقمع الأَعْدَاء، وَلاَ خَرَجَ عَلَيْهِ خَارِجِيّ إلَّا قمعه، وَلاَ مخَالف إلَّا دَمَغَهُ، وَلاَ عَدو إلَّا خذل، كَانَ شَدِيد الاهتمَام بِالملك، لاَ يَخفَى عَلَيْهِ كَبِيْر شَيْء مِنْ أُمُوْر رَعيته، أَصْحَاب أَخْبَاره فِي البِلاَد، حَتَّى كَأَنَّهُ شَاهِد جَمِيْع البِلاَد دفعَة وَاحِدَة، كَانَتْ لَهُ حيل لطيفَة، وَخدع لاَ يَفطُنُ إِلَيْهَا أَحَد، يُوقع صدَاقَة بَيْنَ مُلُوْك متعَادِيْنَ، وَيوقع عدَاوَة بَيْنَ ملوك متوادين ولا يفطنون.
إلى أن قال: ولما دخل رسول الله صَاحِب مَازندرَان بَغْدَادَ كَانَتْ تَأتيه كُلّ صبَاح وَرقَة بِمَا فَعل فِي اللَّيْلِ فَصَارَ يُبَالِغ فِي التَّكتم، وَاختلَى لَيْلَة بِامْرَأَة فَصبحته وَرقَة بِذَلِكَ، فَتحيّر، وَخَرَجَ لاَ يَرتَاب أَنَّ الخَلِيْفَة يَعلم الغِيب.
قُلْتُ: أَظنّه كَانَ مخدوماً مِنَ الجن.
قال: وأتى رسول خوارزم شاه الرسالة مخفِيَّة وَكِتَاب مختُوْم، فَقِيْل: ارْجِع فَقَدْ عرفنَا مَا جِئْت بِهِ! فَرَجَعَ وَهُوَ يظنّ أَنَّ النَّاصِر وَلِي للهِ. وَجَاءَ مرَّة رَسُوْل لخُوَارِزْم شَاه فَحُبِسَ أَشهراً ثُمَّ أُعْطِي عَشْرَة آلاَف دِيْنَار فَذَهَبَ وَصَارَ منَاصحاً لِلْخَلِيْفَة. وَبَعَثَ قَاصداً يَكشف لَهُ عَسْكَر خُوَارِزْم شَاه، فَشوّه وَجهه وَتَجَانَنَ، وَأَنَّهُ ضَاع حِمَاره، فَسخرُوا مِنْهُ، وَضحكُوا، وَتردد بَيْنهُم أَرْبَعِيْنَ يَوْماً، ثُمَّ رَدّ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَالَ: القَوْمُ مائَة وَتِسْعُوْنَ أَلْفاً، يَزِيدُوْنَ أَلْفاً أَوْ يَنقصُوْنَ.
وَكَانَ النَّاصِر إِذَا أَطعم أَشبع، وَإِذَا ضَرَبَ أَوجع؛ وَصل رَجُل بِبّغَاء تَقرَأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هديَّة لِلنَّاصِر، فَأَصْبَحت مِيتَة وَحزن فَأَتَاهُ فرَاش يَطلب الببّغَاء فَبَكَى، وَقَالَ: مَاتَتْ. قَالَ: عرفنَا، فَهَاتهَا ميتَة، وَقَالَ: كَمْ كَانَ أَمَلكَ? قَالَ: خَمْس مائَة دِيْنَارٍ، قَالَ: خُذهَا فَقَدْ بعثَهَا إِلَيْك أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ، فَإِنَّهُ عَالِم بِأَمرك مُنْذُ خَرَجت مِنَ الهِنْد! وَكَانَ صدرجهَان قَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي جَمع مِنَ الفُقَهَاء، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم عَنْ فَرسه: لاَ يَقدر الخَلِيْفَة أَنْ يَأْخذهَا مِنِّي؛ قَالَ ذَلِكَ فِي سَمَرْقَنْد، وَعرف النَّاصِر فَأَمر بَعْض الزّبّالين أَنْ يَتعرض لَهُ وَيَضربه وَيَأْخذ الْفرس مِنْهُ بِبَغْدَادَ، وَيهرب بِهَا فِي الزّحمَة، ففعل، فجاءه الفَقِيْه إِلَى الأَبْوَاب يَسْتَغِيث وَلاَ يُغَاث، فَلَمَّا رجعوا من الحج خلع على صدرجهان وَأَصْحَابه سِوَى ذَلِكَ الفَقِيْه، ثُمَّ بَعْد خُلِعَ عَلَيْهِ، وَقدّمت لَهُ فَرسه وَعَلَيْهَا سرج مُذَهَّب، وَقِيْلَ لَهُ: لَمْ يَأْخُذْ فَرسك الخَلِيْفَة، إِنَّمَا أَخَذَهَا زبّال، فَغُشِيَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: مَا تَحْتَ هَذَا الفِعْل طَائِل، فُكُلُّ مَخْدُومِ وَكَاهن يَتَأَتى لَهُ أَضعَاف ذَلِكَ.
قَالَ المُوَفَّقُ عَبْد اللَّطِيْفِ: وَفِي وَسط وِلاَيته اشْتَغَل برِوَايَة الحَدِيْث، وَاسْتنَاب نُوَاباً يَروون عَنْهُ، وَأَجرَى عَلَيْهِم جرَايَات، وَكَتَبَ لِلمُلُوْك وَالعُلَمَاء إِجَازَات، وَجَمَعَ كِتَاباً سَبْعِيْنَ حَدِيْثاً وَصل عَلَى يَد السُّهْرَوَرْدِيّ إِلَى حَلَب فَسَمِعَهُ الظَّاهِر، وَجمَاهير الدَّوْلَة وَشرخته. وَسَبَب مَيْله إِلَى الرِّوَايَة أَن قَاضِي القُضَاةِ العَبَّاسِيّ نُسِبَ إِلَيْهِ تَزوير فَأَحضروهُ وَثَلاَثَة مِنَ الشُّهُود، فَعزّر القَاضِي بتخرِيق عِمَامَته، وَطيف بِالثَّلاَثَة عَلَى جَمَال بِالذّرة، فَمَاتَ أَحَدهُم لَيْلَتَئِذٍ وَالآخر لبس لبس الفُسَّاق، وَالثَّالِث اخْتفَى وَهُوَ المُحَدِّثُ البَنْدَنِيْجِيّ رفِيقُنَا، وَاحتَاج وَبَاع فِي كُتُبِه فَوَجَد فِي الجزَاز إِجَازَة لِلنَاصِر مِنْ مَشَايِخ بَغْدَاد، فَرفعهَا إِلَيْهِ، فَخُلِع عَلَيْهِ وَأعْطي مائَة دِيْنَارٍ، ثُمَّ جُعِلَ وَكِيْلاً عَنِ النَّاصِر فِي الإِجَازَة وَالتّسمِيْع.
قُلْتُ: مِمَّنْ يَرْوِي عَنِ النَّاصِر بِالإِجَازَةِ عَبْد الوَهَّابِ بن سُكَيْنَة، وَابْن الأَخْضَرِ، وَقَاضِي القُضَاةِ ابْن الدَّامَغَانِيّ، وَوَلِي العَهْد، وَالملك العَادل، وبنوه، وشيخانا: محمود الزنجاني، والمقداد القيسي.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: شرّفنِي النَّاصِر بِالإِجَازَةِ، وَرويت عَنْهُ بِالحَرَمَيْنِ وَدِمَشْق وَالقُدْس وَحَلَب وَبَغْدَاد وَأَصْبَهَان ونيسابور ومرو وهمذان.
قال الموفق: وأقم مُدَّة يُرَاسل جَلاَل الدِّيْنِ الصَّبَّاحِيّ صَاحِب الأَلموت يرَاوده أَنْ يَعيد شعَار الإِسْلاَم مِنَ الصَّلاَةِ والصيام مما تركوه فيزمان سنَان، وَيَقُوْلُ لَهُم: إِنَّكُم إِذَا فَعَلتُم ذَلِكَ كُنَّا يَداً وَاحِدَة. وَاتّفقَ أَنَّ رَسُوْلَ خُوَارِزْم شَاه قَدِمَ فَزوّر عَلَى لِسَانه كتب فِي حق الملاَحدَة تَشتمل عَلَى الْوَعيد، وَعَزْم الإِيقَاع بِهِم، وَأَنَّهُ يَخرّب قلاعهُم وَيطلب مِنَ النَّاصِر المعونَة، وَأُحضر رَجُل مِنْهُم كَانَ قَاطناً بِبَغْدَادَ وَوقِّفَ عَلَى الكُتُب، وَأُخْرِج بِهَا وَبكُتُب مِنَ النَّاصِر عَلَى وَجه النّصح نِصْف اللَّيْل عَلَى البَرِيْدِ، فَقَدِم الأَلموت فَأَرهبهُم فَتظَاهِرُوا بِالإِسْلاَمِ وَإِقَامَة الشّعَار، وَبعثَوا رَسُوْلاً مَعَهُ مائَتَا شَابّ وَدَنَانِيْر كِبَاراً عَلَيْهَا: "لاَ إِلَهَ إلَّا الله مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ"، وَطَافَ المائَتَانِ بِهَا يَعلنُوْنَ بِالشهَادتين.
وَكَانَ النَّاصِر قَدْ ملأَ القُلُوْب هَيْبَة وَخيفَة، حَتَّى كَانَ يَرهبه أَهْل الهِنْد، وَأَهْل مِصْرَ، فَأَحيَى هَيْبَة الخِلاَفَة. لَقَدْ كُنْت بِمِصْرَ وَبِالشَّام فِي خلوَات المُلُوْك وَالأَكَابِر إِذَا جَرَى ذَكَرَهُ خفضُوا أَصوَاتهُم إِجلاَلاَ لَهُ. وَردَ بَغْدَاد تَاجر مَعَهُ مَتَاع دِمْيَاط المُذَهَّب، فَسَأَلُوْهُ عَنْهُ فَأَخفَاهُ فَأُعْطِي علاَمَات فِيْهِ مِنْ عدده وَأَلوَانه وَأَصْنَافه، فَازدَاد إِنْكَاره، فَقِيْلَ لَهُ: مِنَ العلاَمَات أَنَّك نَقمْت عَلَى مَمْلُوْكك فُلاَن التُّرْكِيّ فَأَخَذتهُ إِلَى سَيْف بَحر دِمْيَاط وَقتلته، وَدفنته هُنَاكَ خلوَة.
قَالَ ابْنُ النَّجَّارِ: دَانت لِلنَاصِر السَّلاَطِيْن، وَدَخَلَ تَحْتَ طَاعته المخَالفُوْنَ، وَذلَّت لَهُ العُتَاة، وَانقهرت بِسَيْفِهِ البُغَاة، وَاندحض أَضدَاده، وَفتح البِلاَد العَدِيْدَة، وَملك مَا لَمْ يَملكه غَيْرُه، وَخُطِبَ لَهُ بِالأَنْدَلُسِ وَبِالصّين، وَكَانَ أَسد بَنِي العَبَّاسِ تَتصدَّع لِهَيْبَتِهِ الجِبَال، وَتذل لسطوته الأَقيَال، وَكَانَ حَسَنَ الْخلق أَطيف الخُلق، كَامِل الظّرف، فَصِيْحاً بَلِيْغاً، لَهُ التَّوقيعَات المُسَدّدَة وَالكَلِمَاتَ المُؤيدَة، كَانَتْ أَيَّامه غرَّة فِي وَجه الدَّهْر، وَدرَة فِي تَاج الفَخْر.
حَدَّثَنِي الحَاجِب عَلِيّ بن مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ قَالَ: برزَ مِنْهُ تَوقيع إِلَى صدْر الْمخزن جَلاَل الدِّيْنِ ابْن يُوْنُسَ: لاَ يَنْبَغِي لأَربَاب هَذَا المقَام أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى أَمْر لَمْ يَنظرُوا فِي عَاقبته، فَإِنَّ النَّظَر قَبْل الإِقدَام خَيْر مِنَ النّدم بَعْد الفوَات، وَلاَ يُؤْخَذ البرَآء بِقَوْل الأَعْدَاء، فَلكل نَاصِح كَاشح، وَلاَ يُطَالب بِالأَمْوَال مَنْ لَمْ يَخن فِي الأَعْمَال، فَإِنَّ المصَادرَة مكَافَأَة لِلظَالِمِين، وَليكن العفَاف وَالتُّقَى رَقِيبَيْنِ عَلَيْك. وَبَرَزَ مِنْهُ تَوقيع: "قَدْ تَكرّر تَقدّمنَا إِلَيْك مِمَّا افْترضه الله عَلَيْنَا وَيلزمنَا القِيَام بِهِ كَيْفَ يُهْمَل حَالُ النَّاس حَتَّى تَم عَلَيْهِم مَا قَدْ بُيِّنَ فِي باطنهَا، فَتنصْف الرَّجُل وَتقَابل العَامِل إِنْ لَمْ يَفْلُج بِحجَّة شرعيَة".
قَالَ القَاضِي ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ النَّاصِر شَهْماً شُجَاعاً ذَا فَكرَة صَائِبَة وَعقل رَصِين وَمكر وَدَهَاء، وَكَانَتْ هَيْبَته عَظِيْمَة جِدّاً، وَلَهُ أَصْحَاب أَخْبَار بِالعِرَاقِ وَسَائِر الأَطرَاف يطالعونه بجزئيات الأمور حتى ذكر أن رجلًا ببغداد عَمل دَعْوَة وَغسل يَده قَبْل أَضيَافه فَطَالعه صَاحِب الخَبَر، فَكَتَبَ فِي جَوَاب ذَلِكَ: سوء أَدب مِنْ صَاحِب الدَّار وَفضول مِنْ كَاتِب المُطَالَعَة.
قَالَ: وَكَانَ رَدِيْءَ السّيرَة فِي الرَّعِيَّةِ، مَائِلاً إِلَى الظّلم وَالعسف، فَخربت فِي أَيَّامِهِ العِرَاق وَتَفرَّق أَهْلهَا وَأَخَذَ أَملاَكهُم، وَكَانَ يَفعل أَفعَالاً متضَادَّة، وَيَتشيع بِخلاَف آبَائِهِ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَرَى صِحَّة خِلاَفَة يَزِيْد، فَأَحضره ليعَاقبه، فَسَأَلَهُ: مَا تَقُوْلُ فِي خِلاَفَةِ يَزِيْد? قَالَ: أَنَا أَقُوْل لاَ يَنعزل بارتكَاب الفِسْق، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَمر بِإِطلاَقه، وَخَافَ مِنَ المحَاققَة.
قَالَ: وَسُئِلَ ابْنُ الجَوْزِيِّ وَالخَلِيْفَة يسمع: مَنْ أَفْضَلِ النَّاسِ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? قَالَ: أَفْضَلهُم بَعْدَهُ مَنْ كَانَتْ بِنْته تَحْته. وَهَذَا جَوَاب جَيِّد يَصدق عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى عليّ. قِيْلَ: كَتَبَ إِلَى النَّاصِر خَادم اسْمه يُمن يَتعتب، فَوَقَعَ فِيْهَا: بِمَنْ يَمُنّ يُمْن، ثَمَنُ يُمْنٍ ثُمْن".
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: قل بصر النَّاصِر فِي الآخَرِ، وَقِيْلَ: ذهب جُمْلَةً، وَكَانَ خَادمه رَشِيق قَدِ اسْتولَى عَلَى الخِلاَفَة، وَبَقِيَ يُوقع عَنْهُ، وَكَانَ بِالخَلِيْفَة أَمرَاض مِنْهَا عسر الْبَوْل وَالحصَى، فَشَقَّ ذكرهُ مرَاراً وَمآل أَمره مِنْهُ كَانَ المَوْت. قَالَ: وَغسّله خَالِي مُحْيِي الدِّيْنِ.
قَالَ المُوَفَّقُ عَبْد اللَّطِيْفِ: أَمَا مرض مَوْته فَسهوٌ وَنسيَان؛ بَقِيَ بِهِ سِتَّة أَشْهُرٍ وَلَمْ يَشعر أَحَد مِنَ الرَّعِيَّةِ بكُنه حَاله حَتَّى خفِي عَلَى الوَزِيْر وَأَهْل الدَّار، وَكَانَ لَهُ جَارِيَة قَدْ علّمهَا الخطّ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتْ تَكتب مثل خطه، فكانت تكتب على التواقيع بمشهورة القهرمَانَة، وَفِي أَثْنَاء ذَلِكَ نَزل جَلاَل الدِّيْنِ مُحَمَّد بن تَكِشّ خُوَارِزْمشَاه عَلَى ضوَاحِي بَغْدَاد هَارباً منفضّاً مِنَ الرِّجَالِ وَالمَال وَالدّوَاب، فَأَفسد بِمَا وَصلت يَده إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَدَارُوْنَهُ وَلاَ يمضون فيه أمرًا لغيبَة رَأْي النَّاصِر، ثُمَّ نهبَ دقوقا، وَرَاح إِلَى أَذْرَبِيْجَان.
نَقَلَ العَدْل شَمْس الدِّيْنِ الجَزَرِيّ فِي "تَارِيْخِهِ"، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: سَمِعْتُ المُؤَيَّد ابْن العَلْقَمِيّ الوَزِيْر لَمَّا كَانَ عَلَى الأُسْتَاذ دراية يَقُوْلُ: إِنَّ المَاء الَّذِي يَشرَبُه الإِمَام النَّاصِر كَانَ تَجِيْء بِهِ الدَّوَابّ مِنْ فَوْقَ بَغْدَاد بِسَبْعَة فَرَاسخ وَيغلَى سَبْع غلوَات ثُمَّ يحبس فِي الأَوعيَة أُسْبُوْعاً ثُمَّ يَشرب مِنْهُ، وَمَا مَاتَ حَتَّى سقِي المُرقد ثَلاَث مرَار وَشق ذَكَرَهُ، وَأُخْرِج مِنْهُ الحصَى.
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: بقي الناصر ثلاث سنين عاطلا عن الحركة بِالكليَّة، وَقَدْ ذَهَبت إِحْدَى عينِيه، وَفِي الآخَرِ أَصَابه دوسنطَارِيَا عِشْرِيْنَ يَوْماً وَمَاتَ، وَمَا أَطلق فِي مَرَضِهِ شَيْئاً مِمَّا كَانَ أَحَدثه مِنَ الرّسوم.
قَالَ: وَكَانَ سَيِّئ السّيرَة، خرّب العِرَاق فِي أَيَّامِهِ، وَتَفرَّق أَهْله فِي البِلاَد، وَأَخَذَ أَمْوَالهُم وَأَملاَكهُم. إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَعَلَ همّه فِي رمِي الْبُنْدُق وَالطيور المنَاسيب وَسرَاويلاَت الفتوَّة.
وَنَقَلَ الظّهير الكَازَرُوْنِيّ فِيمَا أَجَاز لَنَا: إِنَّ النَّاصِر فِي وَسط خِلاَفَته همّ بِترك الخِلاَفَة وَبِالاَنقطَاع إِلَى التّعبد، وَكَتَبَ عَنْهُ ابْن الضَّحَّاك تَوقيعَا قُرئ عَلَى الأَعيَان، وَبَنَى رِبَاطاً لِلْفُقَرَاء، وَاتَّخَذَ إِلَى جَانب الرِّبَاط دَاراً لِنَفْسِهِ كَانَ يَتردَّد إِلَيْهَا وَيَحَادث الصُّوْفِيَّة، وَعمِلَ لَهُ ثيَاباً كَبِيْرَة بزِيّ القَوْم.
قُلْتُ: ثُمَّ نبذ هَذَا وَملّ.
وَمِنَ الحوَادث فِي دَوْلَته قدوم أَسرَى الفِرَنْج إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ هزمهُم صَلاَح الدِّيْنِ نَوْبَة مَرج العُيُون، وَمِنَ التّحف ضلع حوت طوله عَشْرَة أَذرع فِي عرض ذِرَاع، وَجَوَاهر مثمنَة. وَقِيْلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ دولة المستضيء.
وَأُهْلِك وَزِيْر العِرَاق ظَهِيْر الدِّيْنِ ابْن العَطَّار فَعرفت الغوَغَاءُ بجِنَازَته فَرجمُوْهُ، فَهَرَبَ الحمَّالُوْنَ فَأُخْرِجَ مِنْ تَابوته، وَسُحب، فَتعرَّى مِنَ الأَكْفَان، وَطَافُوا بِهِ، نَسْأَل اللهَ السّتر، وَكَانَ جَبَّاراً عنِيْداً.
أَنْبَأَنِي عِزّ الدِّيْنِ ابْن البُزُوْرِيّ فِي "تَارِيْخِهِ"، قَالَ: حَكَى التَّيْمِيّ، قَالَ: كُنْتُ بحضرَة ابْن العَطَّار، وَقَدْ وَرد عَلَيْهِ شَيْخ فَوَعَظَهُ بكَلاَم لطيف وَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَخرجُوهُ الكَلْب سحباً، وَكرر ذَلِكَ، وَقِيْلَ: هُوَ الَّذِي دسّ البَاطِنِيَّة عَلَى الوَزِيْر عَضُد الدِّيْنِ ابْن رَئِيْس الرُّؤَسَاء حَتَّى قتلُوْهُ، وَبَقِيَ النَّاصِر يَرْكَب وَيَتصيّد.
وَفِي سَنَةِ 78: نَازل السُّلْطَان المَوْصِل مُحَاصراً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الخَلِيْفَة يَلُوْمه.
وَفِيْهَا افْتَتَحَ صَاحِب الرُّوْم مدينَة لِلنَّصَارَى، وَافتَتَح صَلاَح الدِّيْنِ حَرَّان وَسَرُوج وَنَصِيْبِيْن وَالرَّقَّة والبيرة.
وَفِيْهَا تَفَتَّى النَّاصِرُ إِلَى عَبْدِ الجَبَّارِ شَرفَ الفُتوَّةِ، وَكَانَ شُجَاعاً مَشْهُوْراً تَخَافُه الرِّجَالُ، ثُمَّ تَعبَّدَ وَاشْتهرَ، فَطَلَبَهُ النَّاصِرُ، وَتَفَتَّى إِلَيْهِ، وَجَعَلَ المُعَوَّل فِي شَرْعِ الفُتُوَّةِ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ النَّاصِرُ يُلبِّسُ سَرَاويلَ الفُتُوَّةِ لِسلاَطينِ البِلاَدِ.
وَفِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ: وَردَ كِتَابُ السُّلْطَانِ مِنْ إِنشَاءِ الفَاضِلِ فِيْهِ: "وَكَانَ الفِرَنْجُ قَدْ رَكِبُوا مِنَ الأَمْرِ نُكراً، وَافتَضُّوا مِنَ البَحْرِ بكْراً، وَشَحنُوا مَرَاكِبَ، وَضَرَبُوا بِهَا سوَاحلَ الحِجَازِ، وَظُنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ، وَانتظرَ المُسْلِمُوْنَ غَضبَ اللهِ لِبَيْتِه وَمَقَامِ خَلِيْلِه وَضَرِيْحِ نَبِيِّهِ، فَعَمَّرَ الأَخُ سَيْفُ الدِّيْنِ مَرَاكِبَ"، إِلَى أَنْ قَالَ: فَوَقَعَ عَلَيْهَا أَصْحَابُنَا فَأُخِذتِ المَرَاكِبُ بِأَسرِهَا، وَفَرَّ فِرَنْجُهَا، فَسَلَكُوا فِي الجِبَالِ مَهَاوِيَ المَهَالِكِ، وَمَعَاطِن المَعَاطِبِ، وَرَكِبَ أَصْحَابُنَا وَرَاءهُم خَيل العَرَبِ يَقتُلُوْنَ وَيَأْسِرُوْنَ حَتَّى لَمْ يَترُكُوا مُخبِّراً، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 11] .
وَفِيْهَا تسلّم صَلاَحُ الدِّيْنِ حَلَبَ.
وَفِيْهَا: تَمَكَّنَ شِهَابُ الدِّيْنِ الغُوْرِيُّ، وَامتدَّ سُلْطَانُه إِلَى لهاور، وَحَاصَرَ بِهَا خسروشاه مِنْ وَلَدِ مَحْمُوْدِ بنِ سُبُكْتِكِيْنَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ، ثُمَّ غَدرَ بِهِ.
وَبَعَثَ صَلاَحُ الدِّيْنِ تَقدمَةً إِلَى الدِّيْوَانِ مِنْهَا شمسة يعني الجتر من رِيش الطَّوَاويس عَلَيْهَا أَلقَابُ المُسْتَنْصِرِ العُبَيْدِيِّ. ثُمَّ نَازَلَ صَلاَحُ الدِّيْنِ الكَركَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَفتَحَهَا، ثُمَّ بَلَغَهُ تَحزّبُ الفِرَنْجِ عَلَيْهِ فَتَرَكَهَا، وَقَصَدَهُم، فَعَرَجُوا عَنْهُ فَأَتَى دِمَشْقَ، وَوَهَبَ أَخَاهُ العَادِلَ حَلَبَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْدَهُ عَلَى نِيَابَةِ مِصْرَ ابْنَ أَخِيْهِ المَلِك المُظَفَّر عَمّ صَاحِبِ حَمَاةَ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانِيْنَ: جَعَلَ الخَلِيْفَةُ مشْهد وَالجَوَاد أَمناً لِمَنْ لاَذَ بِهِ، فَحصَلَ بِذَلِكَ بلاء ومفاسد.
وَاستبَاحَ صَلاَحُ الدِّيْنِ نَابُلُسَ -وَللهِ الحَمْدُ، وَنَازلَ الكَركَ، فَجَاءتْهَا نَجدَاتُ العَدُوِّ، فَتَرَحَّلَ.
وَفِيْهَا كَانَ خُرُوْجُ عَلِيِّ بنِ غَانِيَةَ المُلَثَّمِ صَاحِبِ مَيُوْرْقَةَ، فَسَارَ وَتَمَلَّكَ بَجَايَةَ عِنْدَ مَوْتِ يُوْسُفَ بنِ عَبْدِ المُؤْمِنِ، وَكثرتْ عَسَاكِرُه، ثُمَّ هَزمَ عَسْكَراً لِلموحدينَ، ثُمَّ حَاصرَ قُسْطَنْطِيْنِيَّةَ الهوَاءُ أَشْهُراً ثُمَّ كُشِفَ عَنْهَا المُوحِّدُوْنَ، فَأَقْبَلَ ابْنُ غَانِيَةَ إِلَى القَيْرَوَانِ، فَحشدَ وَاسْتخدمَ وَالتفَّتْ عَلَيْهِ بَنُوْ سُلَيْمٍ وَرِيَاحٌ وَالتُّركُ المِصْرِيّونَ الَّذِيْنَ كَانُوا مَعَ بُوْزَبَا وَقرَاقوشَ فَتَمَلَّكَ بِهِم أَفرِيقيَةَ سِوَى تُوْنُسَ وَالمَهْدِيَّةِ حَمَتْهُمَا الموحدُوْنَ، وَانضمَّ إِلَى ابْنِ غَانِيَةَ كُلُّ فَاسِدٍ وَمجرمٍ، وَعَاثُوا وَنَهَبُوا القُرَى وَسبَوا، وَأَقَامَ الخطبَةَ لِبَنِي العَبَّاسِ، وَأَخَذَ قَفْصَةَ، فَتَحَزَّبَ عَلَيْهِ الموحدُوْنَ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ، وَأَقْبَلَ سُلْطَانُهُم يَعْقُوْبُ بنُ يُوْسُفَ فَخَيَّمَ بِتُوْنُسَ، وَجَهَّزَ لِلمَصَافِّ سِتَّةَ آلاف فارس مع ابن أَخِيْهِ، فَهَزمَهُم ابْنُ غَانِيَةَ، ثُمَّ سَارَ يَعْقُوْبُ بِنَفْسِهِ فَالتَقَوا، فَانْهَزَمَ عَلِيٌّ وَاسْتَحَرَّ بِهِ وَاسْتردَّ يَعْقُوْبُ البِلاَدَ، وَامتدتْ دَوْلَةُ ابْنِ غَانِيَةَ خَمْسِيْنَ.
وَجَدَّ صَلاَحُ الدِّيْنِ فِي محَاصرَةِ الكَرَكِ.
وَفِي سَنَةِ 581: نَازلَ صَلاَحُ الدِّيْنِ المَوْصِلَ، وَجدَّ فِي حصَارِهَا، ثُمَّ سَارَ وَتسلّمَ مَيَّافَارِقِيْنَ بِالأَمَانِ، ثُمَّ مرضَ بِحَرَّانَ مرضاً شدِيداً، وَتنَاثرَ شعرُ لِحْيتِه، وَمَاتَ صَاحِبُ حِمْصَ مُحَمَّدُ بنُ شِيرْكُوْه، فَملَّكَهَا السُّلْطَانُ وَلدَه أَسَدَ الدِّيْنِ، وَلُقِّبَ بِالملكِ المُجَاهِدِ.
وَفِي سَنَةِ 82: ابْتدَاءُ فِتْنَةٍ عَظِيْمَةٍ بَيْنَ الأَكرَادِ وَالتُّرُكْمَانِ بِالمَوْصِلِ وَالجَزِيْرَةِ وَأَذْرَبِيْجَانَ وَالشَّامِ وَشهرزور، وَدَامتْ أَعْوَاماً، وَقُتِلَ فِيْهَا مَا لاَ يُحصَى، وَانقطعتِ السُّبُلُ حَتَّى أَصلحَ بَيْنهُم قَايْمَازُ نَائِبُ المَوْصِلِ، وَأَصلُهَا عُرسٌ تركمَانِيٌّ.
وَفِيْهَا قَالَ العِمَادُ: أَجْمَعَ المنجّمُوْنَ فِي جَمِيْعِ البِلاَدِ بِخرَابِ العَالِمِ عِنْدَ اجْتمَاعِ الكَوَاكِبِ السّتَةِ فِي المِيزَانِ بطوفَانِ الرِّيْحِ فِي سَائِرِ البُلْدَانِ، فَشرعَ خلقٌ فِي حفرِ مغَائِرَ وَتوثيقِهَا، وَسُلْطَانُنَا مُتَنَمِّرٌ موقنٌ أَنَّ قَوْلَهُم مبنِيٌّ عَلَى الكَذِبِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي عيَّنُوْهَا لَمْ تَتحرَّكْ نسمَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ البُزُوْرِيِّ: لَقَدْ تَوقفَ الهوَاءُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ عَلَى السواد وما ذروا الغلة.
وَفِيْهَا جرتِ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّافِضَّةِ وَالسُّنَّةِ قُتِلَ فِيْهَا خلقٌ كَثِيْرٌ، وَغلبُوا أَهْل الكَرْخِ.
وَكَانَ الخُلْفُ وَالحَرْبُ بَيْنَ الأَرمنِ وَالرُّوْمِ وَالفِرَنْجِ.
وَقَتَلَ الخَلِيْفَةُ أُسْتَاذَ دَارِه ابْنَ الصَّاحِبِ، وَوَلِيَهَا قَوَامُ الدِّيْنِ يَحْيَى بنُ زَبَادَةَ، وَخلَّفَ ابْنُ الصَّاحبِ مِنَ الذّهبِ الْعين أَزْيدَ مِنْ أَلفِ أَلفِ دِيْنَارٍ، وَكَانَ عَسُوَفاً فَاجراً رَافِضِيّاً، وَوزرَ جَلاَل الدِّيْنِ عُبَيْد اللهِ بن يُوْنُسَ، وَكَانَ شَاهِداً، فَارتقَى إِلَى الوزَارَةِ.
وَفِيْهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ طُغْرِلُ بنُ أَرْسَلاَنَ بنِ طُغْرِلَ السَّلْجُوْقِيُّ أَنْ تُعَمَّرَ لَهُ دَارُ المَمْلَكَةِ ليَنْزِلَ بِهَا، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ، فَهَدَّمَ النَّاصِرُ دَارَه وَردَّ رَسُوْلَه بِلاَ جَوَابٍ، وَكَانَ ملكاً مُسْتضعفاً مَعَ المُلُوْكِ، فَمَاتَ البَهْلَوَانُ، فَتمكّنَ، وَطَاشَ.
وَفِيْهَا فُتِحتِ القُدْسُ وَغَيْرُهَا، وَاندكَّتْ مُلُوْكُ الفِرَنْجِ، وَكُسرُوا وَأُسرُوا، قَالَ العِمَادُ: فُتحتْ سِتُّ مَدَائِنَ وَقلاعٍ فِي سِتِّ جُمعٍ: جَبلَةُ وَاللاَّذِقِيَّةُ وَصهيونُ وَالشُّغْرُ وَبكَاسُ وَسُرْمَانِيَّةُ، ثم أخذ حصن بَرْزَيَةَ بِالأَمَانِ ثُمَّ رحلَ صَلاَحُ الدِّيْنِ -أَيَّدَهُ اللهُ- إِلَى دربسَاكَ، فَتسلّمَهَا، ثُمَّ إِلَى بَغْرَاسَ فَتسلّمَهَا، وَهَادنَ صَاحِبَ أَنطَاكيَةَ، وَدَامَ الحصَارُ عَلَى الكَرَكِ وَالمطَاولَةُ، فَسلّمُوهَا لجوعِهم، ثُمَّ أَعْطَوا الشّوبكَ بِالأَمَانِ، ثُمَّ نَازل السُّلْطَان صَفَدَ.
وَفِي سَنَةِ 84: كَانَ صَلاَحُ الدِّيْنِ لاَ يَفترُ وَلاَ يقرُّ عَنْ قِتَالِ الفِرَنْجِ.
وَسَارَ عَسْكَرُ النَّاصِرِ عَلَيْهِم الوَزِيْرُ ابْنُ يُوْنُسَ فَعملَ المَصَافَّ مَعَ السُّلْطَانِ طُغْرِلَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ النَّاصِرِ، وَتَقَاعسُوا، وَثبتَ ابْنُ يُوْنُسَ فِي نَفَرٍ، بِيَدِهِ مُصحفٌ مَنْشُوْرٌ وَسيفٌ مَشْهُوْرٌ، فَأَخَذَ رَجُلٌ بعِنَانِ فَرسِهِ وَقَادَهُ إِلَى مخيَّمٍ فَأَنْزَلَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ وَوزِيْرُه فَلزمَ مَعَهُم قَانُوْنَ الوزَارَةِ، وَلَمْ يَقمْ، فَعجبُوا، وَلَمْ يَزَلْ محترماً حَتَّى ردَّ، وَأَمَّا صَاحِبُ المرَآةِ فَقَالَ: أُحضرَ ابْنُ يُوْنُسَ بَيْنَ يَدَي طُغْرِلَ، فَأَلْبَسَه طرطوراً بِجَلَاجِلَ، وَتَمَزَّقَ العَسْكَرُ، وَسَارَ قُزلُ أَخُو البَهْلَوَانِ فَهَزمَ طُغْرِلَ، وَمَعَهُ ابْنُ يُوْنُسَ فَسَارَ إِلَى خِلاَطٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ بُكْتَمُرُ مَا فعله، قال: هم يؤوني، قَالَ: فَأُطلقَ الوَزِيْرُ، فَمَا قدرَ يُخَالِفُه، فَجَهَّزَهُ بُكْتَمُرُ بخيلٍ وَمَمَالِيْكٍ، فَردَّ ذَلِكَ، وَأَخَذَ بغلينِ برجلين، وَسَارَ مَعَهُ غُلاَمُه فِي زِيِّ صُوْفِيٍّ إِلَى المَوْصِلِ متنكِّراً، ثُمَّ ركبَ إِلَى بَغْدَادَ فِي سفينة.
وَفِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِيْنَ: نَفذَ طُغْرِلُ تُحَفاً وَهدَايَا، وَاعْتَذَرَ وَاسْتَغْفرَ.
وظهرَ ابْنُ يُوْنُسَ، فَولِيَ نَظَرَ المخزنِ، ثُمَّ عزلَ بَعْدَ أَشهرٍ.
وَفِيْهَا وَفِي المُقْبِلَةِ: كَانَ الحصَارُ الَّذِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ أَبَداً عَلَى عَكَّا، كَانَ السُّلْطَانُ قَدِ افْتتحَهَا وَأَسكنَهَا المُسْلِمِيْنَ، فَأَقْبَلتِ الفِرَنْجُ برّاً وَبَحْراً مِنْ كُلِّ فَجٍّ عمِيْقٍ، فَأَحَاطُوا بِهَا، وَسَارَ صَلاَحُ الدِّيْنِ فَيدفعُهُم فَمَا تَزعزعُوا وَلاَ فَكَّرُوا بل أنشأوا سوراً وَخَنْدَقاً عَلَى معَسْكَرِهِم، وَجَرَتْ غَيْرُ وَقْعَةٍ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيْرٌ يَحتَاجُ بسطُ ذَلِكَ إِلَى جزءٍ، وَامتدتِ المنَازلَةُ وَالمطَاولَةُ وَالمُقَاتَلةُ نَيِّفاً وَعِشْرِيْنَ شَهْراً، وَكَانَتِ الأَمْدَادُ تَأْتِي العَدُوَّ مِنْ أَقْصَى البِحَارِ، وَاسْتنجدَ صَلاَحُ الدِّيْنِ بِالخَلِيْفَةِ وَغَيْرِهِ حَتَّى أَنَّهُ نَفذَ رَسُوْلاً إِلَى صَاحِبِ المَغْرِبِ يَعْقُوْبَ المُؤْمِنِيِّ يَسْتَجِيْشُه، فَمَا نَفعَ، وَكُلُّ بلاَءِ النَّصَارَى ذهَابُ بَيْتِ المَقْدِسِ مِنْهُم.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: لبسَ القسوس السَّوَادَ حزناً عَلَى القُدْسِ، وَأَخَذَهُم بِتركِ القُدْسِ، وَركبَ بِهِمُ البَحْرَ يَسْتَنفرُوْنَ الفِرَنْجَ، وَصَوَّرُوا المَسِيْحَ وَقَدْ ضربَه النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجرحَه، فَعظمَ هَذَا المَنْظَرُ عَلَى النَّصَارَى، وَحشدُوا وَجَمَعُوا مِنَ الرِّجَالِ وَالأَمْوَالِ مَا لاَ يُحصَى، فَحَدَّثَنِي كردِيٌّ كَانَ يُغِيرُ مَعَ الفِرَنْجِ بِحصنِ الأَكرَادِ أَنَّهُم أَخَذُوهُ مَعَهُم فِي البَحْرِ، قَالَ: فَانْتَهَى بِنَا الطَّوَافُ إِلَى رُوْميةَ، فَخَرَجْنَا مِنْهَا وَقَدْ ملأْنَا الشّوَانِي الأَرْبَعَةَ فِضَّةً.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: فَخَرَجُوا عَلَى الصّعبِ وَالذّلولِ برّاً وَبَحْراً، وَلَوْلاَ لطفُ اللهِ بِإِهَلاَكِ ملكِ الأَلمَانِ، وَإِلاَّ لَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ الشَّامَ وَمِصْرَ كَانَتَا لِلمُسْلِمِيْنَ.
قُلْتُ: كَانَتْ عَسَاكِرُ العَدُوِّ فَوْقَ المائَتَيْ أَلفٍ، وَلَكِنْ هلكُوا جوعاً وَوبَاءً، وَهلكتْ دوَابُّهُم وَجَافتِ الأَرْضُ بِهِم، وَكَانُوا قَدْ سَارُوا فَمرُّوا عَلَى جهَةِ القُسْطَنْطِيْنِيَّةِ ثُمَّ عَلَى مَمَالِكِ الرُّوْمِ تقتلُ وَتَسبِي، وَالتقَاهُ سُلْطَانُ الرُّوْمِ فَكسرَه ملكُ الأَلمَانِ، وَهجمَ قُوْنِيَةَ فَاسْتبَاحَهَا، ثُمَّ هَادنَه ابْنُ قِلْجَ رسلاَنَ وَمَرُّوا عَلَى بلاَدِ سيسَ، وَوَقَعَ فِيهِمُ الفَنَاءُ فَمَاتَ الملكُ وَقَامَ ابْنُه.
قُلْتُ: قُتلَ مِنَ العَدُوِّ فِي بَعْضِ المَصَافّاتِ الكَبِيْرَةِ الَّتِي جرتْ فِي حِصَارِ عَكَّا فِي يَوْمٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً وَخَمْسُ مائَةٍ، وَالتَقَوا مَرَّةً أُخْرَى، فَقُتِلَ مِنْهُم سِتَّةُ آلاَفٍ، وَعَمَّرُوا عَلَى عكَّا بُرْجَيْنِ مِنْ أَخشَابٍ عَاتيَةٍ، البرجُ سَبْعُ طَبَقَاتٍ فِيْهَا مسَامِيْرُ كِبَارٌ يَكُوْنُ المِسْمَارُ نِصْفَ قنطَارٍ، وَصَفَّحُوا البُرجَ بِالحديدِ، فَبقِيَ مَنْظَراً مهولاً، وَدَفَعُوا البُرجَ بِبكرٍ تَحْتَه حَتَّى أَلصقوهُ بِسورِ عَكَّا، وَبَقِيَ أَعْلَى مِنْهَا بِكَثِيْرٍ، فَسلّطَ عَلَيْهِ أَهْلُ عكَّا المَجَانِيْقَ حَتَّى خلخلُوْهُ، ثُمَّ رَمُوْهُ بقدرَةِ نَفطٍ، فَاشتعلَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ لبودٌ منقوعَةٌ بِالخَلِّ تَمنعُ عَملَ النفطِ، فَأُوْقِدَ، وَجَعَلَ الملاعِينُ يَرمُوْنَ نُفُوْسَهُم مِنْهُ، وَكَانَ يَوْماً مَشْهُوْداً، ثُمَّ عَملُوا كَبْشاً عَظِيْماً، رَأْسُه قنَاطيرُ مقَنْطَرَةٌ مِنْ حديدٍ؛ ليدفعُوْهُ عَلَى السُّوْرِ فَيخرقَه، فَلَمَّا دحرجُوهُ وَقَاربَ السُّوْرَ، سَاخَ فِي الرملِ لعظمِه، وَهدَّ الكِلاَبُ بدنَةً وَبُرجاً فَسدَّ المُسْلِمُوْنَ ذَلِكَ وَأَحكمُوْهُ فِي لَيْلَةٍ، وَكَانَ السُّلْطَانُ يَكُوْنُ أَوّلَ رَاكِبٍ وآخر نازل في هذين العَامَيْنِ، وَمَرِضَ، وَأَشرفَ عَلَى التَّلَفِ، ثُمَّ عُوفِيَ.
قَالَ العِمَادُ: حُزِرَ مَا قُتِلَ مِنَ العَدُوِّ، فَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ مائَةِ أَلْفٍ.
وَمِنْ إِنشَاءِ الفَاضِلِ إِلَى الدِّيْوَانِ وَهُم عَلَى عَكَّا: يَمُدُّهُمُ البَحْرُ بِمَرَاكِبَ أَكْثَرَ مِنْ أَمْوَاجِه، وَيَخْرُجُ لَنَا أَمَرَّ مِنْ أُجَاجِه، وَقَدْ زَرَّ هَذَا العَدُوُّ عَلَيْهِ مِنَ الخنَادقِ دُرُوْعاً، وَاسْتجنَّ مِنَ الجنونَاتِ بِحصُوْنٍ، فَصَارَ مُصحرّاً ممتنِعاً حَاسِراً مدرَّعاً، وَأَصْحَابُنَا قَدْ أَثَّرَتْ فِيهِمُ المُدَّةُ الطَّوِيْلَةُ فِي اسْتطَاعتِهِم لاَ فِي طَاعتِهِم، وَفِي أَجْوَالِهِم لاَ فِي شَجَاعَتِهِم فَنَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ، وَنرجُو عَلَى يَدِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ الإِجَابَةَ، وَقَدْ حرَّمَ بَابَاهُم -لَعَنَهُ اللهُ- كُلَّ مُبَاحٍ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُم كُلَّ مَذْخُورٍ، وَأَغلَقَ دُونَهُمُ الكَنَائِسَ، وَلبسُوا الحِدَادَ، وَحَكَمَ أَنْ لاَ يَزَالُوا كَذَلِكَ أَوْ يَسْتَخلصُوا المَقْبَرَةَ، فَيَا عَصَبَةَ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اخْلُفْهُ فِي أُمَّتِه بِمَا تَطمئنُّ بِهِ مضَاجِعُه، وَوَفِّهِ الحَقَّ فِيْنَا، فَهَا نَحْنُ عِنْدَك وَدَائِعُه، وَلَوْلاَ أَنَّ فِي التَّصرِيحِ مَا يَعُوْدُ عَلَى العدَالَةِ بِالتّجرِيحِ لقَالَ الخَادِمُ مَا يُبْكِي العُيُونَ وَيُنكِي القُلوبَ، وَلَكِنَّهُ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ وَللنّصرِ مُرتقِبٌ، رَبِّ لاَ أَملكُ إلَّا نَفْسِي وهاهي في سبيلك مبذوله، وأخي وقد هاجر هِجْرَةً نَرجوهَا مَقْبُوْلَةً، وَوُلْدِي وَقَدْ بذلتُ لِلْعدوِّ صفحَاتِ وُجُوْهِهِم، وَنقفُ عِنْد هَذَا الحدِّ وَللهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ".
وَمِنْ كتاب إِلَى الدِّيْوَانِ: قَدْ بُلِيَ الإِسْلاَمُ مِنْهُم بِقَوْمٍ اسْتطَابُوا المَوْتَ، وَفَارقُوا الأَهْلَ طَاعَةً لقسيسِهِم، وَغِيرَةً لِمَعْبَدِهِم، وَتهَالُكاً عَلَى قُمَامتِهِم، حَتَّى لسَارَتْ ملكَةٌ منهم بخمس مائة مقائل التّزمتْ بنفقَاتِهِم، فَأَخَذَهَا المُسْلِمُوْنَ برِجَالهَا بِقُرْبِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَذوَاتُ المقَانِعِ مقنَّعَاتٌ دَارعَاتٌ تحمل الطّوَارقَ وَالقبطَارِيَاتِ، وَوجدْنَا مِنْهُم عِدَّةً بَيْنَ القَتْلَى، وَبَابَا روميةَ حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لاَ يَتوجَّهُ إِلَى القُدْسِ فَهُوَ مُحرَّمٌ لاَ مَنْكِحَ لَهُ وَلاَ مَطْعَمَ، فَلِهَذَا يَتهَافتُوْنَ عَلَى الوُرودِ وَيَتهَالكُوْنَ عَلَى يَوْمِهِمُ الموعُوْدِ، وَقَالَ لَهُم: إِنَّنِي وَاصِلٌ فِي الرَّبِيْعِ جَامِعٌ عَلَى اسْتنفَارِ الجَمِيْعِ، وَإِذَا نَهَضَ فَلاَ يَقعدُ عَنْهُ أَحَدٌ، وَيَقْبَلُ مَعَهُ كُلُّ مَنْ قَالَ: للهِ وَلَدٌ.
وَمِنْ كِتَابٍ: وَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَفتحَ اللهُ عَلَيْنَا البِلاَدَ ثُمَّ يغلقُهَا، وَأَنْ يُسلمَ عَلَى يَدَيْنَا القُدْسَ ثُمَّ ننصرَه، ثُمَّ مَعَاذَ اللهِ أَن نغلبَ عَنِ النَّصْرِ أَوْ أَنْ نُغْلَبَ عَنِ الصَّبْرِ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] .
وَلَسْتُ بِقَرْمٍ هَازِمٍ لِنَظِيرِهِ ... وَلَكِنَّهُ الإِسْلاَمُ لِلشِّرْكِ هَازمُ
إِلَى أَنْ قَالَ: وَالمَشْهُوْرُ الآنَ أَنَّ ملكَ الأَلمَانِ خَرَجَ فِي مائَتَيْ أَلفٍ، وَأَنَّهُ الآن في دون خمسة آلاف.
وَخَرَجَ جَيْشُ الخَلِيْفَةِ عَلَيْهِم نَجَاحٌ إِلَى دقوقَا؛ لِحَرْبِ طُغْرِلَ، فَقَدِمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَلدُ طُغْرِلَ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ يَطلبُ العفوَ عَنْ أَبِيْهِ.
سَنَة سَبْعٍ وَثَمَانِيْن اشتدَّتْ مُضَايقَةُ العَدُوِّ عَكَّا وَأَمْدَادُهُم مُتَوَاتِرَةٌ، فَوَصَلَ مَلِكُ الإِنْكِيْتَرِ، وَقَدْ مرَّ بقُبْرُصَ، وَغدرَ بِصَاحِبهَا، وَتَملَّكَهَا كُلَّهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَكَّا فِي خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ قطعَةً، وَكَانَ مَاكراً، دَاهِيَةً، شُجَاعاً، فَخَارت قُوَى مَنْ بِهَا مِنَ المُسْلِمِيْنَ، وَضَعُفُوا بِخُرُوْجِ أَمِيْرَيْنِ مِنْهَا فِي شينِي، وَقَلقُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِم السُّلْطَانُ: أَنِ اخْرُجُوا كُلُّكُم مِنَ البَلَدِ عَلَى حَمِيَّةٍ، وَسيرُوا مَعَ البَحْرِ وَاحْمِلُوا عَلَيْهِم وَأَنَا أَجيئُهُم مِنْ وَرَائِهِم، وَأَكشِفُ عَنْكُم. فَشرعُوا فِي هَذَا فَمَا تَهَيَّأَ ثُمَّ خَرَجَ أَمِيْرُ عَكَّا ابْنُ المَشْطُوْب إِلَى مَلِكِ الفِرَنْجِ وَطلبَ الأَمَانَ فَأَبَى، قَالَ: فَنَحْنُ لاَ نُسلِّمُ عَكَّا حَتَّى نُقتَلَ جَمِيْعاً وَرَجِعَ، فَزحفَ العَدُوُّ عَلَيْهَا، وَأَشرفُوا عَلَى أَخْذِهَا فَطَلبَ المُسْلِمُوْنَ الأَمَانَ عَلَى أَنْ يُسلّمُوا عَكَّا وَمائَتَيْ أَلْفِ دِيْنَارٍ وَخَمْسَ مائَةِ أَسيرٍ وَصَليبَ الصَّلبوتِ فَأُجِيبُوا، وَتَمَلَّكَ العَدُوُّ عَكَّا فِي رَجَبٍ وَوَقَعَ البُكَاءُ وَالأَسفُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، ثُمَّ سَارَتِ الفِرَنْجُ تَقصدُ عَسْقَلاَنَ، فَسَارَ السُّلْطَانُ فِي عرَاضهِم، وَبَقِيَ اليَزَكُ يَقْتَتِلُوْنَ كُلَّ وَقتٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ نَهْرِ القَصَبِ، ثُمَّ وَقْعَةُ أَرْسُوْفَ، فَانْتصرَ المُسْلِمُوْنَ، وَأَتَى صَلاَحُ الدِّيْنِ عَسْقَلاَنَ فَأَخلاَهَا، وَشرعَ فِي هَدمِهَا، وَهَدمَ الرَّمْلَةَ وَلُدَّ، وَشرعتِ الفرنج فِي عِمَارَة يَافَا، وَطَلَبُوا الهدنَةَ، ثُمَّ جرتْ وَقعَاتٌ صِغَارٌ، وَقصدتِ المَلاعِينُ بَيْتَ المَقْدِسِ وَبِهَا السُّلْطَانُ، فَبَالغَ فِي تَحْصِيْنِهَا.
وَفِيْهَا وُلِّيَ الأُسْتَاذُ دَارِيَة ابْنُ يُوْنُسَ الَّذِي كَانَ وَزِيْراً.
وَفِيْهَا ظَهَرَ السُّهْرَوَرْدِيُّ السَّاحرَ بِحَلَبَ، وَأَفتَى الفُقَهَاءُ بِقَتْلِهِ، فَقتِلَ بِالجوعِ، وَأُحرقَتْ جثَّتُهُ، وَكَانَ سيمَاوياً فَيلسوَفاً مُنحلاًّ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ شَرَعَتِ الفِرَنْجُ فِي بِنَاءِ عَسْقَلاَن.
وَالتَقَى شِهَابُ الدِّيْنِ الغُوْرِيُّ عَسَاكِرَ الهِنْدِ، فَهَزمَهُم، وَقَتَلَ ملكَهُم فِي الوقعَةِ.
وَكبَسَ الإِنكيتر فِي الرَّملِ عَسْكَراً مِنَ المِصْرِيّينَ، وَقفلا فَاسْتبَاحَهُم، فَللَّهِ الأَمْرِ، ثُمَّ انعقدَتِ الهدنَةُ ثَلاَثَ سِنِيْنَ وَثَمَانِيَةَ أَشهرٍ، وَدَخَلَ فِيْهَا السُّلْطَانُ وَهُوَ يَعضُّ يَدَهُ حَنَقاً، وَلَكِنْ كَثُرَتْ عَلَيْهِ الفِرَنْجُ وَملَّ جندَهُ وَحَلَفَ عَلَى الصُّلحِ عِدَّةٌ مِنْ مُلُوْكِ المُسْلِمِيْنَ مَعَ السُّلْطَانِ، وَعِدَّةٌ مِنْ مُلُوْكِ الفِرَنْجِ.
وَفِيْهَا قتلَ صَاحِب الرُّوْمِ قِلْج أَرْسَلاَن السَّلْجُوْقِيّ، وَقُتِلَ بُكْتَمُر صَاحِب خِلاَطٍ عَلَى يَدِ الإِسْمَاعِيْلِيَّةِ.
وَسَارَ السُّلْطَانُ طُغْرِلَ، فَبَدَّعَ فِي الرَّيِّ، وَقَتَلَ بِهَا خلقاً مِنَ المُسْلِمِيْنَ، وَعَادَ إِلَى هَمَذَان، فَبطل نِصْفه.
وَفِيْهَا افْتَتَحَ سُلْطَانُ غَزْنَةَ شِهَابُ الدِّيْنِ فِي بلاَدِ الهند.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: انْقضَّ كَوْكَبَانِ عَظِيْمَانِ اضطرمَا، وسمع صوت هزة عَظِيْمَةٍ، وَغلبَ ضوؤهُمَا ضوءَ القَمَرِ وَالنَّهَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوْعِ الفَجْرِ.
وَفِيْهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ صَلاَحُ الدِّيْنِ، وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِيْنَ.
وَفِي سَنَةِ تِسْعِيْنَ: كَانَتِ الحَرْبُ تَسْتَعِرُ بَيْنَ شِهَابِ الدِّيْنِ الغُوْرِيِّ وَبَيْنَ سُلْطَانِ الهِنْدِ بنَارس، قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: فَالتَقَوا عَلَى نَهْرِ مَاخُونَ، وَكَانَ مَعَ الهندِيِّ سَبْعُ مائَةِ فِيلٍ، وَمِنَ العَسْكَرِ عَلَى مَا قِيْلَ: أَلفُ أَلفِ نَفْسٍ، وَفِيهِم عِدَّةُ أُمَرَاء مُسْلِمِيْن، فَنُصِرَ شِهَابُ الدِّيْنِ، وَكثُرَ القتلُ فِي المُشْرِكِيْنَ حَتَّى جَافَتْ مِنْهُمُ الأَرْضُ، وَقُتِلَ بنَارس، وَعُرِفَ بِشدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ، وَغَنِمَ شِهَابُ الدِّيْنِ تِسْعِيْنَ ألفًا فِيْهَا فِيلٌ أَبيضُ، وَمِنْ خَزَائِنِ بنَارس أَلْفاً وَأَرْبَعَ مائَةِ حملٍ.
وَبَعَثَ النَّاصِرُ إِلَى خُوَارِزْم شَاه، ليحَاربَ طُغْرِلَ، فَبَادرَ وَالتقَاهُ فَهَزمَهُ، وَقتلَهُ وَنهبَ خزَانتَهُ، وَهَزَمَ جَيْشَهُ، وَنفذَ الرَّأْسَ إِلَى بَغْدَادَ.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: وَسَيَّرَ النَّاصِرُ لخُوَارِزْم شَاه نَجدَةً وَسيَّرَ لَهُ مَعَ وَزِيْرِهِ المُؤَيَّدِ ابْنِ القَصَّابِ خِلَعَ السَّلطنَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ المُؤَيَّدُ بَعْدَ الوقعَةِ: احضُرْ إِلَيَّ لِتَلْبِسَ الخِلْعَةَ، وَتردَّدَتِ الرسل، وقيل لخوارزشاه: إِنَّهَا حِيْلَةٌ لِتُمْسَكَ، فَأَقْبل ليَأْخذ ابْن القَصَّابِ، ففر إلى جبل حماه.
وَعُزِلَ مِنَ الأُسْتَاذِ دَارِيَة ابْن يُوْنُسَ، وَحُبِسَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَوُلِّيَ مَكَانُهُ التَّاجُ بنُ رَزِيْنَ.
وَقُتِلَ أَلب غَازِي مُتَوَلِّي الحِلَّةِ.
وَفِيْهَا افْتَتَحَ ابْنُ القَصَّابِ بلاَدَ خُوْزِسْتَانَ.
وَوَقَعَ الرِّضَى عَنْ بنِي الشَّيْخِ عَبْدِ القَادِرِ، وَسُلِّمَ ابْنُ الجَوْزِيِّ إِلَى أَحَدِهِم، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى وَاسِطَ فَسَجَنَهُ بِهَا خَمْسَ سِنِيْنَ.
وَتَمَلَّكَ مِصْرَ بَعْدَ السلطان ابنه عبد العَزِيْزُ، وَدِمَشْقَ ابْنُهُ الأَفْضَلُ، وَحَلَبَ ابْنُهُ الظَّاهِرُ، وَالكَرَكَ وَحَرَّانَ وَموَاضِعَ أَخُوْهُ العَادلُ.
وَفِيْهَا جَاءَ يُحَاصِرُ الأَفْضَلَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ جَاءَ عمُّهُمَا ليُصْلِحَ بينهما، وكان داهية، فلعب بها إِلَى أَنْ مَاتَ العَزِيْزُ، فَتَمَلَّكَ هُوَ مِصْرَ، وَطرَدَ عَنْ دِمَشْقَ الأَفْضَلَ إِلَى سُمَيْسَاطَ فَقنعَ بِهَا، وَلَوْلاَ أَنَّ الظَّاهِرَ كَانَ زوجَ بِنْتِهِ لأَخَذَ مِنْهُ حَلَبَ، وَكَانَ الأَفْضَلُ صَاحِبَ شُرْبٍ وَأَغَانٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ يَوْماً تَائِباً أَرَاقَ الخُمُوْرَ وَلَبِسَ الخَشِنَ وَتعبَّدَ وَصَامَ وَجَالَسَ الصُّلَحَاءَ، ونسخ مصحفٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَلِيْلَ السَّعَادَةِ.
وَفِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِيْنَ: اسْتولَى ابْنُ القَصَّابِ عَلَى هَمَذَانَ فَضُرِبَتِ الطُّبُولُ بِبَغْدَادَ، وَعظُمَ ابْنُ القَصَّابِ وَنَفَّذَ إليه خوارزم شاه يتوعد لَمَّا عَاثَ بِأَطرَافِ بلاَدِهِ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ القَصَّابِ، وَأَقْبَلَ خُوَارِزْم شَاه فَهَزمَ جَيْشَ الخَلِيْفَةِ وَنبَشَ الوَزِيْر مُوهِماً أَنَّهُ قُتِلَ فِي المَصَافِّ.
وفيها حدد العَزِيْزُ هُدْنَةً مَعَ كُنْدَهْرِي طَاغِيَةِ الفِرَنْجِ فَمَا لَبِثَ الكَلْبُ أَنْ سقطَ مِنْ مَوْضِعٍ بعكَّا، فَمَاتَ، وَاختلَّتْ أَحْوَالُ الفِرَنْجِ قَلِيْلاً، وَأَقْبَلَ الأَفْضَلُ عَلَى التَّعبُّدِ وَدبَّرَ ملكَهُ ابْنُ الأَثِيْرِ ضِيَاءُ الدِّيْنِ، فَاختلَّتْ بِهِ الأَحْوَالُ.
وَكَانَتْ بِالأَنْدَلُسِ المَلْحَمَةُ العُظْمَى، وَقْعَةُ الزَّلاَّقَةِ بَيْنَ يَعْقُوْبَ وَبَيْنَ الفُنْشِ الَّذِي اسْتولَى عَلَى بلاَدِ الأَنْدَلُسِ، فَأَقْبَلَ اللَّعِينُ فِي مائَتَيْ أَلفٍ، وَعرضَ يَعْقُوْبُ جندَهُ فَكَانُوا مائة ألف مرتزقة، ومئة أَلْفٍ مطَّوّعَةٍ، عدوا البَحْرَ إِلَى الأَنْدَلُسِ فَنَزَلَ النَّصْرُ وَنجَا قَلِيْلٌ مِنَ العَدُوِّ؛ قَالَ أَبُو شَامَةَ: عِدَّةُ القَتْلَى مائَةُ أَلْفٍ وَسِتَّةٌ وَأَرْبَعُوْنَ أَلْفاً، وَأُسِرَ ثَلاَثُوْنَ أَلْفاً، وَأُخِذَ مِنْ خِيَامِهِم مائَةُ أَلْفِ خيمَةٍ وَخَمْسُوْنَ أَلْفاً، وَمِنَ الخيلِ ثَمَانُوْنَ أَلفِ رَأْسٍ، وَمِنَ البغَالِ مائَةُ أَلْفٍ، وَمِنَ الحمِيْرِ الَّتِي لأَثقَالِهِم أَرْبَعُ مائَةِ أَلْفٍ، وَبِيْعَ الأَسيرُ بِدِرْهَمٍ، وَالحصَانُ بخَمْسَةٍ، وَقَسَمَ السُّلْطَانُ الغَنِيْمَةَ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَاسْتَغْنَوا. وَكَانَتِ المَلْحَمَةُ يَوْمَ تاسع شَعْبَانَ.
وَفِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ: فِيْهَا أُطلقَ طَاشتكين أَمِيْر الحَاجّ وَأَعْطَي خُوْزِسْتَان.
وَفِيْهَا حَاصرَ العَزِيْزُ دِمَشْقَ ثَالِثاً، وَمَعَهُ عَمُّهُ فَتملَّكَهَا وَذلَّ الأَفْضَلَ. وَأَقْبَلَ خُوَارِزْم شَاه ليتَمَلَّكَ بغداد.
وَفِيْهَا التَقَى الفُونشُ، وَيَعْقُوْبُ ثَانِياً فَانْكَسَرَ الفُنش، وساق يعقوب خلفه إلى طليطلة ونازلها وضربه بِالمِنْجَنِيْق، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَخْذَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أُمُّ الفُنش وَبنَاتُهُ يَبكينَ فَرَقَّ لهُنَّ وَمَنَّ عليهِنَّ وَهَادَنَ الفُنش، لأَنَّ ابْنَ غَانِيَةَ غلبَ عَلَى أَطرَافِ المَغْرِبِ فَتفرَّغَ يَعْقُوْبُ لَهُ.
وَفِيْهَا كَتَبَ الفَاضِلُ إِلَى القَاضِي مُحْيِي الدِّيْنِ ابْنِ الزَّكِيِّ:
وَمِمَّا جَرَى بَأْسٌ مِنَ اللهِ طَرَقَ وَنَحْنُ نِيَامٌ، وَظُنَّ أَنَّهُ السَّاعَة، وَلاَ يَحسبُ المَجْلِسَ أَنِّي أَرْسَلتُ القلمَ مُحَرَّفاً وَالقَوْلَ مُجَزَّفاً، فَالأَمْرُ أَعْظَمُ؛ أَتَى عَارضٌ فِيْهِ ظلمَات متكَاثفَة، وَبرُوْقٌ خَاطفَةٌ، وَرِيَاحٌ عَاصفَةٌ، قوِي أُلْهُوبُهَا، وَاشتدَّ هُبُوبُهَا، وَارتفعتْ لَهَا صعقَاتٌ، وَرَجَفَتِ الجُدُرُ، وَاصطَفَقَتْ وَتلاَقَتْ وَاعتنقَتْ، وَثَارَ عجَاجٌ فَقِيْلَ: لَعَلَّ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ قَدِ انْطَبَقَتْ، فَفَرَّ الخلقُ مِنْ دُوْرِهِم يَسْتَغِيثُونَ، قَدِ انْقَطَعَتْ عُلُقُهُم، وَعمِيَتْ عَنِ النَّجَاةِ طُرُقُهُم، فَدَامَتْ إِلَى الثُّلُثِ الأَخِيْرِ، وَتَكسَّرَتْ عِدَّةُ مَرَاكِبَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالخطبُ أَشقُّ، وَمَا قضيتُ بِغَيْرِ الحَقِّ.
وَفِيْهَا أَخذتِ الفِرَنْجُ بَيْرُوْتَ، وَهَرَبَ مُتَوَلِّيهَا سَامَةُ.
وَفِي سَنَةِ 94: تَملَّكَ خُوَارِزْم شَاه بُخَارَى، أَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِ الخَطَا بَعْدَ حُرُوْبٍ عَظِيْمَةٍ.
وَفِي سَنَةِ 95: حَاصرَ خُوَارِزْم شَاه الرَّيَّ، وَكَانَ عَصَى عليه نائبه بها، فظفر بِهِ، وَنفذَ إِلَيْهِ النَّاصِرَ تَقليداً بِالسَّلطنَةِ، فَلَبِسَ الخِلْعَةَ، وَحَاصَرَ أَلموتَ، فَوَثَبَ باطنِيٌّ عَلَى وَزِيْرِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَتلُوا رَئِيْسَ الشَّافِعِيَّةِ صَدْرَ الدِّيْنِ ابْنَ الوَزَّانِ.
وَمَاتَ سُلْطَانُ المَغْرِبِ يَعْقُوْبُ، فَتَمَلَّكَ وَلدُهُ مُحَمَّدٌ.
وَمَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الملكُ العَزِيْزُ صَلاَحُ الدِّيْنِ، وَأَقْبَلَ الأَفْضَلُ مِنْ صَرْخَدٍ إِلَى مِصْرَ، فَدبَّرَ دَوْلَةَ عَلِيِّ ابْنِ العَزِيْزِ، ثُمَّ سَارَ بِالجَيْشِ، وَنَازلَ عَمَّهُ العَادلَ بِدِمَشْقَ، وَأَحرَقَ الحوَاضِرَ، وَكَادَ أَنْ يَملِكَ، وَضَايَقَ البلدَ أَشْهُراً، وَجَاءت النجدة العادل فكسبوا المِصْرِيّينَ، وَضَعفَ أَمرُ الأَفْضَلِ.
سَنَة 96: مَاتَ السُّلْطَانُ عَلاَءُ الدِّيْنِ تُكُشُ بنُ آتْسِز خُوَارِزْمشَاه، وَتسلْطَنَ بَعْدَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ.
وَاشتدَّ الحصَارُ عَلَى دِمَشْقَ، وَتَمحَّقَتْ خَزَائِنُ العَادلِ عَلَى العَسْكَرِ، وَاسْتدَانَ، وَاشتدَّ الغلاَءُ وَالبَلاَءُ بِدِمَشْقَ، وَأَقْبَلَ الشِّتَاءُ، فَترحَّلَ الأَفْضَلُ وَالظَّاهِرُ، فَبَادَرَ العَادلُ وَقصدَ الأَفْضَلَ فَأَدْرَكَهُ بِالغُرَابِيِّ، وَدَخَلَ القَاهِرَةَ وَتَمَكَّنَ وَردَّ الأَفْضَلَ منَحْوساً إِلَى صَرْخَدٍ بَعْدَ مَصَافٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ، ثُمَّ اسْتنَابَ العَادلُ بِمِصْرَ وَلدَهُ الكَامِلَ، وَعزلَ المَنْصُوْر عَلِيّ ابْن العَزِيْزِ، وَقَالَ: هَذَا صَبِيٌّ يُرِيْدُ المَكْتَبَ.
وَنقصَ النِّيلُ وَوَقَعَ القَحطُ، وَهَلَكَ أَهْلُ مِصْرَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ الكِبَارِ فَإِنَّ النِّيلَ كسر مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ ذرَاعاً سِوَى ثَلاَثَة أَصَابع.
وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ، وَالبَلاَءُ شَدِيدٌ، وأكلوا الجيف، ولجوم الآدميين، وجرى ما لا يعبر عنه.
قَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: وَعُدِمَ البَيْضُ، وَلَمَّا وُجِدَ بِيْعَتِ البيضَةُ بِدِرْهَمٍ، وَبيعَ فَرُّوجٌ بِمائَةٍ، وَبيعَ مُدَيدَة بدِيْنَارٍ، وَالَّذِي دَخَلَ تَحْتَ قَلَمِ الحُشْرِيَّةِ مِنَ الموتَى فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِيْنَ شَهْراً مائَةُ أَلْفٍ وَأَحَدَ عشرَ أَلْفاً إلَّا شَيْئاً يَسيراً وَهُوَ نَزْرٌ فِي جَنْبِ مَا هَلَكَ بِمِصْرَ وَالحوَاضرِ، وَكلُّهُ نَزرٌ فِي جَنْبِ مَا هَلَكَ بِالإِقْلِيْمِ، وَسَمِعنَا مِنْ ثِقَاتٍ عَنِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ أن الإمام صلى يوم الجمعة عَلَى سَبْعِ مائَةِ جَنَازَةٍ. ثُمَّ سَاقَ عِدَّةَ حِكَايَاتٍ فِي أَكْلِ لُحُوْمِ بنِي آدَمَ، وَتَمَّتْ زَلْزَلَةٌ فَكَانَتْ حَرَكَتُهَا كَالغَرْبَلَةِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، قَالَ: فَصحَّ عِنْدِي أَنَّهَا حَرَّكَتْ مِنْ قُوصٍ إلى الشام، وَتعفَّتْ بلاَدٌ كَثِيْرَةٌ، وَهَلَكَ أُمَمٌ لاَ تُحصَى، وَأَنْكَتْ فِي بلاَدِ الفِرَنْجِ أَكْثَرَ، وَسَمِعنَا أَنَّهَا وَصلَتْ إِلَى خِلاَطٍ، وَجَاءنِي كِتَابٌ مِنَ الشَّامِ فِيْهِ: كَادَتْ لَهَا الأَرْضُ تسيرُ سَيْراً وَالجِبَالُ تَمورُ مَوْراً، وَمَا ظَنَنَّا إلَّا أَنَّهَا زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ، وَأَتَتْ دُفْعَتَينِ: الأُوْلَى مِقْدَارَ سَاعَةٍ أَوْ أَزْيَدَ، وَالثَّانِيَةُ دُوْنَ ذَلِكَ لَكِنْ أَشدُّ. وَفِي كِتَابٍ آخرَ: دَامَتْ بقدَرِ مَا قرَأَ سُوْرَةَ الكهفِ، وَأَنَّ صَفَدَ لَمْ يَسلَمْ بِهَا سِوَى وَلدِ صَاحِبِهَا..".
قُلْتُ: فِي هَذَا الكِتَابِ خسفٌ وَإِفكٌ، وَفِيْهِ أَنَّ عِرقَةَ وَصَافِيثَا خُسِفَ بِهِمَا.
وقال أبو شامة: في شَعْبَانَ جَاءتْ زَلْزَلَةٌ عَمَّتِ الدُّنْيَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهدمَتْ نَابُلُسَ، فَمَاتَ تَحْتَ الهَدْمِ ثَلاَثُوْنَ أَلْفاً، وَهدمَتْ عكَّا وَصُوْرَ وَجَمِيْعَ قلاعِ السَّاحِلِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ مُجَازفَةٌ ظَاهِرَةٌ.
قَالَ: وَرُمَّتْ بَعْضُ المنارة الشرقية، وأكثر الكلاسة والمارستان وعامة دورِ دِمَشْقَ، وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى المِيَادِيْنِ، وَسقطَ مِنَ الجَامِعِ سِتَّةَ عشرَ شُرْفَةً، وَتشقَّقَتْ قُبَّةُ النَّسْرِ. إِلَى أَنْ قَالَ -وَالعُهْدَةُ عَلَيْهِ: وَأُحْصِيَ مَنْ هَلَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَكَانَ أَلفَ أَلفٍ وَمائَةَ أَلْفِ إِنْسَانٍ. ثُمَّ قَالَ: نقَلْتُ ذَلِكَ مِنْ تَارِيخِ أَبِي المُظَفَّرِ سِبْطِ ابْنِ الجَوْزِيِّ.
وَكَانَتْ خُرَاسَانُ فِي هَيْجٍ وَحُرُوْبٍ عَلَى المُلكِ، وَالتَقَى جَيْشُ السُّلْطَانِ غِيَاثِ الدِّيْنِ الغُوْرِيِّ كفار، فَانْهَزَمَ الكُفَّارُ.
وَأَنْبَأَنِي ابْنُ البُزُوْرِيِّ فِي تَارِيْخِهِ، قَالَ: زُلْزِلَتِ الجَزِيْرَةُ وَالشَّامُ وَمِصْرُ، فَتخرَّبَتْ أَمَاكنُ كَثِيْرَةٌ جِدّاً بِدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ، وَاسْتَوْلَى الخرَابُ عَلَى صُوْرٍ وَعكَا وَنَابُلُسَ وَطَرَابُلُسَ، وَانخسفَتْ قَرْيَةٌ، وَخَرِبَتْ عِدَّةُ قلاعٍ.
وَحَارَبَ المُعِزُّ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ سَيْفِ الإِسْلاَمِ صَاحِبُ اليَمَنِ عَلَويّاً خَرَجَ عَلَيْهِ فَهَزمَ العَلَوِيّ وَقتلَ مِنْ جندِهِ سِتَّةَ آلاَفٍ، وَقهرَ الرَّعِيَّةَ، وَادَّعَى أَنَّهُ أُمَوِيٌّ، وَتَسَمَّى بِأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ.
وَقَدِمَ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بُعِثَ رَسُوْلاً مِنَ النَّاصِرِ إِلَى الغُوْرِيِّ.
وَنُدِبَ طَاشتكين لِلْحَجِّ، وَلمُحَارَبَة المُعِزِّ بِاليَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءَ يُنْذِرُهُم وَيَحضُّهُم عَلَى طَاعَةِ الإِمَامِ، فَشدُّوا عَلَى المُعِزِّ فَقتلُوْهُ.
سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِيْنَ: تَنَاقَصَ الفنَاءُ بِمِصْرَ لقلَّةِ مَنْ بَقِيَ، فَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ كَبِيْرَةٍ لَمْ يَبْقَ بِهَا بَشَرٌ، حَتَّى لِنَقَلَ بَعْضُهُم أَنَّ بَلَداً كَانَ بِهَا أَرْبَعُ مائة نزل للنساجة لم يبق بها أحد.
وَأَرَّخَ العِزُّ النَّسَّابَةُ خَبَرَ الزَّلْزَلَةِ فِيْهَا، فَوَهِمَ، وَقَالَ: هِيَ الزَّلْزَلَةُ العُظْمَى الَّتِي هَدَمَتْ بلاَدَ السَّاحِلِ صُوْرَ وَطَرَابُلُسَ وَعِرقَةَ، وَرَمتْ بِدِمَشْقَ رُؤُوْسَ المآذنِ، وَأَهْلكَتِ اثْنَيْنِ بِالكلاَّسَةِ.
سَنَة 599: قَالَ لَنَا ابْنُ البُزُوْرِيِّ: مَاجَتِ النُّجُوْمُ، وَتطَايرَتْ كَالجَرَادِ، وَدَامَ ذَلِكَ إِلَى الفَجْرِ، وَضجَّ الخلقُ إِلَى اللهِ.
وَمَاتَ سُلْطَانُ غَزْنَةَ غِيَاثُ الدِّيْنِ، وَقَامَ بَعْدَهُ أَخُوْهُ شِهَابُ الدِّيْنِ.
وَأَبعدَ العَادلُ ابْنَ ابْنِ أَخِيْهِ المَنْصُوْرَ العَزِيْزَ إِلَى الرُّهَا، وَحَاصَرَ مَارْدِيْنَ، ثُمَّ صَالَحَهُ صَاحِبُهَا عَلَى حملِ مائَةٍ وَخَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فِي العَامِ، وَأَنْ يَخطبَ لَهُ، وَالتَقَى صَاحِبُ حَمَاةَ المَنْصُوْرُ الفِرَنْجَ مرَّتينِ وَيهزمُهُم.
وَفِي سَنَةِ سِتِّ مائَةٍ: التَقَى الأَشْرَفُ ابْنُ العَادلِ وَصَاحِبُ المَوْصِلِ نُوْرُ الدِّيْنِ فَكسرَهُ الأَشْرَفُ، وَأَسَرَ أُمَرَاءهُ ثُمَّ اصطلحَا، وَتَزَوَّجَ الأَشْرَفُ بِالأَتَابَكيَّةِ أُخْتِ نُوْرِ الدِّيْنِ.
وَدَخَلَتِ الفِرَنْجُ فِي النِّيلِ فَاسْتبَاحُوا فوّة يَوْمِ العِيْدِ.
وَنَازلَ صَاحِبُ سيسَ أَنطَاكيَةَ وَجدَّ فِي حصَارِهَا، ثُمَّ ترحَّلَ خَوْفاً مِنْ عَسْكَرِ حَلَبَ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَقْبَلَ وَهجمَ أَنطَاكيَةَ بِموَاطَأَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَابلَهُ البُرْنُسُ سَاعَةً ثُمَّ التَجَأَ إِلَى القَلْعَةِ، وَنَادَى بشعَارِ صَاحِبِ حَلَبَ وَسرَّحَ بطَاقَةً، فَسَارعَ لنجدتِهِ صَاحِبُ حَلَبَ، فَفَرَّ الأَرْمَنِيُّ.
وَأَقْبَلتْ جيوشُ الفِرَنْجِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ إِلَى عَكَّا عَازمِينَ عَلَى قصدِ القُدْسِ، وَنَزَلَ العَادلُ تَحْتَ الطُّورِ، وَجَاءتْهُ أَمْدَادُ العَسَاكِرِ، وَأَغَارتِ الفِرَنْجُ وَعَاثَتْ، وَاسْتمرَّ الخوفُ شُهوراً.
وَمَا زَالتِ قُسْطَنْطِيْنِيَّةَ لِلرُّومِ، فَتحزَّبَتِ الفِرَنْجُ وَملوكُهَا فِي هَذَا الوَقْتِ.
وَسَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّ مائَةٍ: احترقَتْ دَارُ الخِلاَفَةِ، وَكَانَ أَمراً مهولاً، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّ قيمَةَ مَا ذهبَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ أَلفِ دِيْنَارٍ وَسَبْعِ مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ، قَالَهُ أَبُو شَامَةَ.
وَفِيْهَا وَقعَتِ الهدنَةُ بَيْنَ العَادلِ وَبَيْنَ الفِرَنْجِ بَعْدَ أَنْ عَاثُوا وَأَغَارُوا عَلَى حِمْصَ وَعَلَى حَمَاةَ، وَلَوْلاَ ثَبَاتُ المَنْصُوْرِ لرَاحَتْ حَمَاةُ، ثُمَّ أَغَارُوا عَلَى جبلَةَ وَاللاَّذِقِيَّةَ، وَاسْتضرُّوا، وَكَانَ العَادلُ قَدْ مَضَى إِلَى مِصْرَ، فَخَافَ وَأَهَمَّهُ أَمرُ العَدُوِّ، ثُمَّ عَملَ هِمَّةً، وَأَقْبَلَ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَسِتِّ مائَةٍ، فَحَاصَرَ عَكَّا مُدَّةً، فَصَالَحُوْهُ، فَلَمْ يَغْتَرَّ، وَطلبَ العَسْكَرَ مِنَ النَّوَاحِي، وَأَنفقَ الأَمْوَالَ، وَعلمَ أَنَّ الفِرَنْجَ لاَ يَنَامُوْنَ، فَنَازَلَ حصنَ الأَكرَادِ، وَأَخَذَ مِنْهَا بُرْجاً، ثُمَّ نَازلَ طَرَابُلُسَ مُدَّةً، فَملَّ جندُهُ، وَخضعَ لَهُ ملكُ طَرَابُلُسَ، وَسَيّرَ لَهُ تُحَفاً وَثَلاَثَ مائَةِ أَسيرٍ، وَصَالح. وَاستضرَّتِ الكُرْجُ، وَعَاثُوا بِأَذْرَبِيْجَانَ، وَقتلُوا خَلْقاً، وَعظُمَ البَلاَءُ، فَالتقَاهُم صَاحِبُ خِلاَطٍ وَنجدَةُ مِنَ الرُّومِيِّينَ، فَنَصْرَ اللهُ وَقُتِلَ طَاغِيَةُ الكُرْجِ.
وَفِي سَنَةِ 602: وَزَرَ النَّصِيْر بن مَهْدِيٍّ العَلَوِيّ، وَركِبَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ دَوَاةٌ مُحلاَّةٌ بِأَلفِ مثقَالٍ، وَورَاءهُ المهدُ وألوية الحمد والكوسات والعهد منشورًا وَالأُمَرَاءُ مشَاةٌ فَعذَّبَ الوَزِيْر ابْن حديدَة، وَصَادرَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ مُدَّةٍ خَبَرُهُ بِمَرَاغَةَ.
وَأَغَارتِ الأَرمنُ عَلَى نوَاحِي حَلَبَ، وَكبسُوا العَسْكَرَ، وَقَتَلُوا فِيهِم فَسَارعَ الظَّاهِرُ وَقصدَ ابْنَ لاون، ففر إلى قلاعه.
وسلك خُوَارِزْم شَاه بلدَ تِرْمِذَ إِلَى الخَطَا مَكِيدَةً ليتمكَّنَ مِنْ تَملُّكِ خُرَاسَانَ.
وَفِيْهَا وُجِدَ بِإِرْبِلَ خروفٌ وَجهُهُ وَجهُ آدَمِيٍّ.
وَسَارَ صَاحِبُ الرَّيِّ إِيدغمش، فَافْتَتَحَ خَمْسَ قلاعٍ لِلإسْمَاعِيليَّةِ وَصمَّمَ عَلَى أَخْذِ ألموتَ، وَاسْتِئصَالهُم. وَكَانَتْ خُرَاسَانُ تَموجُ بِالحُرُوْبِ.
وفي سنة أربع: قصد خوارزم شَاه الخَطَا فِي جَيْشٍ عَظِيْمٍ، فَالتَقَوا وَتَمَّتْ بَيْنهُم مصَافَّاتٌ، ثُمَّ وَقعَتِ الهَزِيْمَةُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، وَقُتِلَ خَلْقٌ، وَأُسِرَ السُّلْطَانُ وَأَمِيْرٌ مِنْ أُمَرَائِهِ فَأَظهرَ أَنَّهُ مَمْلُوْكٌ لِلأَمِيْرِ، فَبقِي الَّذِي أَسَرَهُمَا يَحترمُ الأَمِيْرَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُقَرِّرَ عليَّ مَالاً وَأَبعثُ مَمْلُوْكِي هَذَا حَتَّى يَحضرُ المَالُ، فانخدع الخطائي وسيب الملوك وَمَعَهُ مَنْ يَخْفُرُهُ وَيَحفظُهُ إِلَى خُوَارِزْم فَنجَا السُّلْطَانُ، وَتَمَّتِ الحيلَةُ وَزُيِّنَتِ البِلاَدُ، ثُمَّ قَالَ الخطائِيُّ لذَاكَ الأَمِيْرِ، قَدْ عُدِمَ سُلْطَانُكُم قَالَ: أو ما تَعرفُهُ? قَالَ: لاَ، قَالَ: هُوَ مَمْلُوْكِي الَّذِي رَاحَ. قَالَ الخطائِيُّ: فَسِرْ بِنَا إِلَى خِدْمَتِهِ وَهلاَّ عَرَّفْتَنِي حَتَّى كُنْتُ أَخدمُهُ! ? وَكَانَ خُوَارِزْم شَاه مُحَمَّد قَدْ عَظُمَ جِدّاً، وَدَانَتْ لَهُ الأمم، وتحت يده ملوك وأقاليم.
وَفِي سَنَةِ 605: كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ العُظْمَى بِنَيْسَابُوْرَ دَامت عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَمَاتَ الخلقُ تَحْتَ الرَّدْمِ.
وَفِي سَنَةِ 606: حَاصرَ ملكُ الكُرْجِ خِلاَط، وَكَادَ أَنْ يَأْخذَهَا وَبِهَا الأَوحدُ ابْنُ الملكِ العَادلِ، فَقَالَ لإِيوَاي الملكِ منجِّمُهُ: مَا تَبِيْتُ اللَّيْلَةَ إلَّا فِي قَلْعَةِ خِلاَط، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ سَكِرَ وَحَمَلَ فِي جَيْشِهِ، وَخَرَجَ المُسْلِمُوْنَ، وَالْتَحَمَ الحَرْبُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ وَأُسِرَ إِيوَاي، فَمَا بَاتَ إلَّا فِي القَلْعَةِ، وَنَازلَتِ الكُرْجُ أَرْجَيْش، وَافْتَتَحوهَا بِالسَّيْفِ.
وَكَانَ العَادلُ رُبَّمَا تركَ الجِهَادَ، وَقَاتَلَ عَلَى الدُّنْيَا، فَحَاصَرَ سِنْجَارَ مُدَّةً.
وَقَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: سَارَ خُوَارِزْم شَاه فَعبَرَ جَيْحُونَ بجيوشِهِ فَالتقَاهُ طَاينكو طَاغِيَةُ الخَطَا فَانْهَزَمَتِ الخطا وأسر ملكهم وأتى به خوترزمشاه فَبَعَثَ بِهِ إِلَى خُوَارِزْم. وَعصَى صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ عَلَى حَمُوْهُ خُوَارِزْمشَاه، وَظلمَ وَتَمرَّدَ وَقَتَلَ مَنْ عِنْدَهِ مِنَ العَسْكَرِ الخُوَارِزْمِيَّةِ، فَنَازلَهُ خُوَارِزْم شَاه وَأَخَذَ مِنْهُ سَمَرْقَنْدَ، وَبَذَلَ فِيْهَا السَّيْفَ، فَيُقَالُ: قتل بها مئتا أَلف مُسْلِمٍ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَى القَلْعَةِ وَأَسَرَ ملكَهَا فَذبَحَهُ.
وَفِي هَذَا الوَقْتِ أَوَّلُ مَا سُمِعَ بذِكْرِ التَّتَارِ، فَخَرَجُوا مِنْ أَرَاضيهِم بَادِيَةِ الصِّينِ، وَرَاءَ بلاَدِ تُرْكُستَانَ، فَحَاربُوا الخَطَا مَرَّاتٍ وقووا بكسرة خوارزم شاه للخطا، وعاثوا. وكان رأسهم يدعى كشلوخان، فَكَتَبَ ملكُ الخَطَا إِلَى خُوَارِزْمشَاه. مَا جَرَى بَيْنَنَا مغفورٌ، فَقَدْ أَتَانَا عدوٌّ صعبٌ، فَإِنْ نُصِرُوا عَلَيْنَا فَلاَ دَافع لَهُم عَنْكَ، وَالمصلحَةُ أَنْ تُنْجِدَنَا، فَكَتَبَ: هَا أَنَا قَادِمٌ لنصرتِكُم، وكاتب كشلوخان: إنني قادم وأما مَعَكَ عَلَى الخَطَا، فَكَانَ بِئسَ الرَّأْي، فَأَقْبَلَ، وَالتَقَى الجمعَانِ، وَنَزَلَ خُوَارِزْم شَاه بِإِزَائِهِمَا يُوهِمُ كُلاًّ مِنَ الفرقَيْنِ أَنَّهُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ كَمِينٌ لَهُ، فَوَقَعتِ الكَسْرَةُ عَلَى الخَطَا فَمَالَ خُوَارِزْم شَاه حِيْنَئِذٍ مُعِيناً لَكشلوخَان، وَاسْتَحَرَّ القتلُ بِالخَطَا، وَلجؤُوا إِلَى رُؤُوْسِ الجِبَالِ، وَانضمَّ مِنْهُم خلقٌ إِلَى خُوَارِزْم شَاه، وَخضعَ لَهُ كشلوخَان، وَقَالَ: نَتقَاسمُ مَمْلَكَةَ الخَطَا، فَقَالَ خُوَارِزْم شَاه: بَلِ البلاد لي، وسار لحربه، ثم سار لِحَرْبِهِ، ثُمَّ تَبيَّن لَهُ قوَّةَ التَّتَارِ، فَأَخَذَ يراوغهم، ويكسبهم، فَبَعَثَ إِلَيْهِ كشلو: مَاذَا فِعلُ ملكٍ، ذَا فِعْلُ اللُّصُوصِ، فَإِنْ كُنْتَ ملِكاً فَاعملْ مصافاُ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَأَمرَ أَهْلَ فَرغَانَةَ وَالشَّاشَ وَمَدَائِنَ التُّرْكِ بِالجفلِ إِلَى بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ، وَخرَّبَ المَدَائِنَ وَدحَاهَا عجزاً عَنْ حَفِظِهَا مِنْهُم.
ثُمَّ خرج على كشلوخان الطاغية جنكزخان، فتحاربوا مدة، وظفر جنكزخان، وَطغَى، وَتَمرَّدَ، وَأَبَاد البِلاَدَ وَالعِبَادَ، وَأَخَذَ أَقَالِيمَ الخَطَا، وَجَعَلَ خَان بِالق دَارَ مُلْكِهِ، وَأَفنَى الأُمَمَ بِإِقْلِيْمِ التُّرْكِ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ، وَهَزَمَ الجُيُوْشَ، وَمَا جَرَى لَهُ فَسِيرَةٌ مُفْرَدَةٌ، وقد جود وصفهم الموفق البغدادي، فقال: حَدِيْثُهُم حَدِيْثٌ يَأْكُلُ الأَحَادِيْثَ، وَخبرٌ يُنسِي التَّوَارِيخَ، وَنَازلَةٌ تُطْبِقُ الأَرْضَ؛ هَذِهِ أُمَّةٌ لغتُهَا مَشوبَةٌ بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعوا الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، سمر، سريعوا الحركَةِ، تَصلُ إِلَيْهِم أَخْبَارُ الأُمَمِ، وَلاَ تَصلُ أَخْبَارُهَا إِلَيْهِم، وَقَلَّمَا يَقدِرُ جَاسوسٌ أَنْ يَتمكَّنَ مِنْهُم؛ لأَنَّ الغَرِيْبَ لاَ يُشْبِهُهُم، وَإِذَا أَرَادُوا وجهة كتموا أمرهم، ونهضوا دفعة، فتسند لِهَذَا عَلَى النَّاسِ وُجُوهُ الحِيَلِ، وَتضيقُ طُرُقُ الهربِ، وَيسبقُوْنَ التَأَهُّبَ، نِسَاؤهُم يقَاتِلْنَ، يَقتلُوْنَ النِّسَاءَ وَالوِلدَانَ بِغَيْرِ اسْتثنَاءٍ، وَرُبَّمَا أَبقَوا ذَا صنعَةٍ أَوْ ذَا قُوَّةٍ، وَغَالِبُ سلاَحِهِم النُّشَّابُ، وَيطعنُوْنَ بِالسُّيوفِ أَكْثَرَ مِمَّا يَضربُوْنَ بِهَا، جَوَاشنُهُم مِنْ جُلُودٍ، وَخيلُهُم تَأْكلُ الكلأَ وَمَا تَجدُ مِنْ وَرقٍ وَخشَبٍ، وَسُرُوجُهُم صِغَارٌ، لَيْسَ لَهَا قيمَةٌ، وَأَكلُهُم أَيُّ حيوَانٍ وُجِدَ، وَتَمَسُّهُ النَّارُ تَحِلَّةَ القسمِ، لَيْسَ فِي قتلِهِم اسْتثنَاءٌ، كَانَ قصدُهُم إِفنَاءُ النَّوعِ، مَا سَلِمَ مِنْهُم إلَّا غَزْنَةَ وَأَصْبَهَانَ.
قُلْتُ: ثُمَّ اسْتبَاحُوا أَصْبَهَانَ سَنَة 632.
قَالَ: وَهَذِهِ القبيلَةُ الخبيثَةُ تُعْرَفُ بِالتّمرجِيِّ، سُكانَ برَارِي قَاطع الصَّينِ، وَمَشتَاهُم بِأَرغونَ، وَهُم مَشْهُوْرُوْنَ بِالشَّرِّ وَالغَدْرِ، وَالصِّينُ مُتَّسِعٌ وَهُوَ سِتُّ مَمَالِكَ، قَانُهُمُ الأَكْبَرُ مُقِيْمٌ بطمغَاج، وَكَانَ سُلْطَانُ أَحَدِ المَمَالِكِ الست دوش خان زوج عمة جنكزخان، فزار جنكزخان عَمَّتَهُ إِذْ مَاتَ زوجُهَا وَمَعَهُ كشلوخَان، فَقَالَتْ: زوجِي مَا خلَّفَ ابْناً فَأَرَى أَنْ تَقُوْمَ مقامه، فقام جنكزخان، وَنفذَ تُحَفاً إِلَى القَانِ الكَبِيْرِ، فَتنمَّرَ، وَأَنِفَ من تملك تتري، فتعاقد جنكزخان وكشلوخان على التناصر، وأبدوا الخلاف، وكثر جمعُهُم، فَالتَقَوا، فَطحنُوا عَسَاكِرَ البِلاَدِ، وَعلمَ القَانُ قوَّتَهُم، فَأَرْسَلَ يُخَوِّفُهُم، ثُمَّ التقَوْهُ، فَكسرُوهُ أَقبحَ كسرة، ونجا القان بنفسه واستولى جنكزخان عَلَى بلاَدِهِ، فَرَاسلَهُ القَانُ بِالمسَالَمَةِ وَقنعَ بِمَا بَقِيَ فِي يَدِهِ، وَسَارَا إِلَى سَاقُوْنَ مِنَ الصِّيْنِ، فَملكَاهَا، ثُمَّ مَاتَ كشلوخَان، فَقَامَ بَعْدَهُ ولده، فلم يكن له مع جنكزخان كبير أمر، فتألم، وافترقا، وتحاربا، فظفر جنكزخان بِهِ، وَانْفَرَدَ وَدَانَتْ لَهُ قبَائِلُ المغولِ، وَوَضَعَ لَهُم يَاسَةً يَتمسَّكُوْنَ بِهَا، لاَ يُخَالِفونَهَا أَلبتَةَ، وَتعبَّدُوا بطَاعتِهِ وَتعَظِيْمِهِ، ثُمَّ أَوَّلُ مَصَافٍّ وَقَعَ بَيْنَ خُوَارِزْم شَاه وَبَيْنَ التَّتَارِ كَانَ قَائِدُهُم ولد جنكزخان دوشِي خَان، فَانْهَزَمَ دوشِي خَان، وَرجعَ خُوَارِزْم شَاه مِنْ بلاَدِ التُّرْكِ فِي هَمٍّ وَفِكْرٍ مِنْ هَذَا العَدُوِّ لما رَأَى مِنْ كثرَتِهِم وَإِقدَامِهِم وَشَجَاعَتِهِم.
وَفِي سَنَةِ 607: اتَّفَقتِ المُلُوْكُ عَلَى العَادلِ: سُلْطَانُ الرُّوْمِ، وَصَاحِبُ المَوْصِلِ، وَالظَّاهِرُ، وَمَلِكُ الجَزِيْرَةِ، وَصَاحِبُ إِرْبِلَ، وَعزمُوا عَلَى إِقَامَةِ الخطبَةِ بِالسَّلطنَةِ لِصَاحِبِ الرُّوْمِ خسروشاه بنِ قِلْج أَرْسَلاَن، وَحَسَّنُوا لِلْكُرجِ قصد خِلاَط فَلَمَّا أُسِرَ مُقَدِّمُهُم تَفرَّقَتِ الآرَاءُ، وَصَالحُوا العَادلَ، وَافتكَّ إِيوَائِي نَفْسَهُ بألفي أسير وثمانين ألف دينتر وعشرين قلعة كان قد تغلَّبَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ يُزَوِّجَ الملكَ الأَوحدَ بِابْنتِهِ، فَعَاد إِلَى مُلْكِهِ وَسومِحَ بِبَعْضِ مَا التزَمَهُ، وَلَمَّا تَملَّكَ الأَشْرَفُ خِلاَط، تَزَوَّجَ بِابْنَةِ إِيوَائِي، وَتَزَوَّجَ صَاحِبُ المَوْصِلِ بِبنتِ العَادلِ فَمَاتَ قَبْلَ وصولها إليها.
وَنقصَتْ دِجْلَةَ إِلَى الغَايَةِ حَتَّى خَاضَهَا النَّاسُ فَوْقَ بَغْدَادَ.
سَنَة 608: فِيْهَا اسْتبَاحَ ركبَ العراقِ قتادةُ صاحب مكة، وقُتِلَ عدة، وَخَرَجَ خلقٌ، فَيُقَالُ: ذهبَ لِلوفْدِ مَا قيمتُهُ أَلْفَا أَلفِ دِيْنَارٍ.
وَزُفَّتْ بِنْتُ العَادلِ ضَيْفَةً إِلَى صَاحِبِ حَلَبَ الظَّاهِرِ، تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْسِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ، وَنفّذَ جهَازَهَا عَلَى ثَلاَثِ مائَةِ جَمَلٍ وَخَمْسِيْنَ بَغْلاً، وَخَمْسُوْنَ جَارِيَةً، وَخلَعَ عَلَيْهَا الزَّوْجُ جَوَاهرَ بِثَلاَثِ مائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَتَمَلَّكَ أَلبَانُ صَاحِبُ عَكَّا أَنطَاكيَةَ، فَشنَّ الغَارَاتِ عَلَى التُّرُكْمَانِ، وَهجمَ عَلَى بُورَةَ مِنْ إِقْلِيْمِ مِصْرَ، فَاسْتبَاحهَا، فَبَيَّتَهُ التُّرُكْمَانُ وَقتلُوْهُ، وَقتلُوا فُرْسَانَهُ.
وَفِي سَنَةِ 609: المَلْحَمَةُ الكُبْرَى بِالأَنْدَلُسِ، وَتُعْرَفُ بوقعَةِ العُقَابِ بَيْنَ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوْبَ المُؤْمِنِيِّ، وَبَيْنَ الفِرَنْجِ، فَنَزَلَ النَّصْرُ، لَكِنِ اسْتُشْهِدَ خَلْقٌ كَثِيْرٌ.
سَنَة عشر: قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيْهَا خلصَ خُوَارِزْم شَاه مِنَ الأَسرِ، خطرَ لَهُ أَنْ يَكشِفَ التَّتَارَ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ فِيهِم هُوَ وَثَلاَثَةٌ بِزِيِّهِم، فَقبضُوا عَلَيْهِم فَضربُوا اثْنَيْنِ فَمَاتَا تَحْتَ العَذَابِ، وَرَسَمُوا عَلَى خُوَارِزْم شَاه وَآخرَ فَهَرَبا فِي اللَّيْلِ.
وَقتلَتِ التُّرُكْمَانُ إِيدغمش صَاحِبَ الرَّيِّ وَهَمَذَانَ فَتَأَلَّمَ الخَلِيْفَةُ. وَتَمَكَّنَ منْكلِي، وَعظم.
فِي سَنَةِ 611: تَملَّكَ خُوَارِزْم شَاه كِرْمَانَ وَمُكْرَانَ وَالسِّنْدَ، وَخَطَبَ لَهُ بِهُرْمُزَ وَهلوَات وَكَانَ يصيفُ بِسَمَرْقَنْدَ، وَإِذَا قصدَ بَلَداً سبق خبره.
وَفِي سَنَةِ 612: أَغَارتِ الكُرْجُ عَلَى أَذْرَبِيْجَانَ وَغَنِمُوا الأَمْوَالَ وَأَزْيَدَ مِنْ مائَةِ أَلْفِ أَسِيْرٍ، قَالَهُ أَبُو شَامَةَ.
وَبَعَثَ الملكُ الكَامِلُ وَلَدَهُ المَسْعُوْدَ فَأَخَذَ اليَمَنَ بِلاَ كُلْفَةٍ وَظَلَمَ وَعَتَا وَتَمرَّدَ.
وَتَوثَّبَ خُوَارِزْم شَاه عَلَى غَزْنَةَ، فَتَمَلَّكهَا، وَجَعَلَ بِهَا وَلدَهُ جَلاَلَ الدِّيْنِ منْكُوبرِي.
وَهَزَمَ صَاحِبُ الرُّوْمِ كيكَاوس الفِرَنْجَ وَأَخَذَ مِنْهُم أَنطَاكيَةَ، ثُمَّ صَارَت لِبِرِنْسَ طَرَابُلُسَ.
وَفِيْهَا كُسِرَ مُنْكلِي صَاحِبُ أَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَقُتِلَ.
وَفِي سَنَةِ 613: أُحْضِرَتْ أَرْبَعَةُ أَوتَارٍ لِنَسْرِ القُبَّةِ طُولُ اثْنَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ ذَرَاعاً أُدْخِلَتْ مِنْ بَابِ الفَرَجِ إِلَى بَابِ النَّاطِفِيِّينَ، وَأُقِيمَتْ لأَجْلِ القرنَة، ثُمَّ مُدِّدَتْ. وَحُرِّرَ خَنْدَقُ القَلْعَةِ وَعَمِلَ فِيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَالفُقَهَاءُ وَالصُّوْفِيَّةُ وَالمُعَظَّمُ بِنَفْسِهِ، وَأُنشِئَ المُصلَّى، وَعُمِلَ بِهِ الخَطْبَةُ.
وَوَقَعَ بِالبَصْرَةِ بَرَدٌ صِغَارُهُ كَالنَّارِنْجِ.
وَفِي سَنَةِ 614: كَانَ الغَرقُ. قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ -بِقِلَّةِ ورع: فَانهدمَتْ بَغْدَادُ بِأَسْرِهَا، وَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَطفحَ المَاءُ عَلَى رَأْسِ السُّوْرِ إلَّا قَدرَ إِصبعينِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَقِيَتْ بَغْدَادُ مِنَ الجَانِبَينِ تُلُوْلاً لاَ أَثرَ لَهَا.
قُلْتُ: العجبُ مِنْ أَبِي شَامَةَ يَنقلُ أَيْضاً هَذَا وَلاَ يُبَالِي بِمَا يَقُوْلُ.
وَقَالَ أَبُو المُظَفَّرِ: نَزلَ خُوَارِزْم شَاه فِي أَرْبَعِ مائَةِ أَلْفٍ قَاصداً بَغْدَادَ فَاسْتعدَّ النَّاصِرُ، وَفرَّقَ الأَمْوَالَ وَالعُدَدَ، وَنفَّذَ إِلَيْهِ رَسُوْلاً السُّهْرَوَرْدِيَّ، فَأَهَانَهُ فَاسْتوقفَهُ وَلَمْ يُجْلِسْهُ، وَفِي الخِدْمَةِ مُلُوْكُ العجمِ. قَالَ: وَهُوَ شَابٌّ عَلَى تَخْتٍ، وَعَلَيْهِ قبَاءٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ درَاهِم، وَعَلى رَأْسِهِ قُبعُ جلدٍ يُسَاوِي دِرْهَماً، فَسَلَّمْتُ فَمَا ردَّ، فَخطبْتُ وَذكَّرْتُ فَضلَ بَنِي العَبَّاسِ، وَعَظَّمْتُ الخَلِيْفَةَ وَالتَّرْجَمَانُ يُعيدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلتَّرْجَمَانِ: قُلْ هَذَا الَّذِي يَصفُهُ: مَا هو في بغداد، بلى أما أُقيمُ خَلِيْفَةً كَمَا تَصِفُ، وَرَدّنَا بِلاَ جَوَابٍ. وَنَزَلَ ثَلجٌ عَظِيْمٌ فَهلكَتْ خَيْلُهُم وَجَاعُوا، وَكَانَ مَعَهُ سَبْعُوْنَ أَلْفاً مِنَ الخَطَا، فَصرَفَهُ اللهُ عَنْ بَغْدَادَ، وَقِيْلَ: إِنَّهُ قَالَ: أَنَا مَنْ آذِيتُ أَحَداً مِنْ بَنِي العَبَّاسِ? بَلْ فِي جَيْشِ الخَلِيْفَةِ خَلْقٌ مِنْهُم، فَأَعِدْ هَذَا عَلَى مَسَامِعِ الخَلِيْفَةِ، وَمَنَعَهُ اللهُ بثلوجٍ لاَ تُوصَفُ.
وَفِيْهَا أَقْبَلتْ جُيوشُ الفِرَنْجِ لِقَصدِ بَيْتِ المَقْدِسِ وَالأَخْذِ بِالثَّأْرِ، وَوصلُوا إِلَى بَيْسَانَ، وَتَأَخَّرَ العَادلُ فَتَبِعُوْهُ، وَنَزَلَ بِمرْجِ الصُّفَّرِ وَاسْتحثَّ العَسَاكِرَ وَالمُلُوْكَ وَضَجَّ الخَلْقُ بِالدُّعَاءِ وَكَانَتْ هُدنَةٌ فَانْفسخَتْ وَنَهَبَتِ الفرنج بلاد الشَّامِ وَوصلُوا إِلَى الخربَةِ، وَحَاصرُوا قَلْعَةَ الطُّورِ الَّتِي بنَاهَا المُعَظَّمُ مُدَّةً، وَعَجَزُوا عَنْهَا، وَرَجَعُوا فَجَاءَ المُعَظَّم، وَخَلَعَ عَلَى مَنْ بِهَا، ثُمَّ اتَّفَقَ هُوَ وَأَبُوْهُ عَلَى هَدْمِهَا، وَأَخَذَتْ خَمْسُ مائَةٍ مِنَ الفِرَنْجِ جِزِّينَ وَفَرَّ رِجَالُهَا فِي الجبلِ، ثُمَّ بَيَّتُوا الفِرَنْجَ، فَاسْتَحَرَّ بِهِمُ القتلُ حَتَّى مَا نَجَا مِنَ الفِرَنْجِ سِوَى ثَلاَثَةٌ. وَبَادَرَتِ الفِرَنْجُ إِلَى قَصْدِ مِصْرَ لِخُلُوِّهَا مِنَ العَسَاكِرِ، وَأَشرفَ النَّاسُ عَلَى التَّلَفِ، وَمَا جَسَرَ العَادلُ عَلَى المُلْتَقَى لِقِلَّةِ مَنْ عِنْدَهِ مِنَ العَسَاكِرِ، فَتَقَهْقَرَ.
وَدَخَلتْ سَنَةُ 615: فَنَازَلَتِ الفِرَنْجُ دِمْيَاطَ، وَأَقْبَلَ الكَامِلُ ليكشِفَ عَنْهَا، فَدَامَ الحصَارُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمَاتَ العَادلُ، وَخلصَ وَاسْترَاحَ.
وَفِيْهَا كَسَرَ الأَشْرَفُ صَاحِبَ الرُّوْمِ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَخَذَ مَعَهُ عَسْكَرَ حَلَبَ مُغِيراً عَلَى سوَاحلِ الفِرَنْجِ.
وَأَخَذتِ الفِرَنْجُ بُرْجَ السِّلْسِلَةِ مِنْ دِمْيَاطَ، وَهُوَ قُفْلٌ عَلَى مِصْرَ؛ بُرجٌ عَظِيْمٌ فِي وَسطِ النِّيلِ، فَدِمْيَاطُ بحذَائِهِ، وَالجِيْزَةُ مِنَ الحَافَّةِ الغربيَّةِ، وَفِيْهِ سِلْسِلَتَانِ تَمتَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى وَجْهِ النِّيلِ إِلَى سُورِ دِمْيَاطَ، وَإِلَى الجِيْزَةِ، يَمنعَانِ مَرْكَباً بدخل مِنَ البَحْرِ فِي النِّيلِ، وَعَدَتِ الفِرَنْجُ إِلَى بَرِّ دِمْيَاطَ، فَفَرَّ العَسَاكِرُ مِنَ الخِيَامِ، فَطَمِعَ العَدُوُّ، ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِمُ الكَامِلُ فَطَحَنَهُم، فَعَادُوا إلى دمياط.
وَمَاتَ كِيكَاوسُ صَاحِبُ الرُّوْمِ، وَكَانَ جَبَّاراً ظَلُوْماً.
وَمَاتَ القَاهِرُ مَسْعُوْدٌ صَاحِبُ المَوْصِلِ.
وَرجعَ مِنْ بلاَدِ بُخَارَى خُوَارِزْم شَاه إِلَى نَيْسَابُوْرَ، وَقَدْ بلغه أن التتار قاصدوه، وجاءه رسول جنكزخان يَطلبُ الهدنَةَ يَقُوْلُ: إِنَّ القَانَ الأَعْظَمَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَيَقُوْلُ: مَا يَخفَى عليَّ عِظَمُ سُلْطَانِكَ وَأَنْت كَأَعزِّ أَوْلاَدِي وَأَنَا بيدِي مَمَالِكُ الصِّيْنِ، فَاعقِدْ بَيْنَنَا المَوَدَّةَ، وَتَأَذَّنْ لِلتُّجَّارِ وَتنْعَمِرُ البِلاَدُ، فَقَالَ السُّلْطَانُ لِمَحْمُوْدٍ الخُوَارِزْمِيِّ الرَّسُولِ: أَنْتَ مِنَّا وَإِلَينَا، وَأَعْطَاهُ جَوَاهرَ وَطلبَ أَنْ يَكُوْنَ مُنَاصحاً له فأجابه، فقال: اصدقني، تملك جنكزخان طمغاخ? قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا المصلحَةُ? قَالَ: الصُّلحُ. فأجاب. فأعجب ذلك جنكزخان وَمَشَى الحَالُ. ثُمَّ جَاءَ مِنْ جِهَةِ التَّتَارِ تُجَّارٌ فَشَرِهَتْ نَفْسُ خَالِ السُّلْطَانِ مُتَوَلِّي مَا وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِم، وَقبضَ عَلَيْهِم وَظنَّهُم جَوَاسيسَ لِلتَّتَارِ، فَجَاءَ رَسُوْلُ جِنْكِزْخَانَ يَقُوْلُ: إِنَّك أَمَّنْتَ تُجَّارَنَا وَالغَدْرُ قَبِيحٌ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعلَهُ خَالِي فَسلِّمْهُ إِلَيْنَا وَإِلاَّ سَترَى مِنِّي مَا تَعرِفُنِي بِهِ، فَحَارَتْ نَفْسُ خُوَارِزْم شَاه، وَتَجَلَّدَ، وَأَمرَ بِقَتْلِ الرُّسُلِ، -فَيَا بِئسَ مَا صَنَعَ، وَحصَّنَ سَمَرْقَنْدَ، وَشحنهَا بِالمُقَاتِلَةِ فَمَا نَفعَ، وَقُضِيَ الأَمْرُ.
وَدَخَلتْ سَنَةُ 616: فَتقهقَرَ خُوَارِزْم شَاه، وَأَقْبَلتِ المُغْلُ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ، وَمَا زَالَ أَمرُ خُوَارِزْم شَاه فِي إِدبارٍ، وَسعدُهُ فِي سَفَالٍ، وَمُلْكُهُ فِي زوَالٍ، وَهُوَ فِي تَقهقُرٍ وَاندفَاعٍ إِلَى أَنْ قَارَبَ هَمَذَانَ، وَتَفرَّقَ عَنْهُ جَمْعُهُ، حَتَّى بَقِيَ فِي عِشْرِيْنَ أَلْفاً، فَمَا بَلَعَ رِيقَهُ إلَّا وَطلاَئِعُ المُغْلِ قَدْ أَظلَّتْهُ، وَأَحَدقُوا بِهِ، فَنجَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَحَرَّ القتلُ بِجُندِهِ، وَفَرَّ إِلَى الجبلِ، ثُمَّ إِلَى مَازَندرَان، وَنَزَلَ بِمسجدٍ عَلَى حَافَّةِ البَحْرِ يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ وَيَتلُو وَيَبْكِي، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ كَبَسَهُ العَدُوُّ، فَهَرَبَ فِي مَرْكبٍ صَغِيْرٍ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ نَشَّابُهُم وَخَاضَ وَرَاءهُ طَائِفَةٌ، فَبقِيَ فِي لُجَّةٍ، وَمَرِضَ بِذَاتِ الجَنْبِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا بَقِيَ لَنَا مِنْ مَمْلَكَتِنَا قدرَ ذِرَاعَينِ نُدْفَنُ فِيْهَا، فَوَصَلَ إِلَى جَزِيْرَةٍ فَأَقَامَ بِهَا طرِيْداً وَحيداً مجهوداً، وَمَاتَ، فَكَفَّنَهُ فَرَّاشُهُ فِي عِمَامَتِهِ سَنَة سَبْعَ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ.
وَفِي أَوَّلِ سَنَةِ 616: خرَّبَ أَسوَارَ القُدْسِ المُعَظَّم خَوْفاً مِنْ تَملُّكِ الفِرَنْجِ، وَهجَّ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى وُجُوْهِهِم، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَحصنَ مَا يَكُوْنُ، وَأَعمرَهُ، وَذَاكَ لأَنَّه كَانَ فِي نَجدَةِ أَخِيْهِ عَلَى دِمْيَاطَ، وَسَمِعَ أَنَّ الفِرَنْجَ عَلَى قصْدِهِ، وَكَانَ بِهِ أَخُوْهُ الملكُ العَزِيْزُ وَعزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ صَاحِبُ صَرْخَدَ، فَشرعُوا فِي هَدْمِهِ، وَتَمَزَّقَ أَهْلُهُ وَتعثَّرُوا وَنَهَبُوا وَبِيْعَ رَطْلُ النُّحَاسِ بنِصْفٍ وَالزَّيْتُ عَشْرَةُ أَرطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: لَمَّا أَخذَتِ الفِرَنْجُ برجُ السِّلْسِلَةِ عَمِلَ الكَامِلُ عَلَى النِّيلِ جِسْراً عظيمًا، فَالتحَمَ القِتَالُ حَتَّى قطعَتْهُ الفِرَنْجُ، فَعمدَ الكَامِلُ إِلَى عِدَّةِ مَرَاكِبَ، وَملأَهَا حجَارَةً وَغَرَّقَهَا فِي المَاءِ ليمنَعَ مَرْكَباً مِنْ سُلُوْكٍ، فَحَفَرَتِ الفِرَنْجُ خَلِيْجاً وَأَخَّرُوهُ وَأَدخلُوا مَرَاكِبَهُم مِنْهُ حَتَّى دَخَلُوا بُورَةً وَحَاذَوُا الكَامِلَ، وَقَاتَلُوْهُ مَرَّاتٍ فِي المَاءِ وَلَمْ يَتغَيَّرْ عَنْ أَهْلِ دِمْيَاطَ شَيْءٌ، لأَنَّ المِيْرَةَ وَاصِلَةٌ إِلَيْهِم. وَمَاتَ العَادلُ فَهَمَّ جَمَاعَةٌ بِتَملِيكِ الفَائِزِ بِمِصْرَ، فَبَادرَ الكَامِلُ وَأَصْبَحَ الجَيْشُ في خطبة وَقَدْ فَقَدُوا الكَامِلَ، فَشدَّتِ الفِرَنْجُ عَلَى دِمْيَاطَ وأصبح الجيش في خطبة وَقَدْ فَقَدُوا الكَامِلَ، فَشدَّتِ الفِرَنْجُ عَلَى دِمْيَاطَ وَأَخَذُوا بَرَّهَا بِلاَ كُلْفَةٍ وَلَوْلاَ لُطْفُ اللهِ وَقُدومُ المُعَظَّم بَعْدَ يَوْمَيْنِ لَرَاحتْ مِصْرُ، فَفَرحَ بِهِ الكَامِلُ، وَبعثَوا عِمَادَ الدِّيْنِ أَحْمَدَ بنَ المَشْطُوْبِ الَّذِي سَعَى لِلْفَائِزِ إِلَى الشَّامِ، وَتَمَادَى حِصَارُ الفِرَنْجِ لدِمْيَاطَ وَصَبَرَ أَهْلُهَا صَبْراً عَظِيْماً، وَقُتِلَ مِنْهُم خلقٌ، وَقَلُّوا وَجَاعُوا فَسلَّمُوهَا بِالأَمَانِ، فَحَصَّنَهَا العَدُوُّ وَأَشرفَ النَّاسُ عَلَى خِطَّةٍ صَعْبَةٍ وَهَمَّ أَهْلُ مِصْرَ بِالجلاَءِ، وَأُخِذَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَدَامَ الكَامِلُ مُرَابِطاً إِلَى سنة ثماني عشرة، وأقبل الأشرف منجدًا لأَخِيهِ وَقَوِيَ المُسْلِمُوْنَ وَحَاربُوا الفِرَنْجَ مَرَّاتٍ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي هُدنَةٍ وَبَذَلُوا لِلْفرنجِ القُدْسَ وَعَسْقَلاَنَ وَقِلاَعاً سِوَى الكَرَكِ، فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا ثَلاَثَ مائَةِ أَلْفِ دِيْنَارٍ عِوَضاً عَنْ تَخرِيبِ سُورِ القُدْسِ، فَاضطرَّ المُسْلِمُوْنَ إِلَى حَرْبِهِم، فَقَلَّتِ المِيْرَةُ عَلَى الفِرَنْجِ فَفَجَّرَ المُسْلِمُوْنَ النِّيلَ عَلَى مَنْزِلَةِ الفِرَنْجِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُم مَسْلَكٌ غَيْرُ جهَةٍ ضَيِّقَةٍ، فَنَصَبَ الكَامِلُ الجسورَ عَلَى النِّيلِ وَدَخَلتِ العَسَاكِرُ فَملَكُوا المضِيْقَ وَسُقِطَ فِي أَيدِي الفِرَنْجِ وَجَاعُوا، فَأَحرقُوا خِيَامَهُم وَأَثقَالَهُم وَمَجَانِيْقَهُم، وَعزمُوا عَلَى الزَّحْفِ إِلَى المُسْلِمِيْنَ فَعَجَزُوا وَذلّوا وَعَزَّ المُسْلِمُوْنَ عَلَيْهِم، فَطَلبُوا مِنَ الكَامِلِ الأَمَانَ، وَيَتْرُكُوا لَهُ دِمْيَاطَ، فَبَيْنَمَا هُم فِي ذَلِكَ إِذَا رَهَجٌ عَظِيْمٌ وَضجَّةٌ مِنْ جِهَةِ دِمْيَاطَ فَظنُّوهَا نَجدَةً لِلْفرنجِ جَاءت، وَإِذَا بِهِ المَلِكُ المُعَظَّمُ فِي جُندِهِ، فَخُذِلَتِ الملاعِينُ وَسَلّمُوا دِمْيَاطَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَدخلَهَا المُسْلِمُوْنَ، وَقَدْ بَالَغَتِ الكِلاَبُ فِي تَحْصِينِهَا وَللهِ الحَمْدُ.
أَنْبَأَنِي مَسْعُوْدُ بنُ حمويَه، قَالَ: لَمَّا تَقرَّرَ الصُّلحُ، جلسَ السُّلْطَانُ فِي مُخَيَّمِهِ، عَنْ يَمِيْنِهِ المُجَاهِدُ شِيرْكُوْهُ، ثُمَّ الأَشْرَفُ، ثُمَّ المُعَظَّم، ثُمَّ صَاحِبُ حَمَاةَ، ثُمَّ الحَافِظُ صَاحِبُ جَعْبَرَ، وَمقدَّمُ عَسْكَرِ حَلَبَ، وَمقدَّمُ المَوَاصِلَةِ وَالمَاردَانِيْنَ، وَمقدَّمُ جُنْدِ إِرْبِلَ وَمَيَّافَارِقِيْنَ، وَعَنْ شِمَالِهِ نَائِبُ البَابَا ثُمَّ صَاحِبُ عَكَّا ثُمَّ صَاحِبُ قُبْرصَ وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ وَصَاحِبُ صَيْدَا ثُمَّ أَربَابُ القلاعِ وَمقدَّمُ الدّيويَةَ، وَمقدَّمُ الإِسبتَارِ، وَكَانَ يَوْماً مَشْهُوْداً، فَأَذِنَ السُّلْطَانُ بِأَنْ يُبَاعَ عَلَيْهِم المَأْكولُ فَكَانَ يَدخلُ إِلَيْهِم كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُوْنَ ألف رغيف، ومائتا أَردب شعير، وَكَانُوا يَبيعُوْنَ سِلاَحَهُم بِالخبزِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَنشَأَ هُنَاكَ مدينَةً سَمَّاهَا المَنْصُوْرَةَ، نَزلَهَا بِجَيْشِهِ وَسَوَّرَهَا.
وَفِي سَنَةِ 617: التقَى مُظَفَّرُ الدِّيْنِ صَاحِبُ إِرْبِلَ وَبدرُ الدِّينِ لُؤْلُؤ نَائِبُ المَوْصِلِ، فَانْهَزَمَ لُؤْلُؤٌ، وَنَازَلَ مُظَفَّرُ الدِّيْنِ المَوْصِلَ، فَنجَدَهَا الأَشْرَفُ وَاصطلحُوا.
وَفِي رَجَبٍ وَقْعَةُ البَرَلُّسِ بَيْنَ الكَامِلِ وَالفِرَنْجِ، فَنَصَرَ اللهُ، وَقُتِلَ مِنَ الفِرَنْجِ عَشْرَةُ آلاَفٍ، وَانْهَزَمُوا، فَاجْتَمَعُوا بِدِمْيَاطَ.
وَفِيْهَا أَخذَتِ التَّتَارُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ بِالسَّيْفِ، وَعَدَوا جَيْحُونَ. قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: لَوْ قِيْلَ: إِنَّ العَالِمَ مُنْذُ خُلِقَ إِلَى الآنَ لَمْ يُبْتَلَوا بِمِثْلِ كَائِنَةِ التَّتَارِ لَكَانَ صَادِقاً، فَإِنَّ التَّوَارِيخَ لَمْ تَتضمَّنْ مَا يُقَارِبُهَا؛ قَوْمٌ خَرَجُوا مِنْ أَطرَافِ الصِّينِ فَقصدُوا بِلاَدَ تركستَانَ، ثُمَّ إِلَى بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ فَتملَّكُوهَا، ثُمَّ تَعبُرُ طَائِفَةٌ مِنْهُم إِلَى خُرَاسَانَ فَيَفْرَغُونَ مِنْهَا تَخرِيباً وَقَتلاً إِلَى الرَّيِّ وَهَمَذَانَ، ثُمَّ يَقصدُوْنَ أَذْرَبِيْجَانَ وَنوَاحيهَا وَيستبيحونَهَا فِي أَقلَّ مِنْ سَنَةٍ، أَمرٌ لَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى دَرْبَند شِرْوِينَ، فَملَكُوا مُدنَهُ، وَعبرُوا إِلَى بلاَدِ اللاَنِ وَاللّكز قتلاً وَأَسراً، ثُمَّ قصدُوا بلاَدَ قَفْجَاقَ فَقتلُوا مَنْ وَقَفَ وَهَرَبَ مَنْ بَقِيَ إِلَى الشُّعَرَاءِ وَالجِبَالِ، وَاسْتولَتِ التَّتَارُ عَلَى بِلاَدِهِم، وَمَضتْ فِرقَةٌ أُخْرَى إِلَى غَزْنَةَ وَسِجِسْتَان وَكِرمَانَ، فَفَعلُوا كَذَلِكَ، وَأَشَدَّ. هَذَا مَا لَمْ يَطرقِ الأَسْمَاعَ مِثْلُهُ، فَإِنَّ الإِسْكَنْدَرَ مَا ملَكَ الدُّنْيَا بِهَذِهِ السُّرْعَةِ، بَلْ فِي نَحْوِ عَشرِ سِنِيْنَ وَلَمْ يَقتُلْ أَحَداً.
وَقَالَ: وَخيلُهُم لاَ تَعرِفُ الشَّعيرَ، إِنَّمَا تَحفُرُ بِحوَافرِهَا وَتَأْكلُ عُرُوْقَ النَّبَاتِ، وَهُم يَسْجُدُوْنَ لِلشَّمْسِ، وَلاَ يُحَرِّمُوْنَ شَيْئاً، وَيَأْكلُوْنَ الحيوَانَاتِ وَبنِي آدَمَ، وَلاَ يَعرفُوْنَ زَوَاجاً. وَهُم صنف من الترك مساكنهم جبال طغماج. وَبَعَثَ خُوَارِزْم شَاه جَوَاسيسَ فَأَتَوْهُ فَأَخبرُوهُ أَنَّ التتر يقوفون الإِحصَاءَ، وَأَنَّهُم أَصبرُ شَيْء عَلَى القِتَالِ، لاَ يَعرفُوْنَ هَزِيْمَةً، فَندِمَ خُوَارِزْم شَاه عَلَى قَتْلِ تُجَّارِهِم، وَتَقَسَّمَ فَكَرِهَ، ثُمَّ عَمِلَ مَعَهُم مَصَافّاً ما سمع مثله، دَامَ ثَلاَثاً، وَقُتِلَ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ خَلاَئِقُ لاَ يُحصَوْنَ، حَتَّى لَقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ عِشْرُوْنَ أَلْفاً، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الوَاقعَةَ، وَأَنَّهَا مَا حَضَرهَا جنكزخان، وَتَحَاجَزَ الجمعَانِ، وَمَرَّ خُوَارِزْم شَاه فَتركَ بِبُخَارَى عِشْرِيْنَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَبِسَمَرْقَنْدَ خَمْسِيْنَ أَلْفاً، وَقَالَ: احْفظُوا البِلاَدَ حَتَّى أَجْمَعَ الجُيُوْشَ وَأَعُوْدَ، فَعَسْكَرَ عَلَى بَلْخَ، فَلَمَّا أَحَاطَتِ التَّتَارُ بِبُخَارَى خَرَجَ عَسْكَرُهَا فِي اللَّيْلِ عَلَى حَمِيَّةٍ وَتركُوهَا، فَخَرَجَ إِلَى القَانِ بدرُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي خَان يَطلبُ الأَمَانَ فَأَعْطَاهُم وَدخلوهَا فِي رَابعِ ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ، وَلَمْ يَتعرَّضُوا أَوَّلاً إِلَى غَيْرِ الحوَاصِلِ السُّلطَانِيَّةِ، وَطَلَبُوا مِنْهُم العَوْنَ عَلَى حربِ مَنْ بِقَلعَتِهَا فَطَمُّوا خَنْدَقهَا بِالتُّرَابِ وَالأَخشَابِ حَتَّى بِالرَّبعَات، وَأُخِذَتْ بِالسَّيْفِ، وَصدَقَ أَهْلُهَا اللِّقَاءَ حَتَّى أُبِيدُوا، ثُمَّ غدَرَ جنكزخان بِالنَّاسِ وَهلكُوا وَتَمزَّقُوا، وَسَبُوا الذُّرِّيَّةَ، وَبقيَتْ بُخَارَى كَأَمسِ الذَّاهبِ. ثُمَّ أَحَاطُوا بِسَمَرْقَنْدَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ 617 فَقِيْلَ: بَرزَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوُ سَبْعِيْنَ ألفًا، فقاتلوا، فانهزم لهم التتر، ثم حالوا بنهم وبين البلد وحصدوهم، ثم جهز جنكزخان خَلْفَ خُوَارِزْم شَاه فَعبَرُوا جَيْحُونَ خوضاً وَسباحَةً، فَانْهَزَمَ مِنْهُم وَهُم وَرَاءهُ، ثُمَّ عطفُوا فَأَخذُوا الرَّيَّ، وَمَازَندرَانَ، وَظفرُوا بِأُمِّ خُوَارِزْم شَاه وَمَعَهَا خَزَائِنُهُ، فَأَسَرُوهَا، ثُمَّ أَخذُوا قَزْوِيْنَ بِالسَّيْفِ، وَبلغَتِ القَتْلَى أَرْبَعِيْنَ أَلفاً، ثُمَّ أَخذُوا أَذْرَبِيْجَانَ، وَصَالَحَهُم ملكُ تَبرِيزَ ابْنُ البَهْلَوَانِ عَلَى أَمْوَالٍ، فَمضَوْا لِيَشْتُوا بِمُوقَانَ وَهَزمُوا الكُرْجَ، وَأَخَذُوا مَرَاغَةَ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قَصدُوا إِرْبِلَ، فَتَحَزَّبَ لَهُم عَسْكَرٌ، فَعَادُوا إِلَى هَمَذَانَ، وَكَانُوا قَدْ بدعُوا فِيْهَا، وَقرَّرُوا بِهَا شحنَةً، فَطَالبَهُم بِأَمْوَالٍ فَقَتَلُوْهُ وَتَمنَّعُوا فَحَاصَرَهُم التتار، فبرزوا لمحاربتهم، وقتلوا خلقًا مِنَ التَّتَارِ وَجُرِحَ فَقِيهُهُم جِرَاحَاتٍ، ثُمَّ بَرَزُوا مِنَ الغَدِ فَالتحمَ القِتَالُ، ثُمَّ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ عَجِزَ الفَقِيْهُ عَنِ الرُّكوبِ، وَعزمَتِ التَّتَارُ عَلَى الرَّحيلِ، لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُم، فَمَا رَأَوا مَنْ خَرَجَ لقِتَالِهِم، فَطمِعُوا وَزَحَفُوا عَلَى البلَدِ فِي رَجَبٍ سَنَة ثَمَانِي عَشْرَةَ، فَدَخَلُوْهُ بِالسَّيْفِ، فَاقْتَتَلُوا فِي الأَزِقَّةِ قِتَالَ المَوْتِ، وَقُتِلَ مَا لاَ يُحصَى، وَأُحرِقَتْ هَمَذَانُ، وَسَارَتِ التَّتَارُ إِلَى تَبْرِيزَ فَبذلَ أَهْلُهَا أَمْوَالاً فَسَارُوا إِلَى بَيْلَقَانَ، فَأَخَذُوهَا عَنْوَةً فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَحَصَدُوا أَهْلَهَا، حَتَّى كَانُوا يَزنُوْنَ بِالمَرْأَةِ ثُمَّ يَقتلُونَهَا، وَسَارُوا إِلَى كنجَةَ، وَهِيَ أُمُّ أرَانَ فَصَانَعُوهُم بِالأَمْوَالِ، ثُمَّ التَقَوُا الكُرْجَ فَطحَنُوهُم، وَقُتِلَ مِنَ الكُرْجِ ثَلاَثُوْنَ أَلْفاً، ثُمَّ قصدُوا الدَّرْبَنْدَ فَافْتتحُوا مدينَةَ سَمَاخِي عَنْوَةً، وَلَمْ يَقدرُوا عَلَى وُلُوجِ الدَّرْبَنْدِ، فَبعثَوا يَطلبُوْنَ مِنْ شَرْوَانَ شَاه رَسُوْلاً فَبَعَثَ عَشْرَةً فَقتَلُوا وَاحِداً وَقَالُوا لِمَنْ بَقِيَ: إِنْ لَمْ تَدُلُّونَا عَلَى طَرِيْقٍ قَتَلْنَاكُم، قَالُوا: لاَ طَرِيْقَ لَكِنْ هُنَا مَسلَكٌ ضَيِّقٌ، فَمَرُّوا فِيْهِ قتلاً وَسبياً وَأَسرفُوا فِي قَتْلِ اللاَنِ، ثُمَّ بَيَّتُوا القَفْجَاقَ، وَأَبَادُوا فِيهِم، وأتوا سوداق فملوكها، وأقاموا هناك إلى سنة عشرين ست مائة. وأما جنكزخان فَجَهَّزَ فِرقَةً إِلَى تِرْمِذَ وَطَائِفَةً إِلَى كلاَثَةَ عَلَى جَانبِ جَيْحُونَ، فَاسْتبَاحُوهَا، ثُمَّ عَادُوا إِلَيْهِ، وَهُوَ بِسَمَرْقَنْدَ فَجَهَّزَ جَيْشاً كَثِيفاً مَعَ وَلدِهِ لِحَرْبِ جَلاَلِ الدِّيْنِ ابْنِ خُوَارِزْم شَاه، وَحَاصرُوا خُوَارِزْم ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ وَأَخَذوهَا، وَعَلَيْهِم أوكتَاي الَّذِي تملك بعد جنكزخان، وَقُتِلَ بِهَا أُمَمٌ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوا خَلاَئِقَ مِنَ التَّتَارِ، وَأَخَذُوا بِالسَّيْفِ مَرْوَ، وَبلْخَ، وَنَيْسَابُوْرَ، وَطُوسَ، وَسَرْخَسَ، وَهرَاةَ، فَلاَ يُحصَى مَنْ رَاحَ تَحْتَ السَّيْفِ.
وَقَالَ المُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ: قصدَتْ فِرقَةٌ أَذْرَبِيْجَانَ وَأَرَّانَ وَالكُرْجَ، وَفِرقَةٌ هَمَذَانَ وَأَصْبَهَانَ وَخَالطَتْ حُلْوَانَ قَاصدَةً بَغْدَادَ، وَمَاجُوا فِي الدُّنْيَا بِالإِفسَادِ يَعضُّونَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ الأَنَاملَ من الغيط. إِلَى أَنْ قَالَ: وَعَبرُوا إِلَى أُمَمِ القَفْجَاقِ وَاللاَنِ فَغسلُوهُم بِالسَّيْفِ، وَخَرَجَ مِنْ رَقِيْقِ التُّرْكِ خلقٌ حَتَّى فَاضُوا عَلَى البِلاَدِ.
وَأَمَّا الخَلِيْفَةُ فَإِنَّهُ جَمعَ الجُمُوْعَ وَجَيَّشَ الجُيُوْشَ، وَحشرَ فَنَادَى، وَأَتتْهُ البُعُوثُ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُوْنَ، وَلَمَّا جَاءَ رَسُوْلُ التَّتَارِ احْتَفَلَ الجَيْشُ وَبَالغُوا، حَتَّى امتلأَ قَلْبُهُ رُعْباً، وَدِمَاغُهُ خيَالاً، فَرَجَعَ مُخَبِّراً.
وَأَمَّا أَهْلُ أَصْبَهَانَ فَفَتَحُوا، وَدَخَلَتِ التَّتَارُ، فَمَالَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ قتلاً، فَقَلَّ مَنْ نَجَا مِنَ التَّتَارِ، سُئِلَ عَنْهُمُ الملكُ الأَشْرَفُ، فَقَالَ: مَا أَقُوْلُ فِي قَوْمٍ لَمْ يُؤسَرْ أَحَدٌ مِنْهُم قَطُّ. وَعَنْ نَيْسَابُوْرِيٍّ قَالَ: أُحْصِيَ مَنْ قُتِلَ بِنَيْسَابُوْرَ، فَبلَغُوا أَزْيَدَ مِنْ خَمْسِ مائَةِ أَلْفٍ. وَمِمَّا أَبَادُوْهُ بلاَدَ فَرغَانَةَ وَهِيَ سَبْعُ مَمَالِكَ، وَمتَى التَمَسَ الشَّخْصُ رَحمتَهُم، ازدَادُوا عتوًا، وإذا اجتمعوا على خمر، أحضروا أُسَارَى وَيُمَثِّلُوْنَ بِهِم بِأَنْ يُقَطِّعُوا أَعضَاءهُم، فَكلَّمَا صَاحَ، ضَحِكُوا، نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ. وَقَدْ جُمِعَ فِيهِم مِنْ كُلِّ وَحْشٍ رَدِيءُ خُلُقِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: أَحصَيْتُ القَتْلَى بِمَرْوَ فَكَانُوا سَبْعَ مائَةِ أَلْفٍ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ التقَى خوارزم شاه، وتولي بن جنكزخان فَانْهَزَمُوا، وَقُتِلَ تُولِّي، وَبلغَ الخَبَرَ أَبُوْهُ فَجُنَّ وَتنمَّرَ، وَأَسرعَ مُجِدّاً، فَالتقَاهُ خُوَارِزْم شَاه فِي شوالها، فحمل على قلب جنكزخان فَمَزَّقَهُ، وَانْهَزَمُوا لَوْلاَ كَمِينٍ لَهُم خَرَجُوا عَلَى المسلمين، فانكسروا وأسر وَلدَ جَلاَلِ الدِّيْنِ وَتَقهقَرَ إِلَى نَهْرِ السِّنْدِ فَغَرِقَ حرمُهُ، وَنجَا فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلاَفٍ حُفَاةً عُرَاةً لِيختفِي فِي الجِبَالِ وَالآجَامِ يَعِيْشُوْنَ مِنَ النَّهْبِ، فَحَارَبَهُ ملكٌ مِنْ مُلُوْكِ الهِنْدِ فَرمَاهُ جَلاَلُ الدِّيْنِ بِسَهْمٍ فِي فؤَادِهِ فَسَقَطَ وَتَمَزَّقَ جَيْشُهُ، وَحَازَ جَلاَلُ الدِّيْنِ الغَنَائِمَ، وَعَاشَ، فَسَارَ إِلَى سِجِسْتَان، وَبِهَا خَزَائِنُ لَهُ فَأَنفقَ فِي جندِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: التقَاهُم جَلاَلُ الدِّيْنِ بكَابُلَ فَهَزمَهُم، ثُمَّ فَارقَهُ شطْرُ جيشه لفتنة جرت، وفاجأه جنكزخان، فَتحَيَّرَ جَلاَلُ الدِّيْنِ، وَسَارَ إِلَى نَهْرِ السِّنْدِ، فلم يجد سفنًا تكفيهم، وضايقه جنكزخان فَالتقَاهُ حَتَّى دَامَ الحَرْبُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ، وَجَاءت سُفُنٌ فَعَدَوا فِيْهَا، وَنَازلَتِ التَّتَارُ غَزْنَةَ فَاسْتبَاحوهَا.
قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ وَجَيْشُ مِصْرَ وَالشَّامِ فِي مُصَابِرَةِ الفِرَنْجِ بدِمْيَاطَ والأمر شديد.
ودخلت سنة تسع عشرة، فتخربت ملوك الهند على جلال الدين لأذيته لَهُم، فَاسْتنَابَ أَخَاهُ جَهَان عَلَى مَا فَتحَهُ مِنْ طَرِيْقِ الهِنْدِ، وَقصدَ العِرَاقَ، وَقَاسَى المشَاقَّ، فَتَوَصَّلَ فِي أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مِنْهُم مَنْ هُوَ رَاكِبُ البقرِ وَالحُمُرِ فِي سَنَةِ 621 فَقَدِمَ شيرَازَ فأتاه علاء الدين أَتَابَك مُذْعِناً بِطَاعتِهِ، فَتَزَوَّجَ جَلاَلُ الدِّيْنِ بِابْنتِهِ. وَقَدِمَ أَصْبَهَانَ فَسَرَّهُم قُدومُهُ، وَكَانَ أَخُوْهُ غِيَاثُ الدِّيْنِ فِي ثَلاَثِيْنَ أَلْفاً، وَبَينَهُم إِحَنٌ، وَهَرَبَ غِيَاثُ الدِّيْنِ، ثُمَّ اصطَلَحَا، وَاجتَمَعَا، وَالتفَّتِ العَسَاكِرُ عَلَى جَلاَلِ الدِّيْنِ، وَعظُمَ شَأْنُهُ.
وَفِي العَامِ: كَانَتِ الوقعَةُ بَيْنَ التَّتَارِ الدَّاخلينَ مِنَ الدَّرْبَنْد، وَبَيْنَ القفجَاقِ وَالرُّوْسِ، وَصَبَرُوا أَيَّاماً، ثُمَّ اسْتَحَرَّ القتلُ بِالرُّوْسِ وَالقفجَاقِ.
وَفِي سَنَةِ 621: أَخَذَ الأَشْرَفُ مِنْ أَخِيْهِ غَازِي خِلاَطَ، وَأَبقَى عَلَيْهِ مَيَّافَارِقِيْنَ.
وَفِيْهَا سَارَ جَلاَلُ الدِّيْنِ خُوَارِزْم شَاه إِلَى أَذْرَبِيْجَانَ، فَاسْتولَى عَلَيْهَا، وَرَاسلَهُ المُعَظَّم لِينصُرَهُ عَلَى أَخِيْهِ الأَشْرَفِ.
وَفِيْهَا خَنَقَ بدرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ الملكَ القَاهِرَ سِرّاً، وَتَمَلَّكَ المَوْصِلَ.
وَبُنِيَتْ دَارُ الحَدِيْثِ الكَامِليَّةُ، وَشيخُهَا ابْنُ دِحْيَةَ.
وَقَدِمَ صَاحِبُ اليَمَنِ أَقسيس ابْنُ الملكِ الكَامِلِ طَامعاً فِي أَخْذِ الشَّامِ، فَمَاتَ، وَورِثَ مِنْهُ أَبُوْهُ أَمْوَالاً عَظِيْمَةً.
وَفِيْهَا رَجَعَتِ التَّتَارُ مِنْ بلاَدِ القَفْجَاقِ، فَاسْتبَاحُوا الرَّيَّ وَسَاوه وَقُمّ، ثُمَّ التَقَوا الخُوَارِزْمِيَّةَ.
وَفِيْهَا قصدَ غِيَاثُ الدِّيْنِ أَخُو خُوَارِزْم شَاه بلاَدَ شِيرَازَ، فَأَخَذَهَا مِنْ أَتَابَك سَعْدٍ، وَعَصَى أتابك في قلعة، تصالحا.
وَفِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ 622: وَصلَ جَلاَلُ الدِّيْنِ فَأَخَذَ دقوقا بِالسَّيْفِ وَفعلَ كُلَّ قبيحٍ لِكَوْنِهِم سَبُّوهُ عَلَى الأَسْوَارِ، وَعَزَمَ عَلَى مُنَازِلَةِ بَغْدَادَ، فَانزعجَ الخَلِيْفَةُ، وَكَانَ قَدْ فُلِجَ، فَأَنفقَ أَلفَ أَلفِ دِيْنَارٍ، وَفرَّقَ العُدَدَ وَالأَهرَاءَ.
قَالَ سِبْطُ الجَوْزِيِّ: قَالَ لِي المُعَظَّم: كَتَبَ إِلَيَّ جَلاَلُ الدِّيْنِ يَقُوْلُ: تَجِيْءُ أَنْتَ وَاتَّفِقْ مَعِي حَتَّى نقصد الخليفة، فإنه كان السبب في هلال أَبِي، وَفِي مَجِيْءِ التَّتَارِ وَجَدْنَا كُتُبَهُ إِلَى الخَطَا وَتَواقيعَهُ لَهُم بِالبِلاَدِ وَالخِلَعِ وَالخيلِ. فَكَتَبتُ إِلَيْهِ: أَنَا مَعَكَ إلَّا عَلَى الخَلِيْفَةِ، فَإِنَّهُ إِمَامُ الإِسْلاَمِ.
قَالَ: وَخَرَجَتْ عَلَيْهِ الكُرْجُ، فَكَرَّ نَحْوَهُم، وَعَمِلَ مَصَافّاً، فَقتلَ مِنْهُم سَبْعِيْنَ أَلْفاً، قَالَهُ أَبُو شَامَةَ- وَأَخَذَ تَفلَيْسَ بِالسَّيْفِ، وَافتَتَحَ مَرَاغَةَ، ثُمَّ حَاصرَ تَبرِيزَ وَتسلَّمَهَا، وَبدَّعَ وَظلَمَ كعوَائِدِهِ.
وَفِي سَلْخِ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ تُوُفِّيَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، فَبُوْيِعَ ابْنُهُ الظَّاهِرُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدٌ كَهْلاً، فَكَانَتْ دَوْلَةُ النَّاصِرِ سَبْعاً وَأَرْبَعِيْنَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: بقي الناصر ثلاث سنين عاطلا عن الحركة بالكلية، وَقَدْ ذَهَبَتْ عينُهُ رَحِمَهُ اللهُ، ثُمَّ مَاتَ وبويع الظاهر ابنه.
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.

 

 

الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن الحسن بن يوسف بن محمد بن أحمد العباسي البغدادي، الرابع والثلاثون منهم ببغداد، المتوفى بها في رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة، عن سبعين سنة إلا نصف سنة، وكانت خلافته سبعًا وأربعين سنة وملك [بعده] ابنه الظاهر بأمر الله محمد وكان أبيض، تركي الوجه، أقنى الأنف، أشقر اللحية، دقيق المحاسن، فيه شهامة وإقدام ودهاء وعقل، بويع بالخلافة بعد أبيه في أول ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة، فكان أطول العباسيين مدة وكان مستقلًا بالأمور يباشر بنفسه ولم يزل في عزٍّ وجلالة وقمع الأعداء وله حيل لطيفة ومكايد غامضة وكان يتشيع. ذكره المؤرخون.
سلم الوصول إلى طبقات الفحول - حاجي خليفة.

 


أحمد بن المستضئ بأمر الله الحسن بن المستنجد، أبي العباس، الناصر لدين الله: خليفة عباسي بويع بالخلافة بعد موت أبيه (سنة 575) وطالت أيامه حتى انه لم يل الخلافة من بني العباس أطول مدة منه. يوصف بالدهاء على ما في أطواره من تقلب، فبينما هو مهتم بشؤون قومه يطلق المكوس ويرفع عن الناس الضرائب، إذا به قد انقلب فانصرف إلى اللهو وأعاد ما رفع. ويقال إنه هو الّذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد لما كان بينه وبين خوارزم شاه من العداوة، أملا بأن يشغله بهم عن الزحف إلى العراق. وكان له اشتغال بالحديث، جمع كتابا فيه سماه (روح العارفين - خ -) في شستربتي (4730 / 6) واستمرت خلافته 46 سنة و 11 شهرا إلا يومين، وذهبت إحدى عينيه في آخر عمره وضعف بصر الثانية وفلج فبطلت حركته ثلاث سنين .
-الأعلام للزركلي-

 


أحمد الناصر بن المستضيئ  العباسي أبي العباس، بويع بعد موت أبيه، و استمر إلى أن توفى ليلة الأحد سلخ رمضان؛ سنة اثنتين و عشرين و ستمائة، فكانت مدته ستة و أربعين سنة و عشرة أشهر و تسعة عشر يوما، و لم يلى الخلافة من بنى العباس قبله أطول من مدته‏ إلا من سيأتى ذكره‏.(ولد سنة ٥٥٣ هـ، و بويع بالخلافة بعد موت أبيه سنة ٥٧٥ هـ و طالت أيامه، و كان يوصف بالدهاء على ما فى أطواره من التقلب. و يقال: إنه هو الذى كاتب التتار و أطمعهم فى البلاد لما كان بينه و بين خوارزم شاه من العداوة؛ آملا أن يشغله بهم عن الزحف إلى العراق. و كان له اشتغال بالحديث؛ جمع فيه كتابا سماه: «روح العارفين»).
حتى إن التتار لما دخلوا العراق و قتلوا فيه المسلمين تلك القتلة، التى ما نكب المسلمون‏ بأعظم منها، دخل عليه الوزير فقال له: يا أمير المؤمنين إن التتار قد ملكت البلاد، و قتلت المسلمين.
فقال له الناصر: دعنى أنا فى شى‏ء أهم من ذلك؛ طيرى الببغاء لى ثلاثة أيام ما رأيتها.  هذا و هم من المؤلف، فلم يذكر أحد من العلماء هذه الواقعة، كما أنهم يصفون الناصر بالعقل و الحزم و التدبير، بالإضافة إلى أن التتار لم يقربوا العراق فى زمنه أصلا)
- الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء/ علي بن عبد القادر الطبري -.

 

 

الناصر العباسى: هو الناصر لدين اللّه أبى العباس أحمد بن المستضيئ حسن بن المستنجد يوسف الهاشمى العباسى، ولد فى يوم الاثنين عاشر رجب سنة ٥٥٣ ه. بويع بالخلافة فى بغداد بعد موت أبيه فى أول ذى القعدة سنة ٥٧٥ ه. و لم تكن خلافة أحد من بنى العباس قبله أطول مدة من مدته. أقام فى الخلافة ٤٦ سنة و ١٠ شهور و ٩ أيام، إلى أن مات فى ليلة الأحد سلخ رمضان سنة ٦٢٢ ه. تاريخ الخميس: ٢/ ٣٦٦- ٣٦٩.
الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء -  علي بن عبد القادر الطبري