يحيى بن محمد بن هبيرة

تاريخ الولادة499 هـ
تاريخ الوفاة560 هـ
العمر61 سنة
مكان الولادةغير معروف
مكان الوفاةبغداد - العراق
أماكن الإقامة
  • بغداد - العراق

نبذة

يحيى بن مُحَمَّد بن هُبَيْرَة بن سعد بن الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن الجهم بن عمر بن هُبَيْرَة من ولد سُفْيَان بن ثَعْلَبَة الشيبانى الدورى ثمَّ البغدادى الْوَزير الْعَالم الْعَلامَة الْعَادِل صدر الوزراء عون الدّين أبي المظفر

الترجمة

يحيى بن مُحَمَّد بن هُبَيْرَة بن سعد بن الْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن الجهم بن عمر بن هُبَيْرَة من ولد سُفْيَان بن ثَعْلَبَة الشيبانى الدورى ثمَّ البغدادى الْوَزير الْعَالم الْعَلامَة الْعَادِل صدر الوزراء عون الدّين أبي المظفر
وَلد فى ربيع الاخر سنة تسع وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة بالدورقية من أَعمال دجيل وَدخل بَغْدَاد شَابًّا وَقَرَأَ الْقرَان بالروايات على جمَاعَة وَسمع الحَدِيث على القاضى أَبى الْحُسَيْن ابْن الْفراء وأبى الْحسن بن الزاغونى وَغَيرهمَا وتفقه على أَبى بكر الدينورى ذكره ابْن القطيعى وَقَرَأَ الْأَدَب على أَبى مَنْصُور بن الجواليقى وَصَحب أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن يحيى الزبيدى الْوَاعِظ الزَّاهِد وَقَرَأَ عَلَيْهِ فنونا من الْعلم وَالْأَدب وَغَيرهمَا وانتفع بِصُحْبَتِهِ حَتَّى أَن الزبيدى كَانَ يركب جملا ويعتم بفوطة ويلويها تَحت حنكه وَعَلِيهِ جُبَّة صوف وَهُوَ مخضوب بِالْحِنَّاءِ فيطوف بأسواق بَغْدَاد يعظ النَّاس وزمام جمله بيد أَبى المطفر بن هُبَيْرَة وَهُوَ معتم بفوطة من قطن قد لواها تَحت حنكه وَعَلِيهِ قَمِيص قطن خام قصير الْكمّ والذيل وَكلما وصل الزبيدى موضعا أَشَارَ أبي المظفر بمسبحته ونادى بِرَفْع صَوته لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ حى لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شىء قدير
قَالَ ابْن الجوزى كَانَ لَهُ معرفَة حَسَنَة بالنحو واللغة وَالْعرُوض وصنف فى تِلْكَ الْعُلُوم وَكَانَ مُسَددًا فى اتِّبَاع السّنة وسير السّلف
انْتهى
وَقد صنف كتاب الإفصاح عَن معانى الصِّحَاح فى عدَّة مجلدات وَهُوَ شرح الصَّحِيحَيْنِ وَلما بلغ إِلَى شرح من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فى الدّين شرح الحَدِيث وَتكلم على الْفِقْه وَذكر الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا بَين الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَقد أفرده النَّاس من الْكتاب وجعلوه مُسْتقِلّا فى مجلدة
وَهَذَا الْكتاب صنفه فى ولَايَته الوزارة وَجمع النَّاس عَلَيْهِ من الْمذَاهب حَتَّى قدمُوا من الْبِلَاد الشاسعة وَأنْفق عَلَيْهِ نَحْو مائَة ألف دِينَار وَثَلَاثَة عشر ألف دِينَار وَحدث وَاجْتمعَ الْخلق الْعَظِيم بِسَمَاعِهِ عَلَيْهِ
وصنف فى النَّحْو كتابا سَمَّاهُ

المقتصد وَعرضه على أَئِمَّة الْأَدَب وَأَشَارَ إِلَى ابْن الخشاب فى الْكَلَام عَلَيْهِ فشرحه فى أَربع مجلدات وَاخْتصرَ كتاب إصْلَاح الْمنطق لِابْنِ السّكيت وصنف كتاب الْعِبَادَات الْخمس على مَذْهَب أَحْمد وَحدث بِهِ بِحَضْرَة الْعلمَاء من أَئِمَّة الْمذَاهب
وَكَانَ فَقِيرا فى ابْتِدَاء أمره فَاحْتَاجَ إِلَى أَن دخل من الخدم السُّلْطَانِيَّة فولى أعمالا ثمَّ جعله المقتفى لأمر الله مشرفا فى المخزن ثمَّ نقل إِلَى كِتَابَة ديوَان الزِّمَام ثمَّ ظهر للمقتفى كِفَايَته وشهامته فولاه الوزارة وخلع عَلَيْهِ وَخرج فى أبهة عَظِيمَة وَمَشى أَرْبَاب الدولة وَأَصْحَاب المناصب كلهم بَين يَدَيْهِ وَهُوَ رَاكب إِلَى الإيوان من الدِّيوَان وَحضر الْقُرَّاء وَالشعرَاء وَكَانَ يَوْمًا مشهودا وقرىء تَقْلِيده وَكَانَ عَظِيما وبولغ فى مدحه وَالثنَاء عَلَيْهِ إِلَى الْغَايَة وخوطب فِيهِ بالوزير الْعَالم الْعَادِل عون الدّين جلال الْإِسْلَام صفى الإِمَام شرف الْأَنَام معز الدولة مجير الْملَّة عماد الْأمة مصطفى الْخلَافَة تَاج الْمُلُوك والسلاطين صدر الشرق والغرب سيد الوزراء ظهير أميره الْمُؤمنِينَ
وَقَالَ يَوْمًا لَا تَقولُوا سيد الوزراء فَإِن الله تَعَالَى سمى هَارُون وزيرا وَجَاء عَن النبى أَن وزيره من أهل السَّمَاء جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَمن أهل الأَرْض أبي بكر وَعمر
وفى رِوَايَة إِن الله اختارنى وَاخْتَارَ لى أصحابا فجعلهم وزراء وأنصاراً فَلَا يصلح أَن يُقَال عَنى سيد الوزراء ثمَّ ركب إِلَى منزله بِمن حضر وَقَامَ بِالْأَمر إِلَى نهايته
وَلم تزل مجالسه مشحونة بالعلماء والمذاكرة والخيرات وَله مسَائِل لطاف وفوائد غَرِيبَة ذكر مِنْهَا نبذة الشَّيْخ زين الدّين بن رَجَب فَعَلَيْك بمراجعتها إِن شِئْت وَمَعَ ذَلِك فَلم يجب عَلَيْهِ زَكَاة قطّ

(يَقُولُونَ يحيى لَا زَكَاة لمَاله ... وَكَيف يزكّى المَال من هُوَ باذله)
(إِذا دَار حول لَا يرى فى بيوته ... من المَال إِلَّا ذكره وفضائله)
وَكَانَ المقتفى معجبا بِهِ يَقُول مَا وزر لبنى الْعَبَّاس مثله
قَالَ الزينبى كَانَ عَالما فَاضلا عَاملا ذَا رأى صائب وسريرة صَالِحَة وَظَهَرت مِنْهُ كِفَايَة تَامَّة وَقيام بأعباء الْملك حَتَّى شكره الْخَاص وَالْعَام وَكَانَ مكرما لأهل الْعلم وَيقْرَأ عِنْده الحَدِيث عَلَيْهِ وعَلى الشُّيُوخ بِحُضُورِهِ ويجرى من الْبَحْث والفوائد مَا يكثر ذكره وَكَانَ مقربا لأهل الْعلم وَالدّين كَرِيمًا طيب الْخلق
وَقَالَ ابْن القطيعى كَانَ عفيفا فى ولَايَته مَحْمُودًا فى وزارته كثيرالبر وَالْمَعْرُوف وَقِرَاءَة الْقرَان وَالصَّلَاة وَالصِّيَام يحب أهل الْعلم وَيكثر مجالستهم ومذاكرتهم جميل الْمَذْهَب شَدِيد التظاهر بِالسنةِ
وَقَالَ ابْن الجوزى كَانَ يتأسف على مَا مضى من زَمَانه ويندم على مَا دخل فِيهِ ثمَّ صَار يسْأَل الله الشَّهَادَة ويتعرض بأسبابها
وَكَانَ لبس بِهِ قلبة فى يَوْم السبت ثانى عشر جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة ونام لَيْلَة الْأَحَد فى عَافِيَة فَلَمَّا كَانَ وَقت السحر قاء فَحَضَرَ طَبِيب كَانَ يَخْدمه فَسَقَاهُ شَيْئا يُقَال إِنَّه سمه فَمَاتَ وَسَقَى الطَّبِيب بعده بِنَحْوِ سِتَّة أشهر سما فَكَانَ شَيْئا يُقَال يَقُول كَمَا سقيت سقيت فَمَاتَ
وحملت جنَازَته يَوْم الْأَحَد إِلَى جَامع الْقصر وَصلى عَلَيْهِ ثمَّ حمل إِلَى مدرسته الَّتِى أنشاها بِبَاب الْبَصْرَة فَدفن بهَا وغلقت يَوْمئِذٍ أسواق بَغْدَاد وَكَانَ يَوْمًا مشهودا

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبي إسحاق، برهان الدين.

 

الوزير الكَامِلُ، الإِمَامُ العَالِمُ العَادلُ، عَوْنُ الدِّينِ، يَمِيْنُ الخِلاَفَةِ، أَبُو المُظَفَّرِ يَحْيَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ هُبَيْرَةَ بنِ سَعِيْدِ بنِ الحَسَنِ بنِ جَهْمٍ، الشَّيْبَانِيُّ الدُّوْرِيُّ العِرَاقِيُّ الحَنْبَلِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
مَوْلِدُهُ بِقَرْيَة بَنِي أَوْقرَ مِنَ الدُّورِ أَحَدِ أَعْمَالِ العِرَاقِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي صِبَاهُ، وَطَلَبَ العِلْمَ، وَجَالَسَ الفقهاء، وتفقه بأبي الحسين بن القَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالأُدبَاءِ، وَسَمِعَ الحَدِيْثَ، وَتَلاَ بِالسَّبْعِ، وَشَاركَ فِي عُلُوْمِ الإِسْلاَمِ، وَمَهَرَ فِي اللُّغَةِ، وَكَانَ يَعرفُ المَذْهَبَ وَالعَرَبِيَّةَ وَالعَرُوضَ، سَلَفِيّاً أَثرِيّاً، ثُمَّ إِنَّهُ أَمضَّهُ الفَقْرُ، فَتعرَّضَ لِلْكِتَابَةِ، وَتَقدَّمَ، وَتَرقَّى، وَصَارَ مُشَارفُ الخزَانَةِ، ثُمَّ وَلِيَ دِيْوَانَ الزِّمَامِ لِلمُقْتَفِي لأَمْرِ اللهِ، ثُمَّ وَزَرَ لَهُ فِي سَنَةِ544، وَاسْتمرَّ وَوَزَرَ مِنْ بَعْدِهِ لابْنِهِ المُسْتَنْجِدِ.
وَكَانَ دَيِّناً خَيِّراً مُتَعَبِّداً عَاقِلاً وقورًا متواضعًا، جزل الرأي، بارًا بِالعُلَمَاءِ، مُكِبّاً مَعَ أَعبَاءِ الوزَارَةِ عَلَى العِلْمِ وَتَدوينِهِ، كَبِيْرَ الشَّأْنِ، حَسَنَةَ الزَّمَانِ.
سَمِعَ أَبَا عُثْمَانَ بنَ ملَّةَ، وَهِبَةَ اللهِ بنَ الحُصَيْنِ، وَخَلْقاً بَعْدَهُمَا.
وَسَمِعَ الكَثِيْرَ فِي دَوْلَتِهِ، وَاسْتحضَرَ المَشَايِخَ، وَبَجَّلَهُم، وَبَذَلَ لَهُم.
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: كَانَ يَجتهِدُ فِي اتِّبَاعِ الصَّوَابِ، وَيَحذَرُ مِنَ الظُّلْمِ وَلاَ يَلْبَسُ الحَرِيْرَ، قَالَ لِي: لَمَّا رَجَعتُ مِنَ الحِلَّةِ، دَخَلتُ عَلَى المُقْتَفِي، فَقَالَ لِي: ادْخُلْ هَذَا البَيْتَ، وَغَيِّرْ ثيَابَكَ، فَدَخَلتُ، فَإِذَا خَادمٌ وَفَرَّاشٌ مَعَهُم خِلَعُ الحَرِيْرِ، فَقُلْتُ: والله ما ألبسها. فخرج الخادم، فَأَخبرَ الخَلِيْفَةَ، فَسَمِعْتُ صَوْتَهُ يَقُوْلُ: قَدْ -وَاللهِ- قُلْتُ: إِنَّهُ مَا يَلبَسُهُ. وَكَانَ المُقْتَفِي مُعْجَباً بِهِ، وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ المُسْتَنْجِدُ، دَخَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَكفِي فِي إِخْلاَصي أَنِّي مَا حَابَيْتُكَ فِي زَمَنِ أَبِيكَ، فَقَالَ: صَدَقتَ.
قَالَ: وَقَالَ مُرجَانُ الخَادِمُ: سَمِعْتُ المُسْتَنْجِدَ بِاللهِ يُنْشِدُ وَزِيْرَهُ وَقَدْ قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ مُفَاوضَةٍ تَرجِعُ إِلَى تَقرِيرِ قوَاعدِ الدِّينِ وَالصَّلاَحِ، وَأَنشدَهُ لِنَفْسِهِ:
ضَفَتْ نِعْمَتَانِ خَصَّتَاكَ وَعَمَّتَا ... فَذِكْرُهُمَا حتّى القيامة يذكر
وُجُوْدُكَ وَالدُّنْيَا إِلَيْكَ فقيرةٌ ... وَجُوْدُكَ وَالمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ يُنْكَرُ
فَلَو رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جعفرٌ ... وَيَحْيَى لَكَفَّا عَنْهُ يَحْيَى وَجَعْفَرُ
وَلَمْ أَرَ مَنْ يَنوِي لَكَ السُّوْءَ يَا أَبَا ال ... مُظَفَّرِ إلَّا كُنْتَ أَنْتَ المُظَفَّرُ
قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: وَكَانَ مبَالِغاً فِي تَحصيلِ التَّعْظِيْمِ لِلدَّولَةِ، قَامِعاً لِلمخَالفِيْنَ بِأَنْوَاعِ الحِيَلِ، حَسَمَ أُمُوْرَ السَّلاَطِيْنِ السَّلْجُوْقيَّةِ، وَقَدْ كَانَ آذَاهُ شحنَةٌ فِي صِبَاهُ، فَلَمَّا وَزَرَ، اسْتحضَرَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَكَانَ يَتحدَّثُ بِنِعَمِ اللهِ، وَيذكرُ فِي منصبِهِ شِدَّةَ فَقرِهِ القَدِيْمِ، وَقَالَ: نَزلتُ يَوْماً إِلَى دِجْلَةَ وَلَيْسَ مَعِي رَغِيْفٌ أَعبرُ بِهِ. وَكَانَ يُكثِرُ مُجَالَسَةَ العُلَمَاءِ وَالفُقَرَاءِ، وَيبذلُ لَهُم الأَمْوَالَ، فَكَانَتِ السَّنَةُ تَدورُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، وَقَالَ: مَا وَجبَتْ عليَّ زَكَاةٌ قَطُّ. وَكَانَ إِذَا اسْتفَادَ شَيْئاً مِنَ العِلْمِ، قَالَ: أَفَادَنِيْهِ فُلاَنٌ. وَقَدْ أَفدتُهُ مَعْنَى حَدِيْثٍ، فَكَانَ يَقُوْلُ: أَفَادَنِيهِ ابْنُ الجَوْزِيِّ، فَكُنْتُ أستحييى، وَجَعَلَ لِي مَجْلِساً فِي دَارِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ، وَيَأْذنُ لِلْعَامَّةِ فِي الحُضُوْرِ، وَكَانَ بَعْضُ الفُقَرَاءِ يَقرَأُ عِنْدَهُ كَثِيْراً، فَأَعْجَبَهُ، وَقَالَ لزوجتِهِ: أُرِيْدُ أَنْ أُزَوِّجَهُ بِابْنَتِي، فَغضبَتِ الأُمُّ. وَكَانَ يُقرَأُ عِنْدَهُ الحَدِيْثُ كُلَّ يَوْمٍ بَعْدَ العَصرِ، فَحضرَ فَقِيْهٌ مَالِكِيٌّ، فَذَكَرْتُ مَسْأَلَةً، فَخَالفَ فِيْهَا الجمعَ، وَأَصرَّ، فَقَالَ الوَزِيْرُ: أَحِمَارٌ أَنْتَ! أَمَا تَرَى الكُلَّ يُخَالِفونَكَ?! فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ، قَالَ لِلْجَمَاعَةِ: إِنَّهُ جرَى مِنِّي بِالأَمسِ فِي حقِّ هَذَا الرَّجُلِ مَا لاَ يَليقُ، فَليَقُلْ لِي كَمَا قُلْتُ لَهُ، فَمَا أَنَا إلَّا كَأَحَدِكُم، فَضجَّ المَجْلِسُ بِالبُكَاءِ، وَاعْتَذَرَ الفَقِيْهُ، قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالاعتذَارِ، وَجَعَلَ يَقُوْلُ: القِصَاصَ القصَاصَ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى قَالَ يُوْسُفُ الدِّمَشْقِيُّ: إِذْ أَبَى القِصَاصَ فَالفِدَاءَ، فَقَالَ الوَزِيْرُ: لَهُ حُكمُهُ. فَقَالَ الفَقِيْهُ: نِعَمُكَ عَلَيَّ كَثِيْرَةٌ، فَأَيُّ حُكْمٍ بَقِيَ لِي ? قَالَ: لاَ بُدَّ. قَالَ: عَلَيَّ دَينٌ مائة دينار. فأعطاه مائةي دِيْنَارٍ، وَقَالَ: مائَةٌ لإِبرَاءِ ذِمَّتِهِ، وَمائَةٌ لإِبرَاءِ ذِمَّتِي.
وَمَا أَحلَى شِعْرَ الحَيْص بَيص فِيْهِ حَيْثُ يَقُوْلُ:
يَهُزُّ حَدِيْثُ الجُودِ سَاكِنَ عِطْفِهِ ... كَمَا هَزَّ شَرْبَ الحَيِّ صَهْبَاءُ قَرْقَفُ
إِذَا قِيْلَ عَوْنُ الدِّينِ يَحْيَى تَأَلَّقَ ال ... غَمَامُ وَمَاسَ السَّمْهَرِيُّ المُثَقَّفُ

قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: كَانَ الوَزِيْرُ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا مَضَى، وَيَندمُ عَلَى مَا دَخَلَ فِيْهِ، وَلَقَدْ قَالَ لِي: كَانَ عِنْدَنَا بِالقَرْيَة مَسْجِدٌ فِيْهِ نَخْلَةٌ تحملُ أَلْفَ رطلٍ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنْ أُقيمَ فِي ذَلِكَ المَسْجَدِ، وَقُلْتُ لأَخِي مَجْدِ الدِّيْنِ: أَقعدُ أَنَا وَأَنْتَ، وَحَاصِلُهَا يَكفِيْنَا، ثُمَّ انْظُرْ إِلَى مَا صرتُ. ثُمَّ صَارَ يَسْأَلُ اللهَ الشَّهَادَةَ، وَيَتعرَّضُ لأَسبَابهَا، وَفِي لَيْلَةِ ثَالِثَ عشرَ جُمَادَى الأُوْلَى سَنَةَ سِتِّيْنَ وَخَمْسِ مائة استيقظ وقت السحر، فقاء، فحضر طيبه ابْنُ رشَادَةَ، فَسَقَاهُ شَيْئاً، فَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّهُ، فَمَاتَ، وَسُقِيَ الطَّبِيْبُ بَعْدَهُ بنِصْفِ سَنَةٍ سُمّاً، فَكَانَ يَقُوْلُ: سَقَيتُ فَسُقِيتُ، فَمَاتَ، وَرَأَيْتُ أَنَا وَقتَ الفَجْرِ كَأَنِّي فِي دَارِ الوَزِيْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَدَخَلَ رَجُلٌ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَضَرَبَهُ بِهَا، فَخَرَجَ الدَّمُ كَالفَوَّارَةِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا خَاتمٌ ذَهَبٌ، فَأَخَذتُهُ، وَقُلْتُ: لِمَنْ أُعْطيهِ? أَنْتظرُ خَادِماً يَخْرُجُ فَأُسلِّمُهُ إِلَيْهِ، فَانْتبهْتُ، فَأَخْبَرتُ مَنْ كَانَ مَعِي، فَمَا اسْتَتْمَمْتُ الحَدِيْثَ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: مَاتَ الوَزِيْرُ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا مُحَالٌ، أَنَا فَارقتُهُ فِي عَافِيَةٍ أَمسِ العصرَ، فَنفَّذُوا إِلَيَّ، وَقَالَ لِي وَلدُهُ: لاَ بُدَّ أَنْ تُغَسِّلَهُ، فَغسَّلتُهُ، وَرفعتُ يَدَهُ ليدخُلَ المَاءُ فِي مَغَابِنِهِ، فَسَقَطَ الخَاتمُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ رَأَيْتُ ذَلِكَ الخَاتمَ، وَرَأَيْتُ آثَاراً بِجَسَدِهِ وَوَجهِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَسْمُوْمٌ، وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ إِلَى جَامِعِ القَصْرِ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمْعٌ لَمْ نَرَهُ لمَخْلُوْقٍ قَطُّ، وَكثُرَ البُكَاءُ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَفعلُهُ مِنَ البِرِّ وَالعَدْلِ، وَرَثَتْهُ الشُّعَرَاءُ.
قُلْتُ: لَهُ كِتَابُ "الإِفصَاحِ" عَنْ مَعَانِي "الصِّحَاحِ" شَرَحَ فِيْهِ "صَحِيْحَي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ" فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَأَلَّفَ كِتَابَ "العِبَادَاتِ" عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَلَهُ أُرْجُوزَةٌ فِي "المَقصُوْرِ وَالمَمْدُوْدِ"، وَأُخْرَى فِي "عِلمِ الخَطِّ"، وَاختصرَ كِتَابَ "إِصْلاَحِ المَنطِقِ" لابْنِ السِّكِّيتِ.
وَقِيْلَ: إِنَّ الحَيْصَ بَيْصَ دَخَلَ عَلَى الوَزِيْرِ، فَقَالَ الوَزِيْرُ: قَدْ نَظمتُ بَيْتَيْنِ، فَعزِّزْهُمَا:
زَارَ الخَيَالُ نَحِيْلاً مِثْلَ مُرْسِلِهِ ... فَمَا شَفَانِي مِنْهُ الضَّمُّ وَالقُبَلُ
مَا زَارَنِي الطَّيْفُ إلَّا كَي يُوَافِقَنِي ... عَلَى الرّقاد فينفيه ويرتحل
فَقَالَ الحَيْص بَيْص بَدِيهاً:
وَمَا دَرَى أَنَّ نَوْمِي حيلةٌ نُصِبَتْ ... لِوَصْلِهِ حِيْنَ أَعْيَا اليَقْظَةَ الحِيَلُ
قَالَ أَبُو المُظَفَّرِ سِبْطُ ابْنِ الجَوْزِيِّ: وَقَدِ اضطرَّ وَرثَةُ الوَزِيْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ إِلَى بَيْعِ ثِيَابِهِم وَأَثَاثِهِم، وَبِيعَتْ كُتُبُ الوَزِيْرِ المَوْقُوْفَةُ عَلَى مَدرَسَتِهِ، حَتَّى لَقَدْ أُبِيْعَ البُسْتَانُ لأَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ فِي الرَّقَائِقِ بِخَطِّ مَنْسُوْبٍ وَكَانَ مُذَهَّباً بِدَانِقَيْنِ وَحَبَّةٍ، وَقيمَتُهُ عَشْرَةُ دَنَانِيْرَ، فَقَالَ وَاحِدٌ: مَا أَرخصَ هَذَا البُسْتَانَ! فَقَالَ جَمَالُ الدِّيْنِ بنُ الحُصَيْنِ: لِثِقَلِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَرَاجِ يُشِيرُ إِلَى الوَقْفِيَّةِ فَأُخِذَ وَضُرِبَ وَحُبِسَ.

قُلْتُ: وَزَرَ بَعْدَهُ الوَزِيْرُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بنُ البَلَدِيِّ، فَشرَعَ فِي تَتَبُّعِ بَنِي هُبَيْرَة، فَقَبَضَ عَلَى وَلَدَي عَوْنِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ وَظَفرٍ، ثُمَّ قَتَلَهُمَا، وَجَرَى بَلاَءٌ عَظِيْمٌ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ بِمَنِّهِ.
قَرَأْتُ عَلَى أَحْمَدَ بنِ إِسْحَاقَ بنِ الوَبْرِيِّ، أَخبركَ الحَسَنُ بنُ إِسْحَاقَ الكَاتِبُ، أَخْبَرَنَا أَبُو المُظَفَّرِ يَحْيَى بنُ مُحَمَّدٍ الوَزِيْرُ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى المُقْتَفِي لأَمْرِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ العَبَّاسِيِّ، حدَّثَكُم أَبُو البَرَكَاتِ أَحْمَدُ بن عبد الوَهَّابِ السِّيْبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الصريفيني وَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ أَخْبَرَنَا المُبَارَكُ بنُ أَبِي الجُوْدِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ أَبِي غَالِبٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ عَلِيٍّ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ المُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ الحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا عِيْسَى بنُ مُسَاوِرٍ، حَدَّثَنَا يَغْنَمُ بنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "طوبى لمن رآني وَآمَنَ بِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي"
هَذَا الحَدِيْثُ تُسَاعِي لَنَا، لَكنَّهُ وَاهٍ لِضَعْفِ يَغْنَمَ، فَإِنَّهُ مجمع على تركه.
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.

 

يحيى بن محمد بنِ هُبيرة، الوزيرُ، العالمُ، العادلُ، صدرُ الوزراء عونُ الدين، أبو المظفر.
ولد سنة 499، دخل بغداد شابًا، وقرأ القرآن بالروايات على جماعة، وسمع الحديث الكثير من جماعة.
قال ابن الجوزي: وكان متشددًا في اتباع السنة وسير السلف، قال ابن رجب صنف الوزير كتاب "الإفصاح في معاني الصحاح" في عدة مجلدات، وهو شرح "صحيح البخاري" و"مسلم"، ولما بلغ فيه إلى حديث: "من يُردِ الله به خيرًا، يُفقهه في الدين" شرح الحديث وتكلم على معاني الفقه، وآل به الأمر إلى أن ذكر مسائل الفقه؛ المتفَق عليها، والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أفرده الناس من الكتاب، وسموه بكتاب الإنصاح، وهو قطعة منه، وهذا الكتاب صنفه في ولايته الوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب، وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث إنه أنفق على ذلك مئة ألف دينار، وثلاثة عشر ألف دينار، فاجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه، وكتب به نسخة لخزانة المستنجد، وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها، فاستنسخوا لهم نسخًا، ونقلوها إليهم، حتى السلطان نور الدين الشهيد، واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على اختلاف مذاهبهم، يدرِّسون منه في المدارس والمساجد، ويعيده المعيدون، ويحفظ منه الفقهاء. وله مؤلفات كثيرة غير ذلك، وصنف كتاب "العبادات الخمس" على مذهب الإمام أحمد، وحدث به بحضرة من أئمة المذاهب.
وكان في أول أمره فقيرًا، فاحتاج إلى أن دخل في الخدم السلطانية إلى أن استدعاه المقتفي بالله، وقلده الوزارة، وخلع عليه، وخرج في أبهة عظيمة، ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم بين يديه، وهو راكب إلى الإيوان في الديوان، وحضر القراء والشعراء، وكان يومًا مشهودًا، وخوطب: بالوزير العالم العادل عون الدين جلال الإسلام الصفي الإمام شرف الأنام معز الدولة مجير الملة عماد الأمة مصطفى الخلافة تاج الملوك والسلاطين صدر الشرق والغرب سيد الوزراء ظهير أمير المؤمنين، انتهى.
قال محرر هذه السطور: وحالي صارت كحاله في هذه الحال، فإني كنت إمرأً فقيرًا في أول أمري، واحدًا من الخدم الرياسية [الدولة] منسلكًا في زمرة الإنشاء، ثم في نظارة المدارس إلى أن اقتنت الرئيسة إياي من بينهم لهذا الشأن الذي تراه، وعملت في هذه الحالة تفسيرًا في أربع مجلدات، وأنفقت عليه من المعلوم ما بلغ خمسًا وعشرين ألفًا [ربية]، ولله الحمد.
قال ابن رجب: ولما ولي الوزارة، بالغ في تقريب خيار الناس من المحدِّثين والفقهاء والصالحين، واجتهد في إكرامهم، وإيصال النفع إليهم، وارتفع به أهل السنة غاية الإرتفاع. قال ابن الجوزي: وكان إذا استفاد شيئًا، قال: أفادنيه فلان. وكان بعض الفقراء يقرأ القرآن في داره كثيرًا، فأعجبه، فقال لزوجته: أريد أن أزوجه ابنتي، فغضبت الأم من ذلك.
وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر، وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء، وقال: ما وجبت عليَّ زكاة قط. قلت: وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
يقولون يحيى لا زكاةَ لمالِه ... وكيفَ يزكِّي المالَ مَنْ هو باذِلُهْ
إذا دار حولٌ لا يُرى في بيوته ... من المال إلا ذكرُه وفضائلُهْ
وكان يتحدث بنعم الله تعالى عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم، ويجتهد في اتباع الحق، ويحذر من الظلم، ولا يلبس الحرير، وكان مبالغًا في تحصيل التعظيم للدولة العباسية، قامعًا للمخالفين بأنواع من الحيل.
قال صاحب سيرته: وكان لا يلبس ثوبًا يزيد فيه الإبريسم على القطن، فإن شك في ذلك، سل من طاقاته، ونظر هل القطن فيه أكثر أم الإبريسم؟ فإن استويا، لم يلبسه، قال له بعض الفقهاء: يا مولانا! إذا استويا، جاز لبسُه في أحد الوجهين لأصحابنا، فقال: إني لا آخذ إلا بالأحوط. وذكر يومًا بين يديه أنه كان للصاحب ابن عباد دست من ديباج، فقال: قبيحٌ والله بالصاحب أن يكون له دستٌ من ديباج؛ فإنه وإن كان زينة، فهو معصية ومحنة. وقال ابن الدبيتي في "تاريخه": كان فاضلاً عالمًا عاملًا، ذا رأي صائب، وسريرة صالحة، وكان يقرأ عنده الحديث عليه وعلى الشيوخ بحضوره، ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره وكان مقربًا لأهل العلم والدين.
وقال ابن القطيعي: كان جميل المذهب، شديد التظاهر بالسنة، ومن كثرة ميله إلى العمل بالسنة، كان كلما اجتاز في سوق بغداد، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وللوزير من الكلام الحسن، والفوائد المستحسنة، والاستنباطات الدقيقة من كلام الله ورسوله ما هو كثير جدًا، وله في أصول السنة وذم مَنْ خالفها شيء كثير.
قال ابن الجوزي في "المقتبس": سمعته يقول في قوله تعالى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر: 37] ليس هذا بإجابة سؤاله، وإنما سأل الإنظار، فقيل له: كذا قدر، لا أنه جواب سؤالك، لكنه ما فهم، وسمعته يقول في قوله تعالى {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أهل التفسير يقولون: ساترًا، والصواب حمله على ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورًا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ. قال: وقد تدبرت قوله تعالى {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه} [الكهف: 39] فرأيت ثلاثة أوجه: أحدها: أن قائلها يتبرأ من حوله وقوته، ويسلم الأمر إلى الله، والثاني: أن يعلم أنه لا قوة للمخلوقين إلا بالله، فلا يخاف منهم؛ إذ قواهم لا تكون إلا بالله، وذلك يوجب الخوف من الله وحده، والثالث: أنه رد على الفلاسفة والطبائعين الذين يدعون القوى في الأشياء بطبعها؛ فإن هذه الكلمة بينت أن القوى لا تكون إلا بالله، وسمعته يقول في قوله تعالى {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97] قال: التاء من حروف الشدة، تقول في الشيء القريب: ما اسطعته، وفي الشديد: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه لقوته وشدته.
قال ابن الجوزي: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على ما دخل فيه، ثم صار يسأل الله - عز وجل - الشهادة، ويتعرض لأسبابها، وكان ليس به بأس، فنام ليلة في عافية، فلما كان وقت السحر، قاء، فحضر طبيب كان يخدمه، فسقاه شيئًا، فيقال: إنه سَمَّه، فمات، وسُقي الطبيبُ بعده بنحو ستة أشهر سُمّاً، فكان يقول: كما سَقَيت سُقيت، فمات سنة 560. ومن إنشاده:
وكَمْ شامِتِ بي بعدَ موتي جاهل ... بظلم يسلُّ السيفَ بعدَ وفاتي
ولو علمَ المسكينُ ماذا ينالُه ... من الضُّرَّ بعدي ماتَ قبل مماتي
قال ابن زفر: رأيت بالمنام - وأنا بأرض جزيرة ابن عمر - كأن جماعة من الملائكة يقولون لي: قد مات في هذه الليلة ببغداد وليٌّ من الأولياء، فاستيقظت منزعجًا، وحدثت بالمنام الجماعة الذين كانوا معي وأرَّخنا تلك الليلة، فلما قدمت بغداد، سألت: من مات في تلك الليلة؟ فقيل لي: مات بها الوزير عونُ الدين بنُ هبيرة.
قال مصنف السيرة: ولو استقصيت ما ذكر له من المنامات الصالحة، لجاءت بمفردها كتابًا ضخمًا. وقد أطال ابن رجب في ترجمته الشريفة إلى أوراق، وختمها بذكر حديث أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزدادُ الأمرُ إلا شدة، ولا يزداد الناسُ إلا شُحّاً، ولا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس"، رواه بسنده، وقال: وفي هذا الإسناد سلسلة عجيبة بالحفاظ والملوك.
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.

 

ابن هُبَيْرَة
(499 - 560 هـ = 1105 - 1165 م)
يحيى بن (هبيرة بن) محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر، عون الدين،:
من كبار الوزراء في الدولة العباسية. عالم بالفقه والأدب. له نظم جيد. ولد في قرية من أعمال دُجيل (بالعراق) ودخل بغداد في صباه، فتعلم صناعة الإنشاء، وقرأ التاريخ والأدب وعلوم الدين.
واتصل بالمقتفي لأمر الله، فولاه بعض الأعمال، وظهرت كفاءته، فارتفعت مكانته. ثم استوزره المقتفي (سنة 544 هـ وكان يقول: ما وزر لبني العباس مثله. وهو الّذي لقبه بعون الدين، وكان لقبه جلال الدين، ونعته بالوزير العالم العادل. وقام ابن هبيرة بشؤون الوزارة حكما وسياسة وإدارة، أفضل قيام. وتوفرت له أسباب السعادة. ولما توفي المقتفي وبويع المستنجد، أقره في الوزارة، وعرف قدره، فاستمر في نعمة وحسن تصرف بالأمور، إلى أن توفي ببغداد.
وكان مكرما لأهل العلم، يحضر مجلسه الفضلاء على اختلاف فنونهم.
وصنف كتبا، منها " الإيضاح والتبيين في اختلاف الأئمة المجتهدين - خ " و " الإشراف على مذاهب الأشراف - خ " فقه، و " الإفصاح عن معاني الصحاح - ط " الجزآن الأول والثانى، و " المقتصد " في النحو، شرحه ابن الخشاب في أربع مجلدات، و " العبادات في الفقه على مذهب أحمد، و " اختلاف العلماء - خ " في خزانة بغداد لي وهبي أفندي. رقم 411 عمومي. وأرجوزة في " المقصور والممدود " وأرجوزة في " علم الخط " واختصر " إصلاح المنطق " لابن السكيت.
وأخباره كثيرة جدا. ولابن المرستانية (عبيد الله بن علي) كتاب في " سيرته " نقل عنه ابن خلكان وابن رجب. وكان ابن الجوزي من تلاميذه، فجمع بعض فوائده وما سمع منه، في كتاب " المقتبس من الفوائد العونية " نسبة إلى لقبه " عون الدين " وأورد له كلمات مختارة، منها: " احذروا مصارع العقول، عند التهاب الشهوات " وذكر له شعرا، منه قوله:
" والوقت أنفس ما عنيت بحفظه، ... وأراه أسهل ما عليك يضيع " وأشار " ابن رجب " إلى كثرة ما مدحه به الشعراء، وأن قصائدهم جمعت في مجلدات، فلما بيعت كتبه، بعد موته، اشتراها حاسد له، فغسلها .

-الاعلام للزركلي-