داود باشا
تاريخ الولادة | 1188 هـ |
تاريخ الوفاة | 1267 هـ |
العمر | 79 سنة |
مكان الوفاة | المدينة المنورة - الحجاز |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
داود باشا:
والي بغداد. كرجيّ الأصل، مستعرب. جلبه بعض النخاسين إلى بغداد وعمره 11 سنة فاشتراه أحد الولاة (سليمان باشا) وعلّمه، فقرأ الأدب العربيّ والفقه والتفسير، ونثر ونظم باللغات العربية والتركية والفارسية. وأجازه علماء العراق. وتقدم في الخِدَم السلطانية إلى أن جعله سعيد باشا (ابن سليمان باشا) قائدا لجيش العراق (كتخدا) سنة 1229 هـ وكانت الفوضى عامة، فقمعها. وقوي شأنه، وخافه سعيد باشا فعمل على التخلص منه ولو بالقتل. وشعر داود، فترك بغداد وقصد كركوك (1231) وكتب إلى الآستانة، فجاءه (الفرمان) بولاية بغداد وعزل سعيد، فعاد إليها (1232) ونظم أمورها بعد أن قتل سعيدا وآخرين. وطمح إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، فجلب الصناع من أوربة، وأمر بعمل المدافع والبندقيات في العراق، وبلغ جيشة أكثر من مئة ألف. واستولى على الأحساء أيام كان إبراهيم (باشا) ابن محمد علي يتوغل في نجد. وطمع بالاستيلاء على بلاد فارس ولم يتهيأ له ما تهيأ لمحمد علي بمصر من الاستقلال، فإنه لما استفحل أمره وجّه إليه السلطان محمود جيشا في نحو 20 ألفا وانتشر الطاعون في داخل بغداد، فكان يموت كل يوم ألوف، وقيل: مات به من أولاد داود لصلبه عشرة أولاد يركبون الخيل. فانكسرت نفسه، وصالح قائد الجيش على أن يسلمه بغداد ويرحل إلى الآستانة. ورحل (سنة 1247 هـ فأكرمه السلطان محمود ثم ابنه السلطان عبد المجيد، ولقب بشيخ الوزراء.
وأرسله عبد المجيد شيخا للحرم النبويّ سنة 1260 فظل في المدينة، مشتغلا بالعلوم والتدريس إلى أن توفي، ودفن في البقيع. ومن آثاره فيها البستان المعروف بالداودية. وعلى اسمه ألّف عثمان بن سند البصري كتابه (مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود) واختصره أمين بن حسن الحلواني، والمختصر مطبوع وفيه زيادات على الأصل. وعنه أخذنا هذه الترجمة بتصرف .
-الاعلام للزركلي-
داود باشا والي مدينة بغداد دار الخلافة العباسية
الإمام الألمعي، والهمام اللوذعي، حبر العلماء، وبحر اغتراف الفضلاء، ولد سنة ألف ومائة وثمان وثمانين، وهو من الكرج، ثم لما صار عمره إحدى عشرة سنة جلبه بعض النخاسين إلى بغداد، فاشتراه مصطفى بيك الربيعي ثم اشتراه منه سليمان باشا والي بغداد، فرباه وأحسن تربيته، وعلمه القرآن والكتابة وأنواع العلوم، إلى أن شهد له الخاص والعام، بأنه فاق في زمانه على العلماء الأعلام، وقد جود القرآن العظيم على شيخ القراء في بغداد محمد أمين أفندي الموصلي، ثم قرأ علم النحو والصرف على المنلا حسن بن محمد علي الزوزوجي، وقرأ المطول على المنلا محمد أسعد بن عبيد الله، وقرأ على الحافظ أحمد مدرس السليمانية علوماً جمة، منها علم التصوف والحقائق، وقرأ أيضاً المطول، وعلم آداب البحث والمناظرة وعلم البيان والمعاني، وشرح المواقف على المنلا أسعد بن عبيد الله بن صبغة الله مفتي الحنفية والشافعية في بغداد، وعليه تخرج في سائر العلوم، وعد من كمل الرجال أهل الكمالات الموصوفين بالدقة وعلو الفهم والمباحثة والمناظرة، وقرأ أيضاً على صبغة الله بن مصطفى الكردي، وأجازه المذكورون وغيرهم بالإجازة الخاصة والعامة. ومن جملة من أجازه أيضاً الإمام العالم العلامة السيد زين العابدين بن جمل الليل المدني، والإمام الفاضل الشيخ علي بن محمد السويدي البغدادي الشافعي، وغيرهم، وقد أخذ عن المترجم جماعة سادة، وجملة قادة، منهم السيد محمود البرزنجي قرأ عليه أنواع العلوم، وانتفع به إلى أن صار من أفاضل العلماء، وصفوة الفضلاء، المشار إليهم في العراق، ومحمد أفندي ابن النائب البغدادي وغيرهما ممن يطول ذكره.
وكان المترجم المذكور حسن الأخلاق جميل المحاضرة، كثير العطايا دائباً على البحث والمذاكرة في العلوم الشرعية والعقلية، ولما صار عمره سبعاً وعشرين سنة تولى الخازندارية لسليمان باشا والي بغداد. ولم يزل يترقى على درج الصعود، وتلحظه عين العناية بأنواع الحظ والسعود، إلى أن آلت ولاية بغداد إلى سعيد باشا بن سليمان باشا، وذلك سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف. وكان الأمير في ذلك الوقت على عرب المنتفق حمود بن ثامر بن سعدون بن محمد بن مانع الشبيبي، وكان من فرسان العرب وأذكيائهم ودهاتهم، وكان مكاراً، وله وقائع وأيام مشهودة أقر له فيها أخصامه وأضداده، وأمور غريبة يطول الكلام عليها، فلما تولى سعيد باشا صار أمره بيد حمود، حتى ما كأنه إلا طفل صغير تحت تصرف وصيه أو وليه، ولهذا أعطاه سعيد باشا ما في جنوب البصرة من القرى جميعها، وهو يقارب ثلث إيراد العراق فطار صيت بني المنتفق في البلاد، وأطاعهم الحاضر والباد، ونفذت أقوالهم، واتسعت أموالهم، وقصدهم الشعراء من جميع النواحي والأقطار، وأجازوهم بما يفوق جوائز ملوك الأمصار، إلى أن قصر مدح الناس عليهم، وصار لا يسمع بين الناس ثناء إلا وهو مصروف غليهم، ولم يزل حمود عند سعيد باشا في بغداد يرفع مكانه، ويشيد بنيانه، إلى أن تثبت في القلوب قدره، واعتدل بين الأهالي أمره، فعلا حمود إلى مقره، ولكن لا زال زمام سعيد باشا بيده من سره وجهره، فلا يفعل سعيد باشا شيئاً إلا بعد استئذانه، فازداد بنو المنتفق من الطغيان، وامتدت يدهم على الناس بالظلم والعدوان، فنقم الناس على الباشا المرقوم، وضاقت صدورهم من فعله المذموم، وفي سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، جعل الباشا المرقوم حضرة المترجم كتخداه ورئيس عساكره، فنهض نهوض الأسد، وتهدد الأعراب والطغاة بما يوقعهم في النكد، ومن أقبهم خزاعة وزبيد وشمر وآل الضفير، فإنهم منعوا الخراج ونبهوا القرى وقطعوا السبيل حتى إن بعضهم حاصر كربلا مدفن سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه، وكان إذ ذاك في كلابلاء نحو الأربعين ألفاً من زوار العجم، ومعهم حرم شاه العجم، فلما بلغ الوالي إفساد العربان حول كربلاء، خاف أن يصيب الزوار ضرر فيرجع عليهم شاه العجم بالويل والثبور، وعظيم الأمور، وتلومهم الدولة على الإهمال، وعدم الاعتناء فيما يلزم من الأعمال، حتى آل الأمر إلى ذلك، وأدى إلى الوقوع في المخاطر والمهالك، فتوجه أمير العساكر المترجم المرقوم بعساكر وافرة، ونزل الحلة ووقع بينه وبين العصاة حروب قاهرة لهم وكاسرة، فركنوا إلى الفرار، وتشتتوا في القفار، فأرسل بعض عساكره إلى كربلا، لتأمين الزوار وحفظهم من بلاء أولئك الملا، ولم يزل محافظاً لهم إلى أن وصلوا إلى مأمنهم، واطمأنوا من وقوع شيء بهم، ثم توجه الكتخدا، داود باشا المرقوم بعساكره إلى خزاعة، فقابلوه جميعاً بالخضوع والطاعة، وفي أثناء الطريق عزل شيخ زبيد المختال، ووضع مكانه سفلح بن شلال، ثم أرسل وراء كثير من العربان، وعاقبهم على ما كان منهم من العدوان، وشن الغارة على أهاليهم، وغنم مواشيهم وصال على أدانيهم وأعاليهم، وسار إلى أن نزل بأرض الديوانية مقر العشيرة الروافض الخزاعية، فصار للمترجم شهرة في الآفاق، وعلا ذكره في الإقدام وفاق، ورأى الناس من عدالته وشهامته وشجاعته ومروءته ما لم يروه من ذي الأحكام المتقدمين على مدته، مع النصح للأمة وعدم الطمع فيما في أيدي الناس والعفة والصيانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التقوى والديانة، ولم يقبل من أحد رشوة ولا هدية ولا يسمع في عساكره وقوع شيء من ذلك بالكلية، بل كل واحد ممن يلوذ به عارف حده، وواقف عنده، ومع كثرة حروب المترجم المرقوم، لا يرى في وقت غير مشتغل بالمعارف والعلوم، مع تلامذته الملازمين له في السفر والحضر، والمتحلين من بحور لآلئه بعقود الدرر، وطلب بقية الأعراب منه الأمان، بعد أن أذاقهم من حروبه كؤوس الذل والهوان ولم يزل المترجم ساعياً لسعيد باشا بالتأييد والنجاح، والنصح والصلاح، مع الصدق والأمانة، والعفة والصيانة، وكان يعرف الوالي دائماً بدسائس ذوي الفساد، وينبهه على مرادهم من البغي والعناد، فداخلهم الحسد، ونصبوا للمترجم شرك النكد، وأرادوا إتلافه على كل حال، وشرعوا في إيقاعه في مهاوي النكال، وكان المترجم يتحمل ذلك لما لوالد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ". لد الوالي عليه من الحقوق المشهورة، ويقول " يريدون ليطفئوا نورا لله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ".
ولما اشتد غيظ الأعداء والحساد، قالوا للوالي إن مراد داود قتلك والاستيلاء على بغداد، وأنت تعلم أن جميع العساكر في قبضته، والأهالي كلهم متفقون على محبته، وأتوا بمن شهد على ذلك عند الوزير، وقالوا إن داود باشا وعدنا على قتلك بمال كثير، ونحن لحبنا لك وخوفنا عليك، كشفنا لك عن هذا الأمر وأبديناه إليك. وعظموا الأمر لديه، وأكثروا من إقامة البراهين بين يديه، فدخل على الوالي رعب عظيم، وخوف جسيم، ثم إنه اتفق مع هؤلاء المنافقين بأنهم يرسلون خبراً من طرف الوالي للمترجم بالحضور لمذاكرة في قضية، فإذا حضر أذاقوه في الحال كؤوس المنية، فبلغ المترجم جميع ما اتفقوا عليه، وجنح فكرهم إليه، فلم ير المترجم أحسن من الفرار والتحصن في بعض الحصون، خوفاً من هذه المضار، فخرج من بغداد وقد تزايد كربه، قائلاً " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وكان معه من جماعته نحو المائتين، ولم يزل إلى أن وصل إلى كركوك من غير ضرر ولا شين. وهناك راسل الدولة العلية، وأخبرها بما كان من سعيد باشا من الأفعال الدنية، وتضييع حقوق الدولة، ومعالمة الأعداء بما يوجب لهم كل قدر وصولة، وكشف لها عن سوء سياسته، وعن عكس معرفته وفراسته، وعن تقليده أزمة الممالك المهمة لأعراب البادية، أهل النهب والسلب والظلم واليد العادية. وكان للمترجم عبارات عالية، وأساليب في الكتابة سامية، وكان له اليد الطولى في التركية والفارسية والعربية، وله النظم والنثر والكتابة في هذه اللغات كلها على أتم حالة سنية، وكانت تشهد له الأفاضل بأنه إمام همام كامل، فلما وصلت رسالته إلى الدولة العلية، تحيروا من فصاحتها وبلاغتها وما اشتملت عليه من الأمور السياسية، فعلموا أن الذي يكتب مثل هذه التحريرات، ويسطر مثل هذه التسطيرات، هو الأحق والأحرى بالإسعاف والإسعاد، بالتولية على ولاية بغداد، فما كان من الدولة العلية إلا أنها بادرت بإرسال الفرمان، العالي الشان، الواجب الإطاعة على كل إنسان، إلى داود باشا ذي القدر المصان، ومضمونه عزل سعيد باشا عن تولية بغداد، وتولية داود باشا بدله على تلك البلاد. فلما وصل الفرمان إليه قرأه علناً على رؤوس ذوي الطاعة والشقاق، ثم أرسل صورته إلى حمود بن ثامر لأنه هو المقيم المقعد في أرض العراق، وذلك لأجل أن يعلم أن سعيد باشا قد فاته المرام، وترتفع عنه برؤية صورة الفرمان الشكوك والأوهام، خصوصاً وهو أكبر أعداء المترجم وأكبر أسباب الفاسد والمكر الذي تقدم.
فلما وصلت صورة الفرمان إلى حمود بن ثامر، طرحها على الأرض وأهملها إهمال المستهزىء الساخر. فتعجب قومه من إهماله ونبذ الطاعة، ونصحوه بأن أمر السلطان لا يلقى في أودية الإضاعة، ومخالفة أوامر الدولة أمرها وخيم، وخطرها عظيم، وأن الأمر منوط بك فسعيد باشا لا ينظر إلا إليك، ولا يعول في قبوله وعدمه إلا عليك، والأولى أن تنصحه بالقبول والطاعة وعدم القتال، لأن خصمه رجل مطاع ولو قدم على العراق بمفرده لأطاعه النساء والرجال، خصوصاً وقد حوى من العقل وحسن السياسة ووفور الخديعة والدهاء نصيباً عظيما، ومن الشجاعة والقوة وثبات الجنان حظاً جسيماً، فما بالك لو جر معه عسكراً من الأكراد، وقدم بهم وبغيرهم إلى بغداد، فهل يعارضه من أحد، مع أن الأهالي جميعاً يحبونه محبة الوالد للولد، فلما أكثر على حمود أعمامه وإخوانه وأولاده النصائح، رجع إلى رأيهم، وقال قد اعترفت أنه رأي صالح، وأرسل إلى سعيد باشا ونصحه بالطاعة وترك القتال، والانقياد لأوامر الدولة العلية والامتثال، فأبى سعيد باشا قبول هذا الكلام، وصغى إلى قول من أشار عليه بالعناد والخصام، وما قصدهم بالحرب إلا النهب وأخذ الأموال، وتخريب البلاد وقتل الرجال، فلما رأى حمود مخالفة سعيد باشا له عرف أنه لا طاقة له على مبارزة داود وأن من حسن له أمر المخالفة فقد حسن له المذموم لا المحمود، ففر من منزله ورجع إلى وطنه ومقره، وترك سعيد باشا يتقلب على فرش ضره. وتوجه داود باشا من الكركوك إلى بغداد، ومعه نحو الألفين من الأكراد، فخافته العباد، وهابته البلاد، فلما قرب من الزوراء، وقع بين الأهالي ثورة عظيمة وغوغاء، ومرادهم إخراج سعيد باشا بالتي هي أحسن، فدخل سعيد باشا القلعة وبها تحصن، فأرسل أهال بغداد لداود باشا بالدخول، وأنه هو حاكمهم وراعيهم والمحاسب عنهم والمسؤول.
فدخل بغداد بعد الظهر خامس ربيع الثاني سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف، ووفد عليه العلماء والفضلاء وهنأه الأدباء والشعراء، لأنه هو الذي كان يعرف مقامهم، وينشر بين الناس أعلامهم، ويكرمهم غاية الإكرام، ويعاملهم بالإحسان والإنعام، فلما استقر في مركز الحكومة، خمدت الشرور والفتن، ورجع إلى الصواب من كان افتتن، وأمنت الطرقات وذهبت المخوفات، وارتاح أهل الكمال، وتعب ذوو الغرور والوبال، لعلمهم أنه ظهر الذي يعاقب المجرمين، ويحسن إلى المحسنين، فرفع أهل الفضائل والعلوم، ونفذ أوامر الدولة حسب الأمر المرسوم. وبعد استيلاء المترجم المرقوم على بغداد، قتل سعيد باشا الوزير السالف، وكان قتله على مراد الوزير داود باشا المترجم وبإشارته. وذكر الشيخ عثمان بن سند البصري أن حضرة العارف بالله الشيخ خالد الحضرة النقشبندي المتقدم الترجمة في حرف الخاء، قد مر على بغداد سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف في أيام ولاية المترجم، فبلغ المترجم أن الشيخ المرقوم عليه ديون، فأمر بوفائها وكانت ثلاثين ألف غازي محمودي كبير، وصرفها الوالي دفعة واحدة، وهذا أمر نادر قل ما يوجد له نظير، وغب سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف تمت سلطنته، وتناهت قوته، وأطاعه جميع أهالي العراق من حاضره وباديه وكرده وعجمه، وقد تاقت نفسه لأن يكون سلطاناً مستقلاً، وقد جلب الصنائع والصناع إلى بغداد من أهل أوربا، بل ومن سائر الأقطار، وأخذ في أسباب التمدن والعمران، وأمر بصنعة المدافع والبنادق على الطراز الجديد، وشكل جيوشاً عسكرية منظمة بتعليمات مخصوصة اخترعها لهم، إلى أن بلغت جيوشه أكثر من مائة ألف، وبهذه الجيوش والاستعداد طمع في أنه يستولي على جميع آسية الصغرى والكبرى، وكان دائماً مطمع أنظاره الاستيلاء على بلاد العجم، وقد داخلهم الرعب والخوف منه ومن جيوشه ومن تعليماتهم الغريبة الأشكال والأوضاع، ولكنه لم تساعده المقادير كما ساعدت محمد علي باشا على ولاية مصر، فإن داود باشا بينما هو في هذه الأبهة والسلطنة والاستقلال، والخروج عن طاعة الدولة العلية، إذ أرسل عليه السلطان محمود خان العثماني جيشاً نحو العشرين ألفاً، ورئيسهم علي باشا اللاظ، فلما قرب من بغداد ضحك داود باشا واستهزأ بهذا الجيش الضعيف الذي يريد أن يستولي على بغداد، فأخذه الغرور، فقال لو نرسل على هذا الجيش نساء بغداد لما يطيق مقاومتهن، إلا أن الوزير داود باشا لم يعلم ما هو مخبوء له في زوايا القدر، مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد. مما هو عبرة لمن اعتبر. فبينما هو مشتغل في جيوشه لمحاربة علي باشا اللاظ وأمله أسر جميع الجيش ثم الاستيلاء على ما وراءه، إذ دهمه الوباء الطاعوني داخل بغداد الذي أفنى أكثر أهلها، حتى قيل إنه كان يموت في كل يوم أكثر من عشرة آلاف نفس من داخل بغداد.
وأما جيش علي باشا اللاظ فإنه بتقدير الله تعالى لم يصبه شيء من ذلك الطاعون، وذلك تقدير العزيز العليم، وانقلب الفرح حزناً، واشتغل الصراخ في كل بيت من بيوت أهل بغداد إلا ما ندر. وقيل إن الذي مات بهذا الطاعون من أولاد داود باشا لصلبه أكثر من عشرة أولاد الذين يركبون الخيل، فانكسرت شوكته، وانحلت قوته، وداخله الهم، ولازمه الغم، وانحل عضده وانفل جيشه، البعض بالموت والبعض بالهرب والفرار، إلى البوادي والقفار، وذلك سنة ألف ومائتين وسبع وأربعين، فلما طلب علي باشا اللاظ، المحاربة معه لم يسعه إلا المصالحة، على أنه يسلم إلى علي باشا بغداد بما فيها، وداود باشا يرتحل إلى الآستانة ويستقيم بها، فسافر داود باشا إلى الآستانة واستقام بها إلى سنة ستين ومائتين وألف، وكان معظماً عند السلطان محمود، ثم عند ابنه السلطان عبد المجيد ورجال دولته لكبر سنه ولطول زمانه في الوزارة مع كمال عقله، ووفور رأيه، حتى إن كسوته الرسمية يوم العيد مكتوب على صدرها شيخ الوزراء بالطراز الملوكاني المذهب، لأن هذا كان لقبه خاصة، ثم إن السلطان عبد المجيد أرسله سنة ستين ومائتين وألف شيخاً على الحرم النبوي، فاشتغل هناك في العبادة، وتفرغ لها فوق العادة، وكان مرجع الخاص والعام، فيما يشكل على العلماء الأعلام، وقرأ بها للطلبة كثيراً من الكتب والفنون النادرة، وانتفع به العموم فيما يتعلق بدنياهم والآخرة. وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف ذهبت مع والدي إلى الحجاز الشريف، فاجتمعت مع والدي به في المدينة الشريفة، وكان رجلاً كبيراً مهاباً عليه سيما الفضل والصلاح، وله خضوع وذل وسكينة وتواضع. وكان يمضي بينه وبين والدي الوقت الطويل في المذاكرة، وقد تبركت به وبدعواته. وفي ليلة عاشوراء حين قراءة المولد النبوي الشريف بين العشائين أمرني والدي بقراءة عشر من القرآن، وكان المسجد قد غص بأهله، وكان قد حضره كذلك المترجم المذكور، وكان جلوسه بجانب والدي في الجهة الشمالية من الحرم الشريف متوجهين إلى القبلة، فغب قراءة العشر وإتمام المولد قبلت يده، فدعا لي وبش في وجهي وأظهر لي الالتفات والمحبة، وكان قد أخبر أن مراده أن يفتح مدرسة بأمر الدولة في المدينة للإفادة والاستفادة في سائر العلوم والفنون، ولكن اخترمته المنية قبل تمكنه من ذلك في تلك السنة، وهي سنة سبع وستين ومائتين وألف، ودفن في البقيع الشريف تجاه قبة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأمر أن لا يبنى عليه تأبيت ولا قبة اتباعاً للسنة، فجعلوا له شباكاً من الحديد حول قبره. ومن آثاره بالمدينة البستان المعروف بالداودية خارج المدينة، بقرب سيدنا محمد الزكي عند منهل العين الزرقاء. ولما أتم بناءه وغرسه أرخه شاعر العراق بالاتفاق الشيخ صالح التميمي بقصيدة، وجعل آخرها تاريخاً، وهو قوله: تاريخه غرسه فأعجب داود باشا وأعطاه جائزة ألف ريال، كانت هكذا سماحته وقد مدحه الشاعر اللبيب، والناثر الأديب السيد عبد الباقي العمري، بمدحية غريبة، وقصيدة عجيبة، ملتزماً بها لفظه الخال باختلاف معانيها فقال:
إلى الروم أصبو كلما أومض الخال ... فأسكب دمعاً دون تسكابه الخال
وعن مدح داود وطيب ثنائه ... فلا القد يثنيني ولا الخد والخال
مشير إلى العليا أشار فطأطأت ... وأصبح مندكاً لهيبته الخال
مناصبها انقادت لأعتاب بابه ... كما انقاد مرتاحاً إلى العطن الخال
وقد نالها إذ أوتي الحكم حكمة ... إلهية فصل الخطاب لها خال
مليك ملاك الأمر والنهي كله ... إليه انتهى والحكم في الأرض والخال
حكى نهر طالوت ببسطة علمه ... وفي فضله ذاك الفتى الماجد الخال
توسم عرافاً بسيماه دهره ... فخوله النعمى وما كذب الخال
وصدق فيه ما تخيله النهى ... وفيما سواه قل ما يصدق الخال
فيا لرجال من علاه تفرسوا ... أغر عليه من نسيج العلا خال
إذا اعتركت أراؤهم عرضت لهم ... كتائب رأي من نهاه لها خال
عصامي نفس سودته جدوده ... فلا الجد يجديه ولا العم والخال
له العلم خدن والكمال منادم ... وحسن السجايا والحجا الخل والخال
هو الصدر منه القلب كالصخر في الوغى ... إذا طاش في غلوائها الوكل الخال
ودهم الليالي إن تمادى جماحها ... فهمته الكبرى الشكيمة والخال
توهم قوم أن يجاروه في العلا ... فلم يجدهم ذاك التفكر والخال
يشق على من لا يشق غباره ... رهان الذي عن شوطه عاقه الخال
عفا الله عنه قد عفت بعد بعده ... من البلدة الزورا المعالم والخال
وهيهات ما دار الرصافة بعده ... وما الكرخ إلا السبسب القفر والخال
ولكن بهذا العصر أمست كجنة ... بها تتباهى ربوة الشام والخال
ورضوانها اليوم النجيب مشيرها ... يحافظها مولى عليها هو الخال
عظيم وقالوا لو تراءى ليذبل ... تصاغر منحطاً وطاوله الخال
حماها حماه الله من كل ريبة ... تشين علاه فهو من ريبة خال
فلا زال كل منهما طود رفعة ... يلوح عليه مع تواضعه الخال
وإني وإن كنت الرديف نظامه ... لمسبوقة حسن الروي لها الخال
فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة ... يعارضها حتى يصاحبه الخال
حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر - ابن إبراهيم البيطار الميداني الدمشقي.