تنكز الأشرفي الناصري أبي سعيد سيف الدين

تاريخ الوفاة741 هـ
مكان الوفاةالإسكندرية - مصر
أماكن الإقامة
  • الكرك - الأردن
  • حلب - سوريا
  • حماة - سوريا
  • دمشق - سوريا
  • القاهرة - مصر
  • مصر - مصر

نبذة

تنكز: الأمير الكبير المهيب العادل الفريد سيف الدين أبو سعيد الأشرفي الناصري، نائب السلطنة بدمشق. جلب إلى مصر وهو حدث فنشأ بها. وكان أبيض إلى السمره، كأن وجهه عليه حسن القمر وسعد الزهره، رشيق القامه، متوسط الهامه، مليح الشعر، لا يحسن وصفه من شعر.

الترجمة

تنكز
الأمير الكبير المهيب العادل الفريد سيف الدين أبو سعيد الأشرفي الناصري، نائب السلطنة بدمشق.
جلب إلى مصر وهو حدث فنشأ بها. وكان أبيض إلى السمره، كأن وجهه عليه حسن القمر وسعد الزهره، رشيق القامه، متوسط الهامه، مليح الشعر، لا يحسن وصفه من شعر، خفيف اللحية والشارب، يهتز إذا خطا من وسطه إلى السنام والغارب، قليل الشيب، بعيد من الخنا والفاحشة والريب، يملك نفسه عند المحارم، ويعد مغانم الفاحشة من المغارم، يذوب وجداً في هواه ويفنى غراما، ولا يرتكب - مع القدرة - حراما. يعظم الشرع الشريف ولا يخرج عن حكمه، ويوقر من يراه من الفضلاء لعلمه، ماله لذة في غير أمن رعاياه، ومن انضوى إلى ظله أو انزوى إلى زواياه، وكانت بذلك أيامه أعيادا، ولياليه أعراسا، وأموال الناس موفرة عليهم لا تفارق منهم أكياسا، كم أخذ الناس من إمره، وما نالهم غرامة خيط في إبره. وكم باشروا ولايات، وكم وصلوا إلى عدة نيابات، وكم وصل من إقطاع، وكم حكم حاكماً فقضى وهو بأمره يطاع، وما أحد تنوبه غرامه، ولا يعرف أسد خبت من غزلان رامه.
هذا، مع معرفة ودربه، وأحكام قد سددها الله، فما نفع منه في مواطن غربه، يقرأ الموقع عليه القصة ويسكت، ويطرق بعد ذلك في الأرض ينكت، فيأخذها ويعطيها لمشد الأوقاف إن كانت تتعلق بأحكام القضاه، أو للحاجب إن كانت تتعلق بأمر يأباه ولا يرضاه، أو للصاحب إن كانت تتعلق بجامكية أو مرتب، أو لناظر الجيش إن كانت تتعلق بحدود أرض، أو من قد ظلم جنديه وتغلب، أو لوالي المدينة إن كان بعملة سرقت، أو حادثة نزلت بأحد أو طرقت. ومع هذا يقول لكل واحد منهم ما يعتمده، ويكون في حجته ومستنده، وجميع ذلك مسدد، موثق بالشرع وبالسياسة مشدد.
ولم ير الناس أعف من يده ولا من فرجه، ولا شاهدوا شمس عدل نزلت أحسن من برجه، وأطار الله طائر حرمته ومهابته في سائر البلاد، وأثار سائر معرفته بين أهل الجدال والجلاد، ولذلك كانت الأسعار رخيصه، والضعيف لا ترعد له من القوي فريصه، وسائر الأصناف موجوده، وأثمانها واقفة عند حدود محدوده.
ولهذا كتبت أنا من الديار المصرية إلى القاضي شهاب الدين بن القيسراني:
ألا هل لييلاتٌ تقضّت على الحمى ... تعود بوعد للسرور منجّز
ليالٍ إذا رام المبالغ وصفها ... يشبّهها حسناً بأيّام تنكز
وكان الأمير سيف تنكز - رحمه الله تعالى - قد جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، وبعض الناس يقول: إنه مملوك السلطان حسام الدين لاجين، والصحيح ما أخبرني به القاضي شهاب الدين بن القيسراني قال: قال لي يوماً: أنا والأمير سيف الدين طينال من مماليك الأشرف.
سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم، وسمع من عيسى المطعم وأبي بكر بن عبد الدائم، وحدث بثلاثيات البخاري، قرأها عليه المقريزي بالمدينة النبوية.
أمره السلطان الملك الناصر محمد إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك، وكان معه في الكرك، وترسل عنه منها للأفرم، فاتهمه أن معه كتباً إلى أمراء الشام، ففتشه وعرض عليه العقوبة، فحصل له منه مخافة شديدة. ولما عاد عرف السلطان ذلك، فقال له: إن عدت إلى الملك فأنت نائب دمشق. فلما عاد وجرى ما جرى، وجعل الأمير سيف الدين أرغون نائب مصر قال لتنكز ولسودي: لازما أرغون وأبصرا أحكامه، فلازماه سنة.
ثم إنه جهز سودي لنيابة حلب، وبعد ذلك جهز تنكز إلى دمشق على البريد، ومعه الحاج أرقطاي وحسام الدين البشمقدار، فوصل إلى دمشق يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وسبع مئة، وباشر النيابة، وتمكن منها، وسار بالعساكر إلى ملطية وافتتحها في شهر الله المحرم سنة خمس عشرة وسبع مئة. وعظم شأنه وهابه الأمراء بدمشق، والنواب بممالك الشام، وأمن الرعايا في مواطنهم، وتحفزت السبل، وترددت القفول من سائر الأقطار، ولم يكن أحد من الأمراء ولا من أرباب الجاه يظلم أحداً ذمياً أو غيره خوفاً منه لبطشه وشدة إيقاعه.
ولم يزل في علو وارتقاء منزلة يتضاعف إقطاعه في كل وقت، وتزيد عوائد أنعامه وخيوله وما يصل إليه من باب السلطان من القماش والجوارح والتشاريف.
وكان السلطان لا يفعل شيئاً في مصر في ملكه غالباً حتى يستشيره ويكتب إليه فيه، وقلما كتب هو إلى السلطان وسأله في شيء فرده في جميع ما يقرره من عزل وولاية في نيابة أو قضاء قضاة أو غير ذلك من إقطاع الإمرة والحلقة، ولا يعطي لأحد إمرةً صغيرة كانت أو كبيرة أو نيابةً أو قضاء قضاة أو منصباً، صغيراً كان أو كبيراً فأخذ عليه رشاً أو طلب عليه مجازاةً أو مكافأة، هذا لم نسمعه عنه في وقت من الأوقات، بل يدفع إليه المبلغ الكبير أو الملك أو غير ذلك مما هو بجمل معدودة فيردها، ويعطي ذلك المطلوب لمن يسخره الله له بلا شيء.
ثم إن السلطان أذن له في الحضور إلى القاهرة، فتوجه إليها وعاد مكرماً محترماً زائد الإنعام، وصار بعد ذلك يتوجه في غالب الأوقات في كل سنة، وفي كل مرة يزيد إكرامه وإنعامه.
أخبرني القاضي شرف الدين النشو ناظر الخاص أن الذي خص الأمير سيف الدين تنكز من الإنعام في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة بلغ ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم. خارجاً عما أنعم عليه من الخيل والسروج، وماله على الشام من العين والغلة والأغنام. ثم إنني رأيت أوراقاً بيده فيها كلفته، وهي ثلاث وعشرون قائمة، من جملة ذلك طبلا باز ذهباً صرفاً، زنتهما ألف مثقال.
والقباء العفير الذي يلبسه آخراً، قال لي القاضي شرف الدين: إنه يتقوم على السلطان بألفي دينار مصرية فيه ألف وخمس مئة دينار حريراً، وأجر خمس مئة دينار. ثم إنه توجه بعد ذلك فيما أظن أربع مرات، وكل مرة يضاعف إنعامه وتمكينه، وتزيد هيبته، إلى أن كان أمراء مصر الخاصكية يخافونه.
أخبرني الأمير سيف الدين قرمشي الحاجب قال: قال لي السلطان: يا قرمشي لي ثلاثين سنة وأنا أحاول من الناس أمراً وما يفهمونه عني، وناموس الملك يمنعني أن أقوله بلساني، وهو أني لا أقضي لأحد حاجةً إلا على لسانه أو بشفاعته، ودعا له بطول العمر. قال: فبلغت ذلك للأمير، فقال: بل أموت أنا في حياة مولانا السلطان. قال: فلما أنهيت ذلك السلطان قال: يا قرمشي، قل له: لا أنت إذا عشت بعدي نفعتني في أولادي وحريمي وأهلي، وأنت إذا مت قبلي إيش أعمل أنا مع أولادك، أكثر ما يكونون أمراء، وها هم الآن أمراء في حياتك، أو كما قال.
وآخر ما كتب له عن السلطان في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة: أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الأميري. وفي جملة الألقاب: الأتابكي الزاهدي العابدي. وفي النعوت: معز الإسلام والمسلمين، سيد الأمراء في العالمين، وهذا لم نعهده يكتب لنائب عن السلطان ولا لغير نائب، على اختلاف الوظائف والمناصب.
وزادت أملاكه، وعمر جامعه المعروف به بحكر السماق بدمشق، وأنشأ إلى جانبه تربة وداراً وحماماً، شرع في عمارة ذلك في شهر صفر سنة سبع عشرة وسبع مئة وعمر تربة لزوجته أم أمير علي، ومسجداً ومكتب أيتام بجور الخواصين، وعمر داراً للقرآن عند داره بجوار القليجية، وأنشأ بصفد بيمارستاناً، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين، وساق الماء إلى الحرم، وصار يجري على باب المسجد الأقصى، وعمر بالقدس قيسارية مليحة، وجدد القنوات بدمشق، فانصلحت مياهها بعد أن كانت فسدت طعومها، وتغيرت روائحها، وجدد عمائر المدارس والزوايا والربط والخوانق، ووسع الطرقات، وأصلح الرصفات.
كان يدور بنفسه في الليل مختفياً ويشير بما يراه فما يصبح ذلك المكان إلا وقد هدم والصناع تعمل فيه.
وله في سائر الشام أملاك وعمائر وأوقاف. وفي الديار المصرية أيضاً داره المعروفة به، والحمام بالكافوري.
وكان الناس في أيامه آمنين على أنفسهم وحريمهم وأولادهم وأموالهم ووظائفهم، من في يده وظيفة لا يجسر أحد يطلبها لا من مصر ولا من الشام.
وكان يتوجه في كل سنة إلى الصعيد بمن يختاره من عسكر الشام إلى نواحي الفرات، وعدى الفرات في بعض سفراته وأقام يتصيد في ذلك البر خمسة أيام. وكان أهل تلك البلاد ينجفلون قدامه إلى بلاد توريز وسلطانية، وكذلك بلاد ماردين وبلاد سيس، وكان يصل أجرة الدابة خمسة عشر درهما في مسيرة نصف يوم.
ولم يكن له غرض غير الحق والعمل به ونصرة الشرع، خلا أنه كان به سوداء يتخيل بها الأمر فاسداً، ويحتد خلقه ويتغير ويزيد غضبه، فهلك بذلك أناس، لا يقدر أحد من مهابته يوضح له الصواب. وكان إذا غضب لا سبيل إلى رضاه ولا أن يحصل منه عفو. وإذا بطش بطش بطش الجبارين، ويكون الذنب عنده صغيراً حقيراً نزراً يسيراً، فلا يزال يكبره ويعظمه ويزيده ويوسعه، إلى أن يخرج فيه عن الحد. ورأيت من سعادته أشياء منها أنه كان إذا غضب على أحد، في الغالب لا يزال ذلك المغضوب عليه في خمول وخمود وتعس ونكس إلى أن يموت.
قال القاضي شرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود كاتب سره قال: والله ما زلت في هم وخوف وتوقع مثل هذا إلى أمسك. وغضب على أحد ورضي عنه.
أخبرني قوام الدين أحمد بن أبي الفوارس البغدادي قال: قلت له يوماً: والله يا خوند، أنا رأيت أكبر منك وأكثر أموالاً منك، فلما سمع ذلك تنمر، وقال بغيظ: من رأيت أكبر مني؟ فقلت: خربندا وبوسعيد وجوبان، فلما سمع ذلك سكن غيظه. ثم قلت له: إلا أنهم لم تكن رعاياهم تحبهم هكذا، ولا يدعون لهم كما يدعو رعاياك لك، ولا كانت رعاياهم في هذا الأمن وهذا العدل. فقال لي: يا فلان: أي لذة للحاكم إذا لم تكن رعاياه آمنين مطمئنين.
ومن إيثاره للعدل أنه كان يوماً يأكل معه بعض خواصه، أنسيت اسمه، فنظر إصبعه مربوطة، فسأله عن السبب فأنكره، فلم يزل به حتى قال: يا خوند: واحد قواس عمل قوساً ثلاث مرات، فأغاظني فلكمته، فلما سمع كلامه التفت عن الطعام، وقال: أقيموه، ورماه وضربه، على ما قيل: أربع مئة عصا، وقطع إقطاعه وبقي غضبان عليه سنين إلى أن شفع فيه حتى رضي عنه.
وأخبرني ناصر الدين محمد بن كوندك دواداره بعد موت تنكز بسنين، قال: والله ما رأيته في وقت من الأوقات مدة ما كنت في خدمته غافلاً عن نفسه، ولا أراه إلا كأنه واقف بين يدي الله تعالى، وما كان يخلو ليله من قيام. وقال لي أيضاً: لم يصل الأمير صلاة قط إلا بوضوء جديد.
وقال لي أيضاً: من حشمة الأمير أنه ما أمسك ميزاناً بيده قط منذ كان في الطباق إلى آخر وقت. انتهى.
قلت: ولم يكن عنده دهاء ولا له باطن، ولا عنده خديعة ولا مكر، ولا يصبر على أذى، ولا يحتمل ضيماً، ولا فيه مداراة ولا مداهنة لأحد من الأمراء، ولا يرفع بهم رأساً. وكان الشيخ حسن بن تمرتاش قد أهمه أمره وخافه، فيقال: إنه تمم عليه عند السلطان، وقال له: إنه قد قصد الحضور إلى عندي والمخامرة عليك، فتنكر السلطان له، وكان السلطان في عزم تجهيز الأمير سيف الدين بشتاك ويلبغا اليحيوي وعشرين أميراً من الخاصكية ومعهم بنتا السلطان إلى دمشق ليزوجوهما بابني الأمير سيف الدين تنكز، فبعث هو يقول: يا خوند، أيش الفائدة في حضور هؤلاء الأمراء الكبار إلى دمشق، والبلاد الساحلية في هذه السنة ممحلة وتحتاج العسكر إلى كلفة عظيمة وأنا أحضر بولدي إلى الأبواب الشريفة ويكون الدخول هناك، فجهز إليه السلطان طاجار الدوادار، يقول له: السلطان يسلم عليك ويقول لك إنه ما بقي يطلبك إلى مصر، ولا يجهز إليك أميراً كبيراً حتى لا تتوهم. فقال: أنا أتوجه معك بأولادي. فقال له: لو وصلت إلى بلبيس ردك، وأنا أكفيك هذا المهم، وبعد ثمانية أيام أكون معك بتقليد جديد وإنعام جديد، فلبثه بهذا الكلام، ولو كان توجه إلى السلطان ورأى وجهه لكان خيراً " ولكنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أمْراً كانَ مَفعولاً ".
وكان أهل دمشق في تلك المدة قد أرجفوا بأنه قد عزم على التوجه إلى بلاد التتار، فوقع ذلك الكلام في سمع طاجار الدوادار، وكان تنكز في هذه المدة قد عامله معاملة لا تليق به، فتوجه من عنده مغضباً، وكأنه حرف بعض الكلام والله أعلم، فتغير السلطان تغيراً عظيماً، وجرد خمسة آلاف فارس أو عشرة ومقدمهم بشتاك، وحلف عسكر مصر أجمع له ولأولاده، وجهز على البريد الأمير سيف الدين طشتمر النائب بصفد يأمره بالتوجه إلى دمشق والقبض على تنكز، وكتب إلى الحاجب وإلى قطلوبغا الفخري وإلى الأمراء بدمشق بالقبض عليه، وقال: إن قدرتم عليه، وإلا فعوقوه إلى أن يصل العسكر المصري، فوصل الأمير سيف الدين طشتمر الظهر إلى المزة، وجهز إلى الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخري، وكان دوادار طشتمر قد وصل قبله بكرة النهار، واجتمع بالأمراء، واتفقوا، وتوجه الأمير سيف الدين أللمش الحاجب إلى جهة القابون. ووعر الطريق، ورمى الأخشاب فيها، وبرك الجمال، وقال للناس: إن غريم السلطان يعبر الساعة عليكم، فلا تمكنوه. وركب الأمراء واجتمعوا على باب النصر.
هذا كله وهو بسلامة الباطن في غفلة عما يراد به، ينتظر قدوم طاجار عليه بالتقليد الجديد، وكان قد خرج في ذلك النهار إلى قصره الذي بناه في القطائع عند حريمه، فتوجه إليه قرمشي الحاجب، وعرفه بوصول طشتمر، فبهت لذلك وسقط في يده، فقال له: ما العمل فقال: تدخل إلى دار السعادة، وغلقت أبواب المدينة، وأراد اللبس والمحاربة، ثم إنه علم أن الناس ينهبون، ويلعب السيف في دمشق، فآثر إخماد الفتنة، وأن لا يشهر سلاح. وأشاروا عليه بالخروج، فجهز إلى الأمير سيف الدين طشتمر وقال له: في أي شيء جئت؟ قال: أنا جئتك من عند أستاذك، فإن خرجت إلي قلت لك ما قال لي، وإن رحت إلى مطلع الشمس تبعتك. ولا أرجع إلا إن مات أحدنا، والمدينة ما أدخل إليها. فخرج إليهم وقد عاين الهلاك، فاستسلم وأخذ سيفه، وقيد خلف مسجد القدم، وجهز السيف إلى السلطان، وجهز تنكز إلى باب السلطان، ومعه الأمير ركن الدين بيبرس السلاح دار، وكان ذلك العصر ثالث عشري ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة.
وتأسف أهل دمشق عليه ويا طول أسفهم وامتداد حزنهم وتلهفهم، فسبحان مزيل النعم الذي لا يزول ملكه، ولا يتغير عزه، ولا تطرأ عليه الحوادث.
ولقد رأيته بعيني في سنة تسع وثلاثين وسبع مئة، وكنا في ركابه، وقد خرج السلطان في أولاده وأمرائه إلى البئر البيضاء يتلقاه، فلما قاربه ترجل له، وقبل رأسه، وضمه إليه، وبالغ في إكرامه، بعد ما كان يجيء إليه أمير بعد أمير يسلم عليه ويبوس يده وركبته وهو راجل، والأمير سيف الدين قوصون جاء إليه وتلقاه إلى منزله بالصالحية.
وأما الإنعامات التي كانت يفيضها عليه في تلك السنة من الرمل في كل يوم، إلى أن خرج في مدة تقارب الخمسين يوماً فشيء خارج على الحد.
ولقد رأيته وهو في الصيد في تلك السنة بالصعيد، وقد جاء إليه السلطان وقدامه الخاصكية: الأمير سيف الدين ملكتمر الحجازي، ويلبغا اليحيوي، وألطنبغا المارداني، وآقسنقر، وآخر أنسيته الآن، وعلى يد كل واحد من هؤلاء الخمسة طير من الجوارح، وقال له: يا أمير أنا شكارك، وهؤلاء بازداريتك وهذه طيورك، فأراد النزول لبوس الأرض فمنعه.
ثم إنني رأيته بعيني يوم أمسك وقيد، والحداد يقيمه ويقعده أربع مرات، والعالم واقفون أمامه، وكان ذلك عندي عبرةً عظيمة. واحتيط على حواصله، وأودع مملوكاه طغاي وجنغاي في القلعة، وبعد مدة يسيرة وصل الأمير سيف الدين بشتاك وطاجار الدوادار والحاج أرقطاي وتتمة عشرة أمراء، ونزلوا القصر الأبلق، وحال وصولهم، حلفوا الأمراء، وشرعوا في عرض حواصله، وأخرجوا ذخائره وودائعه.
وتوجه بشتاك إلى مصر ومعه من ماله ما يذكر، وهو ذهب عين ثلاث مئة ألف وستة وثلاثون ألف دينار، ودراهم ألف ألف وخمس مئة ألف درهم، وجواهر بلخش أحجار مثمنة، وقطع غريبة، ولؤلؤ غريب الحب، وزركش طرز وكلوتات وحوائص ذهب بحامات مرصعة، وأطلس وغيره من القماش ما كان جملته ثمان مئة حمل.
وأقام بعد الأمير سيف الدين برسبغا، وتوجه بعدما استخلص من الناس ومن بقايا أموال تنكز وحواصله وبيوته أربعون ألف دينار وألف ألف درهم ومئة ألف درهم، وأخذ مماليكه وجواريه وخيله الثمينة إلى مصر.
وأما هو رحمه الله تعالى فإنه لما وصل إلى القاهرة أمر السلطان جميع الأمراء والمماليك أن يقعدوا له في الطرقات من جوا باب القلعة، وأن لا يقوم له أحد تقع عينه عليه، ولم يستحضره بل كان الأمير سيف الدين قوصون يتردد إليه في الرسلية، وهو بنفس قوية ونفس عظيم، لا يخضع ولا يخشع، وقال له مع قوصون: قال لك السلطان أبصر من تختاره يكون وصيك، فقال: قل له: والله خدمتك ونصحك ما تركت لي صاحباً أثق به ولا أتحول عليه، فمالي أحد أوصي له، فاستشار الأمراء في أمره، فقال له الأمير قوصون: يا خوند، هذا دعه أميراً هنا يركب وينزل في الخدمة. وقال الجاولي: يا خوند، هذا لا تفرط فيه تندم، وما يفوتك منه أمر ترومه. فأمر بتجهيزه إلى إسكندرية ومعه المقدم إبراهيم بن صابر، فأقام بها معتقلاً دون الشهر، وقضى الله فيه أمره، وصلي عليه بالإسكندرية. يقال إن ابن صابر توجه إليه إلى الإسكندرية وكان ذلك آخر العهد به، وأظلم الوجود، وزال أنسه بسببه.
وكأنه برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
ثم إنه ورد مرسوم السلطان إلى الأمير علاء الدين ألطنبغا نائب الشام يقول فيه: إن تنكز كنا سألناه عن ماله فأنكر وقال: الذي هو تحت يد خزنداريتي، وهو مضبوط عند كتابي، فلما بلغه أنا استخرجنا ودائعه، وحصلنا جميع ماله، حصل له بذلك غيظ شديد وغبن عظيم، فحم لذلك حمى مطبقة ومات منها.
وورد مرسوم السلطان بأن تقوم أملاكه، فعمل ذلك بالعدول وأرباب الخبرة، وشهود القيمة وحضرت بذلك محاضر شرعية. إلى ديوان الإنشاء لتجهز إلى السلطان، فنقلت منها ما صورته: دار الذهب بمجموعها وإصطبلاتها: ست مئة ألف درهم.
دار الزمرد: مئتا ألف وسبعون ألف درهم.
دار الزردكاش وما معها: مئتا ألف وعشرون ألف درهم.
الدار التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم.
الحمام التي بجوار جامعه: مئة ألف درهم.
خان العرصة: مئة ألف وخمسون ألف درهم.
إصطبل حكر السماق: عشرون ألف درهم.
الطبقة التي بجوار حمام ابن يمن: أربعة آلاف وخمس مئة درهم.
قيسارية المرحلتين: مئتا ألف وخمسون ألف درهم.
الفرن والحوش بالقنوات من غير أرض: عشرة آلاف درهم.
حوانيت التعديل: ثمانية آلاف درهم.
الأهراء من إصطبل بهادر آص: عشرون ألف درهم.
خان البيض وحوانيته: مئة ألف وعشرة آلاف درهم.
حوانيت باب الفرج: خمسة وأربعون ألف درهم.
حمام القابون: عشرون ألف درهم.
حمام القصير العمري: ستة آلاف درهم.
الدهشة والحمام: مئتا ألف وخمسون ألف درهم.
بستان العادل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم.
بستان النجيبي والحمام والفرن، مئة ألف ثلاثون ألف درهم.
بستان الجبلي بحرستا: أربعون ألف درهم.
بستان الدردور بزبدين: خمسون ألف درهم.
الحدائق بحرستا: مئة ألف وخمسة وستون ألف درهم.
بستان القوصي بها: ستون ألف درهم.
الجنينة المعروفة بالحمام بزبدين: سبعة آلاف درهم.
بستان الرزاز: خمسة وثلاثون ألف درهم.
الجنينة وبستان غيث بها: ثمانون ألف درهم.
المزرعة المعروفة بتهامة بها: ستون ألف درهم.
مزرعة الركن البوقي والعنبري: مئة ألف درهم.
الحصة بالدفوف القبلية بكفر بطنا، ثلثاها: ثلاثون ألف درهم.
بستان السقلاطوني بالمنيحة: خمسة وسبعون ألف درهم.
حقل البيطارية بها: خمسة عشر ألف درهم.
الفاتكيات والرشيدي والكروم من زملكا: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
مزرعة المرفع بالقابون: مئة ألف درهم.
الحصة من غراس غيطة الأعجام: عشرون ألف درهم.
نصف الغيطة المعروفة برزنية: خمسة آلاف درهم.
غراس قائم في جوار دار الجالق: ألفا درهم.
النصف من غراس الهامة: ثلاثون ألف درهم.
الحوانيت التي قباله جامعه: مئة ألف درهم.
الإصطبلات التي عند الجامع: ثلاثون ألف درهم.
بيدر زبدين: ثلاثة وأربعون ألف درهم.
أرض خارج باب الفرج: ستة عشر ألف درهم.
القصر وما معه خمس مئة ألف وخمسون ألف درهم.
ربع القصرين ضيعة: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
نصف البيطارية: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
حصة من البويضا: مئة ألف وسبعة وثمانون ألف درهم.
نصف بوابة: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
العلانية بعيون الفاسرتا ثمانون ألف درهم.
حصة دير ابن عصرون: خمسة وسبعون ألف درهم.
حصة دوير اللبن: ألف وخمس مئة درهم.
الدير الأبيض: خمسون ألف درهم.
التنورية: اثنان وعشرون ألف درهم.
العديل: مئة ألف وثلاثون ألف درهم.
حوانيت داخل باب الفرج: أربعون ألف درهم.
الأملاك التي بمدينة حمص الحمام بحمص: خمسة وعشرون ألف درهم.
الحوانيت: سبعة آلاف درهم.
الربع: ستون ألف درهم.
الطاحون الراكبة على العاصي: ثلاثون ألف درهم.
زور قبجق: خمسة وعشرون ألف درهم.
الخان: مئة ألف درهم.
الحمام الملاصقة للخان: ستون ألف درهم.
الحوش الملاصق له: ألف وخمس مئة درهم.
المتاخ: ثلاثة آلاف درهم.
الحوش المجاور للخندق: ثلاثة آلاف درهم.
حوانيت العريضة: ثلاثة آلاف درهم.
الأراضي المحتكرة: سبعة آلاف درهم.
الأملاك التي ببيروت الخان: مئة وخمسة وثلاثون ألف درهم.
الحوانيت والفرن: مئة وعشرون ألف درهم.
المصبنة بآلاتها: عشرة آلاف درهم.
الحمام: عشرون ألف درهم.
المسلخ: عشرة آلاف درهم.
الطاحون: خمسة آلاف درهم.
قرية زلايا: خمسة وأربعون ألف درهم.
القرى التي بالبقاع مرج الصفا: سبع مئة ألف درهم.
التل الأخضر: مئة ألف وثمانون ألف درهم.
المباركة: خمسة وسبعون ألف درهم.
المسعودية: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
الضياع الثلاثة المعروفة بالجوهري: مئة ألف وسبعون ألف درهم.
العادة: أربع مئة ألف درهم.
أبروطيا: ستون ألف درهم.
غير ذلك نصف يبرود والصالحية، والحوانيت: أربع مئة ألف درهم.
المباركة والناصرية: مئة ألف درهم.
رأس الماء بيم الروس: سبعة وخمسون ألف وخمس مئة درهم.
حصة من خربة روق: اثنان وعشرون ألف درهم.
رأس الماء والدلي بمزارعها: خمس مئة ألف درهم.
حمام صرخد: خمسون ألف درهم.
طاحون الفوار: ثلاثون ألف درهم.
السالمية: سبعة آلاف وخمس مئة درهم.
طاحون المغار: عشرة آلاف درهم.
قيسارية أذرعات: اثني عشر ألف درهم.
قيسارية عجلون: مئة ألف وعشرون ألف درهم.
الأملاك بقارا الحمام: خمسة وعشرون ألف درهم.
الهري: ست مئة ألف درهم.
الصالحية والطاحون والأراضي: مئة ألف وخمسة وعشرون ألف درهم.
راسليتا ومزارعها: مئة وخمسة وعشرون ألف درهم.
القصيبة: أربعون ألف درهم.
القريتين المعروفة إحداهما بالمزرعة والأخرى بالبينسية: تسعون ألف درهم.
هذا كله خارج عن الأملاك ووجوه البر بصفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة وجلجولية والديار المصرية، لأنه عمر بيمارستاناً بصفد مليحاً، وبعض أوقافه بها، وعمر بالقدس رباطاً وحمامين وقيسارية، وله بجلجولية خان مليح إلى الغاية أظنه سبيلاً، وله بالرملة، وله بالقاهرة في الكافوري دار عظيمة وإصطبل وحمام وحوانيت.
وكان رحمه الله قد اعتمد في حياته شيئاً ما سمعنا به عن غيره، وهو أنه استخدم كاتباً بمعلوم يأخذه في كل شهر من عين وغلة، ليس له شغل ولا عمل غير ما يدخل خزانته من الأموال ويستقر له، فإذا حال الحول على ذلك الواصل، عمل أوراقاً بما يجب عليه صرفه من الزكاة، وتعرض الأوراق عليه، فيأمر بإخراجه وصرفه إلى ذوي الاستحقاق.
وكان إذا جلس في الخدمة يقعد ويرفع يديه، ويدعو سراً بما يحب، ويمسح وجهه، ثم بعد ذلك يفتح الدواة، ويأخذ القلم، ويضعه على ظفر إبهامه اليسار، ويفتح شقته، ويقبل على كاتب السر ويقرأ القصص عليه، وإذا أراد فراغ الخدمة طبق الدواة، فيقول الحاجب: بسم الله استريحوا. وإذا علم في كل يوم فهو الدستور للناس أجمعين.
إذا خرج كاتب السر لا يبقى بدار السعادة أحد من أرباب الخدم، وكان أخيراً لا يدخل عليه العلامة إلا أربعين علامة بالعديد من غير زيادة، وكان أخيراً إذا توجه إلى الصيد لا يعود يمسك قلماً ولا يعلم علامة، بل قبل السفر يكتب جميع ما يحتاج إليه من الأجوبة، والكتب المطلقة والتسامير وأوراق الطريق والمطالعات إلى باب السلطان، ويدخل بها في يومين ثلاثة وهي مسطرات، يتعلم على الجميع إلى أن يتكامل ما يريده كاتب السر.
وكان يعظم أهل العلم، وإذا كانوا عنده واجتمع بهم لا يسند ظهره إلى الحائط، بل ينفتل ويقبل وجهه، ويوادهم ويؤنسهم، أعني غير القضاة، ويقول: حلت علينا البركة. فالله يكرمه في جواره، ويجيره في يوم الموقف من دار بواره بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وقلت أرثيه، رحمه الله تعالى:
كذا تسري الخطوب إلى الكرام ... وتسعى تحت أذيال الظلام
وتغتال الحوادث كلّ ليثٍ ... هزبرٍ عن فريسته محام
وتبذل بعد عزٍّ وامتناعٍ ... وجوهٌ لم تعرّض للّطام
فكم ملكٍ غدا في الأرض دهراً ... وآل إلى انتقالٍ وانتقام
إذا ما أبرم المقدور أمراً ... رأيت الصّقر من صيدا الحمام
وهل يرجى من الدنيا رفاءٌ ... ولم تطبع على رعي الذمام
إذا ضاقت جوانحنا بهمٍّ ... توسّعه بأنواع السّ؟ قام
أقال الله عثرتنا فإنّا ... رمانا الدّهر في شرّ المرامي
وردّ الله عقبانا لخيرٍ ... فقد أمسى الزمان بلا زمام
تنكّر يوم تنكز كّل عرف ... وسام الذلّ فينا كلّ سام
ومال إلى المدينة كلّ مولى ... وحام على الرزية كلّ حام
وأذهل يومه الألباب حتّى ... كأنّا فيهب صرعى بالمدام
بكيت دمشق لمّا غاب عنها ... وأوحش أفقها بدر التّمام
فيا تمزيق شمل العدل فينا ... ويا تفريق ذاك الإنتظام
ويا لمصيبةٍ بدمشق حلّت ... شدائدها بأحداث عظام
فكم من مقلة للحزن تجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
رعاه الله من راعٍ أمينٍ ... أنام بعدله عين الأنام
وكفّ حوادث الأيّام عنهم ... فلم تطرق حماهم بانتقام
وكيف ينوبهم خطبٌ ملمٌّ ... وناب الدّهر فيهم غير نام
حنوٌّ زاد في إفراط برٍّ ... يسكّن برده لهب الضّرام
وتدبيرٌ خلا عن حظّ نفسٍ ... وناب الرّعب فيه عن الحسام
ودستٌ حكمه في دار عدلٍ ... تأيّد بالملائكة الكرام
وكم جبّار قومٍ ذي عتوٍّ ... تهيّب أن يراه في المنام
يساوي عنده في العدل بين ال ... كرام الغرّ والسّود اللئام
وهيبته سرت شرقاً وغرباً ... وشاعت عنه في مصرٍ وشام
يراع المغل في توريز منه ... ويطرق أرضهم في كلّ عام
وكم قطع الفرات وصاد حتّى ... توغّل في فضا تلك المرامي
إذا ما قيل هذا اللّيث وافى ... مضوا هرباً كأمثال النّعام
فرائسه فرائصها تراها ... دوامي لا تزال على الدّوام
ولم نر قبله ليثاً أتته ... أفاعي القيد تنذر بالحمام
وقد رقت لنا فتئنّ حزناً ... عليه في القعود وفي القيام
ألا فاذهب سقيت أبا سعيدٍ ... فقد روّى زمانك كلّ ظام
فأنت وديعة الرّحمن منّا ... تحوطك في الرّحيل وفي المقام
وليت فلم تخن لله عهدا ... ولم تجذبك فيه عرى الملام
وحاشى أن يراك الله يوماً ... تعدّيت الحلال إلى الحرام
ونلت من السّعادة والمعالي ... منالاً حاز غايات المرام
وكنت إذا دجا ليل القضايا ... وكانت من مهمّاتٍ جسام
تفرجّها بقولٍ منك فصلٍ ... لأنّ القول ما قالت حذام
وكنت تحبّ نور الدّين طبعاً ... لأنّكما سواءٌ في التزام
رعيت كما رعى وحميت ما قد ... حمى نفديك من راع وحام
بقيت ممتّعاً بالخلد حتّى ... يقوم النّاس من تحت الرّجام
ولما كان في أوائل شهر رجب الفرد سنة أربع وأربعين وسبع مئة، حضر تابوته من الإسكندرية إلى دمشق، ودفن - يرحمه الله تعالى - في تربته التي تجاور جامعه بدمشق فقلت:
إلى دمشق نقلوا تنكزا ... فيالها من آية ظاهرة
في جنّة الدنيا له جثّة ... ونفسه في جنة الآخرة
وقلت أيضاً:
في نقل تنكز سرٌّ ... أراده الله ربّه
أتى به نحو أرضٍ ... يحبّها وتحبّه
وقلت أيضاً كأني أخاطبه:
أعاد الله شخصك بعد دهر ... إلى بلدٍ وليت فلم تخنها
أقمت بها تدبّرها زمانا ... وتأمر في رعاياها وتنهى
فلا هذا الدخول دخلت فيها ... ولا ذاك الخروج خرجت منها
أعيان العصر وأعوان النصر- صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ).

 

 

تنكز نَائِب الشَّام يكنى أَبَا سعيد جلب إِلَى مصر وَهُوَ صَغِير فَاشْتَرَاهُ الْأَشْرَف وَأَخذه لاجين بعده ثمَّ صَار إِلَى النَّاصِر فَأمره عشرَة قبل الكرك ثمَّ كَانَ فِي صحبته بالكرك يترسل بَينه وَبَين الأفرم فاتهم الأفرم مرّة أَن مَعَه كتبا إِلَى أُمَرَاء الشَّام ففتشه وَعرض عَلَيْهِ الْعقُوبَة فَرجع إِلَى النَّاصِر وشكا إِلَيْهِ مَا لاقاه من الإهانة فَقَالَ لَهُ إِن عدت إِلَى الْملك فَأَنت نَائِب الشَّام عوضه فَلَمَّا عَاد إِلَى المملكة قَالَ لتنكز ولسودي لَازِما أرغون النَّائِب وتعلما أَحْكَامه فلازماه سنة ثمَّ جهز سودي لنيابة حلب وتنكز لنيابة الشَّام على الْبَرِيد وَكَانَ أول مَا أَمر طبلخاناة فِي أَوَاخِر شَوَّال سنة 709 بعد رُجُوع النَّاصِر إِلَى المملكة وَكَانَت ولَايَته دمشق فِي ربيع الآخر سنة 712 وَأرْسل مَعَه الْحَاج أرقطاي والحسام طرنطاي وَأمره أَن لَا يقطع أمرا دونهمَا فباشرها وَتمكن مِنْهَا وَلما لبس الخلعة وَحضر الموكب مدحه عَلَاء الدّين ابْن غَانِم موقع الدست فأثابه وَاسْتمرّ يجلس وَإِلَى جَانِبه أرقطاي فتقرأ الْقَصَص عَلَيْهِمَا وسلك تنكز سَبِيل الْحُرْمَة والناموس الْبَالِغ وَفتح الله على يَدَيْهِ ملطية فِي سنة 715 وَذَلِكَ أَنه اسْتَأْذن السُّلْطَان فِي ذَلِك فَأذن لَهُ فأظهر أَنه يُرِيد التَّوَجُّه إِلَى سيس فَخرجت العساكر من جَمِيع الْبِلَاد مَعَه وَخرج هُوَ فِي زِيّ دست السلطنة بالعصائب والكوسات وَمَعَهُ الْقُضَاة فَلَمَّا وصل إِلَى حماة تَلقاهُ الْمُؤَيد فَلم يحفل بِهِ وَلم يَأْكُل طَعَامه لكَونه لم يتلقاه من بعد فَلَمَّا وصل إِلَى حلب جرد عسكراً إِلَى ملطية ثمَّ توجه إثره فنازلها إِلَى أَن فتحهَا ورحل بأسرى وَغَنَائِم وَمَال كثير فَعظم شَأْنه وهابه الْأُمَرَاء والنواب قَالَ الصَّفَدِي سَار السِّيرَة الْحَسَنَة العادلة بِحَيْثُ لم تكن لَهُ همة فِي مأكل وَلَا مشرب وَلَا ملبس وَلَا منكح إِلَّا فِي الفكرة فِي تَأْمِين الرعايا فأمنت السبل فِي أَيَّامه ورخصت الأسعار وَلم يكن أحد فِي ولَايَته يتَمَكَّن من ظلم أحد وَلَو كَانَ كَافِرًا وَبعد سنة من ولَايَته زَاد النَّاصِر فِي إقطاع نِيَابَة الشَّام لما وَقع الروك الناصري ثمَّ تقدم أمره إِلَى جَمِيع النواب بالبلاد الشامية أَن يكاتبوا تنكز بِجَمِيعِ مَا كَانُوا يكاتبون بِهِ السُّلْطَان وَهُوَ يُكَاتب عَنْهُم وَلم يزل فِي علو وارتقاء حَتَّى كَانَ النَّاصِر لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بعد مشاورته وَلم يكْتب هُوَ إِلَى السُّلْطَان فِي شَيْء فَيردهُ فِيهِ إِلَّا نَادرا وَلم يتَّفق فِي طول ولَايَته أَنه ولى أَمِيرا وَلَا نَائِبا وَلَا قَاضِيا وَلَا حاجباً وَلَا وزيراً وَلَا كَاتبا إِلَى غير ذَلِك من جليل الْوَظَائِف وحقيرها برشوة وَلَا طلب مُكَافَأَة بل رُبمَا كَانَ يدْفع إِلَيْهِ المَال الجزيل لأجل ذَلِك فَيردهُ ويمقت صَاحبه وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْقَاهِرَة بِإِذن السُّلْطَان فيبالغ فِي إكرامه واحترامه حَتَّى قَالَ النشو مرّة الَّذِي خص تنكز فِي سنة 733 خَاصَّة مبلغ ألف ألف وَخمسين ألفا خَارِجا من الْخَيل والسروج وَكَانَ قد سمع الحَدِيث من عِيسَى الْمطعم وَأبي بكر بن أَحْمد بن عبد الدَّائِم وَابْن الشّحْنَة وَغَيرهم وَلما حج قَرَأَ عَلَيْهِ بعض الْمُحدثين بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة ثلاثيات البُخَارِيّ قَالَ الْأَمِير سيف الدّين قرمشي قَالَ لي السُّلْطَان مرّة لي مُدَّة طَوِيلَة أطلب من النَّاس شَيْئا لَا يفهمونه عني وناموسي أذاك يَمْنعنِي أَن أصرح بِهِ وَهُوَ أَنِّي لَا أَقْْضِي لأحد حَاجَة إِلَّا على لِسَان تنكز ودعا لَهُ بطول الْعُمر قَالَ فبلغت ذَلِك لَهُ فَقَالَ بل أَمُوت أَنا فِي حَيَاة السُّلْطَان فبلغها السُّلْطَان فَقَالَ لَا قَالَ لَهُ أَنْت إِذا عِشْت بعدِي نفعتني فِي أَوْلَادِي وَأَهلي وَأَنت إِذا مت قبلي إيش أعمل أَنا مَعَ أولادك أَكثر مِمَّا عملت هاهم أُمَرَاء فِي حياتك وَعمر بِدِمَشْق جَامعا بحكر السماق فِي غَايَة الْحسن وتربة وداراً وحماماً ومسجداً ومكتبة أَيْتَام بجوار امْرَأَته بالخواصين وَدَار إيوَان نَحْو القليجية وبيمارستان بصفد ورباطاً وحمامين بالقدس وسَاق المَاء إِلَى الْمَسْجِد وقيسارية وجدد القنوات بِدِمَشْق وجدد عَامَّة الزوايا والمدارس والربط ووسع الطّرق وَأصْلح الرصيف وَهدم أَمَاكِن كَثِيرَة كَانَت استجدت فِي أسواق دمشق فضاقت بهَا الطّرق فَانْتَفع النَّاس بذلك وَعدم لأصحابها شَيْء كثير فَلم يتجاسر أحد أَن يُنكر عَلَيْهِ وَحج فِي سنة 721 وَأقَام عَنهُ بيبرس الْحَاجِب نَائِب غيبَة وَيُقَال أَنه قدم الْقَاهِرَة بعد حجه فَأمر السُّلْطَان الْأُمَرَاء أَن يهادوه فَكَانَت جملَة مَا قدم لَهُ ثَمَانِينَ ألف دِينَار وَكَانَ يَدُور بِنَفسِهِ بِاللَّيْلِ مختفيا وَيُشِير بِمَا يرَاهُ فَمَا يصبح ذَلِك الْمَكَان إِلَّا والصناع تعْمل فِيهِ وَله بالديار المصرية دَار مليحة وحمام مَشْهُور بالكافوري قَالَ وَكَانَ النَّاس فِي ولَايَته آمِنين على أنفسهم وحريمهم وَأَوْلَادهمْ وَأَمْوَالهمْ ووظائفهم وَكَانَ يتَوَجَّه فِي كل سنة إِلَى الصَّيْد وَرُبمَا عدى الْفُرَات وتصيد فِي ذَلِك الْبر أَيَّامًا وَكَانَ أهل تِلْكَ الْبِلَاد ينجفلون قدامه إِلَى تبريز والسلطانية وماردين وسيس وَكَانَ مثابراً على عمل الْحق وَنصر الشَّرْع إِلَّا أَنه كَانَ كثير التخيل شَدِيد الحدة سريع الْغَضَب وَلَا يقدر أحد يُرَاجِعهُ من مهابته وَلم يحفظ عَنهُ أَنه غضب على أحد فَرضِي عَنهُ بعد ذَلِك سَرِيعا وَإِذا بَطش بَطش بَطش الجبارين وَكَانَ إِذا غضب على أحد لَا يزَال ذَلِك المغضوب عَلَيْهِ فِي انعكاس وخمول إِلَى أَن يَمُوت غَالِبا وَكَانَ يَقُول أَي لَذَّة للْحَاكِم إِذا كَانَت رعاياه يدعونَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ يَخْلُو لَيْلَة من قيام لصَلَاة وَدُعَاء وَمَا صلى غَالِبا إِلَّا بِوضُوء جَدِيد حفظ عَنهُ أَنه لم يمسك بِيَدِهِ ميزاناً قطّ مُنْذُ كَانَ فِي الطباق إِلَى آخر عمره وَكَانَ يعظم أهل الْعلم وَإِذا كَانَ عِنْده مِنْهُم أحد لم يسند ظَهره بل يَنْفَتِل وَيقبل بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ ويؤنسه بالْقَوْل وَالْفِعْل وَكَانَ سليم الْبَاطِن لَيْسَ عِنْده دهاء وَلَا مكر وَلَا يصبر على الْأَذَى وَلَا يُدَارِي أحدا من الْأُمَرَاء وَكَانَ النَّاصِر أرسل إِلَيْهِ يَقُول لَهُ إِنَّنِي أُرِيد أَن أجهز بنتين لي لتتزوجا بِابْني الْأَمِير تنكز صُحْبَة عشْرين خاصكياً من الْأُمَرَاء وَكَانَت تِلْكَ السّنة ممحلة فخشي تنكز على الرعايا من الغلاء فَكتب يسْأَل أَن يُؤذن لَهُ فِي الْحُضُور إِلَى الْقَاهِرَة بولديه وَيكون الدُّخُول هُنَاكَ فَجهز إِلَيْهِ طاجار يَقُول لَهُ أَنه مَا بَقِي يطلبك إِلَى مصر وَلَا يُجهز إِلَيْك أَمِيرا كَبِيرا حَتَّى لَا تتوهم فَقَالَ أَنا أتوجه مَعَك بأولادي فَقَالَ لَو وصلت إِلَى بلبيس ردك وَأَنا أكفيك هَذَا المهم وأكون عنْدك بعد ثَمَانِيَة أَيَّام بنعلين جَدِيد فثبطه بِكَلَامِهِ وَيُقَال لَو عَصَاهُ وَسَار إِلَى السُّلْطَان عذره وَلم يلق إِلَّا خيرا وَمن أعظم مَا وَقع لَهُ مَعَ السُّلْطَان من الْإِكْرَام أَنه قدم سنة 738 فَخرج السُّلْطَان لملاقاته بسرياقوس وَأرْسل لَهُ قوصون بِالْإِقَامَةِ ثمَّ بعث لَهُ أَوْلَاده لما قرب ثمَّ ركب فَلَمَّا رَآهُ ترجل فترجل كل من مَعَه من الْأُمَرَاء وَألقى تنكز نَفسه عَن الْفرس إِلَى الأَرْض وأسرع وَهُوَ يقبل الأَرْض وَقد ذهب حَتَّى انكب على قدمي السُّلْطَان فقبلهما فَأمْسك رَأسه بيدَيْهِ وَأمره بالركوب وَقدم فِي سنة 739 فَكَانَت قيمَة تقادمه للسُّلْطَان والأمراء مِائَتي ألف دِينَار وَعشْرين ألف دِينَار وَبَالغ السُّلْطَان فِي إكرامه حَتَّى أخرج بَنَاته فقبلن يَده ثمَّ عين مِنْهُنَّ ثِنْتَيْنِ لوَلَدي تنكز وَكتب لَهُ تَفْوِيض فِي جَمِيع مملكة الشَّام وَإِن النواب بأسرها تكاتبه بِمَا يكاتبه بِهِ السُّلْطَان وَمن أَعماله الجيدة أَنه نظر فِي أوقاف الْمدَارِس والجوامع والمساجد والخوانق والزوايا والربط فَمنع أَن يصرف لأحد جامكية حَتَّى يرم شعثها فعمرت كلهَا فِي زَمَانه أحسن عمَارَة وَأمر بكسح الأوساخ الَّتِي فِي مقاسم الْمِيَاه الَّتِي تخَلّل الدّور وَفتح منافذها وَكَانَت انسدت فَكَانَ الوباء يحصل بِدِمَشْق كثيرا بِسَبَب العفونات فَلَمَّا صنع ذَلِك زَالَ مَا كَانَ يعتادهم فِي كل سنة من كَثْرَة الْأَمْرَاض فَكثر الدُّعَاء لَهُ وأجرى الْعين إِلَى بَيت الْمُقَدّس بعد أَن كَانَ المَاء بهَا قَلِيلا وَأَقَامُوا فِي عَملهَا سنة وَبنى لَهَا مصنعاً سعته مائَة ذِرَاع وَأكْثر من فكاك الأسرى وَأعظم ربح التُّجَّار الَّذين يجلبونهم وَجمع الْكلاب فألقاها فِي الخَنْدَق واستراح النَّاس من أذاهم وَهدم أَمَاكِن كَثِيرَة استجدت فِي أسواق دمشق ضيقت الطرقات من بَاب جسر الْحَدِيد إِلَى بَاب الفراديس وَكَانَ شاع فِي تِلْكَ الْأَيَّام أَن تنكز عزم على التَّوَجُّه إِلَى بِلَاد التتار فطرقت سمع طاجار فبلغها السُّلْطَان مَعَ مَا ضم إِلَيْهَا بِسَبَب مَا عَامله بِهِ تنكز من الازدراء فَتغير النَّاصِر وجهز العساكر بإمساكه فوصل طشتمر المزة وَغَيره من الْأُمَرَاء وَلَيْسَ عِنْد تنكز خبر فَتوجه إِلَيْهِ قرمشي إِلَى الْقصر الَّذِي بناه بالقطائع فَعرفهُ بوصول طشتمر فبهت لذَلِك وَقَالَ مَا الْعَمَل قَالَ تدخل دَار السَّعَادَة وَلم يزل بِهِ حَتَّى سَار مَعَه فاستسلم وَقيد وجهز سَيْفه إِلَى السُّلْطَان وَذَلِكَ فِي ثَالِث عشرى ذِي الْحجَّة سنة 740 وتأسف أهل دمشق عَلَيْهِ وَالْعجب أَنه قبل ذَلِك فِي سنة 739 كَانَ دخل مصر فَتَلقاهُ السُّلْطَان بأولاده وأمرائه فَلَمَّا قاربه ترجل لَهُ وعانقه وَقبل رَأسه وَبَالغ فِي إكرامه وأركبه وَخرج مَعَه فِي تِلْكَ السّنة إِلَى السرحة بالصعيد فجاؤها وَمَعَهُ يلبغا اليحياوي وألطنبغا المارداني وملكتمر الْحِجَازِي وآقسنقر وعَلى يَد كل وَاحِد مِنْهُم طير من الْجَوَارِح فَقَالَ النَّاصِر با أَمِير هَؤُلَاءِ البازدارية وَأَنا أَمِير شكارك وَهَذِه طيورك فهم أَن ينزل ليبوس الأَرْض فَمَنعه من ذَلِك ثمَّ بعد الْقَبْض عَلَيْهِ أحيط بموجوده واعتقل خزنداره ثمَّ وصل بشتاك وطاجار وأرقطاي للحوطة فخلفوا الْأُمَرَاء وشرعوا فِي عرض حواصله ووجدوا لَهُ مَا يُجَاوز الْوَصْف من الذَّهَب الْعين ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم وَمن الدَّرَاهِم ألف ألف دِينَار وَخَمْسمِائة ألف دِرْهَم وَأما الْجَوَاهِر والحوائص والأقمشة والخيول وَنَحْو ذَلِك فشيء كثير جدا وَلما دخل الْقَاهِرَة أَمر السُّلْطَان جَمِيع الْأُمَرَاء والمماليك أَن يقعدوا لَهُ بالطرقات من حذاء بَاب القلعة وَأَن لَا يقوم لَهُ أحد وَلم يجْتَمع بِهِ بل كَانَ قوصون يتَرَدَّد إِلَيْهِ فِي الرسلية حَتَّى قَالَ لَهُ أبْصر من يكون وصيك فَقَالَ قل لَهُ خدمتك وَنَصِيحَتِك لم تتْرك لي صديقا فَأمر بتجهيزه إِلَى الاسكندرية فَلم يدم فِي الاعتقال إِلَّا دون الشَّهْر وَمَات فِي أَوَائِل سنة 741 وَيُقَال أَن ابْن صابر الْمُقدم هُوَ الَّذِي قَتله وَأرْسل النَّاصِر فِي كِتَابه إِلَى دمشق يَقُول أَن تنكز كُنَّا سألناه عَن حواصله فَلم يقر بِشَيْء مِنْهَا فَلَمَّا بلغه أَنا استأصلناه احتد من ذَلِك وحم حمي مطبقة فَمَاتَ مِنْهَا قَرَأت بِخَط الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ مَا ملخصه فِي نصف لَيْلَة الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة 748 رَأَيْت فِي مَنَامِي أَنِّي أَمر من مَكَان إِلَى مَكَان وَسيف الدّين تنكز قَاعد فِي مَكَان فَقَامَ على قَدَمَيْهِ لي فَجئْت فَسلمت عَلَيْهِ وَقلت لَهُ الله يعلي قدرك كَمَا تعلي قدر الشَّرْع قلتهَا لَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ لي تَكَلَّمت فِي الدَّلِيل وقسمته فِي شرح الْمِنْهَاج مليحاً وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي أَوَاخِر كِتَابه سير النبلاء كَانَ ذَا سطوة وهيبة وزعارة وإقدام على الدِّمَاء وَنَفس سبعية وَفِيه عتو وحرص مَعَ ديانَة فِي الْجُمْلَة وَكَانَت فِيهِ حِدة وَقلة رأفة وَكَانَ محتجباً عَن غَالب الْأُمُور فَدخل عَلَيْهِ الدخيل من أنَاس مكنهم ثمَّ استأصلهم وَكَانَ لَا يفكر فِي عَاقِبَة وَلَا لَهُ رَأْي وَلَا دهه وَكَانَ قد اعْتمد على مملوكيه طفية وَصفِيَّة فعملا القبائح وارتشيا وَكَانَ الْوَالِي والحاجب يستأذنهما فِي كل شَيْء وَكَانَ تنكز لَو اطلع على حقائق الْأُمُور لم يبرم الْأَمر جيدا إِمَّا أَن يَقْتَدِي أَو يقصر لِأَنَّهُ كَانَ سيء الرَّأْي حطمة غشمة يخافه الْعَدو وَالصديق ويحذره المحق والمبطل لَا يصفح عَن ذَنْب وَلَا يقبل عذرة وَمَعَ هَذَا لما أَخذ رق لَهُ كثير من الرّعية وحزنوا لَهُ قَالَ وَكَانَ سياجاً على دمشق وَالنَّاس بِهِ فِي أَمن والظلمة كافون والرعية فِي عَافِيَة من المصادرة والعسف وَكَانَ تنكز مَعَ علو رتبته وتقدمه لَا يصلح للْملك لبخله وحرصه وَعدم تودده لِلْأُمَرَاءِ انْتهى مُلَخصا
وَتعقبه الْحَافِظ صَلَاح الدّين العلائي بحاشية قرأتها بِخَطِّهِ لقد بَالغ المُصَنّف وَتجَاوز الْحَد فِي تَرْجَمَة تنكز وَأَيْنَ مثله أعرض عَن محاسنه الطافحة من الْعدْل وقمع الظلمَة وكف الْأَيْدِي عَن الْفساد والتعدي على النَّاس ومحبة إِيصَال الْحق إِلَى مُسْتَحقّه وتولية الْوَظَائِف من هُوَ أَهلهَا وحسبك أَن المُصَنّف كَانَ فَقِيرا قانعاً بِكفْر بَطنا فَلَمَّا خلت دَار الحَدِيث الأشرفية وتربة أم الصَّالح عَن الشريشي ولي تنكز الْمزي والذهبي بِغَيْر سُؤال مِنْهُمَا وَلَا ببذل لِأَنَّهُ أعلم بحالهما واستحقاقهما ثمَّ ولي الذَّهَبِيّ دَار الحَدِيث الظَّاهِرِيَّة ثمَّ النفيسية ثمَّ دَار الحَدِيث التنكزية الَّتِي أَنْشَأَهَا بالخضراء ثمَّ قَالَ العلائي ذَنْب تنكز أَنه كَانَ يحط كثيرا على ابْن تَيْمِية وَفِي هَذِه الْأَشْيَاء كِفَايَة
قلت قَوْله أَن الذَّهَبِيّ أعرض عَن محَاسِن تنكز لَيْسَ بِصَحِيح فَإِنَّهُ ذكر مِنْهَا الْكثير إِلَّا أَنه بَالغ فِي سرد معايبه وَالله الْمُسْتَعَان وَفِي ولَايَته أمره النَّاصِر بعمارة قلعة جعبر فاجتهد فِي ذَلِك حَتَّى عمرت فِي أسْرع مُدَّة وَتوجه إِلَيْهَا حَتَّى شَاهدهَا ورتب أمورها حَتَّى قَالَ فِيهَا بعض الشُّعَرَاء من قصيدة
(من بعد أَن كَانَت خراباً داثراً ... أضحت منازلها ترام وتقصد)
(وتبرجت أبراجها باهلة ... أَيْن السها من أَهلهَا والفرقد)
(وتحركت سكناتها وتبسمت ... زهراتها مراصاً إِن المعصد)
-الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني-