بطرس بن بولس بن عبد الله البستاني:
صاحب (دائرة المعارف) العربية. عالم واسع الاطلاع. ولد ونشأ في (الدبِّيِّة) من قرى لبنان، وتعلم بها وببيروت آداب العربية، واللغات السريانية والإيطالية واللاتينية ثم العبرية واليونانية، وتعين أستاذا في مدرسة (عبية) سنة 1860 م، فمكث سنتين، وعين ترجمانا للقنصلية الأميركية في بيروت. واستعان به المرسلون الأميركيون على إدارة الأعمال في مطبعتهم، وعلى ترجمة التوراة، من العبرية إلى العربية. واشتغل بالتأليف فصنف كتاب (محيط المحيط - ط) في اللغة، مجلدان، واختصره وسمى المختصر (قطر المحيط - ط) وله (كشف الحجاب في علم الحساب - ط) وكتاب (مسك الدفاتر - ط) و (تاريخ نابليون - ط) و (المصباح - ط) نحو، و (مفتاح المصباح - ط) في النحو. وأنشأ مستعينا بابنه الأكبر (سليم) أربع صحف، هي (نفير سورية) و (والجنان) و (الجنة) و (الجنينة) وأعظم آثاره (دائرة المعارف - ط) لم يتم، أكمل منه ستة مجلدات وبدأ بالسابع، فأكمله ابنه سليم وأردفه بالثامن. وتعاون أبناء له آخرون مع ابن عمهم سليمان خطار البستاني، فأصدروا التاسع والعاشر والحادي عشر، وشرعوا في الثاني عشر، وتوقف العمل. توفي صاحب الترجمة في بيروت
.-الاعلام للزركلي-
بطرس البستاني
في إقليم الخروب، من قضاء الشوف في جبل لبنان، قرية صغيرة على مسافة ثلاث ساعات من دير القمر، وثلاث ساعات ونصف من صيدا، وسبع ساعات من بيروت، يُقال لها الدبية، عدد سكانها خمسمائة نفس من طائفة الموارنة، وقليل من البروستانت، نشأ فيها غير واحد من مشاهير اللبنانيين، جميعهم من آل البستاني؛ أشهرهم المرحوم المطران عبد الله البستاني، والمطران بطرس البستاني، والمعلم بطرس البستاني، صاحب الترجمة، وقد اقتطفنا ترجمة حياته مما كتبته جرائد الشام على إثر وفاته، وأثبتته دائرة المعارف في جزئها السابع، ومما عرفناه بنفسنا من آثار اجتهاده وفضله.
تاريخ حياته
هو بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد بن أبي شديد بن محفوظ بن أبي محفوظ البستاني، من أعيان الطائفة المارونية، ولد في الدبية عام 1819م في عهد إمارة الأمير بشير الشهابي الكبير في جبل لبنان، وظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء منذ نعومة أظفاره، فأخذ في تلقي مبادئ العربية والسريانية على المرحوم الخوري مخائيل البستاني، وكان المرحوم المطران عبد الله البستاني إذ ذاك مطرانا على صور وصيدا، وكان يُقيم في بيت الدين، فنمى إليه أن هذا الغلام وغلامًا آخر يدعى شبلي ابن الخوري يوسف البستاني (المطران بطرس البستاني بعدئذٍ) قد تفردا بالذكاء والفطنة والاجتهاد بين أقرانهما، فاستقدمهما إليه، ثم بعث بهما إلى مدرسة عين ورقة بلبنان، فقضيا فيها عشر سنوات حتى أتقنا آداب اللغة العربية مما تيسر الحصول عليه إذ ذاك؛ كقواعد اللغة والمنطق والتاريخ والحساب والجغرافيا وتناولا اللغات السريانية واللاتينية والإيطالية، وتلقيا الفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري ومبادئ الحق القانوني.
بطرس البستاني 1819 – 1883م.
وكان صاحب الترجمة قد بلغ العشرين من سنِّه، فأراد غبطة بطريرك الطائفة المارونية إذ ذاك إرساله مع رفيقه إلى رومية للتبحُّر في العلوم الدينية، وكان والده قد توفي فعارضت والدته في إبعاده، فتعين مدرسا في مدرسة عين ورقة مشمولا بأنظار البطريرك، وكان البطريرك يعهد إليه قضاء بعض المصالح إلى سنة 1840م، وكانت حال الجبل في اضطراب لِمَا كان في نفس الدولة العليَّة على الأمير بشير وإبراهيم باشا، وكانت الدول الإفرنجية قد بعثت مراكبها إلى سواحل سورية تعين الباب العالي على إخراج إبراهيم باشا منها، وكان صاحب الترجمة قد درس اللغة الإنكليزية في بيروت أثناء إقامته بمدرسة عين ورقة وبعدها، فاستخدمه الإنكليز للترجمة، وكان دعاة المذهب الإنجيلي من الأميركان قد أخذوا في الإقامة ببيروت للتعليم ونشر مذهبهم، فتعرف إلى بعضهم، وجعل يختلف إليهم يعلمهم اللغة العربية، ويعرِّب لهم بعض الكتب، حتى تمكنت علائقُ المودة بينه وبينهم، ووافقهم على مذهبهم.
وفي سنة 1846م عزم أُستاذنا الخطير المرحوم الدكتور فانديك على إنشاء مدرسة عبية، فاستعان بصاحب الترجمة في إنشائها، فتولى التعليم فيها عامين ألف في أثنائهما كتابًا مطولًا في علم الحساب، سمَّاه كشف الحجاب، طُبع مرارًا عديدة، وذاع استعماله في سائر مدارس سورية.
ثم قدم بيروت وتولى منصب الترجمة في قنصلية أميركا مع مباشرة التأليف والترجمة والوعظ والخطابة ودرس - في أثناء ذلك أو قُبيله - اللغتين العبرانية واليونانية، وكان المرحوم الدكتور عالي سميث الأميركاني قد باشر ترجمة التوراة إلى العربية، فاستعان بصاحب الترجمة على ترجمتها، ولكن الأجل عاجل الدكتور سميث فأتم الترجمة المرحوم فانديك، وهي الترجمة الأميركانية المشهورة، أما المعلم بطرس فإنه شرع في تأليف قاموسه محيط المحيط.
وفي سنة 1860م نشر نشرةً سماها نفير سورية، وهي أول نشرة عربية ظهرت في سورية، وإذا جاز لنا أن نسميها جريدة؛ فالبستاني أول من أنشأ جريدة عربية غير رسمية بين قُرَّاء اللغة العربية.
وفي عام 1863م أنشأ في بيروت مدرسةً عاليةً سمَّاها (المدرسة الوطنية)، أسسها على الحرية الدينية ومبدأ الجامعة الوطنية العثمانية، فتقاطر إليها الطلبة من سائر أنحاء الشام ومصر والآستانة وبلاد اليونان والعراق وغيرها، فذاع صيتها في الآفاق، وظهر فضلها على رءوس الأشهاد، فأنعمت عليه الحضرةُ السلطانية بنيشان عالٍ؛ تنشيطا له ومكافأة لخدمته، وقد تولى ولده المرحوم سليم البستاني نيابة رئاسة المدرسة، وكان متضلعًا في العلوم الحديثة، فكان يدرس التاريخ والطبيعيات والصف الأول في اللغة الإنكليزية، وكان والده - رحمه الله - يلقي على التلامذة الخطب والمواعظ مرتين في الأسبوع.
وفي سنة 1869م فرغ من تأليف قاموسه محيط المحيط، وقد أخذه عن أشهر متون اللغة؛ ولا سيما الفيروزآبادي وصحاح الجوهري، ولكنه يمتاز عنها كلها بما يأتي:
1 أنه رَتَّبَه على حُرُوف المعجم باعتبار الحرف الأول من الثلاثي المجرد.
2 جمع فيه كثيرًا من الألفاظ العامية وفَسَّرَها بالألفاظ الفصحى.
3 أنه أوضح كثيرًا من أصول الألفاظ الأعجمية كان أصلها مجهولًا أو مهملًا.
4 أنه أدخل فيه كثيرًا من المصطلحات التي حدثت في اللغة بحدوث العلوم الحديثة المنقولة عن اللغات الأعجمية، فضلًا عن بسط عبارته وسهولتها.
فجاء كتابًا وافيًا بغرض طلاب اللغة العربية، تفهمه العامة وترضى به الخاصة، طبعه في مجلدين كبيرين، واستخرج منه مختصرًا سمَّاه قطر المحيط، أصغر منه حجمًا، خصَّصه لتلامذة المدارس، فشاع استعمال الكتابين في سائر أنحاء سورية وغيرهما، فلما تم طبعهما رفع نسخةً من محيط المحيط إلى حضرة الشاهانية، ونسخةً إلى الصدارة العُظمى، وأخرى إلى نظارة المعارف بالآستانة، فوقع عمله هذا موقع الاستحسان، فأجازته الحضرة السلطانية بالجائزة الأولى التي ينالها المؤلفون، وهي مائتان وخمسون ليرة عثمانية، وأنعمت عليه بالنيشان المجيدي من الدرجة الثالثة وترى في صدر هذه الترجمة رسم البستاني، والنيشان المشار إليه معلق في أعلى صدره.
وفي أول عام 1870م أنشأ مجلةً علمية أدبيةً سياسية سماها الجنان، وعهد بإدارتها وإنشائها في بادئ الأمر إلى نجله المرحوم سليم البستاني، وفي أواسط ذلك العام استعان ابنه سليمًا في إنشاء صحيفة سياسية سمياها الجنة؛ فهي من أقدم الجرائد السياسية العربية ببلاد الشام، ثم أصدر جريدة الجنينة، وتولى تحريرها ابن عمه سليمان أفندي البستاني ناظم الإلياذة، والجرائد الثلاث المشار إليها لا تصدر الآن.
ووعد في آخر قاموسه بتأليف قاموس للأعلام؛ أي مشاهير الناس، ولكنه رأى – بعدئذٍ - أن يتوسع في مشروعه هذا، فعوّل على تأليف قاموس شامل لسائر العلوم على اختلاف مواضيعها وأزمانها، فشرع فيه عام 1875م، يعاونه به ولده سليم وبعض الكتاب، وسماه(دائرة المعارف)، وهو كتاب فريد لم ينسج على منواله في اللغة العربية، فأصدر منه - رحمه الله - ستة مجلدات، وتُوفي وهو في بدء السابع، فأتم السابع والثامن ابنه المرحوم سليم، ولكنه تُوفي قبل الشروع في التاسع، فأصدر أبناؤُه الباقون الجزء التاسع بمعاضدة ابن عمهم سليمان أفندي البستاني، ثم حالت موانع أدت إلى إيقاف العمل في بيروت، ومضت على ذلك بضع سنوات إلى أن قدم القاهرة سليمان أفندي - المشار إليه - وأخذ في إتمام الدائرة مع ابنَي عمه نجيب أفندي ونسيب أفندي البستاني، فصدر الجزء العاشر ثم الحادي عشر
وكانت وفاته في أول أيار (مايو) سنة 1883م فجأة بعلة في القلب، فطار خبر منعاه في البلاد، فاهتزت له أنحاء سورية؛ لأن بفقده فقد الوطن السوري ركنا من أقوى أركانه في نهضته الأخيرة، فبكاه الأهل والأصدقاء، وأبَّنه الخطباء والعلماء، ورثاه الكتاب والشعراء.
مآثره وأعماله:
نبغ البستاني في سورية والعلم لا يزال طفلا في مهده، فأخذ في التعليم والتهذيب علمًا وعملًا، فألف الكتب وأنشأ المدارس والجرائد، فهو أول من أنشأ مجلة علميةً، وجريدة سياسية، ومدرسةً وطنيةً، وأول من أقدم على المشروعات الأدبية بعزم ثابت، فألَّف الكتب وسهَّل طبعها ونشرها.
وأشهر مؤلفاته: دائرة المعارف، ومحيط المحيط، وقطر المحيط، وكشف الحجاب، ومسك الدفاتر، ومفتاح المصباح في الصرف والنحو، وكتب أُخرى ورسائل عديدة للتثقيف والتهذيب، فضلًا عن ترجمة الكتب الدينية والأدبية، وأنشأ ثلاث جرائد: الجنان، والجنة، والجنينة.
ومن مشروعاته: المدرسة الوطنية، وقد رأس مدرسة الأحد في بيروت خمس عشر سنة، وترجم لها عدة رسائل دينية، دعا فيها إلى تربية الأولاد والإمساك عن المسكرات، وسنَّ قانونًا للمدرسة الداوودية التي أنشأها المرحوم داود باشا، وكان كثير الحَثِّ على تعليم النساء، وهو أول من خطب في هذا الموضوع بالشرق، وله خطب كثيرة تلاها على منابر بيروت وفي جمعياتها، ومقالات جمة نشرها في جرائده، كلها فوائد، وقد وصفنا كتبه في أثناء ترجمة حياته.
صفاته وأخلاقه.
كان ربعة، ممتلئ الجسم سمينا، قوي البنية، ولولا ذلك ما استطاع القيام بما عني به من المشروعات العقلية والإدارية، وكان حازمًا نشيطا، لا يفتر عن التفكر في مشروع يشرع فيه أو عمل يعمله لخدمة وطنه، فإذا بدأ بعمل أكَبَّ عليه بكلّيته مواصلا العمل للقيام به، وكانوا إذا افتقدوه ليلًا أو نهارًا عثروا عليه في مكتبه بين كتبه وأوراقه.
وكان ثابت الجنان، قادرًا على الأعمال، لا يأخذُهُ ملل ولا ضجر مع ما يعترض المشروعات العلمية والأدبية في بلادنا من العقبات مما يثبط العزيمة ويُضعف العزم؛ وخصوصًا في أيامه؛ فقد نبغ في عصر لم تتوافر فيه معدات الطبع والنشر، ولا اعتاد فيه الناس مطالعةَ الجرائد والإقبال على المؤلفات، ومع ذلك فإنه عمل أعمالًا يقصر عن القيام بها عدة من الرجال الأقوياء؛ فكان يؤلّف ويعلم ويترجم، ويُدير أعماله ويُكاتب عمَّاله وأصدقاءه، ويضبط حساباته ويدير مدرسته علمًا، وعملا، ناهيك بما كان يقوم به من المساعدات الأدبية لمن يقصده من المستشيرين والمستعينين، فيقضي حاجاتهم، ويحضر اجتماعات الجمعيات، ويقدِّم الخُطب والمواعظ، وهو مع ذلك يستقبل الزائرين بوجه باش، فلا يرجع أحدهم من بين يديه إلا شاكرًا حامدًا معجبًا بلطفه وغيرته.
وكان مخلص الطوية، دمث الأخلاق، لين العريكة صادق النية، محبًّا لوطنه ودولته، كريم الخلق، بعيدًا عن التعصب، كارها للتملّق والرياء، وكان سخيًّا على المشروعات الأدبية، بسيط المعشر، حسن المحاضرة، يسترضي جليسه شابا كان أو شيخًا، ويخاطب كُلًّا بما يناسب ذوقه وأخلاقه، وكان يعتقد أن المصالح العامة أساس كل تقدم، فيبذل جهده في تأييدها متخذا الصدق شعارًا والنشاط عمادًا
وكان مع ذلك رفيع الجناب، وقورًا محترما، لم يجالسه أحد إلا خرج وفي نفسه انعطافٌ إليه، وفي قلبه احترام له، فكان حيثما ذكر اسمه قُرن بالمدح والثناء والتجلة والوقار، فنال مقامًا رفيعًا في نفوس ذوي الوجاهة والمقامات الرفيعة وأهل الفضل على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم، وكان من أشدهم صداقة له أستاذنا الخطير المرحوم الدكتور كرنيليوس فانديك؛ فقد ساكنه وآكله وشاربه زمنا طويلًا كانا معًا أخوين متصافيين - ونعم الأخوان - فلما تُوفي صاحب الترجمة رثاه الأستاذ بلسان الصديق، وبكاه بدموع الأخ الشقيق، ومما قاله وقد وقف لتأبينه في الكنيسة:
إن لم يكن في نقد الرجال يد انظر إلى الموت كيف الموت ينتقد
يدور في الأرض حول الناس ملتمسًا كريم قوم ولا يرضى الذي يجد
إني لمظلومٌ بوقوفي هنا اليوم خطيبًا؛ لأن المقام الذي يليق بي وأرغب فيه إنما هو أن أقوم في وسطكم باكيًا نائحًا على أخي وحبيبي الذي خُطِفَ من بيننا خطفًا، بل هو معلمي وأستاذي ورفيقي، فكم أحيينا من الليالي معا في الدرس والمطالعة والتأليف وحلاوة المعاشر الصادرة عن اتحاد المقاصد والأغراض، فكيف أقف فوق جثته خطيبًا ولا أركع بجانبه حزينا كئيبًا.
ومما يدل على منزلته الرفيعة بين أهل الأدب والفضل، أنه لَمَّا وقع القضاء ومات البستاني تسابق الخطباء والعلماء إلى تأبينه، ورثائه، فملأت الجرائد أعمدتها رثاء، وسوَّدت صفحاتها حزنًا، ووقف الخطباء على ضريحه يرددون ذكراه، ويذكرون مآثره وآثاره، وهاك ما قاله في تأبينه المرحوم أديب إسحاق، إذ وقف على قبره والناس وقوف خشوع، وكنا في جملة السامعين فانتصب الأديب - رحمه الله - وقد امتقع لونه وابتلت عيناه وأخذ يقول:
كذا فليجلَّ الخطب وليفدح الأمر وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
إن هذا المصاب مصاب جسيم، إن هذا الخطب خطب عميم، إنها لمصيبة وطنية يقلُّ في مثلها بذل الدموع، إنها لنائبة عمومية لا يكثر في نظيرها تمزيق الضلوع؛ أجل، إن المصيبة فيك مصيبة الوطن يا من أنفقت العمر في خدمته مقدمًا مجتهدًا صابرًا متجلدًا متعففًا مستقيما، فلا بدع أنْ تبكيك العيون، ولا غرو أن تنفطر لفَقْدك القُلُوب، أوَلم تكن فينا مثال الفضل والاجتهاد، ونموذج البراعة والأدب، وعنوان التجلّد والثبات في خدمة العلم، بذلت في هذه الخدمة شبابك، ووقفت على هذا السبيل أتعابك، وجعلت العلم غايتك القصوى من دنياك، فكان لروحك روحًا، وكنت لذاته قوامًا.
فأي أثر أدبي رأيناه ولم تكن أنت البادئ به والداعي إليه، وأي مشروع مفيد شهدناه ولم تكن أنت الشارع فيه أو المعين عليه، أولست أول من خط على على صفحات القلوب ورسم على صحف الجنان: (حب الوطن من الإيمان)، وأول مَنْ أقدم على المشروعات الجسيمة العلمية بهمة، لا تخاف المصاعب والعقاب، ولا تألف إلا صدق العزيمة والثبات.
بأي آثارك لا تُذكر، وبأيها إذا ذُكرت لا تُشكر، وأي عين ترى أعمال يديك ولا تفيض دمعًا، بل دما، حزنًا عليك، وما الذي نذكره من آثار اجتهادك في استمرار ارتيادك ولا نجده عظيمًا، أمواظبتك على خدمة العلم والأدب أربعين عامًا أو تزيد، أم تآليفك وتصانيفك الغنية بشهرتها عن الوصف، أمحيط محيطك أم قطر محيطك، أم مدرستك الوطنية التي ملأت بها الوطن أنوارًا، ورفعت فيها للأدب الصحيح منارًا، أم جنانك التي غرست فيها أغصانا من العرفان من كل فاكهة زوجان، أم جنتك الزاهرة الدانية القطوف، أم دائرة المعارف التي .... كدنا نخاف أن تدور الدائرة عليها لولا الأمل فيمن أبقيت لها خلفًا كريمًا يحقق رجاء المحبين، ويتم الأمنية ويحقق الرجاء فيكون به للوطن عزاء.
في الأثر المأثور يا سادتي (من علمني حرفًا كنت له عبدا)، فمن مِنَّا لم يعلّمه هذا الفقيد حروفًا، من منا لم يستفد منه فوائد صنوفًا؛ من تصانيفه في كل فن من مدرسته الوطنية، من جرائده الزاهرة من آثار معارفه في كل موضوع، ومن منا لم يدفع الملل في أوقات الفراغ، ويغلب الضجر في ساعات الراحة، وينزّه الفكر بعد تعب الأشغال بتلاوة ما كان فقيدنا يحيى لإنشائه الليالي الطوال؛ فكيف لا نرثيه، وكيف لا نبكيه، وكيف لا نستعظم المصيبة فيه!
أي هذا الراقد تحت ظلال الرحمة والرضوان، لقد عشت سعيدًا مفيدًا، وقضيت حميدًا فقيدًا، وإن كان عُمُوم الأسف وشمول الحزن مما يبرد ثرى ويجلب غفرانًا، فقد جادتك سحب الرضوان والغفران مسوقة إلى ثراك من كل مكان مستمطرة على ضريحك بكل لسان:
نم سعيدًا يا من قضيت فقيدًا بجميل قدمت بين يديك
أنت أحسنت في الحياة إلينا أحسن الله في الممات إليك
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 37 – 44.