محمد بن الحبيب البوزيدي
تاريخ الولادة | 1239 هـ |
تاريخ الوفاة | 1327 هـ |
العمر | 88 سنة |
مكان الولادة | مستغانم - الجزائر |
أماكن الإقامة |
|
نبذة
الترجمة
محمد بن حبيب البوزيدي هو سيدي محمد بن الحبيب بن عبد الله بن أحمد بن زيدان بن الصغير بن الجيلالي بن عبّو بن عبد الله بن أحمد بن أمحمد بن عبد الرحمن بن علي بن عبد المالك بن إبراهيم بن عامر بن عثمان بن إسحاق بن علي بن سيدي بوزيد الغوث (دفين آفلو وإليه ينسب لقب العائلة البوزيدية) بن علي بن المهدي بن سفيان بن يسّار بن موسى بن عيسى بن محمد بن موسى بن سليمان بن موسى بن محمد بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي بجنوب مدينة مستغانم بقرية البساتين المعروفة الآن "بدبدابة" وبالتحديد بجنان "تكارلي" سنة 1824م / 1239هـ. أول نشأته نشأ تحت تربية أبيه سيدي الحبيب الذي كان من أشهر الفقهاء والعارفين بالله, إذ تلقى مبادئ التعليم منه ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية "قيراط" بضواحي مستغانم وتتلمذ هنالك على يد العارف بالله الشيخ سيدي الشارف بن تكّوك فقرأ القرآن وعلومه والفقه والحديث.
في هذه المدة, كان سيدي محمد البوزيدي يتفقد أهله من حين إلى آخر, وذات يوم قصد السوق مع أبيه فقبضت عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية بتهمة أنه يتسوق إلى المدينة وينقل الأخبار لرجال المقاومة تحت قيادة الأمير عبد القادر الجزائري, وكان سبب هذه التهمة رجل عميل للسلطات العسكرية الفرنسية, فمكث رضي الله عنه في السجن بعض الأيام تحت التعذيب وكان عمره لم يتجاوز العشرين, ثم أفرج عنه بتدخل أخد أخواله "الخواخة" أي من بني "يخّو" ثم نصحه بمغادرة المدينة وإلا سيقتل, فغادرها متجها نحو الغرب الجزائري حتى وصل إلى تلمسان ونزل بضريح أبي مدين شعيب الأندلسي بالعبّاد وقد نقل سيدي أحمد ابن عليوة رضي الله عنه ذلك عنه حيث قال: إن سبب سياحتي إلى المغرب كانت ببركات أبي مدين شعيب وبإذنه وذلك أني بت ليلة في ضريحه بعد أن تلوت شيئاً من القرآن وإذا به رضي الله عنه قد أتاني هو ورجل من أجدادي (سيدي بوزيد بن علي الغوث دفين آفلو) فسلما علي ثم قال لي: "اذهب إلى المغرب إنني سرحتك ! ", قلت له: "إن المغرب كثير السموم والحيات (حِِّسًا ومعنى) وإنني لا أقدر أسكنه", فأخذ يمسح على جسدي بيده المباركة وقال لي: "إذهب لا تخف إننا حفظناك مما يطرأ عليك !", فاستيقظت مرعوباً ومن ضريحه توجهت إلى المغرب فحصلت على ملاقاة الشيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي رضي الله عنه بزاويته بجبل كركر, ففتح الله على عين قلبه, فحصل على الفتح المبين وأصبح من المقربين لشيخه حيث قضى أربعين سنة من عمره في خدمته ولهذا كان رضي الله عنه كثيراً ما يأمر أتباعه بزيارة ضريح سيدي أبو مدين رحمه الله ويذكره بالفضل.
لمّا قرب انتقال الشيخ سيدي محمد ابن قدّور الوكيلي رضي الله عنه إلى جوار ربه كان يردد هذه الكلمات: "أخذ البوزيدي الِقربة برباطها ! " والِقربة هي وعاء من جلد الشاة للسقاية, وهذه إشارة واضحة بأن سيدي البوزيدي اخذ السّر من شيخه, ثم أذن الشيخ الوكيلي لبعض مريديه والانصراف إلى أهلهم كسيدي عبد القادر بن عدة البوعبدلي دفين غيليزان وسيدي محمد بن مسعود من الغزوات وسيدي محمد الهبري دفين آحفير, ثم كلف من بعد ذلك سيدي محمد البوزيدي بأن يخلفه في مقامه ويشرف على زاويته وتربية أبنائه الصغار. عمل سيدي محمد البوزيدي بوصية شيخه, فكان معلما ومرشدا وموجها وحكيما في التربية وتلقين الإسم الأعظم وكان لما يكثر عنده عدد المريدين ولا يجدون مكانا مُعِدًا للجلوس وليس للزاوية ما تفرشه لهم, يأمر بقطع القطف وهو نوع من الحشيش الأخضر الغليظ ويقول لهم: "أجلسوا, هذا سندس وإستبرق ! ", وبقي سيدي محمد البوزيدي على رأس الزاوية مؤدياً ما كُلف به بضع سنين إلى أن تصّدر أبناء شيخه بوشاية كاذبة وحسدا من بعض الأشقياء يتهم فيها الشيخ بأشنع الأعمال وحرضهم على قتل سيدي محمد البوزيدي لأنه كما يقول أخذ زاوية أبيهم وحّل مكانهم. لمّا علِم الشيخ سيدي محمد البوزيدي بذلك من أحد مريديه المخلصين, عزم على الرحيل وقال له: "هذه علامة الإذن والانصراف حيث شاء الله والحمد لله قد وفيت بما كلّفني به شيخي في تصدير أبنائه والآن علمت علم اليقين أنهم قد بلغوا سن رشدهم فلا خوف عليهم.
ثم غادر سيدي محمد البوزيدي جبل كركر وزاوية شيخه بالليل ولا يمشي إلا تحت ظلام جناحه وكان لا يتحرك بالنهار لئلا يدركه طلاب قتله إلى أن وصل إلى قرية "وردانة" بإقليم الناضور فدخل على أهلها وقت العشاء بالمسجد وطلب منهم الضيافة فسألوه عن نفسه ومن أين أتى وعن شغله ومهنته فقال: "إني فقيه ومعلم الدين للصبيان", فلما أكرموه بالطعام, صلى بهم صلاة العشاء, ثم تأسفوا لعدم إيوائه بمنازلهم خوفا عليه من بعض الغارات لبعض القبائل وطلبوا منه المبيت بالمسجد وأخبروه بأن المسجد مسكونا من شيطان جان فتك بكثير من معلمي القرآن للصبيان, فقالوا له: "إن كنت كما تقول, فها أنت والمسجد وإلا انصرف لتنجو بحياتك", فأجاب: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله, أنا وهذا الظالم تجري علينا جميعا مقادير الله". فتفرق الناس إلى منازلهم وبقي سيدي محمد البوزيدي في غاية الأنس بالله حتى ظهر له هذا الشيطان في صوت مرعب يخرج من فيه وأنفه النار والدخان, فتلا سيدي محمد البوزيدي سورة الإخلاص, فثبته الله بها وربط على قلبه فكرر سورة الإخلاص وهو يوجه سبابته اليمنى حيثما تحرك الجان, فأحرقه الله تعالى بنور وبركة هذه السورة إلى أن صار الجان حفنة من رماد, ثم نام رضي الله عنه, وقرب الفجر قام وتوضأ وتلا ورده من النوافل وصلى صلاة الصبح بالمسجد ثم جاء أهل القرية ليروا ما آل إليه حال الشيخ الفقيه فوجدوه في اطمئنان يذكر ورده, فتعجبوا وسألوه عمّا كان من الظالم فقال لهم: "لقد طهّر الله هذا المسجد منه" وأشار إلى تلك الحفنة من الرماد وقال: "أدفنوها ! ", ثم استأذنهم بالانصراف فقسموا بالله عليه ألا يذهب حتى يُعَلِّم أبنائهم وتقدم كبير القوم وإسمه محمد بن يحيى الورداني وعرض عليه إبنته فاطمة الوردانية فتزوجها سيدي محمد البوزيدي, وهنا في هذه القرية "وردانة" لُقِّب سيدي محمد البوزيدي بسيدي حمّو الشيخ لأن في شمال المغرب يطلق السكان الريفيون على من يحمل إسم محمد بِحمّو. انتشر خبر سيدي محمد البوزيدي وما أجراه الله على يده من تلك الكرامة وعَّم الخبر جميع شمال المغرب, فلما سمع فقراء زاوية كركر بذلك ذهبوا إليه فأمرهم بالرجوع إلى زاويتهم قائلا لهم: "إنني لست من الماكثين هنا, بل أنا عازم على الرحيل إلى وطني", فصارت بعد ذلك قرية وردانة قبلة معنوية يتوجه إليها الناس لطلب العلم وتخرّج على يد الشيخ سيدي محمد البوزيدي شيوخ في علم الشريعة وعلم التصوف منهم عدد كثير من العلماء والعارفين بالله.
لما رأى سيدي محمد البوزيدي أن الدعوة إلى الله قد تمت وأقبل عليها جمهور غفير ونوَّر الله بها قلوب العباد وعمَّ النفع على البلاد, أدرك أن مهمته انتهت في هذه القرية فتوجه برفقة أهله نحو الجزائر وحطَّ رحاله بمسقط رأسه مستغانم, وسكن ببيت أمام مسجد سيدي يعقوب وكتم أمره ولم يدع أحدا إلى علم القوم, بل اكتفى بتعليم القرآن للصبيان وفي هذه الأيام بالذات كان لقاءه بتلميذه سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي وشريكه في التجارة سيدي بن عودة بن سليمان الذي كان أول من اتصل به حين تفرس فيه الإمامة والدلالة على الله بالإرشاد. في يوم من الأيام, نزل على مستغانم ضيف من أجّل القوم معرفة من صفاقص ببلاد تونس حرسها الله, وكان أهالي مستغانم يحتفلون برجال الخير والعلم والصلاح ويلتفون حولهم حتى صارت مستغانم تلقب بمصر الصغيرة, ورفع النداء من المنادي أن "سيدي محمد ظافر المدني الصفاقصي نازل بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الموجودة بتجديت قرب ضريح سيدي السنوسي, فهلم للاجتماع والانتفاع". أثناء حفل الاستقبال بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الذي كان آنذاك على قيد الحياة وكان من أهل الخير والصلاح ذا مال أنفقه جميعا في سبيل الله في المشاريع الخيرية وكانت مأدبة الضيافة للضيف التونسي وللحاضرين من الأهالي على نفقته, فتغيب سيدي الحرَّاق عن الجمع بعض اللحظات ليأمر ببعض الخدمات للضيوف, فناداه سيدي محمد المدني الصفاقصي بأعلى صوته: "يا سيدي الحرَّاق" 3 مرات, فرَّد عليه سيدي محمد البوزيدي الذي كان من الحاضرين في مؤخرة المجلس: "لا يكون الحرَّاق حرَّاقاً في طريقتنا حتى يحرق الكون من عرشه إلى فرشه ! ", فتعجب سيدي محمد المدني الصفاقصي من هذا الكلام وسأل من الرجل؟ فأجابه من كانوا بحاشيته من العلماء أن هذا يسمى بالبوزيدي الدرَّار أي أنه يعلم القرآن للدراري ( الصبيان), فأجاب سيدي محمد المدني: "بل هذا معلم للكبار فائتوني به", فتقدم سيدي محمد البوزيدي وجلس بقربه وتناقشا في علم القوم. و لما تبين في غاية الوضوح أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي للشيخ محمد المدني الصفاقصي, قام هذا الأخير خاطباً في الناس إعجاباً بأمر الشيخ البوزيدي ثم قال: "أيها الإخوان, غداً إن شاء الله يكتب كل أحد منكم في ورقة كل ما خطر بباله ويكتب إسمه ويأتي بها إلي", فكلف سيدي البوزيدي تلميذه سيدي أحمد العلوي أن يكتب في ورقة ما يخطر بباله, فلما كان الغد, حضر الناس ومعهم الأوراق ووضعوها أمام الشيخ المدني, فأطلع عليها فوقف عند ورقة مكتوب عليها: إن شئت بنظرة تسقي الأنام وإن شئت بلمحة تمحي العالم فأمسكها بقبضة يده وقال: "خذوا هذه الأوراق واحرقوها بالنار" ثم قال: "من كتب هذه الورقة؟" قالوا له: "هو مريد ذلك الرجل الذي تكلم بالأمس", فتعجب من أمر أهالي مستغانم ثم بادر بالكلام جهرا بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله الكريم قائلاً: "يا أهالي مستغانم, كيف غفلتم عن رجل إمام عصره وواحد في زمانه, فو الله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن رجل مثل هذا (و أشار باحترام إليه) موجود في هذه المدينة لا أدخلها وإن كان لا بد من دخولها فبإذنه...ثم ختم كلامه بقوله: يا أهل مستغانم, إن كان مرادكم الله فبلدتكم عامرة وأنا فلا تنتظروني بعد هذا اليوم ! ", فذهب سيدي محمد المدني ولم يرجع إلى مستغانم منذ ذلك الوقت. ففي هذه الليلة ووسط هذا الجمع الغفير ظهر من جديد أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي وتعلق به وتتلمذ عليه بعض الأفراد من أبرز وأخير وأطهر عائلات مستغانم, فشعر الشيخ البوزيدي بالوجوب عليه بالإرشاد على الله بمن تعلق به إيمانا واعتقادا فأحيى من جديد الطريقة الدرقاوية وكثر تابعيه وخاصة العارفين من كبار الشيوخ من أمثال سيدي محمد بن يلس التلمساني شيخ الطريقة الدرقاوية بتلمسان وسيدي العربي الشوار من تلمسان كذلك وشيوخ آخرين من شتى نواحي البلاد الغربية وشمال المغرب وأشعت الدعوة البوزيدية بأنوارها الشرق الأوسط والقائمة طويلة وفتح الله على الكثير منهم وبفضلهم انضم إلى الطريقة الدرقاوية كثير من العروش والقبائل أمثال بني زروال وأولاد أحمد والسلاطنية والسدايرية وآل العتبي وجمع غفير من الخلائق أفرادا وجماعات.
كان الشيخ البوزيدي معروفا وموصوفا بالزهد, أتاه يوما مريده الفقير إلى الله تعالى سيدي أحمد بن إسماعيل وقال لشيخه: "إن الحاكم للإدارة الفرنسية يطلب منك الحضور عنده", فرد عليه الشيخ البوزيدي: "مالي والحاكم الفرنسي وما حاجته عندي؟", فرد عليه: "مقابلة ودية واستطلاعية على حالك فقط", فجمع الشيخ قوته وأنفاسه وذهب بشق الأنفس ولما وصل إلى مبنى الإدارة وجد رجلا من المستخدمين عند الحاكم ينتظره فأدخله عليه, وبعد دردشة قصيرة, قدم الحاكم للشيخ هدية تتمثل في برنسين موضوعين في ظرف, وعند خروجه من المبنى, مشى خطوات فرأى رجلا شبه عاري فأخذ برنسا وستره به, ثم خطى خطوات قليلة وظهر له رجلا آخر في حالة الأول فكساه الشيخ البرنس الثاني ورجع إلى زاويته, ثم جاء بعد ذلك مستخدم الإدارة الفرنسية ليطلع ما فعل الشيخ بالبرنسين فوجده على هيئته المعتادة, فسأل الفقراء وأخبروه ما فعل الشيخ مع الرجلين العاريين وما قاله رضي الله عنه في ذلك: "جاء البرنسان من الله وعادا إليه والله لا يضَّيع أجر المحسنين ! ". كان الشيخ البوزيدي لا يملك سوى عباءة أو جبة واحدة فقط, وجاءه ذات يوم فقراء من مريديه, فخرج إليهم مرتديا ثوب زوجته, فتحيروا وتعجبوا وسألوه, فقال لهم: "غسلت جبتي وليس لي ما ألبسه إلا ما ترون", فلام الفقراء أنفسهم بالغفلة عن أبيهم الروحي وهم يلبسون أفخر الثياب ولكونهم خصوصا من كبار الأغنياء والأثرياء بمدينة مستغانم, فتسارعوا كلهم ورجعوا من حينهم إلى شيخهم كل منهم حامل افخر الثياب وما أخذ الشيخ إلا ثوب واحد وأمرهم بأن يتصدقوا بالبقية على ذويهم وأهاليهم المحرومين. كان الشيخ البوزيدي ذات يوم مدعوا إلى حفل زفاف, فأجاب الدعوة وحضر المأدبة, وجاء إلى العرس شيخ من شيوخ التبرك مع تلامذته, وقبل أن يدخل, أخبروه بأن الشيخ البوزيدي حاضر, فأقسم بالله أن لا يدخل المنزل هو وتلامذته حتى يخرج منه الشيخ البوزيدي, فاستشار صاحب العرس زوجته فأجابته: "سأصنع طعاما للشيخ البوزيدي يتغذى به هو أهله, فاصرفه بهذه الكيفية الجميلة", فلما أحضر صاحب العرس طبق طعام من كسكسي إلى الشيخ البوزيدي تقبله القبول الحسن ودعا للعريسين بالمودة وحسن المعاشرة على الدوام ولصاحب العرس بالخير والبركة وانصرف, ثم لم يقصد الشيخ البوزيدي منزله ليطعم بهذا الطعام أهله, بل أطلعه الله تعالى على سوء المعاشرة والعداوة التي كانت بين صاحب العرس وأخت له لم يدعها للحضور إلى العرس لتفرح بزواج ابن أخيها, فذهب إليها الشيخ البوزيدي وخرج إليه زوجها فقدم له الطبق وقال له: "إن صهرك, أخا زوجتك يعتذر لكما عن هذا النسيان ويدعوكما فورا إلى العرس, فلما سمعت زوجة الرجل كلام الشيخ البوزيدي غمرتها الفرحة والسرور وزغردت وذهبت لتشارك في هذه الفرحة, ثم تساءل أهل الوليمة عمن دعاها, وما عرفوا ذلك إلا من خلال الطبق الذي قدموه للشيخ البوزيدي حيث عاد إليهم مملوءا بالحلوة فعلموا بذلك صاحب الفعل الحسن ومصلح ذات البين. كان الشيخ البوزيدي يمشي ذات يوم بشارع معظم المحلات التي توجد به يملكها يهود, فسقط أمامه يهودي على الأرض وكان متقدما في السن, فأسرع إليه الشيخ البوزيدي وساعده على القيام وهو يمسح عن ثيابه الغبار ووضع على رأسه قبعته مرددا كلمة: "لا بأس عليك, لا بأس عليك", فإذا التجار اليهود يندهشون من هذه المعاملة الحسنة من طرف رجل حامل لواء الشريعة المحمدية, ومنذ ذلك اليوم, كلما مرَّ عليهم الشيخ البوزيدي حيّوه بأسمى التحية والتقدير والاحترام. ذات يوم قال أحد مشايخ البركة للشيخ البوزيدي: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام, وقال لي إن البوزيدي من أصحاب النار, فرد عليه الشيخ البوزيدي بكل رحابة صدر وبوجه طلق وبالابتسام والبشاشة: "سيدي, أصحيح رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بأنني من أصحاب النار؟ جازاك الله خيراً, فقد كنت أظن أن أمثالي ليسوا مذكورين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعبأ بهم ولكن الحمد لله على كوني مذكورا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مهتم بذكري وأمري فهو الشفيع المشفع في العصاة والمذنبين أمثالي, جازاك الله عني خيرا والسلام عليكم.
في يوم من الأيام قدم على الشيخ البوزيدي مريد من البادية لزيارته وهو متشوق للأكل اللذيذ الذي سيأكله في ضيافة شيخه, فنهض به الشيخ البوزيدي من المقام الأسفل إلى المقام الأسنى إذ أتاه بصحن فيه فول وقال له: "تقدم يا ولدي وكل ! " ثم أشار إلى بطنه واستطرد قائلاً: "ما هذا إلا مصران ذو رائحة كريهة فملأه بما وجدت وانهض في طلب الله تعالى بذكره ليلا ونهارا فلعل رحمة الله تشملك فتجذبك من سباتك وغفلتك إلى يقظة المعرفة ومشاهدة أنوار ربك ببصيرتك, فإذا انجلى ليلك منك طلع نهارك وأشرقت شمس هدايتك فلا تأفل ولا تؤول ولا تزول أبدا حتى تلقى الله وهو راضي عنك". و قد كان يوما يتحدث إلى مريديه عن النفس وخداعها وأن لا يطمئن لها المريد إذا رأى فيها علامات الركون والتطوع إلى الطاعة إذ مكرها يفوق مكر الشيطان بأكثر من سبعين مكرا فلذا قال لهم ضاربا المثل بنفسه: "لا زالت تحدثني نفسي حديث الشباب وأنا قد بلغت ثمانين عاما وإني لأرى الشيطان يحتال لمخادعتي كما يحتال السارق بالليل على صاحب الدار". وقعت للشيخ البوزيدي واقعة مؤلمة في مصيبة ورزية إبنه الذي قتل خطأ في احتفال المولد النبوي الشريف رميا بالرصاص في إحدى حلقات طلق البارود فلما حضر سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي إلى مصرع ابنه ورأى ابنه ملقى على الأرض ودمه ينزف قال له أحد الحاضرين: "سيدي تعالى لأريك قاتل ابنك", فرد عليه لشيخ بهذه العبارة: "اذهب يا كلوفي فإن قاتل ابني أعرفه وهو الذي حكم على كل نفس الموت!" وحمل ابنه ميتا وأقيمت له جنازة ولم يرفع أي شكوى ضد قاتل ابنه ودفنه محتسبا بقول الله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا أ وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
من كراماته أنه كان سيدي مصطفى بن كريتلي المذكور سابقا أحد مريدي الشيخ البوزيدي في سفر إلى فرنسا برفقة فقير آخر وهو سيدي أحمد بن إسماعيل, فمرض سيدي مصطفى مرضا شديداً وكان سيدي أحمد بن إسماعيل يتردد على سريره مصحوبا بالأطباء عدة مرات وفي المرة الأخيرة دخل عليه مرافقا الطبيب ليقدم له بعض العلاج للتخفيف من آلامه فإذا بهما يجدان سيدي مصطفى بن كريتلي قائما على رجليه وبصحة جيدة, فتساءل الطبيب: "أين المريض الذي هو في حالة الموت كما قلت لي؟", فرد عليه سيدي بن إسماعيل: "و الله لا أدري ما أقول لك, قبل لحظات كان في حالة الاحتضار في درجة حرارة عالية وهو يئن والآن اندهشت وأنا أراه معافى", فتدخل سيدي مصطفى بن كريتلي قائلا لسيدي إسماعيل: "ادفع أجرة الطبيب واصرفه وأخبرك بالذي جرى", بعدما خرج الطبيب ذكر سيدي مصطفى بن كريتلي لسيدي بن إسماعيل ما جرى له وهو مستبشر وفي غاية الاطمئنان وهو يثني على الشيخ البوزيدي الثناء الجميل: "هل تدري من دخل علي قبلكما بوقت قليل؟ وهل تتخيل على أي مطية طوى المسافة التي بيننا وبين مستغانم؟ إنه شيخي الآخذ بيدي ملاذي في اليسر والعسر, إنه ذاك الخامل المتواضع الذي تحققت فيه العبودية لله وتحققت نسبتنا فيه, سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي دخل علي والباب مغلق فمسح على رأسي وجسمي كله وقال لي شفاك الله ولا بأس عليك وانقطعت صورته أمامي بتمام كلمة لا بأس عليك فنهضت كما رأيتني أنت والطبيب". فلما عادا المسافران إلى مستغانم أخبرا الفقراء بهذه الكرامة فتعجب الجميع وقالوا أن الشيخ لم يغادر مستغانم وأنه حظر معهم الصلوات الخمس أثناء سفرهما, وعند ذلك تكلم فقير وهو سيدي حمادي بن قارة وكان من أكبر التجار في القماش والملابس وسأل سيدي مصطفى بن كريتلي سؤال دقيق: "في أي يوم وفي أي ساعة وقع ذلك؟" فذكر له اليوم والساعة فاستطرد سيدي حمادي قائلا: "إن في هذه الساعة التي ذكرها سيدي مصطفى, دخل علينا في المحل سيدي الشيخ البوزيدي في حالة لم أعهده عليها, كان وجهه منقبضا وجبينه يتفصد عرقا وهو في حال اضطراب وقال لي: ناولني كأس ماء بسرعة فإن ولدي مريض, إن ولدي مريض, إن ولدي مريض, كررها ثلاثة مرات, فلما انتهى من شرب الماء قال: الحمد لله لا بأس عليه". ومن كراماته أنه كان له فقير من بين الفقراء الذين حفظت لنا ذاكرة التاريخ أسمائهم, سيدي الموفق بن عمر الذي كان يسكن بقرية المحافيظ من ولاية غيليزان, فقد كان يزور شيخه سيدي البوزيدي بمستغانم ويقضي في زاويته بعض الأيام, وفي ليلة من الليالي بينما كان سيدي عمر ضيفا على الزاوية إذ بالشيخ سيدي البوزيدي يأتيه ويأمره بالانصراف إلى أهله عاجلاً, فعاد إلى قريته متسائلا لماذا أمره الشيخ بالرجوع وهو الذي كان يقضي عنده الليالي والأيام فلا يضيق الشيخ بوجوده وربما لم يعد له الحظ في صحبة العارفين بالله, أو أطلع الشيخ على شقاءه مستقبلا إلى غير من هذه الخواطر التي كانت في ذهنه حتى وصل إلى بيته في الصباح فاستقبلته زوجته معنفة له الكلام بصوت مرتفع قائلة: "كيف تتركني وحدي وقد جاء اللصوص في الليلة السابقة وفتحوا الباب واخرجوا بعض الرؤوس من الضأن فرفعت صوتي طالبة الغوث فأخذ أحد اللصوص حجرا ليضربني به فجاء رجل كبير في السن ونزع الحجر من يده ورّد المواشي إلى مكانها وقال لي: "لا تخافي إنني معك ! " وأغلق الباب وذهب باللصوص الثلاثة". وما كان اللصوص إلا من أهل القرية وقد عرفتهم زوجة سيدي الموفق بن عمر الذي حمد الله وعرف سبب انزعاج الشيخ والدافع الذي أمره بالرجوع. و لما خرج الشيخ البوزيدي في فصل الربيع للسياحة ووصل إلى قرية المحافيظ واجتمع أهل القرية عليه, اشتكى سيدي الموفق بن عمر إلى الشيخ من اللصوص الثلاثة, فسال الشيخ اللصوص هل إذا كانت دعواه صحيحة؟ فردوا عليه بأنها اتهامات من غير حجة ولا برهان, فقال لهم الشيخ: "صحيح, كما هو شرعا الحجة على من ادعى ولكن اليمين على من أنكر, فهل تقسمون بالله أنكم أبرياء من هذه الاتهامات؟", فرد عليه الثلاثة بنعم يا سيدي, وهنا كشف الشيخ أمرهم قائلا: "توبوا إلى الله ! ", ثم أشار إلى أحدهم وقال له: "أنت من نزعت الحجر من يدك والتي كنت تريد أن تضرب بها زوجة سيدي الموفق وقد أخذتكم وأنتم لا تبصرون حتى طلع عليكم الصباح... إن اليمين الغموص هو القسم بالله على الكذب في حالة التعمد فهو أقبح عند الله من هذه المخالفة, لأنه يؤدي بصاحبه إلى الرّدة وهو الكفر بالله بعد الإيمان فيحبط الله جميع أعمال الخير وتصير هباءً منثوراً, فأي المخالفة أحق, عصيان الله أم الكفر بالله؟ أتكفر بالله إن اقترفت المعصية ؟, والمعصية تُكَفَّرْ بالتوبة إلى الله تعالى, فاطلبوا العفو من أخيكم سيدي الموفق واستغفروا الله إن الله غفور رحيم", فاعترف الجميع بجرمه وتابوا إلى الله وطلبوا الصفح من سيدي الموفق وأخذوا الطريق على الشيخ البوزيدي وعاشوا وماتوا ذاكرين بفضل الله تعالى. ومن كراماته أنه كان ذات يوم في سياحة مع سيدي بوزيد بن مولاي المقدم لقرية عتبة, فلما وصلا إلى قرية من القرى لم يرحب بهما أهلها ورموهم بالحجارة وأطلقوا عليهما كلابهم ليصدوهما عن دخول القرية فابتعدا شيئا عنها وجلسا تحت شجرة ولما غربت الشمس رجع المقدم سيدي بن مولاي إلى القرية ومعه علبة كبيرة من حديد يستخدمها (كطبل) ودخل يغني بأعلى صوته قصيدة غزلية تطرب أسماع هؤلاء الغافلين عن الله فقدموا عليه وتسابقوا ظنا منه أنه شيخ السماع فجعل العلبة جنب أذنه اليمنى ونظر إلى السماء وجاب بالطول والعرض حلقة المتفرجين وهو يغني بأعلى صوته بالألحان المحبوبة لديهم, فالتفوا حوله ثم تكلم كبير القوم وقال: "أرجوك أن تسامحنا على سوء مقابلتك أول ما نزلت بنا اتهمناكم وظننا أنكم من هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وباسم الدين ولم نعرف بأنك شيخ مغني الرجاء منكما أن تقضيا بعض الأيام عندنا فلنا عدة حفلات من زفاف وختان لصبياننا", فأكرموه غاية الإكرام ثم استأذنهم ليأخذ شيئا من الطعام لصاحبه وبعدما أكل الشيخ وشرب, قص عليه القصة واستأذنه للرجوع إلى القرية فقال له: "ارجع لأنهم اقبلوا عليك", فأجاب سيدي بن مولاي: "حاشا يا سيدي الشيخ بل أقبلوا على علبة من حديد فارغة". ورجع سيدي بن مولاي إلى القرية وهو يداعب عواطفهم بالأغاني الغرامية البدوية ولما رأى أنه ملك قلوبهم توقف عن الغناء قائلا لهم: "أليس من سوء حظكم وأسوء حالكم أنكم طردتم شيخا عارفا بالله من كبار المحققين صاحب الشريعة والحقيقة وكل من تعلق به وتوسل به إلى الله عز وجل خيمت عليه سعادة الدارين، وقبلتم على علبة فارغة ومغنيها فارغ فاستبدلتم العامر بالفارغ والخير بالشر والنور بالظلمات والسعادة بالشقاء والحقيقة بالأوهام؟"، فعندئذ شعر أهل القرية بأنهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما لا تكفره إلا التوبة إلى الله سبحانه عز وجل فطلبوا من المقدم بأن يأتيهم بالشيخ فقال لهم: "والله لا أفعل بل اذهبوا أنتم إليه واستسمحوه" ففعلوا ورجعوا به إلى قريتهم وجعلوه وسيلة إلى الله وأصبحوا من الذين أنعم الله عليهم بالخير العميم. ومن كراماته ذلك الحوار الذي جرى بين سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل المستغانمي وصهره سيدي الحاج محمد العشعاشي التلمساني أحد مريدي الشيخ سيدي محمد الهبري المغربي وكل منهما أي المريدين يثني على شيخه بالثناء الجميل, وبما أن سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل كان فانيا في شيخه قذف الرغبة في قلب سيدي الحاج محمد العشعاشي ليزور سيدي الشيخ البوزيدي ليطع على حاله عيانا ولا يكتفي بالسماع عنه وفعلا جاء سيدي الحاج محمد العشعاشي إلى مستغانم زائرا برفقة شخصين من كبار مقاديم الشيخ محمد الهبري وأثناء الطريق قال بعضهم لبعض: "إن زيارتنا هذه للشيخ البوزيدي على سبيل الإطلاع والفحص في حقيقة ولايته فإن كان من المقبولين عند الله المؤيدين بنصره فإنه يأتينا عند الغذاء بأكل خاص لكل واحد منا ", وذكر كل واحد منهم ما يشتهي أكله. وعند وصولهم كان في لقائهم سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل وأتى بهم إلى الشيخ البوزيدي فرحب بهم الشيخ وضيفهم بمنزله وذهب إلى زوجته قائلا لها: "هذا سيدي الحاج محمد العشعاشي ورفيقاه من تلمسان فهل لك شيء نقدمه لضيوفنا فردت عليه بصوت عال سمعه الضيوف قائلة: "كيف تستدعي أهالي تلمسان وليس في بيتك بصلة واحدة!", فبينما هم جلوس مع الشيخ وهو يحدثهم عن عجائب قدرة الله التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء وكأنه يشير إليهم على ما أبطنوه في سر أنفسهم فإذا بطارق على باب بيت الشيخ فخرج وأتى بطبق فيه أكل للذي اشترطه وجعله بين يديه وقال: "هذا لك سيدي كما طلبته" وللمرة الثانية يطرق على بابه فيخرج الشيخ ويأتي بطبق فيه الطعام المطلوب كذلك وجعله بين يدي طالبه ويقول له: "هذا لك كما اشترطته علينا" ثم في المرة الثالثة كذلك حتى وصل إلى كل منهم ما اشترطه وتحققت رغباتهم جميعا وعلموا علم اليقين أن الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي من الراسخين ومن المشايخ الكُمَّل المؤيدين بالعناية الربانية وطلبوا منه الدعاء الصالح واستأذنوا في الانصراف فدعا لهم بالخير والصلاح ثم انصرفوا. ومن كراماته أنه كان له مريد شاب صغير من أقرباءه وهو سيدي الطيب بن طه حيث كان مبتدئا في حفظ القرآن وفي ليلة من الليالي نظم حفلا كبيرا فاجتمع طلبة القرآن ومشايخ وعلماء وبدئوا بتلاوة القرآن جماعة وكان سيدي الطيب إذ ذاك لا زال لم يحفظ القرآن كله فخرج من حلقة تلاوة القرآن وجلس مع باقي المؤمنين الذين لا يقرؤون فأخذوا في لومه وتوبيخه: "أنت شريف من أبناء سيدي بوزيد ولا تجتهد في حفظ القرآن كفلان وفلان مشيرين إلى الذين كانوا في سنه, فأنت كسول لئيم تكره التعليم ولا يرجى منك خير" إلى آخره...فازداد غما على غم ولما رجع إلى البيت قال لوالدته في صباح الغد: "إني ذاهب إلى زيارة شقيقتي المتزوجة (في قرية تبعد عن مستغانم) فهل لك شيء من هدية أو زاد لأدخل على ابنتك السرور؟", فجمعت له والدته من الطعام وأخذ طريقا مغايرا متوجها إلى المغرب الأقصى وحط بطنجة حيث مكث فيها عدة سنوات وانقطع خبره ويئس أهله من العثور عليه. ثم مرت ثماني سنين, فبعث سيدي الطيب بن طه برقية إلى أخيه محمد الذي كان مقدم الشيخ البوزيدي بقرية سيدي خطاب يخبره فيها بأن الله قد فتح عليه بحفظ القرآن بالروايات السبع والتفقه في الدين ولم يبق له إلا الرجوع إلى ذويه وأهله ولهذا يطلب منه أن يبعث له بمال يمكنه من الرجوع إلى الوطن فجاء سيدي محمد بهذه الرسالة إلى الشيخ البوزيدي قائلا له: "سأبيع الفرس وأبعث بثمنها إلى سيدي الطيب ليعود إلينا", فرد عليه الشيخ: "لا تفعل والطيب سيعود الله به سالما!". ثم يروى سيدي الطيب لأهله ما جرى له بمدينة طنجة فقال : فبينما أنا في المسجد الذي أطلب فيه العلم حتى قوي عزمي كأنما قوة تجذبني إلى زيارة ميناء مدينة طنجة, فبينما أنا أتجول فإذا بي أسمع صوتا يناديني: "يا الطيب! يا الطيب!", فلما التفت رأيت رجلا متكئا على كرسي طويل بالزَّي التركي فسألني عن نسبي فقلت من أبناء سيدي بوزيد ثم سألني مرة ثانية أو تريد أن تذهب إلى مدينة وهران فأجبته بالإيجاب كدت لا أصدق هل أنا في يقظة أم في المنام فرد علي: "إن السفينة قد ذهبت إلى مدينة وهران وستعود يوم الأربعاء وستسافر عليها إلى وطنك إن شاه الله", فرجعت إلى المسجد مبتهجا مسرورا حامدا الله وشاكرا له على هذه الملاقاة بهذا الرجل الكريم. فرجعت إلى الميناء مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء, فوجدت نفس الرجل على هيئته فقال لي: "يا لطيب لقد وعدتك يوم الأربعاء فما أعجلك؟", فقلت: "يا سيدي والله خشيت أن أتأخر عن الموعد وتذهب السفينة وأتخلف عنها", فأخذ بيدي وذهب بي إلى الخبَّاز واشترى لي خبزتن كبيرتين وذهب بي إلى تاجر آخر واشترى لي عسلا وزبدة وذهب بي إلى صانع الشاي فأمره ودفع له الأجرة مسبقا حتى قلت يكفي وأعد لي مكانا أنام فيه, وفي صبيحة الأربعاء عند الضحى وجدت نفس الرجل يتفاوض مع قائد الباخرة فدفع له الثمن وقال له: "خذ هذا إلى مدينة وهران", فأخذت متاعي وصعدت على مدرج الباخرة وأنا مغمور بالفرحة لم ألتفت إلى السيد الكريم فأشكره على صنعه الجميل فنادني: "يا الطيب نسبك نسبي!", ولكن رست بنا الباخرة في ميناء الغزوات وكنت أظنها وهران فنزلت بها مسرعا نتيجة فرحتي بالوصول إلى وطني. فلما وصل وقص القصة التي وقعت بينه وبين الذي تحمل عنه مصاريف السفر قال سيدي محمد لأخيه الطيب: "ذلك الرجل الكريم هو سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي جزاه الله خيرا على هذا الصنيع الجميل فحينما أردت أن أبيع الفرس وأبعث بثمنها إليك, أمرني أن لا أفعل قائلا "الطيب سيعود الله به سالما!". و من كراماته الجلالية أنه وقف أمامه رجل في السوق على مرأى ومسمع من الناس والشخص يعرف بأنه مقدم لشيخ من مشايخ التبرك يكن العداوة والبغضاء للشيخ البوزيدي وتكلم معه بكلام فاحش وقبيح ثم بصق على وجهه الشريف فما كان من الشيخ إلا أن مسح وجهه وانصرف, فما مضت إلا ليلة واحدة حتى ابتلى الله ذاك الظالم لنفسه بسرطان في وجهه وفي نفس الموضع من الوجه التي وقع فيه البصق فلم ينفعه أي علاج حتى مات وصورته مشوهة. و من كراماته الجلالية كذلك, أن رجلا من كبار التجار بالسويقة بحي تجديت, كلما مر عليه الشيخ البوزيدي وعلى حين غفلة من أمره يرميه ذاك الرجل بالمفرقعات فحينما تنفجر يذكر الشيخ الاسم الأعظم "الله" فيعجب المستهزئ هذا المنظر ويسليه ويقهقه ضاحكا مستهزئا بالشيخ, والشيخ لم يقل له شيئا ولم يرد عليه ولو بكلمة واحدة، وفي آخر مرة وقعت مثل هذه الواقعة بالنهار واحترق متجره بالليل ولم يبق له شيء, عافنا الله والمسلمين أجمعين من الأذى المباشر والغير المباشر لعباده الصالحين. وأما الكرامات التي وقعت بعد انتقاله إلى الآخرة إلى جوار ربه فهي لا تحصر وإنما نقتصر على ذكر واحدة منها، وهي ما ذكره سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل الذي كان من كبار التجار من مدينة مستغانم وله دكاكين ومخازن للبضاعة التجارية ففي ليلة من الليالي جاءت جماعة من اللصوص قاصدين المخزن المطمر ولما وقفوا عند باب المخزن وحاولوا أن يفتحوه انفتح الباب على مصراعيه وظهرت للصوص صورة الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي على هيئته المعروفة وهو يعاتبهم قائلا: "ألا تتقوا الله, أتخدعون أخاكم؟" وكررها ثلاثة مرات, عندئذ استحى اللصوص وأغلقوا الباب وانصرفوا وفي صباح الغد ذهب رئيس جماعة اللصوص إلى سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل وبعدما سلم عليه وأثناء الحديث الذي جرى بينهما قال رئيس اللصوص: "أبشرك إن أمنتني", فقال له سيدي أحمد: "عليك الأمان التام"، فرد عليه رئيس اللصوص: "نعم الشيخ شيخك فهو حريص عليك وعلى متاعك في الممات كما كان في الحياة" وقص عليه القصة فرد عليه سيدي أحمد بن إسماعيل بقول اله تعالى: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, صدق الله العظيم", ثم قسم بالله: "ما شككت في أمر شيخي بأنه محمدي رباني.
اشتد بالشيخ البوزيدي المرض يوحي بالفراق والأجل المحتوم وظهرت عليه بشائر الرحيل وكان رضي الله عنه في ذلك المرض معقود اللسان عن النطق مع سلامة الفهم وشلَّ نصف جسده ولم تمر أيام قلائل حتى انتقل الأستاذ إلى رحمة الله، ولم يخلف عقبه إلا إبنا إلى الجذب أقرب منه إلى الشعور، يُدعى سيدي مصطفى الذي كان يُحبه محبة فارطة وقد كان عند وفاته يمد البصر إلى ابنه بما يعلمه من جذبه، وكان يخشى أن يُهمل بعده، ولما علم الشيخ العلوي ذلك منه قال له: "اكفنا أنت يا سيدي ما أهمنا من جهة الله تعالى، ونحن نكفيك من جهة سيدي مصطفى ما أهمك", فرأى السرور يلوح على وجهه، فانتقل رضي الله تعالى عنه إلى جوار ربه يوم الاثنين 25 أكتوبر 1909 م / 10 شوال 1327 هـ فوفدت الوفود من كل حدب وصوب من فقراء وعلماء ومشايخ للتعزية وحضور الجنازة وصلى على جنازته الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي ثم دفن بزاويته أمطر الله على قبره سحائب الرحمة وجلائل النعم ورثاه بقصيدة رائعة عظيمة من البحر الطويل: لله أشكو حزني لفقد عرش الولا فقيد الورى طرا والله كذا العصر فقيد حل الثرى من بعد احتوائه على الكل فكيف به غمه العمر فقيد كان فوق الكل والكل دونه فيا عجبا كيف أحاط به القبر فما أحاط هذا القبر كلا وإنما أخذ منه رشفا فنال به فخر و لتبكي عين الفتى دما وبكاءها لفقده أسفا وليس لها وزر فالوزر جمود العين عن فقد مثله والدمع فيه أجر لعمري هو الأجر و ليبكه عرش الله والكرسي والسماء ولتحيى به الثرى فصار لها ذخر و يا سما أسفا فهل ينفع العل أفلو كنت من أرض لكان لك الفخر و لا غرو إن شَّح الزمان بمثله شمائله جلت وضاق به الصدر حليم كريم خافض الطرف زاهد هشوش بشوش دام في وجهه البشر صفوح عن العذال لم يترك خلفه من قال فيه زورا أو رأى فيه كبر حريص عن الورى يجود بسره ولا يرجو منهم تعظيما ولا أجر فلا غضب لديه ولا قبض عنده خليله إن زل يلتمس له عذر فمن ذا رأى أو عاين مثله تالله لواحد جمع فيه السر بغيتي منيتي عمدتي ثم غايتي كفيني كفيلي في المهالك والمكر البوزيدي محمد له من محمد مراث الإبن للأب ولنا منه وفر عليك رحمة الله من بعد جمعنا ألَّم بنا الفراق وقضي الأمر سلام عليك والسلام من الحشى يعم بشر الطيب والند والعطر ناديتك والفؤاد يخلج من النوى فهذا مداد العين قد خضب السطر كتبت بدمع العين مزج بالأسى مذيل بالتبريج وليس فيه صبر و لست أبكي الفراق من حيث كنهه ولكن رسمك في العين له قدر جزآك إله العرش بالقرب والرضا وحاط بك التعظيم والخير واليسر خلفت رجالا في الطريق لصونها فكنت لها بدر وهم لها زهر ولا تحسبن الموت ذهبت بسره حاشاه وإنما مهدت له النشر أخذنا عنه علوما فزنا بصونها ولما حن الزمان تعين الجهر فيا أهل ودّه فزتم بقربه فأنتم ملوك الأرض للبيض والحمر أيا رب يا رب الأنام ويا ثقتي فانشر على قبره من عفوك ستر و صل على أصل الأصول ملجأنا نصيري مجيري في المواقف والحشر.
اقتباس من كتاب الأنوار القدسية الساطعة على الحضرة البوزيدية, لعبد القادر بن طه الملقب بدحاح البوزيدي شيخ الطريقة البوزيدية العلوية.
محمد بن حبيب البوزيدي
تراجم الأعلام - السابقون
نسبه الشريف : هو سيدي محمد بن الحبيب بن عبد الله بن أحمد بن زيدان بن الصغير بن الجيلالي بن عبّو بن عبد الله بن أحمد بن أمحمد بن عبد الرحمن بن علي بن عبد المالك بن إبراهيم بن عامر بن عثمان بن إسحاق بن علي بن سيدي بوزيد الغوث (دفين آفلو و إليه ينسب لقب العائلة البوزيدية) بن علي بن موسى علي بن المهدي بن صفوان بن يسار بن موسى بن عيسى بن ادريس الاصغر بن ادريس الاكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن بن الحسن بن علي أبي طالب و سيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا النبي محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
مولده و نشأته 1824م / 1239هـ
ولد سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي بجنوب مدينة مستغانم بقرية البساتين المعروفة الآن "بدبدابة" و بالتحديد بجنان "تكارلي" سنة 1824م / 1239هـ.
أول نشأته نشأ تحت تربية أبيه سيدي الحبيب الذي كان من أشهر الفقهاء و العارفين بالله, إذ تلقى مبادئ التعليم منه ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية "قيراط" بضواحي مستغانم و تتلمذ هنالك على يد العارف بالله الشيخ سيدي الشارف بن تكّوك فقرأ القرآن و علومه و الفقه و الحديث.
سياحته و اجتماعه بشيخه 1844م / 1259هـ
في هذه المدة, كان سيدي محمد البوزيدي يتفقد أهله من حين إلى آخر, و ذات يوم قصد السوق مع أبيه فقبضت عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية بتهمة أنه يتسوق إلى المدينة و ينقل الأخبار لرجال المقاومة تحت قيادة الأمير عبد القادر الجزائري, و كان سبب هذه التهمة رجل عميل للسلطات العسكرية الفرنسية, فمكث رضي الله عنه في السجن بعض الأيام تحت التعذيب و كان عمره لم يتجاوز العشرين, ثم أفرج عنه بتدخل أخد أخواله "الخواخة" أي من بني "يخّو" ثم نصحه بمغادرة المدينة و إلا سيقتل, فغادرها متجها نحو الغرب الجزائري حتى وصل إلى تلمسان و نزل بضريح أبي مدين شعيب الأندلسي بالعبّاد وقد نقل سيدي أحمد ابن عليوة رضي الله عنه ذلك عنه حيث قال: إن سبب سياحتي إلى المغرب كانت ببركات أبي مدين شعيب وبإذنه وذلك أني بت ليلة في ضريحه بعد أن تلوت شيئاً من القرآن وإذا به رضي الله عنه قد أتاني هو ورجل من أجدادي (سيدي بوزيد بن علي الغوث دفين آفلو) فسلما علي ثم قال لي: "اذهب إلى المغرب إنني سرحتك ! ", قلت له: "إن المغرب كثير السموم والحيات (حِِّسًا و معنى) وإنني لا أقدر أسكنه", فأخذ يمسح على جسدي بيده المباركة وقال لي: "إذهب لا تخف إننا حفظناك مما يطرأ عليك !", فاستيقظت مرعوباً ومن ضريحه توجهت إلى المغرب فحصلت على ملاقاة الشيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي رضي الله عنه بزاويته بجبل كركر, ففتح الله على عين قلبه, فحصل على الفتح المبين و أصبح من المقربين لشيخه حيث قضى سنين عديدة من عمره في خدمته و لهذا كان رضي الله عنه كثيراً ما يأمر أتباعه بزيارة ضريح سيدي أبو مدين رحمه الله ويذكره بالفضل.
توليه الإرشاد و إدارة أمور زاوية شيخه 1884م / 1299هـ
لمّا قرب انتقال الشيخ سيدي محمد ابن قدّور الوكيلي رضي الله عنه إلى جوار ربه كان يردد هذه الكلمات: "أخذ البوزيدي الِقربة برباطها ! " و الِقربة هي وعاء من جلد الشاة للسقاية, و هذه إشارة واضحة بأن سيدي البوزيدي اخذ السّر من شيخه, ثم أذن الشيخ الوكيلي لبعض مريديه و الانصراف إلى أهلهم كسيدي عبد القادر بن عدة البوعبدلي دفين غيليزان و سيدي محمد بن مسعود من الغزوات و سيدي محمد الهبري دفين آحفير, ثم كلف من بعد ذلك سيدي محمد البوزيدي بأن يخلفه في مقامه و يشرف على زاويته و تربية أبنائه الصغار.
عمل سيدي محمد البوزيدي بوصية شيخه, فكان معلما و مرشدا و موجها و حكيما في التربية و تلقين الإسم الأعظم و كان لما يكثر عنده عدد المريدين و لا يجدون مكانا مُعِدًا للجلوس و ليس للزاوية ما تفرشه لهم, يأمر بقطع القطف و هو نوع من الحشيش الأخضر الغليظ و يقول لهم: "أجلسوا, هذا سندس و إستبرق ! ", و بقي سيدي محمد البوزيدي على رأس الزاوية مؤدياً ما كُلف به بضع سنين إلى أن تصّدر أبناء شيخه بوشاية كاذبة و حسدا من بعض الأشقياء يتهم فيها الشيخ بأشنع الأعمال و حرضهم على قتل سيدي محمد البوزيدي لأنه كما يقول أخذ زاوية أبيهم و حّل مكانهم.
لمّا علِم الشيخ سيدي محمد البوزيدي بذلك من أحد مريديه المخلصين, عزم على الرحيل و قال له: "هذه علامة الإذن و الانصراف حيث شاء الله و الحمد لله قد وفيت بما كلّفني به شيخي في تصدير أبنائه و الآن علمت علم اليقين أنهم قد بلغوا سن رشدهم فلا خوف عليهم".
استقراره بوردانة و ظهور أمره بها
ثم غادر سيدي محمد البوزيدي جبل كركر و زاوية شيخه بالليل و لا يمشي إلا تحت ظلام جناحه و كان لا يتحرك بالنهار لئلا يدركه طلاب قتله إلى أن وصل إلى قرية "وردانة" بإقليم الناضور فدخل على أهلها وقت العشاء بالمسجد و طلب منهم الضيافة فسألوه عن نفسه و من أين أتى و عن شغله و مهنته فقال: "إني فقيه و معلم الدين للصبيان", فلما أكرموه بالطعام, صلى بهم صلاة العشاء, ثم تأسفوا لعدم إيوائه بمنازلهم خوفا عليه من بعض الغارات لبعض القبائل و طلبوا منه المبيت بالمسجد و أخبروه بأن المسجد مسكونا من شيطان جان فتك بكثير من معلمي القرآن للصبيان, فقالوا له: "إن كنت كما تقول, فها أنت و المسجد و إلا انصرف لتنجو بحياتك", فأجاب: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله, أنا و هذا الظالم تجري علينا جميعا مقادير الله".
فتفرق الناس إلى منازلهم و بقي سيدي محمد البوزيدي في غاية الأنس بالله حتى ظهر له هذا الشيطان في صوت مرعب يخرج من فيه و أنفه النار و الدخان, فتلا سيدي محمد البوزيدي سورة الإخلاص, فثبته الله بها و ربط على قلبه فكرر سورة الإخلاص و هو يوجه سبابته اليمنى حيثما تحرك الجان, فأحرقه الله تعالى بنور و بركة هذه السورة إلى أن صار الجان حفنة من رماد, ثم نام رضي الله عنه, و قرب الفجر قام و توضأ و تلا ورده من النوافل و صلى صلاة الصبح بالمسجد ثم جاء أهل القرية ليروا ما آل إليه حال الشيخ الفقيه فوجدوه في اطمئنان يذكر ورده, فتعجبوا و سألوه عمّا كان من الظالم فقال لهم: "لقد طهّر الله هذا المسجد منه" و أشار إلى تلك الحفنة من الرماد و قال: "أدفنوها ! ", ثم استأذنهم بالانصراف فقسموا بالله عليه ألا يذهب حتى يُعَلِّم أبنائهم و تقدم كبير القوم و إسمه محمد بن يحيى الورداني و عرض عليه إبنته فاطمة الوردانية فتزوجها سيدي محمد البوزيدي, و هنا في هذه القرية "وردانة" لُقِّب سيدي محمد البوزيدي بسيدي حمّو الشيخ لأن في شمال المغرب يطلق السكان الريفيون على من يحمل إسم محمد بِحمّو.
انتشر خبر سيدي محمد البوزيدي و ما أجراه الله على يده من تلك الكرامة و عَّم الخبر جميع شمال المغرب, فلما سمع فقراء زاوية كركر بذلك ذهبوا إليه فأمرهم بالرجوع إلى زاويتهم قائلا لهم: "إنني لست من الماكثين هنا, بل أنا عازم على الرحيل إلى وطني", فصارت بعد ذلك قرية وردانة قبلة معنوية يتوجه إليها الناس لطلب العلم و تخرّج على يد الشيخ سيدي محمد البوزيدي شيوخ في علم الشريعة و علم التصوف منهم عدد كثير من العلماء و العارفين بالله.
عودته إلى أرض الوطن حوالي 1889م / 1306هـ
لما رأى سيدي محمد البوزيدي أن الدعوة إلى الله قد تمت و أقبل عليها جمهور غفير و نوَّر الله بها قلوب العباد و عمَّ النفع على البلاد, أدرك أن مهمته انتهت في هذه القرية فتوجه برفقة أهله نحو الجزائر و حطَّ رحاله بمسقط رأسه مستغانم, و سكن ببيت أمام مسجد سيدي يعقوب و كتم أمره و لم يدع أحدا إلى علم القوم, بل اكتفى بتعليم القرآن للصبيان و في هذه الأيام بالذات كان لقاءه بتلميذه سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي و شريكه في التجارة سيدي بن عودة بن سليمان الذي كان أول من اتصل به حين تفرس فيه الإمامة و الدلالة على الله بالإرشاد.
في يوم من الأيام, نزل على مستغانم ضيف من أجّل القوم معرفة من صفاقص ببلاد تونس حرسها الله, و كان أهالي مستغانم يحتفلون برجال الخير و العلم و الصلاح و يلتفون حولهم حتى صارت مستغانم تلقب بمصر الصغيرة, و رفع النداء من المنادي أن "سيدي محمد ظافر المدني الصفاقصي نازل بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الموجودة بتجديت قرب ضريح سيدي السنوسي, فهلم للاجتماع و الانتفاع".
أثناء حفل الاستقبال بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الذي كان آنذاك على قيد الحياة و كان من أهل الخير و الصلاح ذا مال أنفقه جميعا في سبيل الله في المشاريع الخيرية و كانت مأدبة الضيافة للضيف التونسي و للحاضرين من الأهالي على نفقته, فتغيب سيدي الحرَّاق عن الجمع بعض اللحظات ليأمر ببعض الخدمات للضيوف, فناداه سيدي محمد المدني الصفاقصي بأعلى صوته: "يا سيدي الحرَّاق" 3 مرات, فرَّد عليه سيدي محمد البوزيدي الذي كان من الحاضرين في مؤخرة المجلس: "لا يكون الحرَّاق حرَّاقاً في طريقتنا حتى يحرق الكون من عرشه إلى فرشه ! ", فتعجب سيدي محمد المدني الصفاقصي من هذا الكلام و سأل من الرجل؟ فأجابه من كانوا بحاشيته من العلماء أن هذا يسمى بالبوزيدي الدرَّار أي أنه يعلم القرآن للدراري ( الصبيان), فأجاب سيدي محمد المدني: "بل هذا معلم للكبار فائتوني به", فتقدم سيدي محمد البوزيدي و جلس بقربه و تناقشا في علم القوم.
و لما تبين في غاية الوضوح أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي للشيخ محمد المدني الصفاقصي, قام هذا الأخير خاطباً في الناس إعجاباً بأمر الشيخ البوزيدي ثم قال: "أيها الإخوان, غداً إن شاء الله يكتب كل أحد منكم في ورقة كل ما خطر بباله و يكتب إسمه و يأتي بها إلي", فكلف سيدي البوزيدي تلميذه سيدي أحمد العلوي أن يكتب في ورقة ما يخطر بباله, فلما كان الغد, حضر الناس و معهم الأوراق و وضعوها أمام الشيخ المدني, فأطلع عليها فوقف عند ورقة مكتوب عليها:
إن شئت بنظرة تسقي الأنام و إن شئت بلمحة تمحي العالم
فأمسكها بقبضة يده و قال: "خذوا هذه الأوراق و احرقوها بالنار" ثم قال: "من كتب هذه الورقة؟" قالوا له: "هو مريد ذلك الرجل الذي تكلم بالأمس", فتعجب من أمر أهالي مستغانم ثم بادر بالكلام جهرا بعد أن حمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله الكريم قائلاً: "يا أهالي مستغانم, كيف غفلتم عن رجل إمام عصره و واحد في زمانه, فو الله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن رجل مثل هذا (و أشار باحترام إليه) موجود في هذه المدينة لا أدخلها و إن كان لا بد من دخولها فبإذنه...ثم ختم كلامه بقوله: يا أهل مستغانم, إن كان مرادكم الله فبلدتكم عامرة و أنا فلا تنتظروني بعد هذا اليوم ! ", فذهب سيدي محمد المدني و لم يرجع إلى مستغانم منذ ذلك الوقت.
ففي هذه الليلة و وسط هذا الجمع الغفير ظهر من جديد أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي و تعلق به و تتلمذ عليه بعض الأفراد من أبرز و أخير و أطهر عائلات مستغانم, فشعر الشيخ البوزيدي بالوجوب عليه بالإرشاد على الله بمن تعلق به إيمانا و اعتقادا فأحيى من جديد الطريقة الدرقاوية و كثر تابعيه و خاصة العارفين من كبار الشيوخ من أمثال سيدي محمد بن يلس التلمساني شيخ الطريقة الدرقاوية بتلمسان و سيدي العربي الشوار من تلمسان كذلك و شيوخ آخرين من شتى نواحي البلاد الغربية و شمال المغرب و أشعت الدعوة البوزيدية بأنوارها الشرق الأوسط و القائمة طويلة و فتح الله على الكثير منهم و بفضلهم انضم إلى الطريقة الدرقاوية كثير من العروش و القبائل أمثال بني زروال و أولاد أحمد و السلاطنية و السدايرية و آل العتبي و جمع غفير من الخلائق أفرادا و جماعات.
سلوكه و أخلاقه
كان الشيخ البوزيدي معروفا و موصوفا بالزهد, أتاه يوما مريده الفقير إلى الله تعالى سيدي أحمد بن إسماعيل و قال لشيخه: "إن الحاكم للإدارة الفرنسية يطلب منك الحضور عنده", فرد عليه الشيخ البوزيدي: "مالي و الحاكم الفرنسي و ما حاجته عندي؟", فرد عليه: "مقابلة ودية و استطلاعية على حالك فقط", فجمع الشيخ قوته و أنفاسه و ذهب بشق الأنفس و لما وصل إلى مبنى الإدارة وجد رجلا من المستخدمين عند الحاكم ينتظره فأدخله عليه, و بعد دردشة قصيرة, قدم الحاكم للشيخ هدية تتمثل في برنسين موضوعين في ظرف, و عند خروجه من المبنى, مشى خطوات فرأى رجلا شبه عاري فأخذ برنسا و ستره به, ثم خطى خطوات قليلة و ظهر له رجلا آخر في حالة الأول فكساه الشيخ البرنس الثاني و رجع إلى زاويته, ثم جاء بعد ذلك مستخدم الإدارة الفرنسية ليطلع ما فعل الشيخ بالبرنسين فوجده على هيئته المعتادة, فسأل الفقراء و أخبروه ما فعل الشيخ مع الرجلين العاريين و ما قاله رضي الله عنه في ذلك: "جاء البرنسان من الله و عادا إليه و الله لا يضَّيع أجر المحسنين ! ".
كان الشيخ البوزيدي لا يملك سوى عباءة أو جبة واحدة فقط, و جاءه ذات يوم فقراء من مريديه, فخرج إليهم مرتديا ثوب زوجته, فتحيروا و تعجبوا و سألوه, فقال لهم: "غسلت جبتي و ليس لي ما ألبسه إلا ما ترون", فلام الفقراء أنفسهم بالغفلة عن أبيهم الروحي و هم يلبسون أفخر الثياب و لكونهم خصوصا من كبار الأغنياء و الأثرياء بمدينة مستغانم, فتسارعوا كلهم و رجعوا من حينهم إلى شيخهم كل منهم حامل افخر الثياب و ما أخذ الشيخ إلا ثوب واحد و أمرهم بأن يتصدقوا بالبقية على ذويهم و أهاليهم المحرومين.
كان الشيخ البوزيدي ذات يوم مدعوا إلى حفل زفاف, فأجاب الدعوة و حضر المأدبة, و جاء إلى العرس شيخ من شيوخ التبرك مع تلامذته, و قبل أن يدخل, أخبروه بأن الشيخ البوزيدي حاضر, فأقسم بالله أن لا يدخل المنزل هو و تلامذته حتى يخرج منه الشيخ البوزيدي, فاستشار صاحب العرس زوجته فأجابته: "سأصنع طعاما للشيخ البوزيدي يتغذى به هو أهله, فاصرفه بهذه الكيفية الجميلة", فلما أحضر صاحب العرس طبق طعام من كسكسي إلى الشيخ البوزيدي تقبله القبول الحسن و دعا للعريسين بالمودة و حسن المعاشرة على الدوام و لصاحب العرس بالخير و البركة و انصرف, ثم لم يقصد الشيخ البوزيدي منزله ليطعم بهذا الطعام أهله, بل أطلعه الله تعالى على سوء المعاشرة و العداوة التي كانت بين صاحب العرس و أخت له لم يدعها للحضور إلى العرس لتفرح بزواج ابن أخيها, فذهب إليها الشيخ البوزيدي و خرج إليه زوجها فقدم له الطبق و قال له: "إن صهرك, أخا زوجتك يعتذر لكما عن هذا النسيان و يدعوكما فورا إلى العرس, فلما سمعت زوجة الرجل كلام الشيخ البوزيدي غمرتها الفرحة و السرور و زغردت و ذهبت لتشارك في هذه الفرحة, ثم تساءل أهل الوليمة عمن دعاها, و ما عرفوا ذلك إلا من خلال الطبق الذي قدموه للشيخ البوزيدي حيث عاد إليهم مملوءا بالحلوة فعلموا بذلك صاحب الفعل الحسن و مصلح ذات البين.
كان الشيخ البوزيدي يمشي ذات يوم بشارع معظم المحلات التي توجد به يملكها يهود, فسقط أمامه يهودي على الأرض و كان متقدما في السن, فأسرع إليه الشيخ البوزيدي و ساعده على القيام و هو يمسح عن ثيابه الغبار و وضع على رأسه قبعته مرددا كلمة: "لا بأس عليك, لا بأس عليك", فإذا التجار اليهود يندهشون من هذه المعاملة الحسنة من طرف رجل حامل لواء الشريعة المحمدية, و منذ ذلك اليوم, كلما مرَّ عليهم الشيخ البوزيدي حيّوه بأسمى التحية و التقدير و الاحترام.
ذات يوم قال أحد مشايخ البركة للشيخ البوزيدي: "رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام, و قال لي إن البوزيدي من أصحاب النار, فرد عليه الشيخ البوزيدي بكل رحابة صدر و بوجه طلق و بالابتسام و البشاشة: "سيدي, أصحيح رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال بأنني من أصحاب النار؟ جازاك الله خيراً, فقد كنت أظن أن أمثالي ليسوا مذكورين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يعبأ بهم و لكن الحمد لله على كوني مذكورا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه مهتم بذكري و أمري فهو الشفيع المشفع في العصاة و المذنبين أمثالي, جازاك الله عني خيرا و السلام عليكم".
من بين فقراء سيدي الشيخ البوزيدي, سيدي مصطفى بن كريتلي الذي كان عضوا في مجلس الأمة زمن الإستعمار الفرنسي, فتهيأ ذات يوم في زيِّه الرسمي لاستقبال الوالي العام الفرنسي الذي كان في زيارة تفقدية لمدينة مستغانم, فأتاه شيخه سيدي البوزيدي و قال له: "أحمل عني هذه الحاويتين" و هي أمعاء الضأن بكبدهما و رئتهما و قلبهما, فحملهما و الدم يتقاطر منهما و الذباب يتطاير حولهما و سيدي مصطفى على قدر جلاله و عظمته في مجتمعه يتجول به الشيخ البوزيدي على تلك الحالة في أكبر شوارع مستغانم آنذاك, فلما وصلا إلى المطمر أو باب المجاهر الذي يفصل الحي الأوربي عن الحي الشعبي للسكان المحليين المسلمين, أوقفه الشيخ و قال له: "يكفيك يا بني, شكرا لك و أبشر لقد شفاك الله تعالى و عافاك من علة الكبرياء و العجب بالنفس و الإعتزاز و بالسلطة و الجاه, فنعم العبد لله أنت, إن الله تعالى جمع لبعض أنبياءه بين النبوة و الملك و لبعض أولياءه بين الولاية و الملك فما زادهم ذلك إلا افتقارا إلى الله تعالى و انكسارا له, مستمطرين رحمته و عافيته فيما بقي من أجلهم و عمرهم حتى يلقوه و هم أفقر الناس إليه سبحانه عّز و جّل, فتلك نعمة عظمى يتفضل الله بها على الذين أهّلهم إلى حضرة محبته و وداده التي لا يدخلها متكبر و أرضيت يا ولدي مولاك عّز و جّل و فزت بسعادة الدارين, حفظك الله و رعاك بعين رعايته فيما بقي من أجلك".
في يوم من الأيام قدم على الشيخ البوزيدي مريد من البادية لزيارته و هو متشوق للأكل اللذيذ الذي سيأكله في ضيافة شيخه, فنهض به الشيخ البوزيدي من المقام الأسفل إلى المقام الأسنى إذ أتاه بصحن فيه فول و قال له: "تقدم يا ولدي و كل ! " ثم أشار إلى بطنه و استطرد قائلاً: "ما هذا إلا مصران ذو رائحة كريهة فملأه بما وجدت و انهض في طلب الله تعالى بذكره ليلا و نهارا فلعل رحمة الله تشملك فتجذبك من سباتك و غفلتك إلى يقظة المعرفة و مشاهدة أنوار ربك ببصيرتك, فإذا انجلى ليلك منك طلع نهارك و أشرقت شمس هدايتك فلا تأفل و لا تؤول و لا تزول أبدا حتى تلقى الله و هو راضي عنك".
و قد كان يوما يتحدث إلى مريديه عن النفس و خداعها و أن لا يطمئن لها المريد إذا رأى فيها علامات الركون و التطوع إلى الطاعة إذ مكرها يفوق مكر الشيطان بأكثر من سبعين مكرا فلذا قال لهم ضاربا المثل بنفسه: "لا زالت تحدثني نفسي حديث الشباب و أنا قد بلغت ثمانين عاما و إني لأرى الشيطان يحتال لمخادعتي كما يحتال السارق بالليل على صاحب الدار".
وقعت للشيخ البوزيدي واقعة مؤلمة في مصيبة و رزية إبنه الذي قتل خطأ في احتفال المولد النبوي الشريف رميا بالرصاص في إحدى حلقات طلق البارود فلما حضر سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي إلى مصرع ابنه ورأى ابنه ملقى على الأرض ودمه ينزف قال له أحد الحاضرين: "سيدي تعالى لأريك قاتل ابنك", فرد عليه لشيخ بهذه العبارة: "اذهب يا كلوفي فإن قاتل ابني أعرفه وهو الذي حكم على كل نفس الموت!" و حمل ابنه ميتا وأقيمت له جنازة ولم يرفع أي شكوى ضد قاتل ابنه ودفنه محتسبا بقول الله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا أ وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".
كراماته
من كراماته أنه كان سيدي مصطفى بن كريتلي المذكور سابقا أحد مريدي الشيخ البوزيدي في سفر إلى فرنسا برفقة فقير آخر و هو سيدي أحمد بن إسماعيل, فمرض سيدي مصطفى مرضا شديداً و كان سيدي أحمد بن إسماعيل يتردد على سريره مصحوبا بالأطباء عدة مرات و في المرة الأخيرة دخل عليه مرافقا الطبيب ليقدم له بعض العلاج للتخفيف من آلامه فإذا بهما يجدان سيدي مصطفى بن كريتلي قائما على رجليه و بصحة جيدة, فتساءل الطبيب: "أين المريض الذي هو في حالة الموت كما قلت لي؟", فرد عليه سيدي بن إسماعيل: "و الله لا أدري ما أقول لك, قبل لحظات كان في حالة الاحتضار في درجة حرارة عالية و هو يئن و الآن اندهشت و أنا أراه معافى", فتدخل سيدي مصطفى بن كريتلي قائلا لسيدي إسماعيل: "ادفع أجرة الطبيب و اصرفه و أخبرك بالذي جرى", بعدما خرج الطبيب ذكر سيدي مصطفى بن كريتلي لسيدي بن إسماعيل ما جرى له و هو مستبشر و في غاية الاطمئنان و هو يثني على الشيخ البوزيدي الثناء الجميل: "هل تدري من دخل علي قبلكما بوقت قليل؟ و هل تتخيل على أي مطية طوى المسافة التي بيننا و بين مستغانم؟ إنه شيخي الآخذ بيدي ملاذي في اليسر و العسر, إنه ذاك الخامل المتواضع الذي تحققت فيه العبودية لله و تحققت نسبتنا فيه, سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي دخل علي و الباب مغلق فمسح على رأسي و جسمي كله و قال لي شفاك الله و لا بأس عليك و انقطعت صورته أمامي بتمام كلمة لا بأس عليك فنهضت كما رأيتني أنت و الطبيب".
فلما عادا المسافران إلى مستغانم أخبرا الفقراء بهذه الكرامة فتعجب الجميع و قالوا أن الشيخ لم يغادر مستغانم و أنه حظر معهم الصلوات الخمس أثناء سفرهما, و عند ذلك تكلم فقير و هو سيدي حمادي بن قارة و كان من أكبر التجار في القماش و الملابس و سأل سيدي مصطفى بن كريتلي سؤال دقيق: "في أي يوم و في أي ساعة وقع ذلك؟" فذكر له اليوم و الساعة فاستطرد سيدي حمادي قائلا: "إن في هذه الساعة التي ذكرها سيدي مصطفى, دخل علينا في المحل سيدي الشيخ البوزيدي في حالة لم أعهده عليها, كان وجهه منقبضا و جبينه يتفصد عرقا و هو في حال اضطراب و قال لي: ناولني كأس ماء بسرعة فإن ولدي مريض, إن ولدي مريض, إن ولدي مريض, كررها ثلاثة مرات, فلما انتهى من شرب الماء قال: الحمد لله لا بأس عليه".
ومن كراماته أنه كان له فقير من بين الفقراء الذين حفظت لنا ذاكرة التاريخ أسمائهم, سيدي الموفق بن عمر الذي كان يسكن بقرية المحافيظ من ولاية غيليزان, فقد كان يزور شيخه سيدي البوزيدي بمستغانم و يقضي في زاويته بعض الأيام, و في ليلة من الليالي بينما كان سيدي عمر ضيفا على الزاوية إذ بالشيخ سيدي البوزيدي يأتيه و يأمره بالانصراف إلى أهله عاجلاً, فعاد إلى قريته متسائلا لماذا أمره الشيخ بالرجوع و هو الذي كان يقضي عنده الليالي و الأيام فلا يضيق الشيخ بوجوده و ربما لم يعد له الحظ في صحبة العارفين بالله, أو أطلع الشيخ على شقاءه مستقبلا إلى غير من هذه الخواطر التي كانت في ذهنه حتى وصل إلى بيته في الصباح فاستقبلته زوجته معنفة له الكلام بصوت مرتفع قائلة: "كيف تتركني وحدي و قد جاء اللصوص في الليلة السابقة و فتحوا الباب و اخرجوا بعض الرؤوس من الضأن فرفعت صوتي طالبة الغوث فأخذ أحد اللصوص حجرا ليضربني به فجاء رجل كبير في السن و نزع الحجر من يده و رّد المواشي إلى مكانها و قال لي: "لا تخافي إنني معك ! " و أغلق الباب و ذهب باللصوص الثلاثة". و ما كان اللصوص إلا من أهل القرية و قد عرفتهم زوجة سيدي الموفق بن عمر الذي حمد الله و عرف سبب انزعاج الشيخ و الدافع الذي أمره بالرجوع.
و لما خرج الشيخ البوزيدي في فصل الربيع للسياحة و وصل إلى قرية المحافيظ و اجتمع أهل القرية عليه, اشتكى سيدي الموفق بن عمر إلى الشيخ من اللصوص الثلاثة, فسال الشيخ اللصوص هل إذا كانت دعواه صحيحة؟ فردوا عليه بأنها اتهامات من غير حجة و لا برهان, فقال لهم الشيخ: "صحيح, كما هو شرعا الحجة على من ادعى و لكن اليمين على من أنكر, فهل تقسمون بالله أنكم أبرياء من هذه الاتهامات؟", فرد عليه الثلاثة بنعم يا سيدي, و هنا كشف الشيخ أمرهم قائلا: "توبوا إلى الله ! ", ثم أشار إلى أحدهم و قال له: "أنت من نزعت الحجر من يدك و التي كنت تريد أن تضرب بها زوجة سيدي الموفق و قد أخذتكم و أنتم لا تبصرون حتى طلع عليكم الصباح... إن اليمين الغموص هو القسم بالله على الكذب في حالة التعمد فهو أقبح عند الله من هذه المخالفة, لأنه يؤدي بصاحبه إلى الرّدة و هو الكفر بالله بعد الإيمان فيحبط الله جميع أعمال الخير و تصير هباءًا منثوراً, فأي المخالفة أحق, عصيان الله أم الكفر بالله؟ أتكفر بالله إن اقترفت المعصية ؟, و المعصية تُكَفَّرْ بالتوبة إلى الله تعالى, فاطلبوا العفو من أخيكم سيدي الموفق و استغفروا الله إن الله غفور رحيم", فاعترف الجميع بجرمه و تابوا إلى الله و طلبوا الصفح من سيدي الموفق و أخذوا الطريق على الشيخ البوزيدي و عاشوا و ماتوا ذاكرين بفضل الله تعالى.
ومن كراماته أنه كان ذات يوم في سياحة مع سيدي بوزيد بن مولاي المقدم لقرية عتبة, فلما وصلا إلى قرية من القرى لم يرحب بهما أهلها ورموهم بالحجارة وأطلقوا عليهما كلابهم ليصدوهما عن دخول القرية فابتعدا شيئا عنها وجلسا تحت شجرة ولما غربت الشمس رجع المقدم سيدي بن مولاي إلى القرية و معه علبة كبيرة من حديد يستخدمها (كطبل) ودخل يغني بأعلى صوته قصيدة غزلية تطرب أسماع هؤلاء الغافلين عن الله فقدموا عليه وتسابقوا ظنا منه أنه شيخ السماع فجعل العلبة جنب أذنه اليمنى ونظر إلى السماء وجاب بالطول والعرض حلقة المتفرجين وهو يغني بأعلى صوته بالألحان المحبوبة لديهم, فالتفوا حوله ثم تكلم كبير القوم و قال: "أرجوك أن تسامحنا على سوء مقابلتك أول ما نزلت بنا اتهمناكم وظننا أنكم من هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وباسم الدين ولم نعرف بأنك شيخ مغني الرجاء منكما أن تقضيا بعض الأيام عندنا فلنا عدة حفلات من زفاف وختان لصبياننا", فأكرموه غاية الإكرام ثم استأذنهم ليأخذ شيئا من الطعام لصاحبه وبعدما أكل الشيخ وشرب, قص عليه القصة و استأذنه للرجوع إلى القرية فقال له: "ارجع لأنهم اقبلوا عليك", فأجاب سيدي بن مولاي: "حاشا يا سيدي الشيخ بل أقبلوا على علبة من حديد فارغة".
ورجع سيدي بن مولاي إلى القرية وهو يداعب عواطفهم بالأغاني الغرامية البدوية ولما رأى أنه ملك قلوبهم توقف عن الغناء قائلا لهم: "أليس من سوء حظكم وأسوء حالكم أنكم طردتم شيخا عارفا بالله من كبار المحققين صاحب الشريعة والحقيقة وكل من تعلق به وتوسل به إلى الله عز وجل خيمت عليه سعادة الدارين، وقبلتم على علبة فارغة ومغنيها فارغ فاستبدلتم العامر بالفارغ و الخير بالشر و النور بالظلمات و السعادة بالشقاء والحقيقة بالأوهام؟"، فعندئذ شعر أهل القرية بأنهم قد ارتكبوا ذنبا عظيما لا تكفره إلا التوبة إلى الله سبحانه عز و جل فطلبوا من المقدم بأن يأتيهم بالشيخ فقال لهم: "والله لا أفعل بل اذهبوا أنتم إليه و استسمحوه" ففعلوا ورجعوا به إلى قريتهم و جعلوه وسيلة إلى الله وأصبحوا من الذين أنعم الله عليهم بالخير العميم.
ومن كراماته ذلك الحوار الذي جرى بين سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل المستغانمي وصهره سيدي الحاج محمد العشعاشي التلمساني أحد مريدي الشيخ سيدي محمد الهبري المغربي وكل منهما أي المريدين يثني على شيخه بالثناء الجميل, وبما أن سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل كان فانيا في شيخه قذف الرغبة في قلب سيدي الحاج محمد العشعاشي ليزور سيدي الشيخ البوزيدي ليطع على حاله عيانا ولا يكتفي بالسماع عنه وفعلا جاء سيدي الحاج محمد العشعاشي إلى مستغانم زائرا برفقة شخصين من كبار مقاديم الشيخ محمد الهبري و أثناء الطريق قال بعضهم لبعض: "إن زيارتنا هذه للشيخ البوزيدي على سبيل الإطلاع والفحص في حقيقة ولايته فإن كان من المقبولين عند الله المؤيدين بنصره فإنه يأتينا عند الغذاء بأكل خاص لكل واحد منا ", و ذكر كل واحد منهم ما يشتهي أكله.
وعند وصولهم كان في لقائهم سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل وأتى بهم إلى الشيخ البوزيدي فرحب بهم الشيخ وضيفهم بمنزله و ذهب إلى زوجته قائلا لها: "هذا سيدي الحاج محمد العشعاشي ورفيقاه من تلمسان فهل لك شيء نقدمه لضيوفنا فردت عليه بصوت عال سمعه الضيوف قائلة: "كيف تستدعي أهالي تلمسان وليس في بيتك بصلة واحدة!", فبينما هم جلوس مع الشيخ و هو يحدثهم عن عجائب قدرة الله التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء و كأنه يشير إليهم على ما أبطنوه في سر أنفسهم فإذا بطارق على باب بيت الشيخ فخرج وأتى بطبق فيه أكل للذي اشترطه وجعله بين يديه وقال: "هذا لك سيدي كما طلبته" و للمرة الثانية يطرق على بابه فيخرج الشيخ و يأتي بطبق فيه الطعام المطلوب كذلك و جعله بين يدي طالبه ويقول له: "هذا لك كما اشترطته علينا" ثم في المرة الثالثة كذلك حتى وصل إلى كل منهم ما اشترطه و تحققت رغباتهم جميعا وعلموا علم اليقين أن الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي من الراسخين ومن المشايخ الكُمَّل المؤيدين بالعناية الربانية و طلبوا منه الدعاء الصالح واستأذنوا في الانصراف فدعا لهم بالخير والصلاح ثم انصرفوا.
ومن كراماته أنه كان له مريد شاب صغير من أقرباءه و هو سيدي الطيب بن طه حيث كان مبتدئا في حفظ القرآن وفي ليلة من الليالي نظم حفلا كبيرا فاجتمع طلبة القرآن ومشايخ وعلماء و بدئوا بتلاوة القرآن جماعة وكان سيدي الطيب إذ ذاك لا زال لم يحفظ القرآن كله فخرج من حلقة تلاوة القرآن وجلس مع باقي المؤمنين الذين لا يقرؤون فأخذوا في لومه و توبيخه: "أنت شريف من أبناء سيدي بوزيد ولا تجتهد في حفظ القرآن كفلان وفلان مشيرين إلى الذين كانوا في سنه, فأنت كسول لئيم تكره التعليم ولا يرجى منك خير" إلى آخره...فازداد غما على غم ولما رجع إلى البيت قال لوالدته في صباح الغد: "إني ذاهب إلى زيارة شقيقتي المتزوجة (في قرية تبعد عن مستغانم) فهل لك شيء من هدية أو زاد لأدخل على ابنتك السرور؟", فجمعت له والدته من الطعام و أخذ طريقا مغايرا متوجها إلى المغرب الأقصى وحط بطنجة حيث مكث فيها عدة سنوات و انقطع خبره و يئس أهله من العثور عليه.
ثم مرت ثماني سنين, فبعث سيدي الطيب بن طه برقية إلى أخيه محمد الذي كان مقدم الشيخ البوزيدي بقرية سيدي خطاب يخبره فيها بأن الله قد فتح عليه بحفظ القرآن بالروايات السبع و التفقه في الدين ولم يبق له إلا الرجوع إلى ذويه وأهله ولهذا يطلب منه أن يبعث له بمال يمكنه من الرجوع إلى الوطن فجاء سيدي محمد بهذه الرسالة إلى الشيخ البوزيدي قائلا له: "سأبيع الفرس وأبعث بثمنها إلى سيدي الطيب ليعود إلينا", فرد عليه الشيخ: "لا تفعل والطيب سيعود الله به سالما!".
ثم يروى سيدي الطيب لأهله ما جرى له بمدينة طنجة فقال : فبينما أنا في المسجد الذي أطلب فيه العلم حتى قوي عزمي كأنما قوة تجذبني إلى زيارة ميناء مدينة طنجة, فبينما أنا أتجول فإذا بي أسمع صوتا يناديني: "يا الطيب! يا الطيب!", فلما التفت رأيت رجلا متكئا على كرسي طويل بالزَّي التركي فسألني عن نسبي فقلت من أبناء سيدي بوزيد ثم سألني مرة ثانية أو تريد أن تذهب إلى مدينة وهران فأجبته بالإيجاب كدت لا أصدق هل أنا في يقظة أم في المنام فرد علي: "إن السفينة قد ذهبت إلى مدينة وهران وستعود يوم الأربعاء و ستسافر عليها إلى وطنك إن شاه الله", فرجعت إلى المسجد مبتهجا مسرورا حامدا الله وشاكرا له على هذه الملاقاة بهذا الرجل الكريم.
فرجعت إلى الميناء مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء, فوجدت نفس الرجل على هيئته فقال لي: "يا لطيب لقد وعدتك يوم الأربعاء فما أعجلك؟", فقلت: "يا سيدي والله خشيت أن أتأخر عن الموعد و تذهب السفينة و أتخلف عنها", فأخذ بيدي وذهب بي إلى الخبَّاز و اشترى لي خبزتن كبيرتين و ذهب بي إلى تاجر آخر و اشترى لي عسلا و زبدة وذهب بي إلى صانع الشاي فأمره ودفع له الأجرة مسبقا حتى قلت يكفي وأعد لي مكانا أنام فيه, وفي صبيحة الأربعاء عند الضحى وجدت نفس الرجل يتفاوض مع قائد الباخرة فدفع له الثمن وقال له: "خذ هذا إلى مدينة وهران", فأخذت متاعي وصعدت على مدرج الباخرة وأنا مغمور بالفرحة لم ألتفت إلى السيد الكريم فأشكره على صنعه الجميل فنادني: "يا الطيب نسبك نسبي!", ولكن رست بنا الباخرة في ميناء الغزوات وكنت أظنها وهران فنزلت بها مسرعا نتيجة فرحتي بالوصول إلى وطني.
فلما وصل وقص القصة التي وقعت بينه وبين الذي تحمل عنه مصاريف السفر قال سيدي محمد لأخيه الطيب: "ذلك الرجل الكريم هو سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي جزاه الله خيرا على هذا الصنيع الجميل فحينما أردت أن أبيع الفرس وأبعث بثمنها إليك, أمرني أن لا أفعل قائلا "الطيب سيعود الله به سالما!".
و من كراماته الجلالية أنه وقف أمامه رجل في السوق على مرأى ومسمع من الناس والشخص يعرف بأنه مقدم لشيخ من مشايخ التبرك يكن العداوة والبغضاء للشيخ البوزيدي و تكلم معه بكلام فاحش وقبيح ثم بصق على وجهه الشريف فما كان من الشيخ إلا أن مسح وجهه و انصرف, فما مضت إلا ليلة واحدة حتى ابتلى الله ذاك الظالم لنفسه بسرطان في وجهه وفي نفس الموضع من الوجه التي وقع فيه البصق فلم ينفعه أي علاج حتى مات و صورته مشوهة.
و من كراماته الجلالية كذلك, أن رجلا من كبار التجار بالسويقة بحي تجديت, كلما مر عليه الشيخ البوزيدي وعلى حين غفلة من أمره يرميه ذاك الرجل بالمفرقعات فحينما تنفجر يذكر الشيخ الاسم الأعظم "الله" فيعجب المستهزئ هذا المنظر ويسليه ويقهقه ضاحكا مستهزئا بالشيخ, و الشيخ لم يقل له شيئا ولم يرد عليه ولو بكلمة واحدة، و في آخر مرة وقعت مثل هذه الواقعة بالنهار واحترق متجره بالليل ولم يبق له شيء, عافنا الله و المسلمين أجمعين من الأذى المباشر و الغير المباشر لعباده الصالحين.
وأما الكرامات التي وقعت بعد انتقاله إلى الآخرة إلى جوار ربه فهي لا تحصر و إنما نقتصر على ذكر واحدة منها، وهي ما ذكره سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل الذي كان من كبار التجار من مدينة مستغانم وله دكاكين ومخازن للبضاعة التجارية ففي ليلة من الليالي جاءت جماعة من اللصوص قاصدين المخزن المطمر ولما وقفوا عند باب المخزن وحاولوا أن يفتحوه انفتح الباب على مصراعيه وظهرت للصوص صورة الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي على هيئته المعروفة و هو يعاتبهم قائلا: "ألا تتقوا الله, أتخدعون أخاكم؟" وكررها ثلاثة مرات, عندئذ استحى اللصوص و أغلقوا الباب و انصرفوا و في صباح الغد ذهب رئيس جماعة اللصوص إلى سيدي الحاج أحمد بن إسماعيل وبعدما سلم عليه وأثناء الحديث الذي جرى بينهما قال رئيس اللصوص: "أبشرك إن أمنتني", فقال له سيدي أحمد: "عليك الأمان التام"، فرد عليه رئيس اللصوص: "نعم الشيخ شيخك فهو حريص عليك وعلى متاعك في الممات كما كان في الحياة" وقص عليه القصة فرد عليه سيدي أحمد بن إسماعيل بقول اله تعالى: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله, صدق الله العظيم", ثم قسم بالله: "ما شككت في أمر شيخي بأنه محمدي رباني".
وفاته 1909م / 1327هـ
اشتد بالشيخ البوزيدي المرض يوحي بالفراق و الأجل المحتوم و ظهرت عليه بشائر الرحيل وكان رضي الله عنه في ذلك المرض معقود اللسان عن النطق مع سلامة الفهم و شلَّ نصف جسده ولم تمر أيام قلائل حتى انتقل الأستاذ إلى رحمة الله، ولم يخلف عقبه إلا إبنا إلى الجذب أقرب منه إلى الشعور، يُدعى سيدي مصطفى الذي كان يُحبه محبة فارطة و قد كان عند وفاته يمد البصر إلى ابنه بما يعلمه من جذبه، وكان يخشى أن يُهمل بعده، ولما علم الشيخ العلوي ذلك منه قال له: "اكفنا أنت يا سيدي ما أهمنا من جهة الله تعالى، ونحن نكفيك من جهة سيدي مصطفى ما أهمك", فرأى السرور يلوح على وجهه، فانتقل رضي الله تعالى عنه إلى جوار ربه يوم الاثنين 25 أكتوبر 1909 م / 10 شوال 1327 هـ فوفدت الوفود من كل حدب و صوب من فقراء و علماء و مشايخ للتعزية و حضور الجنازة و صلى على جنازته الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي ثم دفن بزاويته أمطر الله على قبره سحائب الرحمة وجلائل النعم و رثاه بقصيدة رائعة عظيمة من البحر الطويل:
لله أشكو حزني لفقد عرش الولا فقيد الورى طرا والله كذا العصر
فقيد حل الثرى من بعد احتوائه على الكل فكيف به غمه العمر
فقيد كان فوق الكل و الكل دونه فيا عجبا كيف أحاط به القبر
فما أحاط هذا القبر كلا و إنما أخذ منه رشفا فنال به فخر
و لتبكي عين الفتى دما وبكاءها لفقده أسفا و ليس لها وزر
فالوزر جمود العين عن فقد مثله و الدمع فيه أجر لعمري هو الأجر
و ليبكه عرش الله و الكرسي و السماء و لتحيى به الثرى فصار لها ذخر
و يا سما أسفا فهل ينفع العلأ فلو كنت من أرض لكان لك الفخر
و لا غرو إن شَّح الزمان بمثله شمائله جلت و ضاق به الصدر
حليم كريم خافض الطرف زاهد هشوش بشوش دام في وجهه البشر
صفوح عن العذال لم يترك خلفه من قال فيه زورا أو رأى فيه كبر
حريص عن الورى يجود بسره و لا يرجو منهم تعظيما و لا أجر
فلا غضب لديه و لا قبض عنده خليله إن زل يلتمس له عذر
فمن ذا رأى أو عاين مثله تالله لواحد جمع فيه السر
بغيتي منيتي عمدتي ثم غايتي كفيني كفيلي في المهالك و المكر
البوزيدي محمد له من محمد مراث الإبن للأب و لنا منه وفر
عليك رحمة الله من بعد جمعنا ألَّم بنا الفراق و قضي الأمر
سلام عليك و السلام من الحشى يعم بشر الطيب و الند و العطر
ناديتك والفؤاد يخلج من النوى فهذا مداد العين قد خضب السطر
كتبت بدمع العين مزج بالأسى مذيل بالتبريج و ليس فيه صبر
و لست أبكي الفراق من حيث كنهه ولكن رسمك في العين له قدر
جزآك إله العرش بالقرب و الرضا وحاط بك التعظيم و الخير و اليسر
خلفت رجالا في الطريق لصونها فكنت لها بدر و هم لها زهر
ولا تحسبن الموت ذهبت بسره حاشاه و إنما مهدت له النشر
أخذنا عنه علوما فزنا بصونها ولما حن الزمان تعين الجهر
فيا أهل ودّه فزتم بقربه فأنتم ملوك الأرض للبيض و الحمر
أيا رب يا رب الأنام و يا ثقتي فانشر على قبره من عفوك ستر
و صل على أصل الأصول ملجأنا نصيري مجيري في المواقف و الحشر
المصادر
- اقتباس من كتاب الأنوار القدسية الساطعة على الحضرة البوزيدية, لعبد القادر بن طه الملقب بدحاح البوزيدي شيخ الطريقة البوزيدية العلوية.
- حياة الشيخ العلوي بقلمه.
- للملاحظة: يوجد كتاب برهان الخصوصية في مآثر الحضرة البوزيدية للشيخ أحمد العلوي و هو مخطوط و لم يحظى بالطبع إلى يومنا هذا و هو موجود بمكتبة الأرشيف بالزاوية العلوية بتجديت, مستغانم.
قصيدة "أيا روضة العشاق" للشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي
أَيَا رَوْضَةََ العُشَّـــاقْ قَـــدْ هَيَّجْتِ مُهْجَتِي أَيَا حَضْــــــرَةَ الإِطْـــــــلَاقْ فَيَّضْـتِ صَبَابَتِي سَــقَتْنِي كَأْسَ الهَوَى مِنْ طِيبِ الخُمَيْرةِ جلَــــوْتُ بِهَــا السِّـــــــوَى عَـنْ نُورِ البَصِيرَةِ سَـقَتْنِي كُـــــؤُوسَ الــحُبُّ مَحَقَتْ أنِيَّتِي صِــــرْتُ فَــــارِحْ وَنُطْـــــــرُبْ تَــائِهًا بِسَكْرَتِي مَلَكَتْنِــي فِي الآفَــاقْ وَرَاضَــتْ بِزَوْرَتِـــي رَفَعَــتْ عَنِّي الــرِّوَاقْ تَعْظِيمًــا لِــسَطْوَتِـي غَرَسَــتْ غُصْنَ الهَوَى فِي قَلْبِــي وَمُهْجَتِي وَعِنْــدِي مِنْهَا نَشْــوَةْ كَانَتْ قَبْــلَ نَشْـــأَتِــي شَــرِبْـتُ مِـــنَ المَعْنَــى كُؤُوسًــا صَـفِـيَّـــةِ فَــإِذَا قُــلْـــتُ أَنَـــــا أَنَـــــا وَلَا فَــخْـــــــرَةِ كُلُّ عَـــــابِدٍ يَهْــــــــوَى طَــــــالِبَ الآخِرَةِ وَأَنَا كُــــــــــــلَّ السِّــــــوَى طَوَيْتُ بِلَمْحَةِ كُلُّ فَقِيـهٍ عَـــــــلِيمْ بِالفَـــــرْضِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَا عِلْــــــمِي عَظِــــــيمْ مَــا لَـــهُ نِهَايَةِ أَنَا سَـــــاقِيُّ الشَّـرَابْ وَالخَمْرَةْ خُمَيْرَتِي أَنَا رَافِــعُ الحِجَـابْ وَالحَضْـرَةْ حُضَيْرَتِي كَمْ مِنْ جَـــــــاهِلٍ أَتَـــى وَدَخَلْ طَرِيقَتِي صَارَ مِـــــنْ أَهْــــلِ المَعْنَى مُلُوكَ العِنَايَةِ إِخْلَعْ نَعْــلَيْكَ وَأَفْــــنَ إِنْ شِــئْتَ مُلَاقَاتِي إِنْ أَرَدْتَ تَعْــــــرِفْنَا أَنَـــــا عَيْـــنُ الحَيَاةِ أَنَا عَيْـــنٌ لِلْــتَحْقِيقْ يَا مَـنْ تَطْلُبْ رُؤْيَتِي أَنَا مِنْـــهَاجُ الطَّــــرِيقْ وَالكَوْنُ فِي قَبْضَتِي الكَـــــوْنُ كَسَــــــــرَابٍ كَمَــا جَاءْ فِي الآيَةِ هَبَـــــاءٌ فِي هَـــــــوَاءٍ عِنْدَ أَهْلَ الحَقِيقَةِ مِنْ بِحَــــارِ الجَبَـــرُوتْ قَدْ ظَهَـرَتْ نُقْطَتِي تَلَوَّنَتْ بِالنَّاسُــــــــوتْ وَسِـــــــرِّ المَلَكُوتِ مُرِيدِي لَكَ البُشْــــرَى أَحْفَظْــلِي وَصِيَّتِي تَأَدَّبْ مَعَ الفُقْـــرَا لِتُسْـــقَى مِنْ خَمْرَتِي مُرِيدِي كُــونَنْ حَافِـيــظْ حُــدُودَ الشَّرِيعَةِ تَمَسَّـــكْ بِهَـــــا تُفِيــدْ كَمَـــــالَ الحَقِيقَــةِ يَا خَــــلِيلِي قُـــولْ الله وَحَّـــدْهُ فِي الكَثْرَةِ لَا تَـــــرَى مَـــا سِــــوَى الله فِي كُـلِّ كَائِنَةِ أَنَا لِخِـــــلِّي حَفِيـــــظْ مِـــــنْ كُــــلِّ بَلِيَّةِ وَفِــي أَبْحُــــرِ التَّوْحِـــيدْ أَغْـــرَقَتْهُ هِمَّتِي هَــــذَا إِسْــــــمِي يَا لَبِيبْ قَيْــدُ العُبُودِيَّةِ مُحَمَّدْ إِبْـــنُ الحَـــــبِيبْ البُوزَيْدِي نِسْبَتِي وَجَـــدِّي رَسُـــــولُ الله مَقْصُودِي وَبُغْيَتِي عَلَيْـــهِ صَــــلَاةُ الله صَـــــاحِبُ المُعْجِـــزَةِ تَسَمَّيْتُ بِعَبْـــدِ الله عَلَى كُـــلِّ حَالَــةِ لَا إِلَـــهَ إِلَّا اللهُ أَفْضَـــلُ الكَـــلِـــمَـــةِ