محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي

آبا محمد الأمين

تاريخ الولادة1325 هـ
تاريخ الوفاة1393 هـ
العمر68 سنة
مكان الولادةكيفا-شنقيط - موريتانيا
مكان الوفاةمكة المكرمة - الحجاز
أماكن الإقامة
  • الرياض - الحجاز
  • المدينة المنورة - الحجاز
  • مكة المكرمة - الحجاز
  • كيفا-شنقيط - موريتانيا

نبذة

الِاسْم: هُوَ مُحَمَّد الْأمين، وَهُوَ علم مركب من اسْمَيْنِ وَذكر مُحَمَّد تبرك. واللقب: آبا. بِمد الْهمزَة وَتَشْديد الْبَاء من الإباء. وَاسم أَبِيه: مُحَمَّد الْمُخْتَار بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد نوح بن مُحَمَّد بن سَيِّدي أَحْمد ابْن الْمُخْتَار من أَوْلَاد أَوْلَاد الطَّالِب أوبك وَهَذَا من أَوْلَاد أَوْلَاد كرير بن الموافي بن يَعْقُوب بن جاكن الابر جد الْقَبِيلَة الْكَبِيرَة الْمَشْهُورَة الْمَعْرُوفَة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت.

الترجمة

مَعَ صَاحب الْفَضِيلَة والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي رَحمَه الله تعالى

وَهَذِه تَرْجَمته رَحمَه الله كَمَا سَمعتهَا مِنْهُ مُبَاشرَة:
الِاسْم: هُوَ مُحَمَّد الْأمين، وَهُوَ علم مركب من اسْمَيْنِ وَذكر مُحَمَّد تبرك.
واللقب: آبا. بِمد الْهمزَة وَتَشْديد الْبَاء من الإباء.

وَاسم أَبِيه: مُحَمَّد الْمُخْتَار بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد نوح بن مُحَمَّد بن سَيِّدي أَحْمد ابْن الْمُخْتَار من أَوْلَاد أَوْلَاد الطَّالِب أوبك وَهَذَا من أَوْلَاد أَوْلَاد كرير بن الموافي بن يَعْقُوب بن جاكن الابر جد الْقَبِيلَة الْكَبِيرَة الْمَشْهُورَة الْمَعْرُوفَة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت.
نسب الْقَبِيلَة: وَيرجع نسب هَذِه الْقَبِيلَة إِلَى حمير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر الموريتاني مُحَمَّد فال ولد الْعَينَيْنِ مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم:
إِنَّا بَنو حسن دلّت فصاحتنا ... أَنا إِلَى الْعَرَب الأقحاح ننتسب
إِن لم تقم بَيِّنَات أننا عرب ... فَفِي (اللِّسَان) بَيَان أننا عرب
أنظر إِلَى مَا لنا من كل قافية ... لَهَا تذم شذور الزبرج القشب
وبيّن شَاعِر آخر مرجع تِلْكَ الْقَبِيلَة إِلَى حمير بقوله:
يَا قَائِلا طاعناً فِي أننا عرب ... قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم الْعرُوبَة بادٍ فِي شَمَائِلنَا ... وَفِي أوائلنا عز وإيمان
أساد حمير والأبطال من مُضر ... حمر السيوف فَمَا ذلوا وَلَا هانوا
لقد كَانَت خَصَائِص الْعرُوبَة ومميزاتها موفورة لَدَى الشَّيْخ رَحمَه الله ولدى أَهله وَذَوِيهِ فِي النّظم وَفِي النثر، كَمَا توفرت الْعُلُوم والفنون فِي بَيته وقبيلته: وَقد بيّن أحد شعرائهم أَصَالَة الْعرُوبَة فيهم وارتضاعهم إِيَّاهَا من أمهاتهم فِي قَوْله يُخَاطب من ينكرها عَلَيْهِم:
لنا الْعرُوبَة الفصحى وَإِنَّا ... أَحَق الْعَالمين بهَا اضطلاعا
عَن الْكتب اقتبستموها انتفاعا. ... بِمَا فِيهَا ونرضعها ارتضاعا
المولد: ولد رَحمَه الله فِي عَام 1325هـ‍.
الموطن: كَانَ مسْقط رَأسه رَحمَه الله عِنْد مَاء يُسمى (تَنْبه) من أَعمال مديرية (كيفا) من الْقطر الْمُسَمّى بشنقيط وَهُوَ دولة موريتانيا الإسلامية الْآن. علما بِأَن كلمة شنقيط كَانَت وَلَا تزَال اسْما لقرية من أَعمال مديرية أطار فِي أقْصَى موريتانيا فِي الشمَال الغربي.
نشأته رَحمَه الله: وَقبل الحَدِيث عَن نشأته يحسن إيجاز نبذة عَن البيئة فِي تِلْكَ الْبِلَاد:
تعْتَبر الْحَيَاة الاجتماعية فِي تِلْكَ الْبِلَاد بِحَسب المواطنين قسمَيْنِ عرب وعجم والعربية لُغَة الْجَمِيع، أما الْعَمَل فالعجم أَكثر أَعْمَالهم الزِّرَاعَة والصناعة وسلالتهم من الزنوج.
وَأما الْعَرَب فقسمان: طلبة وَغير الطّلبَة، والطلبة من يغلب عَلَيْهِم طلب الْعلم وَالتِّجَارَة وَغَيرهم من يغلب عَلَيْهِم التِّجَارَة والإغارة. وهم قبائل عدَّة وَمن الْقَبَائِل من يغلب عَلَيْهَا الطّلب وَمِنْهَا من يغلب عَلَيْهَا الإغارة والقتال.
وقبيلة الجكنيين خَاصَّة قد جمعت بَين طلب الْعلم وفروسية الْقِتَال مَعَ عفة عَن أَمْوَال النَّاس، وَفِي هَذَا الجو كَانَ طلب الْعلم على قدم وسَاق سَوَاء فِي حلهم أَو ترحالهم كَمَا قَالَ بعض مشايخهم الْعَلامَة الْمُخْتَار بن بونا:
وَنحن ركب من الْأَشْرَاف مُنْتَظم. ... أجل ذَا الْعَصْر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظُهُور العيس مدرسة ... بهَا نبين دين الله تبيانا
أما كرم الطَّبْع فَهَذَا سجية فِي جَمِيعهم وَأمر يشب فِيهِ الصَّغِير ويشيب عَلَيْهِ الْكَبِير، وَقد ألفوا الضَّيْف لنجعة مَنَازِلهمْ وَمن عاداتهم إِذا نزل وَفد على بَيت فَإِن أهل هَذَا الْمنزل يرسلون لأهل بَيت المضيف مِمَّا عِنْدهم قل أَو كثر مُشَاركَة فِي قرى الضَّيْف وتعاوناً مَعَ المضيف حَتَّى لَو كَانَ معدماً غَدا واجداً ويرحل الْوَفْد وَهُوَ فِي غَايَة الرِّضَا. وَهَكَذَا دواليك.
وَفِي هَذَا الجو وَتلك البيئة نَشأ رَحمَه الله كَمَا سمعته يَقُول: "توفّي وَالِدي وَأَنا صَغِير أَقرَأ فِي جُزْء عمّ وَترك لي ثروة من الْحَيَوَان وَالْمَال، وَكَانَت سكناي فِي بَيت أخوالي وَأمي ابْنة عَم أبي وحفظت الْقُرْآن على خَالِي عبد الله بن مُحَمَّد الْمُخْتَار بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد نوح جد الْأَب الْمُتَقَدّم".
طلبه للْعلم: حفظ الْقُرْآن فِي بَيت أَخْوَاله على خَاله عبد الله كَمَا تقدم وعمره عشر سنوات.
قَالَ رَحمَه الله: "ثمَّ تعلمت رسم الْمُصحف العثماني (الْمُصحف الْأُم) على ابْن خَالِي سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُخْتَار، وقرأت عَلَيْهِ التجويد فِي مقرأ نَافِع بِرِوَايَة ورش من طَرِيق أبي يَعْقُوب الْأَزْرَق وقالون من رِوَايَة أبي نشيط وَأخذت عَنهُ سنداً بذلك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ وعمري سِتَّة عشر سنة".
أَنْوَاع الدراسة فِي الْقُرْآن: تعْتَبر الدراسة فِي عُلُوم الْقُرْآن منهجاً متكاملاً لَا تقتصر على الْحِفْظ وَالْأَدَاء بل تتَنَاوَل معرفَة رسم الْمُصحف أَي نوع كِتَابَته مَا كَانَ مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا وَمَا رسم فِيهِ الْمَدّ أَو كَانَ يمد بِدُونِ وجود حرف الْمَدّ وَقد يكون حرفا صَغِيرا أَو نَحْو ذَلِك.
ثمَّ ضبط مَا فِيهِ من منشأيه فِي الرَّسْم أَو التِّلَاوَة وَمن الْمَشْهُور عِنْدهم فِي هَذَا الرجز (مُحَمَّد ابْن بِوَجْه) الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بالبحر تعرض فِيهِ لكل كلمة جَاءَت فِي الْقُرْآن مرّة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاث مَرَّات إِلَى سبع وَعشْرين مرّة أَي من الْكَلِمَات المشتبهة وأفرد كل عدد بفصل فمثلاً: كلمة (أَعينهم) بِالرَّفْع جَاءَت ثَلَاث مَرَّات قَالَ فِيهَا:
أَعينهم بِالرَّفْع من غير حُضُور ... من بعد كَانَت وتولت وتدور
وَمن الثنائي: كلمة (الأشياع) بِالْعينِ قَالَ فِيهِ:
أشياع بِالْعينِ فَهَل من مدكر ... فِي سبأ من قبل بِأَنَّهُم ذكر
وَقد درس هَذَا كُله فِي طفولته وَكَانَت لَهُ زِيَادَة نظم على ذَلِك تذييلا لزِيَادَة الْفَائِدَة كَمَا قَالَ: على الْبَيْت الْأَخير مُبينًا حركاته وَإِعْرَابه:

فِي سُورَة الْقَمَر خَاطب وانصبا ... وجره وغيبنه فِي سبا
أَي فِي سُورَة الْقَمَر تكون تلاوتها الْخطاب وَالنّصب {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وَفِي سُورَة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} وَهَذِه دراسة لَا تكَاد تُوجد إِلَّا مَا شَاءَ الله وَهِي من المهام العلمية لحفظها رسم الْقُرْآن من التَّغْيِير والتبديل وَهِي من أثار تعهد الله بِحِفْظ هَذَا الْقُرْآن الْمنزل من عِنْده سُبْحَانَهُ.
ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَفِي أثْنَاء هَذِه الْقِرَاءَة درست بعض المختصرات فِي فقه مَالك كرجز الشَّيْخ ابْن عَاشر وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضا درست دراسة وَاسِعَة فِي الْأَدَب على زَوْجَة خَالِي أم ولد الْخَال أَي أَن ولد خَاله يُعلمهُ الْعُلُوم الْخَاصَّة بِالْقُرْآنِ وَأمه تعلمه الْأَدَب قَالَ أخذت عَنْهَا مبادئ النَّحْو كالأجرومية وتمرينات ودروس وَاسِعَة فِي أَنْسَاب الْعَرَب وأيامهم والسيرة النَّبَوِيَّة ونظم الْغَزَوَات لِأَحْمَد البدوي الشنقيطي وَهُوَ يزِيد على 500 بَيْتا وشروحه لِابْنِ أُخْت الْمُؤلف الْمَعْرُوف بحماد ونظم عَمُود النّسَب للمؤلف وَهُوَ يعد بالآلاف وَشَرحه لِابْنِ أُخْته الْمَذْكُور على خُصُوص العدنانيين لِأَنَّهُ مَاتَ قبل شرح مَا يتَعَلَّق بالقحطانيين.
هَذِه دراسته فِي عُلُوم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالسير والتاريخ كَانَت فِي بَيت أَخْوَاله على أَخْوَاله وَأَبْنَاء أَخْوَاله وزوجات أَخْوَاله أَي كَانَ بَيت أَخْوَاله الْمدرسَة الأولى إِلَيْهِ، أما بَقِيَّة الْفُنُون فَقَالَ:
1 - أَولا الْفِقْه الْمَالِكِي وَهُوَ الْمَذْهَب السائد فِي الْبِلَاد درست مُخْتَصر خَلِيل بَدَأَ دراسته فِيهِ على الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح إِلَى قسم الْعِبَادَات ثمَّ درس عَلَيْهِ النّصْف من ألفية ابْن مَالك، ثمَّ أخذت بَقِيَّة الْفُنُون على مَشَايِخ مُتعَدِّدَة، فِي فنون مُخْتَلفَة وَكلهمْ من الجكنيين وَمِنْهُم مشاهير الْعلمَاء فِي الْبِلَاد مِنْهُم:
1 - الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح الْمَشْهُور بِابْن أَحْمد الأفرم.
2 - وَالشَّيْخ أَحْمد الأفرم بن مُحَمَّد الْمُخْتَار.

3 - وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن عمر
4 - والفقيه الْكَبِير مُحَمَّد النِّعْمَة بن زَيْدَانَ
5 - والفقيه الْكَبِير أَحْمد بن مُودْ
6 - والعلامة المتبحر فِي الْفُنُون أَحْمد فال بن آدُه
وَغَيرهم من الْمَشَايِخ الجكنيين.
قَالَ رَحمَه الله: "وَقد أَخذنَا عَن هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كل الْفُنُون: النَّحْو وَالصرْف وَالْأُصُول والبلاغة، وَبَعض التَّفْسِير والْحَدِيث.
أما الْمنطق وآداب الْبَحْث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة".
هَذَا مَا أملاه عَليّ رَحمَه الله وسجلته عَنهُ.
علما بِأَن الْفَنّ الَّذِي درسه على الْمَشَايِخ أَو مطالعة من الْكتب لم يقْتَصر فِي تَحْصِيله على دراسته بل كَانَ دَائِما يديم النّظر ويواصل التَّحْصِيل حَتَّى غَدا فِي كل مِنْهُ كَأَنَّهُ متخصص فِيهِ بل وَله فِي كل مِنْهُ اجتهادات ومباحث مبتكرة سنلم بهَا إِن شَاءَ الله عِنْد إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لدراسته وآثاره العلمية.

منهجه العلمي فِي الدراسة:
وَقبل إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لَهُ رَحمَه الله فِي دراسته نلم بالمنهج الْعَام السائد فِي بِلَاده لكافة طلبة الْعلم وَطَرِيقَة تَحْصِيله.
تعْتَبر طَريقَة الدراسة فِي تِلْكَ الْبِلَاد جُزْءا من حَيَاة الْبَوَادِي حلا وارتحالاً. وَإِذا أَقَامَ أحد الْمَشَايِخ فِي مَكَان توافد عَلَيْهِ الطلاب للدراسة عَلَيْهِ وَمكث حَتَّى يَأْخُذُوا عَنهُ وَقد يُقيم بِصفة دائمة لدوام الدراسة عَلَيْهِ ويُقال لَهُ (المرابط) نظرا لإقامته الدائمة لنشر الْعلم.
وَلَا يَأْخُذ المرابط من طلابه شَيْئا وَإِن كَانَ ذَا يسَار ساعد المحتاجين من طلابه وَقد يساعد أهل ذَاك الْمَكَان الغرباء من الطلاب.
فينزلون حول بَيته ويبنون لَهُم خياماً أَو مسَاكِن مُؤَقَّتَة، وَيكون لَهُم مجْلِس علم للدرس والمناقشة والاستذكار.

وَقد يكون المرابط مُخْتَصًّا بفن وَاحِد وَقد يدرس عدَّة فنون، فَإِذا كَانَ مُخْتَصًّا بفن وَاحِد فَإِن دروسه تكون فِي هَذَا الْفَنّ موزعة فِي عدَّة أَمَاكِن مِنْهُ بِحَسب مجموعات الطلاب فقد تكون مَجْمُوعَة فِي الْبِدَايَة مِنْهُ ومجموعة فِي النِّهَايَة وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا.. فتتقدم كل مَجْمُوعَة على حِدة فتدرس على الشَّيْخ ثمَّ تَأتي الْمَجْمُوعَة الْأُخْرَى وَهَكَذَا.
وَإِذا كَانَ يدرس عدَّة فنون فَإِنَّهُ يقسم طلاب كل فن على النَّحْو الْمُتَقَدّم.
إِفْرَاد الْفُنُون: وَلَا يحِق لطَالب أَن يجمع بَين فنين فِي وَقت وَاحِد بل يدرس فَنًّا حَتَّى يكمله كالنحو مثلا ثمَّ يبْدَأ فِي البلاغة حَتَّى يكملها وَهَكَذَا يبْدَأ مثلا فِي الْفِقْه حَتَّى يفرغ مِنْهُ ثمَّ يبْدَأ فِي الْأُصُول حَتَّى يكمله، سَوَاء درسها على عدَّة مَشَايِخ أَو على شيخ وَاحِد.
طَريقَة الدراسة اليومية: يبْدَأ الطَّالِب بِكِتَابَة الْمَتْن فِي اللَّوْح الخشبي فَيكْتب قدر مَا يَسْتَطِيع حفظه ثمَّ يمحوه ثمَّ يكْتب قدرا أخر حَتَّى يحفظ مقرأ من الْفَنّ حسب التَّقْسِيم الْمَعْهُود فمثلاً النَّحْو تعْتَبر الألفية أَرْبَعَة مقارئ وَيعْتَبر متن خَلِيل فِي الْفِقْه نَحوا من ذَلِك.
فَإِذا حفظ الطَّالِب مقرأ من الْفَنّ تقدم للدراسة فيشرحه لَهُ الشَّيْخ شرحاً وافياً بِقدر مَا عِنْده من تَحْصِيل دون أَن يفتح كتابا أَو يحضر فِي مرجع ثمَّ يقوم هَؤُلَاءِ للاستذكار فِيمَا بَينهم ومناقشة مَا قَالَه الشَّيْخ وَقد يَأْخُذُونَ بعض الشرّاح لمقابلته على مَا سَمِعُوهُ أَو يرجعُونَ إِلَى بعض الْحَوَاشِي وَلَا يجتازون ذَاك الْمَكَان من الدَّرْس حَتَّى يرَوا أَنهم قد حصلوا كل مَا فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِم من سرعَة أَو إنهاء كتاب بِقدر مَا عَلَيْهِم من فهم وَتَحْصِيل مَا فِي الْبَاب وَقد ذكرُوا عَن بعض الطلاب مِمَّن عرفُوا بالذكاء وَالْقُدْرَة على التَّحْصِيل أَنه كَانَ لَا يزِيد فِي متن خَلِيل على سطرين فَقَط فَقيل لَهُ: "لمَ لَا تزيد وَأَنت قَادر على التَّحْصِيل" فَقَالَ: "لأنني عجلَان لأعود إِلَى أَهلِي". فَقَالُوا لَهُ إِن العجلان يزِيد فِي حِصَّته. فَقَالَ: "أُرِيد أَن أتقن مَا أَقرَأ حَتَّى لَا أحتاج إِلَى إِعَادَة دراسته فأتأخر".

الْحَيَاة الدراسية:
دراسة الشَّيْخ رَحمَه الله: على هَذَا الْمنْهَج كَانَت دراسة الشَّيْخ رَحمَه الله إِلَّا أَنه تميز بِبَعْض الْأُمُور قل أَن كَانَت لغيره. نوجز مِنْهَا الْآتِي:
1 - فِي مبدأ دراسته: تقدم أَنه أتيح لَهُ فِي بادئ دراسته مَا لم يتح لغيره حَيْثُ كَانَ بَيت أَخْوَاله مدرسته الأولى، فَلم يرحل فِي بادئ أمره للطلب، وَكَانَ وحيد وَالِديهِ فَكَانَ فِي مَكَان التدلل والعناية.
2 - قَالَ رَحمَه الله كنت أميل إِلَى اللّعب أَكثر من الدراسة حَتَّى حفظت الْحُرُوف الهجائية وبدأوا يقرئونني إِيَّاهَا بالحركات: با فَتْحة با بِي كسرة بِي بُ ضمة بو وَهَكَذَا ث د ث. فَقلت لَهُم أَو كل الْحُرُوف هَكَذَا قَالُوا نعم فَقلت كفى إِنِّي أَسْتَطِيع قرَاءَتهَا كلهَا على هَذِه الطَّرِيقَة كي يتركونني. فَقَالُوا اقرأها فَقَرَأت بِثَلَاثَة حُرُوف أَو أَرْبَعَة وتنقلت إِلَى آخرهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة فعرفوا أَنِّي فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني، وَمن ثمَّ حُببت إِلَيّ الْقِرَاءَة.
3 - وَقَالَ رَحمَه الله: وَلما حفظت الْقُرْآن وَأخذت الرَّسْم العثماني وتفوقت فِيهِ على الأقران عُنيت بِي والدتي وأخوالي أَشد عناية وعزموا على تَوَجُّهِي للدراسة فِي بَقِيَّة الْفُنُون، فجهزتني والدتي بجملين أَحدهمَا عَلَيْهِ مركبي وكتبي، وَالْآخر عَلَيْهِ نفقتي وزادي، وصحبني خَادِم وَمَعَهُ عدَّة بقرات وَقد هيئت لي مركبي كأحسن مَا يكون من مركب وملابس كأحسن مَا تكون فَرحا بِي وترغيباً لي فِي طلب الْعلم، وَهَكَذَا سلكت سَبِيل الطّلب والتحصيل.
تقوم الْحَيَاة الدراسية على أساس منع الكلفة وَتَمام الألفة سَوَاء بَين الطلاب أنفسهم أَو بَينهم وَبَين شيخهم مَعَ كَمَال الْأَدَب ووقار الحشمة، وَقد تتخللها الطّرف الأدبية والمحاورات الشعرية وَمن ذَلِك مَا حَدَّثَنِيهِ رَحمَه الله قَالَ: قدمت على بعض الْمَشَايِخ لأدرس عَلَيْهِ وَلم يكن يعرفنِي من قبل فَسَأَلَ عني من أكون وَكَانَ فِي ملإ من تلامذته فَقلت مرتجلا:

هَذَا فَتى من بني جاكان قد نزلا ... بِهِ الصِّبَا عَن لِسَان الْعَرَب قد عدلا
رمت بِهِ همة علياء نحوكم ... إِذْ شام برق عُلُوم نوره اشتعلا
فجَاء يَرْجُو ركاماً من سحائبه ... تكسو لِسَان الْفَتى أزهاره حللا
إِذْ ضَاقَ ذرعاً بِجَهْل النَّحْو ثمَّ أَبَا ... أَلا يُمَيّز شكل الْعين من فعلا
قد أَتَى الْيَوْم صبا مُولَعا كلفا ... بِالْحَمْد لله لَا أبغي لَهُ بَدَلا
يُرِيد دراسة لامية الْأَفْعَال:
وَقد مضى رَحمَه الله فِي طلب الْعلم قُدماً وَقد ألزمهُ بعض مشايخه بِالْقُرْآنِ، أَي أَن يقرن بَين كل فنين حرصاً على سرعَة تَحْصِيله وتفرساً لَهُ فِي الْقُدْرَة على ذَلِك، فَانْصَرف بهمة عالية فِي درس وَتَحْصِيل.
وَقد خاطبه بعض أقرانه فِي أَمر الزواج فَقَالَ فِي ذَلِك وَفِي الْحَث على طلب الْعلم:
دَعَاني الناصحون إِلَى النِّكَاح ... غَدَاة تزوجَتْ بيض الملاح
فَقَالُوا لي تزوج ذَات دلّ ... خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تَبَسم عَن نوشرة رقاق ... يمج الراح بِالْمَاءِ القراح
كَأَن لحاظها رشقات نبل ... تذيق الْقلب آلام الْجراح
وَلَا عجب إِذا كَانَت لحاظ ... لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميّا ذَا ولاحى ... ضعيفات الجفون بِلَا سلا
فَقلت لَهُم دَعونِي إِن قلبِي ... من العي الصراح الْيَوْم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى ... كَأَن وجوهها ضوء الصَّباح
أَرَاهَا فِي المهارق لابسات ... براقع من مَعَانِيهَا الصِّحَاح.
أَبيت مفكراً فِيهَا فتضحى ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح
أبحت حريمها جبرا عَلَيْهَا ... وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح.

نعم إِنَّه كَانَ يبيت فِي طلب الْعلم مفكراً وباحثاً حَتَّى يذلل الصعاب وَقد طابق القَوْل الْعَمَل.
حَدثنِي رَحمَه الله قَالَ: جِئْت للشَّيْخ فِي قراءتي عَلَيْهِ فشرح لي كَمَا كَانَ يشْرَح وَلكنه لم يشف مَا فِي نَفسِي على مَا تعودت وَلم يرو لي ظمئي، وَقمت من عِنْده وَأَنا أجدني فِي حَاجَة إِلَى إِزَالَة بعض اللّبْس وإيضاح بعض الْمُشكل وَكَانَ الْوَقْت ظهرا فَأخذت الْكتب والمراجع فطالعت حَتَّى الْعَصْر فَلم أفرغ من حَاجَتي فعاودت حَتَّى الْمغرب فَلم أنته أَيْضا فَأوقد لي خادمي أعواداً من الْحَطب أَقرَأ على ضوئها كعادة الطلاب وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الْأَخْضَر كلما مللت أَو كسلت وَالْخَادِم بِجوَارِي يُوقد الضَّوْء حَتَّى انبثق الْفجْر وَأَنا فِي مجلسي لم أقِم إِلَّا لصَلَاة فرض أَو تنَاول طَعَام وَإِلَى أَن ارْتَفع النَّهَار وَقد فرغت من درسي وَزَالَ عني لبسي وَوجدت هَذَا الْمحل من الدَّرْس كَغَيْرِهِ فِي الوضوح والفهم فَتركت المطالعة ونمت وأوصيت خادمي أَن لَا يوقظني لدرسي فِي ذَلِك الْيَوْم اكْتِفَاء بِمَا حصلت عَلَيْهِ واستراحة من عناء سهر البارحة.
فقد بَات مفكراً فِيهَا فأضحت ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح
وَإِن هَذَا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب الْعلم فِي الصَّبْر والدأب والمثابرة وَقد نَفَعَنِي الله بِهَذِهِ الْحَادِثَة فِي دراستي وتدريسي وخاصة فِي صُورَة مشابهة فِي الْفَرَائِض لم أكن درستها على أحد وَكَانَ الِاخْتِيَار فِي المقروء لَا فِي الْمُقَرّر.
وَتلك هِيَ آفَة الدراسة النظامية الْيَوْم وَكنت كلما ضجرت فِي تحقيقها تذكرت قصَّته رَحمَه الله فَصَبَرت حَتَّى حصلتها وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَكَانَ من بعد الظّهْر إِلَى هزيع من اللَّيْل، وَلَكِن كم كَانَت لذتي وارتياحي.
وَمَعَ هَذِه الشاعرية الرقراقة والمعاني الْعَذَاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل فقد كَانَ يتباعد رَحمَه الله عَن قَول الشّعْر مَعَ وفرة حفظه إِيَّاه وَله فِي ذَلِك أَبْيَات يَقُول فِيهَا:

أنقذت من دَاء الْهوى بعلاج ... شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عَن لمي ... شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماءُ الشبيبة زارع فِي صدرها ... رمانتي روض كحق العاج
وَكَأَنَّهَا قد أدرجت فِي برقع ... يَا ويلتاه بهَا شُعَاع سراج
وكأنما شمس الْأَصِيل مذابة ... تنساب فَوق جبينها الْوَهَّاج.
يعلى لموقع جنبها فِي خدرها ... فَوق الحشية ناعم الديباج.
لم يبك عَيْني بينُ حَيّ جيرة ... شدوا الْمطِي بأنسع الأحداج
نادت بأنغام اللحون حداتهم ... فتزيلوا وَاللَّيْل أليل داجي
لَا تصطبيني عاتق فِي دلّها ... رقت فراقت فِي رقاق زجاج
مخضوبة مِنْهَا بنان مديرها ... إِذْ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشّرْب حَيْثُ أدارها ... رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أَو ذَات عود أنطقت أوتارها ... بِلُحُونِ قَول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفاً ... قد رددت فِي الْحلق من مهتاج
وَقد سَأَلت رَحمَه الله عَن تَركه الشّعْر مَعَ قدرته عَلَيْهِ وإجادته فِيهِ فَقَالَ: "لم أره من صِفَات الأفاضل. وخشيت أَن أشتهر بِهِ وتذكرت قَول الشَّافِعِي فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ:
وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد
وَلِأَن الشَّاعِر يَقُول فِي كل مجَال، وَالشعر أكذبه أعذبه، فَلم أَكثر مِنْهُ لذَلِك".
وَمَعَ هَذَا فقد كَانَت لَهُ رَحمَه الله عدَّة مؤلفات نظماً فِي عدَّة فنون سَيَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله.
أَعماله فِي الْبِلَاد:

كَانَت أَعماله رَحمَه الله كعمل أَمْثَاله من الْعلمَاء: الدَّرْس والفتيا وَلكنه كَانَ قد اشْتهر بِالْقضَاءِ وبالفراسة فِيهِ وَرَغمَ وجود الْحَاكِم الفرنسي إِلَّا أَن المواطنين كَانُوا عظيمي الثِّقَة فِيهِ فيأتونه للْقَضَاء بَينهم ويفدون إِلَيْهِ من أَمَاكِن بعيدَة أَو حَيْثُ يكون نازلاً.

طَرِيقَته فِي الْقَضَاء:
كَانَ إِذا أَتَى إِلَيْهِ الطرفان استكتبهما رغبتهما فِي التقاضي إِلَيْهِ وقبولهما مَا يقْضِي بِهِ ثمَّ يسْتَكْتب الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ جَوَاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَسْفَل كِتَابَة الدَّعْوَى وَيكْتب الحكم مَعَ الدَّعْوَى والإجابة وَيَقُول لَهما اذْهَبَا بهَا إِلَى من شئتما من الْمَشَايِخ أَو الْحُكَّام، أما الْمَشَايِخ فَلَا يَأْتِي أحدهم قَضِيَّة قَضَاهَا إِلَّا صدقُوا عَلَيْهَا، وَأما الْحُكَّام فَلَا تصلهم قَضِيَّة حكم فِيهَا إِلَّا نفذوا حكمه حَالا، وَكَانَ يقْضِي فِي كل شَيْء إِلَّا فِي الدِّمَاء وَالْحُدُود، وَكَانَ للدماء قَضَاء خَاص.

قَضَاء الدِّمَاء:
كَانَ الْحَاكِم الفرنسي فِي الْبِلَاد يقْضِي بِالْقصاصِ فِي الْقَتْل بعد محاكمة ومرافعة وَاسِعَة النطاق وَبعد تمحيص الْقَضِيَّة وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عَالمين جليلين من عُلَمَاء الْبِلَاد ليصادقوا عَلَيْهِ ويسمي العلمين لجنة الدِّمَاء وَلَا ينفذ حكم الإعدام فِي الْقصاص إِلَّا بعد مصادقتهما عَلَيْهِ. وَقد كَانَ رَحمَه الله أحد أَعْضَاء هَذِه اللجنة وَلم يخرج من بِلَاده حَتَّى علا قدره وَعظم تَقْدِيره وَكَانَ علما من أعلامها وَمَوْضِع ثِقَة أَهلهَا وحكامها ومحكومها.

خُرُوجه من بِلَاده رَحمَه الله:
كَانَ خُرُوجه من بِلَاده لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج وعَلى نِيَّة العودة وَكَانَ سَفَره برا كتب فِيهِ رحْلَة ضمنهَا مبَاحث جليلة كَانَ آخرهَا مَبْحَث القضايا الموجهة فِي الْمنطق مَعَ عُلَمَاء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان.
وَبعد وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد تَجَدَّدَتْ نِيَّة بَقَائِهِ،

أَولا فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ:
يعْتَبر التدريس فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ من أهم التدريس فِي كبريات جامعات الْعَالم فِي نشر الْعلم، وَهُوَ الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي مُنْذُ عهد النُّبُوَّة وَحين كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَأْتِي لتعليم الْإِسْلَام فِي مجَالِس الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومنذ كَانَت مجَالِس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وعلماء الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، إِذْ كَانَت الْمَدِينَة العاصمة العلمية، وظلت مُحَافظَة على مركزها العلمي وَلم تخل فِي زمن من الْأَزْمَان من عَالم يقوم بِحَق الله فِيهَا.
وَقبل مَجِيء الشَّيْخ رَحمَه الله كَانَ قبله الشَّيْخ الطّيب رَحمَه الله نفع الله بِهِ كثيرا وَتُوفِّي سنة 1363هـ‍ فَكَانَ جُلُوس الشَّيْخ رَحمَه الله للتدريس فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ امتداداً لما كَانَ قبله مَعَ من كَانَ من الْعلمَاء بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ آنذاك من تلاميذ الشَّيْخ الطّيب وَغَيرهم، وَكَانَ درس الشَّيْخ فِي التَّفْسِير ختم الْقُرْآن مرَّتَيْنِ.

منهجه فِي درسه:
من الْمَعْلُوم أَن التَّفْسِير لَا ينْحَصر فِي مَوْضُوع فَهُوَ شَامِل عَام بشمول الْقُرْآن وعمومه، فَكَانَ الْمنْهَج أَولا بَيَان الْمُفْردَات ثمَّ الْإِعْرَاب والتصريف ثمَّ البلاغة مَعَ إِيرَاد الشواهد على مَا يُورد.
ثمَّ يَأْتِي إِلَى الْأَحْكَام إِن كَانَ مَوْضُوع الْآيَة فقهاً فيستقصي باستنتاج الحكم وَبَيَان الْأَقْوَال وَالتَّرْجِيح لما يظْهر لَهُ، ويدعم ذَلِك بالأصول وَبَيَان الْقُرْآن وعلوم الْقُرْآن من عَام وخاص وَمُطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ وَأَسْبَاب نزُول وَغير ذَلِك.
وَإِذا كَانَت الْآيَة فِي قصَص أظهر العبر من الْقِصَّة وَبَين تاريخها وَقد يرْبط الْحَاضِر بالماضي كربط تكشف النِّسَاء الْيَوْم بفتنة إِبْلِيس لحواء فِي الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما، وفتنته للجاهلية حِين طافوا بِالْبَيْتِ عرايا رجَالًا وَنسَاء وهاهو يستدرجهن فِي التكشف شَيْئا فَشَيْئًا، بَدَأَ بكشف الْوَجْه ثمَّ الرَّأْس

آثاره فِي الرياض:
كَانَت مُدَّة اخْتِيَاره للتدريس بالرياض عشر سنوات دراسية يعود لقَضَاء العطلة بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ عمله فِي التدريس بالمعهد والكلية كَغَيْرِهِ من المدرسين. وَلَكِن لبَيَان أَثَره حَقِيقَة نورد نبذه عَن الْحَالة العلمية آنذاك بالرياض.

كَانَت الرياض عَاصِمَة نجد علمياً وسياسياً وَكَانَ يفد إِلَيْهَا طلاب الْعلم من أنحاء نجد لأخذ الْعلم عَن آل الشَّيْخ. وَكَانَ مَرْكَز الدراسة والتدريس فِي الْمَسَاجِد إِلَّا خَواص الطلاب لَدَى سماحة الْمُفْتِي فيدرسون عَلَيْهِ بعض الدُّرُوس فِي بَيته ضحى، وَكَانَت الدراسة عمادها التَّوْحِيد وَالْفِقْه وَالتَّفْسِير وَكَذَلِكَ الحَدِيث والسيرة والنحو وَكَانَت دراسة مباركة تخرج عَلَيْهَا جَمِيع عُلَمَاء نجد حَتَّى جَاءَت تِلْكَ الْحَرَكَة العلمية الجديدة أَو تنظيم الدراسة الْجَدِيد فِي عَام 1371هـ‍.
نشأة هَذِه الْحَرَكَة: كَانَت نشأتها كَمَا سَمِعت مِنْهُ رَحمَه الله استجابة لرغبة المرحوم جلالة الْملك عبد الْعَزِيز رَحمَه الله. قَالَ لجَماعَة الْعلمَاء وهم فِي مَجْلِسه الْخَاص: لقد كَانَت الرياض ملية بالعلماء عامرة بالدروس. وانتقل الْكثير مِنْهُم إِلَى رَحْمَة الله وَلم يخلفهم من يماثلهم وَأَرَدْت تعاونكم مَعَ سماحة الْمُفْتِي فِي تربية جيل من طلبة الْعلم على الْعُلُوم الصَّحِيحَة والعقيدة السليمة فَنحْن وَأَنْتُم مشتركون فِي المسئولية فَكَانَت هَذِه النهضة ترعاها عناية ملكية وَتقوم عَلَيْهَا كفاءة علمية تولي إدارة المعهد الشَّيْخ عبد اللَّطِيف بن إِبْرَاهِيم ورئاسته لسماحة الْمُفْتِي وافتتحت الدراسة على طلاب حلق الْمَسَاجِد الْأَكفاء وَفِيهِمْ خَواص طلاب فَضِيلَة الشَّيْخ مُحَمَّد رَحمَه الله وأبناؤه. صنفت الدراسة على ثَلَاث سنوات ثانوية وَمِنْهَا إِلَى الْكُلية يغذي هَذَا الْقسم تمهيدي يَأْخُذ من رَابِعَة ابتدائي ويدرس خَامِسَة وسادسة وَمن ثمَّ للمعهد الثانوي فالكليتين.

الْمنْهَج العلمي:
وضع الْمنْهَج العلمي لتِلْك الدراسة على أساس فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة والعربية وتكميل من الْموَاد الاجتماعية وعلوم الْآلَة من مصطلح وأصول حَتَّى الْحساب والتقويم والخط والإملاء والتجويد. فَكَانَ قَوِيا فِي مَوْضُوعه شَامِلًا فِي منهجه. وَكَانَ الطلاب من الصفوة الَّذين درسوا فِي الْمَسَاجِد المتعطشين للعلوم متطلعين للتوسع وَكَانَ القائمون على التدريس نخبة ممتازة من الأجلة الْفُضَلَاء من وطنيين وأزهريين. فَكَانَ الجو حَقًا جدا علمياً الْتَقت فِيهِ همة عالية من طلاب جَيِّدين مَعَ عَزِيمَة مَاضِيَة من مَشَايِخ مجتهدين. كَانَ يسودهم الشُّعُور بِأَن هَذِه طَلِيعَة نهضة علمية وَاسِعَة، كَانَ رَحمَه الله كوالد للْجَمِيع وَكَانَ درسه التَّفْسِير وَالْأُصُول. فَكَانَ فِي التَّفْسِير المجال الْوَاسِع لجَمِيع الْموَاد والعلوم. وَكَانَ مَعَ الْتِزَامه بالمنهج والحصص إِذا تنَاول بحثا فِي أَي مَادَّة يخاله السَّامع مُخْتَصًّا فِيهَا فَعرف لَهُ الْجَمِيع قدره وتطلع الْجَمِيع إِلَى مَا عِنْده حَتَّى المدرسون: وَقد رغب المدرسون آنذاك فِي قِرَاءَة بعض كتب شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية واستيعاب دقائقه فَلم يكن أولى بذلك من فضيلته رَحمَه الله. خصص لذَلِك مجْلِس خَاص فِي صحن المعهد بدخنه بَين الْمغرب وَالْعشَاء.

فِي مَسْجِد الشَّيْخ:
وَفِي مَسْجِد الشَّيْخ مُحَمَّد رَحمَه الله بَدَأَ درس الْأُصُول لكبار الطّلبَة فِي قَوَاعِد الْأُصُول حَضَره الْعَامَّة والخاصة وَكَانَ يتوافد إِلَيْهِ من أَطْرَاف الرياض، وَكَانَ الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الإفْرِيقِي رَحمَه الله يدرس الحَدِيث وَكَانَ درس الْأُصُول بِمَثَابَة فتح جَدِيد فِي هَذَا الْفَنّ.

فِي بَيته رَحمَه الله:
وَلما كَانَ الدَّرْس فِي الْأُصُول فِي الْمَسْجِد عَاما وَفِي الطّلبَة من خواصهم رَغِبُوا فِي درس خَاص فِي بَيته رَحمَه الله فَكَانَ لَهُم درس خَاص بعد الْعَصْر. وَكَانَ بَيته رَحمَه الله كمدرسة سَوَاء لأبنائه الَّذين رافقوه للدراسة عَلَيْهِ وَقد أمْلى شرحاً على مراقي السُّعُود فِي بَيته على أخينا أَحْمد الأحمد الشنقيطي.
لقد كَانَ لتدريسه هَذَا سَوَاء رسمياً فِي المعهد والكليتين أَو فِي الْمَسْجِد أَو فِي الْمنزل كَانَ لَهُ أثر طيب ونتائج حَسَنَة لَا يسع متحدث التحدث عَنْهَا بِقدر مَا تحدثت هِيَ عَن نَفسهَا فِي أَعمال كَافَّة المتخرجين من تِلْكَ الْمعَاهد والكليتين المنتشرين فِي أنحاء المملكة المبرزين فِي أَعْمَالهم وَفِي أَعلَى مناصب فِي كَافَّة الوزارات.
وَلَا يُغالي من يَقُول إِن كل من تخرج أَو يتَخَرَّج فَهُوَ إِمَّا تلميذ لَهُ أَو لتلاميذه فهم بِمَثَابَة أبنائه وأحفاده كفى.

مؤلفاته رَحمَه الله:
لَا شكّ أَن كل مؤلف يَحْكِي شخصية مُؤَلفه فِي علمه وَفِي عقله بل وَفِي اتجاهه كَمَا قَالُوا: من ألف فقد استهدف أَي لِأَنَّهُ يعرض مَا عِنْده على أنظار النَّاس. وللشيخ تآليف عديدة مِنْهَا فِي بِلَاده وَمِنْهَا هُنَا. فَمَا كَانَ فِي بِلَاده هُوَ:
1 - فِي أَنْسَاب الْعَرَب نظما أَلفه قبل الْبلُوغ يَقُول فِي أَوله:
سميته بخالص الجمان ... فِي ذكر أَنْسَاب بني عدنان
وَبعد الْبلُوغ دَفنه قَالَ لِأَنَّهُ كَانَ على نِيَّة التفوق على الأقران وَقد لامه مشايخه على دَفنه وَقَالُوا كَانَ من الْمُمكن تَحْويل النِّيَّة وتحسينها.
2 - رجز فِي فروع مَذْهَب مَالك يخْتَص بِالْعُقُودِ من الْبيُوع والرهون وَهُوَ آلَاف مُتعَدِّدَة قَالَ فِي أَوله:
الْحَمد الله الَّذِي قد ندبا ... لِأَن نميز البيع عَن لبس الرِّبَا
وَمن بالمؤلفين كتبا ... تتْرك أطواد الْجَهَالَة هبا
تكشف عَن عين الْفُؤَاد الحجبا ... إِذا حجاب دون علم ضربا
3 - ألفية فِي الْمنطق - أَولهَا:
حمداً لمن أظهر للعقول ... حقائق الْمَنْقُول والمعقول
وكشف الرين عَن الأذهان ... بواضح الدَّلِيل والبرهان
وَفتح الْأَبْوَاب للألباب ... حَتَّى استبانت مَا وَرَاء الْبَاب

4 - نظم فِي الْفَرَائِض أَولهَا:
تَرِكَة الْمَيِّت بعد الْخَامِس ... من خَمْسَة محصورة عَن سادس
وحصرها فِي الْخَمْسَة استقراء ... وانبذ لحصر الْعقل بالعراء
أَولهَا الْحُقُوق بالأعيان ... تعلّقت كَالرَّهْنِ أَو كالجاني
وكزكاة التَّمْر والحبوب. ... إِن مَاتَ بعد زمن الْوُجُوب
وكل هَذِه المؤلفات مخطوطة.

أما مؤلفاته هُنَا فَهِيَ:
1 - منع جَوَاز الْمجَاز فِي الْمنزل للتعبد والإعجاز. وموضوعها إبِْطَال إِجْرَاء الْمجَاز فِي آيَات الْأَسْمَاء وَالصِّفَات وإيفائها على الْحَقِيقَة. وَقد زَاد هَذَا الْمَعْنى فِيمَا بعد فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة.
2 - دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آي الْكتاب أبان فِيهِ مَوَاضِع مَا يشبه التَّعَارُض فِي الْقُرْآن كُله كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} مَعَ قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وَأَن السُّؤَال متنوع والمواقف مُتعَدِّدَة. وَقد طبع وَمَا قبله ونفدا.
3 - مذكرة الْأُصُول: على رَوْضَة النَّاظر جمع فِي شرحها أصُول الْحَنَابِلَة والمالكية وبالتالي الشَّافِعِيَّة. مقررة على كليتي الشَّرِيعَة والدعوة.
4 - آدَاب الْبَحْث والمناظرة: أوضح فِيهِ آدَاب الْبَحْث من إِيرَاد الْمسَائِل وَبَيَان الدَّلِيل وَنَحْو ذَلِك. وَهُوَ أَيْضا مُقَرر فِي الجامعة وَمن جزأين.
5 - أضواء الْبَيَان: لتفسير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مدرسة كَامِلَة يتحدث عَن نَفسه. طبع مِنْهُ سِتَّة أَجزَاء كبار وَالسَّابِع تَحت الطَّبْع وصل فِيهِ رَحمَه الله إِلَى نِهَايَة قد سمع. وَلَعَلَّ الله ييسر ويوفق من يعْمل على إكماله وَلَو بِقدر المستطاع. وَمن عَجِيب الصدف أَن يكون موقفه رَحمَه الله فِي التَّفْسِير على قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وَهنا العديد من المحاضرات ذَات المواضيع المستقلة طبعت كلهَا ونفذت وَهِي:
1 - آيَات الصِّفَات: أوضح فِيهَا تَحْقِيق إِثْبَات صِفَات الله.
2 - حِكْمَة التشريع: عالج فِيهَا العديد من حِكْمَة التشريع فِي كثير من أَحْكَامه.
3 - الْمثل الْعليا: بَين فِيهَا المثالية فِي العقيدة والتشريع والأخلاق.
4 - الْمصَالح الْمُرْسلَة: بَين فِيهَا ضَابِط اسْتِعْمَالهَا بَين الإفراط والتفريط.
5 - حول شُبْهَة الرَّقِيق: رفع اللّبْس عَن ادِّعَاء استرقاق الْإِسْلَام للأحرار.
6 - على {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} أَلْقَاهَا بِحَضْرَة الْملك مُحَمَّد الْخَامِس عِنْد زيارته للمدينة. وَكلهَا عَامَّة نافعة جَدِيدَة.
وبالتالي فقد كَانَ لمنهجه العلمي فِي أبحاثه وتدريسه وَفِي مؤلفاته. إحْيَاء لعلوم درست وتصحيحاً لمفاهيم اخْتلفت.
فمما أَحْيَا من الْعُلُوم علم الْأُصُول الَّذِي هُوَ أصل الِاسْتِدْلَال والاستنباط وَالِاجْتِهَاد وَالتَّرْجِيح وعمدة الْمُجْتَهد وعماده وبجهله لَا يحِق الِاجْتِهَاد وَيجب التَّقْلِيد الْمَحْض كَمَا يَقُولُونَ جهلة الْأُصُول عوام الْعلمَاء. فَفتح أبوابه وسهّل صعابه وأوضح قَوَاعِده، وَقرب تنَاوله تسهيلاً لأخذ الْأَحْكَام من مصادرها ورد الْفُرُوع إِلَى أُصُولهَا.
كَمَا أَحْيَا آدَاب الْبَحْث والمناظرة فَوضع منهجه وَألف مقرره فَكَانَ خدمَة للعقيدة فِي أسلوب بَيَانهَا وَكَيْفِيَّة إِثْبَاتهَا والدفاع عَنْهَا وطرق الْإِقْنَاع بِمَا فِيهِ الْخلاف.
كَمَا فتّح أبواباً جَدِيدَة وأحدث فنوناً طريفة فِي عُلُوم الْقُرْآن من منع الْمجَاز عَن الْمنزل للتعبد والإعجاز إِثْبَاتًا لمعاني آيَات الصِّفَات على حَقِيقَتهَا وسد بَاب تعطليها عَن دلالتها إِجْرَاء للنَّص على حَقِيقَته وإبقاء عَلَيْهِ فِي دلَالَته.
وَمن دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آي الْكتاب وَبَيَان تَصْدِيق آي الْكتاب بعضه بَعْضًا بِدُونِ تعَارض وَلَا إِشْكَال.

وَمن تسليط أضواء الْبَيَان على تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ رسم فِيهِ الْمنْهَج السَّلِيم لتفسير الْقُرْآن الْكَرِيم. تَفْسِير كَلَام الله بعضه بِبَعْض وَأَبَان أَحْكَامه وَحكمه وَفتح كنوزه وأطلع نفائسه وَنشر درره على طلبة الْعلم.
وكل ذَلِك فتح جَدِيد فِي عُلُوم الْقُرْآن لم تكن مَوْجُودَة على هَذَا النسق من قبل وَلم تكن تدرس بِهَذَا الْمثل.
كَمَا أَنه فِي غضونها صحّح مفاهيم مُخْتَلفَة مِنْهَا أَن الْمنطق لم يكن يُعرف عَنهُ إِلَّا أَنه تَقْدِيم الْعقل على النَّقْل ومصادمة النَّص بِالرَّأْيِ وَكَانَ فعلا وَسِيلَة التشكيك فِي العقيدة باستخدام قضايا عقيمة. فهذب الشَّيْخ رَحمَه الله من أبحاثه وَأحسن باستخدامه فنظم قضاياه المنتجة ورتب أشكاله السليمة واستخدم قِيَاسه فِي الْإِلْزَام. سَوَاء فِي العقيدة أَو أصُول الْأَحْكَام وَبعد أَن كَانَ يستخدم ضدها أصبح يعْمل فِي خدمتها. كَمَا وضح ذَلِك فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة.

وَالْوَاقِع أَن الدُّنْيَا لم تكن تَسَاوِي عِنْده شَيْئا فَلم يكن يهتم لَهَا. ومنذ وجوده فِي المملكة وصلته بالحكومة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا لم يطْلب عَطاء وَلَا مُرَتبا وَلَا ترفيعاً لمرتبه وَلَا حصولاً على مُكَافَأَة أَو علاوة. وَلَكِن مَا جَاءَهُ من غير سُؤال أَخذه وَمَا حصل عَلَيْهِ لم يكن ليستبقيه بل يوزعه فِي حِينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وَكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إِلَى كل من مَكَّة وَالْمَدينَة. وَمَات وَلم يخلف درهما وَلَا دِينَارا وَكَانَ مستغنياً بعفته وقناعته. بل إِن حَقه الْخَاص ليتركه تعففاً عَنهُ كَمَا فعل فِي مؤلفاته وَهِي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بهَا وَتركهَا لطلبة الْعلم.

وسمعته يَقُول: لقد جِئْت معي من الْبِلَاد بكنز عَظِيم يَكْفِينِي مدى الْحَيَاة وأخشى عَلَيْهِ الضّيَاع. فَقلت لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ القناعة. وَكَانَ شعاره فِي ذَلِك قَول الشَّاعِر:
الْجُوع يطرد بالرغيف الْيَابِس ... فعلام تكْثر حسرتي ووساوسي
وَكَانَ اهتمامه بِالْعلمِ وبالعلم وَحده وكل الْعُلُوم عِنْده آلَة ووسيلة وَعلم الْكتاب وَحده غَايَة وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بِأَبْيَات الأديب مُحَمَّد بن حَنْبَل الْحسن الشنقيطي رَحمَه الله فِي قَوْله:
لَا تسوء بِالْعلمِ ظنا يَا فَتى ... إِن سوء الظَّن بِالْعلمِ عطب
لَا يزهدك أحد فِي الْعلم أَن ... غمر الْجُهَّال أَرْبَاب الْأَدَب
إِن تَرَ الْعَالم نضوا مرملا ... صفر كف لم يساعده سَبَب
وَترى الْجَاهِل فد حَاز الْغنى ... مُحرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الْأسد فِي أجامها ... والذئاب الغبش تعتام القتب
جرع النَّفس على تَحْصِيله ... مضض المرين ذل وسغب
لَا يهاب الشوك قطاف الجنى ... وإبار النَّحْل مشتار الضَّرْب
حَقًا إِنَّه لم يسئ بِالْعلمِ ظنا وَلم يهب فِي تَحْصِيله شوك النّخل وَلَا إبار النَّحْل

فنال مِنْهُ مَا أَرَادَ واقتحم الْحمى على عذارى الْمعَانِي وأباح حريمها جبرا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح.
أما مَكَارِم أخلاقه ومراعاة شُعُور جُلَسَائِهِ فَهَذَا فَوق حد الِاسْتِطَاعَة فمذ صحبته لم أسمع مِنْهُ مقَالا لأي إِنْسَان وَلَو مُخطئ عَلَيْهِ يكون فِيهِ جرح لشعوره وَمَا كَانَ يُعَاتب إنْسَانا فِي شَيْء يُمكن تَدَارُكه وَكَانَ كثير التغاضي عَن كثير من الْأُمُور فِي حق نَفسه وحينما كنت أسائله فِي ذَلِك يَقُول:
لَيْسَ الغبي بِسَيِّد فِي قومه ... وَلَكِن سيد الْقَوْم المتغابي
وَلم يكن يغتاب أحدا أَو يسمح بغيبة أحد فِي مَجْلِسه وَكَثِيرًا مَا يَقُول لإخوانه (اتكايسوا) أَي من الكياسة والتحفظ من خطر الْغَيْبَة. وَيَقُول إِذا كَانَ الْإِنْسَان يعلم أَن كل مَا يتَكَلَّم بِهِ يَأْتِي فِي صَحِيفَته فَلَا يَأْتِي فِيهَا إِلَّا الشَّيْء الطّيب.
وَمِمَّا لوحظ عَلَيْهِ فِي سنواته الْأَخِيرَة تباعده عَن الْفتيا وَإِذا اضْطر يَقُول: لَا أتحمل فِي ذِمَّتِي شَيْئا الْعلمَاء يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
وَسَأَلته مرّة عَن ذَلِك: فَقَالَ إِن الْإِنْسَان فِي عَافِيَة مَا لم يُبتلى وَالسُّؤَال ابتلاء لِأَنَّك تَقول عَن الله وَلَا تَدْرِي أتصيب حكم الله أم لَا. فَمَا لم يكن عَلَيْهِ نَص قَاطع من كتاب الله أَو سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب التحفظ فِيهِ.
ويتمثل بقول الشَّاعِر:
إِذا مَا قتلت الشَّيْء علما فَقل بِهِ ... وَلَا تقل الشَّيْء الَّذِي أَنْت جاهله
فَمن كَانَ يهوي أَن يرى متصدراً ... وَيكرهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَت مقاتله

انْتقل إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره صَاحب الْفَضِيلَة وَعلم الْأَعْلَام الشَّيْخ الْجَلِيل وَالْإِمَام الْهمام زكي النَّفس رفيع الْمقَام كريم السجايا ذُو الْخلق الرزين، عف الْمقَال حميد الْخِصَال، التقي الْأمين والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي. توفّي ضحى يَوْم الْخَمِيس 17 - 12 - 1393هـ‍ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المكرمة مرجعه من الْحَج وَدفن بمقبرة المعلاة .

وَفِي لَيْلَة الْأَحَد 20 - 12 أُقِيمَت عَلَيْهِ صَلَاة الْغَائِب بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ  الشريف على ساكنه الصلاة والسلام.

وَفِي الْجُمْلَة فقد كَانَ رَحمَه الله خير قدوة وأحسنها فِي جَمِيع مجالات الْحَيَاة فَكَانَ الْعَالم الْعَامِل وَلَا أزكي على الله أحدا وَقد خلف وَلدين فاضلين أديبين يدرسان بكلية الشَّرِيعَة بالجامعة الإسلامية جَعلهمَا الله خير خلف لخير سلف وَالله أسأَل أَن يسكنهُ فسيح جنته ويوسع لَهُ فِي رضوَان رَحمته وَأَن يعلي مَنْزِلَته وَيرْفَع دَرَجَته مَعَ الْعلمَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
ونفعنا الله بِعِلْمِهِ وسلك بِنَا طَريقَة عمله بِمَا يرضيه تبَارك وَتَعَالَى عَنَّا وَصلى الله وَسلم وَبَارك على عَبده وَرَسُوله مُحَمَّد صلى الله عَليّ وَسلم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته…

الكتاب: مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله. بتصرف.

 

 

(1325 - 1393 هـ = 1907 - 1973 م) محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي: مفسر مدرّس من علماء شنقيط (موريتانيا) . ولد وتعلم بها. وحج (1367) واستقر مدرسا في المدينة المنورة ثم الرياض (71) وأخيرا في الجامعة الإسلامية بالمدينة (1381) وتوفي بمكة.
له كتب، منها (أضواء البيان في تفسير القرآن - ط) ستة أجزاء منه، والسابع يطبع، و (منع جواز المجاز - ط) و (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - ط) صغير و (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب - ط) و (آداب البحث والمناظرة - ط) جزان و (ألفية في المنطق - خ) و (رحلة خروجه من بلاده الى المدينة - خ) .

-الاعلام للزركلي-