أَدِيب إِسْحَاق الدمشقيّ:
أديب، حسن الإنشاء، له نظم. من مسيحي دمشق. ولد فيها وتعلم في إحدى مدارسها، وانتقل إلى بيروت كاتبا في ديوان المكس (الجمرك) ثم اعتزل العمل، وتولى الإنشاء في جريدة (ثمرات الفنون) فجريدة (التقدم) البيروتيتين. وسافر إلى الإسكندرية فساعد سليما النقاش في تمثيل بعض الروايات العربية، وانتقل إلى القاهرة فأصدر جريدة أسبوعية سماها (مصر) سنة 1877 م، وعاد إلى الإسكندرية فأصدر مشتركا مع سليم النقاش جريدة يومية سمياها (التجارة) وأقفلت الجريدتان، فرحل إلى باريس سنة 1880 م فأصدر فيها جريدة عربية سماها (مصر القاهرة) وأصيب بعلة الصدر فعاد إلى بيروت فمصر، وجعل ناظرا لديوان (الترجمة والإنشاء) بديوان المعارف في القاهرة، ثم كاتبا ثانياُ لمجلس النواب. ولم يلبث أن قفل راجعا إلى بيروت بعد نشوب الثورة العرابية، فتوفي في قرية الحدث " بلبنان) . من آثاره (نزهة الأحداق في مصارع العشاق - ط) رسالة، و (تراجم مصر في هذا العصر) وروايات ترجمها عن الفرنسية، منها (رواية اندروماك) و (رواية شارلمان) و (الباريسية الحسناء) . وجمعت مقالاته ومنظوماته في كتاب سمي (الدرر - ط) .
-الاعلام للزركلي-
أديب إسحاق
ترجمته
ولد في دمشق في 21 يناير سنة 1856م، وتلقى مبادئ العلم في مدرسة الآباء العازريين، فتناول شيئا من العربية والإفرنسية، وكان على حداثته ظاهر النباهة ممتازا على أقرانه، وكان أستاذه في العربية يقول لأبيه: «إن ابنك سيكون قوًالا»؛ أي شاعرا، ونظم الشعر قبل أن يتجاوز العاشرة، وهو لم يتعلم العروض، واتفق أن أسرته أصيبت بنكبة اضطر هو معها إلى إعالتها، فزايل المدرسة في الحادية عشرة، وتولى الكتابة في الكمرك بمائتي قرش في الشهر، ودرس في أثناء ذلك مبادئ التركية فحصل على الكفاية منها في بضعة أشهر، وأصبح قادرا على التعبير بها عما يجول بخاطره تكلما وكتابة، ثم تمكن منها حتى ترجم قصيدة كمال باشا في مقتل السلطان عبد العزيز، ملتزما فيها الروي والقافية والبحر واللفظ التركي بعينه، وهاك مثالا من الأصل التركي:
دين ودولت خائني برقاج ملاعين يزيد إيلمشر حضرة عبد العزيز خاني شهيد
وتعريبه:
خيانة للدين وللدولة من قوم يزيد قتلوا عبد العزيز المرتضى فهو شهيد
ودعت نجابته في التركية ومهارته في الكتابة إلى سرعة ترقيه، ولم يكن ذلك ليشغله عن الأدب والشعر، فكان يغتنم ساعات الفراغ فينظم القصائد والموشحات، ويطالع كتب الإنشاء في العربية والفرنساوية والتركية، ويراسل المجلات الأدبية، وله في السنين الأولى من الجنان عدة مقالات وألغاز، ولم يتم الثانية عشرة من عمره حتى اجتمع من نظمه نحو ألف بيت؛ أكثرها في الغزل والنسيب، وبعضها في المدح والعتاب والرثاء وغيره، وقد تشتت معظمها.
أديب إسحاق 1856م - 1885م.
وفي الخامسة عشرة من عمره استقدمه والده إلى بيروت ليعينه في خدمة البريد، فقدم إليها وعرف فيها جماعة من الأدباء والشعراء من شبان تلك المدينة الزاهرة، وله معهم مطارحات ومراسلات في الأدب والشعر تدل على توقد ذهنه وبديهته الشعرية وكان من فطرته ميالا إلى التكلم باللغة الفصحى.
واضطر بعد برهة أن يعود إلى مهنة الكتابة في كمرك بيروت، وما لبث أن زايلها إلى ما تعلو به الهمم، وقد نَزعت به نازعةُ العلى إلى الاشتغال بفن الكتابة، فتولى تحرير جريدة التقدم بعيد نشأتها الأولى، ولم يمض عليه زمن وهو يكتب المقالات الرنانة حتى تحدث الناس بطلاوة عبارته ورشاقتها وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، وترجم في أثناء ذلك قسما من كتاب المعاصرين الفرنساوي لم يطبع، وألَّف كتابًا سماه نزهة الأحداق، طبعه وقدمه إلى أحد وجهاء الثغر، وترجم لصاحب التقدم أيضا كتابًا في الأخلاق والعادات، وكتابًا صحيا، طبعا - يومئذ - وليس عليهما اسمه.
ثم دخل جمعية زهرة الآداب، وقام فيها عضوا مهما، ثم تولى رئاستها، وكان يُلقي فيها الخطب البليغة والمباحثات وينظم القصائد.
وفي سنة 1875م انتدبه سليم أفندي شحادة لمشاركته مع المرحوم سليم الخوري في إنشاء آثار الأدهار، فاشتغل بذلك عاما وبعض العام، وعَّرب في خلال ذلك رواية أندروماك، عن راسني الشاعر الفرنساوي؛ إجابة لطلب قنصل فرنسا يومئذ، فترجمها ونظم أشعارها ورتب ألحانها وعلم أدوارها في مدى ثلاثين ليلة، فمثلها البنات اليتامى فجمعوا من ريعها 35000 قرش.
ثم شاركه صديقه المرحوم سليم نقاش في تأليف بعض الروايات وتعريب البعض الآخر، ولم يلبث أن شخص بإشارته إلى الإسكندرية، وهناك نقح رواية أندروماك، وعرب رواية شارلمان، وألف رواية ثالثة سماها غرائب الاتفاق، سرقت في جملة ما سرق من آثاره من بيته في الحدث، وقد مثلت هذه الروايات في الإسكندرية مرارا، وكان لها وقع عظيم، فنزعت به نفسه إلى ما هو أسمى من ذلك، وهو ما أعدته له يد الأقدار، فجاء القاهرة وفيها - يومئذ - المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، فلزم حلقته وأخذ عنه دروسا في الفلسفة الأدبية والعقلية والمنطق، فتاقت نفسه إلى إنشاء جريدة عربية، فأنشأها في مصر وسماها مصر وأصدرها حالا ولم يكن عنده من معداتها إلا عشرون فرنكا، ولكنها لم تكد تظهر حتى أعجب الناس بها، وتسابقوا إلى اقتنائها وكلهم معجبون بطلاوة إنشائها وبلاغتها، فنقلها إلى الإسكندرية، واشترك في تحريرها مع المرحوم سليم نقاش، فلقيت نجاحا عظيما، وطارت شهرتها في الآفاق، وكثر مريدوها، وأصبح الناس يتحدثون بعبارة أديب ومزاياها، ويحفظون أقواله كما يحفظون الحكم والأمثال؛ لما حوتْه من بلاغة التركيب والتطبيق بين الأسلوب الإفرنجي والعربي، فتنشطا وأنشآ جريدة أُخرى يومية سمياها التجارة وظلت مصر أسبوعية، وكانتا من أعظم أركان النهضة الإنشائية في الجرائد، وتحداهما الكتاب ونسجوا على منوالهما من أساليب التحرير البسيط الخالي من التعقيد أو التقييد، فأحدث ذلك حركة في الأفكار وحرية في الأقوال لم تكن معروفة من قبل، فأصدرت الحكومة أمرها بإلغائهما جميعا.
فغادر صاحب الترجمة الإسكندرية إلى باريس، وأعاد فيها جريدة مصر، لا يبالي بما يتهدد في سبيل ذلك من الخطر على حياته، وسماها القاهرة، وكتب فيها فصولا متناهية في البلاغة، وألف هناك أيضا كتابا في تراجم رجال مصر في هذا العصر، سرق أيضا في جملة ما سرق، وعرف في باريس عدة من رجال الأقلام من الفرنساويين والأتراك، ولقي جماعة من رجال السياسة، وحضر في مجلس النواب جلسات كثيرة، فزادته خطب البلغاء إقداما على الخطابة، وطالع كثيرا من المخطوطات العربية في مكتبة باريس، وكانت صحته قد تعرضت للمؤثرات؛ لنحافة بدنه بالنظر إلى سرعة نمائه بدنا وعقلا مع إجهاد عقله فيما تتطلبه نفسه من المطالب العالية رغم ما كان في سبيله من العقبات، فلما نزل باريس كان بردها قارسا جدا في ذلك العام، ولم يكن مهتما بصحته فأصيب هناك بعلة الصدر، وتألم منها مدة الشتاء، وعاد إلى بيروت مصدورا، فعهد إليه صاحب التقدم بتحرير جريدته، فتولى تحريرها للمرة الثانية، وأقام على ذلك نحو سنة.
فلما انقلبت الوزارة المصرية أواخر عام 1881م عاد إلى مصر، فودعه أصدقاؤه آسفين على فراقه، ثم جاء القاهرة فعين ناظرا لقلم الإنشاء والترجمة بنظارة المعارف، وأذنت له الحكومة في إصدار جريدة مصر، فأصدرها في شكل كراس، ثم أعادها إلى مظهرها الأول، وعين - في الوقت نفسه - سكرتيرا لمجلس النواب، ونال في خلال ذلك الرتبة الثالثة، ثم أحال امتياز الجريدة إلى شقيقه ليتفرغ لمهام منصبه، وظل مع ذلك يحرر القسم الأكبر منها.
ولما طرأت الحوادث العسكرية بمصر عاد أديب إلى بيروت فيمن هاجر إلى القطر السوري، وبعد احتلال الإنكليز إسكندرية عاد إليها مرة أخرى في التماس شأنه الأول، فلم يحصل عليه، وأبعد إلى بيروت بعد أن أوقف في السجن بضع ساعات، نظم في خلالها أبياتا ذيل بها قصيدة في مدح سلطان باشا.
وتولى في بيروت تحرير التقدم للمرة الثالثة، وطبع في خلال ذلك رواية الباريسية الحسناء، وكان قد عربها في أيام الصبا، وهي مشهورة، ثم اشتدت عليه علة الصدر فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مصر للاستشفاء بهوائها، فاستأذن من المغفور له الخديوي السابق فأذن له، فأتاها وأقام فيها أياما، ثم عاد إلى الإسكندرية، قضى بضعة أيام في الرمل، فلم ير فائدة فعاد إلى بيروت وانصرف توًّا إلى مصيفه في الحدث بلبنان، ولم تمض على عودته ثلاثين يوما حتى توفاه الله سنة 1885م وله من العمر تسعة وعشرون عاما.
صفاته وأعماله.
كان (رحمه الله) طويل القامة والعنق، مع انحناء قليل، أبيض اللون براق العينين، عريض الجبهة بارزها، جهوري الصوت طلق اللسان، ثبت الجنان لطيف الحديث، ذكيا نبيها جريئا مقداما، حاد الذهن، أبيَّ النفس، سليم القلب، وقد أبَّنه الخطباء فعددوا مناقبه ووصفوا قلمه، ورثاه الشعراء والكتاب، وقد جمعت أقوالهم في مقدمة كتاب الدرر الذي جمعوا فيه منتخبات أقواله
واشتهر (رحمه الله) خصوصا في الخطابة والإنشاء، فإذا خطب تدفق السيل يهتز له المنبر، وتنقاد إليه الكلمات آخذة بعضها برقاب بعض، وإذا كتب سحر الألباب بحسن البيان مع السلامة والبلاغة، وكان قدوة المنشئين وعمدة الكتَّاب، ولو أمد الله بعمره لخدم الأوطان خدمات قل أن يستطيع الناس مثلها.
وكان مع ذلك شاعرا بليغا، نظم القصائد الرنانة، في جملتها قصيدة طويلة نظمها بعد حوادث مصر سنة 1882م، وصف فيها تلك الحوادث أحسن وصف، وهي طويلة؛ إليك مقتطفات منها:
عج بي على تلك الطلول ونِاد أنى تحمل أهل هذا النادي
يا وارد الإسكندرية طامعا بمنافع الإصدار والإيراد
أقصورها خفيت عن الأنظار أم آثار لقصر في القفار بواد
أم تدمر قد دمرت وعمورة ما عمرت أم دار ذي الأوتاد
فأبادها جهل خفي ما بدا مثل له من حاضر أو باد
جهل الذي رام الأماني وهي في قمم الجبال وكان دون الوادي
شقيت بزلته الجموع وطالما أشقت جموعا زلة الأفراد
وتلاه في سبل الغواية معشر زلوا وضلوا حيث ضل الهادي
فأتاهم رعد المدافع مبرقا فنبوا عن الإبراق والإرعاد
ياهولها من ساعة مرت بما زهقت به الأرواح في الأجساد
كم حامل خرجت به محمولة فوق الكواهل أو على الأعواد
ومصونة نفسا تقول لصحبها يا ليتني قدمت قبل ولادي
ومبأبأ يدميه لمس حريره طفل قريب العهد بالميلاد
ومعمر لم يبق في الدنيا له غير السكينة من منى ومراد
والنار موقدة سرت من خلفهم فكأنه حيات بطن الوادي
والجند شردهم فنال عدوهم فرقا فلم يتجلدوا لجلاد
ونضوا على أهل السبيل بواترا في الحرب ما نضيت من الأغماد
وبلادهم قد نالها من عارهم ما لم يحق في عهدنا ببلاد
ومنها في التخلص:
عيبت فلولا السابقون ومجدهم وبقاء من ولدوا من الأمجاد
ومؤيد ملك أمير عادل أربى بمفرده على الأعداد
وعصابة كانت قلائد فصلهم أبهى من الأطواق في الأجياد
لم تلق في مصر ومصر عزيزة من قائل هذه البلاد بلادي
وله رسائل كثيرة تدل على حسن بيانه في مخاطبة الأصدقاء، قد نشر بعضها في جملة منتخباته في الدرر، وبلغنا أن شقيقه عوني بك إسحاق سيطبع الدرر ثانية ويضيف إليها كثيرا مما فاتهم في الطبعة الأولى، جزاه الله خيرا
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، تأليف جُرجي زيدان، ج/2 – ص: 89 – 94.