محمد الغزالي الطوسي حجة الإسلام
أبي حامد الغزالي
تاريخ الولادة | 450 هـ |
تاريخ الوفاة | 505 هـ |
العمر | 55 سنة |
مكان الولادة | طوس-خراسان - إيران |
مكان الوفاة | بغداد - العراق |
أماكن الإقامة |
|
- عبد الرحمن بن أبي رجاء البلوي "أبي القاسم اللبلي"
- محمد بن عبد الله ابن تومرت "ابن تومرت"
- محمد بن عبد الله بن محمد المعافري أبي بكر "القاضي أبي بكر بن العربي"
- عامر بن دعش بن حصن بن دعش أبي محمد الأنصاري
- علي ابن المطهر بن مكي بن مقلاص أبي الحسن الدينوري
- محمد بن يحيى بن منصور الجنزي النيسابوري أبي سعيد محيي الدين
- محمد بن الفضل بن علي المارشكي أبي الفتح
- أحمد بن علي بن محمد بن برهان الأصولي "أبي الفتح"
- نصر الله بن منصور بن سهل الجنزي أبي الفتح الدويني "الكمال"
- عبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن علي الميانجي "أبي المعالي عين القضاة"
- محمد بن عبد الملك بن محمد الجوسقاني أبي حامد الإسفرايني
- عبد الكريم بن علي بن أبي طالب أبي طالب الرازي
- عبد الواحد بن الحسن بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الباقرحي "أبي الفتح"
- أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن البهوني الخمقري أبي نصر
- علي بن محمد بن حمويه بن محمد بن حمويه الصوفي "أبي الحسن"
- محمد بن أسعد بن محمد بن الحسين العطاري الطوسي أبي منصور "حفدة"
- علي بن أحمد بن حنين الكناني القرطبي
- محمد بن علي بن عبد الله العراقي
- أحمد بن علي بن محمد الوكيل أبي الفتح "ابن برهان أحمد"
- أحمد بن علي بن برهان بن الحمامي
- أبي عبد الله الحسين بن نصر بن محمد بن الحسين "ابن خميس الكعبي الموصلي"
- عمر بن محمد بن عكرمة الجزري "زين الدين جمال الإسلام"
- سعيد بن محمد بن عمر بن منصور أبي منصور ابن الرزاز
- شافع بن عبد الرشيد بن القاسم أبي عبد الله الجيلي
- محمد بن أسعد بن محمد النوقاني "أبي سعد"
نبذة
الترجمة
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسى ولد بطوس سنة 450 وبرع في العلوم وولى تدريس نظامية بغداد ثم تركها وحج ورجع إلى دمشق وأقام بها عشر سنين وسافر إلى القدس والإسكندرية إلى وطنه وأقبل على التصنيف والعبادة وتوفي في جمادى الآخرة سنة 505 ومن تصانيفه البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة وإحياء العلوم وبداية الهداية في التصوف والمنخول والمستصفى وتهافت الفلاسفة وجواهر القرآن وغيرها كذا في طبقات ابن شهبة وقد طالعت من تصانيفه الأحياء وكيمياء السعادة وبداية الهداية ومنهاج العابدين والمنقذ من الضلال والقسطاس المستقيم وجواهر القرآن وغير ذلك وكلها نافعة جداً وهي التى انشرح بمطالعتها صدرى واستقام على طريق الباطن قلبى وله ترجمة طويلة في تاريخ ابن خلكان ومرآة الجنان وغيرها.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية - أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي
دانشمند الأصغر وهو أبو حامد محمد الغزالي الطوسي ومعنى دانشمند بلغة الفرس عالم العلماء، وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله الصغير يحكي لنا عن شيخه أبي محمد عبد الله العبدوسي أنه بلغه أن الفرس يفخمون ميم دانشمند. قال ابن العربي في قانون التأويل وورد علينا دانشمند يعني الغزالي فنزل برباط أبي سعيد بإزاء المدرسة النظامية معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي ننشد وإمامنا
الذي به نسترشد فلقينا لقاء المعرفة وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس لما قال:
إذا ما مدحتَ امرءاً غائباً ... فلا تغل في مدحه واقصد
فإنك إن تغل تغل الظنون ... فيه إلى الأمد الأبعد
فيصغر من حيث عظمته ... بفضل المغيب على المشهد
انتهى. وكذا في أزهار الرياض وهذا الكلام من الإِمام أبي بكر بن العربي كاف في جلالة أبي حامد الغزالي رضي الله عنه وحده فكيف مع ثناء من لا يحصى كثرة من المعاصرين والتالين حسبما في غير كتاب من الدواوين. فلا يغتر بما قاله فيه معاصره الأستاذ أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي مما كتب به إلى أبي عبد الله بن مظفر حسبما في نوازل الجامع من المعيار وإن كان مؤلفه لم يتعقبه لكن في كلامه قبله متصلاً به ما يدل على أنه غير مرتضى عنده فإنه قال ما نصه وقيل لأبي علي الصيرفي لمَ حدثت عن سوى أبي حامد الغزالي وأنت رأيته فقال: لكثرة الازدحام عليه وترادف الناس لديه لقد رأيته يوماً وبنحوه نحو خمسمائة رجل معتمين يمشون خلفه حفاة من المدرسة إلى منزله إكراماً له اهـ ومما أنكر على الغزالي رحمه الله ونفعنا به وأفاض علينا من بركته قوله في الإحياء ما في الإمكان أبدع مما كان قيل يعني أن خلق هذا العالم لا يمكن أن يكون أحسن من هذه الصفة التي هو مخلوق عليها وسبقه إلى ذلك عبد العزيز في الحيرة وألزمه الناس الكفر على هذا وأنكره ابن العربي في سراج المريدين غاية الإنكار وغلطه في ذلك وأنكره عليه أهل الأندلس وكفروه قال ابن القطان: لما وصل إحياء علوم الدين إلى قرطبة تكلموا فيه بالسوء وأنكروا عليه أشياء لا سيما قاضيهم ابن حمديس في ذلك حتى كفر مؤلفه وأغرى السلطان به واستشهد فقهاءه فأجمع هو وهم على حرقه فأمر علي بن يوسف بذلك لفتياهم فأحرق بباب قرطبة على الباب الغربي في رحبة المسجد بجلوده بعد إشباكه زيتاً بمحضر جماعة من أعيان الناس ووجه إلى جميع بلاده يأمر بإحراقه وتوالي الإحراق على ما اشتهر منه ببلاد المغرب في ذلك الوقت فكان إحراقه سبباً لزوال ملكهم وانتثار سلكهم وتوالي الهزائم عليهم. وكان المهدي ببلاد المشرق إذ ذاك فذكر ابن القطان في كتابه المسمى بنظم الجمان فيما سلف من أخبار الزمان أن المهدي رحل من باب المغرب الأقصى إلى الأندلس سنة خمسمائة وفي المرية دخل في مركب إلى المشرق فغاب فيه اثني عشر عاماً وذكر أيضاً عن عبد الله بن عبد الرحمن العراقي شيخ مسن من سكان فاس قال: كنت ببغداد بمدرسة أبي حامد فجاء رجل كثيف اللحية على رأسه كرزي صوف فدخل المدرسة وحياها بركعتين ثم أقبل إلى الشيخ أبي حامد فسلّم عليه فقال: مَن الرجل؟ قال: من أهل المغرب الأقصى، قال: دخلت قرطبة؟ قال: نعم، قال: ما فعل فقهاؤها؟ قال: الخير، قال: هل بلغهم الإحياء؟ قال: نعم، قال: فماذا قالوا فيه؟ فلزم الرجل الصمت حياء منه فعزم عليه ليقولن ما طرأ. فأخبره بإحراقه وبالقصة كما جرت قال: فتغير وجه أبي حامد ومد يديه إلى الدعاء والطلبة يؤمنون فقال: اللهم مزق ملكهم كما مزقوه وأذهب دولتهم كما حرقوه فقام محمد بن تومرت السوسي الملقب بعد بالمهدي عند قيامه على المرابطين فقال: أيها الإِمام ادع الله أن يجعل ذلك على يدي فتغافل عنه أبو حامد فلما كان بعد جمعة إذا بشيخ آخر على مثل شكل الأول فسأله أبو حامد فأخبره بمثل الخبر المتقدم فتغير وجهه ودعا بمثل دعائه الأول فقال له المهدي: على يدي فقال له: اخرج يا شيطان سيجعل الله ذلك على يدك فقبل الله دعاءه وخرج محمد بن تومرت من هناك إلى المغرب برسم تحريك الفتن وقد علم أن دعوة ذلك الشيخ لا ترد فكان من أمره ما كان وكان تاريخ هذا الإحراق سنة سبع وخمسمائة اهـ قلت وابن الغربي وإن اعترض عليه تلك المقالة لم يزل معترفاً له بالفضل والمنزلة العالية لقوله أثناء الرد عليه ما نصه ونحن وإن كنا قطرة في بحره فلا نرد عليه إلا بقوله فسبحان من أكمل شيخنا هذا فواضل الخلائق ثم صرف به عن هذه الواضحة في الطرائق اهـ وقد أشبع الكلام في المسألة شيخ شيوخنا العلامة أبو العباس بن مبارك في أواخر الباب السابع من كتاب الإبريز ومحصل ما فيه الناس في ذلك على ثلاث طوائف فطائفة وهم المحققون من أهل عصره فمن بعدهم إلى هلم جراً ردوا ذلك منهم زين الدين بن المنير المالكي وألّف في ذلك رسالة سماها الضياء المتلألىء في تعقب الأحياء للغزالي وطائفة انتصروا له وتأولوا كلامه على وجه صحيح في ظنهم منهم الشريف الأشهر والمحدث الأكبر السيد السمهودي وألّف في ذلك رسالة اعتنى فيها برد ما لابن المنير ونقضه وقد أجاب الشيخ ابن المبارك عن تلك الأجوبة وردها قائلاً ما نصه وقد تصفحت رسالة السيد السمهودي غاية وأعطيتها ما تستحقه من الإنصاف والتأمل والتمهل فوجدتها دائرة على ثلاثة أمور قد ذكرها وقال بعدها ما نصه: غالب ما ذكره ابن المنير صحيح حق لا شك فيه وردوداته على عبارة الأحياء مستقيمة لا اعوجاج فيها وأجوبة السيد السمهودي عنها غير تامة إلا حرفاً واحداً فإنني أخالف فيه ابن المنير وهو تنقصه من مقام أبي حامد وغضه عن رتبته فإنني لا أوافق على ذلك فإن أبا حامد إمام الدين وعالم الإِسلام والمسلمين وطائفة ذهبوا إلى أن تلك المقالة مدسوسة عليه في الإحياء وأكذوبة عليه ومستندهم في ذلك أنهم وجدوها مخالفة لكلامه ومناقضة لما قاله في كتبه والعاقل لا يعتقد النقيض فضلاً عن أبي حامد وهذا مختار الشيخ ابن مبارك قائلاً ما نصه فإن قلت كيف تكون المسألة مكذوبة عليه وقد وقعت في عدة من كتبه ولا سيما في الأجوبة المتقدمة فإن ذلك يقضي أنه وقف رضي الله عنه على أشكالها واشتغل بالجواب عنها ولو كانت مكذوبة عليه لبادر إلى إنكارها وتبرأ من قبحها وعوارها قلت: لا مانع من أن يقع الكذب عليه مرة في نسبة المسألة إليه ومرة في نسبة جوابه عنها اهـ رهوني. قلت قوله وكان الإحراق سنة 507 هـ سياق الحكاية يقتضي أن الإحراق كان في حياة مؤلفه وهو مباين لما قاله ابن خلكان وغيره من أنه توفي سنة 505 هـ وعليه فإن كانت بعد سنة 507 هـ فسياق الحكاية في محله وإلا فلا وذكر القادري في حواشيه على شرح ابن كيران لتوحيد المرشد المعين أن الغزالي قبل وفاته تمذهب بمذهب مالك.
شجرة النور الزكية في طبقات المالكية _ لمحمد مخلوف
مُحَمَّد بن مُحَمَّد [450 - 505] )
ابْن مُحَمَّد بن أَحْمد الْغَزالِيّ الطوسي، أَبُو حَامِد.
الإِمَام، الْفَقِيه، الْمُتَكَلّم، النظار، المُصَنّف، الصُّوفِي.
وَمن تفرداته فِي الْفِقْه أَنه ذكر فِي " بداية الْهِدَايَة " فِي سنة الْجُمُعَة بعْدهَا
أَن لَهُ أَن يُصليهَا رَكْعَتَيْنِ وأربعا وستا، فأبعد فِي السِّت وشذ
قَالَ يحيى: قد جَاءَت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي " صَحِيح " مُسلم، وَغَيره بِأَن سنة الْجُمُعَة بعْدهَا أَربع، وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب: " اخْتِلَاف عَليّ وَابْن مَسْعُود " رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقَالَهُ ابْن الْقَاص فِي " الْمِفْتَاح "، وَآخَرُونَ.
وروى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ فِي كتاب " اخْتِلَاف عَليّ وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا " عَن عَليّ أَنه قَالَ: من كَانَ مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل بعْدهَا سِتّ رَكْعَات، وَالله أعلم /.
وَمن غَرَائِبه مَا ذكره أَخُوهُ أَحْمد الْغَزالِيّ - رحمهمَا الله - على رَأس منبره: سَمِعت أخي حجَّة الْإِسْلَام قدس الله روحه يَقُول: إِن الْمَيِّت من حِين يحمل على النعش يُوقف فِي أَرْبَعِينَ موقفا يسْأَله ربه عز وَجل.
وَقَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد الخزيمي على منبره بِبَغْدَاد: سَمِعت من حضر موت حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ، وَسَأَلَهُ بعض أَصْحَابه: أوصني، فَقَالَ: عَلَيْك بالإخلاص، وَجعل يكرره حَتَّى زهقت روحه.
(فصل لبَيَان أَشْيَاء مهمة أنْكرت على الإِمَام الْغَزالِيّ فِي مصنفاته وَلم يرتضها أهل مذْهبه وَغَيرهم من الشذوذات فِي متصرفاته)
مِنْهَا: قَوْله فِي مُقَدّمَة الْمنطق فِي أول " الْمُسْتَصْفى ": هَذِه مُقَدّمَة الْعُلُوم كلهَا، وَمن لَا يُحِيط بهَا فَلَا ثِقَة لَهُ بِعُلُومِهِ أصلا.
قَالَ الشَّيْخ: سَمِعت الشَّيْخ عماد الدّين ابْن يُونُس يَحْكِي عَن يُوسُف الدِّمَشْقِي مدرس نظامية بَغْدَاد - وَكَانَ من النظار المعروفين - أَنه كَانَ يُنكر هَذَا الْكَلَام وَيَقُول: فَأَبُو بكر وَعمر وَفُلَان وَفُلَان - يَعْنِي أَن أُولَئِكَ السَّادة - عظمت حظوظهم من البلج وَالْيَقِين، وَلم يحيطوا بِهَذِهِ الْمُقدمَة وأشباهها.
قَالَ الشَّيْخ: تذكرت بِهَذَا مَا حكى صَاحب كتاب " الإمتاع والمؤانسة " أَن الْوَزير ابْن الْفُرَات احتفل مَجْلِسه بِبَغْدَاد بأصناف من الْفُضَلَاء من الْمُتَكَلِّمين وَغَيرهم، وَفِيهِمْ الْأَشْعَرِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ، وَفِي
الْمجْلس مَتى الفيلسوف النَّصْرَانِي، فَقَالَ الْوَزير: أُرِيد أَن ينتدب مِنْكُم إِنْسَان لمناظرة مَتى فِي قَوْله: إِنَّه لَا سَبِيل إِلَى معرفَة الْحق من الْبَاطِل، وَالْحجّة من الشُّبْهَة، وَالشَّكّ من الْيَقِين؛ إِلَّا بِمَا حويناه من الْمنطق، واستفدناه من وَاضعه على مراتبه، فَانْتدبَ لَهُ أَبُو سعيد السيرافي وَكَانَ فَاضلا فِي عُلُوم غير النَّحْو، فَكَلمهُ فِي ذَلِك حَتَّى أَفْحَمَهُ وفضحه، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع التَّطْوِيل بِذكرِهِ، وَغير خَافَ اسْتغْنَاء الْعلمَاء والعقلاء - قبل وَاضع الْمنطق أرسطاطاليس وَبعده - ومعارفهم الجمة عَن تعلم الْمنطق، وَإِنَّمَا الْمنطق عِنْدهم - بزعمهم - آلَة صناعية تعصم الذِّهْن من الْخَطَأ، وكل ذِي ذهن صَحِيح منطقي بالطبع، فَكيف غفل الْغَزالِيّ عَن حَال شَيْخه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَمن قبله من كل إِمَام هُوَ لَهُ مقدم، ولمحله فِي تَحْقِيق الْحَقَائِق رَافع لَهُ ومعظم، ثمَّ لم يرفع أحد مِنْهُم بالْمَنْطق رَأْسا، وَلَا بنى عَلَيْهِ فِي شَيْء من تَصَرُّفَاته أسا، وَلَقَد أَتَى بخلطه الْمنطق بأصول الْفِقْه بِدعَة عظم شؤمها على المتفقهة حَتَّى كثر - بعد ذَلِك - فيهم المتفلسفة، وَالله الْمُسْتَعَان.
وَلأبي عبد الله الْمَازرِيّ الْفَقِيه الْمُتَكَلّم الأصولي - وَكَانَ إِمَامًا محققا بارعا فِي مذهبي مَالك والأشعري، وَله تصانيف فِي فنون؛ مِنْهَا: فِي شرح " الْإِرْشَاد " و " الْبُرْهَان " لإِمَام الْحَرَمَيْنِ - رِسَالَة يذكر فِيهَا حَال الْغَزالِيّ وَحَال كِتَابه " الْإِحْيَاء "، أصدرها فِي حَيَاة الْغَزالِيّ جَوَابا لما كُوتِبَ بِهِ من الْمغرب والمشرق فِي سُؤَاله عَن ذَلِك عِنْد اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك، فَذكر فِيهَا مَا اختصاره؛ أَن الْغَزالِيّ كَانَ قد خَاضَ فِي عُلُوم وصنف فِيهَا، واشتهر بِالْإِمَامَةِ فِي إقليمه، وبرع حَتَّى تضاءل لَهُ المنازعون، استبحر فِي الْفِقْه، وَفِي أصُول الْفِقْه، وَهُوَ بالفقه أعرف، وَأما أصُول الدّين فَلَيْسَ بالمستبحر فِيهَا، شغله عَن ذَلِك قِرَاءَته عُلُوم الفلسفة، وكسبته قِرَاءَة الفلسفة جرْأَة على الْمعَانِي،وتسهيلا للهجوم على الْحَقَائِق، لِأَن الفلاسفة تمر مَعَ خواطرها، وَلَيْسَ لَهَا شرع يردعها، وَلَا تخَاف من مُخَالفَة أَئِمَّة تتبعها، فَلذَلِك خامره ضرب من الإدلال على الْمعَانِي، فاسترسل فِيهَا استرسال من لَا يُبَالِي بِغَيْرِهِ.
وَقَالَ: وَقد عرفني بعض أَصْحَابه أَنه كَانَ لَهُ عكوف على قِرَاءَة " رسائل إخْوَان الصَّفَا "، وَهَذِه الرسائل هِيَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ رِسَالَة، كل رِسَالَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا، وَقد ظن فِي مؤلفها ظنون، وَفِي الْجُمْلَة هُوَ رجل فيلسوف قد خَاضَ فِي عُلُوم الشَّرْع، فمزج مَا بَين العلمين، وَحسن الفلسفة فِي قُلُوب أهل الشَّرْع بآيَات وَأَحَادِيث يذكرهَا عِنْدهَا، ثمَّ إِنَّه كَانَ فِي هَذَا الزَّمَان الْمُتَأَخر فيلسوف يعرف ب: ابْن سينا، مَلأ الدُّنْيَا تواليف فِي عُلُوم الفلسفة، وَكَانَ
ينتمي إِلَى الشَّرْع، ويتحلى بحلية الْمُسلمين، وَأَدَّاهُ قوته فِي علم الفلسفة إِلَى أَن تلطف جهده فِي رد أصُول العقائد إِلَى علم الفلاسفة، وَتمّ لَهُ من ذَلِك مَا لم يتم لغيره من الفلاسفة، وَوجدت هَذَا الْغَزالِيّ يعول عَلَيْهِ فِي أَكثر مَا يُشِير إِلَيْهِ فِي عُلُوم الفلسفة، حَتَّى إِنَّه فِي بعض الْأَحَايِين ينْقل نَص كَلَامه من غير تَغْيِير، وَأَحْيَانا يُغَيِّرهُ بنقله إِلَى الشرعيات أَكثر من نقل ابْن سينا، لكَونه أعلم بأسرار الشَّرْع مِنْهُ، فعلى ابْن سينا ومؤلف " رسائل إخْوَان الصَّفَا " عول الْغَزالِيّ فِي علم الفلسفة.
قَالَ: وَأما مَذَاهِب المتصوفة فلست أَدْرِي على من عول عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا إِلَى من ينْسب إِلَيْهِ فِي علمهَا.
قَالَ: وَعِنْدِي أَنه على أبي حَيَّان التوحيدي الصُّوفِي عول فِي مَذَاهِب الصُّوفِيَّة، وَقد أعلمت أَن أَبَا حَيَّان هَذَا ألف ديوانا عَظِيما فِي هَذَا الْفَنّ، وَلم يصل إِلَيْنَا شَيْء مِنْهُ.
ثمَّ ذكر أَن فِي " الْإِحْيَاء " فَتَاوَى مبناها على مَا لَا حَقِيقَة لَهُ، مثل مَا اسْتحْسنَ فِي قصّ الْأَظْفَار أَن يبْدَأ بالسبابة لِأَن لَهَا الْفضل على بَقِيَّة الْأَصَابِع لكَونهَا المسبحة، ثمَّ بالوسطى لِأَنَّهَا نَاحيَة الْيَمين، ثمَّ باليسرى على هَيْئَة دَائِرَة، وَكَأن الْأَصَابِع عِنْده دَائِرَة، فَإِذا أدَار أَصَابِعه مر عَلَيْهَا مُرُور الدائرة حَتَّى يخْتم بإبهام الْيُمْنَى. هَكَذَا حَدثنِي بعض من أَثِق بِهِ عَن الْكتاب، فَانْظُر إِلَى هَذَا الخباط كَيفَ أَفَادَهُ قِرَاءَة الهندسة وَعلم الدَّوَائِر وأحكامها أَن يَنْقُلهُ إِلَى الشَّرْع، فَأفْتى بِهِ الْمُسلمين.
قَالَ: وَحمل إِلَيّ بعض الْأَصْحَاب حِين هَذَا الْإِمْلَاء الْجُزْء الأول فَوَجَدته يذكر فِيهِ أَن من مَاتَ بعد بُلُوغه، وَلم يعلم أَن الْبَارِي تَعَالَى قديم؛ مَاتَ مُسلما إِجْمَاعًا، وَمن تساهل فِي حِكَايَة الْإِجْمَاع فِي مثل هَذَا، الَّذِي الْأَقْرَب أَن يكون فِيهِ الْإِجْمَاع بعكس مَا قَالَ؛ فحقيق أَن لَا يوثق بِكُل مَا نقل، وَأَن يظنّ بِهِ التساهل فِي رِوَايَة مَا لم يثبت عِنْده صِحَّته، ثمَّ تكلم الْمَازرِيّ فِي محَاسِن " الْإِحْيَاء " ومذامه، ومنافعه ومضاره بِكَلَام طَوِيل خَتمه بِأَن من لم يكن عِنْده من البسطة فِي الْعلم مَا يعتصم بِهِ من غوائل هَذَا الْكتاب؛ فَإِن قِرَاءَته لَا تجوز لَهُ، وَإِن كَانَ فِيهِ مَا ينْتَفع بِهِ، وَمن كَانَ عِنْده من الْعلم مَا يَأْمَن بِهِ على نَفسه من غوائل هَذَا الْكتاب، وَيعلم مَا فِيهِ من الرموز، فيجتنب مُقْتَضى ظواهرها، ويكل أَمر مؤلفها إِلَى الله تَعَالَى إِن كَانَت كلهَا تقبل التَّأْوِيل فقراءته لَهَا سَائِغَة، وَينْتَفع بِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون قارئه مِمَّن يقْتَدى بِهِ ويغتر بِهِ فَإِنَّهُ ينْهَى عَن قِرَاءَته وَعَن مدحه وَالثنَاء عَلَيْهِ.
قَالَ: وَلَوْلَا أَنا علمنَا أَن إملاءنا هَذَا إِنَّمَا يَقْرَؤُهُ الْخَاصَّة، وَمن عِنْده علم يَأْمَن بِهِ على نَفسه؛ لم نتبع محَاسِن هَذَا الْكتاب بالثناء، وَلم نتعرض لذكرها، وَلَكنَّا نَحن أمنا من التَّغْرِير، وَلِئَلَّا يظنّ أَيْضا من يتعصب للرجل أَنا جانبنا الْإِنْصَاف فِي الْكَلَام على كِتَابه، وَيكون اعْتِقَاده هَذَا فِينَا سَببا لِأَن لَا يقبل نصيحتنا، وَالله أعلم. هَذَا آخر مَا نَقَلْنَاهُ عَن الْمَازرِيّ.
وَذكر أَبُو الْحسن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل الْفَارِسِي - وَكَانَ شَرِيكا لَهُ فِي تلمذة إِمَام الْحَرَمَيْنِ - أَنه شدا بطوس فِي صباه طرفا من الْفِقْه على الإِمَام أَحْمد الراذكاني الطوسي، ثمَّ قدم نيسابور، وأختلف إِلَى درس إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي طَائِفَة من شُبَّان طوس، واجتهد فِي التَّحْصِيل، وجد، حَتَّى تخرج فِي مُدَّة قريبَة، وبذ الأقران، وَصَارَ أنظر أهل زَمَانه، وَوَاحِد أقرانه، وأستاذه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بعد فِي الْأَحْيَاء، وَكَانَت الطّلبَة تستفيد مِنْهُ، وتدرس عَلَيْهِ، ويرشدهم، وَهُوَ على اجْتِهَاده، وترقى إِلَى أَن أَخذ فِي التصنيف، فَكَانَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ مَعَ علو دَرَجَته، وسمو عِبَارَته، وحدة جَرَيَانه فِي نطقه وَكَلَامه؛ لَا يصفو نظره إِلَى الْغَزالِيّ رَحمَه الله فِي الْبَاطِن، وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر يظْهر التبجح بِهِ، والاعتداد بمكانه، وَذَلِكَ لإنافته عَلَيْهِ فِي سرعَة الْعبارَة، وَقُوَّة الطَّبْع، وَكَانَ لَا يطيب لَهُ أَيْضا تصديه للتصنيف، وَإِن كَانَ متخرجا بِهِ، مَنْسُوبا إِلَيْهِ، ثمَّ إِنَّه لم يزل كَذَلِك حَتَّى انْقَضتْ أَيَّام الإِمَام أبي الْمَعَالِي، فَخرج من نيسابور، وَصَارَ إِلَى المعسكر فاحتل من مجْلِس نظام الْملك مَحل الْقبُول، وَأَقْبل عَلَيْهِ لظُهُور اسْمه، وعلو دَرَجَته، وَحسن مناظرته، وَكَانَت حَضْرَة نظام الْملك محط رحال الْعلمَاء، ومقصد الْأَئِمَّة والنصحاء، فاتفقت للغزالي فِيهَا اتفاقات حَسَنَة من ملاقاة الْأَئِمَّة، ومجاراة الْخُصُوم اللد، ومناظرة الفحول، ومنافرة الْكِبَار، فطار
اسْمه فِي الْآفَاق، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، وَارْتَفَعت حَاله إِلَى أَن ندب للمصير إِلَى بَغْدَاد، ليقوم بالتدريس بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بهَا، فَصَارَ إِلَيْهَا، فأعجب الْجَمِيع بدرسه ومناظرته، وَلم يلق بهَا مثل نَفسه، فَصَارَ إِمَام الْعرَاق بعد أَن كَانَ إِمَام خُرَاسَان، ثمَّ إِنَّه عني بِعلم الْأُصُول، وَكَانَ قبل ذَلِك قد أتقنه، فصنف فِيهِ تصانيف، وجرد الْمَذْهَب، فصنف فِيهِ تصانيف، وسبك علم الْخلاف، فصنف فِيهِ تصانيف، وعلت حشمته، وَارْتَفَعت دَرَجَته بِبَغْدَاد، حَتَّى كَانَت حشمته تعلو الأكابر والأمراء بهَا، ثمَّ إِنَّه أعرض عَن ذَلِك كُله وتزهد وسلك طَرِيق التأله، واطرح الحشمة وَمَا نَالَ من الدرجَة، واشتغل بِأَسْبَاب التَّقْوَى، والتزود لِلْأُخْرَى، وَتوجه إِلَى بَيت الله سُبْحَانَهُ وَحج، ثمَّ دخل الشَّام، وَأقَام بِتِلْكَ الديار قَرِيبا من عشر سِنِين يطوف فِيهَا ويزور الْمشَاهد، وَأخذ فِي تصنيف تصانيفه الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا، ك: " إحْيَاء عُلُوم الدّين "، والكتب المختصرة مِنْهَا، ك: " الْأَرْبَعين "، وَغَيرهَا من الرسائل، وَشرع فِي مجاهدة النَّفس، وتهذيب الْأَخْلَاق، فَأَدْبَرَ شَيْطَان الرعونة والرئاسة، وتبدلت الْأَخْلَاق الذميمة بالأخلاق الحميدة، وَسُكُون النَّفس، وكرم الْخلق، والتخلي من التزينات والرسوم، وَقصر الأمل، ووقف الْوَقْت على هِدَايَة الْخلق، والاستعداد للرحيل، والانتباه لكل من تشم مِنْهُ رَائِحَة الْمعرفَة، والاستضاءة بِشَيْء من أنوار الْمُشَاهدَة، ومرن على ذَلِك وَاسْتمرّ رَحمَه الله، ثمَّ إِنَّه عَاد إِلَى وَطنه، فلازم
بَيته وَمكث كَذَلِك مُدَّة، وَظَهَرت تصانيفه، وفشت تآليفه، وَلَا أحد يعْتَرض عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ فِيهِ أَو يناقضه حَتَّى انْتَهَت نوبَة الوزارة إِلَى فَخر الْملك بن نظام الْملك رَحمَه الله من تَرْتِيب خُرَاسَان بدولته، وَقد سمع بمَكَان الْغَزالِيّ، وَكَمَال فَضله، ونقاء سَرِيرَته، فحضره متبركا بِهِ، وَسمع كَلَامه، فَسَأَلَهُ أَن لَا يدع أنفاسه عقيمة، لَا يتْرك فَوَائده لَا اقتباس من أنوارها، وألح عَلَيْهِ كل الإلحاح، فَأَجَابَهُ إِلَى الْخُرُوج إِلَى نيسابور، فَقَدمهَا وألي التدريس بِالْمَدْرَسَةِ النظامية بهَا، فَلم يجد بدا من الإذعان للولاة، فَفعل وَنوى بِهِ الْهِدَايَة والإفادة دون العودة إِلَى مَا انخلع عَنهُ وتحرر من رقّه من طلب الجاه، ومكايدة المعاندين، ثمَّ إِنَّه قصد، وتصدى للوقوع فِيهِ والطعن فِيمَا يَأْتِي ويذر، وَتعرض للسعاية بِهِ والتشنيع عَلَيْهِ فَمَا تأثر بذلك، وَلَا أظهر لَهُم استيحاشا لغميزة المخلطين.
وَقَالَ عبد الغافر أَيْضا: إِنَّه سَأَلَهُ؛ كَيفَ رغب فِي الْخُرُوج من بَيته والمصير إِلَى نيسابور؟ فَاعْتَذر بِأَنَّهُ لم يكن يستجير فِي دينه أَن يتَخَلَّف عَن الدعْوَة، وإفادة الطالبين ونفعهم، وَقد حق عَلَيْهِ أَن يبوح بِالْحَقِّ وَيَدْعُو إِلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ صَادِقا فِي ذَلِك، ثمَّ ترك ذَلِك قبل أَن يتْرك، وَعَاد إِلَى بَيته، وَاتخذ فِي جواره مدرسة لطلبة الْعلم وخانقاه للصوفية.
وَذكر أَنه كَانَ قد وزع أوقاته على وظائف الْحَاضِرين لَدَيْهِ، كختم التَّذْكِير، ومجالسة أهل الْقُلُوب، والتدريس، حَتَّى لَا تَخْلُو لَحْظَة من لحظاته ولحظات من مَعَه عَن فَائِدَة.
وَحكي عَن بَعضهم أَنه رَآهُ فِي النّوم فَسَأَلَهُ عَن حَاله، فَذكر انتفاعه بِكِتَاب " بداية الْهِدَايَة ".
قَالَ الشَّيْخ: كتاب " المضنون " الْمَنْسُوب إِلَيْهِ، معَاذ الله أَن يكون لَهُ، وَقد شاهدت على ظهر كتاب نُسْخَة بِهِ بِخَط الصَّدْر المكين القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري أَنه مَوْضُوع على الْغَزالِيّ، ومخترع من كتاب " مَقَاصِد الفلاسفة " الَّذِي نقضه بِكِتَاب " تهافت الفلاسفة "، وَأَنه نفذ فِي طلب هَذَا الْكتاب إِلَى الْبِلَاد الْبَعِيدَة، فَلم يقف لَهُ على خبر.
قَالَ: وَهَذِه النُّسْخَة ظَهرت فِي هَذَا الزَّمَان الْغَرِيب، وَلَا يَلِيق بِمَا صَحَّ عندنَا من فضل الرجل وَدينه.
قَالَ الشَّيْخ: وَقد نقل كتاب آخر مُخْتَصر نسب إِلَيْهِ، وَلما بحثنا عَنهُ تحققنا أَنه وضع عَلَيْهِ، وَفِي آخر هَذِه النُّسْخَة بِخَط آخر: هَذَا مَنْقُول من كتاب حِكَايَة
" مَقَاصِد الفلاسفة " حرفا بِحرف، وَالْغَزالِيّ إِنَّمَا ذكره فِي " الْمَقَاصِد " حِكَايَة عَنْهُم غير مُعْتَقد لَهُ، وَقد نقضه بِكِتَاب " التهافت "، وَهَذَا الْكتاب فِيهِ التَّصْرِيح بقدم الْعَالم، وَنفي الصِّفَات، وَبِأَنَّهُ لَا يعلم الجزيئات سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْإِشَارَة إِلَى إِحَالَة حشر الأجساد بِإِثْبَات التناسخ، وَلم يكن هَذَا معتقده.
توفّي رَحمَه الله بطوس صَبِيحَة يَوْم الِاثْنَيْنِ، التَّاسِع عشر من جُمَادَى الْآخِرَة، سنة خمس وَخمْس مئة، رَضِي الله عَنهُ وأرضاه، وَجعل الْجنَّة مَأْوَاه بِمُحَمد وَآله.
-طبقات الفقهاء الشافعية - لابن الصلاح-
الشَّيْخُ الإِمَامُ البَحْر، حجَّةُ الإِسْلاَم، أُعجوبَة الزَّمَان، زين الدين أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوْسِيّ، الشَّافِعِيّ، الغَزَّالِي، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَالذَّكَاءِ المُفرِط.
تَفقَّه بِبَلَدِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ تَحَوَّل إِلَى نَيْسَابُوْرَ فِي مُرَافقَة جَمَاعَة مِنَ الطَّلبَة، فَلاَزمَ إِمَامَ الحَرَمَيْنِ، فَبَرع فِي الفِقْه فِي مُدَّة قَرِيْبَة، وَمَهَر فِي الكَلاَمِ وَالجَدَل، حَتَّى صَارَ عينَ المنَاظرِيْنَ، وَأَعَادَ لِلطَّلبَة، وَشَرَعَ فِي التَّصنِيف، فَمَا أَعْجَب ذَلِكَ شَيْخَه أَبَا المعَالِي، وَلَكِنَّهُ مظهرٌ لِلتبجُّح بِهِ، ثُمَّ سَارَ أَبُو حَامِدٍ إِلَى المُخَيَّم السُّلطَانِي، فَأَقْبَل عَلَيْهِ نِظَامُ المُلك الوَزِيْر، وَسُرَّ بِوجُوْده، وَنَاظرَ الكِبَارَ بِحَضْرَته، فَانبهر لَهُ، وَشَاعَ أَمْرُهُ، فَولاَّهُ النِّظَام تَدْرِيْس نِظَامِيَة بَغْدَاد، فَقَدمهَا بَعْدَ الثَّمَانِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، وَسنّه نَحْو الثَّلاَثِيْنَ، وَأَخَذَ فِي تَأْلِيفِ الأُصُوْلِ وَالفِقْهِ وَالكَلاَمِ وَالحِكْمَةِ، وَأَدخله سَيلاَنُ ذِهْنه فِي مضَايق الكَلاَمِ، وَمَزَالِّ الأَقدَام، وَلله سِرٌّ فِي خَلْقِهِ.
وَعَظُمَ جَاهُ الرَّجُل، وَازدَادت حِشمتُه بِحَيْثُ إِنَّهُ فِي دسْت أَمِيْرٍ، وَفِي رُتْبَةِ رَئِيْسٍ كَبِيْر، فَأَدَّاهُ نَظرُه فِي العُلُوْم وَمُمَارستُهُ لأَفَانِيْنِ الزُّهْديَات إِلَى رفض الرِّئَاسَة، وَالإِنَابَة إِلَى دَارِ الْخُلُود، وَالتَأَلُّه، وَالإِخلاَصِ، وَإِصْلاَحِ النَّفْس، فَحجَّ مِنْ وَقته، وَزَار بَيْت المَقْدِسِ، وَصَحِبَ الفَقِيْهَ نَصْرَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ مُدَّةً، وَأَلَّف كِتَاب "الإحياء"، وكتاب "الأَرْبَعِيْنَ"، وَكِتَاب "القِسطَاس"، وَكِتَاب "مَحكّ النَّظَر". وَرَاض نَفْسَه وَجَاهدهَا، وَطرد شيطَانَ الرُّعونَة، وَلَبِسَ زِيَّ الأَتقيَاء، ثُمَّ بَعْدَ سنواتٍ سَارَ إِلَى وَطنه، لاَزماً لِسَنَنه، حَافِظاً لِوَقْتِهِ، مكباً عَلَى العِلْم.
وَلَمَّا وَزَرَ فَخرُ المُلك، حضَر أَبَا حَامِد، وَالتمس مِنْهُ أَنْ لاَ يُبقِيَ أَنفَاسَه عقيمَة، وَأَلحَّ عَلَى الشَّيْخ، إِلَى أَنْ لاَن إِلَى الْقدوم إِلَى نَيْسَابُوْرَ، فَدرَّس بِنظَامِيتهَا.
فَذكر هَذَا وَأَضعَافَه عَبْد الغَافِرِ فِي "السِّيَاق" إِلَى أَنْ قال: ولقد زرته مرارًا، وما كنت أَحْدُسُ فِي نَفْسِي مَعَ مَا عَهِدْتُه عَلَيْهِ مِنَ الزَّعَارَّة وَالنَّظَر إِلَى النَّاسِ بعينِ الاسْتخفَاف كِبراً وَخُيَلاَءَ، وَاعتزَازاً بِمَا رُزِقَ مِنَ البسطَة، والنطق، والذهن، وطلب العلو؛ أنه صار إلى الضِّدِّ، وَتَصفَّى عَنْ تِلْكَ الكُدورَات، وَكُنْتُ أَظنُّه متلفعاً بجلبَاب التَّكلُّف، مُتنمِّساً بِمَا صَارَ إِلَيْهِ، فَتحقَّقت بَعْد السَّبْرِ وَالتَّنْقِيْرِ أَنَّ الأَمْر عَلَى خِلاَف المَظنُوْنِ، وَأَنَّ الرَّجُل أَفَاق بَعْدَ الجُنُوْنِ، وَحَكَى لَنَا فِي ليالٍ كَيْفِيَةَ أَحْوَالِه مِنِ ابْتدَاء مَا أُظْهِرَ لَهُ طَرِيْق التَأَلُّه، وَغلبَة الحَال عَلَيْهِ بَعْد تَبحُّرِه فِي العُلُوْم، وَاسْتطَالتِهِ عَلَى الكُلّ بكلاَمه، وَالاستعدَادِ الَّذِي خصَّه الله بِهِ فِي تَحْصِيل أَنْوَاعِ العُلُوْم، وَتَمكُّنه مِنَ الْبَحْث وَالنَّظَر، حَتَّى تَبرَّم بِالاشتغَال بِالعُلُوْم العَرِيَّة عَنِ المعَامَلَة، وَتَفكَّر فِي العَاقبَة، وَمَا يَبْقَى فِي الآخِرَةِ، فَابْتدَأَ بصُحبَة الشَّيْخ أَبِي عَلِيٍّ الفَارْمَذِي، فَأَخَذَ مِنْهُ اسْتفتَاحَ الطّرِيقَة، وَامتثل مَا كان يأمره به من العبَادَات وَالنَّوَافل وَالأَذكَار وَالاجْتِهَاد طلباً لِلنَّجَاة، إِلَى أَنْ جَاز تِلْكَ العِقَابَ، وَتَكلَّفَ تِلْكَ المشَاق، وَمَا حَصَلَ عَلَى مَا كَانَ يَرومُهُ.
ثُمَّ حَكَى أَنَّهُ رَاجع العُلُوْمَ، وَخَاض فِي الفُنُوْنِ الدَّقيقَة، وَالْتَقَى بِأَربَابِهَا حَتَّى تَفتَّحت لَهُ أَبْوَابُهَا، وَبَقِيَ مُدَّةً فِي الوقَائِع وَتَكَافؤ الأَدِلَّة، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بابٌ مِنَ الخَوفِ بِحَيْثُ شَغَلَه عَنْ كُلِّ شَيْء، وَحَمَله عَلَى الإِعرَاض عَمَّا سِوَاهُ، حَتَّى سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، إِلَى أَنِ ارْتَاضَ، وَظهرت لَهُ الحقَائِقُ، وَصَارَ مَا كُنَّا نَظَنُّ بِهِ نَاموساً وَتَخلقاً، طبعاً وَتَحققاً، وَأَنَّ ذَلِكَ أَثَرُ السَّعَادَة المُقَدَّرَة لَهُ.
ثُمَّ سَأَلنَاهُ عَنْ كَيْفِيَةِ رَغبَته فِي الخُرُوْجِ مِنْ بَيْتِهِ، وَالرُّجُوْع إِلَى مَا دُعِي إِلَيْهِ، فَقَالَ معتذراً: مَا كُنْتُ أُجَوِّزُ فِي دينِي أَنْ أَقف عَنِ الدَّعوَة، وَمنفعَة الطَّالبين، وَقَدْ خفَّ عليَّ أَنْ أَبوح بِالحَقِّ، وَأَنطِقَ بِهِ، وَأَدعُوَ إِلَيْهِ، وَكَانَ صَادِقاً فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا خفَّ أَمرُ الوَزِيْر، وَعلم أَن وُقُوفَه عَلَى مَا كَانَ فِيْهِ ظُهُوْرُ وحشةٍ وَخيَالُ طلبِ جاهٍ، تَرَكَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُتْرَكَ، وَعَاد إِلَى بَيْته، وَاتَّخَذَ فِي جَوَاره مدرسَةً لِلطَّلبَة، وَخَانقَاه لِلصُّوْفِيَة، وَوزَّع أَوقَاتَه عَلَى وَظَائِف الحَاضرِيْنَ مِنْ ختم القُرْآن، وَمُجَالَسَةِ ذَوِي القُلوبِ، وَالقُعُوْد لِلتَّدرِيس، حَتَّى تُوُفِّيَ بَعْدَ مقاساةٍ لأَنْوَاع مِنَ الْقَصْد، وَالمُنَاوَأَةِ مِنَ الخُصُوْم، وَالسَّعِي فِيْهِ إِلَى المُلُوْك، وَحفظ الله لَهُ عَنْ نوشِ أَيدي النّكبَات.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَكَانَتْ خَاتمَةُ أَمره إِقبالَه عَلَى طلب الحديث، ومجالسة أَهْله، وَمُطَالَعَة "الصَّحِيْحَيْنِ"، وَلَوْ عَاشَ، لسبق الكُلَّ فِي ذَلِكَ الْفَنّ بِيَسِيْرٍ مِنَ الأَيَّام. قَالَ: وَلَمْ يَتفق لَهُ أَنْ يَرْوِيَ، وَلَمْ يُعْقِبْ إلَّا البنَاتِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الأَسبَاب إِرثاً وَكسباً مَا يَقومُ بِكفَايته، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ أموالٌ، فَمَا قَبِلَهَا.
قَالَ: وَمِمَّا كَانَ يُعترض بِهِ عَلَيْهِ وُقوعُ خللٍ مِنْ جِهَةِ النَّحْو فِي أَثْنَاء كلاَمِه، وَرُوجِعَ فِيْهِ، فَأَنِصْف، وَاعْتَرف أَنَّهُ مَا مَارسه، وَاكتفَى بِمَا كَانَ يَحتَاج إِلَيْهِ فِي كلاَمه، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُؤَلِّفُ الخُطب، وَيَشرحُ الكُتُبَ بِالعبَارَة الَّتِي يَعْجِزُ الأَدبَاءُ وَالفُصحَاءُ عَنْ أَمْثَالِهَا.
وَمِمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ مَا ذكر مِنَ الأَلْفَاظ المُسْتبشعَة بِالفَارِسيَة فِي كِتَاب "كِيمِيَاء السَّعَادَة وَالعُلُوْم" وَشرح بَعْض الصُوْر وَالمَسَائِل بِحَيْثُ لاَ تُوَافِقُ مَرَاسِمَ الشَّرع وَظوَاهر مَا عَلَيْهِ قَوَاعدُ المِلَّةِ، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ -وَالحَقُّ أَحقُّ مَا يُقَالَ- تركَ ذَلِكَ التَّصنِيف، وَالإِعرَاضَ عَنِ الشَّرح لَهُ، فَإِنَّ العوَامَّ رُبَّمَا لاَ يُحْكِمُوْنَ أُصُوْلَ القوَاعد بِالبرَاهين وَالحجج، فَإِذَا سَمِعُوا شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، تخيَّلُوا مِنْهُ مَا هُوَ المُضِرُّ بعقَائِدهِم، وَيَنسِبُوْنَ ذَلِكَ إِلَى بيَانِ مَذْهَبِ الأَوَائِل، عَلَى أَنَّ المُنْصِفَ اللّبِيْب إِذَا رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، عَلِمَ أَنَّ أَكْثَر مَا ذَكَرَهُ مِمَّا رَمَزَ إِلَيْهِ إِشَارَاتُ الشَّرع، وَإِنْ لَمْ يَبُحْ بِهِ، وَيُوجَدُ أَمثَالُهُ فِي كَلاَم مَشَايِخ الطّرِيقَة مَرْمُوزَةً، وَمُصَرَّحاً بِهَا متفرقَة، وَلَيْسَ لفظٌ مِنْهُ إلَّا وَكَمَا تُشعر سَائِرُ وجوهه بما يُوَافق عقَائِدَ أَهْلِ الملَّة، فَلاَ يَجِبُ حَملُه إِذاً إلَّا عَلَى مَا يُوَافق، وَلاَ يَنْبَغِي التَّعلُّقُ بِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ إِذَا أَمكن، وَكَانَ الأَوْلَى بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الإِفصَاحَ بِذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ سَمِعَ "سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ" مِنَ القَاضِي أَبِي الفَتْحِ الحَاكمِي الطُّوْسِيّ، وَسَمِعَ مِنْ مُحَمَّد بن أَحْمَدَ الخُوَارِي وَالِدِ عبد الجَبَّارِ كِتَابَ "المَوْلِد" لابْنِ أَبِي عَاصِمٍ بِسمَاعِه مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ الحَارِثِ عَنْ أَبِي الشَّيْخِ عَنْهُ.
قُلْتُ: مَا نَقَمَهُ عَبْدُ الغَافِرِ عَلَى أَبِي حَامِد فِي الكيمِيَاء، فَلَهُ أَمثَالُه فِي غُضون تَوَالِيْفِهِ، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العربِي: شَيخُنَا أَبُو حَامِدٍ بَلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَقَيَّأَهُم، فَمَا اسْتَطَاعَ.
وَمِنْ "مُعْجَم أَبِي عَلِيٍّ الصدفِي"، تَأْلِيفُ القَاضِي عِيَاض لَهُ، قَالَ: وَالشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنبَاء الشَّنِيعَة، وَالتَّصَانِيْفِ العَظِيْمَة، غلاَ فِي طرِيقَة التَّصَوُّف، وَتَجرَّد لنَصر مَذْهَبهم، وَصَارَ دَاعِيَةً فِي ذَلِكَ، وَأَلَّف فِيْهِ تَوَالِيفه المَشْهُوْرَة، أُخِذَ عَلَيْهِ فِيْهَا مَوَاضِعُ، وَسَاءت بِهِ ظُنُوْنُ أُمَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ، وَنَفَذَ أَمرُ السُّلْطَان عِنْدنَا بِالمَغْرِبِ وَفَتْوَى الفُقَهَاء بِإِحرَاقهَا وَالبُعدِ عَنْهَا، فَامْتُثِلَ ذَلِكَ. مَوْلِدُهُ: سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قُلْتُ: مَا زَالَ العُلَمَاءُ يَخْتلِفُوْنَ، وَيَتَكَلَّم العَالِمُ فِي العَالِم باجْتِهَاده، وكلٌّ مِنْهُم مَعْذُور مَأْجُور، وَمَنْ عَاند أَوْ خرق الإِجْمَاعَ، فَهُوَ مَأْزور، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُوْر.
وَلأَبِي المُظَفَّر يُوْسُف سِبْطِ ابْنِ الجَوْزِيّ فِي كِتَاب "رِيَاض الأَفهَام" فِي مَنَاقِب أَهْلِ البَيْت قَالَ: ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ "سِرّ العَالمين وَكشف مَا فِي الدَّارين" فَقَالَ فِي حَدِيْث: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فعليٌّ مَوْلاَهُ" أَنَّ عُمَر قَالَ لعلِي: بخٍ بخٍ، أَصْبَحتَ مَوْلَى كل مؤمنٍ ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضا، ثُمَّ بَعْد هَذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الهَوَى حُباً لِلرِّيَاسَة، وَعَقْدِ البُنُوْد، وَأَمرِ الخِلاَفَة وَنَهيهَا، فَحملهُم عَلَى الخلاَف، فَنبذُوهُ وَرَاءَ ظُهُوْرهِم، وَاشتَرَوْا بِهِ ثَمناً قليلاً، فَبِئس مَا يَشترُوْنَ، وَسَرَدَ كَثِيْراً مِنْ هَذَا الكَلاَم الفَسْلِ الَّذِي تَزعمُهُ الإِمَامِيَّة، وَمَا أَدْرِي مَا عُذْرُهُ فِي هَذَا؟ وَالظَّاهِر أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَتبع الحَقَّ، فَإِنَّ الرَّجُل مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَضَع هَذَا وَمَا ذَاكَ بِبعيد، فَفِي هَذَا التَّأْلِيف بَلاَيَا لاَ تَتَطَبَّب، وَقَالَ فِي أَوَّله: إِنَّهُ قرَأَه عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ تُوْمرت المَغْرِبِيّ سِرّاً بِالنَّظَامِيَة، قَالَ: وَتوسَّمْتُ فِيْهِ المُلْكَ.
قُلْتُ: قَدْ أَلَّفَ الرَّجُلُ فِي ذَمِّ الفَلاَسِفَة كِتَاب "التهَافت"، وَكَشَفَ عوَارهُم، وَوَافقهُم فِي موَاضِع ظنّاً مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ حقٌّ، أَوْ مُوَافِقٌ لِلملَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالآثَار وَلاَ خِبْرَةٌ بِالسُّنَنِ النَّبويَّة القَاضِيَة عَلَى العَقْل، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ إِدمَانُ النَّظَر فِي كِتَاب "رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَا" وَهُوَ دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ. فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب، وَاهرُبُوا بدينكُم مِنْ شبه الأوائل، وإلا وَقعتُم فِي الحَيْرَةِ، فَمَنْ رَام النَّجَاةَ وَالفوز، فيلزم العُبُوديَّة، وَليُدْمِنِ الاسْتغَاثَةَ بِاللهِ، وَليبتهِلْ إِلَى مَوْلاَهُ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَأَنْ يُتوفَّى عَلَى إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق، فيحسن قَصْدِ العَالِمِ يُغْفَرُ لَهُ وَيَنجُو، إِنْ شَاءَ اللهُ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو بنُ الصَّلاَح: فَصلٌ لِبيَانِ أَشيَاء مُهِمَّةٍ أُنْكِرَتْ عَلَى أَبِي حَامِد:
ففي تواليفه أشياء لم يرتضاها أَهْلُ مَذْهَبه مِنَ الشُّذوذ: مِنْهَا قَوْله فِي الْمنطق: هُوَ مقدمَة العُلُوْمِ كُلِّهَا، وَمَنْ لاَ يُحيطُ بِهِ، فَلاَ ثِقَة لَهُ بِمَعلُوْم أَصلاً. قَالَ: فَهَذَا مَرْدُوْدٌ، إِذْ كُلُّ صَحِيْحِ الذّهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رع بِالمنطِق رَأْساً.
فَأَمَّا كِتَاب "المضنُوْنِ بِهِ عَلَى غَيْر أَهْله" فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ، شَاهدتُ عَلَى نسخَة بِهِ بِخَطِّ القَاضِي كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ الشَّهْرُزُورِي أَنَّهُ مَوْضُوْع عَلَى الغزَالِي، وَأَنَّهُ مُخْتَرع مِنْ كِتَاب "مَقَاصِد الفَلاَسِفَة"، وَقَدْ نَقضه الرَّجُلُ بِكِتَابِ "التَّهَافُت".
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ الجيلِي فِي "تَارِيْخِهِ" أَبُو حَامِدٍ لُقِّبَ بِالغزَّالِي، بَرَعَ فِي الفِقْه، وَكَانَ لَهُ ذكاءٌ وَفِطْنَة وَتَصرُّف، وَقُدرَة عَلَى إِنشَاء الكَلاَم، وَتَأْلِيفِ المَعَانِي، وَدَخَلَ فِي عُلُوْمِ الأَوَائِل.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَغَلَبَ عَلَيْهِ اسْتَعمَالُ عبَارَاتِهم فِي كُتُبِهِ، وَاسْتُدْعِيَ لِتَدْرِيْس النِّظَامِيَة بِبَغداد فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَبَقِيَ إِلَى أَنْ غلبت عَلَيْهِ الخلوَةُ، وَترك التَدْرِيْسَ، وَلَبِسَ الثِّيَابَ الخشنَةَ، وَتَقلَّل فِي مَطْعُومه.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَجَاورَ بِالقُدْس، وَشرع فِي "الإِحيَاء" هُنَاكَ -أَعنِي: بِدِمَشْقَ- وَحَجَّ وَزَار، وَرجع إِلَى بَغْدَادَ، وَسُمِعَ مِنْهُ كِتَابُهُ "الإِحيَاء"، وَغَيْرُهُ، فَقَدْ حَدَّثَ بِهَا إِذاً، ثُمَّ سَرَدَ تَصَانِيْفَه.
وَقَدْ رَأَيْت كِتَابَ "الْكَشْف وَالإِنبَاء عَنْ كِتَاب الإِحيَاء" لِلمَازَرِي، أَوله: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنَار الحَقَّ وَأَدَالَه، وَأَبَارَ البَاطِلَ وَأَزَاله، ثُمَّ أَوْرَد المَازَرِي أَشيَاءَ مِمَّا نَقدَه عَلَى أَبِي حَامِد، يَقُوْلُ: وَلَقَدْ أَعْجَبُ مِنْ قَوْم مالكيةٍ يَرَوْنَ مَالِكاً الإِمَام يَهْرُبُ مِنَ التّحديد، وَيُجَانب أَنْ يَرْسُمَ رسماً، وَإِنْ كَانَ فِيْهِ أثرٌ مَا، أَوْ قياسٌ مَا، تَوَرُّعاً وَتحفظاً مِنَ الفَتْوَى فِيمَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْتَحسنُوْنَ مِنْ رَجُل فَتَاوَى مبنَاهَا عَلَى مَا لاَ حقيقَة لَهُ، وَفِيْهِ كَثِيْرٌ مِنَ الآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفَّق فِيْهِ الثَّابتَ بِغَيْرِ الثَّابت، وَكَذَا مَا أَوْرَد عَنِ السَّلَفِ لاَ يَمكن ثبوتُهُ كُلُّه، وَأَوْرَدَ مِنْ نَزغَاتِ الأَوليَاء وَنفثَات الأَصفِيَاء مَا يَجِلُّ موقِعُه، لَكِن مزج فِيْهِ النَّافِعَ بِالضَّار، كَإِطلاَقَات يَحكيهَا عَنْ بعضهِم لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهَا لِشنَاعتهَا، وَإِنْ أُخذت معَانِيْهَا عَلَى ظوَاهرهَا، كَانَتْ كَالرموز إِلَى قدح الْمُلْحِدِينَ، وَلاَ تَنْصَرِفُ مَعَانِيْهَا إِلَى الحَقّ إلَّا بِتعسُّف عَلَى اللَّفْظ مِمَّا لاَ يَتكلف العُلَمَاءُ مِثْله إلَّا فِي كَلاَم صَاحِب الشَّرع الَّذِي اضْطرَّتْ المعجزَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صدقه المَانعَة مِنْ جَهله وَكذبه إِلَى طلب التَّأْوِيْل، كَقَوْلِه: "إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أُصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَن" ، وَ "إِنَّ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَع"، وَكقوله: "لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ"، وَكقوله: "يَضْحَكُ الله" 4، إلى غير ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيْثِ الوَارد ظَاهِرُهَا بِمَا أَحَاله العقل.
إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا كَانَتِ العِصْمَةُ غَيْرَ مَقْطُوْع بِهَا فِي حقِّ الوَلِي، فَلاَ وَجه لإِضَافَة مَا لاَ يَجُوْزُ إِطلاَقُهُ إِلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ، وَتَدعُو ضَرُوْرَةٌ إِلَى نَقله، فَيَتَأَوّل.
إِلَى أَنْ قَالَ: أَلاَ تَرَى لَوْ أَنَّ مُصَنِّفاً أَخَذَ يَحكِي, عَنْ بَعْضِ الحشويَة مَذْهَبَه فِي قِدَمَ الصَّوتِ وَالحرف، وَقِدَمَ الوَرَقِ، لَمَّا حَسُنَ بِهِ أَنْ يَقُوْل: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقين: إِنَّ القَارِئَ إِذَا قرَأَ كِتَابَ اللهِ، عَادَ القَارِئُ فِي نَفْسِهِ قديماً بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحْدَثاً، أَوْ قَالَ بَعْضُ الحذَاق: إِنَّ اللهَ مَحَلٌّ لِلْحوَادث، إِذَا أَخَذَ فِي حِكَايَة مَذْهَب الكَرَّامِيَّةِ.
وَقَالَ قَاضِي الجَمَاعَة أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ حَمْدين القُرْطُبِيّ: إِن بَعْضَ مَنْ يَعِظُ مِمَّنْ كَانَ يَنْتَحِلُ رسمَ الفِقْه، ثُمَّ تَبرَّأَ مِنْهُ شغفاً بِالشِّرعَة الغزَّاليَة، وَالنِّحلَة الصُّوْفِيَّة، أَنشَأَ كُرَاسَةً تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى التعصُّب لِكِتَابِ أَبِي حَامِد إِمَام بِدعتِهِم، فَأَيْنَ هُوَ مِنْ شُنَعِ مَنَاكِيْره، وَمَضَاليلِ أَسَاطيرِهِ المُبَاينَة لِلدِّين?! وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ علم المعَامِلَة المُفضِي إِلَى علم المكَاشفَة الوَاقع بِهِم عَلَى سِرِّ الربوبيَة الَّذِي لاَ يُسفِر عَنْ قِنَاعِهِ، وَلاَ يَفُوزُ بِاطِّلاعه إلَّا مَنْ تَمَطَّى إِلَيْهِ ثَبَج ضَلاَلَته الَّتِي رفع لَهُم أَعْلاَمَهَا، وَشرع أَحكَامَهَا. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَأَدْنَى النصِيْبِ من هَذَا العِلْم التَّصديقُ بِهِ، وَأَقلُّ عُقُوبَته أَنْ لاَ يُرْزَقَ المُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئاً، فَاعرض قَوْله عَلَى قَوْلِهِ، وَلاَ يَشتغِلُ بقِرَاءة قُرْآن، وَلاَ بِكَتْبِ حَدِيْثٍ، لأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُهُ عَنِ الْوُصُول إِلَى إِدخَال رَأْسه فِي كُمِّ جُبَّته، وَالتَّدثر بِكسَائِهِ، فَيسْمَع نِدَاءَ الحَقِّ، فَهُوَ يَقُوْلُ: ذرُوا مَا كَانَ السَّلَفُ عَلَيْهِ، وَبَادِرُوا مَا آمُرُكُم بِهِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا القَاضِي أَقذَع، وَسَبَّ، وَكفَّر، وَأَسْرَفَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الهَوَى.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَصُدُوْرُ الأَحرَارِ قُبُوْرُ الأَسرَارِ، وَمَنْ أَفشَى سِرَّ الرُّبوبيَة، كفر، وَرَأَى قَتْلَ مِثْلِ الحَلاَّج خَيراً مِنْ إِحيَاء عَشْرَة لإِطلاَقه أَلْفَاظاً، وَنَقَلَ عَنْ بعضهِم قَالَ: لِلرُّبوبيَّة سِرٌّ لَوْ ظهر، لَبَطَلت النُّبُوَّة، وَللنُبُوَّة سرٌّ لَوْ كُشِفَ، لبَطل العِلْمُ، وَلِلْعلمِ سرٌّ لَوْ كشف، لَبَطَلت الأَحكَامُ.
قُلْتُ: سِرُّ العِلْم قَدْ كشف لصُوْفَة أَشقيَاء، فَحلُّوا النّظَام، وَبطل لديهِم الحَلاَلُ وَالحَرَامُ.
قَالَ ابْنُ حَمْدِينَ: ثُمَّ قَالَ الغزَالِي: وَالقَائِلُ بِهَذَا، إِنْ لَمْ يُرِدْ إِبطَال النُّبُوَّة فِي حقِّ الضُّعَفَاء، فَمَا قَالَ لَيْسَ بِحقٍّ، فَإِنَّ الصَّحِيح لاَ يَتنَاقضُ، وَإِنَّ الكَامِل مَنْ لاَ يُطفئ نُوْرُ مَعْرِفَته نُورَ وَرعه.
وَقَالَ الغزَّالِي فِي العَارِف: فَتتجلَى لَهُ أَنوَارُ الحَقِّ، وَتنكشِفُ لَهُ العُلُوْم المرموزَةُ المحجوبَةُ عَنِ الْخلق، فَيعرِفُ مَعْنَى النُّبُوَّة، وَجَمِيْعَ مَا وَردت بِهِ أَلْفَاظُ الشرِيعَة الَّتِي نَحْنُ مِنْهَا عَلَى ظَاهِرٍ لاَ عَلَى حقيقَة.
وَقَالَ عَنْ بعضهِم: إِذَا رَأَيْتَهُ فِي البِدَايَة، قُلْتَ: صديقاً، وَإِذَا رَأَيْتهُ فِي النِّهَايَة، قُلْتَ: زِنْدِيقاً، ثُمَّ فَسَّره الغزَّالِي، فَقَالَ: إِذِ اسمُ الزِّنْدِيق لاَ يُلصق إلَّا بِمعطِّل الفَرَائِضِ لاَ بِمعطِّلِ النَّوَافل. وَقَالَ: وَذَهَبت الصُّوْفِيَّةُ إِلَى العُلُوْمِ الإِلهَامِيَة دُوْنَ التَّعليمِيَة، فَيجلس فَارغَ القَلْب، مجموعَ الهَمِّ يَقُوْلُ: اللهُ اللهُ اللهُ، عَلَى الدَّوَام، فَلْيُفَرِّغ قَلْبَهُ، وَلاَ يَشتغِلْ بِتِلاَوَة وَلاَ كتب حَدِيْث. قَالَ: فَإِذَا بلغَ هَذَا الحدّ، الْتزم الخلوة في بيت مظلمٍ، وتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} .
قُلْتُ: سَيِّدُ الخلقِ إِنَّمَا سمع {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} مِنْ جِبْرِيْل عَنِ اللهِ، وَهَذَا الأَحْمَقُ لَمْ يَسْمَعْ نِدَاء الحَقِّ أَبَداً، بَلْ سَمِعَ شيطانًا، أو سمع شئًا لاَ حقيقَةً مِنْ طَيش دِمَاغِه، وَالتَّوفِيقُ فِي الاعتصَام بِالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاع.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِي: شَحَنَ أَبُو حَامِدٍ "الإِحيَاء" بِالكَذِبِ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلاَ أَعْلَمُ كِتَاباً عَلَى بَسِيط الأَرْضِ أَكْثَرَ كذباً مِنْهُ، ثُمَّ شبَّكَهُ بِمَذَاهِبِ الفَلاَسِفَة، وَمعَانِي رَسَائِل إِخْوَانِ الصَّفَا، وَهُم قَوْم يَرَوْنَ النُّبُوَّة مكتَسَبَة، وَزعمُوا أَنَّ المعجزَاتِ حِيَلٌ وَمَخَارِيقُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِر: حَجَّ أَبُو حَامِدٍ وَأَقَامَ بِالشَّامِ نَحْواً مِنْ عشر سِنِيْنَ، وَصَنَّفَ، وَأَخَذَ نَفْسه بِالمُجَاهِدَة، وَكَانَ مُقَامُه بِدِمَشْقَ فِي المنَارَة الغربيَة مِنَ الجَامِع، سَمِعَ "صَحِيْح البُخَارِيِّ" مِنْ أَبِي سهل الْحَفْصِي، وَقَدِمَ دِمَشْق فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِيْنَ.
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَان: بَعَثَهُ النِّظَام عَلَى مَدْرَسَته بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَركهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ، وَتَزَهَّدَ، وَحَجَّ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً بِالزَّاويَة الغربيَة، ثُمَّ انتقلَ إِلَى بَيْت المَقْدِسِ وَتَعَبَّدَ، ثُمَّ قصد مِصْر، وَأَقَامَ مُدَّةً بِالإِسْكَنْدَرِيَّة، فَقِيْلَ: عزم عَلَى المضِي إِلَى يُوْسُفَ بنِ تَاشفِيْن سُلْطَانِ مَرَّاكُش، فَبَلَغَهُ نَعِيُّه، ثُمَّ عَادَ إِلَى طُوْس، وَصَنَّفَ: "البَسيطَ" وَ "الوسيطَ" وَ "الوجِيْزَ" وَ "الخلاَصَة" وَ "الإِحيَاءَ"، وَأَلَّف: "المُسْتصفَى" فِي أُصُوْل الفِقْه، وَ "المَنْخُوْل" وَ "اللبَاب" وَ "الْمُنْتَحل فِي الجَدَل" وَ "تَهَافت الفَلاَسِفَة" وَ "مَحكّ النَّظَر" وَ "مِعيَار العِلْم" وَ "شرح الأَسْمَاء الحُسْنَى" وَ "مشكَاة الأَنوَار" وَ "المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل" وَ "حقيقَة الْقَوْلَيْنِ" وَأَشيَاء.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: أَبُو حَامِدٍ إِمَامُ الفُقَهَاءِ عَلَى الإِطلاَق، وَربَّانِيُّ الأُمَّةِ بِالاتِّفَاق، وَمُجْتَهِدُ زَمَانه، وَعينُ أَوَانه، بَرَعَ فِي المَذْهَب وَالأُصُوْل وَالخلاَف وَالجَدَلِ وَالمنطق، وَقرَأَ الحِكْمَة وَالفَلْسَفَة، وَفَهِمَ كلاَمهُم، وَتَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِم، وَكَانَ شَدِيدَ الذّكَاء، قوِيَّ الإِدرَاك، ذَا فِطْنَة ثَاقبَة، وَغوص عَلَى المَعَانِي، حَتَّى قِيْلَ: إِنَّهُ أَلَّف "المَنْخُوْل"، فَرَآهُ أَبُو المَعَالِي، فَقَالَ: دفنتَنِي وَأَنَا حيٌّ، فَهَلاَّ صَبرتَ الآنَ، كِتَابُك غطَّى عَلَى كِتَابِي.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ النَّجَّار بِسنده: أَنَّ وَالِد أَبِي حَامِد كَانَ يَغْزِلُ الصُّوفَ وَيبيعُهُ فِي دُكَّانه بِطُوْسَ، فَأَوْصَى بِوَلَدَيْهِ مُحَمَّد وَأَحْمَد إِلَى صديقٍ لَهُ صُوْفِي صَالِح، فَعلمهُمَا الخطَّ، وَفَنِيَ مَا خَلَّفَ لَهُمَا أَبُوْهُمَا، وَتعذَّر عَلَيْهِمَا القُوْتُ، فَقَالَ: أَرَى لَكُمَا أَنْ تلجآ إِلَى المدرسَة كَأَنكمَا طَالبَان لِلْفقه عَسَى يَحصُل لَكُمَا قوتٌ، فَفَعلاَ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَد الخطيبِي: كُنْت فِي حَلْقَة الغزَّالِي، فَقَالَ: مَاتَ أَبِي، وَخلَّف لِي وَلأَخِي مِقْدَاراً يَسيراً فَفَنِي بِحَيْثُ تَعذَّرَ عَلَيْنَا القُوْتُ، فَصِرنَا إِلَى مدرسَة نطلُبُ الفِقْه، لَيْسَ المُرَادُ سِوَى تحصيلِ القُوْت، فَكَانَ تَعلُّمنَا لِذَلِكَ، لاَ للهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُوْنَ إلَّا لله.
قال أسعد الميني: سمعت أبا حامد يقول: هاجرتا إِلَى أَبِي نَصْرٍ الإِسْمَاعِيْلِي بجُرْجَان، فَأَقَمْتُ إِلَى أن أخذت عنه "التعليقة".
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَلِيٍّ الأَشِيرِي: سَمِعْتُ عبد المُؤْمِن بن عَلِيٍّ القَيْسِيّ، سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ بنَ تُوْمَرْت يَقُوْلُ: أَبُو حَامِدٍ الغزَالِي قَرَعَ البَابَ وَفُتِحَ لَنَا.
قَالَ ابْنُ النَّجَّار: بَلَغَنِي أَن إِمَامَ الحَرَمَيْنِ قَالَ: الغَزَّالِي بَحْرٌ مغرقٌ، وَإِلْكِيَا أَسَدٌ مُطْرِقٌ، وَالخَوَافِي نَارٌ تُحْرِقُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العُثْمَانِيّ، وَغَيْرهُ: سَمِعْنَا مُحَمَّدَ بَنَ يَحْيَى العَبْدَرِي المُؤَدِّب يَقُوْلُ: رَأَيْتُ بِالإِسْكَنْدَرِيَّة سَنَةَ خَمْس مائَة كَانَّ الشَّمْس طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبهَا، فَعَبَرَهُ لِي عَابِرٌ بِبدعَة تَحْدُثُ فِيهِم، فَبعد أَيَّام وَصل الخَبَر بِإِحرَاقِ كتب الغزالي من المرية.
وَفِي التَّوَكُّل مِنَ "الإِحيَاء" مَا نَصه: وَكُلُّ مَا قسمَ اللهُ بَيْنَ عبَاده مِنْ رزقٍ وأجلٍ، وإيمانٍ وَكفرٍ، فَكُلُّه عدلٌ مَحْض، لَيْسَ فِي الإِمْكَانِ أَصلاً أَحْسَنُ وَلاَ أَتَمُّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ وَادَّخره تَعَالَى مَعَ القُدرَة وَلَمْ يَفعلْه، لَكَانَ بُخْلاً وَظلماً.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ العَربِي فِي "شَرحِ الأَسْمَاء الحُسْنَى": قَالَ شيخنَا أَبُو حَامِدٍ قَوْلاً عَظِيْماً انْتَقدهُ عَلَيْهِ العُلَمَاءُ، فَقَالَ: وَلَيْسَ فِي قُدرَة الله أَبدعُ مِنْ هَذَا العَالَم فِي الإِتْقَان وَالحِكْمَة، وَلَوْ كَانَ فِي القدرَة أَبدعُ أَوْ أَحكمُ مِنْهُ وَلَمْ يَفعله، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَضَاءً لِلْجُوْد، وَذَلِكَ مُحَال. ثُمَّ قَالَ: وَالجَوَاب أَنَّهُ بَاعد فِي اعْتِقَاد عمومِ القدرَة وَنَفْي النّهَايَة عَنْ تَقدير المقدورَات المُتَعَلِّقَة بِهَا، وَلَكِن فِي تَفَاصيل هَذَا العَالم المَخْلُوْق، لاَ فِي سِوَاهُ، وَهَذَا رَأْيٌ فَلسفِي قصَدتْ بِهِ الفَلاَسِفَةُ قَلْبَ الحقَائِق، وَنسبتِ الإِتْقَانَ إِلَى الحَيَاةِ مَثَلاً، وَالوجُوْدَ إِلَى السَّمْعِ وَالبصر، حَتَّى لاَ يَبْقَى فِي القلوبِ سبيلٌ إِلَى الصَّوَاب، وَأَجْمَعتِ الأُمَّةُ عَلَى خِلاَف هَذَا الاعتقَاد، وَقَالَتْ عَنْ بُكرَة أَبيهَا: إِنَّ المقدورَاتِ لاَ نِهَايَةَ لَهَا لِكُلِّ مُقَدَّر الوُجُوْد، لاَ لِكُلِّ حَاصل الوجُوْد، إِذِ القدرَةُ صَالِحَة، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ وهلةٌ لاَ لَعاً لَهَا، وَمَزَلَّةٌ لاَ تَمَاسكَ فِيْهَا، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نُقْطَةً مِنْ بحره، فَإِنَّا لاَ نَرُدُّ عَلَيْهِ إلَّا بِقَوْلِهِ.
قُلْتُ: كَذَا فَليكن الردُّ بأدبٍ وَسكَيْنَة.
وَمِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنَّ لِلْقدر سِرّاً نُهينَا عَنْ إِفشَائِهِ، فَأَيُّ سرٍّ للقدر? فَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالنَّظَر، وُصِلَ إِلَيْهِ وَلاَ بُدَّ، وَإِنْ كَانَ مُدْرَكاً بِالخَبَر، فَمَا ثَبَتَ فِيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ يُدْرَكُ بِالحَال وَالعِرفَان، فَهَذِهِ دعوَى مَحضَة، فَلَعَلَّهُ عَنَى بِإِفشَائِهِ أَن نُعَمِّق فِي القَدَرِ، وَنبحثَ فِيْهِ.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عبد الكَرِيْم، أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ السَّخَاوِيُّ، أَخْبَرَنَا حطلبا بن قمرِيَة الصُّوْفِيّ، أَخْبَرَنَا سَعْدُ بن أَحْمَدَ الإِسْفَرَايينِي بِقِرَاءتِي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ الطُّوْسِيّ قَالَ: اعْلم أَنَّ الدِّين شَطرَانِ: أَحَدُهُمَا تَركُ المَنَاهِي، وَالآخرُ فِعلُ الطَّاعَات، وَتركُ المنَاهِي هُوَ الأَشَدُّ، وَالطَّاعَات يَقْدِرُ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ، وَتركُ الشَّهوَات لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا الصِّدِّيْقُوْنَ، وَلذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السوء، والمجاهد من جاهد هواه" 1.
وَقَالَ أَبُو عَامِرٍ العبدرِي: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ أَحْمَد بن مُحَمَّدِ بنِ عَبْد القَادِرِ الطُّوْسِيّ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ أَبصر فِي نَوْمه كَأَنَّهُ يَنظر فِي كتب الغزَالِي -رَحِمَهُ اللهُ- فَإِذَا هِيَ كُلُّهَا تَصَاوِيْر.
قُلْتُ: الغَزَّالِي إِمَامٌ كَبِيْر، وَمَا مِنْ شَرطِ العَالِم أَنَّهُ لاَ يُخطِئ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيْدِ الطُّرْطُوشِي فِي رِسَالَة لَهُ إِلَى ابْنِ مُظَفَّر: فَأَمَّا مَا ذكرت مِنْ أَبِي حَامِد، فَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَكَلَّمتُهُ، فَرَأَيْتهُ جَلِيْلاً مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَاجتمع فِيْهِ العَقْلُ وَالفهْمُ، وَمَارسَ العُلُوْمَ طُولَ عُمُره، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ مُعْظَمَ زَمَانِهِ، ثُمَّ بدَا لَهُ عَنْ طريق العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تَصَوَّف، وَهجر العُلُوْمَ وَأَهْلهَا، وَدَخَلَ فِي عُلُوْم الخوَاطِرِ، وَأَربَابِ الْقُلُوب، وَوسَاوسِ الشَّيْطَان، ثُمَّ شَابَهَا بآرَاء الفَلاَسِفَةِ، وَرُموز الحلاَّجِ، وَجَعَلَ يَطْعُنُ عَلَى الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدِّين، فَلَمَّا عمل "الإِحيَاء"، عَمَدَ يَتَكَلَّم فِي عُلُوْم الأَحْوَال، وَمرَامزِ الصُّوْفِيَّة، وَكَانَ غَيْرَ أنيسٍ بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رَأْسِهِ، وَشحن كِتَابَهُ بِالمَوْضُوْعَات.
قُلْتُ: أَمَّا "الإِحيَاء" فَفِيْهِ مِنَ الأَحَادِيْثِ البَاطِلَة جُمْلَةٌ، وَفِيْهِ خَيْر كثر لَوْلاَ مَا فِيْهِ مِنْ آدَاب وَرسوم وَزُهْد مِنْ طرَائِق الحكمَاء وَمُنحَرِفِي الصُّوْفِيَّة، نَسْأَل اللهَ عِلْماً نَافِعاً، تَدْرِي مَا العِلْمُ النَّافِع? هُوَ مَا نَزل بِهِ القُرْآنُ، وَفسَّره الرَّسُول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلاً وَفعلاً، وَلَمْ يَأْت نهي عنه، قال عليه السلام: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" 1، فَعَلَيْك يَا أَخِي بتدبُّر كِتَاب اللهِ، وَبإِدمَان النَّظَر فِي "الصَّحِيْحَيْنِ"، و "سُنَن النَّسَائِيّ"، وَ "رِيَاض النَّوَاوِي" وَأَذكَاره، تُفْلِحْ وَتُنْجِحْ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ عُبَّادِ الفَلاَسِفَة، وَوظَائِفِ أَهْلِ الرِّيَاضَات، وَجُوعَ الرُّهبَان، وَخِطَابَ طَيْشِ رُؤُوْسِ أَصْحَابِ الخلوَات، فُكُلُّ الخَيْر فِي مُتَابعَة الحنِيفِيَة السَّمحَة، فَواغوثَاهُ بِاللهِ، اللَّهُمَّ اهدِنَا إِلَى صرَاطك المُسْتقيم.
نعم، وَللإِمَامِ مُحَمَّد بن عَلِيٍّ المَازَرِي الصَّقَلِّي كلامٌ عَلَى "الإِحيَاء" يَدُلُّ عَلَى إِمَامته، يَقُوْلُ: وَقَدْ تَكرَّرت مُكَاتبتكُم فِي اسْتَعلاَمِ مَذْهَبِنَا فِي الكِتَابِ المُتَرْجَمِ بِـ"إِحيَاءِ عُلُوْمِ الدِّينِ"، وَذَكَرتُم أَنَّ آرَاء النَّاس فِيْهِ قَدِ اخْتلفت، فطائفةٌ انْتَصَرت وَتعصَّبت لإِشهَاره، وَطَائِفَة حَذَّرت مِنْهُ وَنفَّرت، وَطَائِفَة لِكُتُبِهِ أَحرقت، وَكَاتِبنِي أَهْلُ المَشْرِق أَيْضاً يَسْأَلونِي، وَلَمْ يَتقدم لِي قِرَاءة هَذَا الكِتَاب سِوَى نُبَذٍ مِنْهُ، فَإِنْ نَفَّسَ اللهُ فِي العُمُرِ، مَدَدتُ فِيْهِ الأَنفَاس، وَأَزلتُ عَنِ الْقُلُوب الالْتِبَاس: اعْلمُوا أَنَّ هَذَا رَأَيْتُ تَلاَمِذَتَهُ، فُكُلٌّ مِنْهُم حَكَى لِي نوعاً مِنْ حَالِهِ مَا قَامَ مقَام العِيَانِ، فَأَنَا أَقتصرُ عَلَى ذكر حَاله، وَحَالِ كِتَابِهِ، وَذِكْرِ جُمَلٍ مِنْ مَذَاهِب الموحِّدين وَالمتصَوِّفَة، وَأَصْحَابِ الإِشَارَات، وَالفَلاَسِفَة، فَإِنَّ كِتَابهُ مترددٌ بَيْنَ هَذِهِ الطّرَائِق.
ثُمَّ إِنَّ المَازرِي أَثْنَى عَلَى أَبِي حَامِد فِي الفِقْه، وَقَالَ: هُوَ بِالفِقْه أَعْرفُ مِنْهُ بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصل الدّين، فَإِنَّهُ صَنَّف فِيْهِ، وَلَيْسَ بِالمتبحر فِيْهَا، وَلَقَدْ فَطِنْتُ لِعدم اسْتبحَاره فِيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَرَأَ عُلُوْمَ الفَلْسَفَة قَبْل اسْتبحَاره فِي فَن الأُصُوْل، فَأَكسبته الفَلْسَفَة جُرْأَةً عَلَى المَعَانِي، وَتسهُّلاً لِلْهجوم عَلَى الحقَائِق، لأَنْ الفَلاَسِفَة تَمرُّ مَعَ خَوَاطِرِهَا، لاَ يَزَعُهَا شَرْعٌ، وَعَرَّفنِي صَاحِب لَهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عُكُوفٌ عَلَى "رَسَائِل إِخْوَان الصَّفَا"، وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُوْنَ رِسَالَةً، أَلَّفهَا مَنْ قَدْ خَاض فِي علم الشَّرع وَالنَّقل، وَفِي الحِكْمَة، فَمزج بَيْنَ الْعلمين، وَقَدْ كَانَ رَجُل يُعْرَفُ بِابْنِ سِينَا ملأَ الدُّنْيَا تَصَانِيْفَ، أَدَّتْهُ قوته في الفلسفة إلى أن حَاول ردَّ أُصُوْلِ العقَائِد إِلَى علم الفَلْسَفَة، وَتلطَّفَ جُهْدَهُ، حَتَّى تَمَّ لَهُ مَا لَمْ يَتُم لغَيْره، وَقَدْ رَأَيْتُ جُمَلاً مِنْ دَوَاوِيْنه، وَوجدتُ أَبَا حَامِد يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْثَر مَا يُشيرُ إِلَيْهِ مِنْ عُلُوْم الفَلْسَفَة.
وَأَمَّا مَذَاهِبُ الصُّوْفِيَّة، فَلاَ أَدْرِي عَلَى مَنْ عوَّل فِيْهَا، لَكِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا عَلَّق بَعْضُ أَصْحَابه أَنَّهُ ذكر كُتُبَ ابْنِ سينَا وَمَا فِيْهَا، وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُتبَ أَبِي حَيَّانَ التَّوحيدي، وَعِنْدِي أَنَّهُ عَلَيْهِ عوَّل فِي مَذْهَب التَّصَوُّف، وَأُخْبِرْتُ أَنَّ أَبَا حَيَّان أَلَّف دِيْوَاناً عَظِيْماً فِي هَذَا الفنّ، وَفِي "الإِحيَاء" مِنَ الوَاهيَات كَثِيْر. قَالَ: وَعَادَةُ المتورِّعين أَنْ لاَ يَقولُوا: قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، فِيمَا لَمْ يثبت عِنْدَهُم.
ثُمَّ قَالَ: وَيَستحسنُ أَشيَاءَ مبنَاهَا عَلَى ما لا حقيقة له، كقص الأظافر أَنْ يَبدَأَ بِالسَّبَّابَة، لأَنْ لَهَا الفَضْلَ عَلَى باقِي الأَصَابع، لأَنَّهَا المسبِّحَة، ثُمَّ قصّ مَا يَلِيهَا مِنَ الوُسطَى، لأَنَّهَا نَاحِيَة اليَمِينِ، وَيَخْتِم بِإِبْهَامِ اليُمْنَى، وَرَوَى فِي ذَلِكَ أَثراً.
قُلْتُ: هُوَ أَثر مَوْضُوْع.
ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: مَنْ مَاتَ بَعْدَ بلوَغه وَلَمْ يَعلم أَنَّ البَارِئ قديم، مَاتَ مسلماً إِجمَاعاً. قَالَ: فَمَنْ تسَاهل فِي حِكَايَة الإِجْمَاع فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي الأَقْرَبُ أَنْ يَكُوْنَ الإِجْمَاعُ فِي خِلاَفه، فَحقيق أَنْ لاَ يُوثقَ بِمَا رَوَى، وَرَأَيْتُ لَهُ فِي الجُزْء الأَوّل يَقُوْلُ: إِنَّ فِي عُلُوْمِهِ مَا لاَ يَسوَغ أَنْ يُودَعَ فِي كِتَاب، فَليت شعرِي أحقٌّ هُوَ أَوْ بَاطِل?! فَإِنْ كَانَ بَاطِلاً، فَصَدَقَ، وَإِنْ كَانَ حَقّاً، وَهُوَ مُرَادُهُ بِلاَ شكّ، فَلِمَ لاَ يُودَعُ فِي الكُتُبِ، أَلِغُموضه وَدِقَّته?! فَإِنْ كَانَ هُوَ فَهِمَه، فَمَا المَانع أَنْ يَفهمه غَيْرُهُ?!
قَالَ أَبُو الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيّ: صَنَّفَ أَبُو حَامِدٍ "الإِحيَاء"، وَملأَه بِالأَحَادِيْث البَاطِلَة، وَلَمْ يَعلم بطلاَنهَا، وَتَكلّم عَلَى الْكَشْف، وَخَرَجَ عَنْ قَانُوْنِ الفِقْه، وَقَالَ: إِنَّ المُرَادَ بِالكَوْكَب وَالقَمَر وَالشَّمْس اللوَاتِي رَآهن إِبْرَاهِيْم، أَنوَار هِيَ حُجُبُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَمْ يُرد هَذِهِ المَعْرُوْفَات، وَهَذَا مِنْ جنس كَلاَمِ البَاطِنِيَّة، وَقَدْ ردَّ ابْنُ الجَوْزِيّ عَلَى أَبِي حَامِد فِي كِتَابِ "الإِحيَاء"، وَبَيَّنَ خَطَأَه فِي مُجَلَّدَات، سَمَّاهُ كِتَابَ "الأَحيَاءِ".
وَلأَبِي الحَسَنِ ابْن سُكَّر رَدٌّ عَلَى الغَزَّالِي فِي مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ: "إِحيَاء ميت الأَحْيَاء فِي الرَّدِّ عَلَى كِتَابِ الإِحيَاءِ".
قُلْتُ: مَا زَالَ الأَئِمَّةُ يُخَالِف بَعضهُم بعضاً، وَيَردُّ هَذَا عَلَى هَذَا، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَذُمُّ العَالِم بِالهَوَى وَالجَهْل. نعم، وَلِلإِمَامِ كِتَاب "كيمِيَاء السَّعَادَة"، وَكِتَاب "الْمُعْتَقد"، وَكِتَاب "إِلجَام العوَام"، وَكِتَاب "الرَّدّ عَلَى البَاطِنِيَّة"، وَكِتَاب "مُعْتَقد الأَوَائِل"، وَكِتَاب "جَوَاهر القُرْآن"، وَكِتَاب "الغَايَة القصوَى"، وَكِتَاب "فَضَائِح الإِباحيَة"، وَ "مَسْأَلَة عَوز الدّور"، وَغَيْر ذَلِكَ.
قَالَ عَبْد الغَافِرِ الفَارِسِيّ: تُوُفِّيَ يَوْم الاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْس مائَة، وَلَهُ خَمْس وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَة الطَّابرَان قصبَة بِلاَدِ طُوْس، وَقَوْلُهُم: الغَزَّالِي، وَالعطَّارِي، وَالخَبَّازِيّ، نِسبَة إِلَى الصّنَائِعِ بِلِسَان الْعَجم، بِجمع يَاء النِّسبَة وَالصيغَة.
وَلِلغَزَّالِي أَخ واعظٌ مَشْهُوْر، وَهُوَ أَبُو الفُتُوْح أَحْمَد، لَهُ قبولٌ عَظِيْم فِي الْوَعْظ، يُزَنُّ برقَة الدّين وَبِالإِباحَة، بَقِيَ إِلَى حُدُوْد العِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ، وَقَدْ نَاب عَنْ أَخِيْهِ فِي تَدْرِيْس النّظَامِيَة بِبَغْدَادَ لَمَّا حَجَّ مُديدَة.
قَرَأْت بِخَطِّ النَّوَاوِي -رَحِمَهُ اللهُ-: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيّ الدين بن الصَّلاَحِ: وَقَدْ سُئِلَ: لِمَ سُمِّيَ الغَزَّالِي بِذَلِكَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ، عَنْ أَبِي الْحرم المَاكسِي الأَدِيْب، حَدَّثَنَا أَبُو الثَّنَاء مَحْمُوْد الفَرَضِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا تَاجُ الإِسْلاَم ابْن خَمِيْس، قَالَ لِي الغَزَالِي: النَّاس يَقُوْلُوْنَ لِي: الغَزَّالِي، وَلَسْتُ الغَزَّالِي، وَإِنَّمَا أَنَا الغَزَالِيُّ مَنْسُوْب إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: غَزَالَةُ، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَفِي أَوَاخرِ "المَنْخُوْل" لِلْغزَالِي كَلاَم فَجٌّ فِي إِمَام لاَ أَرَى نَقله هُنَا.
وَمِنْ عقيدَة أَبِي حَامِد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَوَّلهَا: الحَمْدُ للهِ الَّذِي تَعرَّف إِلَى عبَاده بِكِتَابِه المُنْزَل عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه الْمُرْسل، بِأَنَّهُ فِي ذَاته وَاحِد لاَ شَرِيْكَ لَهُ، فَردٌ لاَ مِثْل لَهُ، صمدٌ لاَ ضِدَّ لَهُ، لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ منعوتاً بِنعوت الجلاَل، وَلاَ تُحيطُ بِهِ الجِهَاتُ، وَلاَ تَكنُفه السَّمَاوَاتُ، وَأَنَّهُ مُسْتوٍ عَلَى الْعَرْش عَلَى الوَجْه الَّذِي قَالَهُ، وَبِالمَعْنَى الَّذِي أَرَادَه، منزَّهاً عَنِ الممَاسَة وَالاستقرَار وَالتمكن وَالحُلُوْل وَالانتقَالِ، وَهُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْء إِلَى التّخوم، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ حَبل الورِيْد، لاَ يُمَاثِلُ قُرْبُهُ قربَ الأَجسَام، كَانَ قَبْلَ خلقِ المَكَان وَالزَّمَان، وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ بائنٌ بصفَاته مِنْ خلقه، مَا فِي ذَاته سِوَاهُ، وَلاَ فِي سِوَاهُ ذَاتُه، مُقدَّس عَنِ التَّغَيُّر وَالانتقَالِ، لاَ تَحُلُّه الحوَادِثُ، وَأَنَّهُ مَرْئِي الذَّاتِ بِالأَبْصَار فِي دَارِ القرَار، إِتمَاماً لِلنعم بِالنَّظَر إِلَى وَجهه الكَرِيْم.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُدْرِكُ حركَة الذَّرِّ فِي الهوَاء، لاَ يَخْرُج عَنْ مَشِيئَته لفتَةُ نَاظر، وَلاَ فَلتَةُ خَاطر، وَأَنَّ القُرْآن مَقْرُوء بِالأَلسِنَة، مَحْفُوْظٌ فِي الْقُلُوب، مكتوبٌ فِي المَصَاحِف، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قائمٌ بِذَات الله، لاَ يَقْبَلُ الانفصال بِالانتقَالِ إِلَى الْقُلُوب وَالصّحف، وَأَنَّ مُوْسَى سَمِعَ كَلاَم الله بِغَيْرِ صَوْت وَلاَ حرف، كَمَا تُرَى ذَاتُه مِنْ غَيْرِ شكل وَلاَ لَوْنٍ، وَأَنَّهُ يُفرق بِالموت بَيْنَ الأَرْوَاح وَالأَجسَام، ثُمَّ يُعيدُهَا إِلَيْهَا عِنْد الْحَشْر، فَيبعثُ مَنْ فِي القُبُوْر.
مِيزَان الأَعْمَال مِعْيَار يُعبِّر عَنْهُ بِالمِيزَان، وَإِنْ كَانَ لاَ يُسَاوِي مِيزَانَ الأَعْمَال مِيزَانَ الجِسْم الثَّقِيل، كَمِيزَان الشَّمْس، وَكَالمسطرَة الَّتِي هِيَ مِيزَان السُّطور، وَكَالعَروضِ مِيزَان الشّعر.
قُلْتُ: بَلْ مِيزَانُ الأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَان، كَمَا جَاءَ فِي "الصَّحِيح"1 وَهَذَا الْمُعْتَقد غَالِبُهُ صَحِيْح، وَفِيْهِ مَا لَمْ أَفهمه، وَبعضُه فِيْهِ نِزَاع بَيْنَ أَهْلِ المَذَاهِب، وَيَكفِي المُسْلِمَ فِي الإِيْمَان أَنْ يُؤمِنَ بِاللهِ، وَملاَئِكته، وَكُتبه، وَرُسله، وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثلِه شَيْءٌ أَصلاً، وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَاته المُقَدَّسَةِ حقّ، يُمرُّ كَمَا جَاءَ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ الله وَتَنزِيلُه، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوْق، إِلَى أَمثَال ذَلِكَ مِمَّا أَجْمَعت عَلَيْهِ الأُمَّةُ، وَلاَ عِبْرَة بِمَنْ شَذَّ مِنْهُم، فَإِنِ اخْتلفتِ الأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ مُشْكِلِ أُصُوْلِ دينِهِم، لزَمَنَا فِيْهِ الصَّمْت، وَفَوَّضنَاهُ إِلَى اللهِ، وَقُلْنَا: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَم، وَوَسِعَنَا فِيْهِ السُّكوتُ. فَرحمَ اللهُ الإِمَامَ أَبَا حَامِد، فَأَيْنَ مِثْلُه فِي عُلُوْمه وَفَضَائِله، وَلَكِن لاَ نَدَّعِي عِصمتَه مِنَ الغَلطِ والخطأ، ولا تقليد في الأصول.
سير أعلام النبلاء - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.
الإمامُ، العلامةُ، الزاهدُ، العابدُ، أبو حامدٍ محمدُ بنُ محمدِ بنِ أحمدَ الغزالُّي، الطوسيُّ.
قال الخفاجي في "نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض" في ترجمته ما نصه: صاحب المؤلفات الجليلة الذي على كاهله فقه الشافعي والأصلان.
ولد بطوس سنة 450، واشتغل بها، ثم جال البلاد لأخذ العلم، ودخل بغداد، فصار مدِّرسًا بالنظامية، وأقام بدمشق عشرَ سنين بعد ما أخذَ العلم عن إمام الحرمين، وعن النصر المقدسي، ثم انتقل لمصر والإسكندرية، ثم رجع لبغداد، وعقد بها مجلس وعظ.
وتوفي سنة 505 عن خمس وخمسين سنة، ودفن بطوس، وقيل: بقصبة طائران.
قال ابن تيمية - رح -: بضاعته في الحديث مُزْجاة، ولذا أكثرَ من إيراد الموضوعات في كتبه، وأكثرَ فيها من مقالات الفلاسفة، حتى قال صاحبه أبو بكر بن العربي - مع شدة تعظيمه له -: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلسفة، ثم أراد أن يخرج منها، فما قدر.
قلت: كتابُ "التهافت"، و"الإحياء" يناديان على خلافه. قال ابن العربي: لقيته في الطواف وعليه مُرَقَّعة، فقلت له: أَوْلى لك من هذا غير هذا، فأنت صدرٌ بكَ يُقتدى، وبنورك إلى معالم المعارف يُهتدى، فقال: هيهات: لما طلع قمرُ السعادة في تلك الإرادة، أشرقت شموس الأفول، على مصابيح الأصول، فتبين الخالق لأرباب الألباب والبصائر، إذ كل لما طُبع عليه راجع وصائر، وأنشد يقول:
تركتُ هوى ليلى وسُعْدَى بِمَعْزِلِ ... وصرتُ إلى مصحوبِ أولِ منزلِ
ونادَتْنِيَ الأكوانُ حتى أجبتُها ... ألا أيها الساري! رُويدَكَ فانْزِلِ
فعَرَّسْتُ في دار النَّدَى بعزيمةٍ ... قلوبُ ذوي التعريفِ عنها بمعزِلِ
غزلتُ لهم غزلاً رقيقًا، فلم أجدْ ... لغزلي نساجًا، فكسَّرتُ مِغْزَلي
وإذا سمعت هكذا، فكيف يظن [به] اتباع خرافات الفلاسفة، وقد رأى بعضُ المشايخ الغزاليَّ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو من شخص طعن فيه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه بالسياط، فانتبه، وبه أثر الضرب وألمُه، انتهى كلام الخفاجي.
قلت: وقد حكى عليٌّ القاري: أن الغزالي مات وكتاب "الصحيح" للبخاري على صدره، وهذا يرشدك إلى أنه رجع آخرًا عما ذهب إليه أولاً، ولله الحمد. وفي كتابه "الإحياء" بعضُ الأخبار الضعيفة والأفكار الفلسفية، وظني أنه تاب عنه وأناب، فما أحقها بأن تغتفر مع صحة الأصل، والله أعلم بالصواب.
التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول - أبو الِطيب محمد صديق خان البخاري القِنَّوجي.