شهيد الوطنية والمروءة والعقيدة المثالية المرحوم خالد الحكيم (الحمصي)
أصله ونشأته: هو المرحوم خالد بن ياسين بن محمد بن السيد عبد الله المكي الإشبيلي، من عائلة عربية منسوبة لآل الحسين (ابن علي رضي الله عنهما)، استوطنت حمص بعد نزوحها من الأندلس منذ أكثر من أربعة قرون، واشتهرت بعراقتها في العلم والفضل، ثم امتهنت الطب طول قرنين فأصبحت تعرف بآل الحكيم، واشتهر من أجداده الشريف نسباً وسيرة السيد عبد الله الذي منحه السلطان محمود فرماناً برتبة (باشا) وبتوليته ولاية سورية جميعها من حلب إلى عكا مع الساحل، ولكن هذا الرجل الذي عرف بفضله وعقله آثر حياته المتواضعة وانصرافه إلى مهنة الطب على ذلك المكان المرموق والمحفوف بالمظالم والمآسي، فرفض الولاية وهرب من حمص إلى أن أعفاه السلطان من ذلك المنصب الرفيع.
ولد خالد الحكيم في حمص من أبوين فقيرين عام 1878م، وأمه من عائلة آل باشات الحمصية، وتثقف على يد عمه، وهو من علماء حمص المبرزين الذين كانت حلقة العلم لا تنقطع طوال السنة من الانعقاد في دارهم.
دراسته العالية: دخل المدارس التركية في دمشق والأستانة فلمع فيها، وتخرَّج مهندساً عسكريًّا، فعين مديراً ثانياً لمعامل الأسلحة في العاصمة العثمانية، ثم مهندساً في الخط الحجازي قبيل إنشائه بقليل، فظل يعمل في هذا الخط منذ المباشرة فيه إلى الانتهاء منه، وتعرف أثناء عمله هذا بالبلاد العربية وبأحوالها، ثم عيِّن مهندساً لأوقاف سورية ومفتشاً لمبانيها العسكرية، ثم عين في الأستانة من جديد وظل فيها مدة طويلة إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، وفي تلك العاصمة الكبرى التي كانت ملتقى التيارات السياسية والعواصف القومية الناشئة والأفكار التجددية الثورية تعرف خالد الحكيم بأكثر رجالات العرب آنئذ، وكانوا مثله شباباً قد أنهوا دراستهم العالية وانتبهوا إلى ما يحاك ضد بلادهم من الدسائس والمؤمرات، والتقى هنالك بمواطنه الحمصي المرحوم الشهيد عبد الحميد الزهراوي، فاشتدت أواصر الصداقة بينهما واتقفا على العمل السياسي سوية لقضية الوطن العربي، فأخذا يدعوان إلى ضرورة اجتماع كلمة العرب للوقوف أمام سياسة الاتحاديين الرامية إلى تبديد البلاد العربية، وذلك بمنح بعضها إلى الدول الاستعمارية وتتريك البقية الباقية بتقتيل متنوِّري تلك البلاد في مجازر عامة أو في حروب مقبلة ومجاعات مدبرة؛ كالتي حدثت فيما بعد في أرمينية ولبنان، فلقيت دعوتهما أذناً صاغية لدى أكثر شباب العرب، واشتد الجدل والمهاترات السياسية بين هذه الفئة العربية وبين الصحف التركية الناطقة بلسان الاتحاديين والمناضلة عن سياستهم.
المطالب العربية: لقد استقر رأي هؤلاء الشبان على المطالبة بسياسة لا مركزية تتمتع فيها البلاد العربية بالنصيب الأكبر من الاستقلال والازدهار، وفي هذه الأثناء قامت حرب طرابلس الغرب التي باعها الاتحاديون للطليان سرًّا، فهرب خالد الحكيم من سورية إلى مصر وعبر الحدود المصرية الطرابلسية والتحق بالمجاهدين القادمين من شتى بلاد العرب لجهاد الطليان، وظل فيها يحارب أكثر من سنتين في طرابلس وبرقة حتى أوشكت الثورة أن تنقضي، وحتى لجأ أكثر المجاهدين فيها إلى مصر، فعاد خالد الحكيم إلى مصر ومنها إلى سورية، ولكن الحرب العالمية الأولى انفجرت فجأة فقطعت تلك المساعي وظهرت نوايا الاتحاديين في تحقيق سياسة التتريك المرتكزة على إفناء متنوِّري العرب ومثقفيهم والعاملين لقضيتهم.
الطاغية التركي جمال باشا: وعاد خالد الحكيم وعبد الحميد الزهراوي إلى سورية وأخذا يعملان لتنبيه السورين إلى حقيقة ما يريد بهم الاتحاديون من المحق والإذابة في البوتقة التركية.
وفي هذه الفترة استدعي خالد الحكيم للجيش التركي وذهب مع فرقته إلى ترعة السويس واشترك في حرب الإنكليز، ثم حدثت الهزيمة فعاد إلى سورية وعاد إلى سابق نضاله لسياسة الاتحاديين.
وما كاد جمال باشا يتسنم الحكم المطلق في سورية حتى أدرك خالد الحكيم قرب الكارثة التي ستنزل برجالات العرب، فنبَّه إخوانه وحثهم على تدبر الأمر، ولكن القضاء وقع وقبض على من قبض عليه منهم وسيقوا إلى محكمة عاليه، وتمكن خالد الحكيم من الفرار مع سبعين مجاهداً مسلحاً ضربوا بادية الشام طمعاً في تأسيس ثورة فيها، ولكن رؤساء القبائل فيها كانوا قد باعوا أنفسهم للطاغية جمال باشا، فقصد أولئك المجاهدون الجزيرة العربية للغاية نفسها، وعلموا في الطريق أن ثورة الشريف حسين قد ذرَّ قرنها في الحجاز ولقيت استجابة لدى أكثر العرب، فكانت هذه الفئة من أبناء سورية أول من ثار على الأتراك ثورة مسلحة، وبعد أربعة أشهر من ضرب في الصحراء وتيهٍ في فيافيها تمكنت هذه الفئة المؤمنة بحقها وحق أمتها في الحياة من بلوغ مكة المكرمة.
التحاقه بجيش الثورة العربية: التحق خالد الحكيم في جيش الثورة العربية وعمل فيها كضابط في العقبة وأبي اللسن، ثم في مصر وفلسطين وسورية، ولما اتضح له من تصرفات الملك حسين والملك فيصل أنهما غير قادرين على تحقيق مبادئ الثورة العربية تنكَّر لهما وأخذ يحمل على سياستهما الفاشلة بما عرف عنه من قوة حجة وصراحة وصدق، وكان يحمل على الملك فيصل لاعتماده على صداقة بريطانيا ودعمها وشرفها المعهود، ولعدم إعداده ما يلزم من القوة والمال للغد، ولسياسته الارتجالية الاتكالية التي لا تتناسب مع القرن العشرين، ولا مع الأخطار المحيطة بالعرب آنئذ.
وقعة ميسلون: ولما حدثت وقعة ميسلون الخالدة اشترك خالد الحكيم فيها، وبعد دخول الفرنسيين دمشق لجأ إلى شرق الأردن في عداد من لجأ إليها من المجاهدين العرب أملاً في استئناف الجهاد ضد الفرنسيين بقيادة الأمير عبد الله الذي كان يدعي أنه ابن الثورة العربية ولن يتخلى عن العمل لها، فظل خالد الحكيم في شرق الأردن يعمل مهندساً للأشغال العامة ينتظر استئناف الجهاد إلى أن أدرك أن الأمير عبد الله رجل مناصب لا رجل مبادئ، ومن عباد الإنكليز لا من عباد الله، ومن العاملين لأشخاصهم لا من المنافحين عن أمتهم، فغادر شرق الأردن فجأة إلى فلسطين بعد أن تبلَّغ في عمان حكم المحكمة العسكرية الفرنسية في دمشق عليه بالإعدام.
سفره إلى مصر:ثم ذهب إلى مصر وقضى سنوات فيها تعرف خلالها على بقية الرعيل الأول من ساسة العرب الأحرار الذين لجأوا إلى البلاد المصرية فأكرمت مثواهم، وتعرف في مصر على الشيخ فوزان السابق، وهو معتمد سلطان نجد عبد العزيز آل سعود آنئذ، وكتب هذا المعتمد إلى سلطان نجد عن خالد الحكيم وآرائه في السياسة في الجزيرة العربية وفي العائلة الهاشمية المتفككة الأوصال،الواهية القوى، والخالية من الأنصار والعزوة في جزيرة العرب، والمعتمدة على الدعم البريطاني فقط، فانتبه سلطان نجد إلى تلك الحقائق وإلى صحة نظريات خالد الحكيم في السياسة في الجزيرة العربية، فكتب إليه يستوضحه عن بعض المسائل الخارجية، وكثرت المراسلات بينهما إلى أن قامت الحرب بين الوهابيين والهاشميين في الطائف، فأرسل السلطان عبد العزيز آل سعود يستدعي خالد الحكيم للاستفادة من خبرته العسكرية، فسافر ومعه صديقه الضابط العقيد حسن وفقي بك، وهو من أبرز العسكريين الذين أنجبتهم سورية والتحقا بالجيش السعودي، واشتركا في معركة جدة التي دامت زهاء سنة، ولما سقطت جدة كان خالد الحكيم ممثل سلطان نجد لاستلامها من الهاشميين.
مستشار الملك: وبعد أن دانت الحجاز لآل سعود أصبح خالد الحكيم مشاوراً للملك عبد العزيز وصديقه المقرَّب، ولما نشبت الثورة السورية عمل خالد الحكيم بما له من مكانة محترمة لدى ملك الحجاز ونجد على إمداد الثوار بالمال والسلاح والترحيب بمن يلجأ منهم إلى تلك البلاد، وقدم للحكومة السعودية أجلَّ الخدمات في أحلك ساعات حياتها في حرب الحجاز، وفي ثورة فيصل الدويش، وثورة ابن رفادة، وحرب اليمن، وسافر مراراً إلى أوروبا لشراء أسلحة لتلك الدولة الناشئة.
وفاته: ظل خالد الحكيم يعالج مرضاً لم تنفع به حيلة الأطباء طوال سنتين إلى أن لبى نداء ربه في اليوم الرابع من شهر حزيران سنة 1944م، فبكاه إخوانه والمخلصون لقضية العرب، وبكاه عارفوه، ودفن بمقبرة الدحداح في دمشق.
أنظر كامل الترجمة في كتاب أعلام الأدب والفن، تأليف أدهم آل الجندي الجزء الأول – ص 17 - 21.